كتاب النبى والفرعون
تأليف : جيلز كيبل
ترجمة : أحمد خضر
مكتبة مدبولي
محتويات
الفصل الأول:من محنة إلى أخرى 1954 - 1966
فى الثالث والعشرين من يوليو 1952 استولى عبد الناصر ورفاقه على السلطة فى مصر وفى 9 ديسمبر 1954 ، نفذ حكم الإعدام شنقا فى ستون من زعماء جماعة الإخوان المسلمين ، بينما انهار آلاف آخرون من أعضاء الجماعة من جراء التعذيب داخل السجون. وطوال ربع القرن الذى انصرم منذ إنشاء الجماعة على يد حسن البنا عام 1928 ، لم يتعرض أعضاؤها لمثل هذا القمع العنيف .
وبالرغم من هذا فإن الدولة التى أسسها الضباط الأحرار اختلفت تماما عن النظام الملكي السابق. فقد سعى عبد الناصر لتعبئة المجتمع المدني من القاعدة إلى القمة، لتحرير مصر من الاستعمار ومن آثاره وتحويل البلاد إلى أمة عصرية ومستقلة. وتعبئة المجتمع كانت تعنى أولا وقبل كل شيء كفالة ألا ترتفع أية أصوات معارضة تناهض النظام.
ومع ذلك فعندما تم حل كل الأحزاب السياسية بقرار من السلطة فى 16 يناير 1953، استثنى القرار جماعة الإخوان المسلمين ، وقد كان الإخوان بطبيعة الحال، من الناحية القانونية، مجرد جمعية وليس حزبا، إلا أن الأهم من ذلك أنهم كانوا يمثلون القوة الشعبية الأكثر تنظيما فى البلاد ، وأن النظام لم يكن فى مقدوره، بعد ستة أشهر فقط من وجوده فى السلطة، أن يغامر بمواجهة مباشرة مع الجماعة.
وكان الصراع مع ذلك محتوما، حتى على الرغم من ترحيب الإخوان فى البداية بحركة 23 يوليو. فلم يكن لدى الضباط أدنى نية للسماح للإخوان بالتعبير عن المطالب الشعبية، تلك المطالب التى كان من المفترض أن تنحصر داخل قنوات الحزب الواحد الذى كانت مهمته هى حشد الجماهير خلف الحكومة. وبعد عدد من الأحداث، تم القضاء على أى رابطة كانت تربط الإخوان بالدولة، على أثر محاولة أحد أعضاء الإخوان اغتيال عبد الناصر، وفى 26 أكتوبر 1954 ، بينما كان الرئيس يلقى خطابا فى الإسكندرية، حيث سمعت البلاد كلها أصوات طلقات الرصاص فى أجهزة الراديو.
وقد حملت الجماعة النظام مسئولية المؤامرة وادعت أن هذا الهجوم كان من تدبير رجال البوليس. إلا أن أحدا لم يصدق ذلك، فأضرمت الجماهير الغاضبة النار فى مركز الجماعة الرئيسي، وألقى القبض على قادتها، حيث تعرضوا لشتى صنوف التعذيب وحرض عملاء الحكومة الجماهير ضد أعضاء الجماعة.
إذن فقد دمرت الدولة، بعد 26 أكتوبر مباشرة ، آخر تنظيم مستقل كان يقف كعقبة بينها وبين الجماهير، حيث انعقدت رغبة الضباط على أن يكون عملهم هذا حاسما.
ورغم أن الدولة قد حسمت هذه المسألة، فقد لجأت ، مع هذا ، خلال ثلاثة عقود من حكمها على يد عبد الناصر والسادات ، إلى الرصاص والمشانق لإسكات المجاهدين الإسلاميين فى أربع مناسبات أخرى فى أعوام 1966 ، و 1974 ، و1977 ، و 1981 . فتحطيم جماعة الإخوان المسلمين عام 1954 ، قد أخفق فى القضاء على ذلك التيار الفكري الذى دشنه حسن البنا وأتباعه.
وفى عزلة معتقلات النظام الناصري، طور الإخوان المسجونون إستراتيجية لمحاربة تلك الحكومة التى لمسوا طابعها الشمولي سريعا. فكتب المفكر الإسلامى، سيد قطب، وهو الذى أعدمه عبد الناصر عام 1966 ، مؤلفا فى السجن أخضع فيه الدولة للتحليل على أساس المقولات القرآنية. وقد تبنت هذا الكتاب وجهات نظر متباينة، تفتت على أساسها حركة الإسلاميين .
هذا وقد وسعت الاتجاهات المختلفة فى حركة الإسلاميين للتعبير عن المعارضة المدنية فى المجتمع لهذه الدولة. فاللغة والمقولات التى تبناها سيد قطب سلبت لب قطاعات عريضة من المجتمع كانت لها معاناتها وإحباطاتها وحاجاتها اليومية، وحولت أفرادها إلى معارضين لحكومة ما بعد 1952. ودراسة نقدية للجدل الدائر داخل حركة الإسلاميين قد تساعدنا على فهم الكيفية التى كانت تنظر بها قطاعات هامة من المجتمع للدولة.
فى البداية كانت المعتقلات
أعيد بناء فكر الإسلاميين بعد 1954 أساسا فى المعتقلات ، تلك المعتقلات التى أحس بوطأتها قطب ومر يديه، من أجل صياغة العلاقة بين الجماعة والدولة. ولهذا السبب يجب تقييم خبرة الاعتقال بشكل أساسي، قبل أن نتناول بالتحليل كتابات سيد قطب الرئيسية.
وقد وضع معظم الإخوان فى سجن طرة، الواقع فى أحد ضواحي جنوب القاهرة . حيث كانت ظروف الاعتقال جد مروعة. وأقام قطب، أثناء فترة اعتقاله، بصفة شبه مستمرة فى مستشفى السجن، نظرا لمرضه بالسل: أما الإخوان فقد عاشوا تلك الفترة فى رعب من لجوء النظام إلى "حل حاسم" للقضاء على مصدر الإزعاج الذى مثله الإخوان له. وفى أواخر عام 1957، أقنعتهم تطورات مختلفة بأنهم على وشك التعرض لعملية تصفية جسدية، فى حل شكواهم من تفاصيل العمل اليومي(تكسير الصخور) .
فقاموا فى الأول من يونيو بالامتناع عن الخروج للعمل الإجباري، وأغلقوا الزنازين على أنفسهم. وعلى أثر ذلك اقتحم جنود الجيش الزنازين حيث لقي واحد وعشرون من المعتقلين مصرعهم. وادعت السلطات أنها قد قمعت تمردا نظمه الإخوان داخل السجن.
وترك هؤلاء الشهداء الجدد بالإضافة إلى ضحايا مشانق 1954 ، وحسن البنا نفسه أول الشهداء الذى اغتيل على يد بوليس الملك فاروق عام 1949 - أثرا عميقا فى نفس الرجل الذى أخذ يكتب بلا هوادة من فراش مرضه، حيث روعت بربرية حراس السجن سيد قطب، روعته لا إنسانيتهم حينما تركوا الجرحى ينزفون حتى الموت. حتى أن كثيرا من الشهود أفادوا بأنه قد فقد بسبب هذا الحادث آخر أوهامه الباقية عن الطابع الإسلامى لنظام عبد الناصر.
وأيد قطب فى هذا أحد شباب الإخوان، الذى شاركه بسبب مرضه أيضا، زنزانته فى السجن. كان هذا الشاب هو محمد هواش، وقد أعدم مع معلمه عام 1966 . وطبقا لرواية أحد مؤرخي الإسلاميين ، وهو جابر رزق (33) ، فقد تجلى النبي يوسف لهواش فى المنام وقال له:"قل لسيد قطب إني على يقين من أنه سوف يجد ما يبحث عنه" . هذا مع الملاحظة أن الآيات 35 – 41 من سورة يوسف، تصور سجن النبي يوسف بين اثنين من الفتية. وفى الآيات يقول يوسف لتابعيه المسجونين ، إن كل ما عبده الناس من دون الله مجرد أسماء لا قيمة لها، وأما الحكم الحقيقي فالله وحده.
واعتقد سيد قطب أن حراس المعتقل وزبانية التعذيب فيه قد نسوا الله وكانوا وفقا لرأيه يجهلون مبادئ العدالة التى أكدت عليها تعاليم القرآن، وبهذا خرجوا على الإسلام. أو بمعنى آخر، كفروا بالله. ومن ثم فإن الإخوان المسلمين المعتقلين كانوا وحدهم المسلمين الحقيقيين .
وبينما انشغل سيد قطب بإيجاد تفسير للأحداث التى وقعت فى المعتقل لكي يصلها برؤيته للعالم، تلك الرؤية التى شرحها فيما بعد فى كتابه"معالم في الطريق" ، بدأ المتعاطفون مع الإخوان المسلمين خارج السجون فى الاجتماع من جديد. حيث شكل خارج المعتقل ، تنظيم غير رسمى لتقديم العون والمساعدة للأسر التى تعرض عائلها للسجن. وبالإضافة إلى طابعه الانسانى والخيري ، وفر هذا التجمع لأعضاء الجماعة إمكانية استمرار اتصالهم بعضهم ببعض.
وفى منتصف 1965 أفرج عن أعضاء الجماعة الذين لم يقدموا للمحاكمة، وكان هؤلاء الأعضاء فى حاجة ماسة إلى المساعدة. فتولت هذه المهمة الإنسانية السيدة زينب الغزالي ، وأعالت السجناء المفرج عنهم. وقد تمكنت زعيمة السيدات المسلمات من خلال شبكة علاقاتها وسط المتعاطفين مع الإخوان من العمل كهمزة وصل لإعادة بناء التنظيم الذى كان قد تم حله شكليا عام 1954 .
وفى عام 1957 وبينما كانت تؤدى فريضة الحج ، التقت السيدة زينب الغزالي ، بالعديد من المنفيين المصريين ، وذلك بمباركة القادة السعوديين ، الذين كانوا يعارضون نظام عبد الناصر آنذاك. وفى مكة تعرفت على عبد الفتاح إسماعيل أحد قادة الإخوان ، وقرروا توحيد جهودهم المشتركة.
وبينما كانت السيدة زينب الغزالي تقوم بتنظيم سلسلة من الندوات فى منزلها ، بدأ عبد الفتاح إسماعيل - الذى اشتهر بأنه "الرجل الذى يؤدى صلواته الخمس فى محافظات مختلفة" – فى التنقيب عن المتعاطفين مع الإخوان وتولى مهمة صقلهم، بطول البلاد وعرضها.
وكان النظام قد أفرج عن حسن الهضيبي، الذى خلف البنا كمرشد عام للإخوان لأسباب صحية عام 1954 بسبب سنه المتقدم، الهضيبى كان على علم بالجهود المبذولة لإعادة بناء التنظيم، ورغم أنه قد أبدى موافقته على هذا العمل، إلا أنه لم يساهم فيه بشكل مباشر.
ومع أن المجموعة التى كانت تلتقي فى منزل السيدة زينب الغزالي التفت كما هو مفترض، حول الدروس الدينية فقط، إلا أن هذا لم يكن حال العديد من الخلايا الأخرى التى نشأت بشكل مستقل فى العديد من المحافظات. حيث ضمت هذه الخلايا إخوان سابقين، كانوا فى الأغلب شبان هربوا من الملاحقات البوليسية السابقة: أى أنهم كانوا حديثي التجنيد، يفتقرون إلى التدريب الكافي.
وعقد أول اجتماع لهذه الخلايا المبعثرة فى عام 1957 . وكان الغرض منه إجراء مناقشة جماعية حول الأسباب التى أدت إلى محنة 1954 . إلا أن عملية إعادة تشكيل التنظيم لم تتجسد فى الواقع إلا مع بدايات 1959 ، وهذا التنظيم الجديد لم يكتسب إلا فى عام 1962 تلك الملامح التى سيظل يحملها لثلاث سنوات أخرى، حتى قلم به المحنة الثانية التى أنزلها به النظام.
وقد أطلعت العناصر النشيطة الجديدة التى كانت تحلم بالثأر من ما حدث للجماعة عام 1954 ، بالإضافة إلى الآخرين الذين اهتموا بحضور الندوات التى كانت تقام فى منزل السيدة زينب الغزالي ، على آخر ما كتبه سيد قطب فى سجنه- أو بعبارة أخرى – على المودة الأولى لكتابه"معالم في الطريق" .
حيث أن السيدة زينب الغزالي كانت تزور بانتظام أختي سيد قطب، ومن خلال همزة الوصل هذه ، كانت تصله تقارير منتظمة عن أنشطة"الندوة"ويرسل لهم فى ا لمقابل كتاباته الشخصية. وكانت الصفحات الأولى من الكتاب قد قوبلت بحماسة شديدة فور الاطلاع عليها عام 1962 . حتى أن الهضيبى نفسه (والذي أصبحت وجهة نظره معتدلة إلى حد كبير بعد عام 1966) أكد أن الكتاب قد اثبت صحة الآمال التى علقها على سيد قطب ، الذى جسد فى هذه اللحظة "مستقبل الدعوة الإسلامية".
وكانت أكثر خلايا المجاهدين الشباب نشاطا فى الإسكندرية، ودمياط والبحيرة والقاهرة . وقد شكل قادة هذه ا لجماعات هيئة إرشاد من أربعة أشخاص، وكانت هذه الهيئة تحتاج أكثر ما تحتاج إلى مفكر، إلى ايديولوجى . وعلى العكس ما توضحه هذه الخلفية جاء الإفراج عن سيد قطب فى مايو 1964 ، فانضم على الفور إلى أعضاء هيئة الإرشاد الأربعة. حيث أطلعوه على خططهم لقلب نظام الحكم بالقوة.
وأخبروه أيضا وفقا للاعترافات اللاحقة (التى انتزعت تحت التعذيب) أنهم ينتظرون وصول الأسلحة من المملكة العربية السعودية . ومهما كانت درجة صدق هذا الموضوع، فإنه من المعروف أن التنظيم أعيد تشكيله بشكل سرى فى نهاية 1964 حيث كان برنامجهم (المانيفسو) كتبا سيد قطب "معالم في الطريق".
مؤامرة 1965
ليست هناك أي معلومات مؤكدة عن أحداث 1965 ، أو بدقة أكثر كانت هناك تناقضات هائلة بين روايات المصادر القريبة من الإخوان المسلمين وروايات المراقبين أو المؤرخين الذين ينتمون لصفوف اليسار. فطبقا لرواية المجموعة الأخيرة (وبشكل خاص المؤرخ الناصري عبد الله إمام) كان مرأى منه والتي لم تنجح فى شيء سوى فى أن تنمو عدديا- قدمت له"المؤامرة الجديدة للإخوان المسلمين"كبش فداء مثالي جعل القائد قادرا على توحيد الجماهير خلفه من جديد.
وهناك أيضا بعض الدلائل التى تشير إلى أن اكتشاف"المؤامرة" كانت نتيجة ثانوية للصراعات العنيفة بين الأجهزة السرية المتعددة، التى كانت تتسابق على تكديس السلطات المطلقة بيد مراكز القوى(التى لم تمثل فى الواقع سوى مجموعات سلطوية متصارعة فى بلد تحكمه سلطة رئاسية مطلقة) : فحاول كل منها أن يوحى للرئيس بعجز الأجهزة الأخرى عن كشف النقاب عن هذه المؤامرة. وفى هذه القضية، كان هدف المخابرات العسكرية (أجهزة الأمن العسكرية) التى كانت خاضعة للمشير عامر إثبات عجز المباحث العامة(الاستخبارات العامة)، الخاضعة لوزير الداخلية عن كفالة أمن رئيس الجمهورية. وقد تصدت أجهزة الأمن العسكرية (المخابرات العسكرية) تحت قيادة شمس بدران للعملية برمتها.
بدأت ألأحداث يوم 29 يوليو 1965 بالقبض على محمد قطب، شقيق سيد قطب وتابعه. وبدا التنظيم عاجزا عن الرد على هذا الهجوم. وفى 9 أغسطس اعتقل سيد قطب نفسه، ضمن العديد من الإخوان الآخرين. وفى 20 ـأغسطس وقع عبد الفتاح إسماعيل وعلى عشماوي ، والثاني كان أحد المجاهدين الشبان، فى كمين للبوليس بمحض الصدفة. وبعد أن اعترف عشماوي، قبض على التنظيم بأكمله. وكانت عملية القمع تتم بلا رحمة. حتى وصل الأمر إلى محاصرة قرية كرداسة بالمدرعات فى 22 أغسطس 1965 .
وكانت هذه القرية القريبة للأهرام، أحد معاقل الإخوان التقليدية ، حيث كانت بمثابة نقطة النهاية لشبكة القوافل التى تتوغل فى أعماق الصحراء الليبية ، وقد حملت هذه القوافل الخارجين على القانون، سواء المهربين الذين يمارسون التجارة غير المشروعة مع ليبيا أو المعارضين السياسيين ز وكان لدى الإخوان المسلمين قاعدة قوية هناك منذ الأربعينات، حيث أقيمت معسكرات لتدريب المجاهدين فى الصحراء الغربية. وقد كفل سيطرة الإخوان على القرية ذلك الصلح الذى عقدوه بين عائلتين متناحرتين كان قد نشب بينهما صراع دموي منذ أمد بعيد، بالإضافة إلى سيطرتهم على منصب العمودية.
ولم تفعل الدولة شيئا يذكر للتأثير على قوة الإخوان فى القرية حتى أغسطس 1965 ، عندما جاء ضابط من الشرطة العسكرية متخفي فى ثياب مدنية للقبض على أحد مواطنى القرية المشتبه فى عضويته فى تنظيم 1965 وعند فشل البوليس فى إيجاده ـ خذوا أخاه بدلا منه. وما كان من أهل القرية إلا أن احتشدوا حول قسم البوليس، محاولين إطلاق سراحه. وفى الصباح التالي، كانت كرداسة محاصرة بالمدرعات ونهبت منازلها، وشهر بأعيانها فى وسط البلدة. ثم اقتيد كل رجال القرية إلى السجن الحربي، حيث تجرعوا شتى صنوف التعذيب. ولم يفرج عنهم إلا بعد شهر من هذه الحادثة.
ويشكل هذا النوع من التنكيل، الوسيلة الأكثر شيوعا لإخضاع قرى صعيد مصر، عندما يرفض مجرمو القرية الهاربون أن يدفعوا الإتاوات، أو يشاركوا فى أحد الأنشطة التى تأخذ الحكومة على عاتقها مهمة القضاء عليها. ولعل استخدام هذا الأسلوب فى تلك اللحظة، لإخماد المعارضة السياسية فى هذه القرية، يعطى بعض المؤشرات لقوة قاعدة الإسلاميين فى القرية.
وفى 30 أغسطس استمع الرأي العام المصري من خلال خطاب ألقاه عبد الناصر فى موسكو، إلى أن جماعة المسلمين هى القوة التى تقف وراء مؤامرة ضخمة كشفتها أجهزة المخابرات. وكان ضمن من اشتركوا معهم فى هذا المؤامرة، كما ذكر الرئيس كل من مصطفى أمين ، الصحفي الليبرالي البارز الذى قبض عليه فى 2 سبتمبر بتهمة التجسس لحساب الولايات المتحدة الأمريكية . وقاتل مأجور اسمه حسين توفيق، وأزاح النظام فى طريقه كل العقبات التى أعاقت تعقب "المتآمرين" .
وفى 31 أغسطس، كان قد تم تفتيش حي بولاق الدكرور الفقير، وتمت الإغارة على معظم المحافظات خلال الأسبوع الأول من سبتمبر، ووظفت الدولة كل رجالها، الدينيين والخطباء والكتاب، بعد الملاحقات للتشهير بالعناصر المحرضة على الفتنة. وألقى شيخ الأزهر حسن مأمون خطابا فى الإذاعة أدان فيه الإخوان المسلمين "إرهابي العصور الوسطى" .
أما نواب مجلس الأمة وأعضاء الاتحاد الاشتراكي العربي فقد بح صوتهم من استنفار جماهيريهم، فى محاولة لإثارة حماسهم، حتى أنهم كانوا يساقون فى شاحنات عسكرية لتنظيم المؤتمرات الجماهيرية . وقد انهالت وسائل الإعلام فى سعيها لإنجاز هذه المهمة الخاصة، بأسوأ النعوت على المتهمين، الذين أدينوا حتى قبل إجراء أى محاكمة صورية، وبدا الأمر وكأنه مسرحية هزلية. وبعد أن أعاد الكورس القديم الحديث عن المؤامرات والتفجيرات التى دبرها المجرمون، كشفت الصحف عن الروابط الخارجية "للمتعصبين الدينيين" فسعيد رمضان . صهر حسن البنا، وكان يحيك المؤامرات من عمان، بالأردن ، بناء على أوامر تلقاها من حزب السنتو.
وكان القائدان الرئيسيان للمؤامرة فى مصر هما الأخوين قطب، بينما ضبطت نسخ من "معالم في الطريق" و "جاهلية القرن العشرين" ، والتي كان البوليس يتوصل لمعرفة مكانها غير تعذيب بشع للمتهمين ، فى كل هجمة بوليسية . وعلاوة على ذلك، سحق النشاط البوليسي كل خلايا التنظيم، الذى تم تشييده من أجل الاستخدام الأمثل لملكات أعضاءه، فتخصص الكيميائيون فى صنع القنابل، والطيارون فى جلب السلاح والذخائر من الخارج، .. الخ.
وقد تعرض المعتقلون لكافة أنواع التعذيب. فاعترف على عشماوي أحد الأعضاء الشبان فى قيادة التنظيم، وأرشد عن كل شركاءه، والمحكمة التى اكتسب اللواء الجدوى شهرة واسعة من خلالها، قدمت لمتهمين كل الضمانات التى تميز القضاء العسكري فى دولة دكتاتورية حاولت تدمير المتهمين من خلال التعذيب. ورغم الحملة التى نظمت فى عدد من البلدان الإسلامية لإنقاذ قطب، إلا أنه قد تم إعدامه يوم الاثنين 29 أغسطس 1966 ، بين تلميذيه الأثيرين محمد هواش وعبد الفتاح إسماعيل منظم الإخوان .
وقد شاهد المصورون المحتشدون سيد قطب لمدة قصيرة قبل شنقه، حيث أضاءت وجهه ابتسامه رقيقة وسعتها عيونه التى بها حول. تلك كانت الخطوط الرئيسية للبعث الجديد للإخوان المسلمين خلال العقد الأول من العهد الناصري، العقد الذى انتهى كما بدأ، أى باضطهادهم .
وقد كان هناك بالطبع تماثل بين 1954 و 1965، إلا أنه كان هناك أيضا تطور ملموس فى فكر، إذا لم يكن فى ممارسةحركة الإسلاميين . كان التماثل الرئيسي فى كلتا الحالتين هو قدرة النظام على ضرب التنظيم خلال عملية إعادة بناء نفسه، بعد أن يكتسب بعض القوة، لكن قبل أن يطور إستراتيجية تجعله قادرا على البدء بالهجوم . بكن بينما كان الإخوان عام 1954 عاجزين عن إدراك السبب فى حتمية المواجهة مع النظام، أصبح لديهم عام 1965بعد كتاب سيد قطب "معالم في الطريق" الأداة النظرية القادرة على تحليل تلك الدولة، التى حاربوا وخططوا لتدميرها واستبدالها بدولة إسلامية.
وكان العمل فى 1965 من ناحية أخرى ، حديث العهد بدرجة كبيرة ولم يترك أى بصمات حقيقة على ممارسةالإخوان التنظيم. وعلاوة على ذلك فلم يفهم كل من قرأ "معالم في الطريق" محتواه بنفس الطريقة. وقد كان لركب الشهداء الذين استشهدوا فى عهد عبد الناصر أهمية قصوى بالنسبة لحركة الإسلاميين التى أتت بع ذلك حيث أضفت معاناة الاضطهاد دفاعا عن الإيمان وعن المثل الأعلى الاجتماعي على رسالة الإسلاميين منزلة الحقيقة المطلقة.
وقد عمق ركب الشهداء هذا من التناقضات بين الاتجاهات المختلفة، التى انقسمت وفقا لقراءاتها الأيديولوجية- أو عدم قراءتها- لمعالم في الطريق. فبينما بشر شكري مصطفى على سبيل المثال "بالعزلة" ، بالانسحاب من المجتمع كوسيلة لتجنب هول المعتقلات والمشانق. سلك آخرون طريق الالتزام السياسي من خلال مناهج عدة، حيث تعاون البعض مع النظام فى محاولة لأسلمته أو لدخول عالم السياسة كنوع من المعارضة، على أمل تجنب ولو جزئيا من خلال الروابط مع النظام نفسه، شبح التعذيب والإبادة. وظل البعض الآخر ينظم نفسه من أجل الاستيلاء على السلطة بالقوة، على أمل أن يكونوا فى المرة القادمة قادرين على العمل قبل أن تتمكن الدولة من أن تضربهم ثانية. وكانت تلك الرؤية هى رؤية أعضاء جماعة عبد السلام فرج، التى اغتالت السادات فى السادس من أكتوبر عام 1981 .
الفصل الثاني: معالم في الطريق
كتب . ب. ريتشارد.ميتشل ، كان موت حسن البنا فى 12 فبراير 1949 ، بالنسبة لأعضاء جماعة الإخوان المسلمين بمثابة"تراجيديا ذات أبعاد لا يمكن حصرها" و "كل ما أصاب الإخوان كأفراد أو كجماعات على يد السلطة لم يكن له مثل ذلك الأثر المدمر على الحركة الذى تركه فقدان القائد" . وقد مثل تعيين حسن الهضيبي ، أثر ذلك، خليفة للبنا.
النتيجة النهائية لعدد من الحلول الوسط بين القصر والإخوان من جهة وبين الإخوان أنفسهم من جهة أخرى. حيث اثرت هذه التوازنات بالسلب على التماسك الداخلي للجماعة التى فسرت التراث العقائدي لحسن البنا ، على الرغم من ادعائها الإخلاص له، بأساليب مختلفة بدرجة كبيرة. وكان المرشد العام الجديد، والذي كان يعوزه النفوذ الفكري، عاجزا عن عمل أي شيء سوى أن يمنح أو يمتنع عن إعطاء موافقة التنظيم على ما ينشره أعضاؤه.
وقد شهدت الفترة من 1949 إلى 1954 خصوبة فى كتابات الإخوان المسلمين ورفاق دربهم: عبد القادر عودة ومحمد الغزالي وسيد قطب والبهي الخ ولى ومحمد طه بدوى الذين سعوا جميعا لمواصلة عمل حسن البنا فى كتاباتهم الشخصية. فالمرشد العام الراحل لم يترك من أفكاره سوى القليل من الآثار المكتوبة. وطوال حياته كان مؤسس الإخوان، هو الذى يقرر كل شىء وهو الذى يحدد خط التنظيم فى ضوء تطورات الموقف السياسي والاجتماعي والاقتصادي والديني.
وكان أهم ما تركه من أعمال مكتوبة سيرته الذاتية "مذكرات الدعوة والداعية" ومجموعة من الرسائل . ولم يكن هذا الإنتاج كافيا بحال من الأحوال لمعالجة كل المشاكل والتحديات التى واجهها الإخوان بعد موته، خاصة خلال معاناتهم لاضطهاد 1954 ، ولم تكن لديهم الأدوات النظرية القادرة على تحليل هذا النظام الجديد على أساس من مقولات الإسلام.
وكان سيد قطب هو الذى ملء هذا الفراغ الأيديولوجي من خلال الكتب التى ألفها فى السجن بين عام 1954 (عندما تم اعتقاله لأول مرة) وعام 1964 (عندما أطلق سراحه لفترة وجيزة ليعاد القبض عليه مرة أخرى وتجرى محاكمته وينفذ فيه حكم الإعدام عام 1966) وفى كتابه الأخير "معالم في الطريق" يصف قطب نظام عبد الناصر بعبارات بالغة القوة والحدة، يصفه من موقع غير عادى لرجل لم يعرف من هذا النظام سوى معتقلاته. إذ رأى قطب أن الدولة الناصرية ، تنطبق عليها تلك المقولة الإسلامية عن الجاهلية أو بربرية ما قبل الإسلام ، ولقد وضع ذلك التصنيف النظام الناصري وراء حدود الإسلام .
ويقدم سيد قطب ، بأسلوب بسيط وواضح، تحليله للنظام وتصوره لكيفية تدميره واستبداله بدولة إسلامية. ورغم أن التحليل الاساسى فى الكتاب قد فهم على أساس رأى سيد قطب فى نظام عبد الناصر ، فإن هذا التحليل يمكن أن ينطبق بنفس القدر حتى على خليفته.
وعلى ذلك فإن كتاب "معالم في الطريق" يمثل وثيقة بالغة الأهمية. قدمت مواجهة مباشرة وأيديولوجية حركة الإسلاميين . وقد اشتملت المبادئ التى قدمها هذا الكتاب بصورة ضمنية على تأثيرات التيارات الرئيسية فى تلك الحركة وأصبح الكتاب فى النهاية هو البرنامج العام (أو المينافستو) لمعظم الإسلاميين .
وقد أدان علماء الأزهر وكل مشايخ الإسلام الموالين للنظام كتبا سيد قطب هذا واعتبروه خروجا وكفرا، فى الوقت الذى اعتبره الإخوان المسلمون الأكثر تمسكا بالتقاليد مرجعا مثيرا للإعجاب ومنفرا فى آن معا. إذ رأوا فى بعض ما أورده من دفاعات شيئا جديرا بالإعجاب بينما رأوا فى بعضها الآخر خروجا على حدود الجماعة .وبعبارة أخرى يمكن القول بأن "معالم في الطريق" هو الطريق الملكي لأيديولوجية حركة الإسلاميين فى السبعينات.
سيد قطب المؤلف والشهيد
لم يكن سيد قطب، خلافا لحسن البنا ، قائدا للجماهير أو منظما، بل كان أديبا تحول خلال الخمسة عشر عام الأخيرة من حياته فحسب إلى ايديولوجى جماعة الإخوان المسلمين .ولا ترسم الأحداث الرئيسية فى حياته مسارا نموذجيا لمواطن مصري فى القرن العشرين قرر الانضمام للإخوان المسلمين فحسب، لكنها تلقى الضوء أيضا على أصالة عمله مقارنة بالانتهاج العقائدي لمجاهدي الإخوان الآخرين.
وقد ولد سيد قطب فى سبتمبر 1906 فى بلدة موشا بمحافظة أسيوط، فى صعيد مصر (4، 20) ، ابنا لأسرة من وجهاء الريف الذين داهمتهم الظروف الصعبة. وقد كان بهذه البلدة الكبيرة ، بخليطها من السكان المسلمين والمسيحيين واكتظاظها بالمزارع العائلية الصغيرة ، نظامان متوازيان للتعليم: المدارس الحكومية من ناحية والمدارس القرآنية أو الكتاتيب من ناحية أخرى. وعلى الرغم من وجود اثنين من خريجي الأزهر فى عائلته من ناحية أمه، فقد ألحق قطب بالمدارس الحكومية.
وقد أصيب قطب بالفزع خلال إقامته القصيرة فى الكتاب وتمكن بمجهوده الشخصي من حفظ القرآن عن ظهر قلب، قبل ، يكمل التاسعة. وكان والده، الحاج قطب إبراهيم، مندوبا للبلدة فى حزب مصطفى كامل الوطني ومراسلا لصحيفة اللواء، الناطقة بلسان الحزب. وبسبب الاجتماعات العامة والخاصة التى كانت تعقد بانتظام فى منزل والده، اكتسب سيد قطب وعيا سياسيا فى سن مبكرة.
ونتيجة لتعاطفه مع الحركة الوطنية المعادية للانجليز واظب على الاطلاع على الكتابات الصحفية والعالمية، التى كان يحصل عليها من بائع الكتب المحلى المتجول. وبسبب الميول الفكرية الواضحة للفتى (وحيث أنه كان يتعين تدبير المال بسرعة لاسترداد إرث الأسرة، الذى اضطر جد سيد قطب للتخلي عن القطعة تلو الأخرى) قررت ألأسرة بعد تخرجه من مدرسة موشا عام 1918 ، إرساله إلى القاهرة .
لكن انقطاع المواصلات نتيجة لأحداث الثورة الوطنية عام 1919 ، أدى إلى تأجيل هذا المشروع حتى عام 1921 . وقد أمضى سيد قطب السنوات الأربع التالية مع عم له كان يعمل بالصحافة، ويؤيد حزب الوفد، فى إحدى ضواحي العاصمة. وليست هناك أية معلومات ذات شأن عن تلك الفترة. وفى عام 1925 التحق بمعهد لإعداد المعلمين. وخلال عامي 1928 – 1929 واظب بعد التخرج على حضور فصول دراسة تمهيدية فى دار العلوم، وهى معهد جديد لإعداد المعلمين أسس عام 1872 ، لتعويض أوجه القصور فى كلية الإعداد الأزهري ة، التى اعتبرت آنذاك شيئا متحجرا . ثم رسميا فى دار العلوم عام 1930 وتخرج منها عام 1933 وهو فى السابعة والعشرين. ومن الجدير بالذكر أن حسن البنا نفسه قد درس فى دار العلوم فى الفترة من 1923 حتى 1926.
وخلال الأعوام الستة التالية عمل بوزارة المعارف العمومية. وبدأ حياته الوظيفية بالتعليم فى الأقاليم لكنه انتقل بعد ذلك إلى حلوان فى ضواحي العاصمة، وقرر أن يقيم فيها بصفة دائمة، مع والدته وشقيقتيه وأخيه . وفى الفترة بين 1940 غلى 1948 عمل مفتشا بالوزارة. وخلال هذا الوقت أعد أكثر من مشروع لإصلاح التعليم أودعها رؤساؤه كما هى سلة المهملات (كان المؤلف الكبير طه حسين أحد هؤلاء الرؤساء لفترة من الوقت).
ولقد كان لسيد قطب نوع من النشاط الموازى بوصفه أديبا. والواقع أن حياته الفكرية تأثرت بذلك اللقاء المبكر الذى جمعه بأحد القمم البارزة فى ذلك العصر، وهو محمود عباس العقاد. فعلى عكس طه حسين وغيره من رجال الفكر والأدب الذين تعلموا فى أوربا، كان العقاد رجلا ثقف نفسه بنفسه وكانت ثقافته مقصورة فى الغالب على العربية. وكرس العقاد الصحفي والكاتب والروائي كل مواهبه لنصرة حزب الوفد وقائده، سعد زغلول.
لكنه نأى بنفسه عن الوفد عندما خلف مصطفى النحاس باشا سعد زغلول، إذ كان العقاد يعتبره ذو نزع ديماجوجى أكثر منه ديموقراطى. فقرر العقاد وقد تحرر من وهم الجماهير ، الذين اعتبرهم مخدوعى طبقة سياسية لم يكن يشعر نحوها سوى بالازدراء أن يكرس أغلب إنتاجه الأدبي للتغني بأمجاد رجال الإسلام العظماء.
كان تطور سيد قطب مشابها للعقاد. فقد بدأ عضوا فى حزب الوفد، ثم هجره بعد ذلك لكنه ظل مهتما بالسياسة الحزبية حتى عام 1945 على أن كتاباته ظلت حتى نهاية الحرب العالمية الثانية ، مقتصرة على حفل النقد الأدبي، وقد لعب دورا مؤثرا فى مساجلات الثلاثينيات والأربعينات ، حيث ألقى أسلوبه الناري الضوء على مقدرته كمحاور (فى مواجهة طه حسين بشكل خاص) إلا أنه بعد 1946 أخذ فى الابتعاد عن العقاد ومدرسته.
كذلك كان سيد قطب صحفيا بالإضافة إلى كونه ناقدا، وقد هيا له العقاد الفرصة فى بداية 1921 لدخول عالم الصحافة الشعبية، حيث نشر آرائه من خلال أعمدتها . إلا أن اهتمامه الرئيسي ظل محصور إلى الشعر وكتابة القصص القصيرة والرايات وتندرج ثلاثة من أعماله على الأقل فى باب السيرة الذاتية:"طفل من القرية" ، و"الأطياف الأربعة" ، (كتب بالتعاون مع أخيه محمد وأختيه حميدة وأمينة) و "أشواق" ، وهو وصف غير مباشر لفشل عميق فى الحب عزم سيد قطب بعده على أن يظل أعزب.
وقد أرقه تحرره من هذا الوهم الرومانتيكى "حتى اكتشف طريق العمل الحصب والبناء فى خدمة رسول الله، كمجاهد ومحارب وقائد وأخيرا كمعلم". وخلال عام 1945 العام الذى هجر فيه الأحزاب السياسية والتى أصبح يعتبرها الآن مخلفات عصر غابر، تحولت المادة الرئيسية لمقالاته من الأدب إلى الوطنية، والأحداث السياسية والمشكلات الاجتماعية. وقد اتسمت جهوده بدرجة من الحماس أزعجت معها الملك فاروق نفسه.
وأراد الملك أن يسجنه إلا أنه أفلت من الاعتقال بفضل صلاته الوفدية القديمة، فاستبدل الاعتقال بنوع من النفي الاختياري . وفى عام 1948 أرسل إلى الولايات المتحدة لفترة غير محددة ، فى بعثة لدراسة نظام التعليم الأمريكي على حساب وزارة المعارف العمومية. ومن الواضح أن الآمال كانت معلقة على عودته من البعثة مناصرا "لنمط الحياة الأمريكي" إلا أن التجربة جعلته بدلا من ذلك أكثر قربا من الإسلام، ومن ثم من الإخوان المسلمين.
وخلال جلوسه وحيدا وفى عزلة تامة على ظهر العبارة التى حملته إلى نيويورك، وقد انقطعت فجأة صلاته بعالمه أعاد سيد قطب اكتشاف الإسلام . ولا يعنى هذا أن إيمانه كان قد اهتز فى أى وقت من الأوقات، لكنه كان مشغولا عنه مؤقتا بإخوته فى الدين ويخطب فيهم. ولم يمض وقت طويل على حدوث هذا التغيير الداخلي حتى لاحت له أول غواية جسدية: فعند عودته إلى قمرته بعد صلاة العشاء ، اقتربت منه امرأة ثملة نصف عارية دعته لقضاء الليلة معها، لكن ناسكنا رفض دعوتها بإصرار.
والواقع أن قطب كثيرا ما تعرض خلال إقامته فى أمريكا "البوجارتية" فى أواخر الأربعينات ، للمضايقات بسبب الاختلاط الجنسي الذى كان يصيبه بالاشمئزاز وفى هذا البلد، الذى لا يعرف الشفقة والمكرس كلية لعبادة الدولار، والخالي من أية قيم ذات معنى فى نظره، رأى بعينه تلك السعادة التى غمرت الأمريكيين لاغتيال حسن البنا ولقد شجب المجتمع الأمريكي عند عودته فى صيف 1951 بحدة بالغة أدت إلى إجباره على الاستقالة من وزارة المعارف العمومية.
وعندئذ بدأ بالتردد على الإخوان المسلمين وتم تجنيده فى النهاية فى جماعة الإخوان على يد صالح عشماوي فى نهاية 1951 ، وهو فى ا لخامسة والأربعين. وقد مثل ذلك بالنسبة لسيد قطب انفصالا تاما عن الماضي. وظل يردد بعد ذلك "لقد ولدت فى عام 1951" وفى عام 1952 تم انتخابه عضوا فى المجلس القيادي للإخوان المسلمين "مكتب الإرشاد" ، وعين رئيسا لقسم الدعوة الإسلامية "نشر الدعوة" وفى الشهور التى سبقت ثورة 1952 والتى أعقبتها مباشرة، خلال شهري عسل بين الضباط الأحرار والإخوان المسلمين ، كان قطب يلتقي بانتظام مع جمال عبد الناصر.
وفى أغسطس 1952 ترأس سيد قطب مؤتمرا عن "التحرر الفكري والروحي فى الإسلام" شهدته كل الشخصيات الهامة فى قاهرة الثورة، حيث لقى ترحيبا حارا من قبل ك لمن عبد الناصر ومحمد نجيب، أول رئيس مصري بعد الانقلاب. وعلى الرغم من هذا ، فقد انحاز إلى صف الهضيبى، المرشد العام للجماعة، خلال الصراع الذى نشب طوال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 1954 . وفى 3 يوليو 1954 عينه الهضيبى رئيسا لتحرير "الإخوان المسلمون" ، الجريدة التى عبرت عن انتقادات الهضيبى للأجنحة المنشقة داخل صفوف الإخوان . ولم يظهر من هذه الجريدة سوى 12 عددا.
وفى 26 أكتوبر حاول "محمود عبد اللطيف" أحد الإخوان المسلمين، اغتيال عبدالناصر فى ميدان المنشية بالإسكندرية . وسواء كان هذا الحادث من تدبير البوليس أو عملا مدبرا من قبل الإخوان، فقد هيأ هذا الهجوم للرئيس مبررا مثاليا لتصفية الإخوان المسلمين. فألقى القبض على سيد قطب ، شأنه فى هذا شأن أغلب مجاهدا الإخوان، وتعرض لتعذيب بشع. وفى 13 يوليو 1955 وبعد محاكمة هزلية، حكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة، وكان قد بدأ فى تنفيذها فى معتقل طرة، وبعد ذلك فى المستشفى الملحق به.
وكانت ظروف اعتقاله مرنة نسبيا، مما مكنه من كتابة تفسيره للقرآن تحت عنوان "فى ظلال القرآن ؟ بل أنه نشرها فى صورة كتيب وطبعها فى القاهرة ، فضلا عن كتابات أخرى عديدة، وبدأ فى 1962 ، كما رأينا فيما سبق بكتابة مسودة الفصول الأولى من "معالم في الطريق" وترويجها بين التجمعات التى التفت حول عضوة الجماعة زينب الغزالي . وبعد الإفراج عنه فى نهاية 1964بفضل وساطة الرئيس العراقي، عبد السلام عارف، الذى كان فى زيارة رسمية للقاهرة آنذاك، أصبح سيد قطب هو القطب الذى تجمع حوله ما تبقى من أنصار الإخوان المسلمين. وفى نوفمبر 1964صدر كتاب "معالم في الطريق" عن مكتبة وهبة. وقد كتب أحد الناصريين المخلصين يقول"عندما طبع كتاب معالم في الطريق"لأول مرة كان هناك اعتراض على طبعه بل إنه منه وعندما قرأ عبد الناصرمسودته اتصل بالمسئولين مؤكدا أنه لا مانع من نشره"وقد أعيد طبع "معالم في الطريق" بعد صدوره خمس مرات خلال ستة أشهر إلا أنه صودر مرة أخرى بعد ذلك.
وعندما أعلن عبد الناصر فى 30 أغسطس 1965أن "مؤامرة جديدة للإخوان المسلمين" قد تم كشف النقاب عنها، أعيد اعتقال سيد قطب باعتباره الرأس المدبر للمؤامرة. وقد ضبطت نسخ من "معالم في الطريق" طبقا لرواية البوليس، فى ك لهجمة على بيوت أعضاء الجماعة، وبعد محاكمة سريعة ظهر فيها المتهمون فى حالة من الانهيار التام نتيجة للتعذيب (الذى نجح قطب فى الكشف عنه أمام الحضور) ، حكم عليه هو واثنين من رفاقه بالإعدام، وتم شنق الرجال الثلاثة فى فجر التاسع والعشرين من أغسطس عام 1966 وقد كتبت زينب الغزالي تقول"إذا أردت ان تعرف لماذا حكم على سيد قطب بالإعدام فاقرأ"معالم في الطريق".
