كل الدماء البريئة غالية
بقلم:الإستاذ محمد مهدي عاكف
محتويات
مقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين، وبعد،،
فإنَّ من ينظر إلى خريطة العالم اليوم يرى مواقع كثيرة منها مضرجةً بدماء الضحايا الأبرياء الذين فقدوا حياتهم دون ذنبٍ أو جريرة، لا تشذ عن ذلك التفجيرات التي شهدتها مؤخرًا العاصمة البريطانية لندن، والتي يستنكرها الضمير الإنساني عمومًا والضمير الإسلامي خاصةً.
نعم يستنكرها ضمير المسلم وإن وقعت في دولة غير مسلمة لها تاريخٌ استعماريٌ مخزٍ، وتساند حكومتُها السياسةَ الأمريكية الظالمة، ويشارك جيشها في احتلال بلد إسلامي، فالمسلم الذي يجتهد في العمل وفق تعاليم دينه يقرأ قول الله تعالى: ﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ومَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ (المائدة: من الآية 32).
ويدرك المسلم أنَّ الروح والحياة التي وهبها الخالق للناس لا يجوز إزهاقها إلا بالحق، وهذا الحق لا يملكه شخص أو أشخاص يقررون وهم في مجالسهم إزهاقَ أرواح أُناسٍ بطريقة عشوائية دون محاكمة، فيموت أناس كل ذنبهم أنهم كانوا موجودين في مكان التفجير وربما كانوا من جنسيات أخرى غير البلد المستهدف، وربما كانوا أشد سخطًا على السياسات التي حرَّكت دوافع الانتقام عند مَن نفذوا التفجيرات، إن كانت فعلاً قد وقعت على خلفية الانتقام.
تفجيرات لندن
وقد أعلن الإخوان المسلمون إدانتهم لهذه التفجيرات وتعاطفهم مع ضحاياها، وهذا موقف مبدئي يمليه علينا فهمنا لديننا الحنيف، إلا أننا نطالب في المقابل بعدم المسارعة إلى إلقاء التُّهم على المسلمين لمجرد الظن بأنَّ مثل هذه الأفعال لا يقوم بها اليوم سوى بعض المسلمين، ولا استنادًا إلى بيانٍ يصدر من هنا أو هناك دون تمحيصٍ أو تدقيقٍ أو تحقيقٍ، فنحن لا نستبعد- من واقع فهمنا للمخططات المعادية التي تسعى إلى إلصاق التهم بالمسلمين- أن تكون جهات معادية للإسلام قامت بتنفيذ تلك التفجيرات لإيغار الصدور، وإشعال نيران الفتنة، وتجديد دوافع الحرب على ما يُسمَّى بالإرهاب، وتبرير اتخاذ إجراءات جديدة ضد المسلمين الذين أصبحوا يشكلون رقمًا واضحًا في الغرب، وصد غير المسلمين عن الإقبال على الإسلام الذي بات أكثر المعتقدات انتشارًا هناك.
إلى العراق وأفغانستان
فإذا انتقلنا إلى بقعةٍ أخرى على الخريطة.. إلى العراق الحزين وجدنا ما يُثير الشجون ويبكي العيون؛ حيث يستمر مسلسل القتل اليومي، ويطول من الأبرياء أضعاف ما يطول من المحتلين وأعوانهم، وقد تألَّم كل مصري لمقتل رئيس البعثة الدبلوماسية المصرية في بغداد، على يد فئةٍ ساء فهمها للإسلام، وتغلَّبت عليها الأهواءُ، وولغت في الدماء لمجرد الظنون.
السفير إيهاب الشريف
ونحن إذْ نقدم العزاءَ في السفير إيهاب الشريف نهيب بالحكومةِ المصريةِ أن تراجع مواقفها وسياساتها التي أدَّت إلى وقوع هذه المصيبة، واستسلامها لرغبات المحتل الأمريكي؛ إذ ما كان ينبغي أن تفتح السفارة المصرية في بغداد المحتلة، ولا أن يقدم رئيس البعثة الدبلوماسية أوراقَ اعتماده لحكومةٍ مؤقتةٍ، ولكنَّ الحكومةَ المصريةَ فعلت ذلك إرضاءً لواشنطن التي تحاول خداع الناس بأنَّ العراق بات مستقرًا تسير فيه الأمور على ما يرام، ولو أدَّى ذلك إلى فقدان أرواح الآخرين ومنهم أبناء الشعب المصري.
إنَّ سياسات الانبطاح والاستسلام قد شوَّهت صورة مصر والمصريين أمام العالم، وصورت مصر على أنها تابعة ذليلة للأمريكان، وجعلت المصريين عُرضة لأعمال الانتقام بلا ذنبٍ جنوه سوى أن حكومتهم لا تتقي الله فيهم ولا تعمل لصالح الشعب، وإنما لصالح القلة المسيطرة على كراسي السلطة.