كان "معالم في الطريق" إذن العمل الختامي لحياة قطب، ومثل ذروة إنتاج أدبي ضخم، لا يمت أغلبه بأدنى صلة للدعوة الإسلامية . فأول كتاب إسلامي له هو "المجاز الفني فى القرآن" صدر فى أبريل 1945، وقد سبقه وتلاه العديد من الكتب فى الرواية والنقد الأدبي. فحتى أبريل 1949 عندما صدرت الطبعة الأولى من كتابه "العدالة الاجتماعية فى الإسلام" لم يكن سيد قطب قد كرس بعد كل كتاباته للإسلام، كما لم يصبح القائد الأيديولوجي للإخوان المسلمين إلا منذ عام 1951.
وفى الفترة من 1951 حتى إعدامه عام 1966 كتب سيد قطب ثمانية أعمال فى العقيدة الإسلامية ، خمسة منها كتبت فى السجن، ولم يكن كتابه"معالم في الطريق"فى الواقع إنتاجا جديدا بمعنى الكلمة: فقد أخذ أربعة من فصوله الثلاثة عشر على الأقل من كتابه"فى ظلال القرآن" وهو تفسير للقرآن فى عدة أجزاء كتب فى الفترة من 1953 حتى 1964 ، أى كتب أغلبه فى السجن. وعلاوة على ذلك، فإن المصطلحات التى استخدمها المؤلف قد استعارها، كما سنرى من مفكرين عديدين. إلا أننا سننتقل الآن غلى دراسة المحتوى الأيديولوجي لمعالم في الطريق. أى لماذا وكيف أصبح هذا الكتاب، على حد تعبير المفكر المصري طارق البشرى، "ما العمل" حركة الإسلاميين ؟
النزعة الإسلامية أو النزعة البربرية
يشير الفصل التمهيدي لـ "معالم في الطريق" إلى مغزى الكتاب وهدفه: "تقف البشرية اليوم على حافة الهاوية ... لا بسبب التهديد بالفناء المعلق على رأسها (فهذا عرض للمرض وليس هو المرض.. لكن بسب إفلاسها فى عالم"القيم"التى يمكن أن تنمو الحياة الإنسانية فى ظلالها نموا سلميا وتترقى ترقيا صحيحا".
"وهذا واضح كل الوضوح فى العالم الغربي، الذى لم يعد لديه ما يعطيه للبشرية منم "القيم" بل الذى لم يعد لديه ما يقنع ضميره باستحقاقه للوجود، بعد ما انتهت "الديمقراطية" فيه إلى ما يشبه الإفلاس، حيث بدأت تستعير – ببطء- وتقتبس من أنظمة المعسكر الشرقي وبخاصة فى الأنظمة الاقتصادية. تحت اسم الاشتراكية".
"كذلك الحال فى المعسكر الشرقي نفسه.. فالنظريات الجماعية. وفى مقدمتها الماركسية التى اجتذبت فى أول عهدها عددا كبيرا فى الشرق – وفى الغرب نفسه – باعتبارها مذهب يحمل طابع العقيدة، قد تراجعت هى الأخرى تراجعا واضحا من ناحية "الفكرة" حتى لتكاد تنحصر الآن فى "الدولة"وأنظمتها، التى تبعد بعدا كبيرا عن أصول "المذهب" ولابد من قيادة للبشرية جديدة ص 14 .
"ثم فشلت الأنظمة الفردية والأنظمة الجماعية فى نهاية المطاف. ولقد جاء دور "الإسلام"ودور "الأمة" فى أشد الساعات حرجا وحيرة واضطرابا.. جاء دور الإسلام الذى لا يتنكر للإبداع المادي فى الأرض ، لأنه يعده من وظيفة الإنسان الأولى منذ أن عهد الله إليه بالخلافة فى الأرض ، ويعتبره – "تحت شروط خاصة – عبادة الله ، وتحقيقا لغاية الوجود الانسانى".
"لكن الإسلام لا يملك أن يؤدى دوره إلا أن يتمثل فى مجتمع ، أى أن يتمثل فى أمة.. فالبشرية لا تستمع – وبخاصة فى هذا الزمان- إلى عقيدة مجردة، لا ترى مصداقها الواقعي فى حياة مشهودة.. و "وجود" الأمة المسلمة يعتبر قد انقطع منذ قرون كثيرة". "فالأمة المسلمة ليست" أرضا"كان يعيش فيها الإسلام. وليست "قوما" كان أجدادهم فى عصر من عصور التاريخ يعيشون بالنظام الإسلامى"."
إنما الأمة المسلمة جماعة من البشر تنبثق حياتهم وتصوراتهم وأوضاعهم وأنظمتهم وقيمهم وموازينهم كلها من المنهج الإسلامى.. وهذا الأمة – بهذه المواصفات قد انقطع وجودها منذ انقطاع الحكم بشريعة الله من فوق ظهر الأرض جميعا".ص6
إن العالم يعيش اليوم كله فى "جاهلية" من ناحية الأصل الذى تنبثق من مقومات الحياة وأنظمتها. جاهلية لا تخفف منها شيئا هذه التيسيرات المادية الهائلة ، وهذا الإبداع المادي الفائق". ص 8" هذه الجاهلية تقوم على الاعتداء على سلطان الله فى الأرض وعلى اخص خصائص الإلوهية.. وهى الحاكمية..
إنها تسند الحاكمية إلى البشر ، فتجعل بعضهم لبعض أربابا، لا فى الصورة البدائية الساذجة التى عرفتها الجاهلية الأولى، ولكن فى صورة ادعاء خاص وضع التصورات والقيم، والشرائع والقوانين والأنظمة والأوضاع بمعزل عن منهج الله للحياة، وفيما لم يأذن به الله .. "فينشأ عن هذا الاعتداء على سلطان الله اعتداء على عباده". ص 8
"وما مهانة "الإنسان" عامة فى الأنظمة الجماعية، وما ظلم "الأفراد" والشعوب بسيطرة رأس المال والاستعمار فى ا لنظم "الرأسمالية" إلا أثرا من آثار الاعتداء على سلطان الله ، وإنكار الكرامة التى قررها الله للإنسان".ص 8" إننا – دون شك- نملك شيئا جديدا جدة كاملة . شيئا لا تعرفه البشرية ولا تملك هى أن "تنتجه" ص9"ولكن هذا الجديد، لابد أن يتمثل – كما قلنا – فى واقع عمل. لابد أن تعيش به أمة .. وهذا يقتضى عملية "بعث" فى الرقعة الإسلامية . هذا البعث الذى يتبعه – على مسافة ما بعيدة أو قريبة- تسلم قيادة البشرية"ص 9
- "فكيف تبدأ عملية البعث الإسلامى؟"
- "إنه لابد من طليعة تعزم هذه العزمة، وتمضى فى الطريق. تمضى فى خضم الجاهلية الضارية فى أرجاء الأرض جميعا. تمضى وهى تزاول نوعا من العزلة من جانب ونوعا من الاتصال من الجانب الآخر بالجاهلية المحيطة" ص 9 .ولابد لهذه الطليعة التى تعزم هذه العزمة من "معالم في الطريق" معالم تعرف منها طبيعة دورها، وحقيقة وظيفتها، وصلب غايتها.
ونقطة البدء فى الرحلة الطويلة.. كما تعرف منها طبيعة موقفها من الجاهلية الضاربة الأطناب فى الأرض جميعا.. أين تلتقي مع الناس وأين تفترق؟ ما خصائصها هى وما خصائص الجاهلية من حولها؟ كيف تخاطب أهل هذه الجاهلية بلغة الإسلام وفيم تخاطبها ؟ ص 9.
"لهذه الطليعة المرجوة المرتقبة كتبت (معالم في الطريق)."
يتضح من هذه المقتطفات أن الكتاب يطمح إلى أن يكون أداة لتحليل المجتمع المعاصر ومرشدا للطليعة التى لها دور الريادة فى بعث هذه الأمة- باختصار كان "معالم في الطريق" البرنامج العام (المانيفستو) لحركة الإسلاميين .ونقطة الانطلاق إذن هى الحكم بإفلاس الغرب، سواء الغرب الرأسمالي أو الاشتراكي.
تلك هى ا لحقيقة المسلم بها فى أيديولوجية الإخوان المسلمين ، مثلها مثل تسليمهم بأن بعث الإسلام يضع الحل لمشاكل الإنسانية. ومن ناحية أخرى فإن استخدام سيد قطب لتعبير "الجاهلية" ليصف به المجتمع الذى يعيش فيه هو الإضافة الفكرية التى جعلته ينفصل عن المعتقدات التقليدية للإخوان المسلمين.
والجاهلية فى الواقع كانت حجر الزاوية الذى وقف عليه البناء النظري لـ "معالم في الطريق" وإذا كان من الصحيح اعتبار المجتمع المعاصر مماثلا لجاهلية ما قبل الإسلام، بحيث لا يعدو أن يكون سوى صورة متطورة لهذه الجاهلية ، فمن الواجب أن تكون نظرة المسلم لهذا المجتمع مماثلة لنظرة الرسول والصحابة إلى مجتمعهم.
وطليعة اليوم يجب عليها أن تسترشد بهذه القدوة فى تحديد أسلوب عملها. وقد استخدم الرسول تكتيك المراوحة بين الانسحاب من المجتمع الذى يعيش فيه والاتصال به، وهو الذى اختار على سبيل المثال أن يهاجر من مكة إلى المدينة عندما وجد نفسه فى موقف ضعيف، ليعود فى ا لنهاية فاتحا للمدينة التى هجرها قبل ذلك.
ولقد مثل الاستخدام العبر تاريخي tranu- historical لمفهوم الجاهلية لدى قطب انطلاقة جديدة وبارزة لعقيدة الإخوان المسلمين. فحسن البنا على سبيل المثال ، لم يحلم قط باتهام المجتمع المصري الذى عاصره بأنه قد أصبح غير إسلامي. لكن الأيام كانت قد تغيرت ، ومصر – التى فقدت حتى اسمها وأصبح اسمها الجمهورية العربية المتحدة- قد حكمتها، وشيدتها وطوقتها الدولة الناصرية .
والسيطرة الاجتماعية التى مارستها الملكية والمحتلون الانجليز كانت أقل تأثيرا بكثير من تلك التى مارسها عبد الناصر، الذى كان يتلقى النصح من الخبراء الروس، الأساتذة فى هذا الفن.
وقد كتب "معالم في الطريق" فى المعتقل الذى قضى فيه المؤلف عشرة سنوات من حياته. وبالتالي فقد كان مدركا للوجه الآخر "للاشتراكية العربية" ، الأسلاك الشائكة وأعمدة المشانق. وفى واقع مثل هذا يصبح ذلك النمط من أنماط الدعوة الذى مارسه الإخوان المسلمون بنجاح ف الثلاثينات والأربعينات غير ممكنا على الإطلاق. فالدولة الاستبدادية قد غدت الآن نموذجا للجاهلية.
والجاهلية بالنسبة لسيد قطب هى مجتمع يحكمه حاكم ظالم جعل من نفسه موضوعا للعبادة فى مكانة الله ويحكم إمبراطوريته وفقا لهواه الشخصي بدى من أن يحكم على أساس المبادئ المستوحاة من القرآن والسنة. ولا يخفف من هذا الوطء أن نزوات الحاكم يتم تزيينها فى إطار الشرعية، فذلك لا يغير من كونها نزوات بدرجة أو بأخرى.
وفى كتابه "معالم في الطريق" خصصها للمجتمع الجاهلي عرض سيد قطب هذا التعريف. "إن المجتمع الجاهلي هو كل مجتمع غير المجتمع المسلم" وإذا أردنا التحديد الموضوعي قلنا: إنه هو كل مجتمع لا يخلص عبوديته لله وحده.. وبهذا التعريف الموضوعي تدخل فى إطار "المجتمع الجاهلي" جميع المجتمعات القائمة اليوم فى الأرض فعلا ص 88 ، 89 .
واستعرض قطب بعد ذلك الصيغ المختلفة للمجتمعات، شارحا لماذا تشكل كل منها جزءا من هذه الجاهلية بشكل عام. وفى قمة هذه القائمة تقف المجتمعات الشيوعية، التى تنكر الله والتي فيها "نظام العبودية فيه للحزب- على فرض أن القيادة الجماعية فى هذا النظام حقيقة واقعية- لا لله سبحانه وتعالى" ص 89.
وفى هذه المجتمعات "اختزلت الحاجات الإنسانية إلى مثيلتها لدى الحيوان" تليها مختلف المجتمعات الوثنية وفيها "تمارس الحاكمية العليا باسم (الشعب) ، أو باسم (الحزب) أو باسم كائن من كان".
وتأتى بعدها المجتمعات المسيحية واليهودية. وفى النهاية "يدخل فى إطار المجتمع الجاهلي تلك المجتمعات التى تزعم لنفسها أنها مسلمة" وهذه المجتمعات لا تدخل فى هذا الإطار لأنها تعتقد بإلوهية أحد غير الله ، ولا لأنها تقدم الشعائر التعبدية لغير الله أيضا، ولكنها تدخل فى هذا الإطار لأنها لا تدين بالعبودية لله وحده فى نظام حياتها.
فهى – وإن لم تعتقد بإلوهية أحد إلا الله – تعطى أخص خصائص الإلوهية لغير الله ، فتدين بحاكمية غير الله ، فتتلقى من هذه الحاكمية نظامها، وشرائعها وقيمها وموازينها وعاداتها وتقاليدها.. وكل مقومات حياتها تقريبا ص 91، 92.
يتضح من خلال هذا النص، أن هناك اثنان المفاهيم يستخدمان كمفتاح للعلاقة بين الإنسان والله ، وكما تصور سيد قطب فإنهما وللسبب السابق بالتحديد يستخدمان كمفتاح لروح المجتمع: العبودية، والحاكمية . وهذان المصطلحان ليسا بمصلحين قرآنيين .
اشتق المصطلح الأول من مصدر "يعبد" والآخر من "يحكم" وقد ظهر كلاهما فى كتاب "لأبى الأعلى المودودى" بعنوان المصطلحات الأربعة فى القرآن" ، وكان هدفه من هذا الكتاب هو أن يؤصل الدلالة الحقيقة والأصلية للمصطلحات القرآنية التالية: الإله والرب والعبادة والدين ، كما فهمها العرب فى عهد البعثة المحمدية وليس كما مسخها أسلافهم طوال عصور الانحطاط.
وقد كان أحد أسباب تدهور بلاد الإسلام، عند الباكستاني أبو الأعلى المودودى ،هو بالتحديد أن قاطنيها لم يفهموا بعد الرسالة القرآنية كما فهموها فى بداية العصر الإسلامى. وعلاوة على ذلك، فلكي يتم بناء المجتمع المسلم فإن هذا يتطلب أولا وأخيرا أن يتعلم المسلمون قراءة القرآن فى سياقه الأصلي، دون الأخذ فى الاعتبار الأهمية المفرطة للتقاليد، التى اعتبرها المودودى تقاليد متحجرة .
وقد كتب المودودى كتابه عام 1941 ونشر لأول مرة فى مجلته، ترجمان القرآن ، فى نفس العام الذى أسس فيه "الجماعات الإسلامية" فى الهند وفى هذا السياق، كان الهدف من هذا الكتاب هو تنقية عقيدة هذه الجماعة وتحديد موقفها من الأحزاب الحاكمة. وبمعنى آخر، فإن الهدف منه لم يكن مختلفا على الإطلاق عن أهداف "معالم في الطريق".
وكانت السلطة الشرعية الوحيدة، عند قطب كما هى عند المودودى فى نظام الحكم الصالح (وهو بالضرورة مسلم) هى حكم الله (الحاكمية لله) . وعلى نفس النمط، فالله هو الموضوع الوحيد للعبودية (العبودية لله) . والنظام يستطيع أن يمارس العبودية فقط باسم الله ، بتطبيق الشريعة الإلهية "الحكم بما أنزل الله" . فمبدأ الحاكمية لله هو الضمان فى مواجهة سلطة الحاكم الفردية: السلطة العادلة هى فقط تلك التى تحمل العهد الإلهي، فالتشريع الذى يحكمه القرآن (شريعة الله) هو الحصن من الفساد ومن التحول إلى مجرد نظام قضائي فى خدمة الحاكم المطلق.
والمجتمع الجاهلي، على عكس المجتمع المسلم، يمنح سلطة الحكم لغير الله ويحول الملوك إلى أهداف للعبادة . ويمكن تمييز المجتمع الجاهلي من خلال تأليه المسيطرين على السلطة، سواء كان رجلا، أو مجموعة أو حزبا ومن خلال عبادة الجماهير لهؤلاء المسيطرين على السلطة.
ورغم أن مصطلحي "العبودية" و "الحاكمية" والذين فهمهما سيد قطب إلى حد ما، قد نشأ فى كتابات المودودى، فإن استعمال قطب لهما كمفهومين أساسيين فى تحليله للجاهلية وللمجتمعات الإسلامية ، أضفى عليهما قوة كبيرة أكثر مما فعل المؤلف الباكستاني. ولم تكن "العبودية" و "الحاكمية" مصطلحات قرآنية، وهى نقطة أخذها عل المودودى (وبالتالي على سيد قطب) المرشد العام حسن الهضيبي) . ومع هذا ، فإني أزعم أن قطب كان متحفظا غلى حد بعيد فى استخدامه لهذين المصطلحين.
وفى محاولته لإحياء الدلالة الكاملة للتيمات themes القرآنية الأربع، الكلمات المحورية key words فى الإسلام، خلال العصر الذى بدأ استعمالها فيه، من خلال إحيائها بعد تحريرها من الشوائب التى حجرتها التقاليد، أزال المودودى الكهنوتية عن هذه المصطلحات بشكل فعال. وفى نفس الوقت أضفى قداسة على مصطلحات التى ناقشها.
ما هو المقصود "بالعبادة" فى القرآن ؟ زعم المودودى، أن المقصود بالعبادة أوسع بكثير من ما يمكننا أن نفهمه من خلال نفس الكلمة اليوم، فالعبادة يجب إعادة صياغتها فى معناها الكامل (المعنى الكامل والشامل) . ويعنى هذا إدراج كل معانيها المختلفة التى يمكن أن تستخدم فى اللغة الحديثة. وهذه الكلمات المعاصرة تكتسب بالتالي رنينا مقدسا، فلو أوحى القرآن لمحمد اليوم، فسوف يكون بهذه الكلمات.
وفى واقع الأمر، يفهم المسلمون اليوم المصطلح القرآني "عبادة" على سبيل المثال، فى ضوء التفسيرات الثابتة للحديث الشريف. والعبودية تعنى فى هذه التفسيرات "الفرائض" ، أي الإجراءات المنتظمة التى تعبر عن علاقة الكائنات الحية بالله . ويعنى هذا فى الإسلام النطق بالشهادتين، والصلاة والصوم وإخراج الزكاة والحج.
ويتطلب التمسك بالمعنى الحقيقي للمصطلح القرآني "عبادة" عند المودودى ، من ناحية أخرى، ثلاث كلمات تساويه فى المعنى فى الاستخدام الدارج. وهذه سوف توفر لنا، اعتمادا على هذا ا لسياق ، أكثر المرادفات إيمان: العبودية والإطاعة والتأليه.
وقد اشتمل القرآن على عدة آيات تحظر على المسلمين أداء العبادة لأي شيء غير الله. وقد علق المودودى على هذه الآيات بما يلى : فى الآيات التى جاءت فيها كلمة "عبادة" بمعنى "العبودية" و"الإطاعة" فإن المراد بالمعبود فيها إما الشيطان وإما الأناس المتمردون الذين حولوا أنفسهم طواغيت فحملوا عباد الله على عبادتهم وإطاعتهم بدلا من عبادة الله وإطاعته، أو هم الأئمة والزعماء الذين قادوا الناس إلى ما اخترعوه من سبل الحياة وطرق المعاش جاعلين كتاب الله وراء ظهرهم.
وأما الآيات التى وردت فيها "العبادة" بمعنى التأليه، فإن المعبود فيها عبارة إما عن الأولياء والأنبياء والصلحاء الذين اتخذهم الناس آلهة لهم على رغم أنف هدايتهم وتعليمهم، وإما عن الملائكة والجن الذين اتخذوهم لسوء فهمهم شركاء فى الربوبية المهيمنة على قانون الطبيعة، أو هو عبارة عن تماثيل القوى الخيالية وهياكلها. التى أصبحت وجهة عبادتهم وقبلة صلواتهم بمجرد إغاراء الشيطان. والقرآن الكريم يعد جميع أولئك المعبودين باطلا ويجعل عبادتهم خطأ عظيما سواء تعبدهم الناس أو أطاعوهم أما تألهوا لهم.. "لأنه لا يجدر بالعبادة إلا الله وحده". ص 573.
وقد قدم المودودى فكرة "الحاكمية" عندما تعرض لمصطلح "رب" ("رب"بالمعنى المزدوج للكلمة، المعنى الديني والمعنى السياسي) . وهنا أيضا كان هدفه استعادة الدلالة الكاملة للمصطلح الأصلي، الذى أوضح أن له خمسة معاني رئيسية فى القرآن . باحثا فى مختلف المفاهيم المغلوطة لمعنى كلمة "الرب" والشائعة بين الأمم والعشائر غير الإسلامية ، أوضح المودودى:
"بل الحق أن الأسر الملكية ما زالت فى أكثر أقطار العالم تحاول الشرك – قليلا أو كثيرا – فى الإلوهية والربوبية فى دائرة ما فوق الطبيعة، علاوة على ما كانت تتولاه من الحاكمية السياسية، وما زالت لأجل ذلك تفرض على الرعية أن تقوم بين يديها بشيء من شعائر العبودية، على أن دعواهم تلك للإلوهية السماوية لم تكن هى المقصودة بذاتها فى الحقيقة، إنما كانوا يتذرعون بها إلى تأصيل حاكمتيهم السياسية..
ويقول فرعون، إنى أنا مالك القطر المصري وما فيه من الغنى والثروة وأنا الحقيق الحاكمية المطلقة فيه، وشخصيتي المركزية هى الأساس لمدينة مصر واجتماعها، وإذن لا يجرين فيها إلا شر شريعتي وقانوني" ص 49، 50.
وفكرة المودودى هنا مشابهة لمعالجته للـ "عبودية" فأن تكون حاكما عادلا، هو أن تمارس بين أشياء أخرى الحاكمية. لكن الحاكمية تخص الله وحده، والحاكم الظالم الذى يمارس الحاكمية على رعاياه يكون قد اغتصب السلطة الإلهية.والمعيار الهام والكافي لتحديد ما إذا كان مجتمعا مسلما أو منتميا إلى الجاهلية يكمن بالتالي فى نوع "العبودية" و "الحامية" التى يمكن رصدها خلاله. ففي المجتمع المسلم، الله وحده هو الذى يعبد ويحكم، وفى المجتمعات الجاهلية يحتل تلك المنزلة شخص ما أو شىء ما غير الله الواحد الحق.
الإسلام هو الحضارة
فى فصل عنوانه "الحضارة هى الإسلام" شرح سيد قطب رؤاه للمجتمعات التى تسمى نفسها إسلامية لكنها فى الحقيقة مجتمعات جاهلية:
"الإسلام لا يعرف إلا نوعين اثنين من المجتمعات .. مجتمع إسلامي ومجتمع جاهلي"..
"المجتمع الإسلامى" هو المجتمع الذى يطبق فيه الإسلام.. عقيدة وعبادة، وشريعة ونظاما وخلقا وسلوكا .. و "المجتمع الجاهلي" هو المجتمع الذى لا يطبق فيه الإسلام، ولا تحكمه عقيدته وتصوراته، وقيمة موازينه ونظامه وشرائعه وخلقه وسلوكه".
"ليس المجتمع الإسلامى هو الذى يضم ناسا ممن يسمون أنفسهم "مسلمين" بينما شريعة الإسلام ليست هى قانون هذا المجتمع، وإن صلى وصام وحج البيت الحرام وليس المجتمع الإسلامى هو الذى يبتدع لنفسه إسلاما من عند نفسه- غير ما قرره الله سبحانه وفصله رسوله صلى الله عليه وسلم، ويسميه مثلا"الإسلام المتطور".
و "المجتمع الجاهلي" قد يتمثل فى صور شتى- كلها جاهلية-: "قد يتمثل فى صورة مجتمع ينكر وجود الله تعالى، ويفسر التاريخ تفسيرا ماديا جدليا، ويطبق ما يسميه" الاشتراكية العلمية نظاما.
"وقد يتمثل فى مجتمع لا ينكر وجود الله تعالى، ولكن يجعل له ملكوت السماوات، ويعزله عن ملكوت الأرض، فلا يطبق شريعته فى نظام الحياة، ولا يحكم قيمه التى جعلها هو قيما ثابتة فى حياة البشر، ويبيح للناس أن يعبدوا الله فى المعابد والكنائس والمساجد، ولكنه يحرم عليهم أن يطالبوا بتحكيم شريعة الله فى حياتهم ، وهو بذلك ينكر أو يعطل إلوهية الله فى الأرض" .. ص 105 – 106.
ولم يجد القراء الذين اطلعوا على "معالم في الطريق" فى مصر الستينات أى صعوبة فى اكتشاف اى مجتمع جاهلي ذلك الذى كان يقدم وجهي "الاشتراكية" و"الإسلام الرسمي" : كان هذا المجتمع بلا شك هو الجمهورية العربية المتحدة التى أسسها جمال عبد الناصر. ولكي يزيح النقاب عن هذين الوجهين أوضح قطب أن دعوة النظام للشريعة الإسلامية دعوة لا أساس لها من الصحة كما مات يتصور البعض .
وكانت هذه الدعوة ، فى الواقع، أحد التيمات الدعائية للدولة الناصرية، رغم أن معظم المراقبين المعاصرين لم يهتموا بها أدنى اهتمام، حيث أخذوا بالدعاية التى كانت تروجها الصفوة المحلية من المتحدثين بالفرنسية والانجليزية "للاشتراكية العربية" وبدلا من العلمانية التى تلهف البعض على تطبيقها، حاول نظام عبد الناصر تحديث المؤسسات الرسمية الإسلامية ، خاصة الأزهر، فى محاولة لتحويلها إلى أكثر أشكال صناعة الرأي العام المتاحة تأثيرا وكان هذا هو "الإسلام المتطور" الذى تصدى له قطب بالنقد اللاذع.
وأماالسادات فقد استعاض عن "الاشتراكية العربية" "بالانفتاح الاقتصادي" ، إلا أن الوجه الآخر للنظام لم يبق فقط بل أنه اكتسب أهمية أكبر على مدار السنين . فقد سعى الرئيس دائما إلى اكتساب الشرعية من خلال المؤسسات الإسلامية . لكن على الرغم من كل ما أفتى به شيخ الأزهر فى محاولته لإضفاء الشرعية على أعمال الحاكم الظالم، فلم يغير هذا شيئا فى الطابع الجاهلي للنظام بالنسبة للمجاهدين الإسلاميين الذين قرءوا "معالم في الطريق" .
فتلك المفاهيم الأساسية التى وضعها سيد قطب لم تفقد شيئا من مصداقيتها مع وفاة عبد الناصر، ولا حتى فيما يتعلق بهذا الأمر، عندما انتشرت من مصداقيتها مع وفاة عبد الناصر، ولا حتى فيما يتعلق بهذا الأمر عندما انتشرت هذه المفاهيم خارج حدود مصر. حيث أن سيد قطب كان قادرا، من داخل ظلمات المعتقل على صياغة تلك المقولات التى كانت قابلة للاستخدام عند تحليل كل دول العالم الإسلامى حديثة الاستقلال. وكان هذا الموضوع بالتحديد هو السبب فى نجاحه الملحوظ. (ص – 39) .
ما العمل
بعد أن رسخ سيد قطب مفهومي المجتمع الإسلامى والجاهلي، انتقل إلى تحديد العملية التى يمكن من خلالها تدمير الجاهلية وبناء الدولة الإسلامية على أنقاضها. وقد برهن سيد قطب على أن وقت العمل قد حان، وعلى كل الأحوال فإن "الإنسانية لم تعد تبالي بالعقائد المجردة، خاصة فى هذه الأيام".
وقد كتب سيد قطب ، يتطلب إحياء الإسلام ثورة حقيقية تحت قيادة "طليعة الأمة" التى يجب أن يكون قدوتها ذلك "الجيل القرآني الفريد" ، أى صحابة الرسول. ونظرا لأن هؤلاء الصحابة قد أخذوا زادهم الفكري من القرآن وحده، فقد كانوا قادرين بالتالي على بناء المجتمع الإسلامى المثالة فى عصره الذهبي، عصر الخلفاء الراشدين. وفى اللحظة التى حول المسلمون فيها اهتمامهم إلى ثقافات الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية الساسانية، أصيب فكرهم بالفساد. وقد بدأت المصائب مع الخليفة الخامس، معوية بن أبى سفيان مؤسس الدولة الأموية.
وطليعة اليوم، أردف قطب عليها أن تتبصر بالإسلام، وأن تنأى عن الثقافة غير الإسلامية . يجب عليها أن تبدأ بتطهير نفسها من الأفكار الجاهلية. "لابد أن نرجع إليه – حين نرجع – بشعور التلقي للتنفيذ والعمل .. نرجع إليه لنعرف ماذا يطلب منا أن نكون ، لنكون .. ثم لابد لنا من التخلص من ضغط المجتمع الجاهلي والتصورات الجاهلية والتقاليد الجاهلية والقيادة الجاهلية ..
فى خاصة نفوسنا" ص 18، 19. وما أن تتحرر الطليعة من الاغتراب الذى يسببه المجتمع الجاهلي وتستلهم الوحي من دراسة القرآن وحده، حتى تكون جاهزة للعمل: "إن مهمتنا الأولى هى تغيير واقع هذا المجتمع. مهمتنا هى تغيير هذا الواقع الجاهلي من أساسه"..
"إن أولى الخطوات فى طريقنا هى أن نستعلي على هذا المجتمع الجاهلي وقيمه وتصوراته. وألا نعدل نحن فى قيمنا قليلا أو كثيرا لتلتقي معه منتصف الطريق. كلا إننا وإياه على مفرق الطريق وحين نسايره خطوة واحدة فإننا نفقد المنهج كله ونفقد الطريق" ص 19.
وتنكشف عملية الانتقال من الجاهلية إلى الإسلام من خلال السبيل التالي "إنسان يؤمن بهذه العقدية الآتية له من ذلك المصدر الغيبي، الجارية بقدر الله وحده. وحين يؤمن هذا الإنسان الواحد بهذه العقيدة يبدأ وجود المجتمع الإسلامى (حكما) أن الإنسان الواحد لن يتلقى هذه العقيدة وينطوي على نفسه.. إنه سينطلق بها.. هذه طبيعتها .. طبيعة الحركة الحية .. إن القوة العليا التى دفعت بها إلى هذا القلب ستمضى فى طريقها قدما" ص 117، 118.
"وحين يبلغ المؤمنون بهذه العقيدة ثلاثة نفر، فإن هذه العقيدة ذاتها تقول لهم: أنتم الآم مجتمع ، مجتمع إسلامي مستقل، منفصل عن المجتمع الجاهلي الذى لا يدين لهذه العقيدة، ولا تسود فيه قيمها الأساسية- القيم التى أسلفنا الإشارة إليها – وهنا يكون المجتمع الإسلامى قد وجد (فعلا) والثلاثي يصبحون عشرة، والعشرة يصبحون مائة، والمائة يصبحون ألفا، والألف يصبحون اثني عشر ألفا.. ويبرز ويتقرر وجود المجتمع الإسلامى.
وفى الطريق تكون المعركة قد قامت بين المجتمع الوليد الذى انفصل بعقيدته وتصوره، وانفصل بقيمه واعتباراته ،وانفصل بوجوده وكينونته عن المجتمع الجاهلي، الذى أخذ منه أفراده". ص 118.
"لكن الحركة التى هى طابع العقيدة الإسلامية ، وطابع هذا المجتمع الذى انبثق فيها، لا تدع أحد يتوارى.. المعركة مستمرة، والجهاد ماضي إلى يوم القيامة"ص 118 ، 119. ولأغراض التحليل ، يمكننا أن نميز مرحلتين خلال تلك المسيرة منذ ميلاد الطليعة وحتى ترسيخ المجتمع الإسلامى : الأولى هى النضوج الروحي (قاعدة الوحي القرآني التى هدفها تحرير الرعية من اغتربا الجاهلية) والثانية هى المعركة فى مواجهة هذا المجتمع الجاهلي. وينجز مصطلح"الجهاد" هذا التغير فى شموليته ، من الجهد الفردي إلى دراسة القرآن إلى الجهاد صفوفا متراصة.
وفى فصل طويل فى "معالم في الطريق" عنوانه "الجهاد فى سبيل الله" أوضح قطب أنه يقصد هذا المصطلح فى أشمل معانيهن مختلفا بهذا مع هؤلاء "الانهزاميون" الذين أضعفوا من هذا المصطلح، سواء باختزاله إلى حرب "دفاعية" (وبالتالي رفض إرهاب غير المسلمين) أو جعلوه مقصورا على العزلة فى نطاق جهاد المؤمن للغواية (وبالتالي تجنب محنة الاتصال بالعالم المعاش) .
واستمر قطب قائلا، من المسلم به أن الإسلام يسعى لتحرير الإنسان من الانحطاط الذى أسقطته فيه الغواية ، إلا أنه يجب أن يصبح أيضا السلاح الذى يحرر به نفسه من النير الذى فرضه عليه بنو جنسه. تلك هى وظيفة الجهاد ، وأى تصور عن تحقيق النصر من خلال البيان فقط سيصبح تصورا محكوم عليه بالفشل .
"قيام مملكة الله فى الأرض وإزالة مملكة البشر ، وانتزاع السلطان من أيدي مغتصبيه من العباد ورده إلى الله وحده .. وسيادة الشريعة وحدها وإلغاء القوانين البشرية ... كل أولئك لا يتم بمجرد التبليغ والبيان، لأن المتسلطين على رقاب العباد والمغتصبين لسلطان الله فى الأرض، لا يسلمون فى سلطانهم بمجرد التبليغ والبيان، وإلا فما أيسر عمل الرسل فى إقرار دين الله فى الأرض" ص 60 ، 61.
ومهمة ما أسماه قطب بالحركة هى إزالة العقبات المادية التى تقف فى طريق الطليعة : "إذا كان البيان يواجه العقائد والتصورات فإن الحركة تواجه العقبات المادية الأخرى – وفى مقدمتها السلطان السياسي القائم" ص 61
ويشير إصرار سيد قطب على التأكيد على أن تأسيس"مملكة الله على الأرض" لن يتم من خلال التبليغ والبيان إلى السياق الذى كان فيه "معالم في الطريق" ففي مواجهة الدولة الشمولية التى صنعتها الناصرية، لا يجب على المجاهدين الإسلاميين أن يحصروا أنفسهم فى نطاق الكلمات وحدها.
وكانت مساهمة قطب فى التراث النظري للإخوان المسلمين الأكثر تقليدية هى رؤيته الواضحة للتغير النبوي فى العلاقة بين الجماعة المدنية والدولة التى تولاها نظام عبد الناصر فحكومات ما قبل 1952 لم تعترض جديا سبيل دعوة حسن البنا وأتباعه .
وكان الإخوان حينئذ قادرين على إعلان عدائهم للاستعمار البريطاني ، واحتقارهم للنخبة المتفرجة وعدائهم للأحزاب السياسية . لكن فجأة صبغت الحكومة المستقلة نفسها بألوان "الاشتراكية العربية" وأجبرت منتقديها على الاختيار بين التزام السكينة، أو النفي أو السجن أو المشانق أي أن دعوة الإخوان بالسكينة أو الذين أخرسوا أصواتهم ، أوضح أن نمط العمل يجب أن يتغير ليتكيف مع شكل قمع الدولة : ففى مواجهة الجاهلية على مجاهدي حركة الإسلاميين أن يلجئوا إلى "الحركة" إلى النضال الذى لن يكون شفويا فقط.
ويشير سيد قطب بإقرانه مصطلحي الحركة والبيان سويا بشكل ضمني إلى انتشار الإسلام من خلال المصحف والسيف والمصحف والسيف قد أصبحا متلازمين تاريخيا ، وكل منهما كان له مجال تطبيقه الملائم: فالسيف يستخدم لإخضاع المناطق التى يحكمها غير المسلمين، وداخل هذه المناطق لإرغام الكفار على تغيير دينهم، وإلا فالموت جزاءهم .
ومن ناحية أخرى فإن المسيحيين واليهود لا يجبروا على الدخول فى الإسلام . لكنهم بدلا من ذلك يفترض دخولهم الإسلام من باب القرآن وحده- بمعنى آخر، من خلال الدعوة . (فى الواقع يكون دافعهم للتحول إلى الإسلام هو المصالح العامة التى توفرها عضوية جماعة المسلمين).
وفى الحقيقة كانت دعوة الإخوان المسلمين فى مصر القرن العشرين ، موجهة بشكل عام للجماهير الإسلامية أكثر منها للأقلية المسيحية والقبطية، وأقل من ذلك بالنسبة لليهود. فأغلبية الجماهير على الرغم من إسلامها قد نسن أن الإسلام نظام كامل متكامل، وحصرت الدين بدلا من ذلك فى نطاق التقوى الفردية. وكان هدف رسالة الإخوان هو توجيه هذه الجماهير لإعادة اكتشاف هذا المدلول الواسع للإسلام. إلا أن انقلاب الضباط الأحرار الذى أعقبه بعد عدة سنوات تأسيس الدولة الناصرية غير كل هذا.
واضطهدت الدولة الإخوان وأصبحت بالتالي وفق تصورهم عدوا جوهريا للإسلام. وبالنسبة لمؤلف "معالم في الطريق" كان انتشار الإسلام يتطلب تحولا فى كلا المجالين: لقد حان وقت السيف ، إنه نظام الجاهلية، الذى يجب محاربته بنفس أسلوب محاربة الكفار. وبهذا جلب سيد قطب على نفسه مخاطرة غير مأمونة العواقب بخوضه فى الخطوة التى تردد العلماء فى اتخاذها طوال تاريخ الإسلام.
فإقرار وقوف الحاكم خارج حدود الإسلام يعنى تكفيره، والتكفير فى الواقع كان سلاحا خطيرا، من اليسير جدا أن يسقط فى أيدى الطائفيين البعيدين عن سيطرة العلماء ورجال الدين.
ومع هذا فإن موت سيد قطب المبتسر على المشنقة ، قد دفع أفكاره بشكل فعال مع كل الغموض الذى تحتويه إلى الحياة العامة وبالتالي سقط سلاح التكفير فى أيدي الطائفيين الذين لا يمكن السيطرة عليهم.
وعلاوة على ذلك فقد ترك قطب تعريفه للجاهلية مفتوحا. حيث يمكن أن يكون الحاكم الظالم وبيروقراطية نموذجها الأوحد، أو يكون المجتمع بأكمله هو الذى يخضع لهذا الحكم أو بمعنى آخر هل يمكن اعتبار أى فرد حينئذ ما زال مسلما؟
أسئلة مثل هذه قد تبدو مجرد خلافات فى الفتوى إلا أن الأجنحة المختلفة لحركة الإسلاميين فى السبعينات قد صاغت استراتيجيات مختلفة بناء على كيفية إجاباتها على هذه الأسئلة وفى الواقع العملي أخذت أشكالا عدة بدءا من تدبير الانقلابات إلى إعادة بناء التنظيمات ، إلى الاضطرابات فى الجامعات.
وقد مثل كتاب سيد قطب "معالم في الطريق" نقطة البدء فى الطريق الذى يجب أن يسلكه مجاهدو حركة الإسلاميين .إلا أن تعذيبه وقتله قد حال دون توقعاته الفلسفية ، فواصل قراءة الطريق مسترشدين فقط بالتجربة العشوائية والترقيع الأيديولوجي وعادة ما ضلوا طريقهم، وانساقوا إلى الطريق المسدود فانتهوا إلى المشانق أو خلف قضبان السجون.
وعندما كتب سيد قطب "معالم في الطريق" كان يراقب الدولة المصرية من مكان متميز جدا فى أحد معتقلاتها. ونتيجة لهذه الظروف الذاتية مثل الكتاب برنامج (مانفستو) لحركة الإسلاميين كما مثل أيضا جزءا من التاريخ الطويل لنقد الأنظمة الراسخة فى أرض الإسلام.
وعلى رغم شيوع مماثلة عدد من علماء الدين بالقول أو بالفعل للحكام، فإن عددا لا يستهان به منهم لم يهاب إدانة الأنظمة الوراثية أو العسكرية التى تحكم البلدان الإسلامية بسبب الظلم الذى شاهدوه. وبالتالي فإن هذه الأقلية من رجال الدين هى التى أمدت المجتمع المسلم على الرغم من هذا بأكثر الفقهاء ورجال الدين المتمسكين بالتقاليد شهرة وقوة على مر السنين.
ولأن العلماء يتكلمون باسم الله ويصدرون الفتاوى الشرعية بناء على تعاليم القرآن ، فقد كانوا يملكون مقدرة فائقة على إضفاء الشرعية على الحاكم أو سحب هذه الشرعية منه. فإذا حصل أحد المعارضين للحاكم على تأييد العلماء فإنه يكتسب بهذا التأييد مصداقية لا يستهان بها، لا سيما إذا كان هو نفسه واحدا منهم ويدين باسم النظام الذى يسعى لإسقاطه ولهذا السبب بالتحديد تجمع العلماء فى عدد من الهيئات التى كانت مهمتها هى التحكم فى الوصول إلى المراتب الدينية العليا والحد من عدد ومكانة هؤلاء الذين يمكن أن ينظر إليهم على أنهم قادرين على إصدار الفتاوى الشرعية بناء على تعاليم القرآن.
لكن هذه الهيئات عادة ما كانت تفشل فى الحفاظ على استقلالها عن السلطة التنفيذية، هذا الاستقلال الذى تتطلبه الصفة الرفيعة لوظيفته. وعلاوة على ذلك فقد أظهر قطاع العلماء فى العصر الحديث تحجرا فكريا ملحوظا بشكل عام – وبالتالي، كان هناك متسع أمام المفكرين المسلمين الذين لم تتحكم هذه الهيئات فى تعليمهم وهى التى كانت رسميا تنشر المعرفة الدينية . وقد اتجهت هذه المؤسسات إلى الاستجابة لهذه الظاهرة سواء من خلال استمالة هؤلاء المفكرين إلى جانبها أو من خلال وصمهم بالخروج أو الهرطقة.
وقد تخرج كل من حسن البنا وسيد قطب من دار العلوم، وهى مدرسة ثانوية غير دينية أى أن أحدهما لم يدرس فى الأزهر ، الجامعة والجامع الرئيسي فى مصر. إلا أنه رغم قبول العلماء لحسن البنا فى النهاية ضمن صفوفهم وإن كان هذا قد تم بعد وفاته، لم يحظ قطب بهذا الاعتراف على الإطلاق، بل على العكس تماما وضع مؤلف "معالم في الطريق" فى قائمة الممنوعات وهى الطريقة الشائعة لتعامل الأزهر مع مشكلة حركة الإسلاميي ، وفى الواقع اعتبرت أصوله الفكرية دائما أقرب إلى فكر الخوارج، بل اعتبر سيد قطب نفسه منحرفا.
والخوارج هم أعضاء أقدم الفرق الدينية فى الإسلام وكانوا من أنصار "على ابن أبى طالب" رابع وآخر الخلفاء الراشدين أثناء معركة "صفين" فى يوليو 656 بين على ومعاوية بن أبى سفيان حاكم سوريا وخليفة المستقبل ومؤسس الدولة الأموية . وخلال هذه المعركة اقترح معاوية إيقاف القتال واللجوء إلى تحكيم مندوبين عن كل منهما ليحسموا النزاع "وفقا للقرآن" فقبل معظم الجيش على ذلك. إى أن مجموعة واحدة من المقاتلين رفضت ذلك، وتمسكت بأن "الحكم لله وحده" وتخلت عن جيش على، وفى النهاية انضم إليها العديد من أنصاره الأوائل الذين نقموا على قرار التحكيم الذى جاء فى جانب معاوية.
وقد انقسم الخوارج بعد ذلك إلى عدة فرق، كانت السمة الشائعة بينها هى رفضها الإقرار بشرعية أى إمام، أو قائد مسلم لا يتبع تعاليم القرآن، وتأكيدها على أن الإيمان بلا عمل شيء لا قيمة له، وأن المسلمين الذين يرتكبون الآثام مرتدون عن الدين.
وأفتوا بتكفير هؤلاء البشر وتاريخ الخوارج أصبح الآن أحد صور المواجهة مع السلطات الحاكمة، التى لم يخبوا منها سوى تعرضهم لقمع الحكام. أما الجانب الآخر من ثورتهم الدائمة على أى نظام كافر فهو عجزهم عن تأسيس دولي حقيقة لأي فترة زمنية. وقد اختار العلماء الوقوف إلى جانب الدولة دائما ، فى مواجهة الخوارج ،فالدولة- مهما كانت تمثل من شرور ومهما كانت تمارس من عنف وتجعل من الخلافة إرث لها- بحد أدنى هى التى تدافع عن المجتمع الإسلامى أمام الكفار .
فمن السهل على العلماء أن يقوموا الحاكم، أو أن يصححوا ممارسته من خلال نصيحتهم الحصيفة، أو حتى أن ينتقدوه عندما يشعرون بأهمية ذلك. لكن تكفير الحاكم حتى لو كان أعتلى لا يمكن الإفتاء به إلا بشكل استثنائي فقط، إذ أن هذا سيفتح الطريق أمام فوضى لا يستهان بها ويخلق سوابق فقهية فى منتهى الخطورة.
وكان رد فعل مفكري حركة الإسلاميين المعاصرة متباينة إزاء وضعهم فى قائمة الممنوعات. فسيد قطب على سبيل المثال وعبد السلام فرج منظر المجموعة التى اغتالت السادات ، لجأ إلى الأحاديث الشريفة وأنكر أى علاقة بالخوارج. بينما رفض شكري مصطفى قائد جماعة المسلمين كل الحديث فى البلدان الإسلامية فى النصف الثاني من القرن العشرين
تدخل العلماء
كان رأى عبد الناصر فى مؤلف "معالم في الطريق" واضحا كل الوضوح فالحاكم الظالم الذى اغتصب حكم الله وجعل من نفسه هدفا للعبادة من رعاياه، قام بشنق المنظر الإسلامى فى 29 أغسطس 1966 . وسيد قطب أصبح شهيدا فى عيون أتباعه. بل أصبح من الصعب مناقشة شخصيته وعمله إلا بأكثر العبارات عاطفية. أما بالنسبة لموظفي عبد الناصر سواء المدنيين أو الدينيين فلم يكن هناك ليضاف إلى الذكرى القائمة لهذا الميت الرجعى، الخائن الذى نال عقابه العادل وبالنسبة للإخوان المسلمين القاعدة بينهم هى تناول سيرته على أنها سيرة شهيد، على الرغم من خلافاتهم المعروفة مع تطرف"معالم في الطريق".
أما رد فعل المؤسسة الإسلامية المصرية العنيف والغاضب فقد بدا فى مجلة "منبر الإسلام" وهى المجلة التى تصدرها وزارة الأوقاف ، وفى العديد من الكتب التى صدرت أثناء محاكمة سيد قطب. وكانت وجهة النظر الأكثر رسمية ، هى التى تجسدت فى الوثيقة التى أعدها الشيخ محمد عبد اللطيف السبكى، رئيس لجنة الفتوى بالأزهر بناء على طلب شيخ الأزهر .
وقتئذ حسن مأمون فقد أشار الشيخ السبكى الشيخ السبكى إلى أنه رغم أن النظرة الأولى لكتاب "معالم في الطريق" تظهر أنه كتاب يلبى نداء الإسلام ، فإن المرء ينفلا منه بعد ذلك من "أسلوبه الملتهب" ومن تأثيره وخيم العواقب على النشء وعلى القراء الذين يعانون من نقص ثقافتهم الدينية.
وقد فند الشيخ الكتاب كلا وجزءا حيث أوضح أنه من الكفر وصف أى فترة بالجاهلية باستثناء تلك الفترة التى سبقت البعثة المحمدية وبناء على ذلك فقد اتهم سيد قطب بأنه من الخوارج.
"مثله مثل الخوارج" استخدم سيد قطب مقولة"الحاكمية لله" لكي يطلب من المسلمين أن يعارضوا أي حكم ارضي"وقد برهن الشيخ أنه على عكس ذلك حيث القرآن على إطاعة الحاكم المسلم، الذى عليه بالمقابل أن يعمل على تحقيق العدل بين رعاياه. وعلاوة على ذلك "فمعظم القادة المعاصرين للبلدان الإسلامية هم قادة صالحين".
أما بالنسبة للجهاد، فقد عالجه قطب على أنه إعلان للحرب ضد كل الذين لا يفكرون مثله، من أجل ترسيخ المجتمع المسلم الذى سيصبح هو قائده. وفى النهاية "رغم أنه فى أسلوبه ، أي الكتاب، مليء بالآيات القرآنية والإشارات لتاريخ المسلمين، إلا أن أسلوبه فى الواقع أسلوب مخرب، لذلك النوع من التبشير الذين يخلطون فى أى مجتمع بين الحقيقة والكذب ، أفضل الطلاق للخداع وهذا الكتاب "يسعى إلى إيهام بسطاء العقول وتحويلهم إلى متعصبين وقتلة عميان" وهذا ما يجب أن نأخذه فى الاعتبار فى ضوء الأحداث الأخيرة (إشارة إلى مؤامرة الإخوان المسلمين عام 1965) .
"وإذا ربطنا بين سيد قطب وبين الأحداث المعاصرة ونظرنا إلى ذلك الاتجاه فى ضوء الثورة المصرية ، وما ظفرت به من نجاح باهر فى كل مجال من مجالات الحياة وضح لنا أن الدعوة الإخوانية، دعوة مدسوسة على ثورتنا باسم الغيرة على الدين، وأن الذين تزعموا هذه الدعوة أو استجابوا لها إنما أرادوا بها النكاية للوطن والرجوع له إلى الخلف وتلك هى الفتنة الكبرى".
وقد قضى هذا النص على أي احتمال لاستخدم النظام لفكر سيد قطب إلا أن هذا لم يكن حال بعض التيارات الأخرى فى حركة الإسلاميين ، التى أضفت على "معالم في الطريق" صورة العمل الذى ينظر إليه على أنه خطرا على وجود النظام القائم. وقد اكتسب النقد الذى وجهته للكتاب العناصر الإصلاحية فى حركة الإسلاميين نفسها أهمية أكثر بكثير.
وفى الفصل الأول ذكرنا أن المرشد العام قد أبدى إعجابه بهذا الكتاب، وأكد لزينب الغزالي "أن الكتاب أثبت صحة كل الآمال التى علقها على سيد قطب" ومع هذا فإن أول رد فعل هام ظهر داخل صفوف الإخوان المسلمين على كتاب "معالم في الطريق" عان 1969 كان عملا لحسن الهضيبي نفسه، سعى به إلى تصحيح أخطاء إخوان"معينين" وقد كتب كتاب"دعاة لا قضاة" مثله مثل "معالم في الطريق" فى أحد المعتقلات التى وضع فيها الإخوان بعد عام 1975 حيث غذى التعذيب الذى تعرضوا له فكرة "التكفير" وخاصة بين شباب المعتقلين .
فقد كان من المستحيل بالنسبة لهم أن ينظروا إلى من يعذبونهم أو الذين أعطوهم الأوامر على أنهم مسلمين وقد كتب هؤلاء الذين تخلوا عن الثورة على هؤلاء الحاكمين الظالمين ، وقد كتب الهضيبى "دعاة لا قضاة" فى محاولة منه لإرشاد شباب حركة الإسلاميين ثانية إلى الطريق القويم والواضح، وتضمن الكتاب انتقادات واضحة لكتاب المودودى"المصطلحات الأربعة فى القرآن" إلا أنه لم يكن من الصعب على من يقرأ ما بين السطور ملاحظة تفنيده لمقاطع بعينها فى كتاب"معالم في الطريق".
وقد أدرك الجميع ذلك، أو بحد أدنى محمد قطب الذى نشر عام 1975 خطابا طويلا فى صحيفة "الشهاب" صحيفة الفرع اللبناني للإخوان، دافع فيه عن ذكرى أخيه، سيد قطب ، فى مواجهة هؤلاء الذين اتهمهم بالتعبير عن أفكار تخالف عقيدة الإخوان المسلمين فأنا نفسي سمعته أكثر من مرة يقول "نحن دعاة ولسنا قضاة" وهدفنا ليس أن نحكم الناس ولكن أن نعلمهم حقيقة : أن لا إله إلا الله . والمشكلة هى أن هؤلاء الناس لم يفهموا ماذا تتطلب هذه الحقيقة منهم.
وأما مهمة الإخوان بالنسبة الهضيبى فقد كانت الدعوة للإسلام فى المجتمع الذى يعيشون فيه. وهو لم يصف المجتمع بالجاهلية ، لكنه ذكر فقط أن بعض المسلمين ما زالوا يعيشون فى حالة من الجهل، وهاتان الكلمتان ، الجاهلية والجهل جرى اشتقاقهما من نفس المصدر ، لكن بينما يفهم المسلم المصطلح الأول بمعاني عديدة، لا يعنى المصطلح الثاني بالنسبة له سوى ذلك النوع من الجهل الذى يمكن معالجته من خلال الدعوة .
وأكد حسن الهضيبي مرارا على أن كل ما هو مطلوب من المرء لكي يغدو مسلما هو نطق الشهادتين أ لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وبالطبع هناك مسلمون آثمون ، لكن أن يكفر المرء مسلما فهذا هو الإثم بذاته.
وبتأيده على هذا المبدأ الذى أثبت أنه يقوم على تعاليم القرآن والسنة اختلف الهضيبى مع المودودى ، الذى زعم أن نطق الشهادتين قد أسيء فهمهما اليوم، حيث لم تعد المجاهرة بالإيمان تصريحا فقط بل يجب أن تترجم إلى فعل قبل أن ينطقها المرء وبهذا فقط يمكن للمرء أن يصبح مسلما.
وأثبت الهضيبى أيضا اختلافه مع تلك الفترة التى وردت فى كتال "معالم في الطريق" والتي تحدث فيها قطب عن أن المرء لن يكون مسلما ونطقه بالشهادتين : "ليس المجتمع الإسلامى هو الذى يضم ناسا ممن يسمون أنفسهم"مسلمين"بينما شريعة الإسلام ليست هى قانون هذا المجتمع وإن صلى وصام وحج البيت الحرام".
وهنا نأتي إلى ذروة المشكلة التى قسمت حركة الإسلاميين ، فى هذا الوقت وبعد ذلك خلال حكم السادات : فقد اعتقد الثوريون بأن المجتمع المصري مجتمع جاهلي بكل معنى الكلمة، ومعنى هذا أن "الحركة هى الأداة المناسبة لنشر الإسلام"، بينما اعتقد الاصطلاحيون بأن الدعوة وحدها يمكن أن تأخذ بيد المجتمع المسلم، الجاهل الآن بصلاحية أحكام القرآن لكل زمان ومكان ، ثانية إلى الإسلام.
وتتخذ المسألة شكلا أكثر عملية عند تقييمهم المتشعب لطبيعة النظام السياسي فى مصرفى ظل عبد الناصر وفى ظل خليفته . هل سمح للإخوان بممارسةالدعوة أم لا ؟ أجاب حسن الهضيبي وبعد موته ، الإخوان الجدد الذين التفوا حول عمر التلمساني ومجلة الدعوة ، على هذا السؤال بالإيجاب .
وتصوروا أن الدولة الناصرية لم تختلف بنيويا عن تلك الدولة التى تلها. بينما أجاب سيد قطب ، والإسلاميون الشباب الذين قرأوا أعماله، على هذا السؤال بالنفي . واعتقدوا أن الدولة المستقلة تمثل عهد الجاهلية ، عهد البربرية فى ظل حماية حاكم ظالم، وأن الكلمات أصبحت عديمة الجدوى فى مواجهة ذلك النظام، وأن انتشار الإسلام لا يمكن أن يستمر الآن إلا من خلال الحركة.
والجاهلية كانت فى الأصل مصطلحا قرآنيا. وبالتالي فهي بالنسبة الهضيبى مصطلح الحاكمية الذى استخدمه المودودى كمرادف معاصر للمصطلح القرآني "رب" فى مصطلح "الحاكمية لله".
وقد اعتقد المرشد العام أن معالجة المودودى برمتها قد جانبها الصواب، حيث لا توجد فى الواقع حاجة للبحث عن مرادفات عصرية للمصطلحات الإسلامية الأربعة، فالحديث الشريف قد فسرها طوال تاريخ الإسلام . وبالتالي أصبحت معانيها واضحة تماما .
وعلاوة على ذلك فإن تعريف العقيدة الإسلامية على أساس معيار الحاكمية حماقة كبرى، كذلك النص على أن المسلمين هم فقط الذين بأن لا حاكمية إلا بالله :"وهناك بعض الذين أقاموا إيمانهم على مصطلح لم يذكر سواء فى أي آية قرآنية أو أي حديث شريف، مصطلح من صنع الإنسان وهو ليس مقدسا وبالتالي فهو مصدر للخطأ والوهم".
تعرض المودودى لنقد الهضيبى فى كتابه"دعاة لا قضاة"إلا أن الهضيبى لم يعتبر أبدا قطب وريث المودى الروحي . حتى أنه لم يتعرض له أحد ، حتى عام 1982 عندما كتب التلمسانى"لم يمثل سيد قطب إلا نفسه ولم يمثل الإخوان المسلمين وطوال الستينات والسبعينات، كان الجناح الصلاحى"متميزا لعمل سيد قطب ومفنونا به. فالحركة فى الواقع لن تخرج ثانية مفكرا فى منزلة قطب وقد قرأ كل من"معالم في الطريق"و"فى ظلال القرآن"بشغف وعلى نطاق واسع ، إلا أن المجاهدين الإسلاميين الشباب فسروا هذين الكتابين بطريقة تكيفت بصعوبة مع التيار الفكري السائد داخل الإخوان المسلمين.
وبعد مساهمة الهضيبى ، سعى عدد من الإخوان القدامى لمناقشة عمل سيد قطب. وكانت كل هذه المقالات تنويعات عن لحن واحد، تبدت أولا فى الخطاب الذى أرسله أخو سيد نفسه، محمد قطب لجريدة الشهاب اللبنانية .
وكان هذا الخطاب عبارة عن توضيح ودفاع عن فكر الشهيد وأيضا لتقديم مفتاح لقراءته بطريقة لا تشكل خطورة وقد كتب محمد قطب"ليس هناك شيئا فى كتاباته أى سيد قطب يتعارض مع القرآن والسنة وليس فى كتاباته شيئا يتعارض مع أفكار الإمام الشهيد حسن البنا" ، مؤسس الإخوان وخاصة مع تعليقات حسن البنافى رسالة التعليم فى الفصل 20 ،"من غير المسموح به تكفير المسلم الذى ينطق بالشهادتين ، ويعمل وفقا لتعاليمهما ويؤدى الفرائض الخمس".
وأردف أن سيد قطب الوريث الروحي لحسن البنالم يكن أبدا بالمفكر النموذجي بالنسبة لهؤلاء الذين سعوا للانسحاب من المجتمع، لخوارج القرن العشرين. فإساءة تفسير كتابات سيد قطب هى فقط التى يمكن أن تغذى هذا الادعاء:"أما بالنسبة لمشكلة الانفصال (المفاصلة) فقد أوضحت عباراته أنه كان يقصد الانسحاب العقلي الذاتي للمسلم الملتزم بعيدا عن هؤلاء الذين لا يشعرون بأى التزام تجاه تعاليم الإسلام، وليس انفصالا ماديا فغليا. فهذا هو المجتمع الذى نعيش فيه والذي سنبشر فيه بالإسلام فكيف يمكننا أن نبشر به إذا نأينا بأنفسنا عن هذا المجتمع؟".
وقد حاول محمد قطب فى هذه الرسالة أن يعبر بفكر أخيه عقبتين : متطرفي حركة الإسلاميين ، وبشكل خاص أعضاء جماعة المسلمين بقيادة شكري مصطفى حيث لا يمكن أن تكون هجرتهم ، أو انسحابهم من المجتمع. قد قامت على أساس رؤى قطب، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى هؤلاء المغالون فى اعتدالهم مثل الهضيبى الذين وقفوا ضد الأخذ بكتاب"معالم في الطريق"حرفيا وتجنبوا الرد على الأسئلة التى أثارها الكتاب ووجهوا هجماتهم نحو المودودى الذى يشبهونه ضمنا بسيد قطب.
وبعد نشر هذه الرسالة بذل المؤلفون المنتمون للتيار الاصلاحى فى حركة الإسلاميين جهودا مضنية للوصول للنص الذى قدمه سيد قطب . فبينما لم ينكروا أن التيار الأكثر تطرفا"ثورية"فى حركة الإسلاميين كان يتلقى الوحي لعمل قطب. ومن ثم كانوا مطالبين بأن يقدموا التفسير الذى يستعيد للكتاب دلالاته الأصلية.
فكان الهدف من تفسيرهم لـ"معالم في الطريق"و"فى ظلال القرآن"هو إنكارهم لأى علاقة فكرية بين سيد قطب وبين مجاهدي حركة الإسلاميين الأكثر تطرفا فى السبعينات. ولبلوغ هذا الهدف اتخذوا ثلاث خطوات، أولا ، قارنوا بين ما يبدو أنه أكثر المقاطع خروجا وتطرفا فى كتاب قطب وبين الفقرات الأخرى فى الكتاب تظهر تمسكه بالعقيدة، ومن ثم حاولوا أن يحسموا الالتباس فى الفقرات الأولى لصالح الوضوح فى الفقرات الثانية .
وثانيا، حللوا المصطلحات والتعبيرات المثيرة للجدل بالطريقة التى تحد من تأثيراتها المدمرة وإعادة تجميعها لتتفق مع الحديث الشريف ، وثالثا ، عندما تتعارض أجزاء من كتب قطب مع هذا الأسلوب ، فإنهم يلجئون إلى القول بأن مؤلف"معالم في الطريق"كان إنسانا وليس نبيا وهو بالتالي معرض للخطأ.
وقد قدم يوسف العظم أفضل التفسيرات لسيد قطب فى إطار هذه الروح الإصلاحية وهو واحد من أكثر شخصيات الإخوان المسلمين الأردن يين بروزا وكاتب لواحدة من أفضل السير الذاتية جيدة التوثيق . فأوضح العظم أن تناول قطب على أنه قديس لن يفيده ، فالعالم الراحل كان إنسانيا ، وبالتالي معرضا للخطأ ومناقشة أفكاره لن تكون انتهاكا لحرمة موته. بل بالعكس يجب علينا أن نناقشها بالتفصيل ، بحيث لا يكون هناك مجال لأى خطأ ومهما كان ما نتناوله بالنقد قد تم نقده من قبل.
ويتساوى فى الخطأ الإدانة الانفعالية له والدفاع الأعمى عن أخطاءه. والأخطاء التى يحتمل أن يكون قد وقع فيها وردت فى كتابين لع"معالم في الطريق"و"فى ظلال القرآن"والكتابان كما أكد العظم على ذلك كتب فى السجن بينما كان يعانى عذاب لا يستطيع إلا نفر قليل من البشر احتماله.
ويظن البعض أنه قد كفر كل المسلمين الذين لم ينشطوا فى صفوف جماعية، أو فى الحركة التى كانت تعمل على نصرة الإسلام، وأنه اعتبر أن كل المجتمعات المعاصرة فى العالم الإسلامى يشكل أفرادها وحكوماتها وتنظيماتها جزءا من الجاهلية"ومن وجهة نظر يوسف العظم يجب التفرقة بين التكفير والجاهلية. فقد استخدم سيد قطب الجاهلية ليشير إلى التخلف الفكري والأخلاقي.
وبهذا المعنى، فمن المنطقي تماما أن نسمى المجتمع المعاصر مجتمعا جاهليا، ويجوز للدعاة أن يفعلوا ذلك، ومضيفا أنه من الواضح تماما أن هذا لا يعنى تكفير هذا المجتمع. وفى شرح يوسف العظم لدور الطليعة أكد على أن طليعة الأمة ليست بالفرقة التى تكفر المجتمع، بل هم جماعة من الأفراد المختارين الذين يتولون رعاية أتباعهم من المواطنين، الذين لوثتهم الأخطاء ذات المصدر غير الإسلامى وبنفس الطريقة. اختزل العزلة – الانسحاب أو الانفصال- التى دعي إليها قطب فى الفصل التمهيدي حينما كتب أن الطليعة يجب"أن تمضى وهى تزاول نوعا من العزلة"ص 9 إلى حالة من"التجرد الروحي"الخالص.
إلا أن بعض مصطلحات قطب لم تكن لتتفق تماما مع تفسير العظم. وفى هذه الحالات كان يخلص إلى أنه يجب ألا تتردد فى الاعتراف بأن قطب قد ارتكب بعض الأخطاء . فعلى سبيل المثال أكد على أن"البلاد التى يعيش المسلمون فيها هى دار الإسلام وجماهيرها مسلمة، تلك حقيقة لا يمكن إنكارها"وإذا كان سيد قطب قد رفض أن يدرج المجتمعات المعاصرة"التى تدعى الإسلام"ضمن دار الإسلام، فإن هذا يرجع إلى الظروف التى كتب فيها كتابه، إلى التعذيب الوحشي الذى تعرض له فى المعتقلات الناصرية.
وبشكل عام أكد العظم على أن صياغة معالم في الطريق لا يجب أن نأخذها بشكل حرفي على الإطلاق. فقد كان سيد قطب مؤلفا وليس فقيها، وأحيانا ما كان يجرفه أسلوبه الخاص ولهذا السبب لا يجب أن تنشر أعماله دون تعليق والرجل الذى يتوافر فيه كل الشروط لانجاز مهمة شرح سيد قطب هو أخو سيد نفسه محمد قطب.
وفى الواقع يؤكد موقف يوسف العظم على الموقف الغامض تجاه قطب الذى اتخذه معظم المنتسبين لجماعة الإخوان المسلمين فمكتب العظم فى عمان تزينه صورة كبيرة للشهيد وهو خلف القضبان ، بوجهه المنهك المليء بالأسف الذى تضيئه تعبيرات حادة. وفى نفس الوقت فإن التعليقات التى بين أيدينا تشير إلى سعيه لوضع مؤلف"معالم في الطريق"فى خط أقرب إلى حسن البناويبرئه من خطايا جماعة شكري مصطفى، أى جماعة المسلمين بينما فى نفس الوقت استصوب انتقاد الشهيد فى نقاط بعينها.
لم يقدم هذا الفصل سوى النصوص التى كتبت حول"معالم في الطريق"وأبطال الجدل الأيديولوجي الذى نشأ عن الكتاب . فأعمال قطب وأعمال منتقديه يمكن بالطبع وبسهولة أن تقرأ ويعاد قراءتها ولمدة طويلة ، وأن نقارن بين استشهاداتهم القرآنية وأن ندرس المكان الذى تحتله وجهات نظرهم فى تاريخ العقيدة الإسلامية . لكن هدفنا هنا مختلف تماما. حيث يجب علينا فيما يتعلق بهذا الموضوع أن ندرس تمفصل البني الرؤيوية لهذه النصوص مع أو انتقلت إلى الواقع الاجتماعي فى مصر السبعينات.
الفصل الثالث
عرضت الصحف المصرية على قراءها فى الفترة من 4 يوليو إلى 1 ديسمبر 1977 - وهى أيضا الفترة التى انشغلت هذه الصحف فيها بإضفاء المجد على زيارة السادات "الرئيس المؤمن"للقدس فى نوفمبر من نفس العام – صورا يومية لشباب ملتحين متهمين بالانتماء لجماعة إرهابية اسمها"التكفير والهجرة"حيث نسبت للجماعة قائمة طويلة من الاتهامات اشتملت على هجمات بالقنابل وعلى العديد من الجرائم الأخرى، هذا فضلا عن اتهام الجماعة باختطاف واغتيال الشيخ محمد الذهبي، العالم الديني ووزير الأوقاف الأسبق.
ويبدو أن عنف بهذه الصورة وبهذه النتيجة المأساوية – حيث أن احتجاز الرهائن كان شيئا جديدا على الحياة السياسية فى مصر – شيء لا يمكن تفسيره: فباسم أى نوع من التعصب يمكن للمسلمين أن يقتلوا واحدا من إخوتهم فى الدين؟ وأى إسلام هذا الذى كان فى عقولهم ؟ وأخيرا متى كان احتجاز واستجواب المعارضين يجعل الرأى العام قادر على تكوين فكرة واضحة عن ممارسات هذه الفرقة وعاداتها، وعن أيديولوجية قائدها(كان مهندسا زراعيا اسمه شكري مصطفى) ومجالات تجنيدها فى الوقت الذى صدم هذا العمل المجتمع المصري.
وقد كان الوجود المجرد لهذه الفرقة كفيلا بأن يمثل فى حد ذاته ظاهرة اجتماعية . إلا أن النتائج السياسية لنمط وتوقيت صراعها مع الدولة تأتى لتشكل حلقة هامة فى سلسلة الأحداث التى جعلت من عام 1977 عاما فاصلا بالنسبة لنظام السادات حيث كانت المواجهة بين جماعة المسلمين والنظام، هذا إلى جانب مواجهة النظام لأحداث الشغب التى وقعت فى يناير 1977 ضد زيادة الأسعار وخطاب فيما بعد ضد حركة الإسلاميين ، التى رفضت تنظيماتها الجماهيرية"السلام المخزى مع اليهود".
وكانت العلاقة بين قطبي الحياة السياسية فى مصر قبل بداية عملية السلام، دافئة تماما. حيث تعامل النظام مع الجناح"الاصلاحى"لحركة الإسلاميين – الذى التف حول مجلة الدعوة الشهرية ومثله داخل الجامعات"الجماعات الإسلامية"– بشكل ودى للغاية،هذا الود الذى كان متبادلا بدرجة كبيرة حيث طهر الإسلاميون الجامعات من أى شىء قد تفوح منه رائحة الشيوعية أو الناصرية .
وحظي الجناح المتعصب والهامشي فى حركة الإسلاميين فى غضون ذلك، بعطف النظام الذى كان يضبط إيقاع حركة ، اآ حركة هذا الجناح المتعصب من خلال تسلل بعض العناصر البوليسية داخله حيث كان النظام يهدف بتقديمه بعض المنافذ للمعارضين الإسلاميين أن يصرفهم عن التخطيط للانقلابات ، تلك التى سلطت الأضواء على خطورتها محاولة الانقلاب التى أجهضت فى أبريل 1974 فى الكلية الفنية العسكر بمصر الجديدة .
وبحلول عام 1977 تحول هذا العطف المتبادل مع ذلك إلى عداء مستحكم. هذا العداء الذى أحدثته رحلة السادات للقدس وظل يتصاعد حتى بلغ الذروة فى الانفجار الذى حدث فى صيف عام 1981 وما ترتب على ذلك من أحداث ، أي اغتيال رصاصات الإسلاميين للسادات فى أكتوبر من نفس العام وقد كانت المواجهة بين النظام وجماعة شكري مصطفى، التى كان من الواضح أن أدوات النظام هى التى أضفت عليها قيمة حقيقية، مقدمة لهذه العملية.
وبرز خلال هذا الصدام صوتان، مثلا المؤسستين اللتين عارضتا شكري مصطفى وجماعته، حيث سعت كل منهما لأن يكون لها الكلمة الفاصلة: مؤسسة الجيش ومؤسسة الأزهر وفى آخر الأمر كانت الغلبة للمؤسسة الأولى، وكانت الكلمة العليا للمحكمة العسكرية التى تولت القضية.
وقد تولت المحكمة تطويق هذه المسألة ، التى بدأت ذات طبيعة دينية واجتماعية، واصطدمت فى النهاية بالسياسة فأصرت هيئة المحكمة مع ذلك على حصر القضية فى النطاق الجنائي . واختفت الأوجه الاجتماعية والدينية والسياسية لهذا القضية تحت طوفان هائل من الكتابات عن شكري، بينما حجبت كلماته هو أو عرضت بشكل مشوه.
وجاء الله إلى شكري
كان"معالم في الطريق" كتابا تم انجازه فى السجن، وكان الشبان الذين جعلوا منه برنامجهم (أو المانيفستو الخاص بهم) أو بحد أدنى مصدر إلهامهم لتطوير عقيدتهم الخاصة، سجناء أيضا فى الفترة من 1965وحتى عام 1970.
وقد تمثلت الجذور الفكرية لشكري مصطفى فى التطلع إلى مجتمع مسلم واعتبار المجتمع المصري مجتمع جاهلي، والاعتقاد بأن هذا المجتمع يجب تدميره وعلى أنقاضه سيقام المجتمع المسلم. ونسب معظم المراقبين المصريين لحركة الإسلاميين المذهب الذى طوره شكري مصطفى أثناء سجنه إلى رد الفعل الغريزي لرجل عانى من الاعتقال ظلما.
وعلى أي حال، فأنه من الصعب من ناحية أخرى إدراك كم عمر هذه الأفكار حينما أفرج عن صاحبها عام 1971 فقد بشر شكري وأتباعه بدعوتهم وأخذوا فى تجنيد الأعضاء فى بلد أعلن رئيسه مرارا أن معتقلات عبد الناصر قد غدت شيئا من مخلفات الماضي. ولم تعد مصر السادات تعاقب "مجرمي الرأي" مثلما كان يفعل نظام عبد الناصر ، إلا أن النموذج الجاهلي قد استمر مع هذا جاهليا بكل ما تعنيه هذه الكلمة . فبالنسبة للإسلاميين استمرت"عبادة الإنسان للإنسان"و"حكم الإنسان للإنسان". وإن كانت فى شكل معدل.
وفى الواقع فإن الغارات البوليسية عام 1965لم تحصد الإخوان السابقين الذين قبض عليهم قبل ذلك عام 1954 وحكم عليهم بالسجن وأفرج عنهم بعد انقضاء فترة عقوباتهم (وكانوا بالتالي تحت المراقبة البوليسية) فحسب، بل حصدت أيضا جيلا بأكمله من الإخوان المسلمين الذين إما كانوا قد أفلتوا من الاعتقال، مثل زينب الغزالي ، أولم يصلوا بعد إلى سن الإدراك السياسي أثناء حملة اعتقالات 1954 .
وقد كانت تلك حالة شكري مصطفى ، الذى ألقى القبض عليه لأول مرة عام 1965 . وسجن لتوزيعه منشورات الإخوان المسلمين فى جامعة أسيوط. ونتيجة لذلك ظهرت هوة عميقة بين هذين الجيلين. الحديد والقديم، فبينما انخرط الجيل القديم فى اتجاه إصلاحي سعى للتكيف مع نظام السادات حتى عام 1977 أعلن معظم راديكاليو الاتجاه الأول تكفير المجتمع الجاهلي وتأسيس"جماعة المسلمين"على أطراف هذا المجتمع.
وبالعودة إلى عام 1965 لاحظ بعض المراقبين وجود نسبة كبيرة من الشباب، ولا سيما من الطلاب بين ضحايا الغارات البوليسية . وقد ذكر زعيم اليسار المصري خالد محيى الدين أن الإخوان قد كسبوا تأييد شباب المتعلمين وأن هذا قد مثل إلحاحا متزايدا على الاتحاد الاشتراكي العربي لكي يشرح عقيدته فيما يتعلق بالمسائل الأيديولوجية المختلفة.
وقد مثل هذا فى الواقع ظاهرة جديدة : أى ثورة عناصر من جيل تربى فى ظل الناصرية على المجتمع الذى لم يعرفوا سواه باسم القيم الإسلامية وانضمامهم بالتالي إلى الإخوان المسلمين. فالاعتقالات والقمع، التى شعر المتعاطفون الشباب مع الإخوان المسلمين أنها لا تتناسب إطلاقا مع جرائم الرأى التى زعم ارتكاب الإخوان لها، قد حولتهم إلى القادة الجدد لحركة الإسلاميين وأمدت هذه الحركة بجيل من الكوادر الذين قادوا بعد ذلك الجناح الثوري للحركة فى ظل نظام السادات .
ولد شكري مصطفى فى بلدة أبو قرقاص ، على بعد حوالي ثلاثين كيلو مترا جنوب أسيوط، فى مصر الوسطى (كانت موشا ، مسقط رأس عائلي سيد قطب، على بعد عدة ساعات فقط سيرا على الأقدام ، وكانت قرى المنطقة قد غدت بشكل عام منطقة نفوذ للإسلاميين).
وكان والده عمدة لهذه البلدة الشديدة التحصين، التى تقع على التلال المنخفضة التى تجثو أحضان الجبال الليبية فى أقصى أطراف المنطقة الزراعية، حيث زودت الشعاب الصحراوية الممتدة والمليئة بالمقابر القديمة والمغارات للمهربين، وتجار السلاح وزراع الحشيش لمدة طويلة بملاجئ يختبئون فيها. ومع حلول نهاية السبعينات شقت الحكومة طريقا عسكريا جديدا بين سلاسل الجبال واستطاعت السلطات بذلك اختراق هذه المنطقة التى كانت تقليديا خارجة على القانون.
إلا أن التواجد الحكومة، أثناء طفولة شكري كان مجرد وجود عرضي حيث كان الجيش يرسل لإحدى القرى من حين لآخر لجباية الضرائب ، أو لاقتفاء آثار قطاع الطرق أو للقضاء على إحدى عصاباتهم مؤقتا وأثناء هذه الهجمات ، كان السكان يلجئون إلى المغارات ثم يعودون إلى منازلهم بمجرد انسحاب الجيش.
أي أن شكري مصطفى ولد إذن فى منطقة نائية قاومت تقليديا اختراق الدولة المركزية، فى ركن منسي فى مصر عاش فيه، ولهذا السبب بالتحديد ، العديد من المسيحيين . إلا أن شكري مصطفى كان عليه أن يغادر البلدة مبكرا فقد طلق والده والدته، ومن ثم رحلت إلى أسيوط العاصمة الإقليمية، حاملي معها طفلها.
وفى هذه المدينة، ذات القصور المزخرفة والواسعة التى عاش فيها ملاك الاراضى المسلمون والمسيحيون حياة مترفة إلى درجة كبيرة قبل أن تجبرهم تأميمات عبد الناصر على الرحيل (وتحول قصورهم التى تنتمي للعصر البائد إلى مقار للاتحاد الاشتراكي ومراكز للبوليس) ، لم يذهب شكري إلى المدرسة التى أسسها المبشرون الأمريكيون ، وإنما ذهب إلى مدرسة تديرها جمعية خيرية إسلامية .
وبالكاد حصل على الثانوية العامة والتحق بكلية الزراعة فى جامعة أسيوط. وببدو أن اتصاله بالإخوان المسلمين قد تم على الأرجح هناك. وعلى الأرجح أيضا أنه قد انضم إليهم منذ عام 1965 فى عامه الثالث والعشرين، حينما قبض عليه لتوزيعه منشوراتهم داخل حرم الجامعة. وكان هذا العام بالطبع هو عام موجة الاعتقالات الكبرى التى أعقبت خطاب عبد الناصر الذى ألقاه فى موسكو وكشف فيه النقاب عن ضبط مؤامرة للإخوان المسلمين.
وقد أودع شكري مصطفى أولا فى سجن طرة، لكنه ترحيلة عام 1967 إلى معتقل أبو زعبل. ثم أفرج عنه فى 16 أكتوبر 1971 كجزء من سلسلة الإجراءات التى اتخذها السادات بعد"ثورة التصحيح" فى 15 مايو من نفس العام.
وقد أمضى شكري مصطفى ست سنوات فى المعتقلات فى المرحلة العمرية التى يحتفظ فيها أقرانه عن ظهر قلب ما يمليه أساتذتهم، وقرأ فى السجن للمودودى وسيد قطب وتعلم أن يسمى المجتمع الذى يضم المعتقلات والتعذيب مجتمعا جاهليا.
انقسم المجاهدون الإسلاميون المعتقلون وفقا لقراءتهم لكتاب "معالم في الطريق" فبينما دفع الجناح المحافظ المؤيد الهضيبى عن العقيدة الراسخة فى مواجهة البدع من خلال نشر كتاب الهضيبى "دعاة لا قضاة" انقسم الشباب منذ البداية إلى عدة فرق، يمكن تقسيمها إلى اتجاهين رئيسيين اختلفا حول تفسير واضح لمصطلح سيد قطب "المفاصلة"أو"العزلة"فبينما اعتقد أصحاب الاتجاه الأول أن العزلة عن المجتمع تعنى فقط العزلة الشعورية ، فهم الاتجاه الثاني"العزلة"على أنها كاملة عن المجتمع.
وقد عرف هؤلاء الذين دعوا إلى"الانفصال الشعوري"عن المجتمع باسم"جماعة العزلة الشعورية"وزعموا بأن المجتمع المصري الجاهلي المعاصر يجب تكفيره، إلا أنهم كانوا مدركين للعواقب الوخيمة التى ستجلبها المجاهرة بتكفير المجتمع، حيث وجدوا أنفسهم فى موقف"استضعاف" بالمقارنة بالمجتمع الجاهلي المعادى.
ولأنهم واصلوا العيش داخل ذلك المجتمع، فقد أخفوا آرائهم ودعوا إلى التكفير سرا فيما بينهم مترقبين مجيء مرحلة"التمكين"التى ستمكنهم من تكفير المجتمع الذى سيكون فى مقدورهم حينئذ محاربته دون أن تكون الهزيمة مصيرهم. ولم يختلفوا فى هذا مع فرق"الشيعة"التى مارست"الكتمان"حيث كانوا يتظاهرون بالصلاة فى ايام الجمع خلف إمام حكموا عليه فعليا بالكفر .
فرسالتهم ستصبح نافذة المفعول بالتدريج طبقا لمبدأ"الحركة بالمفهوم"أو بمعنى آخر، فخلال تطور الجماعة فى ظل الكتمان، يتم الإفصاح عن طبيعة المجتمع المعاصر وأهداف الجماعة شيئا فشيئا وذلك حسب درجة عضويتهم فى الجماعة.
وللأسباب السابقة، لم يكن هناك سوى قليلة خلال رئاسة السادات عن الفرق المنتمية إلى هذا التيار الفكري، لأنهم كانوا وفق تصوراتهم فى مرحلة استضعاف وبالتالي كانوا يتجنبون الظهور فى الساحة الاجتماعية . وخلال فترات التوتر مع حركة الإسلاميين ألقى البوليس القبض على الأعضاء المعروفين فى هذا التيار وبعضهم كان مسجونا فى سجن طرة عام 1977 .
أما الاتجاه الآخر، الذى دعي إلى"المفاصلة الكاملة"عن المجتمع فقد اتفق مع الاتجاه الأول على ان المجتمع الجاهلي يجب تكفيره وفى تجنب حظر المجاهرة بهذا التكفير بينما يعيش أفراده فى"مرحلة الاستضعاف"إلا أن طريقتهم لتجنب هذا الخطر كانت هى الانسحاب من المجتمع وإقامة مجتمع إسلامي صغير، على أطرافه وهذا المجتمع الصغير سيقوم بالتالي بتكفير المجتمع دون أى كتمان.
وقد انتمى شكري لهذه الفرقة ، إى أنه لم يكن قائدها الأصلي فقد احتل هذه المكانة الشيخ على عبده إسماعيل ، وهو أحد خريجى الأزهر الشبان، الذى ظل حتى عام 1969 القائد المعترف به لهؤلاء الذين آمنوا بالانفصال الكامل عن المجتمع . أما رفاق السجن الذين رفضوا أن يقسموا يمين الولاء لدعوة الجماعة التى كان يقدوها الأزهري الشباب فقد اعتبرا كفار.
وفى واقع الأمر، فإن أعضاء الفرق المتنافسة فى معتقل أبو زعبل ، رغم كثرتها قد تبادلوا تكفير بعضهم البعض ، ووصل الأمر إلى حد رفضهم تبادل السلام، وأحيانا كان الأمر يصل إلى درجة العراك، وفى هذا الجو من التفتت لم يتخط قادة الإخوان المسلمين مرحلة حفظهم لكتاب الهضيبى.
وقد تعثرت حركة التكفير، إلا أنها لم تتوقف بسبب ارتداد الشيخ على الذى اقتنع ببراهين المرشد العام حسن الهضيبي ، حيث أعلن عن تخليه عن التكفير بشكل دراملتيكى إلى حد بعيد فبعد ظهر أحد أيام صيف 1969 ، بعد أن أم جماعته فى الصلاة، خلع جلبابه الأبيض وأعلن أه قد تخلى عن التكفير بالضبط كما تخلى عن جلبابه وعلى أثر ذلك تصدعت فرقته.
وبقى شكري مصطفى عن أفكاره حتى أصبح فى النهاية العنصر الوحيد فى الجماعة، إى أن انضم إليه ابن أخته ماهر بكرى . وانتقل سلاح التكفير بالتالي من يد خريج الأزهر إلى يد الشاب القادم من الصعيد، الذى كانت ثقافته مجرد ثقافة أولية ليصبح بالتالي أى سلاح التكفير، واقعا تحت التأثير الشديد للضغط الثقافي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذى تعرض له شكري من خلال المجتمع المصري. إلا أنه أثبت قدرته على استخدام ذلك السلاح بفعالية فى النطاق الاجتماعي، وجمع حوله طائفة عريضة شاركته تصوراته.
وفى 16 أكتوبر 1971 أفرج عن شكري مصطفى من المعتقل فعاد إلى أسيوط ، حيث أنهى دراسته الزراعية بينما استمر فى التبشير لدعوته. ونال شهرة واسعة فى دوائر الإسلاميين ويحكى قطب سيد حسين ، أحد خريجي الأزهر وأحد الأعضاء الأوائل فى جماعة المسلمين، أنه سافر إلى أسيوط من القاهرة لكى يرى شكري مصطفى، وبعد ذلك اقتنع بآرائه من خلال فصاحته وطريقة ممارسته للسنة (لحيته ، ورأسه الحليق، وجلبابه الأسود) ومن ثم قرر أن يقيم معه .