ومن العراق أيضًا نُقشت في الأذهان وحُفرت في الوجدان صور الفواجع والمآسي التي حلت بمئات الآلآف من الضحايا الأبرياء في بغداد والفلوجة والقائم والمثنى وبلد وغيرها من مدن العراق؛ حيث مزقتهم بلا رحمة ولا شفقة الأسلحةُ الفتاكة المُحرَّمة دوليًّا، التي يستخدمها مَن جاءوا بزعم تحرير شعب العراق من ظلم صدام وجبروته، فإذا بهم يتبارون لأن يكونوا أسوأ منه، وأن يذيقوا الشعب العراقي أصنافًا جديدةً من الذل والهوان مما لم يذقه على يد صدام.
ومن العراق إلى أفغانستان؛ حيث يتردد في الآذان صدى دوي القنابل التي تهز جبال أفغانستان الشماء، وحيث لا يزال نهر الدماء البريئة جاريًا، ومن غير المتوقع أن يجف طالما بقي الاحتلال الأمريكي والأجنبي هناك.
وإذا مررنا بالبوسنة فسنتذكر ذكرى مذبحة سربرينتشا المفجعة، والتي تعد إحدى أفظع الجرائم التي وقعت بحق الإنسانية في أوربا، فقبل عشر سنوات ورغم أنَّ الأمم المتحدة كانت قد أعلنت أنَّ مدينة سربرينتشا "ملاذٌ آمنٌ" فقد تخلَّت القوات الهولندية عن حماية سكان المدينة وتركتهم لوحوش الصرب المجرمين، فقتلوا الآلاف بطرقٍ وحشيةٍ لا يتصورها عقل الإنسان السوي، ولم تكن مذبحة سربرينتشا المذبحة الوحيدة التي شهدتها البوسنة، فالمقابر الجماعية للمسلمين الأبرياء لا تزال تُكتشف رغم مرور سنوات على انتهاء الحرب.
أما فلسطين المغتصبة فملحمتها مديدة، ومشاهدها محزنة أليمة، فقد عاث الصهاينة في الأرض فسادًا، فلم يسلم من حقدهم وبغيهم رضيع ولا طفل، ولا شيخ ولا امرأة، بل إنهم اقتلعوا الشجر وهدموا الحجر، فلم تسلم من عدوانهم المزارع والمنازل.
فإذا عدنا إلى مصرنا، فإننا نتذكر الدماء البريئة لشبابٍ طاهرٍ التزم ب الإسلام وآمنَ به منهج حياة فاختطفه الجلادون ليفتنوه عن دينه، فمنَّ الله عليه بالشهادة، نحسبهم كذلك ولا نُزكِّي على الله أحدًا، ونذكر منهم مسعد قطب وأكرم زهيري وطارق غنام، كما نتذكر دماءً بريئةً أخرى وأرواحًا فاضت في أقسام الشرطة وفي السجون والمعتقلات وسيارات الترحيلات، تشكو لبارئها الظلمَ وسُوءَ المعاملة.
دعوة لشعوب العالم
إنَّ شعوب العالم قاطبةً، وشعوب الدول التي اكتوت بنار العنف وفقدت الضحايا خاصةً مدعوة لتدارس الأسباب التي أدَّت إلى نشوء تيارات العنف وبروز هذه التوجهات الانتقامية لدى البعض، وستجد أنَّ من بين تلك الأسباب- إن لم يكن السبب الوحيد - تفشي الظلم واختلال ميزان العدالة لدى الدول المهيمنة على النظام الدولي، والنزوع المستمر نحو السيطرة على الآخرين بالقوة وهضم حقوقهم، وسيطرة الأنا وإقصاء الآخر.
كما ستجد أنه في ظل تدفق المعلومات الذي أدَّى إلى انكماش الكرة الأرضية حتى أصبحت كالقرية الصغيرة حيث الكل يعرف ما يدور في مختلف أنحاء المعمورة، ويرى ما يحدث حول العالم بالصوت والصورة وربما في اللحظة ذاتها، في ظل هذه المتغيرات الجديدة لم تعد تلك السياسات الجائرة للدول المسيطرة خافية على أحد؛ فالكل يرى ويشاهد، ويتأثر وينفعل، ويقارن ويتعجب لسياسات الكيل بمكيالين وأكثر، ويرفض نزعات السيطرة ولا يقبل أن ينظر البعض لنفسه على أنه من جنس متميز أو "سوبر" يحق له أن يفعل ما يشاء دون حسابٍ أو عقاب، فلا عجبَ بعد ذلك أن تنتج تلك السياسات الظالمة أفكارًا تميل نحو العنف والانتقام، فذلك هو الحصاد المر لتلك البذرة الخبيثة.
غضبة الشعوب ضد الحكم الفاسد
وعلى شعوب العالم قاطبةً، وشعوب الدول التي اكتوت بنار العنف وفقدت الضحايا خاصةً أن تتحرك للضغط على تلك الحكومات الظالمة المسيطرة حتى تكفَّ يدها عن النيل من حقوق الآخرين أو الولوغ في دمائهم، وأن يكون الحق فوق القوة، والعدل فوق نزعة السيطرة، والمسلمون يضعون أيديهم في أيدي تلك الشعوب جميعًا لتحقيق هذا الهدف؛ فكل دم بريء هو دم غالٍ ولا شك، نأسى لإراقته ونسعى لصيانته، ونتعاون من أجل ذلك مع سائرِ البشر.