وقد كان شكري وأتباعه الأوائل يجوبون ضواحي أسيوط، كل يوم جمعة يبشرون بدعوتهم فى القرى والنجوع ويجمعون الشبان الراغبين فى الانضمام للجماعة. وأحرز نجاحا سريعا، أدى إلى وضع البوليس نشاطاته تحت المراقبة منذ عام 1972 .
وفى بداية 1973 القي القبض على بعض أتباعه وضبطت لديهم بعض النصوص التى كتبها شكري . مما أدى بالجماعة إلى الهجرة بين مغارات الجبال، أى أنهم هاجروا بالفعل، أو انسحبوا من المجتمع الجاهلي. حتى أن الذين قبض عليهم منحهم الرئيس عفوا فى أعقاب حرب أكتوبر 1973 .
وحتى هذا الوقت كان من الواضح أن الجماعة قد اعتبرت فرقة شاذة تسعى للانسحاب من العالم المعاصر والهجرة إلى اليمن، وكانت نقيصته الرئيسية هى التغر بالفتيات القاصرات وتحريضهن على الهرب من أسرهن والعيش مع أعضاء الجماعة.
وفى عامي 1974 و 1975 وضع المجاهدون الإسلاميون المعروفون للبوليس تحت المراقبة المنتظمة لأجهزة الأمن وذلك فى أعقاب محاولة انقلاب نظمتها جماعة مناوئة لشكري مصطفى . وفى مايو 1975 نشرت صحيفة الأخبار القاهرية مقالا عن شكري وأتباعه، أسمتهم فيه أهل الكهف.
ويبدو أن ترحال أعضاء الجماعة بين مغارات الجبال قد ألقى بظله على الذين كتبوا تقارير أجهزة الأمن وبالتالي على الصحفيين الذين نقلوا عن هذه التقارير . وفى الواقع وعلى الرغم من هذا، فإن الجماعة لم تقيم سوى فترة قصيرة جدا فى المغارات . فمعظم المنتسبين إليها أقاموا معا فى غرف مفروشة فى الأحياء الفقيرة الواقعة على أطراف القاهرة والمدن الأخرى.
ورغم وضعهم تحت المراقبة، أى شكري وأتباعه، إلا أنهم لم يتعرضوا للاضطهاد السياسي بشكل منتظم. وقد تغير كل هذا بصورة درامية فى خريف 1976 عندما حاولت جماعة إسلامية صغيرة مناوئة له استمالة بعض أعضاء جماعته وهو الذى أصبح لديه فى هذا الوقت ما يقرب من ألألفين من الأتباع، للخروج منها.
ومن وجهة نظر قائدها فالخروج على الجماعة يعنى الخروج على الإسلام ومن ثم الكفر، وعقاب هذا هو الموت وقد تواصلت حملات البوليس ضد بعض أتباعه خلال حملته لتأديب المارقين عليه، فقامت ببعض الاعتقالات وأصبح شكري نفسه مطلوب القبض عليه بعد ذلك. وأدركت وسائل الإعلام القصة وصورت الجماعة على أنها جماعة من المجرمين وقطاع الطرق. وأسمتهم جماعة التكفير والهجرة . لأن الجماعة مارست تكفير أفراد المجتمع"تكفير"وانسحبت إلى الجبال"هجرة".
وقد حاول شكري مصطفى من المكان الذى هرب إليه أن يصدر بيانا يصحح به هذا التشويه، على أمل أن يحول محاكمة أتباعه بحد أدنى إلى منبر لنشر أفكاره، إلا أن بيانه هذا لم ينشر فضلا عن عدم تقديم أتباعه للمحاكمة.
وفى 3 يوليو 1977 قامت الجماعة باختطاف الشيخ محمد الذهبي وزير الأوقاف الأسبق ، عسى أن ينتزعوا استجابة الحكومة لمطالبهم. إلا أن النتيجة الوحيدة لذلك كانت القمع، فقتل أعضاء الجماعة الشيخ الذهبي. وخلال عدة أيام ألقى القبض على المئات منهم، بما فى ذلك قيادة الجماعة بأكملها. وبعد محاكمة سريعة، حكم على خمسة منهم من بينهم شكري مصطفى بالإعدام، ونفذ فيه الحكم وأرسل بالعشرات منهم إلى السجن.
ذلك كان تصورا عاما عن الأحداث الرئيسية التى مرت بها جماعة شكري مصطفى مرتبة ترتيبا زمنيا . إلا أن الصحف المصرية لم تذكر، خلال معالجتها الشاملة للقضية ، حتى الاسم الحقيقي للجماعة أى جماعة المسلمين بل نشرت روايات كاذبة عن أيديولوجيتها وممارسات ها الاجتماعية . وكان أكثر الأشياء أهمية بالنسبة لها هو ضمان أن يبدو شكري فى صورة المجرم المختل عقليا، وتعريضه للغضب الشعبي . وهكذا فقد أعلنت الدولة أنها قد فضت تحالفها مع حركة الإسلاميين .
دعونا إذن نحاول بترو أن نلقى بعض الضوء على رسالة شكري مصطفى التى أخفيت، من أجل بناء أيديولوجية الفرقة وممارسات ها الاجتماعية على أساس من المعلومات المتفرقة التى لدينا. وسيتيح لنا هذا أن نفهم ليس فقط حقيقة جماعة شكري مصطفى، ولكن أيضا الدولة والمجتمع التى تشكلت هذه الجماعة فى مواجهتها.
الهجرة الجديدة
أقيمت المحاكمة الجنائية لجماعة المسلمين فى محكمة عسكرية لأمن الدولة فى السادس والسابع والثامن من نوفمبر 1977 . وقد طلب القاضي من المتهم الأول أن يشرح أفكاره فكانت فرصة له لكي يقدم عرضا متماسكا مبنى على معاييره العقلية وليس من خلال الأسئلة التى توجهها له المحكمة .
لم يكن الاعتزال عند شكري مصطفى – أى الانسحاب من المجتمع ، هذه الدعوة التى صدمت معاصريه بشدة – سوى أحد نتاجات الفكر الإسلامى الذى يجب أن نأخذه فى شموليته. ولا يمكن أن نفهم الاعتزال بالتالي إلا فى سياق الصورة الكاملة لهذه الشمولية.
أول، ذكر شكري الحاضرين بأن على المسلمين أن يؤمنوا بأن العلم إنما هو لله وحده وهذه الفريضة التى تؤكد عليها آيات قرآنية، ليسلم بها معظم المؤمنين اليوم بصورة مجازية، إلا أن شكري ذكر على خلاف ذلك أن المعنى المادي للعلم يجب أن تنطوي عليه هذه الفرضية أيضا:"فالمسلم ملزم بأن يبحث عن سبيله وعن العلم أمام الله وحده، أما ما نسميه نحن بـ"العلم"فهو فى الحقيقة ليس بعلم على الإطلاق، وهو حرام لأنه لم ينشأ نشأة إلهية".
وفى واقع الأمر فقد ورد بالقرآن (سورة البقرة الآيات 216، 232) "أن الله يعلم وأنتم لا تعلمون".وهذا يعنى عند شكري مصطفى أن كل ما جاء بعد القرآن والسنة، يجب إخراجه من مجال علم الفقه. وأن المذاهب الفقهية الأربعة للسنة، مذهب ابو حنيفة وابن حنبل ومالك والشافعي على وجه الخصوص هى مذاهب ضعيفة وباطلة.
ووفقا للإسلام المتشدد ORTHODOX ، فإن هذه المدارس الدينية الأربع، قد رسخت منذ القرون الوسطى، حدود الاجتهاد الفقهي فى الآيات القرآنية. وبعدها أقفل باب الاجتهاد وقد أكد شكري لهيئة المحكمة على ما يلى"أود أن ألفت انتباهكم للحقيقة التالية: الإسلام فى تدهور منذ ذلك الحين الذى انقطع فيه البشر عن تلقى تعاليمهم مباشرة من القرآن والسنة ، واتبعوا بدلا من ذلك تعاليم بشر آخرين، أى هؤلاء الذين أسموا أنفسهم بالأئمة".
وزعم شكري، أن الأعمال الاجتهادية للأئمة الأربعة، كانت كلها بلا قيمة حقيقية. فالقرآن نزل بالعربية وهو من ثم واضح تماما، والأداة الوحيدة التى قد تحتاجها لشرح معاني بعض مصطلحاته هى قاموس جيد. فإلى أى حد جعلت هذه التفاسير معانيه أكثر سهولة؟ ولماذا لا تحتاج تفسير الأئمة أنفسهم لتفاسير أخرى؟
وبعد ذلك، وفى محاولة لاستمالة تعاطف مستمعيه، أطلعهم شكري على السبب الذى جعل الأئمة يغلقون باب الاجتهاد وهو أن تصبح أعماله وأن يصبحون هم أنفسهم محط كل تبجيل واحترام. وليصبحوا هم أنفسهم أصناما تعبد مثلما كانت تعبد فى الماضي أرباب الهياكل الوثنية. لقد احتلوا مكانا بين الله وبين المؤمنين ووضعوا أنفسهم بالتالي خارج حدود الإسلام، أى أنهم ينتمون إلى الجاهلية ، إلى الربوبية.
ولكن أبواب الاجتهاد لم تغلق دائما فى وجه كل الناس :"هل هؤلاء الذين سعوا إلى إغلاق أبواب الاجتهاد نجحوا فى ذلك حقيقة؟"."لا ، إنهم لم يغلقوها إلا فى وجه العلماء الذين دعموا حكامهم، هؤلاء العلماء الذين كانوا يصدرون الفتاوى التى فصلوها لتلاءم رأى الحاكم – مهما كان هذ الحاكم ، ومهما كانت آراؤه – لنشر المعاصي ، وإباحة المحظورات باسم الإسلام".
وإذا أردنا أن نقدم أمثلة سواء من الحاضر أو من الماضي فلن يستطيع أحد أن يقول بغير ذلك، وتتضمن هذه الأمثلة حالات واضحة أبيح فيها الربا والزنا، وعلى تشريعات حكومية شيدت على قانون غير القانون الالهى، إلى حد الموافقة على الدعارة وعلى شرب الخمر باسم الإسلام".
وتدعيما لرأيه استشهد شكري بالشيخ محمود شلتوت، شيخ الأزهر خلال فترة حكم عبد الناصر، الذى أفتى بشرعية فوائد البنوك، بينما اعتبرها مسلمون آخرون ربا. واستشهد أيضا بالشيخ الشعراوى الذى قرر أن سندات الخزانة لا تتعارض مع التشريع الالهى، وبالشيخ سعاد جلال الذى أفتى بأن شرب البيرة لا يندرج تحت تحريم شرب الخمر (وقد أ طلق عليه لقب"الشيخ ستلا"وهو الاسم التجاري للبيرة المصرية).
وكما هى حالة الزنا، التى لم يجرمها أحد والتي قبلها هؤلاء الذين يقرون بوجود القانون المدني ، ذلك القانون الذى لم يعتبرها جريمة والذي لم يذكر أيضا هؤلاء الذين عملوا كرسل لتحرير المرأة وللاختلاط بين الجنسين، وهى أسوأ الدعوات حتى الآن ولا تقل عن الحث على الدعارة التى يمكن أن ترتكب كما أكد شكري – معتمدا على السنة- باليد والعين والأذن.
ويجب علينا أن ننأى بأنفسنا عن الفقه الإسلامى الذى ينتمي إلى العصور الوسطى ككل. فمنذ إغلاق أبواب الاجتهاد كان تاريخ الإسلام عبارة عن تاريخ لتواطؤ العلماء مع الحكام. وقد ألقى اليوم على عائق شكري الذى اختاره الله و"تولى إرشاده للطريق القويم"مهمة فتح هذه الأبواب لكي يفسر القرآن والسنة كما فهمهما ، ولكي يستقى منهما التشريع.
وإذا كان شكري قد تخلى عن الماضي، ناسخا بذلك تاريخ الحضارة الإسلامية لصالح الالتجاء المباشر لعهد نشأتها الأسطوري، فإنه قد هاجم أيضا الرموز المعاصرة التى من خلالها يكتسب المجتمع – الذى اعتقد شكري أنه أحد صور المجتمع الجاهلي، أى بربرية ما قبل الإسلام ، وأكثر من هذا يغتصب – طابعه الإسلامى . وعلى رأس هذه القائمة تأتى المساجد.
"يجب أن تسمى المساجد التى يؤدى المصلون فيها صلاتهم باسمها الشرعي، أي"بيوت الله"ويجب ألا تنشأ إلا فى طاعة الله، والمرء لا يجب ألا يؤدى الصلاة فى المساجد لم تقام فى طاعة الله".
وفى مصر، كما فى البلدان الإسلامية الأخرى، هناك نوعان من المساجد. المساجد الحكومية التى تديرها وزارة الأوقاف ، والداعية الذى يؤم المصلين فيها يوميا ويلقى خطبة الجمعة موظف حكومي، وهو عادة أحد خريجي جامعة الأزهر، حيث يتلقى هناك مقررات دراسية دينية. والمساجد الأهلية التى أقامها أناس عاديون، وهم الذين يختارون الداعية دون أى تدخل من جانب الدولة.
وفى رده على سؤال لهيئة الحكمة"هل تعتقد أنه يجوز للمسلمين أن يؤدون الصلاة فى المساجد الموجودة فى مصر الآن ؟ أجاب شكري"لقد قلت إن هناك بعض المساجد الأهلية التى لا تخضع للنفوذ السياسي، وهذه لا تسيطر عليه المدارس السنية الأربع للجاهلية، وأنا لم أمنع الصلاة فيها. وعلى الرغم من ذلك فقد قررت أن منزلي ومنازل المسلمين (منازل أتباع شكري بالطبع) هى انسب الأماكن الصالحة لأداء الصلاة".
وقد اعتبر البعض أن تأكيد شكري على هذا الرأي نوعا من أنواع الخروج . حيث دنس شكري مكانا يرمز إلى الإسلام، واعتبر المساجد مجرد معابد تعبد فيها الأصنام وذلك فى ظل توجيه النظام السياسي وفى حقيقة الأمر فإنه لا يوجد شيء مستقبح فى أداء الصلاة فى المنزل، فالمسلم يمكنه تأدية الصلاة فى أى مكان يشاء، شريطة أن يتوضأ ، وأن يتوجه شطر الكعبة خالعا نعليه ولا يقف مباشرة على الأرض.
وفى مصر اليوم على سبيل المثال، يمكنك أن ترى عددا لا يحصى من المسلمين راكعين فى أي مكان وفى كل مكان فى أوقات الصلوات الخمس فى الشوارع وفى أماكن العمل أو فى المنازل واقفين على قطع من الكرتون، أو على صفحات من الجرائد ونادرا على سجاجيد صغيرة للصلاة.
والصلوات اليومية فريضة يؤديها الفرد رغم أن المرء باستطاعته أن يؤدى الصلاة جنبا إلى جنب مع المؤمنين الآخرين حيث تظهر هذه الصلوات علاقة الفرد فى حد ذاته بالله. وفى أيام الجمع يلتقي المؤمنون من ناحية أخرى فى صلاة جماعية خلف الإمام الذى يلقى أيضا خطبة الجمعة. وهذه الصلاة من الواجب إقامتها فى المسجد.
وعلى الرغم من أن الصلاة هى أحد"الأعمدة الخمسة"فى الإسلام (بالإضافة إلى الشهادتين، وصيام رمضان، وإخراج الزكاة، والحج فى مكة) إلا أن شكري لم يتردد على الإطلاق فى تأكيده لهيئة المحكمة على أن صلاة الجمعة التى تعنى لم شمل المؤمنين فى هذا اليوم، لا تجوز فى المجتمع الجاهلي.
"ذلك هو الشرط الأول لإقامة صلاة الجمعة فهي لا تجوز إلى فى المجتمع المسلم فقط شريطة أن تؤدى فى مكان عام ومفتوح (ظاهر) وهذا الشرط يتوفر إذا كانت جماعة المسلمين فى مرحلة القوة"التمكن"أى عندما تتبدل علاقات القوى التى تربط بين الجماعة والجاهلية المحيطة بها لصالح الجماعة. وفى عام 1977 كانت جماعة المسلمين من ناحية أخرى ما تزال فى مرحلة الضعف (الاستضعاف) وبالتالي رفض شكري أداء صلاة الجمعة.
وتأكيدا لوجهة نظره سرد شكري لهيئة المحكمة حديثا شريفا معناه أن محمدا وأصحابه عندما كانوا فى مرحلة الضعف فى مواجهة مشركى مكة قبل الهجرة، لم يقيموا صلاة الجمعة جماعة ، لكنهم أقاموها فقط بعد ذلك، فى المدينة.
وقد شرح شكري كيفية الانتقال من مرحلة الاستضعاف إلى مرحلة التمكن بهذه العبارات."مرحلة التمكن ، مثلها مثل أي شيء آخر، لها درجات. وهذه المرحلة تبدأ فى رأيى ، عندما نكسر دائرة الاضطهاد والضعف، وبالتالي نتقدم إلى الفتح والانتشار. وليس هناك شك فى أن المسلمين عندما هاجروا من مكة إلى المدينة كانوا أول خطوات التمكن، حيث لم يعد باستطاعته أحد أن يفرض عليهم شيئا آخر بعد ذلك".
وبعد هذا سئل شكري"وهل لم تتجاوز جماعتك بعد هذه الخطوة الأولية، حتى تستطيع الصلاة فى أى مكان فى أيام الجمع؟"فأجاب شكري"لا ، بالطبع"."والدليل على ذلك أنه خلال خمس سنوات كنا متهمين فى أكثر من خمسة عشر قضية تعرضنا فيها للسجن، وقد قبض على العديد منا هذه المرة أيضا. أين إذن هذا التمكن؟".
ويبدو أن رفض شكري لتبجيل المسجد وكذلك رفضه لتأدية صلاة الجمعة خلال مرحلة الاستضعاف يعكس بعبارات ترمز إلى عنف شديد، تصلبا فى تصور شكري عن العزلة، ونوع من التذكرة الدائمة بأن الجماعة وجدت نفسها فى موقف مؤقت فحسب، ولم تصل حتى الآن إلى هدفها ألا وهو إعادة فتح هذه الأمة. واللحظة التى سيتحقق فيها هذا الفتح هى اللحظة .. التى سيؤدون فيها فريضة الله جماعة.
وهذا يساوى سياسيا رفض للذين أظهروا ارتياحهم حتى لو كان نسبيا لتأثير التسامح الهامشي الذى أيدته الدولة حتى نهاية 1976 . وقد يوضح هذا طريقة المحكمة فى توجيه أسئلتها. فمن خلال بناء مجتمعها المضاد على الرغم من انحراف ممارسات ه، عملت جماعة المسلمين قطب جذب للمعارضين الإسلاميين الشبان ورغم تحول الأعضاء إلى داخل الجماعة ، فإنهم كانوا بحد أدنى يتحولون عن التفكير فى تدبير الانقلابات.
وبإقامتهم الصلاة فى مساجدهم الخاصة، يثبتون رغم كونهم معارضين أن هذا المجتمع الذين يعيشون فيه مجتمع مسلم . لكن برفضها للمساجد ولصلاة الجمعة، وضعت جماعة المسلمين مشروعها الخاص موضع التنفيذ ، أى القضاء على الجاهلية وإقامة المجتمع المسلم على أنقاضها وبذلك أظهرت هذه الفرقة أنها تمثل خطرا ثابتا على النظام القائم.
وقد أثبت شكري من خلال الممارسةأنه فيما يتعلق به، فإن المجتمع المصري فى السبعينات كان مجتمعا جاهليا، مجتمعا بربريا من النوع الذى وصفه سيد قطب فى"معالم في الطريق"وبذل قصارى جهده لكي يزيح النقاب عن هذا المجتمع الجاهلي، وأن يكشف زيف تلك الرموز التى اغتصبها هؤلاء الذين سعوا للإيهام بأن هذا المجتمع إسلامي . ومتسقا زع رأيه هذا أخذ على عاتقه مهمة تدمير تلك الأدوات التى يستمد منها النظام المصري شرعيته، فبعد المؤسسات الدينية كان الهدف التالي للهجوم هو الجيش.
وفى حقيقة الأمر، فإن أحد الأسباب الرئيسية للصلاحيات الواسعة لضباط الجيش داخل النظام المصري هو حالة الحرب مع إسرائيل التى استمرت حتى عام 1977 وحالة الحرب مع الدولة اليهودية كانت أحد القضايا الرئيسة التى عبثت الشعوب العربية والإسلامية خلف حكوماتها المختلفة، والتي كانت كافية لتبرير الوحدة المقدسة لدعم الطبقة البيروقراطية التى سيطرت على السلطة.
والدولة اليهودية فى معجم القومية العربية، ذريعة للامبريالية على أرض عربية مختلفة، أما فى المقولات الإسلامية فإنها تصبح أرضا اغتصبها الكفار من دار الإسلام، وبالتالي فهى جزء من دار الحرب التى يجب إعلان الجهاد عليها بلا هوادة الذى يحركه ويتولى مسئولية إعلانه عليها قائد المجتمع المؤمن.
وبينما شكلت الصيغة الأولى قلب عقيدة الدولة الناصرية حتى عام 1977، كانت الصيغة الثانية هى التيمة المفضلة لمجلة الدعوة ، مجلة الإخوان المسلمين الجدد فى الفترة من عام 1976 وحتى عام 1981 .لكن شكري عارض الآن هذا الموقف كما عارضه بعد ذلك عبد السلام فرج عام 1981 .
وعندما سأل القضاة شكري عن موقف جماعة المسلمين إذا غزت القوات الإسرائيلية مصر ، كانت هذه إجابته :"إذا جاء اليهود أو غيرهم فلن تسعى حركتنا للحرب فى صفوف الجيش المصري، بل بالعكس ربما قد نلجأ إلى الهرب لموقع آمن . وبشكل عام فإن خطنا هو تجنب العدو الخارجي والداخلي المتشابهين ، وليس مقاومتهما".
ومن الصعب أن نجد تعبيرا أكثر حدة من تعبير شكري عن رفضه للقومية المستقلة. مثل تلك القومية التى شيدتها الأسطورة الناصرية القومية التى تبلورت ى النضال ضد إسرائيل. وبالنسبة لجماعة المسلمين يتساوى الجيش الاسرائلى والمخابرات المصرية وهما عدوان لا يمكن التفريق بينهما وخلال مرحلة الاستضعاف ، فإن سخط الجماعة على العدو الصهيوني أخذ شكله العملي فى رفضها للتجنيد الاجبارى .
فأعضاء الجماعة لم يشعروا بأي ولاء للدولة.وبالتالي فإنهم لم يرفضوا فقط ارتدائهم للزى العسكري بل رفضوا أيضا أي شيء آخر قد يربطهم بالدولة أو حتى بخدمتها. وعلى سبيل المثال، فقد حظر شكري على أتباعه التوظف لدى الدولة، وهؤلاء الذين كانوا يشغلون وظائف فى أجهزة عامة تخلوا وظائفهم بمجرد انضمامهم لجماعة المسلمين. ورفض شكري أيضا التعليم الذى يقدمه نظام المدارس المصرية، وقد شرح ذلك فى إجابته على سؤال المحكمة العسكرية.
- س : تود هيئة المحكمة أن تعرف رأيك فى تعليم الكتابة. .
- جـ : تعليم الكتابة فى ذاته حرام .. فالرسول لم يفتح كتابا ولم يفتح مؤسسات لتعليم المسلمين الكتابة والحساب، ولكن أباح لهم أن يتعلموا رفقا للاحتياجات والضرورات".
ولا يبدو لى أن رفض شكري للوظائف الحكومية وللتعليم، كما زعم منتقدوه يقوم فقط على إساءة تفسيره للآية القرآنية (هو الذى بعث فى الأميين رسولا منهم..) والتي قيل إن شكري قد استنتج منها أن الأمية هى الأمل الوحيد. وقد يبدو الأمر أكثر اتساقا إذا نظرنا إلى هذا الرفض فى ضوء التوظيف العام والتعليم فى مصر السادات .
فلكل خريج فى مصر بموجب القانون الحق فى التوظف لدى الدولة. ويعتبر هذا الإجراء الذى لا اعتبره البعض سلاحا فعالا ضد البطالة، فى الواقع المورد الرئيسي للبطالة المقنعة المستشرية فى مكاتب الهيئات الإدارية المتكدسة والتي تنخفض فيها الإنتاجية بنفس الدرجة التى يعانى منها الموظفون من انخفاض دخولهم.
وإذا احتاج الموظف الحكومي لمصدر إضافي لدخله- سواء حصل على وظيفة واحدة أو أكثر او حصل على مساعدة من أسرته – فإنه لكي يقتات عليه أن يقوم بشراء السلع الحكومية المدعمة من الجمعيات التعاونية ولكنه يصبح عاجزا عن الارتفاع فوق هذا المستوى من الحد الأدنى للحياة فأي شيء يتحدد سعره من خلال السوق يصبح فوق طاقته.
وتقريبا فإن كل موظف حكومي لديه وظيفة ثانية وأحيانا ثالثة، لا تمت بصلة لمؤهلاته الثقافية، وليس لها علاقة بما تلقاه من علوم دراسية، تكفل له الجزء الاساسى من دخله. فهناك عدد لا يحصى من الموظفين الذين يجلسون كل صباح إلى مكاتبهم فى هذه المكاتب الوزارية أو تلك والتي يصعب حصرها يقضون بعد الظهر فى العمل كحرفيين أو كسائقين لسيارات الأجرة .
فالوظائف التى يشغلونها غير ملائمة لدرجة أن الأميين يمكن أن يشغلونها، والحرفيون المهرة هاجروا إلى شبه الجزيرة العربية، حيث تساوى أدواتهم هناك وزنها ذهب. والمرأة الريفية التى تصل إلى المدينة وتعمل خادمة لدى إحدى الأجانب سوف يدفع لها ما يوازى أو يزيد عن ضعف مرتب أستاذ الجامعة.
وهذه هى الخلفية التى يجب أن نأخذها فى اعتبارنا عند النظر إلى مبادرات شكري ففي تحريمه لتعليم الكتابة عندما لا يقال هذا التعليم احتياجا محددا، وفى حثه أعضاء جماعة المسلمين على التخلي عن الوظائف الحكومية ، لم يكن متعصبا ينتمي غلى القرون الغابرة، كما يحلو للبعض أن يقول ذلك .
فقد وضع شكري أصبعه – بأسلوبه الخاص (وفى مجموعة مفردات، رغم أنها لم تكن مفردات ماركسية أو تنتمي لعلم الاجتماع، إلا أنها كانت بدرجة كبيرة ذات مغزى واضح ومباشرة ومفهومة للطبقات التى يخاطبها) – على المشكلة الحاسمة فى المجتمع المصري المعاصر. وفى واقع الأمر فإن تعليم الكتابة كان بالنسبة للعديد من المصريين بلا جدوى ، ونسوا حتى المبادئ التى تعلموها فى المدرسة ، دون أن يكون لهذا اى أثر سلبي عليهم .
وبنضاله ضد التشريع الديني للدولة، وعدم اكتراثه بالصراع ضد الصهيونية الذى قاده حاكم ظالم، ولرفضه الجذري لأى تعاون مع المؤسسات الجاهلية، بما فيها الوظائف الحكومية والنظام التعليمي وضع شكرى مصطفى نفسه على هامش المجتمع ساخرا من العرف السائد داخله. أى ا،ه تحدى الأعراف الاجتماعية السائدة فى الحياة اليومية، كاشفا النقاب عن كونها أعرافا سياسية فى الواقع.
العيش معا على سنة الرسول
لم تخلص مؤسسة الزواج من السلوك الاجتماعي الهش لجماعة المسلمين والواقع أن أول العمليات البوليسية الواسعة ضد أعضاء الجماعة يبدو أنها قد تمت فى أعقاب تلقى البوليس لعدة بلاغات من أسر اختفت بناتها وانضممن للجماعة، وتزوجن هناك وفى حقيقة الأمر ، فإن جماعة شكري على خلاف معظم التنظيمات السرية الإسلامية الأخرى، كانت تضم النساء فى عضويتها، حيث يتزوجن من خلال الجماعة وفقا لطقوس خاصة وينجبن أطفالا، وهذا ما يكفل بقاء المسلمين الحقيقيين.
وقد مثلت"غواية النساء"بالنسبة للرأي العام عملا مشينا، وأمدت الصحف المصرية بمادة وفيرة من العناوين والصور الفوتوغرافية. وطبقا لروايات الصحف، كان السيناريو دائما واحدا إغواء الفتيات من خلال انبهارهن بحديث شكري أو أحد أتباعه، وفتاة صغيرة تهجر منزل العائلة ودفأها وتهجر دراستها وتذهب لتعيش بين أعضاء الجماعة. وهذه إحدى القصص، التى رواها أحد الشهود الذين وقفوا أمام المحكمة، يرويها والد حزين اختفت اثنتان من بناته. والشاهد رجل فى الخامسة والأربعين يعمل بشركة لحلج القطن بالفيوم . وكان يتكلم بلهجة ريفية.
"العام الماضي، قبل العيد الصغير بقليل ، جاءت ابنتي سامية فى أجازة الجامعة، وبعد ذلك جاءت إلى أختها الصغيرة راوية وقالتا لي"خذنا معك لنشاهد القاهرة "وقد أخذتهما إلى القاهرة وتركتهما بمنزل أختهما الكبرى ، التى كانت قد تزوجت وأقامت هناك، ورجعت ثانية إلى الفيوم لكي أعيد هناك".
بعد ذلك قالت لى أمهما"اذهب لتعرف لماذا لم تعد البنتان للمنزل بعد"فذهبت إلى القاهرة وسألت محمود، زوج أختهما الكبرى ،"أين البنات ؟"فأجاب"أخذهما أخوهم سيد ليرجعهما للبلدة"، فقلت له"لقد وصلت لتوى من البلدة، وهم لم يصلوا إلى هناك"فقال "ربما تكونوا قد سلكتم اتجاهين متضادين".
وبعد ذلك عدت إلى الفيوم، حيث قالت لى أمهم"أين البنتان؟ اذهب واحضرهما بأى شكل، حتى ولو كان الشيطان نفسه هو الذى أخذهما".
فذهبت ثانية إلى محمود وقلت له"إن البنات لم يعدن إلى البيت"فقال لى"ماذا تريدني أن أفعل فى ذلك""لقد أخذهم أخوهما". واستمر هذا الحال لمدة ثلاثة أسابيع ، جيئة وذهابا حتى قال لي محمود أخيرا"إذا كنت تري أن تعرف مكانهما ، فاذهب وقابل شخص اسمه مصطفى الجمل فى أم المصريين"فذهب وقابلته فقال لى :"أنس هذا الموضوع، فإنهما متزوجتان الآن ، وقد تزوجاهما رجلان مسلمان".
بعد ذلك- لقد كان ما حدث فى غاية البشاعة- قال لي"نحن نفضل المسلمين عن الكفار"فقلت له"حسنا، أنا أريد أن أراهما فقط . فكيف يمكنني أن أعرف أنهما بخير؟"فقال لى اذهب وتعال بعد ثلاثة أيام".
وفعلت ذلك، إلا أنه قال لى مرة أخرى"تعال فى الأسبوع القادم". فرجعت إلى الفيوم . لكن أمهما لم تتحمل ذلك، فرجعت ثانية إلى مصطفى هذا ، الذى قال لى"انتظر لحظة"، وبعد ذلك دخل على هذا الرجل والذي كان اسمه مصطفى الجمل عبد الفضل . وقد تكلمت معه فقال لي :"أي بنات ، أنهما متزوجتان"فقلت له"هل تسمى هذه رحمة؟ يهربان من المنزل ثم تتزوجان ؟"وإحداهما لم تتجاوز الرابعة عشر فقط"فقال لىهذا ما قد حدث".
وبعد هذا ذهب ألأب غلى البوليس . وفى نهاية شهادته صاح به ابنه، سيد من قفص المتهمين"ألا تخجل يا أبى ، من تمثيل هذه اللعبة التى دبرها البوليس"وبالطبع فإن الزواج ، كما مارسه أعضاء جماعة المسلمين، لم يكن يستلزم تلك العقود البالغة التعقيد والشائعة فى المجتمع المصري لكي تضمن الأسرة العروس أن يقوم العريس بإعداد منزل الزوجية . لقد كان زواجا إسلاميا كل ما يشترط لإتمامه موافقة الزوجين ووجود حضور الشهود.
وبقدر ما هو معروف ، فإن شكري نفسه كان له زوجتين. وفى بعض الأحيان كان العريس المرتقب يعيش خارج مصر، فى أحد البلدان المصدرة للنفط حيث كان يرسل النقود من هناك لصالح جماعة المسلمين . وربما لا تشاهد عروس المستقبل من عريسها سوى صورته الفوتوغرافية .
وأحيانا كانت تتعقد الأمور، عندما لا يجد الزوجان مفرا سوى العيش مع أعضاء آخرين من الفرقة فى نفس الغرفة المفروشة التى تؤجرها الجماعة وفى هذه الغرفة ونتيجة للازدحام الشديد، لم يكن هنا حل سوى إقامة أكثر من زوجين فى نفس الغرفة، حيث لم يكن يفصل بينهم سوى ستارة معلقة.
هذه التفاصيل ، بالإضافة إلى الحق الشرعي الذى نسبته الصورة الشعبية لشكري ، خلقت صورة يانوسية ذات وجهين للنساء المنقبات المنتميات إلى الجماعة، الوجه الأول كان لنساء شديدات الاحتشام يخفين وجوههن من أمام عدسات المصورين، والآخر كان لنساء يخفين قناع الورع الديني المفرط فسق لا حدود له، هذا الفسق كان شكري هو زعيمه المفترض.
وقد زعم شكري أنه فى حالة انضمام أحد الزوجين للجماعة رفض الطرف الآخر، فإن رباط الزوجية الذى يجمع بينهما يصبح باطلا ومحرما وبالتالي يحل لعضو الجماعة أن يعقد زواجا آخر.
وإذا كان هذا العضو رجلا- كما حالة المهندس فتحي عبد السلام، الذى أجبر زوجته على أن تبيع الثلاجة والغسالة وموقد البوتاجاز وبعد ذلك هجرها وذهب ليعيش مع إحدى عضوات الجماعة فى المنصورة- فإن القصة قد تثير بعض الشفقة على الزوجة المهجورة بالطبع، لكنها لا تثير اعتراضا حقيقا.
فالإسلام يسمح للرجل بأن يجمع بين أربع زوجات، والطلاق إجراء سهل للغاية. إلا أن نفس الخطوة إذا اتخذتها المرأى فهى حرام. وخلال المحاكمة طرح عليه سؤال عن موقفه من الحالة السابقة.
فأجاب شكري بـأنه يجوز للمرأة أن تطلب الطلاق بسبب الاختلاف فى العقدة، لكن إذا رفض هذا الطلب، فإنه لا يجوز لها الرجوع إلى زوجها. وأكثر من هذا فإنها إذا أرادت تستطيع الزواج من أحد أعضاء الفرقة، لأن الروابط الزوجية الجاهلية ليس لها قيمة داخل جماعة المسلمين.
جعلت جماعة المسلمين إذن من الزواج أمرا ممكنا ووفرت للأزواج الشباب مكانا للعيش معا، وإن كان ضيقا، فى أحد"الغرف المفروشة"ولكي نفهم لماذا بالذات"الغرف المفروشة"فعلينا أن نتذكر أن زوج المستقبل فى مصر يجب عليه أن يقدم لزوجة المستقبل دليلا على أن لديه منزلا.
ونظريا ، فبإمكان كل الناس استئجار الشقق، لأن القانون قد ثبت الإيجارات عند مستوياتها الاسمية وقت الحرب العالمية الثانية، والتي حولها التضخم إلى قيمة رمزية. إلا أن ملاك العقارات أصبحوا يحصلون على أرباحهم من خلال طلبهم لخلو رجل من المستأجر الجديد، وهو سلوك بلغت درجة شيوعه درجة عدم قانونية.
والمبلغ المدفوع قد يساوى أو يقل عن تكلفة شراء الشقة، ولأن الشاب فى مستهل حياته لا يستطيع الاقتراض (ولا يستطيع ذلك حتى هؤلاء الذين لا يمثل راتبهم الوظيفي إلا جزءا من دخلهم الحقيقي) ، فإن الطريق الوحيد المتاح لكي يستطيع توفير خلو الرجل هو الهجرة إلى بلدان الخليج لعدة سنوات .
وهذا هو السبب الذى دفع بمعظم الشباب إلى مغادرة بلدهم فى الفترة ما بين العشرين والثلاثين من عمرهم، وخلال هذه الفترة لا تملك الفتيات سوى الانتظار.
ورغم هذا فقد كان هناك نوع من الشقق يمكن الحصول عليه دون دفع لخلو الرجل هذا . أى"الشقق المفروشة"التى تحتوى عادة على القليل من الأثاث أو لا تحتوى على أي شيء منه، والتي يتحدد سعرها وفقا للعرض والطلب .
وهذه الشقق المفروشة يقطنها عادة الأجانب وبنات الليل والذين يعيشون على هامش المجتمع، أو البعض ممن لا يستطيعون أو لا ينوون الاستقرار فى مكان واحد لمدة طويلة، حيث وفرت لهم سكنى عصرية. ومثلهم مثل العناصر الهامشية لم يستطيع أعضاء جماعة المسلمين سوى توفير هذه الغرف المفروشة وفقط. وبالتالي فقد أسكن شكري أتباعه فى هذه الغرف وهناك عاشوا بشكل جماعي.
كان هذا هو المكان الحقيقي للهجرة، هجرة الجماعة ، انسحابها من المجتمع الجاهلي. وفى غرفهم المفروشة أقام أعضاء الجماعة مجتمعهم الإسلامى الصغير والصادق، الذى بنوه على فهمهم الخاص للإسلام. وهناك تغيرت حياتهم جذريا، تزوجوا صغارا، والإقامة أصبحت متوفرة دون دفع خلو الرجل، والقيم السائدة فى المجتمع المصري لم يعد لا محل بينهم.
واعتبروا شهاداتهم الجامعية مجرد قصاصات من الورق، ومساجد وزارة الأوقاف اعتبروها معابد يعبد فيها فقهاء العصور الوسطى، وإسرائيل اعتبروها عدوا على نفس درجة عدائهم للحاكم الظالم وجهاز دولته. ونتيجة لتخليهم عن العمل الحكومي وفقا لأوامر شكري، قام أعضاء الجماعة بالاشتغال بالأعمال اليدوية، وزراعة الخضروات وبيع الحلي، الصناعية على عربات اليد ولكن ما كانوا يكسبونه من هذه الأنشطة لم يكن يكفى لسداد إيجار الغرف المفروشة.
ولذلك فإن معظم مصادر دخل الجماعة كانت تأتى من المبالغ التى كان يرسلها أعضاء الجماعة الذين بعث بهم شكري للعمل فى المهجر، من السعودية ومن الكويت ومن الأماكن الأخرى فى الخليج.
كان إذن لأعضاء الجماعة هجرتان، الهجرة الأولى داخلية وتمثلت فى الانسحاب من المجتمع الجاهلي إلى العيش فى الغرف المفروشة لجماعة المسلمين، والثانية كانت الهجرة الطبيعية خارج البلاد مثلهم فى ذلك مثل سائر الشباب المصري، باستثناء أن الدخل الذى كانوا يحصلون عليه كان يعاد توزيعه لمساندة بقية الأعضاء فى مصر. وعند عودتهم للوطن يبدو أن الجماعة كانت ترشح زوجة لكل منهم.
وهذا ، بالطبع كاريكاتير لذلك النوع من الهجرة الذى فرضه على المصريين تخلف وطنهم، إلا أن الحط من تجربة شكري لهذا السبب وفقط سيصبح خطأ فاحشا – فقد كان يسعى للحصول على مصدر للدخل من خلال الوسائل المتاحة أمام المحرومين فقط. أما أصحاب النزعة الإصلاحية فى حركة الإسلاميين فقد كانوا يتمتعون، نظرا لتمثيلهم فى دوائر رجال الأعمال ، بالدعم المادي من الرأسماليين المصريين.
إن أهمية وأصالة مفهوم الهجرة والشكل ا لذى مارست به جماعة المسلمين هذه الهجرة أشياء لا يمكن أن تكون قد بالغنا فى تقديرها. فالهجرة فى التراث الإسلامى تشير إلى هجرة الرسول وعى بالتالي جزء من الإستراتيجية السياسية لمواجهة الجاهلية، وتعنى تجنب العدو الذى يجب محاربته فى حالة عدم وجود أى فرصة للنجاح خلال مرحلة الاستضعاف.
لكن الهجرة الداخلية التى مارستها جماعة المسلمين كانت ظاهرة اجتماعية تعكس حال المجتمع المصري فى السبعينات بنفس الطريقة التى تعكس بها المرآة المقعرة فى مدينة الملاهي صور الأشياء، أى مبالغتها فى إظهار التشوهات والعيوب.
وكان باستطاعة شكري إذن ، بلغته النظرية غير المصقولة – التى شكلتها ذكريات الطفولة فى صعيد مصر ، وقراءته لأعمال قطب والمودودى، وخبرة المعلقات- أن يجذب الأطفال الضائعين فى دولة العالم الثالث المستقلة الذين اقتنعوا فى لواقع بأن الحياة أصبحت لا تطاق .
والعرف الاجتماعي السائد داخل جماعة شكري مصطفى هو خليط من النفايات التى تعبر، حتى فى أكثر صورها التزاما، عن ارتباكهم إزاء التغيرات المؤلمة التى أفرزتها الحياة العصرية وعلى الرغم من ذلك، ويبدو أن تحديد هوية الخلل الاجتماع يصبح أكثر وضوحا، وأصالة وإبداعا عندما تجسده مقولات شكري مصطفى الإسلامية أكثر مما تعبر عنه اللغة الجافة للماركسيين المصريين.
والزواج كما مارسته جماعة المسلمين أحد الأمثلة ذات الدلالة الواضحة على هذا التناقض الواضح. فقد لاحظ شكري أن الزواج فى المدن المصرية نتيجة للظروف السابق شرحها لابد أن يأتي فى سن متأخرة وأن الشباب يعانى من ذلك أشد المعاناة.
ومن ثم فقد أعاد ترسيخ مفهوم الزواج المبكر بين أعضاء الجماعة بالشكل الذى يتم به فى القرى المصرية. لكن الجماعة نظمت فى نفس الوقت زواج أعضائها، وكان شكري نفسه هو الذى يملك هذا القرار ويفرضه على الزوجين.
وقد عبرت لغة شكري مصطفى ، رغم أنها قد تبدو لغة متحجرة بالنسبة للمراقبين الغربيين، عن الحاجات التى حركت مشاعر المسلمين، الذين كانوا يتخبطون مثله، فى مجتمع يغوص تدريجيا فى هاوية التخلف.
ومثل هذا الوضع صعوبة بالغة لشكري الذى كان يوثر الصمت. إلا أن الموقف قد أصبح أبعد ما يكون عن السهولة، حينما التجأت الدولة للجيش . وليس هناك شك فى أن آخر انتصارات شكري مصطفى الذى اختاره الله ليقود المسلمين للطريق القويم، كان إجباره المجتمع العسكري على الخروج للنور ليحمله وزر استشهاده.
موت عالم
لم تكن جماعة المسلمين التيار الإسلامى الوحيد بأي حال من الأحوال ، ولم تكن حتى الجماعة السرية الوحيدة للمعارضين الإسلاميين .
وكان موقف شكري من جماعة الإخوان المسلمين وأتباعهم فى مجلة"الدعوة"موقفا واحد لا يتغير، ألا وهو العداء التام. لقد قدم نفسه فى الواقع كمعارض لخط الإخوان السائد، هذا الخط الذى وضعه المرشد العام حسن الهضيبي، مؤلف كتاب"دعاة لا قضاة"، وهو الذى نسب إليه أى إلى شكري مصطفى هذه الكلمات الفظة عن الإخوان : "إنني أتهم قادة الحركة الإسلامية هؤلاء بأنهم قادوا رجالهم إلى هلاكهم.. قادة الإخوان المسلمين الذين سلموا إخوانهم إلى جلاديهم، وأوصلوهم للمشانق، وللسجون وللخيانة العظمى ... لقد دمروا حياة رجالهم ، وعبثوا بهم دون أدنى مسئولية ..".
وفى واقع الأمر، كان هناك شك ضئيل فى أن ترد المرشد العام حسن الهضيبي وافتقاره للحس التكتيكي قد أتاح الفرصة للهجمة القمعية ضد الإخوان عام 1954 فى أن تحصد أجزاء أكبر من التنظيم . ومنذ ذلك التاريخ بذلت كل التيارات المختلفة فى الحركة، من ناحية أخرى جهودا مضنية حتى لا تترك نفسها عرضة لأي هجمة قمعية.
وبينما سعى الاتجاه الاصلاحى الذى التف حول مجلة الدعوة إلى اكتساب اعترافا بشرعية وجوده من النظام لكي يتجنب شبح المشانق والمعتقلات . آثر الاتجاه الراديكالي الذى استلهم عمل قطب الانسحاب من المجتمع أو التزام أقصى درجات السرية.
وباختياره الانسحاب من المجتمع ودفاعه عن نظرية"مرحلة الاستضعاف"حافظ شكري على حياة أتباعه دون أن يتهادن مع المجتمع الجاهلي بنفس القدر الذى انشغل به بهدفه البعيد أى إقامة الدولة المسلمة على أنقاض المجتمع الجاهلي .
ولم يكن شكري سوى الاحتقار لإستراتيجية الإخوان المسلمين الجدد الذين التفوا حول هيئة تحرير مجلةالدعوة فهو لم يعتبر الإخوان المسلمين ، وبدرجة أقل من سار على دربهم، جزءا من حركة الإسلاميين وقد قال لقاضى المحكمة العسكرية:"جماعة المسلمين هى الحركة الإسلامية الوحيدة التى وجدت منذ قرون. أما بالنسبة للإخوان المسلمين ، فإن الله لم يشد من أزرهم، وهذا برهان دامغ على أنهم لم يكونوا على حق ولم يكونوا حركة إسلامية رعية ، وعلى أن دعوتهم كانت محض خداع".
وعلى الرغم من إنكار كل من جماعة شكري وهيئة تحرير مجلة الدعوة لحق الأخرى فى الحديث باسم الإسلام ، فقد واجهت كل منهما الأخرى بشكل متقطع، إذ بينما عاشت الجماعة الأولى على هامش المجتمع ناورت الأخرى داخله.
إلا أنه كانت مع هذا صدامات وكانت أحيانا عنيفة بين جماعة المسلمين وجماعات إسلامية معارضة أخرى أكثر أو أقل منها شهرة. وهذه الصدامات أو ما يسمى بالتصفية الجسدية للمعارضين، كانت البوادر الأولى لميل جماعة المسلمين لاستخدام العنف.
وفى حقيقة الأمر، فإن جماعة أخرى من جماعات الإسلاميين هى التى بدأت باللجوء إلى العنف فى مصر السادات . هذه الجماعة هى جماعة"الفنية العسكرية"وقد تزعمها أحد الفلسطينيين الذى حاول أن يقود تمردا فى الكلية الفنية العسكرية فى أحد ضواحي القاهرة عام 1974 لاغتيال رئيس الدولة.
ووقائع هذه القضية ما زالت ضبابية حتى الآن، إلا أنها ذات أهمية قصوى لاعتبارات عدة. وأول هذه الاعتبارات أن هذا التمرد الذى تم إجهاضه كان بمثابة بروفة للهجوم المباشر الذى شنته جماعة الجهاد عام 1981 .
وثانيهما، أن هذا التمرد من صنع اتجاه فى حركة الإسلاميين يختلف تحليله للدولة وللمجتمع عن تحليل شكري لها. وأخيرا- ورغم أن هذا من باب التخمين فقط- فمن المحتمل أن تكون للأجهزة السرية فى البلدان العربية المعادية للتقارب المصري الأمريكي الذى أعقب حرب أكتوبر 1973 علاقة بقائد المجموعة.
وقائد هذه الجماعة، وصل إلى القاهرة فى نهاية 1971 ، وهو نفس الوقت الذى أفرج عن شكري فيه من المعتقل، وكان اسمه صالح سرية وقد ولد فى جزيم، قرب حيفا، عام 1933. وجزيم كانت أيضا مسقط رأس الشخصية الغامضة فى الحركة الإسلامية العربية : تقي الدين النبهانى ، مؤسس حزب التحرير الإسلامى .
وعلى الأرجح فإن سرية كان عضوا فى هذا الحزب، الذى أسس عام 1950 كرد فعل لهزيمة الجيوش العربية فى حرب 1948 فى فلسطين من جهة، ومن جهة أخرى لاغتيال حسن البنامؤسس الإخوان المسلمين ، عام 1949 .
وعلى خلاف الإخوان المسلمين الذين سعوا إلى نشر الدعوة بين الجماهير الإسلامية من أجل إنشاء المجتمع الإسلامى، قرر حزب نبهانى ضرورة الاستيلاء على السلطة السياسية أولا وذلك من خلال انقلاب عسكري بالقوة. ومن ثم فستقوم الدولة الإسلامية من أعلى. وبسبب أهدافه، منع الحزب قانونيا فى كل البلدان العربية، وطورد أعضاؤه فى كل مكان.
عاش سرية فى الأردن ، مثله مثل العديد من الفلسطينيين حتى سبتمبر 1970، إذ غادرها فى أعقاب انتصار بدو الملك حسين على الفدائيين الفلسطينيين فى الحرب الأهلية. وقضى بعد ذلك سنة فى العراق، إلا أنه أجبر على الفرار منها فى النهاية حيث حوكم غيابيا عام 1972 بسبب عضويته فى الحزب، ثم انتقل بعد ذلك غلى القاهرة ، حيث التحق فى الجامعة العربية (كان حاصلا على دكتوراه فى التربية).
وعقب وصوله إلى القاهرة ، بدأ سرية فى التردد على الإخوان المسلمين خاصة المرشد العام حسن الهضيبي (الذى توفى عام 1973) وزينب الغزالي باسيوناريا الحركة التى كسب ثقتها، وخاض معها مناقشات عديدة. فى نفس الوقت الذى بدأ فيه فى تكوين مجموعة من الشباب، كان معظمهم من الطلاب فى القاهرة والإسكندرية.
وعلى عكس شكري لم يؤسس سرية مجتمعا مضادا ولم ينظم أى هجرة لأعضاء جماعته لشقق القاهرة المفروشة. بل استمر أتباعه فى ممارسةحياتهم العادية، حتى لا يلفتوا نظر السلطة إليهم. وعلى أي حال، فهم لم يقروا بأن المجتمع المصري بأكمله مجتمع جاهلي، لكنهم اقتنعوا فى المقابل بأن الحاكم الظالم وحده هو الذى يقف عقبة أمام انتشار النمط الإسلامى فى المجتمع.
وبتنظيمهم لجماعة من المتآمرين ، تحين سرية وأتباعه أفضل اللحظات الملائمة لتنفيذ انقلابهم. واختاروا لذلك يوم 18 أبريل 1974 وكان من المفترض فى هذا اليوم، أن يسيطر عدد من المتآمرين من طلبة الكلية الفنية العسكرية بمصر الجديدة، على مخزن السلاح الموجود بالكلية، ويهاجمون به موكب رئيس الجمهورية، الذى كان من المفترض مروره بالقرب منها ويقتلون السادات .
وقد بدءوا بالفعل فى تنفيذ خطتهم، إلا أن المؤامرة أحبطت داخل الكلية حينما فتح حراسها النار على المتآمرين ورسميا ، حملت الأجهزة ليبيا مسئولية هذه المؤامرة، وعقدت لهم محاكمة حكم بعدها على اثنين من المتهمين، سرية وساعده الأيمن كارم الأناضولي، بالإعدام شنقا. وحكم على تسعة وعشرين آخرين بالسجن وأفرج عن ستين متهما.
وقد بذلت الحكومة جهودا مضنية لإثبات تورط عناصر أجنبية فى المؤامرة، تلك المؤامرة التى فاجأتها على حين غرة بانبثاق مفاجئ لعنف الإسلاميين فى الوقت الذى كانت قد أفرجت فيه عن كل أعضاء الحركة الذين اعتقلهم عبد الناصر وفى الوقت الذى كانت فيه حركة الإسلاميين تنمو باضطراد فى الجامعات- بمباركة السلطات ، كما سنرى بعد قليل.
وهكذا فإن السجون ما أن أخليت من سجناء عبد الناصر الإسلاميين ، حتى امتلأت ثانية بسجناء السادات الإسلاميين . وعلى الفور أصبح"شهداء"الحركة الجدد موضع احترام الجماعات السرية الأخرى للإسلاميين ، حيث انضم أحد قادة"مجموعة الفنية العسكرية"وهو طلال الأنصاري، إلى جماعة المسلمين أثناء سجنه.
ومن ناحية ثانية حاول أحد أتباع سرية المفرج عنهم، وهو حسن الهلاوى استمالة بعض أنصار شكري لتأسيس مجموعته الخاصة. وقد أعطى هذا الجو الذى تفتت فيه حركة الإسلاميين إلى فرق متنافسة بالإضافة غلى الأحداث التى وقعت بين هذه الفرق الفرصة للبوليس للتدخل فى الشئون الداخلية لحركة الإسلاميين .
وفى نوفمبر 1976 قرر قادة جماعة المسلمين الرد على عدد من الأعمال التى أحسوا أنها تهدد سلطاتهم. حيث خطط الهلاوى لاستمالة عدد أكبر من أعضاءهم . وجاء التهديد الأكثر جدية، من رفعت أبو دلال ، الذى كان مسئولا عن الإعداد البدني فى جماعة شكري، والذي انشق عن الجماعة آخذا معه العديد من الأعضاء.
وقد بدأت الحملة التأديبية"لتأديب المرتدين"بالهجوم على منزلي الهلاوى وأبو دلال فى 18 و 22 نوفمبر. حيث اعتبر شكري أن ما حدث مسألة داخلية، وتوقع أن تدعم هاتان العمليتان التماسك الداخلي للجماعة من خلال إثناء المعارضين عن الخروج من الجماعة مستقبلا.
لكن بلجوئه لمحاولة قتل اثنين من المواطنين ، سمح للسلطات القضائية بأن تتولى القضية، وجلب على نفسه هجمات الجاهلية أثناء مرحلة الاستضعاف فتدخل البوليس لكي يضع حدا لحملته"لتأديب المرتدين"واعتقل أربعة عضوا من أعضاء الجماعة. وصدر أمرا بالقبض على شكري نفسه بعد ذلك.
كان هذا هو ما ميز بداية المواجهة بين الدولة وجماعة المسلمين ، هذه المواجهة التى انتهت بتدمير الجماعة وإعدام قادتها. ويصعب حتى الآن إدراك السبب الذى دفع بشكري إلى المغامرة بهذه المواجهة. فربما اعتقد أن التعدي على سلطاته من قبل بعض الاتجاهات المناوئة له كان تحديا لا يمكن السكوت عليه ويهدد مستقبل جماعة المسلمين. وربما اعتقد أيضا بأن البوليس لن يتدخل.
وحتى دور البوليس فى هذه القضية ما زال غامضا، فليس من الصعب اشتراك الهلاوى وأبو دلال فى مؤامرة لجر شكري إلى هذا الشرك. وعلى كل حال ، فمن المعروف أن المباحث المصرية كانت على اتصال بالرجل الثاني فى جماعة المسلمين ، ماهر بكرى الذى أيد التعاون بين الجماعة ومباحث أمن الدولة فى مواجهة الفرق الأخرى فى حركة الإسلاميين ، وعلى الأخص دعاة الفتنة والمعجبين بسرية .
وعلى الرغم من اعتباره الدولة المصرية دولة جاهلية، إلا أن رأى شكري فى العلاقات اليومية مع الدولة كان أقل حدة من الناحية النظرية :"ليس هناك شك فى أن نظام السادات أحسن ألف مرة من نظام عبد الناصر ، فعبد الناصر لم يسمح لنا بأن نعمل كما نعمل الآن، ولا بأن نمارس دعوتنا بشكل علني". ورد أحد رفاق شكري المقربين على ذلك بأنه بينما كان عبد الناصر يضرب الحركة بالمطرقة، فإن السادات يخنقها بخيط من الحرير.
أى أن قادة الجماعة لم يكن لديهم إذن تكتيكا واضحا لعلاقتهم بالدولة، وتشبثوا بدلا من ذلك بإستراتيجيتهم العامة، أى الانسحاب من المجتمع ، الهجرة منه، خلال مرحلة الاستضعاف . وفى هذا السياق فوجئوا على حين غرة بالقبض على أربعة عشر عضو منهم، كما فوجئوا كذلك بالاتهام الذى وجهته جريدة الأهرام اليومية حسنة الاطلاع فى صور صفحتها الأولى"جماعة المجرمين المتعصبين المتطرفين".
وخلال الأشهر الستة الأولى من عم 1977 ، طالب شكري دون هوادة بالإفراج عن الشهداء الأربعة عشر، فى نفس الوقت الذى عرضت الصحف فيه على قراءها صورة دقيقة لجماعة المسلمين.
ومن ثم عبء شكري كل طاقات جماعته، حيث قرر أن الجماعة قد دخلت الآن مرحلة"البلاغ العام". فأرسلت الجماعة إلى الجرائد عدة بيانات وحاولت تسليم عدة بيانات أخرى لمراسلي الإذاعة والتليفزيون. وأراد شكري أن يصدر كذلك كتيبا قام بكتابته ، وأسماه"الخليفة"إلا أن شيئا من هذا لم يتم إنجازه، وتهددت بالتالي مصداقية شكري داخل الجماعة مرة ثانية.
وعليه فقد قرر أنه بحاجة إلى"ضربة معلم"يستعيد بها سلطته، وفى نفس الوقت تشكل تحديا مباشرا للدولة. "فقام بعض أعضاء الجماعة الذين تنكروا فى ثياب البوليس، فى مساء 3 يوليو 1977 باختطاف الشيخ محمد الذهبي، وزير الأوقاف الأسبق وفى الصباح التالي، أصدروا بيانا أعلنوا فيه مسئوليتهم عن عملية الاختطاف وقدموا فيه المطالب الآتية:"
- الإفراج الفوري عن الإخوة المسجونين ، وعلى رأس هؤلاء طلال الأنصاري (وهو عضو فى جماعة الفنية العسكرية تم تجنيده منذ فترة قصيرة).
- العفو عن كل أعضائنا المحكوم عليهم بالسجن.
- يسلم إلينا 200,000 جنيه مصري نقدا .. دون علامات مميزة ، ونقودا مستعملة دون أرقام مسلسله.
- تعتذر لنا جرائد الأهرام والأخبار والجمهورية ومجلات آخر ساعة وأكتوبر ومجلة الأزهر عن الأكاذيب التى نشرتها عنا، وينسر هذا الاعتذار فى الصفحات الأولى.
- الأمر بنشر كتابنا الأول، وعنوانه"الخليفة"والجاهز للطبع الآن، وإزالة أى عقبات قد تقف أمام نشره بالصحف.
- تشكيل لجنة من الخبراء للتحقيق فى نشاطات الأجهزة التالية مكتب النائب العام فى محكمة أمن الدولة، القضاة ، المباحث العامة، مكتب النيابة فى المنصورة.
- يذاع هذا البيان فى نشرة أخبار الثامنة والنصف مساء 3 يوليو فى الإذاعة.
- ينشر هذا البيان فى الصحف المصرية اليومية الثلاث يوم الاثنين 4 يوليو، وينشر أيضا فى الصحف اليومية الآتية، البعث فى سوريا والنهار اللبنانية ، وفى صحف السعودية والكويت ، والأردن والسودان وتركيا وإيران ، كما تنشره أيضا النيويورك تايمز الأمريكية ، ولوموند الفرنسية، والصانداى تايمز والجارديان البريطانيين ، كل بلغته.
- وكمسلمين فإننا نلتزم بما نقوله وبالشروط التى وضعناها ، وفقا لما أمرتنا بع الشريعة.. (أعقب ذلك تهديد بقتل الرهينة لو بحث البوليس عنه أو لو ألقى القبض على الذين قاموا بتسليم هذا البيان).
والبيان نفسه عبارة عن مزيج غريب من المطالب قد يبدو بعضها مقنعا إلا أن البعض الآخر كان غير واقعي على الإطلاق فى مصر السادات ، مثل تشكيل"لجنة من الخبراء"للتحقيق فى نشاطات المباحث العامة. والأخيرة تشير إلى القصور فى إدراك شكري للفهم الصحيح والفعال لأجهزة الدولة.
ونظرا لأن عملية اختطاف الذهبي كانت قد تمت أثناء زيارة كان يقوم بها السادات للمغرب. فقد رفض القادة السياسيون الباقون فى مصر التعامل مع جماعة المسلمين . وبالتالي كان شكري ظهرة للحائط مرة أخرى، فأعدم الرهينة ووجدت جثته فى 7 يوليو .
وقد عمت البلاد غضبة شديدة ، عملت الصحف على تضخيمها . وخلال عدة أيام القي القبض على معظم أعضاء الفرقة فى حملات بوليسية جارفة. أعقبها قرار السادات بتقديمهم لمحاكمة عسكرية خاصة.
وقد أثار تكليف محكمة عسكرية وليس مدنية بالنظر فى هذه القضية، رغم عدم انتساب أحد من المتهمين للقوات المسلحة ، بعض الجدل. وكان تولى المحكمة العسكرية إذن للقضية وفقا للقانون قد أضر بهيئات أخرى حاولت التصدي لجماعة المسلمين مثل هيئة العلماء، التى احتلت من ثم مكانة ثانوية.
والذي تولى عرض وجهة النظر الرسمية فى شكري وجماعته للصحف وللجهور، كان المدعى العام العسكري، اللواء مخلوف بينما لم يسمح لشيخ الأزهر أعلى سلطة إسلامية في مصر ، حتى بالإدلاء بشهادته أمام المحكمة : وبمعنى آخر ، لم يستمع أحد إلى رأي الهيئة التي كان الضحية ينتسب إليها ، أي العلماء .
"وفي حديثه الأول لجريدة الأهرام" ، أوضح اللواء مخلوف أن"السبب في إحالة القضية للقضاء العسكري هو أننا الآن في فترة العطلة السنوية للمحاكم والتي تنتهي في أغسطس ومثل هذه القضية الخطيرة التي تهز الرأي العام لابد وأن ننجز بالسرعة الواجبة والقضاء العسكري ليس فيه إجازات قضائية". وقد تمت التحقيقات الأولى حقيقة بسرعة كبيرة . وأصبحت التحقيقات منتهية فعليا في 27 يوليو رغم وجود عدة مئات من المتهمين .
"وفي لقاؤه الثاني مع الأهرام".هنأ اللواء مخلوف نفسه على الإنجاز الرائع لهذه المهمة ، وطمئن أي قارئ قد تثور لديه أدنى الاعتراضات"فكل الضباط الذين شاركوا في التحقيقات لديهم بحد أدنى درجات علمية في القانون ، إن لم تكن الدكتوراه"، وبدأ في شرح المنهج الذي اتبعه المحققون العسكريون في تعاملهم مع قضية جماعة المسلمين ، ذلك المنهج الذي ستتضح معالمه من خلال الاتهام وهذا سيملي حقيقته الخاصة وتحليله الخاص للمسألة ، وأسبابها ، والحلول اللازمة .
كان شكري ، كما أوضح اللواء مخلوف دجالا . لقد زعم أنه يفسر القرآن والحديث ، إلا أن معرفته بهذا المجال لم تتعد معرفته بقواعد النحو ، التي كان جاهلا بها تماما ."للإفتاء في الإسلام شروط .... أهمها التعمق في معرفة أصول لغة القرآن ثم التفقه في الدين ومعرفة أحكام القرآن .. ولا يتوافر شرط واحد منها في زعيم التكفير والهجرة".
و"لم يكن يعرف حتى عام 1965آية واحدة من آيات القرآن ... وعندما دخل المعتقل في ذلك العام أخذ يقرأ بعض الكتب التي تنطوي على منحرفة ... ثم خرج عام 1971 ليدعي أنه على علم بالقرآن والسنة يأخذ منها ما يشاء ليضلل أتباعه باسم الدين .. وفيلسوف الجماعة والذراع الأيمن لزعيمها ـ ماهر بكري ـ نجده شابا لم تتعد ثقافة الثانوية العامة ..".
وفي رده على سؤال حول كيفية تمكنه من السيطرة على هؤلاء المثقفين أجاب مخلوف"بعض الأتباع ثقافتهم لا تخرج عن مخصص من التخصصات لجامعية كالهندسة والطب مثلا .. فهم يعانون من الفراغ الديني". وسبب هذه الكارثة أشار إليه اللواء مخلوف فقط عندما ألقى بيانه العلني في أكتوبر 1977 :"الشباب لم يتربوا تربية دينية".
والحل الذي قدمه هو : تربية الشباب دينيا ، من المرحلة الابتدائية حتى مستوى الجامعة ، بجعل المواد الدينية مواد إجبارية ، ويكمل هذا جزئيا الصحفيون ، والمؤلفون ، ورجال الأدب الآخرون لشرح وصيانة الدين الإسلامي في كتاباتهم . أما بالنسبة للعلماء فقد ذكر الاقتراحين التاليين لتنبيههم إليها : "على الأزهر ووزارة الأوقاف بحث القصور في الدعوة الإسلامية . والبحث عن أسباب ذلك القصور ، وكذلك أسباب نضوب المصادر التي تروي حقول التعليم الديني".
و"الخطوات التي يجب اتخاذها لرفع مستوى خريجي الأزهر في مجال الدعوة والإرشاد ، لكي يكونوا قادرين على ملئ الوظائف الشرعية التي يشغلونها ، بالأسلوب السهل الذي يسمح لهم بالوصول إلى قلوب وعقول الشباب".
كان هذا هو موقف المؤسسة العسكرية من جماعة الإخوان المسلمين : فشكري ، دجال مجرم سعى إلى قلب نظام الحكم ، وكان قادرا على خداع الشباب بإخفائه لمشاريعه الآثمة تحت عباءة الدين ، وهذا ما كان ممكنا لولا الفراغ الديني الذي عانى منه الشباب نظرا لعجز الأزهر .
فقد فشل العلماء في هذه المهمة . وقد وجد العلماء أنفسهم في موقف لا يجدون عليه . ليس بسبب انتماء الضحية لصفوفهم ، بل لأنه بينما اعتبرتهم جماعة المسلمين مجرد"كلاب السلطان"، و"ببغاوات المنابر"، اتهمتهم المؤسسة العسكرية بالتقصير .
لم يختار شكري الشيخ الذهبي عفويا ، بل اعتبره مسئولا عن تلفيق تلك الصورة السلبية لجماعة المسلمين .فالشيخ الذهبي كتب في يوليو 1975 ، بينما كان ما يزال وزيرا للأوقاف ، مقدمة لكتاب رسمي موجه ضد الجماعة . وقد نسب فكر الجماعة في هذا الكتاب ثانية إلى الخوارج ، وهذا الرأي هو صورة طبق الأصل من معالجة المؤسسة الدينية الإسلامية الدائمة لأي ظاهرة جديدة وهامة .
فبدلا من إعطاء هذه الظاهرة ما تستحقه من تحليل حتى تتمكن الدولة من فهمها جيدا وبالتالي تعمل على الحد من تأثيرها بشكل أكثر فعالية ، لم ينجح الشيخ الذهبي إلا في تركيز عداء شباب الإسلاميين على العلماء .
وهكذا أثبتت المؤسسة الدينية الإسلامية للنظام السياسي أنها لم تكن هي المؤسسة التي يعول عليها القدرة على تأدية الدور المرتقب منها : أي تربية الشباب دينيا ، أو بمعنى آخر ، التأكد من أن سلوك المسلم يصبح قوة لتوحيد المجتمع وليس نمطا للتعبير عن الثورة ضد العلماء .
وكان تحجر العلماء بمثابة تاريخا مشهورا نسبيا يرجع إلى عصر محمد علي في بداية القرن التاسع عشر . وقد سعى نظام ناصر ، بإصلاحه للأزهر عام 1961 وما أعقب ذلك في العام التالي بإصلاحه لوزارة الأوقاف ، لأن يجعل هذه المؤسسات منفتحة على المجتمع ، وبالتالي تصبح هذه المؤسسات قادرة على العمل بشكل فعال كأدوات أيديولوجية النظام إلى الجماهير .
إلا أن العلماء ، الذين تباطئوا في أداء مهمتهم عامدين كما كانوا يفعلون في القرن الماضي ، عارضوا إصلاحات الستينات وسعوا إلى الحفاظ على مكانتهم الخاصة . تجنبا لأن يصبحوا مجرد موظفين دينيين في الدولة .
وكان هذا ثمن محافظتهم على مصداقيتهم الشعبية ، وفي المقابل ، فإن السلطة لم يكن لديها ، على الرغم من ذلك ، ثقة كاملة بهم : والحق يقال ، فقد خدم العلماء الدولة ، إلا أنه لم يكن لديهم أدنى نية لأن يتلقوا تعليمات لأداء واجبهم . وفي هذا السياق يمكننا أن نفهم موقف شيخ الأزهر في قضية الشيخ الذهبي، وأيضا موقفه من المعارضين الإسلاميين من ذلك النوع الذى عبرت عنه جماعة المسلمين.
وكان الشيخ عبد الحليم محمود فى لندن، فى الفترة من الثالث إلى السابع من يوليو 1977 . ولم تظهر مساهمته فى الحملة الصحفية ضد جماعة التكفير والهجرة إلا فى 16 يوليو فى جريدة الأهرام. ورغم أن الإمام الأكبر كان معارضا لأفكار الجماعة، إلا أنه قد أرجع سبب الظاهرة رغم ذلك إلى أن السلطة السياسية فى مصر قد شغلها لفترة طويلة رجال لم تتأصل فلسفتهم السياسية بالثقافة الدينية للبلاد.
وهذا ما يفسر وصف هذه الجماعة الحائرة من الشباب للمجتمع بالجاهلية ، إلا أن هذا لم يكن منهج المدعى العسكري فى تعامله مع هذه القضية، حيث قال على خلاف ذلك إن الفرقة قد تسترت تحت عباءة الدين لكي تخفى جرائمها. ورفضت المحكمة طلب محامى شكري، الذى تقدم به فى بيان علني فى جرائمها. لاستدعاء عبد الحليم محمود للشهادة أمام المحكمة، وبالتالي فقد تم التعتيم على موقف الأزهر من جماعة المسلمين.
والدولة لم تكن لتسمح بأن تصبح الأصول العسكرية للنظام الذى أقامته ثورة 1952 موضوعا للنقاش فى ساحة المحكمة. ومن ثم فإن صوت واحد هو الذى انفرد بإدانة نشاطات شكري وأيديولوجيته . وكان على شيخ الأزهر إذن أن يلزم الصمت ويترك للمدعى العسكري حق إصدار الحكم بإدانة شكري على هواه.
إلا أن نشر حيثيات الحكم فى 21 مارس 1978 وضع العلماء ثانية فى قفص الاتهام، حيث اتهمهم بالفشل فى أداء مهمتهم، أي فى تربية وتثقيف الشباب دينيا . فأصدر الشيخ عبد الحليم محمود، الذى غضب بشدة بيانا ليرد به على هذا الاتهام، وقد حظي هذا ا لبيان باهتمام واسع فى الصحافة العربية، رغم أن هذا لم يكن حال الصحف المصرية.
واتهم الشيخ فى بيانه المحكمة العسكرية بالعجز لأنها لم تميز بين اغتيال الذهبي من ناحية وبين أفكار شكري من ناحية ثانية. وأكثر من هذا فقد أشار الشيخ إلى أن المحكمة لم تسع إلى اشتراك الأزهر فى عملها هذا سيء الطالع ، أي أن المؤسسة الدينية كانت تتوقع إذن تجريما لفكر شكري – ولمجرد كلام قليل عنه، دون أن يسمح للعلماء بالاطلاع على أعمال المتهم أو مقابلة مؤلفها. لكن فى بلد تسود فيه حرية الرأى ، تلك الحرية التى يستفيد منها حتى الملحدون والشيوعيون أنفسهم، لم يكن من وظيفة الأزهر أن يجرم فكرا"فى السر".
ويعكس العنف الشديد لمقالة شيخ الأزهر الموقف المحرج الذى وجد العلماء فيه أنفسهم ، حيث حظيت وجهة نظر الجيش بالتأييد دون وجهة نظرهم فى مجال هو مجال تخصصهم ، أى فى تحديد معنى الانحراف الديني. فثورة التصحيح كان قد مضى عليها ست سنوات، تلك الثورة التى أعاد فيها السادات سيادة القانون وأعاد الدور العادي للمؤسسات، أى أن النظام لم يكن مضطرا، إلا فى عهد عبد الناصر، لاستدعاء الجيش ، المؤسسة الوحيدة التى كان ولائها فوق كل الشبهات.
كانت جماعة المسلمين إذن ظاهرة فريدة فى مصر السادات . فبتنظيم شكري لمجتمع مضاد للغرف المفروشة، سمح لأتباعه بأن يقيموا مدينتهم الفاضلة فى عالم سادت فيه القيم الاجتماعية المعكوسة وكانت ثورتهم العنيفة والفقيرة والمحرومة واليائسة من الجموح بحيث أصبحت قصة تروى، وهذا الخليط النظري المرتبك الذى تبنوه يحمل الطابع الحقيقي للأشياء التى كانوا يعانوا منها.
هذا الاتجاه فى حركة الإسلاميين أسدلت عليه ستائر النسيان. إلا أن إنجازاته وأخطاءه وفرت للآخرين غذاء فكريا، وخاصة لتلك الجماعة التى دبرت المؤامرة التى أدت لاغتيال السادات . فقد مضت تلك المواجهة التى حدثت بين الدولة وجماعة المسلمين على نظرية"مرحلة الاستضعاف"التى وضعها سيد قطب . وبالتالي فإن الإسلاميين الشبان الذين جاءوا بعد شكري اعتبروا أنفسهم قد تجاوزا لتلك المرحلة.
الفصل الرابع :مجلة الدعوة
بتأسيسه لجماعة المسلمين، أطلق شكري مصطفى العنان للمفاهيم التى قدمها سيد قطب فى كتابه"معالم في الطريق". لكن اتجاه آخر فى حركة الإسلاميين سلك سبيلا مغايرا، حيث حاول على العكس من ذلك الحد من شطحات"معالم في الطريق"تلك الشطحات التى طاشت سهامها فى اتجاهات عدة، وأن يقصر رسالة حركة الإسلاميين على الطريق الذى رسمه حسن البنا ، مؤسس الإخوان المسلمين.
والبداية المبكرة لهذا الاتجاه تعود إلى عام 1969 ، عندما أصدر حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين ، كتابه"دعاة لا قضاة". وقد التف"الحرس القديم"من قادة الإخوان الذين ثبتوا على أفكارهم ولم يهربوا خارج البلاد، والموجودون فى هذا الوقت فى معتقلات النظام، حول هذا الاتجاه .
وعقب إطلاق السادات لسراح الإسلاميين ، التم شمل الحرس القديم ثانية وقدموا طلبا للدولة لكي تمنحهم اعترافا شرعيا. ومع أن السادات لم يوافق مطلقا على إعادة تكوين جماعة الإخوان المسلمين، إلا أنه منحهم رغم هذا عام 1976 تصريحا بإصدار مجلة شهرية، ومن ثم ظهرت مجلة"الدعوة"، بانتظام حتى سبتمبر 1981 ، حينما فرض الرئيس حظرا على كل المجلات والصحف غير الحكومية وذلك قبل شهر واحد من اغتياله.
وقد أصبحت هذه المجلة لسان حال الجناح الاصلاحى فى حركة الإسلاميين ، وعبرت عن مواقفه من القضايا الاجتماعية، والسياسية والاقتصادية والدينية أمام الرأى العام، وكانت كذلك بوقا لنشاطات الحركة المختلفة فى أفضل مجالاتها . وبالتالي فإن قراءتها ستسمح لنا بأن نتتبع رؤية الإسلاميين للأحداث من شهر لآخر، لكي ندرك الأحداث العالمية كما صورتها هيئة التحرير لقرائها فى مختلف أعمدتها.
والدعوة لم تكن المجلة الإسلامية الوحيدة التى كانت تصدر خلال ا لعام الأخير لنظام السادات ، فقد نافستها دوريتان أخرتان فى الوصول إلى القراء، لكن دون أن تشكلا أى خطوة حقيقية عليها. كانت الدورية الأولى هى"الاعتصام"ـ وأخذت اسمها من الآية القرآنية"واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا"وقد ظهرت منذ عام 1936 حتى سبتمبر 1977 وكانت لسان حال الجمعية الشرعية الإسلامية التى أسسها الشيخ محمود خطاب السبكى لبناء المساجد فى أنحاء مصر.
واهتم رئيس تحريرها أحمد عاشور بأن يفتح أبواب جريدته لشباب الكتاب المنتمين لدوائر الإسلاميين غير السرية. حيث أدخل تحسينات كثيرة عل تصميمها ، محولا إياها إلى مجلة. ومع أنها كانت فى بعض الأحيان أكثر جذرية أو ذات لهجة أعنف من"الدعوة"إلا أنها لم تصل إلى مستوى مناقشتها بأى درجة سواء من حيث مدى انتشارها أو من حيث انتظام صدورها.
وخر هذا الثالوث ، كان"المختار الإسلامى"وهى عبارة عن ترجمة إسلامية لطبعة باللغة العربية لمجلة readers digest ، وقد تطابقت معها من حيث التصميم وترتيب المواضيع. واستهدفت مقالاتها الوثائقيةوالعميقة قراء ذوى ثقافة عالية أكثر من منافستها. وقد اهتمت بدرجة أقل مباشرة بالقضايا المحلية، ومالت بدلا من ذلك إلى التركيز على التيمات الإسلامية الشائعة. وقد ظهرت بشكل شهري لمدة سنتين، من يوليو 1979 وحتى سبتمبر 1981 عندما صودرت.
لم تكن"الدعوة"إذن الدورية الإسلامية الوحيدة، إلا أنها ظهرت بانتظام تام لما يقارب الخمس سنوات بمحتوى ثابت لا يتغير، وحيث تكون عمودها الفقري من عدد من القسمات الدائمة. وعلاوة على ذلك فإنها قد عبرت عن آراء الاتجاه الأكثر"إصلاحية"والأقل"ثورية"فى حركة الإسلاميين ، والذي كان قادته إخوان مسلمين ناضجين وبشكل عام أكبر سنا من أنصار شكري مصطفى. وعلى الرغم من أن جذر الدعوة قد مكنها من الاستمرار لمدة خمس سنوات، إلا أنه قد كفل أيضا لجماعات الإسلاميين تدخلا نشيطا فى المجالات التى لم تتجاسر "الدعوة"أبدا بالخوض فى مناقشتاها، وبدرجة كبيرة فى مواجهة"الدعوة"نفسها.
وكانت الدعوة قبل أن يستولى الضباط الأحرار على السلطة عام 1952 مملوكة لصالح عشماوي . وبعد عام 1953 عندما أدى اختلافه مع المرشد العام حسن الهضيبي إلى انشقاقه عن جماعة الإخوان المسلمين ، حول عشماوي دوريته إلى مجلة إسلامية مستقلة. وقد نظر عبد الناصر بعين الارتياح إلى ظهور الانشقاق الداخلي فى الإخوان، هذا الانشقاق الذى أضعف قيادة الجماعة.
ومن ثم تم استثناء الدعوة وصاحبها من محنة القمع التى تعرض لها الإخوان بداية من نوفمبر 1954 . وفى واقع الأمر فإن الدعوة استمرت فى الظهور بشكل متقطع خلال عهد عبد الناصر. وكانت عبارة عن عدد قليل من الصفحات، وذلك لكي تحافظ على وضعها القانوني بالنسبة لقوانين النشر.
وفور أن عزز السادات من سيطرته على مقاليد السلطة عام 1971 ، أفرج عن بعض المعتقلين الإسلاميين المحتجزين . وبينما عاد شكري مصطفى إلى أسيوط ليشكل جماعة المسلمين السرية، ذهب عمر التلمساني المحامى ورئيس تحرير مجلة الدعوة بعد ذلك وأحد المقربين جدا من المرشد العام حسن الهضيبي، إلى قصر عابدين لكي يسجل فى سجل التشريفات شكره الشخصي وشكر أصدقاءه للرئيس للإفراج عنهم.
وعلى الرغم من ذلك، فإن آخر الإخوان المسلمين المسجونين ، لم يطلق سراحه حتى 22 مار 1975. وفى 8 يوليو من هذا العام صدر عفو عام شمل هؤلاء الذين حكم عليهم بالسجن بسبب أفكارهم السياسية قبل 15 مايو 1971، وهو يوم"ثورة التصحيح"الذى أبعد فيه السادات منافسيه فى المؤسسة السياسية. إلا أن المتهمين فى قضية الفنية العسكرية قد حلوا على الفور محل الإخوان المسلمين المفرج عنهم وراء القضبان، حيث كفل هذا وجودا دائما للمجاهدين الإسلاميين بين نزلاء السجون المصرية .
وقد استمر السادات فى الضغط على الإخوان المسلمين من خلال سياسة الإفراج التدريجي عن السجناء الإسلاميين . وعلى الأرجح أنه كان يأمل بهذا ان يقنع الإخوان بتأييد سياسته، لكن الإخوان يزعمون أنهم تجنبوا هذا الفخ واستمروا فى رفضهم التعهد بالولاء للسادات . وكما كتب عبد الرحمن خليفة"رفض حسن الهضيبي أن يسمح للسادات بأن يستخدم الإخوان أو يستخدمه هو شخصيا فى مناوراته".
"وفى الواقع فإن الرئيس كان يريد منهم تأييد نظامه، ليسمح لهم بالمقابل بأن يعمل كل عضو فى الإخوان المسلمين خوفا من أن هذا قد يؤلب المعارضة على الحكام أو يشكل ضغطا على النظام لكي يحكم باسم الإسلام".
وعقب وفاة الهضيبى عام 1973 ، ورغم أنه لم يتم إشهار خليفة سمى له كمرشد عام، إلا أن التلمسانى أصبح الشخصية العامة الرئيسية فى صفوف جماعة الإخوان المسلمين فى مصر . وفى عام 1976 التقى صالح عشماوي الذى كان قد طرد من الجماعة عام 1953 بالتلمسانى ووضع الدعوة تحت تصرف الإخوان.
ومن ثم تم عمل تصميم جديد للمجلة، وعهد بتمويلها إلى الشركة الإسلامية للنشر والتوزيع، التى احتل التلمسانى منصب رئيس مجلس إدارتها. ولم تبذل الحكومة أى جهد لعرقلة هذه الصفقة، وصدر"الدعوة"لأول مرة فى شكلها الجديد فى يوليو 1976 .
وفى مقابلة تمت بعد ذلك بعدة سنوات، أجاب التلمسانى على الذين اتهموا الإخوان بأنهم قد عقدوا صفقة مع النظام بما يلي:"الدعوة صدرت فى الأربعينات وليس للرئيس السادات فضل فى إعادة إصدار مجلة الدعوة لأن الأستاذ صالح عشماوي كان حريصا على إصدار المجلة بصفة مستمرة ولكنها كانت تصدر متواضعة. فكان يصدرها فى صفحتين أو ثلاث، محافظة على التصريح والرخصة".
ولم يقنع هذا الدفاع الذى أبداه المحامى الكهل، رغم ذلك ، مثقفي اليسار المصري. حيث كتب أحدهم فى سبتمبر 1976 وهو المؤرخ عبد العظيم رمضان، فى مجلة روز اليوسف الأسبوعية ، يتهم"الاتجاه الرجعى داخل الإخوان"بأنه كان مسئولا عن هذه المجلة التى تفسر الإسلام"هذا الدين التقدمي"بشكل مغلوط. واستطرد عبد العظيم رمضان أن الإخوان قد واجهوا اختيارا حاسما :"إما الوقوف فى صف الجماهير العريضة، مع الشيوعيين والناصريين ، أو أن يتحالفوا مع الأعداء الصهاينة والولايات المتحدة".
وبغض النظر عن الاتهامات المختلفة وعن ردهم عليها فإن الحقيقة تظل أن الجزء الأكبر من المجلة كان من نصيب الإخوان الأوائل الذين أبعدهم المرشد العام عام 1953 بسبب دعوتهم للتعاون مع ا لنظام، لم يكن صالح عشماوي وحده بل كان هناك أيضا محمد الغزالي، والذي كان يتبوأ منصبا هاما فى الهيئة التنظيمية بوزارة الأوقاف المصرية فى أوائل السبعينات، فى نفس الوقت الذى كان يعمل فيه فى المملكة العربية السعودية .
كان هؤلاء إذن ، إخوان مسلمين من نوع جديد. فقد عملوا باسم تراث الحسنين (البنا و الهضيبى) ، إلا أنهم أثبتوا عجزهم عن إعادة بناء تنظيم يستعيضوا بع عن التدمير الذى ألحقه عبد الناصر بالإخوان عام 1954 ، كما أن دورهم فى الساحة السياسية الاجتماعية المصرية فى السبعينات ظل دورا هامشيا.
وبالتالي فإننا يمكننا الزعم بأن تسمية الإخوان المسلمين يجب أن تظل قاصرة على جماعة الإخوان المسلمين، أما هذا الاتجاه الذى كان يقف خلف مجلة"الدعوة"فيجب تسميته بالإخوان المسلمين الجدد. وهذه التسمية المثالية تشير إلى أنه على الرغم من أن الاتجاه الأخير كان فى واقع الأمر من صلب الأول، إلا أن جانبا هاما من تراثه قد اختفى رغم ذلك.
التمويل
متباهية فى ثوبها الجديد، أوضحت"الدعوة"التى أسمت نفسها الآن"صوت الحق، والقوة ، والحرية" فى عددها الأول (يوليو 1976) أنها ستدعو إلى الإسلام وتنادى بالقرآن ، وتطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية ، وهذا يعنى إلغاء مجموعة القوانين المدنية المصرية (التى استلهمت من القانون الفرنسي) واستبدالها بمجموعة تشريعات مستمدة من القرآن والسنة.
وقد احتلت المجلة مكانة مرموقة، وارتفع توزيعها بسرعة إلى 78,000 نسخة ، طبقا للبيان الذى قدمه مراجع حساباتهم، وفى يناير 1977 أصدرت عددا سعى لاجتذاب المعلنين . وفى واقع الأمر فإن المجلة نشرت الإعلانات منذ عددها الأول- ليس فقط تلك الإعلانات المتواضعة التى قدمتها المكتبات الإسلامية المختلفة، لكن أيضا إعلانات احتلت عدة أعمدة قدمتها شركات المواد الغذائية، ومستوردو وموزعو السيارات الأجنبية، ومستوردو الملابس الجاهزة.
وخلال عامها الأخير ثبتت"الدعوة"مساحة إعلانية استهدفت طبقة خاصة من أبناء الشعب وكان تأثيرها فعالا إلى الحد الذى دفع بنك مصر المملوك للدولة لأن ينشر إعلانا شغل صفحة كاملة فى ظهر غلاف عدد يوليو 1981 للإعلان عن افتتاح مشروع"فرع المعاملات الإسلامية"وتحت شعار"استثمر أموالك طبقا للشريعة الإسلامية .
وقد أوضح نص الإعلان أن المبلغ فى فرع المعاملات الإسلامية يفصل تماما عن كل الودائع الأخرى وأن الذى يشرف على شرعية المعاملات المالية أحد علماء الأزهر وبالتالي فإن العميل الذى يختار أن يستثمر أمواله فى هذا الفرع لا يمكن أن توجه له تهمة الربا، التى ما زال العديد من المسلمين يستعملونها فى وصف القروض ذات الفائدة.
وبنك مصر كان أكثر شركات القطاع العام تباهيا بالإعلان فى الدعوة، ومع هذا فإنه لم يكن الوحيد فى هذا المضمار. وفى بداية الأمر، ومن ناحية ثانية، فإن معظم المعلنين قد جاءوا من القطاع الخاص، ومثلوا قطاعا عرضيا نموذجيا للنشاطات التى خلفتها سياسة الانفتاح ، التى اختارها السادات ونفذها وزيره عبد العزيز حجازي بداية من عام 1975 .
فمن حوالي مائة وثمانين صفحة من الإعلانات الملونة فى مجلة الدعوة ، اشترى 49 صفحة مقاولون وشركات عقارية، و52 اشترتها شركات لإنتاج الكيماويات ومواد البلاستيك و 20 صفحة لمستوردي السيارات ، و12 بنوك إسلامية وشركات استثمار، و45 صفحة اشترتها شركات منتجات غذائية. وقد اشترى ما يقرب من خمس المساحة الإعلانية شركات يمكن تصنيفها كشركات قطاع عام، والتي يديرها موظفو الدولة.
ونصف الأربعة أخمس الباقية قدمها ثلاثة معلنين فقط : الشريف للبلاستيك، وشركة مسرة للمقاولات، ومودرن موتورز، وهم مستوردون للسيارات اليابانية وهذا الشركات الثلاث كان يمتلكها إخوان مسلمين كونوا ثرواتهم فى المملكة العربية السعوديةخلال الأعوام الثلاثين السابقة واستثمروها بشكل مكثف فى مص منذ عام 1975 ، خاصة فى قطاعات الاستيراد والبضائع الاستهلاكية بشكل عام، والتي مكنتهم من تكديس أرباح لا يستهان بها بسرعة كبيرة دون أن يتقيدوا بتوظيف جزء كبير من رأسمالهم فى المعدات الثقيلة.
وهذا التداخل بين الإخوان المسلمين الجدد ودوائر أعمال معينة لم يقرها التلمسانى نفسه وذلك فى حديث صحفي على"النمط الأمريكي"أجراه مع صحفيي مجلة"المصور"الأسبوعية المصرية فى يناير 1982:
- "س: لا نعرف إن كنت تدرك أن معظم الانفتاح الموجود فى السوق المصرية اليوم قائم على أكتاف بعض قدامى الإخوان المسلمين الذين عاشوا فى المهجر وعادوا إلى مصر بثرواتهم؟
- جـ : أنا لا أشك فى أن بعض أغنياء الإخوان يساهمون فى مسائل الانفتاح الاستهلاكي وأنا لا أقر هذا ، فالانفتاح يجب أن يكون إنتاجيا أكثر منه استهلاكيا.
وبمعنى آخر، فإنه بينما كان شكري مصطفى يقوم بتمويل جماعة المسلمين من خلال إرسال أعضاء جماعية للعمل فى بلدان الخليج، كان الإخوان المسلمين الجدد يشقون طريقهم إلى البنية الاقتصادية لمصر السادات فى الوقت الذى كانت فيه كل قطاعات الاقتصاد المصري قد انقلبت إلى رأسمالية غير منظمة. فكان إذن بإمكانهم الاعتماد على دعم مادي لا يستهان به.
حتى أن المقاول عثمان أحمد عثمان ، روكفلر المصري، لم يخف تعاطفه مع الإخوان ، مع أنه اسمه لم يظهر سوى مرة واحدة على صفحات إعلانات مجلة الدعوة ، ومما لا شك فيه أنه كان سخيا مع هؤلاء الذين نشط فى صفوفهم خلال شبابه فى الإسماعيلية.
وكان بعض مجاهدي حركة الإسلاميين المرتبطين بمجلة الدعوة قادرين أيضا على أن يحصدوا ثمار قصورات معنية شابت النظام القضائي المصري مستغلين الخوف الذى ولدته نزعة العنف لدى الجماعات الإسلامية فى الجامعة (انظر الفصل الخامس) .
فقد أسس هؤلاء المجاهدون شركة تجارية فى الإسكندرية أسموها القادسية، على اسم المعركة المظفرة التى خاضتها الجيوش العربية الأولى ضد الفرس.
وبعيدا عن إعادة بيع السلع المستوردة، تخصصوا فى أحد الأشكال الشاقة الوفيرة الربح من التعامل فى العقارات فبعد أن ألغى السادات الحراسات التى كان سلفه قد فرضها على ملكية"الرأسماليين"استعاد الملاك الأصليون ممتلكاتهم قانونيا. إلا أنه خلال فترة الحراسة، قامت شركات التأمين التى كانت مسئولة عن إدارة هذه الممتلكات الموضوعة تحت ا لحراسة، رغم ذلك بتأجيرها أو حتى بيعها إلى سكان جدد (أو مشترين) .
وقد خلف هذا الوضع مأزقا قانونيا رهيبا. ورغم أن القضاء كان قد حكم لصالح الملاك الأصليين الذين سعوا لاستعادة ملكياتهم أو لطرد المستأجرين، إلا أنه لم يكن هناك قوة تنفيذية قادرة على وضع أحكام القضاء موضع التنفيذ. وبالتالي فإن الملاك الأصليين أصبحوا عاجزين طبيعيا عن استعادة أملاكهم.
وهنا تقوم الشركة بشراء تلك الاراضى أو المباني التى نحن بصددها بمبلغ يساوى تقريبا ثلث سعر السوق. وما أن يتم دفع المبلغ المتفق عليه وتصبح شركة القادسية هى المالك القانوني للعقار، يقوم المجاهدون الإسلاميون بزيارة شاغل المكان غير المرغوب فيه ويظهرون له ملكيتهم الجديدة ببناء جامع صغير.
وكان هذا كافيا فى الغالب لإقناع الحائزين الذين يصيبهم الهلع بأن يغادروا المكان دون أى ضجيج، لأنهم يصبحون أكثر رغبا من عصا الجماعات الإسلامية الغليظة وأكثر بكثير من خوفهم من التدخل البوليسي المحتمل، إذ أن بإمكانهم التفاهم مع أفراده ولن يجرؤ أحد بعد ذلك أن يشغل هذا المكان ، وبالتالي يصبح المكان شاغرا لكي يشغله أى عدد من مشاريع التنمية، تلك المشاري التى ستظهر إعلاناتها فى مجلة الدعوة .
تعطينا هذه المعلومات المتناثرة عن كيفية تمويل المجلة، مع ذلك ، رؤية انطباعية عن هذا التمويل فقط، تلك الرؤية التى لا تسمح باستنتاجات محددة، ومع هذا ، فإن الوسائل المختلفة التى استخدمتها جماعة شكري مصطفى من ناحية وأصدقاء التلمسانى منم ناحية أخرى جديرة بالملاحظة، وتمثل طريقتين لإدراك طبيعة المشاكل الاقتصادية للمجتمع المصري.
وكانت الدعاية التى قام بها الإخوان المسلمون الجدد إصلاحية أكثر منه ثورية أو راديكالية، وفى حالات عديدة كانت مرسومة لإعادة صياغة الهياكل القائمة فى شكل إسلامي دون أى فوران عنيف. ويتضح هذا تماما من قراءة كل أعداد الدعوة خلال فترة وجودها والتي استمرت أربعة وستين أسبوعا.
فرسان الرؤيا الأربعة : the four horsemen of the apocalypse
لسنا بحاجة هنا للتأكيد على أن"الدعوة"لم تكن من ذلك النوع من المجلات التى تنشر الأحداث ودون تعليق فتعليقات المجلة بتقسيمها للأحداث إلى نوعين الخير والشر ، وأحكامها المليئة بالدلالات وتقديراتها للموقف تمثل الجزء الأعظم من مساحة المجلة حيث تقدم لقرائها صورة ضخمة تمثل انتصار الإسلام كما يفهمه الإخوان المسلمون الجدد.
وتحدد أعداء الإسلام الذين فاقوا الحصر، واضحين أو مستترين ، هؤلاء الأعداء الذين يتتبعهم صحفيو المجلة ويقومون بفضحهم دون هوادة، يدفعهم لهذا حماسهم لكشف المؤامرات التى تحاك ضد الإسلام والتي لا تعد ولا تحصى.
وهذا الانقسام الذى شمل الوجود كله بين الخير والشر، بين الله والشيطان، سنسترشد به فى قراءتنا للمجلة، وهذا ما سيتيح لنا أن نعين بعض عناصر عملية تصنيف هيئة التحرير.
وقد دفعت رسالة الإسلام العالمية محرري الدعوة لأن يقوموا بعملية تذكير دائمة لقرائها بقوة العالم الإسلامى العددية، وأن يقوموا بنشر مقالات منتظمة حول هذا الموضوع. حيث خصص عمود شهري عنوانه"وطننا الإسلامى". ليقدم أخبار تلك المعركة المتعددة الأوجه التى تدور رحاها بين الإسلام وأعداءه الكثيرين.
ولكن رغم كثرتهم، يمكننا أن نختزل أعداء الإسلام إلى أربعة أنواع رئيسية، رغم اتحاد بعضهم أحيانا أو تكوين هجين من البعض أحيانا أخرى. وفرسان الرؤيا الأربعة هؤلاء هم"اليهودية"، و"الصليبية"، و"الشيوعية"، و "العلمانية".
ونلاحظ هنا أن"الامبريالية"هذا المصطلح الشامل الذى حدد مبدأ الشر المطلق خلال عهد عبد الناصر ، واستمر استخدامه بهذا المعنى من خلال اليسار المصري، لم تظهرها"الدعوة"كنوع مستقل، بل نسبتها فقط إلى"الصليبية"والآن فلنحاول أن نشرح محتوى هذه المصطلحات الأربعة، معتمدين بتصرف على عدة أعداد من أعداد المجلة.
واليهودية كانت بالنسبة لمحرري الدعوة، أكثرهم كرها للإسلام . ويهود العامل استخدموا بشكل عادى للإشارة إلى المقيمين فى إسرائيل والمقيمين خارجها على حد سواء. وقد نظروا إلى"المواطنة الإسرائيلية" فى الحقيقة على أنها مجرد انتماء إلى اليهودية، وعرفوها طبقا لعلم الوجود على أساس المعايير العرقية، والتاريخية ، والدينية .
وفى ملحق للفتيان عنوانه"أشبال الدعوة"وهو قسم لتربية النشء أدخل فى المجلة ، كان هناك عمود عنوانه"تعرف على أعداء دينك"ونقدم هنا نص مقالة عنونها"اليهود"ظهرت فى أكتوبر 1980:
أخي الشبل المسلم:
هل فكرت يوما لماذا لعن الله اليهود فى كتابه الكريم (لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم) بعد أن كان الله قد فضلهم على العالمين (يا بنى إسرائيل اذكروا نعمتي التى أنعمت عليكم وأنى فضلتكم على العالمين) ..
ولقد امتحن الله بنى إسرائيل بهذا الفضل ليظهر أيشكرون أم يكفرون (وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون) فماذا كانت النتيجة؟ افتروا على الله الكذب (لقد سمع الله قول الذين قالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء ، سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق) وأشركوا بالله وكفروا به (وقالت اليهود عزير ابن الله) تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، بل إن هذا الفضل قد تحول إلى جحود بالله عز وجل وإنكار لقدرته- سبحانه –
(وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا) وقد يكذب إنسان أو يخطى ولكن أن يبنى قوم مجتمعهم على قول الكذب وسماعه فذلك ما اختص به بنو إسرائيل وحدهم (ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك، يحرفون الكلم من بعد مواضعه) و (سماعون للكذب أكالون للسحت) هؤلاء هم اليهود"أخي الشبل المسلم"أعداؤك أعداء الله وهذه هى حقيقتهم كما بينها كتاب الله- الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه .
فهل اختلف اليهود – أعداء المسلمين اليوم- عن اليهود بالأمس ؟ إنها الطبيعة الواحدة التى جبلوا عليها، والعقيدة الفاسدة التى تعودوا حملها، فلا هم عادوا إلى المولى تبارك وتعالى وأقروا بوحدانيته وتركوا شركهم، ولا هم تركوا مؤامراتهم وحبك مخططاتهم ضد العدو الأول لهم..."وهم المسلمون".
إنهم يقولون فى أحد كتبهم"نحن اليهود لسنا إلا سادة العالم ومفسدوه ومحركو الفتن فيه وجلادوه". إنهم لا يرضون عنك- كشبل مسلم- ارتضيت الله ربا والإسلام دينا ومحمدا صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، وبإيمانك وتمسكك بدينك"أيها الشبل المسلم"تهدم كيانهم الذى يريدون بنيانه لتسخير البشرية كلها لخدمة أغراضهم الشيطانية.
(والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)ذلك كان تعريف"الدعوة"لليهود ، الذى أعدته لتثقيف الشبيبة المسلمة . فهذا الجنس فاسد من جذرة تشبع بالنفاق وسيضيع المسلمون كل شىء لديهم بسعيهم للتعامل معهم فهذا الجنس يجب استئصاله وهذه كانت مبادئ المرشد العام عمر التلمساني وأصدقاؤه فى فهم دولة إسرائيل وبالتالي لقضية اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية. وفى حقيقة الأمر فإن"الدعوة"لم تكن تنظر إلى فلسطين على أنها"ارض عربية"كما كان ينظر إليها"التقدميون"بل كجزء من الأمة الإسلامية اغتصبه اليهود.
وقد أظهرت الدعوة اهتماما خاصا بمسألة قبة مسجد الصخرة ، فى الجزء القديم من مدينة القدس، وظهرت قبة الصخرة على غلاف عدد مايو 1981 تحيطها سلسلة مقفلة بقفل عليه نجمة داود. ويد تحمل بلطة وتهم بتحطيم القفل . والرسالة هنا واضحة.
فالدولة المصرية يمكنها أن توقع اتفاقيتها مع الدولة العبرية إلا أن القضية الرئيسية تظل كما هى أحد أماكنهم المقدسة يرزح تحت سيطرة أعداء الإسلام، والجهاد لتحرير القدس الذى وضعوه فى جدول أعمالهم أصبح الآن ضرورة ملحة أكثر من أى وقت سابق.
وبداية من أكتوبر 1976 ظهر عمود عنوانه"إسرائيل اليوم وإذا عرض بانتظام كل ملامح"العار الصهيوني"حيث أعاد إلى الأذهان بشكل خاص حقيقة أن الطبيعة الجوهرية لليهودي، تجعل من السعي لتأسيس علاقات مع القوى التقدمية الإسرائيلية ، كما اقترح ذلك ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية عملية لا طائل منها. وفى الحقيقة"فإن كل يهودي مثله مثل مناحم بيجين ، يريق دم العرب ويغتصب أرضهم وبيوتهم... فالميل إلى الغدر والعدوان شيء مغروس فى روح كل يهودي. ولا يختلف فى هذا بن جوريون عن بيجين".
وكما هو واضح فإن الدعوة لم تتقبل اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية بصدر رحب. حيث نشر التلمسانى عام 1978 خلال المفاوضات افتتاحية أكد فيها على أن إسرائيل كانت جزءا من دار الحرب، وأن النظام إذا كان يريد أن يكون جديرا باسمه، كنظام مسلم فعليه أن يدعو إلى الجهاد ، الحرب المقدسة"إذا اغتصب جزء من أرض المسلمين واستطاع المسلمون أن يسترجعوه فلم يفعلوا ، فهم آثمون جميعا. والتاريخ سيحكم على الجبل بقسوة حكاما ومحكومين على السواء لأنهم آثروا الرفاه المادي على الشرف والدين".
إذن فقد انهارت العلاقة بين النظام والإخوان المسلمين الجدد عقب زيارة السادات المقدس، وطول عام 1978 هاجمت المجلة فكرة المفاوضات ذاتها، وهذا معناه ضمنيا أن النظام كان يحكم بما يتنافى بشكل فاضح مع الإسلام . وقد وضع هذا الدعوة فى موقف شديد الحساسية حيث شككت فى شرعية النظام الإسلامية أمام الرأي العام، وهذا لن يحدث من قبل قط.
ومع أن الأزهر كان قد صدق بالطبع على شرعية اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية ، بفتوى استشهد فيها بالمعاهدات التى أبرمها النبي مع أهل قريش (صلح الحديبية) ومع قبائل الغطفان بالإضافة إلى الاستشهاد بالآية القرآنية"وإن جنحوا للسلم فاجنح لها"فقد نشر عبد العظيم المطعنى فى يوليو 1978 نقدا شاملا لتشبيه معاهدات الرسول بالاتفاقية مع إسرائيل .
وفى عدد سبتمبر نشرت الدعوة ردا تلقته من مكتب شيخ الأزهر عبد الرحمن بيصار ، سعى فيه إلى دحض مزاعم المطعنى. والحقيقة البادية للعيان هى أن الأزهر رأى أن نشر رده فى مجلة الدعوة سيظهر يقظة مؤسسة الحاكم الدينية إزاء أى إنكار لوضعها هذا خاصة من قبل أصوات الإسلاميين المعارضة.
ومما لا شك فيه أن ثمة ضغوط مختلفة مارستها الحكومة سرا على هيئة التحرير حتى تدرك أنه إذا أرادت الاستمرار للمجلة، فعليها أن تتوقف عن التشكيك فى الطابع الإسلامى للنظام. وقد تغيرت بالتالي عام 1979 نبرة هيئة التحرير حيث كتب التلمسانى"إى السلام هو الهدف الأسمى للإسلام، ومن الخير أن نسعى إليه. إلا أن المشكلة أصبحت الشريك أى اليهود الذين لا يمكن الوقوف بهم بسبب طبيعته الخاصة جدا".
وقد ترك فهم الدعوة لليهودي بصمات واضحة على موقفها من قضية وجود دولة إسرائيل وإمكانية إقامة علاقات معها، حيث يرجع هذا إلى بعض الصفات السلبية التى تحول فى حد ذاتها دون إمكانية إقامة أى علاقات معها سوى علاقة الحرب من أجل إبادتها.
وفى الفترة من نهاية 1977 وحتى نهاية 1979 عندما اجتاحت الشعب المصري نشوى جارفة، لم تتلق اعتراضات الدعوة سوى آذان صماء. لكم مع ظهور الغيوم الأولى فى سماء العلاقات المصرية الإسرائيلية بسبب المماطلة فى إجراء محادثات الحكم الذاتي للفلسطينيين ، وما أعقب ذلك من إعلان الكنيست للقدس عاصمة موحدة للدولة العبرية، اكتسبت افتراضات الدعوة بعض المصداقية وبشكل خاص لأن الحكومة ظهرت عاجزة عن الرد على بعض المصداقية ، وبشكل خاص لأن الحكومة ظهرت عاجزة عن الرد على إدارات نظام بيجين المختلفة.
وقد لفت نظر العديد من المصريين افتتاحية التلمسانى التى كتبها عام 1980 بعنوان"اليوم القدس والجولان... وغدا الأردن ولبنان"بما فى ذلك الذين لم يكونوا قراء منتظمين للدعوة، وأدركوا على الرغم من هذا أن إقامة علاقات ثنائية مع اليهود قد أصبحت لعبة خاسرة.
ومن هنا فقد كان لقراءة الإخوان المسلمين للأحداث بعض التأثير، حيث اقتنع بعض القراء بطريقتها فى الاستدلال تلك القراءة التى فسرت سلوك إسرائيل مسترشدة بطبيعة اليهودي، ومن ثم فقد كسبت الدعوة بذلك مساحة واسعة من القراء الجدد من خلال عملية استقراء معكوسة.
فكل الذين شعروا بأن إسرائيل تخدع مصر دون أن يجدوا دليلا على ذلك، قدمت لهم الدعوة طريقا لإرجاع الظواهر ثانية إلى طبيعتها، وفقا لمنهج متماسك داخليا. وأصبح بيجين أكثر دعاة الدعوة تأثيرا.
ويفضى إدراك الدعوة لليهود، أو بالأحرى اليهودي والذي لخصنا خطوطه العامة ، بنا إلى عدة شواهد على ما يمكن أن نسميه"السامية المعادية للسامية"والنص القصير الذى تعرضنا له سابقا والذي كان الهدف منه تثقيف أشبال المسلمين ذو أهمية خاصة فى هذا المجال حيث أنه قدم تفسيرا لآيات قرآنية وتعليقا على أحد كتب اليهود – وفى حقيقة الأمر فإنه لم يتمتع كتاب بمثل هذه السمعة السيئة التى تمتع بها"بروتوكولات حكماء صهيون"ومن المعروف جيدا أن هذا الكتاب قد اختلقته المخابرات السعودية فى عهد الملك فيصل من أجل الاستخدام الرسمي فى المملكة السعودية .
أما الرسم الذى زين ملحق الأشبال فقد أخذ مباشرة من رسم روسي ألماني يصور اليهودي وقد يتعجب المرء من مدى تأثير هذا الرسم فى بلد لا تختلف صفات سكانه الجسدية بدرجة كبيرة، كما يراها رسامو الكاريكاتير الغربيون، عن تلك التى يتمتع بها اليهودي ، االيهودى فى هذا الرسم يرتدى قلنسوة ، مثله مثل أي مسلم متدين يرتدى الجلباب.
لكن تأثير معادة السامية الأوربية على إدراك الدعوة لليهودي ترك بصمات واضحة على تفسيرها للآيات القرآنية، وليها فى اتجاه نظري خاص. فالقرآن اشتمل على آيات معادية لليهود بشدة (وللمسيحيين أيضا على نفس المستوى) .
واشتمل أيضا على آيات أخرى لم تكن معادية بشكل منهجي لهم، وبشكل خاص تلك الآيات التى تحدثت عنهم على أنهم"أهل الكتاب"تلك المكانة التى أعطتهم الحق فى الاستمرار فى ممارسةشعائر دينهم فى البلدان التى يحكمها المسلمون، فى مقابل دفع الجزية وقد سمى هؤلاء الناس"أهل الذمة"وقد استخدم دعاة الإسلام وجودهم كدليل على تسامح الإسلام بينما استخدمه أعداءه كدليل على عدم تسامحه. حيث أن كل جانب كان يقترب من المسألة بطريقة تنطوي على مفارقة تاريخية.
وكان رأى محررو الدعوة أن اليهود مثلهم مثل المسيحيين لهم الحق فى الوجود لأنهم كما قال البعض قد يصبحون مسلمين ، فهم مؤمنون لم تصلهم رسالة الإسلام بعد. وفى اليوم المبارك الذى ستبلغهم فيه هذه الرسالة سيصبحون على الفور مسلمين (فى غضون عملي فى هذا الكتاب، التقيت مرارا مع الإسلاميين المصريين الذين كانوا عادة يبدءون بمحاولة إقناعي بالتحول إلى الإسلام ونادرا ما كانت لقاءاتنا تمر بهدوء).
أما المحظور على أهل الكتاب فهو الدعوة إلى دينهم، أو وضع العوائق أمام مسيرة تحولهم التى لا مفر منها نحو الإسلام. ومن خلال هذا ا لاستدلال فإنهم إذا كانوا ينظرون أي محررو الدعوة بازدراء إلى مقاومة مسيحيي الغرب، فإنهم يعادون أى شيء تفوح منه رائحة إعادة إخضاع المناطق التى يحكمها الإسلام.
وظل إخضاع الأسبان للأندلس الإسلامية مصدرا للخزي والعار ، لكن رغم أن جماعات مختلفة حثت المسلمين على الاعتقاد بأنهم سيعيدون يوما ما فتح شبه جزيرة أيبريا ، فإن المجلة لم تعتبر ذلك أحد مواضيع الساعة.
فاستيطان اليهود فى فلسطين من ناحية وإنشاء دولة إسرائيل، من ناحية أخرى ،هما ثمار المؤامرة الحالية التى ما زال الوقت سانحا لإحباطها . والحرب المقدسة يجب أن تستمر حتى تعود قبة المسجد الأقصى والبلد التى تضمها ثانية تحت لواء الإسلام. ولأن إسرائيل دولة يهودية فإن اليهود يحتلون موقع الصدارة فى جبهة أعداء الإسلام.
ولم يكن هناك شيء جديد بالفعل فى استخدام التلمسانى وأنصاره لبعض اليهود بشكل عام كقوة دافعة لمعاداة الصهيونية والنضال ضد إسرائيل وحتى رسوم الكاريكاتير التى اعتادها المصريون فى الصحف الناصرية وكتيبات الدعاية فى الستينات لم تكن أقل عنفا من تلك التى قدمها الإخوان المسلمون الجدد.
والإخوان المسلمون الجدد كان لهم نفس النزعة سواء من حيث الموضوع أو من حيث كيفية تصويره، إلا أنهم اختصروها إلى جوهرها فاليهودي يهودي، وبالتالي فهو مقيت ، ولا يوجد داعي إذن حتى ولو على سبيل التسامح اللفظي، للتمييز بين الصهيوني وغير الصهيوني بين الاسرائلى وبين اليهودي فى الشتات ، الخ. والنظام الناصري أيضا لم يهتم بتلك الفروق الدقيقة حينما سجن اليهود المصريين فى معتقلي طرة وأبو زعبل جنبا إلى جنب مع الشيوعيين والإخوان المسلمين ، دون أن يرتكبوا أي جريمة سوى ولائهم لعقيدتهم.
كان هذا"الخط المعادى لليهود"أحد المحاور الرئيسية فيما يتعلق بأفكار مجلة الدعوة . وقد رفض الإخوان المسلمون الجدد رفضا مطلقا زيارة السادات للقدس المحتلة واتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية التى أعقبت الزيارة. حيث سببت كل منهما تشددا واضحا فى موقف الإخوان من النظام.
وقد احتلت الصليبية مكانة تلي اليهودية فى سلسلة الشيطان . وإذا كان اليهودي شريرا بطبيعته، فإن المسيحي شرير فقط بشكل عرضي ورغم أن كل اليهود أشرار ، فإن هناك مسيحيون طيبون ومسيحيون أشرار . والمسيحيون الأشرار مع ذلك هم الأكثرية وهم الذين يعملون على تضليل المسيحيين الطيبين وذلك من أجل خدمة أهدافهم أى تدبير المؤامرات لتدمير الإسلام .
ونادرا ما كان يلجأ الصليبيون إلى العمليات الحربية ضد المسلمين فى قلعة الإسلام، أى فى مصر ، إلا أنهم عملوا بدلا من ذلك من خلال المبشرين وبعثات التبشير ، التى أسست فروعا لها بطول البلاد وعرضها ، الخ. وبارتدائها رداء الخدمة الاجتماعية الجذاب، سعى الصليبيون على سبيل المثال لزرع الشك والتشويش فى عقول المسلمين. وعمل كذلك بمساعدة المستشرقين على نشر الإشاعات التى تشوه النبي محمد.
وتأثير الصليبيين على النظام التعليمي بشكل خاص كتأثير المرض الخبيث فبفحص كتاب التاريخ المقرر على تلاميذ الشهادة الابتدائية عامي 1975 1976 ، لاحظت الدعوة أن الطبعة الثانية قد خصصت مساحة كبيرة جدا لأماكن حج المسيحيين فى الشرق الأوسط ولم تخصص مساحة الطبعة الثانية كتبها مؤلفان أحدهما مسلم والآخر مسيحي واحد فقط وعلاوة على ذلك فمن المؤسف أن نعلم أطفالنا ومعظمهم مسلمون أن قبر السيد المسيح موجود فى القدس وهذا ما يؤمن به المسيحيون فقط، وليس المسلمين.
وقد أتاح حلول القرن الخامس عشر للهجرة عام 1980 الفرصة للإخوان المسلمين الجدد لتقديم الدروس المستفادة من التاريخ الإسلامى، فى محاولة لاستخلاص دروس للمستقبل. وكانت إحدى الطاهر التى لها الدعوة هى ظاهرة الاستعمار (الامبريالية) بمختلف أوجهه:
"يجب أن نعلم أن أعداء الإسلام عصابة من الأفاقين يمثلهم ثالوث المستعمرين اليوم : اليهودية ، والشيوعية والرأسمالية . وقد نبهنا القرآن طوال أربعة عشر قرنا على أن ملات الكفر واحدة"ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى""ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا".
ولأن الصليبية لم ترد بالاسم فى القرآن ، فإنه لمن الجدير بالذكر أن القاعدة القرآنية التى اعتمدت عليها حملتها ضد"ثالوث المستعمرين"كانت آية قرآنية موجهة أساسا ضد المسيحيين .
والتأرجح فى تمييز المسيحي الذمي الطيب الذى يصلى فى كنيسته دون أن يحاول استمالة المؤمنين الجدد الخاضعين لأحكام الشريعة عن الصليبي الشرير يصبح ظاهرة لا يمكن التخلص منها، إذ أن التمييز بينهما عملية ذاتية تماما، تخضع للأهواء التى تترتب على تغيير الموقف.
مثل نشاط المستشرقين أحد عناصر المؤامرة الصليبية ، كما تظهر ذلك"وثيقة ريتشارد"الغامضة التى زعم أنها كانت بمثابة توجيهات للمسيحيين. وقد احتلت مكانة بارزة فى الأحداث الطائفية التى وقعت فى المنيا عام 1980 . وريتشارد هذا هو ريتشارد .
ب. ميتشل .و هو مستشرق أمريكي ألف كتاب هاما عن الإخوان المسلمين ، بعنوان"جماعة الإخوان المسلمين"عام 1969 . وإذا نقبنا عن أصل هذه القضية سنجد يد أصدقاء التلمسانى، حيث اخترعوا عام 1979 ما يمكن أن نسميه"قضية ميتشل"وقبل هذا التاريخ، لم يكن الإخوان المسلمون الجدد أى عداء خاص تجاه المؤرخ الأمريكي، بل كانوا فخورين لحدما بأن عمل على هذا المستوى كرسه صاحبه من أجل الجماعة التى أسسها حسن البنا ، حتى أن الدعوة أولت الكتاب اهتمامها وأثنت عليه لقرائها .
وفجأة فى يناير 1979 ، وبينما كان ميشل فى القاهرة يقضى عطلته السنوية، نشرت المجلة"وثيقة"مكتوبة باللغة العربية"أرسلها كاتبها إلى رئيس الجهاز السري بالمخابرات المركزية الأمريكية"وكانت تدعو للتدمير العاجل لحركة الإسلاميين على يد الدولة المصرية . وقد كان دليلهم الذاتي على مصداقية الوثيقة هزيلا للغاية.
فما هومبرر لجوء أستاذ أمريكي، حتى لو كان عميلا للمخابرات الأمريكية، لمراسلة جهاز رسمي أمريكي باللغة العربية. بل أن الدعوة كانت عاجزة عن الرد على إنكار ميتشل والسفارة الأمريكية بالقاهرة .
لكن ادعاء الدعوة وصل لقرائها وحدث ما قد حدث، وبعد عام ونصف من هذه الواقعة،فى المنيا زعم أن"وثيقة ريتشارد كانت السبب الرئيسي وراء الاضطهاد الذى لاقاه إنكار هذا الادعاء" . وأصبح ميتشل عميلا للمخابرات المركزية الأمريكية والمسيحيون أصبحوا طابورها الخامس.
وفى يوليو 1981 اندلعت أحداث خطيرة فى الزاوية الحمراء، وهى أحد الأحياء الفقيرة فى مدينة القاهرة ويقطنها خليط من المسيحيين والمسلمين.
وبالنسبة للدعوة كانت هذه الأحداث دليلا واضحا كل الوضوح على المؤامرة الصليبية ضد الإسلام فى مصر. وقد ظهرت ثلاث مقالات فى يوليو وأغسطس سعت للبحث عن أصل هذه الأحداث وتحديد تسلسل زمني لها. حيث أكدت على أن"أقباط مصر هم أسعد الأقليات على ظهر الأرض وكل حقوقهم المادية والأدبية ميسرة بل مضاعفة".
وأنهم قد عاشوا فى انسجام تام مع المسلمين ونعموا بمنزلة يحسدهم عليها الآخرون. و"سارت الأمور على أفضل ما يكون إلى أن تعين السيد شنودة بطريركا لأقباط مصر . فظهرت أمور بعد انتخابه لم تكن قبل ولم يسبق لها مثيل"..
ابتدأ نوع التحدي فى القول والعمل ... سمعناه يقول إن مصر قبطية وليس للمسلمين فيها مكان ...الخ"وقد أدانت"الدعوة"قوى أجنبية خاصة الأقباط الذين يعيشون فى أمريكا، لتحريضهم أسعد أقليات العالم على التعالي والعصيان.
وقد طمس الانفعال الذى ساد هذه المرحلة حتى هذا التمييز التقليدي بين المسيحيين الطيبين الذين خضعوا للإسلام وبين الصليبيين الأشرار . حتى أن إحدى المقالات قد ذهبت أبعد من ذلك إلى الحد الذى اقترحت فيه مقاطعة المتاجر التى يملكها الأقباط دون تمييز.
إلا أن الخلط بين الأقباط والصليبيين على عكس الاندماج التام بين كل اليهود، ليس بنيويا ولكنه لحظي. إنه لا يحدث إلا فى مرحلة التوتر القصوى، مثل تلك المرحلة التى سبقت اغتيال السادات بشهور، حيث كانت قبضة السلطة مرتعشة وحركة الإسلاميين فى مجملها ذات مزاج راديكالي، وتصور الإسلاميون أن لحظتهم قد حانت فدعوى مثل التهديد بمقاطعة المتاجر القبطية تساوى ببساطة هجوما مباشرا على الوحدة الوطنية المصرية، التى كانت فى ذاته أحد المرتكزات الأساسية لشرعية النظام.
وكان هذا أحد المبررات التى قدمها السادات لما اتخذه من إجراءات قمعية فى مواجهة حركة الإسلاميين فى نهاية صيف 1981 .
وقد أدان الإخوان المسلمون الجدد الشيوعية كما أدانوا اليهودية والصليبية ووفقا لمحرر الدعوة"فإنها لم تكن مصادفة أن عبد الناصر كان فى موسكو – عاصمة الإلحاد- عندما القى خطابه الذى كان فاتحة لاستشهاد سيد قطب ورفاقه عام 1965. وبالتالي فإن الشيوعية هى العدو الأبدي للإسلام.
وساقت المجلة عدة أمثلة للتدليل على رأيها. فما سياسة محو الطابع الإسلامى للجمهوريات المسلمة فى الاتحاد السوفيتي ، إلى بناء المتاحف الملحدة التى أقيمت لهذا الغرض. والشيوعية تحارب الإسلام فى كل أنحاء العالم فى أربتيريا والصومال شاركت الصليبيين فى حلف لاستئصال الإسلام، وفى سوريا دعت الدكتاتور حافظ الأسد، الذى ذبح الإخوان المسلمين ، وأخيرا، فى أفغانستان حيث ذبحت المسلمين دون تمييز .
وفى مصر كانت هى النظام السائد من 1961 وحتى 1971 ."وقد تم تخريب هذه البلد فى تلك السنوات العشر، وعانى عباد الله من الفقر المدقع واستشرى الفساد... فالشيوعية مثل السرطان، لا تستأصل إلا بعد تضحيات عظيمة. سيطر الشيوعيون على ما يسمى"بالاتحاد الاشتراكي العربي"وقد سيطروا على كل مكان فيه ، فى هيئة التأسيسية ، وفى فروعه المختلفة".
"وفى ظلهم عاشت الجماهير أسود لياليها، فتجسس العامل على زميله فى العمل، والطالب على زميل الدراسة وقد سيطر الشيوعيون على موقعين آخرين، منظمة الشباب الاشتراكي... والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، الذى كان شعاره"الاشتراكية طريقنا، والميثاق دستورنا، والناصرية عقيدتنا".. إلا أن عصر الشيوعية قد انتهى بموت عبد الناصر".
وإذا كان هناك حاجة لدليل إضافي على الطابع الشرير للشيوعية، فقد قدمته الدعوة لقرائها، الذين كان عليهم أن يتذكروا أن الماركسية والصهيونية لهما أصل مشترك"ففكر ماركس كان اجتهادا يهوديا،وماركس نفسه كان حفيدا لحاخام مشهور".
فالشيوعية إذن تحيط بها الشكوك من عدة أوجه. تبدأ من ارتباطها باليهودية البغيضة والصليبية البالية، وطبيعتها الملحدة المتشددة، وأخيرا تخريبها للبلدان التى تحكمها ، بما فى ذلك البلدان التى تحمها بشكل مستتر، مثل حالة مصر فى ظل الناصرية.
وقد أدانت الدعوة الشيوعية فى كل صورها- الحقيقية والرمزية والخيالية- فى توافق تام مع الأيديولوجية الرسمية لعصر السادات . وفى مواقف عديدة، وافقت الحكومة على إقامة الإخوان المسلمين الجدد للمؤتمرات التى خصصت لإدانة الأسد، الرئيس السوري الذى نشب بينه وبين السادات صدام عنيف فى أعقاب توقيع اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية.
كما سمحت لهم بإقامة المؤتمرات وجع التبرعات لتدعيم المجاهدين المسلمين فى أفغانستان . وكانت مواقف الإخوان والنظام- فر حرية ضد الشيوعية داخل وخارج مصر- متطابقة تماما، فالمجلة كانت تهاجم الأعداء المشتركين لهما- الناصرية، على سبيل المثال- بحجج لم يكن باستطاعة النظام نفسه أن يستخدمها.
أما رابع وآخر قواعد الشر فكانت العلمانية . ورغم أنها تمتعت بنفوذ أقل من أسلافها الثلاثة (والتي كانت تخدمهم، على أىحال، كمحدد لاتجاهاتهم) . إلا أنهها لم تكن تقل عنهم من حيث خطورتها على الإسلام، حيث أنها تقوض أحد أركانه الرئيسية ، وهو أن"الإسلام دين ودولة"أو بمعنى آخر فإن الإسلام يراد به الحكم فى أمور الدنيا والآخرة.
وكان داعية العلمانية فى البلدان الإسلامية "الخائن مصطفى كمال أتاتورك"وقد حظي مرتين بمكان الصدارة فى عمود"تعرف على أعداء دينك"المخصص لأشبال الدعوة . وفى عام 1980 استهل المحرر التعريف الذى قدمه لشخصية أتاتورك بما يلى:
"أخي الشبل المسلم"
الإسلام نظام شامل لكل نواحي الحياة، حياتك و حياة مجتمعك ."ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء"والخلافة هى النظام السياسي الذى أقامه لنا ورسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المدينة، واستمر طيلة أربعة عشر قرنا وأسقط الخلافة العثمانية وحول تركيا إلى دولة علمانية لا تدين بالإسلام ...
إنه عدوك"أيها الشبل"وعدو دينك، ينتمي للعدو الأول للمسلمين – وهم اليهود – فهو من طائفة منهم تسمى"يهود الدونمة"ولها عقائد خاصة تبطنها ولا تعلنها، وكانوا يظهرون الإسلام ستارا لدعوتهم وخوفا من قوته وسلطانه فى عهد الخلافة العثمانية ...
وخائن كهذا يسخره اليهود لتنفيذ مخططاتهم الشيطانية، ومن يقف أمام تنفيذ هذه المخططات سوى الخلافة الإسلامية .. وعلى رأسها الخليفة"السلطان عبد الحميد"الذى رفض بيع فلسطين"أرض المسلمين"لليهود نظير الذهب..".
"لقد أراد لك"أخي الشبل المسلم"أن تنشأ غريبا عن دينك، غريبا عن كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،غريبا عن كل ما تركه لنا علماء السلف الصالح، وذلك بما قام به من تحريم استعمال اللغة العربية وإحلال اللغة التركية بحروفها اللاتينية"الأوربية"محلها.
وهذا النوع من الاستدلال الذى استخدم لتشويه أتاتورك هنا يذكرنا بالأسلوب الذى استخدم قبلا لتشويه ماركس وكا ما هنالك أنه بينما قالوا إن ماركس كان حفيدا لأحد الحاخامات ، أدعوا هنا أن أتاتورك كان عضوا فى جماعة يهودية. وتاريخيا ، فإن الفرقة موضوع النقاش عرفت باسم دونمdonme وأسسها أتباع اليهودي المخلص messiah شابيتاى زيفيل shabbetai zevil (1626 – 1676) وبينما ادعى أعضاؤها إيمانهم بالإسلام، احتفظوا سرا بولائهم لليهودية.
ورغم أنه من المعروف تاريخيا أن بعض كوادر حركة تركيا الفتاة قد جاءوا من جاءوا من هذه الفرقة(وبشكل خاص جافيد باى diavid bey وزير مالية أتاتورك) ، إلا أنه لا يوجد هناك دليل على عضوية كمال أتاتورك نفسه فى هذه الفرقة.
ومصدر هذه الإشاعة أن أتاتورك كان أصلا من مدينة سالونيكا، المدينة التى تركزت فيها حركة دونم، بالإضافة إلى سميرنا .وقد ضخم هذه الإشاعة أعداء أتاتورك من رجال الذين أجبروا على النفي وتجمعوا فى مصر. وهذا يوضح الكيفية التى انتقلت بها إلى الصفحات المخصصة للفتية فى مجلة الدعوة .
ولم يسمع أحدا من المصريين الذين قرأوا هذه الصفحات من الدعوة وقمت بسؤالهم عن الدونم ، إلا وأجابوا كلهم بلا استثناء بنطق اسمها"الدونمة"وهى كلمة بلا معنى أوجدتها الترجمة. والذي بين يدينا الآن لم يكن سوى ملتقى طرق التقت فيه الثقافة التى نقلها المنفيون الأتراك للإخوان المسلمين والاتجاه المعادى لليهودية الذى كان على استعداد لاستخدام أي سلاح يجده فى طريقه.
إذن فقد كان الادعاء بأن أتاتورك يهودي من الأهمية بما كان بالنسبة لأصدقاء التلمسانى، لأنه بهذا يكون غريبا على الإسلام، ويفسر إقدامه على إدخال العلمانية والأبجدية اللاتينية إلى تركيا ، وهى التى تجعل من الشبل المسلم غريبا عن كتاب الله، أما إذا تم التسليم بإن أتاتورك كان مسلما، وهى حالته على الأرجح ، فسيكون من الصعب تبرير أعماله.
فكيف يستطيع مسلم، وهو الذى يملك بصيرة ثاقبة نتيجة لإيمانه، أن يتخلى عن هذا الإيمان ويفضل عليه نتاجات الثقافة العربية ؟ وهذه الحالة تستوجب الحكم عليه بالردة، وهذا الحكم يتطلب حذرا بالغا فى استخدامه، لأنه يفتح الباب أمام التكفير، هذا التكفير الذى أثار ريبة الإخوان المسلمين الجدد حيث أن شكوى مصطفى وجماعته قد استخدموا ليطلقوا العنان بالتالي لتطور لولبي فى استخدام هذا السلاح الذى أصبح من الصعب السيطرة عليه.
وقد غدت العلمانية ، منذ اللحظة التى أدخلها فيها أتاتورك للعالم الإسلامى، إحدى المؤامرات العديدة ضد الإسلام. خاصة أنها قد شجعت على الدعوى للقومية العربية وللوحدة العربية ،"وهى التى كانت على الدوام، فى كل مرحلة من مراحلها ، حركة علمانية ضد الإسلام قادها مسيحيون سوريون أو لبنانيون ومتغربين ويهود"وحزب البعث على سبيل المثال، جزء من هذه المؤامرة .
وفى مصر تقوم العلمانية على قاعدة من النظام القانوني المستورد من الغرب، وعلى كل مسلم أن يفضح العلمانية أينما وجدت، ولم يكن"من قبيل الصدف"أنها ظهرت على السطح ثانية فى أثناء الأحداث الطائفية فى الزاوية الحمراء .
ففي 22 يوليو 1981 ، نشرت جريدة الأهرام اليومية شبه الرسمية، رسما كاريكاتوريا ، بقلم صلاح جاهين ، كان عنوانه"أحداث تسيء إلى الوحدة الوطنية . وصور الكاريكاتير سيدة جليلة . ترمز إلى مصر وأمامها ثلاثة أطفال يمثلون"الاتحاد والوثام والعلمانية"وهى تقول لبنت قبيحة تمثل الفتنة الطائفية"دول أولادي وعارفاهم حلوين. وإنما ابنتي بنت مين.."وقدأثار ذكر العلمانية كأحد أبناء مصر سخط الدعوة حتى أن صالح عشماوي نفسه زاد الطين بلة بمطالبته باستقالة الحكومة لأنها سمحت بنشر مثل هذا الكاريكاتير .
وكان تعريف الدعوة وتحديدها بدقة للفئات الأربع المعادية للإسلام والمسلمين مؤشرا واضحا على الموقف الثقافي الخاص لتلك الطبقات التى انعكست عواطفها على صفحات المجلة. حيث قدم محررو الدعوة للقراء منظومة من المفاهيم التى تفصيلها لكي تعمل كدرك إسلامي يقيهم من الأزمات المتشابهة التى يعانون منها.
وغدا سنرى كم كان هذا السلاح فعالا فى مواجهة هجمات الحياة العصرية وأي ضغوط تعرض هؤلاء الذين استخدموا هذه المفاهيم.
ويجعلها من اليهودية والصليبية والشيوعية والعلمانية فرسان الرؤية الأربعة ، برهنت الدعوة من وجهة نظر قراءها على أن أرض الإسلام تواجه الآن موقفا رؤيويا apocalyptic ورغم أن كل اتجاهات حركة السلامين قد اتفقت على هذا الرصد، إلا أنها قد اختلفت حول تحديد هوية الفرسان الأربعة.
ومن الأشياء ذات الدلالة بالنسبة لهذا الموضوع أن الإخوان المسلمين الجدد قد وقع اختيارهم على أربعة نماذج أصيلة وغريبة بشكل عام عن المجتمع المصري. فأراحهم هذا من تحليل الأسباب الداخلية للعقبات التى تعرقل مسيرة الإسلام، وعلى الأخص ما يتعلق بالعلاقة بين الدولة والمجتمع المدني.
إلا أن معظم الاتجاهات الراديكالية كان لها اعتراضات على هذا المنظور . فهي بينما لم تخف كراهيتها للعدو الخارجي وبخاصة"العدو الرئيسي لهم"أي اليهود، كان تصورها أن المعركة يجب أن تبدأ من الداخل ضد الجاهلية، وممثلها الرئيس الحاكم الظالم الذى يحكم بما يتعارض مع شرعية الله.
ولكن بسبب تحديدها العدو الخارجي، وجدت الدعوة نفسها فى موقف جديد تماما بمجرد أن أخذت الدولة على عاتقها مهمة توقيع اتفاقية مع إسرائيل- أو حسب تعبير محرري الدعوة، عقد معاهدة مع اليهود. وقد عارضوا بثبات توقيع هذه الاتفاقية، رغم أنهم قد رفضوا معارضة النظام بشكل واضح بنفس القدر، وظلوا أضعف من الدولة.
الاستفادة من البرلمان
ظهر الخيار الاصلاحى لمحرري الدعوة سواء فى دفاعهم عن الحق أو فى إظهارهم له، والحق هنا هو الإسلام كما فهمه الإخوان المسلمون الجدد.
وقد بذلت المجلة قصارى جهدها لتقديم تاريخ الإخوان المسلمين فى أكثر جوانبه إشراقا، ونشاطاتهم المعاصرة فى أكثر مظاهرها إيجابية. فتم تخصيص عمود ثابت عنونه"الإخوان المسلمون من صفحات الأمس"، كان الغرض منه إغداق الثناء على الجماعة التى أسسها حسن البنا ، والتي كانت بمثابة الحق المطلق بالنسبة للمجلة.
حيث أكد التلمسانى على أن"الحب هو شعار جماعة الإخوان المسلمين"وأنك أن يكون تكوين الجماعة على أساس ديني قد نشأ عنه أى شقاق بين المسيحي المصري والجماعات المسلمة ، ووفقا لما قال فإن دور الإخوان هو أن يوحدوا بين الناس، بعكس الأحزاب السياسية، التى تقسم الرأي العام إلى فئات متصارعة .
وإذا كان الإخوان قد تعرضوا للهجوم، فهذا لأنهم"شكلوا العقبة الكبرى أمام دكتاتورية عبد الناصر"واذا كانت الصحف الحكومية قد تباهت بتصويرهم على أنهم مجرمين، فالحقيقة أنهم كانوا الشهداء الذين استشهدوا من أجل أن تظل راية الإسلام خفاقة. ولهذا السبب عانى الإخوان من الاعتقال، والتعذيب والمشانق .
وإذا كانت الجماعة قد تم حلها عام 1954 ، فذلك يرجع إلى أنها مثلت تهدا لوجود إسرائيل ولهذا السبب فرض عبد الناصر عليها الحظر ، بأوامر من السوفييت.
ذلك كان تاريخ الإخوان المسلمين . وإذا أردنا أن يكون اليوم أفضل من أمس ، فإن جماعة الإخوان المسلمين يجب أن تستعيد وجودها القانوني، حيث أنها وحدها هى التى تستطيع إصلاح هذه الأمة .وكتب صالح عشماوي إن الإخوان لم يحاولوا على الإطلاق قلب نظام الحكم، بل على العكس من ذلك حاولوا دائما إصلاح هذا النظام. وعلى نفس المنوال ، أوضح التلمسانى أن"هؤلاء الذين يدعون إلى الله"لا يخلطون بين الحركة والتظاهر.
"إن كل منصف يعلم أننا ونظم الحكم فى هذا البلد على طرفي نقيض فى البرامج والمناهج .. إلا يوم أن يطبق شرع الله، وتقام فى أرضه أحكامه.. ونحن نقول فى هذا القول فى كل عدد من أعداد الدعوة ... لا نجامل .. ولا نحابى ، ولا نخشى ولا نخاف إلا الله عز وجل.
أما إذا كان المقصود بالحركة حرق وسائل المواصلات ونهب المحلات وتخريب المؤسسات الحكومية فهذا لا نأتيه أبدا، لأن الله ينهى عن الفساد والإفساد.. ثم لأن ما يخرب ليس ملوكا لرئيس الدولة أو رئيس الحكومة أو غيرهما .. ولكن ملك الشعب بكل أفراده ولن نكون يوما الذين يخربون بيوتهم بأيديهم.
أما إذا كان المقصود بالحركة التآمر وتدبير الانقلابات، فهذا لا يفعله إلا طلاب الحكم لذات الحكم، أما نحن فلا يعنينا شخص من يحكم، ولكن فى المقام الأول يهمنا نوع الحكم ودستوره وشكله ونظامه. وبعد ذلك فليحكم من يحكم. أما إذا كان المقصود بالحركة هو الاصطدام بالحكم عن طريق القوة والعنف فنحن نرىى أن ذلك استهلاكا لقوى الشعب، واستنفادا لجهوده، لا يستفيد منه أحد إلا أعداء هذا البلد.
إننا نتحرك فى سبيل دعوة الإسلام وتحركنا فى كلمات هى:
- إننا نربى الشعب ، وخاصة الشباب على الأسس التى عز بها المسلمون وسادوا.
- إننا نقول الحق وندعو الناس جميعا إلى الوقوف بجانبه، ومساندته فى أحلك المواقف.
- نحن نجع الناس فى المناسبات العامة لنقول لهم ما يجب أن يفعلوه وما يجب أن يتجنبوه.
- نحن نحذر الناس من العلمانية التى تلبس ثوب الإسلام لتباعد بين الإسلام وشباب الإسلام فى ظل كلمات معسولة ومسمومة، مطعمة بألفاظ العقل والمنطق والعلم والتقدمية وحرية الفكر.
- ثم نحن نعتمد على الله فى تربية الشباب على الكتاب والسنة .. الخ"
ورغم عدم ذكره بالاسم ، فإن محل نقد التلمسانى فى الفقرة هو سيد قطب، حيث أن مؤلف"معالم في الطريق"هو الذى وازن بين الحركة والدعوة الخالصة، ورغم أنه بينما تنحصر مهمة الدعوة الخالصة فى مقاومة أيديولوجية الجاهلية، فإن مهمة الحركة هى أن تجرف فى طريقها العقبات التى تحول دون التأسيس الفعلي للدولة الإسلامية ، وأول هذه العقبات النظام السياسي.
لم يذكر محررو الدعوة الجاهلية على الإطلاق، بل أنهم أصروا أكثر من هذا على أنه لا توجد حاجة ملحة للسعي إلى قلب نظام الحكم . لكن الأجدى الآن على العكس من ذلك، هو أن نقدم له بانتظام العرائض والالتماسات والمقصود بها إدخال التحسينات على النظام نفسه، من أجل تحويله إلى نظام إسلامي بالتدريج .
والمطلب الأكثر إلحاحا بالنسبة للمجلة هو تطبيق الشريعة الإسلامية ، أى وضع نظام قانوني يستقى من القرآن والسنة يقوم بإعداده علماء الإسلام.
وقد تبنت الدولة نفسها هذا المطلب، وبشكل خاص عام 1977 عندما اختير صوفي أبو طالب وهو رجل قانون بالغ الذكاء تعلم فى كلية الحقوق فى باريس ، رئيسا لمجلس الشعب (وهو البرلمان المصري، وغالبية أعضاؤه باستثناءات قليلة من أنصار الحكومة) وقد أكد صوفي أبو طالب مرارا على أن مصر ستطبق الشريعة الإسلامية فى أقرب وقت، ولكنه قال إن علينا أو أن نبذل جهدا ضخما من أجل إعداد هذا القانون الإسلامى لكى يتلاءم مع ظروف المجتمع المصري المعاصر.
وكم كانت طويلة جدا مدة إنجاز هذا المشروع التمهيدي ، فلم يصل إلى النواب إلا عام 1983 ، وهنا أصبحت الشريعة الإسلامية جاهزة للتطبيق . لكن المطلب الرئيسي لأصدقاء التلمسانى تم تعطيله، بمهارة فائقة من خلال استغراق رجال القانون المحنكين فى مناقشة النقاط الإجرائية.
وقد عبرت الدعوة عام 1976 عن رضاها لبحث أعضاء مجلس الشعب لأحكام الشريعة. ويبدو أن هيئة التحرير تصورت أنه سيسمح للإخوان عما قريب بإعادة تكوين أنفسهم كتنظيم يمكن أن يمثل فى البرلمان. وإذا كان قد تم تأسيس"نبرا لليسار"وأعضاؤه من الماركسيين الذين ينكرون وجود الله ، فمن الصعب تصديق عدم وجود منبر يمثل المسلمين وقد تساءل صالح عشماوي هل يمكن أن نقتنع بمثل هذا التمثيل.
وبهذا المطلب بالمساهمة فى الحياة السياسية، أولا بدخول البرلمان ثم بممارسةضغط متزايد على نوابه لتطبيق الشريعة بدلا من إضاعة وقت ثمين فى مناورات حول إعداد قوانين الشريعة، اختلفت إستراتيجية الإخوان المسلمين بشكل حاد فى هذه الصدمات مع مجلس الشعب ، وبالعمل كلوبى داخله، جعل محررو الدعوة من أنفسهم معارضة قانونية داخل النظام السياسي القائم ، الذى يسعون لبذل ضغط كاف عليه للوصول إلى تطور سلمى نحو دولة إسلامية تقوم على الشريعة الإسلامية .
وباختيارهم لمثل هذا النوع من العلاقات مع الدولة، وبإدماجهم لأنفسهم داخل البنية الفوقية السياسية المصرية، لم يطمح التلمسانى وأصدقاؤه لأن يمثلوا طموحات تلك الطبقات فى المجتمع المصري التى كانت ترى أن هذه البنية الفوقية شيء غريب يصعب فهمه.
بل إن دعاية الخوان المسلمين الجدد كانت موجهة بالأساس نحو المصريين الذين كانوا يحتلون مكانة مرموقة فى الحياة الاجتماعية ويريدون أسلمة العلاقات الاجتماعية من خلال منح الشخصيات الدينية للتكنوقراط.. وهذا النوع من المطالب كان مقبولا كلية من مختلف دوائر رجال الأعمال الذين شكل المعلنون فى مجلة الدعوة قطاعا عريضا فيهم. ودعمته أيضا الملكيات البترولية فى شبه الجزيرة العربية، والتي كانت تمتلك روابط وثيقة مع أعضاء مؤثرين فى هيئة التحرير مثل محمد الغزالي ويوسف القرضاوى.
لكن باختيارهم الواعي للاعتدال، فشل الإخوان المسلمون الجدد فى الإمساك بروح جماعة الإخوان المسلمون أيام حسن البنا . فمعارضة التلمسانى كانت مجردة من الوحي الذى عبرت عنه رسالة مدرس المدرسة الابتدائية فى الإسماعيلية"الذى وضع قلوب المسلمين فى يده وسار بهم حيث شاء"ونظرا لتجنبهم المساكن المتداعية فى ضواحي المدن المصرية الكبيرة، إلى اتجاه آخر ، إلى الاتجاهات الأكثر راديكالية فى حركة الإسلاميين .
الفصل الخامس: طليعة الأمة
نشأت الجماعات الإسلامية من مجموعات الطلبة الإسلاميين التى أصبحت القوة المهيمنة على حرم الجامعات المصرية إبان فترة رئاسة السادات . وقد كانت بمثابة التنظيمات الجماهيرية الحقيقية الوحيدة لحركة الإسلاميين .
وعلى الرغم من كونهم فى البدء أقلية داخل الحركة الطلابية المصرية (التى هيمنت عليها فى ذلك الوقت التيارات الماركسية واليسار الناصري) التى انبثقت عقب هزيمة 1967 ، إلا أن الطلبة الإسلاميين سرعان ما أنجزوا تقدمهم المفاجئ فى فترة الهدوء النسبي الذى شمل حرم الجامعات عقب حرب أكتوبر 1973 .
وعلى مدار أربعة أعوام فحسب دانت لهم بالسيطرة الجامعات المصرية وأجبرت التنظيمات اليسارية على العمل السوي. وبعد أن كان النظام مبادرا بتفضيل الجماعات الإسلامية ، أصبحت تشكل تهديدا له، وخاصة بعد أن سيطرت على أهم الكليات الجامعية وعلى اتحاد الطلاب.
وبدأت فى استغلال معارضة سياسة السلام مع إسرائيل التى قامر عليها السادات "رئيس السلام"بشرعيته وبحياته اللحظة وصاعدا تعرضت الجماعات للاستفزازات الإدارية من القمع البوليسي فيما بعد على يد ذات الحكومة التى كانت تعاملهم قبلا بمنتهى الرقة واللين.
وبهذا حصلت الجماعات الإسلامية على الاعتراف بها كقوة معارضة. ونتيجة لذلك ، أخذت أعدادها فى التزايد بثبات،ولم يجد النظام بدا للقضاء على خطرهم من المواجهة المباشرة، والتي اتسمت بالسمة الدرامية من خلال"الفتنة الطائفية"فى الزاوية الحمراء فى يوليو 1081 .
وفى سبتمبر من نفس العام تم حل الجماعات الإسلامية (رغم أنها لم تكن مسجلة أصلا بشكل قانوني) وتم تدمير بنيتها السفلية وألقى القبض على قادتها. وبعد شهر واحد فقط قتل السادات على يد أحد المجاهدين الإسلاميين ، وهو خالد الإسلامبولى، والذي كان أخوه قائد الجماعات الإسلامية فى جامعة أسيوط ، قد تعرض لمعاملة سيئة أثناء عملية اعتقاله.
ولهذا شكلت الجماعات الإسلامية جزءا هاما من الساحة السياسية المصرية خلال حكم السادات ، وبالرغم من كونها حركة طلابية إلا أن تأثير تحركاتها تخطى أسوار الجامعات وتدخل بشكل مباشر فى الحياة السياسية.
وتشير الجماعات الإسلامية دائما وبشكل مستمر إلى الأمة الإسلامية ، أو"جماعة المؤمنين"التى وجدت ، فى رأيهم فى"العصر الذهبي للإسلام"خلال عهد الخلفاء الأربعة الأوائل ، الخلفاء الراشدين. وكان هدفها بعث الأمة من خلا عودة الخلافة . والوسائل التى اتبعتها لتحقيق هذا الهدف تلخصت فى معايشة نموذج مصغر لما ستصبح عليه الحياة فى المستقبل المشرق ، بينما أظهرت فى نفس الوقت قطيعتها مع كفاح المجتمع المصري المعاصر ومثله العليا.
التمرد الطلابي
فى فبراير 1968 أصدرت المحاكم العسكرية المصرية أحكامها فى نهاية قضيتين شهيرتين جدا، وكان المتهمون فى هاتين القضيتين هم المسئولون الرئيسيون عن الهزيمة الساحقة التى لحقت بالقوات المسلحة فى حرب الأيام الستة فى العام السابق. وقد حكم على المتهمين فى القضية الأولى، وكان من بينهم القائد العام للقوات الجوية، بأحكام تراوحت ما بين الإحالة إلى الاستيداع والسجن لفترات قصيرة .
أما صغار الضباط وصغار الموظفين الذين وقفوا وراء القضبان فى القضية الثانية فقد حكم عليهم بأحكام أقسى بكثير وصلت فى بعض الحالات إلى السجن مدى الحياة.
وفى 1 فبراير خرج عمال أربعة مصانع من مصانع حلوان، وهى منطقة صناعية بنيت على الطراز السوفييتي فى ضواحي جنوب القاهرة ، احتجاجا على تساهل الأوليجاركية العسكرية الحاكمة مع رفاقها، بينما تحمل"الصغار"مسئولية النكسة.
وفى اليوم التالي، انتشرت المظاهرات فى ا لشوارع وجرح سبعة عشر عاملا. ويوم 24 فبراير خرج الطلاب إلى الشوارع هاتفين"الموت للخونة"و"تسقط المحاكمات السرية"و"لا اشتراكية بلا حرية"وفى 25 فبراير تحولت المظاهرات إلى شغب عام، ولم يستطع النظام إعادة الأمور إلى نصابها إلا بوعد جديد، بأحكام أكثر قسوة.
وكانت تلك هى المرة الأولى منذ أكثر من عقد تخرج فيها الجماهير المنظمة إلى الشارع، ولا يشرف عليها أنصار الحكومة، ولا يكون هدفها التأييد غير المشروط لآخر خطوات الرئيس. وقد كان هذا التعبير المفاجئ والعفوي عن السخط بمثابة جرس إنذار للنظام"وأقنعه بسن سلسلة من الإصلاحات الفورية وعلى المدى الطويل... لكى يعيد على أساس شرعيته قبل أن يفوت الأوان".
إلا أنه سجل للطلبة سابقة هامة"حيث حررهم من قيودهم، وأثبت لهم لأول مرة منذ عام 1952 ، أنهم باستطاعتهم الاحتجاج ضد قرار رسمي، وأن بإمكانهم القيام بمسيرات فى الشوارع منادين بآرائهم المعارضة للسلطات وللحكومة".
لقد جعلت هذه المظاهرات المعارضة من الحركة الطلابية قوة سياسية يحسب لها النظام ألف حساب، وفى واقع الأمر فقد دافعت عن الطلبة بعض القوى المؤيدة للحكومة، إن لم تكن وقفت فى صفها بالفعل. حيث أيد محمد حسنين هيكل المنظر الرئيسي للنظام والذي كان يقوم بكتابة خطابات عبد الناصر قبل ذلك، بعض مطالب الشباب وفى الفترة من هزيمة 1967 وحتى وفاة عبد الناصر 1970 ،انشغل المجتمع المصري – بل والنظام إلى حد ما-
بامتحان للوعي حيث سعى الطلاب الشباب ، الذين انتموا لهذا الجيل الذى شكلته الناصرية (والتي توسعت بشكل ملحوظ فى عدد المدن الجامعية) لأن يكون لهم صوتا مسموعا، ولم تقتصر مطالب الطلاب على المطالبة بموقف حاسم فى مواجهة إسرائيل ، بل اشتملت أيضا على إصلاحات داخلية تأتى بديمقراطية أوسع . لقد كان الطلاب بمثابة مراقب جمعي، أو حتى رقيب لسياسة الحكومة . وباختصار تحددت ملامح"الحركة الطلابية".
إلا أن الحركة سرعان ما نشأ بداخلها اتجاهات وانقسامات عدة. ولم يضيع النظام الفرصة فقام بحملة تشهير ضارية بهذه التصدعات، وبـ"العناصر الأجنبية"التى استغلت المظاهرات ، وخاصة"الشيوعيين والإخوان المسلمين"أما الإخوان فقد عمدوا إلى إعادة تنظيم بعض الخلايا من المحرضين فى الجامعات رغم قمع 1965(والذي انتهى بشنق سيد قطب) ورغم اعتقال كل قادة الجماعة المعروفين. وفى المنصورة على وجه الأخص ، تسربوا داخل صفوف المنظمة الشبابية للاتحاد الاشتراكي العربي، الحزب السياسي الشرعي الوحيد .
مما اضطر النظام إلى حل فرع منظمة الشباب فى المنصورة فى فبراير 1968 بسبب"وجود اتجاهات يمنية متطرفة بها"وهؤلاء الإخوان المسلمون هم الذين قادوا مظاهرات المنصورة فى نوفمبر 1968 ضد إصلاح الجامعة والذي كان بمقتضاه سيتم تخفيض أعداد الطلاب كنوع من تخفيف العبء عن كاهل الدولة الملتزمة بموجب القانون بتوفير الوظائف لخمسة وعشرين ألف خريج من خريجي الجامعات سنويا.
وأسفرت مظاهرات 21 نوفمبر التى بدأت من المعهد الأزهري للدراسات الدينية (المعهد الديني) بالمنصورة ، عن أربعة قتلى وانفجار المظاهرات العارمة التى نفس فيها طلاب مدينة الإسكندرية عن حقهم الشديد طوال أربعة أيام. لكن ورغم فقدرة الإخوان المسلمين فى بعض الأوقات على تفجير الجماهيرية، إلا أنهم ظلوا قليلي العدد نسبيا وسط الطلاب.
ومع وفاة عبد الناصر فى خريف 1970 وخلافة السادات له، اكتسبت الحركة الطلابية وزنا متعاظما فالرئيس الجديد كان يفتقر إلى سلطة سلفه. ولكي يستحوذ على السلطة كان عليه أن يقوم بثورة قصر (فى 15 مايو 1971) يحيد فيها القيادات السياسية البارزة التى كانت على صلة وثيقة بالاتحاد السوفييتي).
وقد هيأت هذه العملية للسادات، الذى أطلق عليها اسم ثورة التصحيح قبضة أقوى على جهازه السياسي ، إلا أنها بعثت الشكوك كذلك فى صفوف اليسار بأنه على وشك أن يهجر معسكر التقدم. وفى تلك الأيام، كانت القضية الكبرى لهذا المعسكر هى المطالبة بحرب ثأرية مع إسرائيل، لمحو عار يونيو 1967.
وانفجرت حرب أعصاب بين النظام، والذي لم تكن لديه أي نية لإلقاء الجيش المصري فى معركة وهو خضم عملية إعادة تنظيمه، وبين القطاعات المقاتلة فى الرأي العام التى طالبت بأعلى صوتها بشن الهجوم على إسرائيل. ولكي يكسب الوقت وجد الرئيس نفسه مضطرا للإعلان بشكل منتظم عن هجوم وشيك، إلا أن نقص استعداد القوات المسلحة جعله يؤجل ذلك بشكل منتظم أيضا.
وأحد الأمثلة على هذا حدث يوم 13 يناير 1972 ، عندما ألقى السادات خطابا افتقر إلى البراعة بشك لخاص ادعى فيه أن الهجوم الوشيك قد تم تأجيله بسبب"الضباب السياسي الذى نتج عن الحرب الهندية الباكستانية"التى تورط فيها الاتحاد السوفييتي .
وهذا كما قال ما منع موسكو من إعطاء الضوء الأخضر للمبادرة المصرية. وقد أقنع هذا الاعتراف بالضعف الطلاب بالإضراب، وخرجوا إلى الشرع يومة 24 و 25 ليواجهوا البوليس. وسحبت الشقة من اتحاد الطلاب، وهو تنظيم نقابي يتم اختيار قادته من خلال إجراءات تدعم عملاء الحكومة، وتم تأسيس"اللجنة الطلابية للتنسيق"واتى شارك فى انتخابها القاعدة الطلابية العريضة بدلا من اتحاد الطلاب. وقد قامت هذه اللجنة بتنظيم المؤتمرات العامة للطلبة، وكذلك قادة الاعتصامات ومظاهرات الشوارع.
وكان الطلاب الإسلاميون ما زالوا أقلية فى هذه المؤتمرات، حيث فاقتهم عددا جماعات اليسار الماركسي والناصري الكبيرة. فقنعوا بتسجيل وجودهم من خلال اقتراح التعديلات على برنامج"اللجنة الوطنية الطلابية للتنسيق"وضع فريد من التشديدات على القيم الدينية، المطالبة بإغلاق ملاها شارع الهرم، وهلم جرا وعادة ما كان يتم نبذ هذه التعديلات ، حيث لم تكن تحصل على أكثر من ربع الأصوات.
ولم يكن هؤلاء الطلبة الإسلاميون قد نظموا بعد فى الجماعات الإسلامية ، لكن فى نوادي خاصة (الأسر) . وبعيدا عن الأسر التى تخصصت فى الشعر، والرسم والأنشطة الترفيهية الأخرى، ان هناك أيضا أسر لترتيل القرآن، وأسر يتعلم المشتركون فيها حفظ القرآن، وسرعان ما أصبحت هذه الأسر أماكن لتجنيد المجاهدين الإسلاميين .
ولأنهم كانوا أضعف من أن يقدموا شعاراتهم الخاصة، فقد فضلوا أن يحرفوا الشعارات اليسارية قليلا، وإعطائها صنعة إسلامية، فالحرب ضد إسرائيل على سبيل المثال ، والتي أسماها الطلبة اليساريون"النضال الوطني التحرري للشعب العربي ضد رجل شرطة الامبريالية فى الشرق الأوسط"وصفها اتباع البنا بأنها الجهاد الذى سيضع حدا لاغتصاب الكفار لجزء من دار الإسلام.
وعلى هذا الأساس، لم تكن هناك عقبات كبيرة تقف أمام العمل المشترك.وفى المرحلة الثانية من الحركة بعد ديسمبر1972 ، تحولت خطوط الطلبة الإسلاميين إلى الأفضل . فبعد محاولات فاشلة ، وجدوا فى النهاية مفتاح النجاح، التعاون التكتيكي ، الحذر مع النظام لكسر هيمنة اليسار على حرم الجامعات.
وقد بدأ الشقاق فى منتصف ديسمبر1972 ، عندما استدعى ثلاثة من طلبة كلية الطب للمثول أمام مجلس تأديب بجامعة القاهرة لاتهامهم بتعليق مجلات حائط"مهينة"مما أدى إلى خروج المظاهرات المؤيدة ، مطالبة بـ"الديمقراطية فى الجامعات"لكنها سرعان ما اصطدمت بمظاهرة مضادة من طلبة يهتفون"الله أكبر".
وفى هذه المرة بدلا من الانضمام للحركة، عارضها الطلبة الإسلاميون منذ البداية واتفق المراقبون فى رؤية"تفتت واضح"فى الحركة، كما اتفقوا على أن الصراع داخلها يتم بين النشطاء والرجعيين .
وعلى الرغم من أن السادات فى ذلك الوقت كان يضع كلا التيارين فى نفس المنزلة – حيث أسماهم فى خطابه يوم 31 يناير 1973 "اليسار المغامر"و"اليمين الرجعى"– إلا أن استعادة الأحداث لن تدع لدينا مجالا للشك فى أن النظام الذى وحد قواه فى معركة مع القادة السياسيين المرتبطين بالاتحاد السوفييتي، كان ينظر بعين العطف لهؤلاء الطلاب الذين يمكنهم أن يشكلوا ثقلا مضادا لليسار المصري، الذى كانت له قاعدة حقيقية فى حرم الجامعات.
حيث كان يعنيه بشكل خاص أن يمنع تحول الحركة الطلابية إلى الناصريين،الذين كانوا ما يزالون حتى هذه اللحظة يتحكمون فى أجزاء من الحزب ومن جهاز الدولة،فاستقطاب الحركة حول تيارين، وبالتالي الشلل النسبي الذى أصابها، كان بلا شك عملا الحكومة .
أما محمد عثمان إسماعيل، الرجل المقرب من السادات والمحامى السابق الذى لعب دورا هاما فى الإعداد والتنفيذ الفني لـ"ثورة التصحيح"فى مايو 1971 فقد كان بمثابة الأب الروحي للجماعات الإسلامية ، فى القاهرة ذلك العام، سجل الرقم القياس فى طول البقاء فى هذا المنصب حتى خلعه مبارك، خليفة السادات فى عام 1982 و شجع فى هذه السنوات التسع الجماعات الإسلامية لمحاربة الشيوعيين.
حتى أن مدرسا من أسيوط كتب عام 1981 مقالة فى إحدى المجلات الأسبوعية يشكو فيها من أن طلبة الجماعات الإسلامية يذهبون لمقابلة المحافظ ورئيس الجامعة الذى يعاملهم معاملة الند للند. ومع هذا ، فإن التطور المذهل لجمعيات الإسلاميين فى الجامعات يعود أساسا لديناميتها الخاصة ولا يمكن اختزاله إلى استغلال البوليس السياسي لها، ما يدعى بذلك اليسار المصري .
إلا أنه لا يمكن إنكار أنها كانت ولفترة من الزمن تلقى تشجيعا من النظام، الذى كان بذلك يغذى الأفعى التى كان لها أن تلدغه فيما بعد.
جامعة الأعداد الغفيرة
فى خلال هذه المناقشة، سيرد مصطلح الطالب بما لا ينبغي أن يستحضر فى الذهن صورة الحرم الجامعي فى السوريون أو سوسيكس أو بيركلى . فعلى الرغم من أن الجامعات المصرية تشبه مثيلاتها فى البلدان المتقدمة فيما يخص أسماء الكليات وأعمار الطلاب، إلا أن المقارنات لا ينبغي أن تتعدى تلك النقاط كثيرا. فمنذ العهد الناصري، والجامعات المصرية تمسخ أكثر منها تنسخ النماذج الغربية ، أو حتى النماذج السوفيتية.
ولقد اتفق أكثر من نتخصص مصري فى مجال التعليم على أنه قد يكون من قبيل التضليل أن نسمى معاهد التعليم العالي المصرية جامعات، فمصطلح"مؤسسات التدريس طويل الأمد"سيكون بمثابة تحديد أكثر دقة لطبيعة هذه المعاهد التي توفر لأكثر من نصف مليون طالب مقررات دراسية مقسمة بشكل متعسف إلى فروع ضيقة ويتم تقدير الدرجات من خلال نظام امتحانات يعود نسبيا إلى المدارس القرآنية باعتمادها الأساسي على الحفظ الروتيني للملخصات.
وفور أن يحصل الطالب السابق على شهادته (الدبلوم) – بعد أن يستنفذ مبالغ طائلة مع أسرته ليدفع قيمة ا لدروس الخصوصية التى بلغت درجة أهميتها للنجاح درجة عدم قانونيتها- سيعمل لأن يكون له الحق فى أن يضع قبل اسمه اللقب الرنان"دكتور"ثم يعمل بعدئذ كل صباح كموظف دولة ضئيل الأجر، ثم ينفق وقته فى ما بعد الظهيرة كعامل أدوات صحية هاو، أو كسائق تاكسي لا يعرف لا الشوارع ولا الطرق، أو كسمسار وسيط إلى أن يأتي فى النهاية صديق للأسرة أو أجد علاقاته المحلية بمقعد على متن طائرة أو سفينة متجهة إلى إحدى البلدان العربية المنتجة للنفط.
وتشهد الإحصاءات البليغة المعنى على جذور هذا الوضع المفجع، الذى يعطى للجامعات ذلك الدور المعوق لتنمية البلاد فقد ارتفع عدد الطلاب من أقل من مائتي الف عام 1970 إلى ما يزيد عن النصف مليون عام 1977 .
وأصبحت الجامعة المصرية مؤسسة جماهيرية – أو كما يسميها التعبير العربي،"جامعة الأعداد الغفيرة"وفى غياب الموارد الضرورية ، فإن المفهوم الديمقراطي الجدير بالثناء حول توفير التعليم العالي المجاني لأكبر عدد ممكن من شباب البلاد لتدريب خبراء للتنمية الوطنية قد أنتج نظام تعليم منخفض السعر تقاس تكاليفه بضياع الوقت والجهد وهى التى تجاوزت مميزاته بقدر ملحوظ.
ولا يدرك الطلبة أنفسهم هذه المشاكل . إلا أن الجماعات الإسلامية اكتسبت قوتها الملحوظة من قدرتها على تحديد هوية هذه المشاكل وطرح الحلول المباشرة لها.
والطالب المصري يواجه أول ما يواجه الصعوبات التى يستحيل تذليلها بسبب تشوه البنية الأساسية فليس من الغريب أن يشترك طالبان أو ثلاثة فى مقعد واحد فى قاعات المحاضرات والمعامل المزدحمة. ويحتاج الطالب لمهارة فائقة حتى ليستمع إلى صوت الأستاذ خاصة عندما يتلف الميكروفون أو عندما يحدث انقطاع للتيار الكهربائي.
والقدرة على متابعة الشرح على السبورة امتيازا يحتكره شاغلو مقاعد الصفوف الأولى.على ذلك، ولأن الامتحانات تسأل الطلبة أن يتقيأوا محاضرات المقرر العبقرية كلمة بكلمة، فإن النجاح لا يعتمد فقط على شراء المذكرات التى يبيعها الأستاذ، بل أيضا على الحضور الدؤوب للمجموعات الخاصة التى يعطيها الأساتذة خلال الشهرين الأخيرين قبل امتحانات نهاية العام.
وتضمن هذه المقررات ، وهى النقيض الكامل لنظام التعليم المجاني، البقاء للأساتذة الذين تبعث روايتهم على السخرية. وتعتمد هذه التكلفة على سعر السوق المعوم للدبلومات المختلفة، وأكثرها تكلفة هى الطب والهندسة. وأعلى سعر على كل هو سعر مجموعات التشريح الباهظة الثمن، والتى تتطلب الحصول غير القانوني على جثة حديث الدفن- وهى مهمة يطلب المتخصصون فيها أجورا عالية.
ونتيجة أخرى ترتبت على ازدحام قاعات المحاضرات ، هى الاختلاط الذى يخدش حياء الطالبات، واللاتي يقاسين نفس المتاعب خلال الرحلة اليومية إلى الحرم الجامعي فى أتوبيس يزدحم بالشر ولا توجد فيه مسافة بين الاحبار.
وفى مجتمع مفرط فى الاحتشام لا تتم فيه العلاقة بين الجنسين إلا فى وقت متأخر ويعين الزواج حدودها بشكل صارم، يصبح الأتوبيس المزدحم والذى تلتصق فيه الأحبار بعضها بعض، مكانا لاختلاس الاثارة الجنسية التى تشعر الطالبات فيها بأنهن ضحاياها.
أما هؤلاء الذين يتدبرون أمورهم لكى يهربوا من مشقة المواصلات فيقطنون فى أماكن تماثلها ازدحاما وتراصا فى غرف جماعية أو منازل يؤجرونها من أناس انعدمت ضمائره، تجار النوم الذين يتواجدون فى المناطق المجاورة مباشرة لحرم الجامعات.
وفى أسيوط على وجه الخصوص ينمو ما لا نستطيع سوى أن نسميه الحزام وهو حى الحمرا. حيث ينحشر فيه عالم كامل من الطلبة الفقراء فقرا مدقعا، والذين حرموا من الوسط الأسرى وأصبحوا ذوى حساسية عالية للاستجابة لأى صوت يمثلهم ويدعوهم إلى تحسين ظروفهم.
ولم تكتمل هذه الصورة الخاطفة للجامعة المصرية دون ذكر ملمحين إضافيين ، فمن ناحية الهجرة الجماعية للمدرسين الذين يفرون من أعمالهم وظروفهم المعيشية البائسة ليبحثوا عن وظائف فى الجامعات الجديدة فى بلدان النفط فى شبه الجزيرة العربية (وهى الظاهرة التى تفاقم من سوء مشكلة الازدحام المفرط ، ففى بعض العلوم وصل معدل الأستاذ الطالب إلى 1\100) وم ن ناحية أخرى ، النظام الجامد للترشيح عن طريق مكتب التنسيق وتنشر الجرائد كل عام درجات الثانوية العامة التى لن تقبل كل كلية أقل منها لالتحاق الطالب بالسنة الأولى بها.
وأعلى مجموع فى هذا السوق الجامعي تطلبه كليات الطب والصيدلة وطب الأسنان، هذا بالنسبة لشعبة العلوم، وبين عام الالتحاق بالجامعة والتخرج منها، تحتشد نخبة المستقبل (أو بحد أدنى هؤلاء الذين يمكن تصنيفهم على هذا الأساس وفقا لمجموع تخرجهم) فى هذه الكليات .
أما بقية الطلاب فيتنافسون على الكليات ذات المستوى العادي، وحتى غير الملائم ، فالطالب الذكي الذي يسعى أن يكون من رجال القانون يعرف أنه إذا اختار كلية الحقوق بينما تتيح له درجاته الالتحاق بكلية الصيدلة ، فاء أقرانه ومستوى التدريس سيكونان أقل بكثير من توقعاته .
فكل مجالات المعرفة تحولت بالتالي إلى ما يسميه المصريون أنفسهم"كليات تافهة"وهذه هي حالة العلوم الإنسانية ، على سبيل المثال، وبشكل خاص الدراسات الاجتماعية ، مع استثناء واحد قليل العدد لكلية العلوم السياسية بجامعة القاهرة .
وفى هذا المجال ، كما فى كل المجالات الأخرى ، نلحظ الطابع الذي لا ينمحي للناصرية (والذي يسير على خطى الأخ السوفيتي الأكبر) التي فضلت أن تربى لا ينمحي للناصرية (والذي يسير على خطى الأخ السوفييتي الأكبر التي فضلت أن تربى كوادر فنية قادرة على إصلاح أحبار البشر والآلات بدلا من أن تربى مفكرين يتصدون لمواجهة مشاكل المجتمع. حيث كانت تلك هى مهمة الضباط الذين جاءوا من صفوف الجيش).
أما الجماعات الإسلامية فقد طرحت حلول إسلامية لمشاكل هذه الصورة القائمة، التي تعر وساخاتها بانتظام حتى الصحف شبه الرسمية. وتكلمت بلغة سهلة الفهم بالنسبة لجماهير الطلاب، التى ظلت هوياتها الثقافية الأعمق تقليدية تماما، كما لاحظ ذلك موريس . ب . مارتان ، وهو أحد أكثر المراقبين دقة وانتباها للساحة المصرية المعاصرة.
أصبح اكتساب التعليم الجامعي مهمة يائسة وتنطوي على خطر واضح . يائسة لأن عدد الطلاب والمنافسة يتطلبان بعض النظر كون مجال الدراسة ضيقا، جهدا خارقا يلعب فيه الذكاء دورا ضئيلا. ومن المفارقات في هذا الصدد أن الجهود الغير متجانسة تصبح جهودا سلبية بدرجة ما حيث أن الطالب يصبح عبد للمذكرات بمحتواها الضيق والمجزئ.
وبالنسبة لمعظم الطلاب، لا يقف هذا الاكتساب السلبي للمعرفة الحديثة والذي يتم لأغراض مهنية موقف التحدي للأسس الثقافية لمجتمعهم على التقليدي على الإطلاق . فليس للتحديث أي انعكاس على الثقافة وخاصة الثقافة الدينية الموروثة وقد يفسر هذا بشكل جزئي كيفية حفاظ الطلاب على نوع من السلوك المزدوج ، والمتوازي السلوك العصري فيما يتعلق بالاهتمام بالتقنيات المكتسبة والتقليدي فيما يتعلق بأسلوب الحياة والتفكير".
في ظل النظام
لكي نفهم الوسائل التي اتبعتها الجماعات الإسلامية سعيا لمواجهة أزمة الجامعات المصرية، ينبغي علينا أن نوجز مراحل تطورها من عند النقطة التي تركناها عندها أي منذ أواخر 1972 عندما عارض الطلبة الإسلاميون الشيوعيين والناصريين، مما جعل النظام يمتن لهم امتنانا كبيرا.
وخلال العطلة الدراسية عام 173 نظمت جماعات جامعة القاهرة معسكرا صيفيا كبيرا وفى العام التالي نشرت الأهرام تقريرا عن حفل ختام"المعسكر الإسلامى"الذي نظمه"طلبة جامعة القاهرة "وذكرت الجريدة القاهرية اليومية أن الأمين العام لحزب الحكومة قد حضر الاحتفال بشخصه وأشاد بنجاح المشروع فقد قضى خمسمائة طالب أسبوعين يتدارسون فيهما القرآن والفقه.
وفى عام 1975 نشرت نفس الجريدة تقريرا عن معسكر القاهرة وعن معسكر آخر أقيم في بني سويف. كما افتتح عبد الحليم محمود شيخ الأزهر معسكرا آخر في المنصورة.
وبالرغم من أن الرقابة الحكومية على الصحافة لم تسمح بالنشر الصحيح للحقيقة ، إلا أن الجماعات الإسلامية كانت هي التي نظمت هذه المعسكرات، التي تعتبر ببساطة إحياء للمعسكرات الصيفية التى كان يعقدها شباب جماعة الإخوان المسلمين قبل حلها عام 1954 .
وقد كانت بمثابة لإعداد الكادر وكادر المستقبل لحركة الإسلاميين . ولم يكن المشاركون فيها يقضون كل وقتهم فى دراسة القرآن فقط، كما صورتهم الأهرام بكرمها يفعلون ذلك، بل كانوا يتدربون على مختلف الرياضات الجماعية وعلى الدفاع عن النفس .
ويصلون جماعة وبعد صرة المغرب يستمعون إلى الدعاة الذين يقدمون حلول الإسلاميين للاحباطات المريرة للمجتمع المصري المعاصر. لقد كانت المعسكرات تجارب صغيرة ليوتوبيا الإسلاميين فى ماضيها ومستقبلها، وحاولوا فيها إحياء العصر الأسطوري لـ"الخلفاء الراشدين"العصر الذهبي للإسلام، وتخيله مستمرا فى الزمن. لقد قصد بهذه المعسكرات أنتكون نموذج للمجتمع الإسلامى في المستقبل الذي انتوى الإسلاميون الشباب بناءه على حطام الجاهلية.
وعلى كل ، ففي عام 175 اعتبرت السلطات السياسية المصرية هذه المعسكرات مجرد ترياق مؤثر للأيديولوجية الماركسية التي تبناها الشيوعيون والناصريون. وفى نفس الفترة سمحت التعديلات العديدة التي أدخلت على لائحة اتحاد طلاب الجمهورية للجماعات الإسلامية بأن تستولي على الاتحاد وأن تستخدم مخصصاته المالية الكبيرة وتسهيلاته مما أتاح لها تسيير السياسة الطلابية بما سيسجل لها فيما بعد نجاحا كبيرا.
بل وافتتح السادات نفسه، في الفترة من الثالث إلى التاسع من أبريل 174 بالإسكندرية، المؤتمر الثامن لاتحاد طلاب مصر، بخطبة نصح فيها"أبناءه طلاب مصر"بأن يدرسوا بعناية تاريخ الحركة الطلابية في السنوات الثلاث الماضية وأن ينبذوا على هذا الأساس الأيديولوجيات الجوفاء وأن يتفهموا حقيقة بلادهم
وأعاد على الأسماع أن الحكومة تقوم على مؤسسات بعينها، اتحاد الطلاب من ضمنها، ووعد بنظام جديد أكثر ديمقراطية ولقد كان اتحاد الطلاب، منذ أيان عبد الناصر، يعكس عن قناعة اهتمامات السلطة ويعمل كبوق لشعاراتها ونداءاتها.
ففي عام 1963 على سبيل المثال، كان الهدف الأساسي أمام مختلف اتحادات الطلاب في كل جامعة (لم تكن هناك في ذلك الوقت منظمة على مستوى الوطن) أن تشجع روح القومية العربية بين أعضائها وتعمق معرفتهم بالاشتراكية .
وفى عام 1966 صدرت لائحة جديدة حولت اتحادات الطلاب إلى مجرد ملاحق للاتحاد الاشتراكي العربي، الحزب السياسي الوحيد في ذلك الوقت. وأصبح هدفها الأساسي حينئذ خدمة الأنشطة ، يختاره المكتب التنفيذي لاتحاد الطلاب (المادة 15) وفى الختام كان على أي طالب يترشح لتولى مسئولية ما داخل الاتحاد أن يلقى القبول من المكتب التنفيذي لاتحاد الطلاب (البند 4 من المادة 40).
وللأسف ، لقى هذا الصرح الشامخ مصرعه على يد هزيمة مصر في حرب 1967 . وخلال أعوام ثلاثة من النقد الذاتي والحرية النسبية في أعقاب الحرب وقبيل وفاة عبد الناصر، صار الطلاب قوة سياسية لم يعد باستطاعة النظام أن يتجاهلها أكثر من هذا . ومن ثم قرر أن يقيم مؤسسة طلابية فصدر المرسوم رقم 1533 لسنة 1968 بإقامة الاتحاد العام لطلاب الجمهورية.
ولم يعد من حق الاتحاد الاشتراكي العربي (ح. ش. ع) أن يشرف على الولود الجديد. ورغم الاستقلال الذي تمتع به الاتحاد العام، فقد ظل يستهدف أساسا النضال ضد الرجعية، والاستعمار والصهيونية العالمية (البند 3 من المادة 5) وصار لهذا الاتحاد العام موارده الضخمة التي تتجاوز بمراحل موارد هذا الاتحاد أو ذاك في هذه الكلية أو تلك الجامعة.
وكان يرأسه رئيس منتخب، وينقسم إلى خمس لجان على مستوى القطر (لجنة العمل السياسي، ولجنة العلاقات العربية، ولجنة العلاقات الخارجية، ولجنة العلاقات الداخلية، ولجنة العلاقات العربية، ولجنة العلاقات الخارجية، ولجنة العلاقات الداخلية، ولجنة الإعلام والنشر المادة 25) وكان على هذه اللجنة الأخيرة أن تنشر المجلات والكتيبات لتثقيف الطلاب (البند 5 من المادة 26).
وفيما يلي القواعد التي وعد بها السادات في عام 1974 لجعل الاتحاد أكثر ديمقراطية . وقد صدرت بمرسوم رقم 335 لسنة 1976 حيث قررت أن الهدف الرئيسي للاتحاد الآن هو'"تعميق القيم الدينية لدى الطلاب "'(البند 1 من المادة 5) هذا رغم وجود الإشارات التقليدية إلى تعميق المفاهيم الاشتراكية (البند 3) وإلى النضال ضد الثالوث اللعين،الرجعية والاستعمار والصهيونية العالمية (البند 3 من المادة 6) ويتكون مكتب الاتحاد، الذي أصبح مستقلا الآن ، من رئيس واثني عشر عضوا آخرين يتم انتخابهم جميعا بشكل مستقل (مادة 39) مما أتاح للتيارات المختلفة فرصة الحصول على تمثيل لها داخل المكتب.
وقد دعمت الجماعات الإسلامية من خلال إنشاء لجنة جديدة، هي لجنة"الدين والمجتمع"حيث تدفقت إلى الاتحاد من خلال هذه الثغرة.
وقد أعطى تأسيس خلايا الجماعات الإسلامية في اتحاد الطلبة الإسلاميين منبرا مؤثرا بدرجة واضحة ونتج عنه توسع في عمليات التجنيد وفور أن سيطرت الجماعات على لجنة الإعلام والنشر على مستوى الجمهورية عام 1975 على سبيل المثال، أصبح بإمكانهم استخدام أموال الحكومة ومساهمات الطلاب على حد سواء لانتهاج سياسة واضحة في ‘خراج كتيبات الإسلاميين بسعر منخفض سميت السلسلة"صوت الحق".
(والذي تصادف أن يكون أيضا العنوان الجانبي لمجلة الدعوة ) وأتاحت لكل طالب ليس فقط الاطلاع على فقرات مكثفة من كتاب"معالم في الطريق"والذي كانت نسخة صعبة المنال في مصر في ذلك الوقت، وإنما كذلك على مختارات من مؤلفي حركة الإسلاميين البارزين في القرن العشرين.
إلا أن الجماعات الإسلامية لم تصبح القوة المهيمنة في الحركة الطلابية حتى مؤتمر الاتحاد في مارس 1976 إذ أن عمليات التحريض والإضرابات الطلابية التي وقعت في يناير 1975 تضامنا مع عمال حلوان كانت ما تزال تدين بالقيادة لليسار الماركسي والناصري، إلا أنها كانت اللحن الختامي لسيطرة اليسار على الجامعات.
وفى مارس 1976 كان الموت قد تقرر حيث انصب اهتمام المؤتمر الذي انعقد في شبين الكوم، أساسا على تطبيق الشريعة الاسمية، ونظم مسيرة إلى ميت أبو الكوم، مسقط رأس السادات ، لتقديم هذا الطلب إليه.
ووجهت العرائض باحترام إلى"الرئيس المؤمن"وهى العرائض التي احتوت على الناتج النهائي للمعارضة السياسية للنظام التي عبرت عنها بصراحة الجماعات الإسلامية ، التي ادخرت أسلحتها الحادة لمواجهة الشيوعية.
تغيير الحياة
بالرغم من تمتعها بالتشجيع الخفي من النظام، إلا أن الجماعات الإسلامية لا تدين بكل نجاحاتها لتوجيهات وزارة الداخلية، فتكتيكات بحثهم عن قاعدة لهم وسط الطلاب كانت حاسمة في هذا الشأن .
فمن خلال تطوير إستراتيجية لتغيير الحياة في الحرم الجامعي أقنعت الجماعات الإسلامية الطلاب بأنهم يستطيعون أن يملكوا أقدارهم منذ تلك اللحظة ، وليس من خلال الدعاية للشعارات والمشروعات الحكومية التي ستنتهي لا محالة إلى الغرق دونما أر يذكر تحت ثقل الفساد وسوء الإدارة.
وفى عدد فبراير عام 1980 من مجلة لدعوة يحتوى القسم الذي كان عنوانه"أخبار الشباب والجامعات"– وهو العمود الذي يسمح لنا بتتبع أنشطة الجماعات الإسلامية شهرا بشهر (رغم تنقيحات التلمسانى وأقرانه) – على مقالة عن"المشاكل الكبرى التي تواجه الشباب"وأول هذه المشاكل كان الاختلاط بين الجنسين"سلاح الإفساد الغربي الذي استخدم ليجعلنا نتخلى عن شخصيتنا الإسلامية"ويذكر أحد الطلبة الذكور أن"الاختلاط بين الجنسين في المدرجات المزدحمة يصبح إغراء لضعاف الروح"...
ونحن لسنا ضد وجود الطالبات، ولكننا ينبغي أن نعرف ما إذا كانت الفتاة التي تضع ماكياجا طالبة أو مانيكان"والمدينة الجامعية أصبحت مرهقة ومزدحمة، في ظل وجود ثلاثة أو أربعة طلاب في الحجرة الواحدة . ومن المستحيل على الطالب أن يركز لكي يحفظ المذكرات المنسوخة ثم تأتى مشكلة المواصلات فالطلبة يبقون في قراهم بسبب صعوبة السكن في المدينة ، وبالتالي فهم ينحشرون كل يوم في الأتوبيسات المزدحمة ولكل هذه الأسباب يعجز الشباب عن القيام بدورهم فى المجتمع .
المرأة أولا. إن ظاهرة"العودة للحجاب"لقطاع من طالبات الجامعة، والتي تشجعها الجماعات، أصبحت متفشية لدرجة أنها تثير بعض التساؤلات حول الأحداث اليومية التي تحكم حياة الطالبات المصريات. ففي مجتمع أصبح الزواج المتأخر هو القاعدة فيه، هذا الزواج الذي يرتبط فقط بقدرة العريس المنتظر على دفع"خلو الرجل"بعد عودته من هجرته في الخليج، والعلاقات الجنسية قبل الزواج استثناءات نادرة ، أصبح الكبت الجنسي ونتائجه الطبيعية والعادة السرية مشكلتين قوميتين.
بسبب عد قدرة البني التحتية على مواجهة الزيادة في عدد السكان سوف يضع الشابات بشكل خاص في وضع غير مريح بالمرة. وفى واقع الأمر فإن أي شيء يمكن أن يحدث في أتوبيس يحمل الطالبات الصغيرات من مساكنهم إلى الجامعة.
وقد تصدت الجامعات لهذه الظروف الصعبة ، فسوف نقوم بتيسير خطوط أوتوبيسات صغيرة خاصة بالطالبات لكي نصون كرامتهن من أن تنجرح في المواصلات العامة .
وسار أول خط من هذه الخطوط تحت رقابة اتحاد طلب كلية طب القاهرة بالاشتراك مع الجماعات الإسلامية في هذه الكلية في مارس 1977 . وكان خط سيره من إمبابة (وهى حي فقير) إلى الدقي(أحد الأحياء الراقية) إلى قصر العيني (حيث تقع كلية الطب) وبالعكس . ونجح هذا المشروع نجاحا فوريا. لكن نظرا لأنه كان يتطلب اعتمادات مالية كبيرة ، فضل القائمون على المشروع في بداية الأمر، ثم بعد ذلك بشكل إجباري، أن ترتدي اللاتي يستخدمن وسيلة المواصلات هذه الزى الإسلامى – حجاب وفستان طويل وقفازات.
وتبرز مشكلة مماثلة في المدرجات، وقاعات المحاضرات الممتلئة بضعف سعتها. فطالبات تتضايق من تكوم المحيطين بهن فوقهن. ومن خلال مطالبة الجماعات الإسلامية بالفصل بين الجنسين في صفوف مختلفة، كان باستطاعة الجماعات الإسلامية أن تتصدى لمشكلة حقيقية وأن تقدم حلا ذكيا وجديرا بالتنفيذ الفوري.
وسواء كانت الطالبات متعاطفات إسلاميات أم لا ، إلا أنه كان رهانا رابحا حيث أن تأثير هذا الاقتراح يفوق بكثير تأثير سماع القرآن على بضعة قلوب. وكان التأثير المباشر لما أسماه معظم الطلبة والأساتذة في تقديم بني تحتية تليق بالبشر وكأنه شيئا من الممكن احتماله، ولو يتبنى هذا الموقف إلا الأقلية التي كان بإمكانها أن تخلل بشكل نقدي تاكتيك الجماعات الإسلامية ، ولم يكن هناك سوى فرصة ضئيلة لأن يهتم أحد بهذه المعارضة في جامعة القاعات المكتظة والأعداد الغفيرة وعلى أي حال ، فما هو البديل الملموس الذي قدمته هذه المعارضة فى مواجهة الحل الذي قدمته الجماعات الإسلامية لهذه المشكلة؟
وقد كان لتكتيكهم ميزة أخرى ، وهى أنه كان يلقى التأييد – سواء كان بشكل صريح أم مستتر – من جانب أكثر من مسئول جامعي. فالجماعات الإسلامية كانت تتميز بأنها تطرح شعارا سواء كان مسكنا أو لا ، يكون مقبولا من جمهرة المسلمين المقتنعين بأن هذا ما كان عليه الإسلام عند نشأته ، وفور أن تضرب جماهير الطلاب تأييدا لهذا الشعار ، تنادى الجماعات الإسلامية فجأة بأن هذا الشعار يمثل قطيعة المجاهد مع الجاهلين. فما أن يبدأ أحدهم برفضه أن يجلس بجانب زميلته من الجنس الآخر حتى يجد نفسه، شيئا فشيئا – يحارب من أجل تأسيس الدولة المسلمة.
كما طرح الإسلاميون أيضا الحل لمشكلة المراجعة من خلال الدروس الخصوصية والملخصات باهظة الثمن ، فنظمت الجماعات فصولا جماعية للمراجعة في المساجد، حيث يقرأ المجتمعون يصوت خفيض نصص المذكرات في انسجام- دون خوف من مقاطعة أجهزة الراديو أو الجيران.
والأهم من هذا بكثير أن سيطرتهم على اتحاد الطلاب سواء على المستوى القومي أو على مستوى الكليات الرئيسية وفى انتخابات الجامعة للعام الدراسي 1976 / 77، كسبوا مواقع قوية، وبشكل خاص رئاسة اتحاد الطلاب فى جامعتي القاهرة والمنيا ومنصب نائب رئيس الاتحاد في جامعة الإسكندرية.
وادعت الجماعات أن نجاحها يعود إلى قدرتها على الاستجابة لمشكلات الطلاب، ووفقا لاستطلاع رأى أجرته مجلة الدعوة على عينة مجهولة ، اعتبر المشاركون في هذا الاستطلاع ممثليهم من الجماعات فاعلين ومنظمين وجادين ، ومفضلين للديمقراطية. واهتموا بعناية بإبراز صورتهم على أنهم مديرين أمناء وأكفاء في وقت جعل فيه انفتاح السادات الاقتصادي من الفساد واختلاس الأموال العامة ضرعا البقرة المصرية الحلوب.
وقد كان لهذا التكتيك آثاره ، حيث أظهرت الانتخابات الطلابية التي جرت فى نهاية عام 1977 فوزا ساحقا لممثلة الجماعات. لكن الوضع السياسي كان قد تغير. فالنظام الذي كان فى خضم عملية سلامه مع إسرائيل، لم يعد يطيق أي تعامل مع حلفائه السابقين، الذين أصبحوا بعد أن كسروا شوكة اليسار فى حرم الجامعات، عبئا ثقيلا عليه. وصار على استعداد أن يفعل كل ما من شأنه أن يسلبهم نجاحهم.
وكحركة من الطلاب، طمحت الجماعات الإسلامية لأن تصبح القوة الدافعة لعملية تحويل الجاهلية إلى مجتمع مسلم ولكي يقوموا بهذه المهمة، كان عليهم أن يخرجوا من الحرم الجامعي . واختاروا لذلك الاستفادة من مظاهرتين مؤثرتين، أي جمهور المصلين فى العيدين ، عبد الفطر الذي يحتفلون به فى نهاية صيام شهر رمضان ، وعيد الأضحى الذي يذبح فيه المسلمون الخراف تمثلا بتضحية النبي إبراهيم.
فبعيدا عن عدم انتظامهم فى تأدية الشعائر الدينية، فإن المؤمنين فى هذين العيدين يقومون بعملية إعادة تنشيط لإيمانهم، نتيجة للضغط الديني والاجتماعي المكثف فى الشوارع ومن الصحافة وداخل الأسرى . فمن لم يذهب من الناس إلى ا لمسجد سوى مرتين فى العام فإنه يذهب فى هذين العيدين.
وهنا أيضا تضرب الجماعات الإسلامية مثلا على حسها التكتيكي. حيث نظمت الصلوات العامة – فى القاهرة والإسكندرية أولا بعد ذلك ، عام 1980 فى كل المدن المصرية تقريبا- التي يتقد فيها حماس المؤمنين.
واتسم الموقع الذي اختير فى القاهرة - ميدان عابدين الواسع فى مواجهة قصر الرئاسة- بأهمية خاصة فمن خلال الصلاة فى مواجهة بيت الحاكم، يذكره شعبه بضرورة أن يحكم بما أنزل الله وأن يبدأ عهدا عادلا.
فى 1976 حشدت الجماعات الإسلامية عددا لا يستهان به من الذين شاركوا صلاة العيدين، ووفقا لمجلة الدعوة حضر أربعون ألفا (من المحتمل جدا أن يكون هذا الرقم مبالغا فيه) ووفقا لمجلة الدعوة ، حضر أربعون ألفا(من المحتمل جدا أن يكون هذا الرقم مبالغا فيه) صلاة العيد الكبير التي أقيمت بالإستاد الرياى بجامعة الإسكندرية وفى عام 1977 زعمت المجلة أنهم بلغوا مائة ألف فى الإسكندرية ، وخمسين ألف فى ميدان عابدين بالقاهرة ، وآلاف فى إستاد الزقازيق.
وكان المصلون الذين كانوا يرتدون جلاليب بيضاء وعباءات، يتجمعون في المساجد المجاورة لهم ثم يتوجهون جماعات إلى مواقع الصلاة، يهتفون"الله أكبر:. ويرافقهم حتى أماكنهم الحراس الذين ينتمون للجماعات الإسلامية والذين كانوا يقومون بهذه المهمة بفعالية جديرة بالملاحظة (وفصلا النساء، فى منطقة خاصة عن الرجال بستارة كثيفة).
ويؤم المصلين في هذا اليوم ويلقى خطبة العيد داعية ينتمي لحركة الإسلاميين ، ويطير لهذه المهمة نجوم من أمثال محمد الغزالي ويوسف القرضاوى من مواقعهم الشرفية فى ممالك النفط في شبه الجزيرة العربية إلى مصر.
أما في الأقاليم فعادة ما كان يتحدث أمير الجماعة المحلى، وفى حالة عديدة كان القادة المحليون ينتمون إلى تيارات أكثر راديكالية من الشيخين- ناجح إبراهيم على سبيل المثال ، الذي كان قائدا للطلبة الإسلاميين فى أسيوط والذي قبض عليه بعد ذلك عام 1981 ، لكونه عضوا فى المجموعة التي اغتالت السادات .
وحول المصلين يقف الحصر الرخيصة والسواك والعطور ذات الرائحة النفاذة، وآخر ما صدر من كتب ودوريات الإسلاميين . وفى هذه الأثناء ينشر الشباب الملتحي فى الممرات بين المصلين وهم يهزون صناديق التبرعات في أيديهم لكي تلقى فيها الإسهامات الكريمة.
وبشكل عام، كانت تلك الجماعات الإسلامية في عهد السادات حتى عام 1977 فالنظام لم يضع أي عقبة أمام حريتهم فى التعبير ،وتجنبت الجماعات الهجوم على النظام بشكل صريح .
فهل كان ذلك اتفاق جنتلمان أم كانت لعبة حمق؟ ومع أن الجماعات كانت مدركة تماما للحدود التي لن تستطيع أن تتخطاها، إلا أن البنية التحتية التي أسستها الجماعات، والكوادر التي قامت بتدريبها فى المعسكرات الصيفية، وأسابيع الدراسات الإسلامية لا يمكن إلا أن تكون قد تم إعدادها للاضطلاع بمهام محتملة غير سحق اليسار الناصري والشيوعي لصالح المجموعة الحاكمة.
وفيما يتعلق بهم فإنه رغم أن الناصرية كانت بشكل خاص فترة من فترات الجاهلية، إلا أن عصر السادات من ناحية الجوهر لا يختلف على الإطلاق عن عصر سلفه. ومع هذا فإن تناقضاته الداخلية هي التي مكنت الجماعات من النمو فى ظل النظام.
كيف تغدو مسلما صالحا
ابتدأ الشقاق بين النظام والجماعات الإسلامية بسبب حادثتين وقعتا عام 1977 قضية التكفير والهجرة ومحاكمة جماعة المسلمين من ناحية ورحلة السادات للقدس من ناحية أخرى.
فبإلقاء القبض على شكري وأتباعه والحملة الصحفية اللاحقة ضدهم، وجد الطلبة الإسلاميون أنفسهم أمام خيارين في غاية الصعوبة ، إما أن يظهروا تضامنهم مع شكري وأصدقائه من خلال إدانة المحاكمة، كما فعل شيخ الأزهر عبد الحليم محمود، أو يسعوا إلى التباعد عن جماعة شكري بأقصى ما يستطيعون لكي لا يخاطروا باكتساب ازدراء العديد من الذين روعتهم الممارسات الاجتماعية لجماعة المسلمين.
وفى 12 يوليو 1977 ، بعد اغتيال وزير الأوقاف الأسبق محمد الذهبي بعدة أيام نشرت الأهرام سلسلة من الأحاديث الصحفية مع مختلف قادة الجماعات الإسلامية تحت عنوان"شباب الجماعات الإسلامية يلقون الضوء على ممارسات جماعة التكفير والهجرة ويعلنون لقد عارضناهم منذ البداية"ويجب قراءة التصريحات التي استجداها وأعاد صياغتها صحفيو الحكومة بحرص، بالطبع ، لكن هؤلاء القادة الذين أجريت معهم المقابلات الصحفية أصروا على أن الدعوة الإسلامية تعنى لهم، وجوب العمل داخل المجتمع لا أن ينعزل المرء عنه وأن يلجأ إلى الهجرة .
أما الإخوان المسلمون الجد فى مجلة الدعوة فقد نشروا مقالات كتبها أعضاء هيئة التحرير الدائمون، كما نشرت تصريحا لعصام الدين ا لعريان . وهو عالم طبيعة شاب، وأحد المفكرين البارزين للجماعات الإسلامية حيث حاول أن يبرهن على أن تكفير المسلمين بالشكل الذي مارسه شكري خطيئة، وأن مصر لم تزل بلدا مسلما بشكل أساسي تحتاج أكثر ما تحتاج إلى الحرب المقدسة، أو الجهاد . الدائمة حتى يتم إعادة إحياء الإسلام.
أما الدعوى كما فعلت جماعة المسلمين. بأن مصر جزء من دار الحرب، فتعنى سقوط البلاد فريسة سهلة فى يد أعداء الإسلام، ويستحيل فى ظل هذه الحالة أن تنشر مجلة منتحب للاتحاد قرر فيها أنه على الرغم من كونه ليس من أعضاء الجماعات، إلا أنه اشمئز من الضغط الذي يمارس عليها.
وادعى"حسنين مخلوف"رئيس الأزهر السابق، أن المحاولات المعادية للجماعات الإسلامية هي مكائد تحاك ضد الإسلام، وباختصار ، وحيث أنهم يعملون للقضاء على الجماعات ، حتى أنهم حاولوا وضع العلماء فى مواجهتها، فقد وجهت الجماعات نداء إلى كل حلفائها لكي يصطفوا دفاعا عتها . وهؤلاء الذين لم تفصح مقالات المجلة عنهم، كان المقصود بهم النظام- أو بحد أدنى على مستوى الوطن، لأن المحافظتين ورؤساء الجامعات كأفراد ما كانوا ليطبقون سياسة تتعارض مع السياسة التي انتهجوها حتى ذلك الوقت بهذه السرعة.
وطوال فترة الربيع، تلخص تكتيك النظام فى تزييف نتائج الانتخابات وفى رفض اعتماد أوامر الصرف المختلفة التي صدرت عن لجان الطلاب التي ما زال يسيطر الإسلاميون عليها . وفى الصيف تم إغلاق معسكرات الإسلاميين فجأة ، حيث حال الأمن المركزي، وهى فرق مكافحو الشغب، دون دخول الطلبة الإسلاميين إلى المعسكرات فى جامعات القاهرة والإسكندرية والزقازيق.
وأقيم معسكر المنيا، لكن السلطات رفضت دفع نفقاته، رغم أن اتحاد الطلاب هو الذي اعتمد أوامر الصرف الخاصة به. ورغم أن هذه الاستفزازات عرقلت تقدم الجماعات، إلا أنها مع هذا ، قدمت لها فرصة لالتقاط الأنفاس. حيث أحاطتهم بهالة الاستشهاد، التي مكنتهم من تركيز المعارضة على النظام فيما بين 1979 و 1981 والأهم من هذا ، أنها اضطرت الطلبة الإسلاميين للخروج من جيتو الجامعة، الذي يصعب عليهم الاقتراب منه الآن.
فأقيم المعسكر الصيفي لإسلاميين القاهرة فى نهاية الأمر في جامع صلاح الدين بالمنيل ، فى منتصف الطريق بين كلية الطب وبين نادي البحر الأبيض المتوسط، كما أقيم معسكر الإسكندرية فى أحد مساجد المدينة قرب أبو قير. أي أن رسالة الجماعات الاسبانية بدأت فى الانتشار خارج حدود عالم الطلاب . وبدأ محرضوها وكوادرها فى الدعوة بين الناس ، وقاموا بالتجنيد وسط الأحياء الفقيرة وهذا ما اضطر الشرطة فيما بعد فى غارات سبتمبر 1981 إلى اقتفاء آثارهم حتى فى القرى.
وفى مارس 1979 ، وقع السادات اتفاقيات كامب ديفيد . وفى أعقاب عودته من الولايات المتحدة، بدأ فى وضع العراقيل أمام الإسلاميين ، حيث كان يأمل فى أن تمكنه شعبيته كرئيس للسلام من تكذيب وتشويه الذين انتقدوا، باسم الإسلام السلام المخزي مع اليهود .
وفى 15 أبريل وصل السادات ، في رحلته عبر محافظات مصر إلى مدينة أسيوط إحدى المدن التي مارست فيها الجماعات الإسلامية نشاطا مكثفا(والتي خصتهم فيها السلطات بأقصى مساعداتها حتى عام 1977) . وهناك ألقى خطابا هاجم فيه بعنف هؤلاء الذين يحاولون إخفاء أهدافهم السياسية تحت عباءة الدين، وبشكل خاص هؤلاء الشيوعيون الذين يتنكرون فى جلباب أبيض ولحية طويلة، وهاجم الجماعات بالاسم ، واتهم التلمسانى بالكذب .
وقال إن أحد الطلاب قد تم إلقاء القبض عليه وفى حوزته مبلغ 800 جنيه (وذكر فى مبالغة ديماجوجية أي أنه أكثر من راتبي الشهري) وهذا في رأى الرئيس دليل على التمويل الخارجي لهذه المجموعة العملي ، التي تعمل الآن على تحطيم الوحدة الوطنية بتحريضها للجماعات الإسلامية والمسيحية ضد بعضها البعض. وسرعان ما ترجم حنق الرئيس على الإسلاميين إلى أعمال محددة.
فصودر عدد الشهر التالي من مجلة الدعوة . وفى يونيو كانت الجماعات الإسلامية هي المستهدفة بالقانون 265 لسنة 1979 الذي حظر نشاط الاتحاد العام لطلاب الجمهورية ، وجمد مخصصاته المالية، وسمح ببقاء الاتحادات الطلابية على مستوى الكلية سلطة إيقاف أي قرار يتخذه الاتحاد.
وهذا يعنى بشكل أو بآخر ر العودة غلى وضع عام 1963 , عندما كان عبد الناصر في أقصى مراحل انحيازه للسوفييت، فى مفارقة ساخرة لنظام السادات ذو النكهة الأمريكية عام 1979 ، والمفترض أنه يقوم على سيادة القانون ولم تكن هذه هي المرة الأولى رغم ذلك، التي يصدر فيها القرار بعد فوات الأوان.
فالجماعات كانت قد أسست بنية تحتية صلبة، واستطاعت التعبير عن غضبة الطلاب على آثار القرار، إلى ألغيت الخدمات التي كان الاتحاد يؤديها لهم – فلن يكون هناك نسخ رخيصة من المذكرات والكتب ثانية، وسيختفي الزى الإسلامى الرخيص ، وتتوقف رحلات الحج المجانية .. الخ، وفى استعراض للقوى أقامته الجماعات في نهاية رمضان 1979 ، وأثبتت للنظام إذا كان يحتاج لدليل، على أنها لا يمكن أن يخمد صوتها.
حيث نبه الشيخ يوسف القرضاوى في خطبة حماسية ، السادات ، الذي كان قد أولى عملية صيانة مومياء رمسيس الثاني اهتمام كبيرا"إن مصر مسلمة، وليست فرعونية ، إنها أرض عمر بن العاص وليست أرض رمسيس ... وأن الجماعات الإسلامية هم الممثلون الحقيقيون لمصر وليس شارع الهرم وعروض المسرح، والسينما ... مصر ليست نساء عاريات ولكنها النساء المحجبات اللاتي يتمسكن بتعاليم القرآن ... إن مصر هي الشباب الذي يطلق لحاه .. هي أرض الأزهر".
وشرعت الجماعات، بعد أن حرمت من غطاء الشرعية الذي كان يوفره لها الاتحاد العام للطلاب، فى تحويل الجامعات إلى حصون منيعة، بينما سعت إلى اختراق مختلف الطبقات الاجتماعية خارج أسوار الجامعة.
وقد حول هذا البناء monolith الذي سعى الإسلاميون لفرضه على الجامعات حرم الجامعات، الذي كانوا هم القوة المسيطرة عليه، إلى أرض إسلامية terra islamica حرموا فيها، ضربا بالهراوات، أى شيء قد يمثل فسقا فى معتقداتهم ، فكانوا يهاجمون أي شاب وفتاة يمشيان سويا لانتهاكهما الأخلاق الإسلامية القويمة، وأوقفوا العروض السينمائية ومنعوا إقامة الحفلات الموسيقية والحفلات الراقصة.
فنجد أحد المجاهدين الإسلاميين (وهو طالب طب ، تتم لغته عن ذلك) يكتب، على سبيل المثال ، أن الحفلات الموسيقية"ظاهرة مرضية مثلها مثل الطفح الجلدي"بالإضافة إلى كونها مناورة شيوعية تهدف لإفساد الشباب وبذلك تلحقهم الهزيمة بسهولة شديدة. واعتبر أن كل العروض السينمائية والفنية"تحريضا ضد الجماعات"
وهذا في حد ذاته يستوجب منعها بالقوة وقد كان أحد أشكال هذا التحريض عرض فيلم يوسف شاهين، إسكندرية ، ليه؟"الذي قدم اليهود فى صورة أناس طيبين"ومع ذلك ، فقد سعت الجماعات لمواجهة هذا التحريض، باستخدام القضبان الحديدية . إذن فقد فرض نظام الإسلاميين على حرم الجامعات وأصبحت سيطرتهم الآن أكثر بكثير من سيطرة النظام على الجامعات أيام أن كانت للجماعات خلاياها داخل الاتحاد العام للطلاب.
وبينما كان الإسلاميون يهددون بالعصي والهراوات فى يد ، كانوا يكتبون مقالات سعوا بها لحماية صورتهم كقوة مسالمة تعبر عن أعنق عواطف البلاد والتالي يكشفون ظلم اضطهادهم من جانب الحاكم الظالم. وهذا الاضطهاد فضلا عن ما ترتب عليه من دفاعهم عن قضيتهم وعرضهم لها، يقدم لنا فرصة لفهم رؤية الجماعات للتاريخ والمجتمع ، وتعيين موقعهم الفكري.
وتعد النصوص النظرية التي كتبها أعضاء الجماعات الإسلامية قليلة ومتباعدة. فإبان سيطرتهم على اللجنة الثقافية في اتحاد الطلاب، كرسوا كل جهودهم لإعادة طبع مختارات منم مؤلفات مفكرين إسلاميين بارزين. وركزت كتباتهم التذكارية من ناحية أخرى، على شعارات العمل لا على التصورات الأساسية التي تحكم إيمانهم وأعمالهم.
وبالإضافة إلى ذلك فمن المحتمل جدا أن يكون هذا التنظيم، الذي استهدف بشكل أساسي أن يصبح حركة جماهيرية ، قد ابتعد عامدا عن الفكر النظري، فى محاولة لتجنب الانشقاقات المحتملة حول مسائل عقائدية. وداخل هذا الجسد الهزيل إلى حد ما ، يظهر نصان نموذجيان بشكل خاص.
النص الأول صاحبه شخصية شهيرة فى الجماعات الإسلامية ، وهو الطبيب الشاب عصام الدين العريان، وقد نشرت الدعوة مقالة فى الاحتفال بمرور خمسة عشر قرنا على بزوغ الإسلام (فى نهاية عام 1980 ، عبرت عن التفسير الإسلامى لمعنى التاريخ. ويلخص النص الثاني الحظوظ الرئيسية لفكر الجماعات اعتمادا على النشرة الشهرية التي توزعها الجماعات الإسلامية بجامعة الإسكندرية.
وبدراسة لانتشار الإسلام فى الجامعات خلال القرن الماضي وفقا للتقويم الإسلامى (أو بمعنى آخر، منذ 1880) اكتشف عصام الدين العريان سلسلة تشتمل على ثلاث مراحل : التفسخ الذي أصاب أرض الإسلام، واحتلال الكفار لها، ثم اليقظة الإسلامية .
وتتولد المرحلة الثالثة من المرحلة الثانية ، ومع ذلك فيشترط وجود طليعة عاقدة العزم لتعمل كقابلة لهذه المرحلة . وفى مصر كانت هذه الطليعة عاجزة عن لعبة هذا الدور، حيث حلت الوطنية محلها، وحققت الاستقلال، الذي كان بدوره شكلا جديدا من أشكال التغريب.
ومن ثم غاصت البلاد فى المرحلة الثانية، بينما اعتقدت خطأ أنها قد نالت حريتها. وفى واقع الأمر ورغم أن الكفار لا يتمتعون الآن بالوجود المرئي الذي كانوا يتمتعون به أيام الاحتلال البريطاني لمصر، إلا أن أفكارهم قد اخترقت عقول الكثير من المصريين :"بدأ علماء الغرب يروجون فى العالم الإسلامى فكرة أن سبب تخلفنا هو تمسكنا بديننا وأن علينا أن نتوجه نحو الغرب بلا تحفظ كما عبر عنهم بمنتهى الوضوح د. طه حسين..."وهذا التضليل كان ثمنه"أن الشعوب المسلمة جربت بعد الاستقلال تجربتين مريرتين هما التجربة الديمقراطية الغربية ثم التجربة الاشتراكية الشيوعية وكانت الثمار مرة".
ويقول عصام الدين العريان إننا نقف الآن على أ‘تاب مرحلة فجر اليقظة الإسلامية التي تبدأ حركة الإسلاميين بالاضطلاع بمهامها."ومن المعلوم أن جناحي قوى الضغط على الأنظمة الطاغوتية هما العمال والطلاب... فى المدارس والجامعات التى تضم على مستوى العالم الإسلامى 10 ملايين فتى وشاب ... فهيكل الدولة القادمة سيتخرج بين صفوف الجامعيين اليوم ... ولذا كان حرص الحركة الإسلامية الواعية على دفع الشباب المسلم إلى التفوق الدراسي لإعداد كوادر الدولة الإسلامية التي لاحت بشائرها فى الأفق".
وبعد أن عرض عصام الدين العريان تصوره عن تطور المجتمعات المسلمة، انتقل إلى تقديم سيميولوجيا semiologa للإسلاميين لقرائه، إذن أن هناك أربع ظواهر تدل على درجة تطور الحركة. أولها، ارتداء الحجاب"حيث استجابت جموع غفيرة من الطالبات المسلمات لنداء الإيمان والتزمن بالحجاب وهذا يمثل قمة التحدي للحضارة الغربية المتحللة وبداية الالتزام بالإسلام..
"والظاهرة الثانية هى ما يقابل ارتداء الحجاب عند الرجال ، أى إطلاق اللحية وارتداء الجلباب. والظاهرة الثالثة هى الزواج المبكر ، والرابعة هى صلاة العيدين فى الخلاء".
وعند مشاهدة هذه العلامات الأربع، يدرك المرء حركة الإسلاميين قد كونت الجماعات الإسلامية ، التى تمثل"طليعة الأمة"ويمكن تلخيص أهدافها فى شعار واحد : "فعل الخير العام"وهذا يعنى تكريس طاقاتها اليومية لبعث الأمة الإسلامية ، ويشتمل هذا على مهام عديدة مثل توزيع المنشورات، وتنظيم المؤتمرات، وعقد المعسكرات الإسلامية .. الخ .
لكن الطريق ملئ بعقبات كثيرة"تأتى بعضها خارج الشباب"مثل"التناقض بين عقيدة مستكنة فى ضمائر المسلمين وبين أنظمة تتحكم فيها بالبطش والإرهاب .. هيئة التدريس والمناهج الدراسية ... الأهل والأقارب والخوف من بطش السلطات"ومع هذا يجب أن نعلم تماما، أن أخطر العقبات"نابعة من الشباب أنفسهم".
ويجب التمييز فى إطار العقبات النابعة من الشباب، بين المشاكل التي تنشأ من عدم فهم التصورات الإسلامية ، وبين المشاكل التي تنجم عن تطبيق هذه التصورات. فبعض الشباب على سبيل المثال يفهم الإسلام فهما جزئيا ضيقا فلا يفهم شمولية الإسلام مما يجعله يتصور أن الإسلام صلاة وزكاة وصوم وحج فقط وأنه لا دخل له بالحكم والقضاء والحرب والاقتصاد.
وهناك من يفهم الإسلام بشموله ولكنه يركز على الجزئيات والفرعيات ويترك عظائم الأمور وكليات الإسلام بحيث ينغلق فى هذه الجزئيات ويختلف عليها مع إخوانه... وهناك شبا بمخلص سلك سبيل القراءة والاطلاع ثم بعد قراءة بعض الكتيبات ومعرفة بعض المسائل الفقهية إذا به يتصور نفسه فقيها عالما محدثا ويبدأ فى سلسلة خطرة من الفتيا والاجتهاد والتصحيح والتضعيف للأحاديث ويحتقر أهل العلم سواء من المحدثين أو من الأقدمين . ثم هناك من الشباب من يسيطر على ذهنه فكرة العنف والقوة.
ذلك هو الطريق، وتلك كانت العقبات التي ستواجه الإسلاميين على طوله. وفضلا عما سبق، لاحظ أن مجاهد الجماعات الإسلامية فور أن يحصل على الدرجة العلمية ويترك الجماعة، يتحول تحت الضغط الاجتماعي الواقع عليه، إلى مسلم كسول ينس أن الدولة المسلمة لن تقوم إلا من خلال الدعوة الإسلامية . وفى مواجهة كل هذه العقبات، لم يجد عصام الدين العريان ما يفعله سوى أن يطلب العون من الله.
وبعد قراءة هذه الرؤية الإسلامية للعالم من أولها إلى آخرها، الماضي والحاضر، يتعجب المرء من القراءات والصيغ المتنوعة التي أثرت على المؤلف، لأن مفرداته يبدو أنها تتقابل مع مفردات اليوتوبيا الاجتماعية التي تتسلح بالديالكتيك.
وأنا هنا لا أحاول الإيحاء بأن الطبيب الشاب ماركسي متنكر، ولا بأن مراحله الثلاث تتطابق مع اللحظات الثلاث للمادية الديالكتيكية ، ولا طليعة الأمة مع الحزب الثوري، ولا أن رأيه حول الاستقلال المجهض يتقابل مع الكولونيالية الجديدة، ولا أن"العقبات النابعة من الشباب أنفسهم"تقابل الاغتراب وببساطة فإن المؤلف قد تبنى – بدرجة إدراك يستحيل تحديدها-.
مثل العدل الاجتماعي ، والتحرر من النفوذ الأجنبي، والتطلع إلى الديمقراطية والتغير والتي يشاركه فيها النصف مليون طالب مصري والتي سبق أن عبرت عنها- توقف هذا على الفترة ، وعلى الأنماط الأيديولوجية السائدة ، وعلى قدرة هذه الجماعة أو تلك على صياغة هذه المثل حينئذ –.
صياغات ماركسية، وبعبثية واشتراكية عربية وليبرالية ، والدلالة الرئيسية كانت هي التيار الذي استغل- فى مصر السادات فى أواخر السبعينات، بنجاح منطقة اليوتوبيا الاجتماعية، وألحقت برسالتها الخاصة كل رسالات التيارات المعارضة الأخرى للنظام القائم، وأخضعتها للمشروع الأساسي للجماعات.
ويظهر هذا النص أن الجماعات كانت الوريث الفكري لسيد قطب . غير أم مجلة التلمسانى فى نهاية 1980 كانت تبذل قصارى جهدها لتتجنب ذكر اسم سيد قطب سوى فيما ندر ، ومنذ عام ونصف قال التلمسانى إن سيد قطب لم يمثل سوى نفسه، ولم يمثل الإخوان المسلمين على الإطلاق.
لكن اسم قطب برز بشكل منتظم فى كتيبات الجماعات التذكارية وفى نشراتها الإخبارية التي توزع على الأعضاء، وطالب المجاهدون الشبان بإحياء ذكراه، بينما ذهب كتاب المرشد العام السابق حسن الهضيبي، الذي كرسه لتأسيس خط معتدل فى مواجهة راديكالية قطب، فى طي النسيان.
وعلى سبيل المثال، فقد ظهرت مقالة فى العدد الرابع من المجلة الشهرية لجماعات الإسكندرية بعنوان"فكرنا"تضمنت الفقرات التالية، وهى عبارة عن خليط من مقتطفات من"معالم في الطريق"."عندما نقول إن لنا فكرنا، فإننا لا نطرح بالطبع بديلا عن الإسلام... لكن هذا الفكر هو فهمنا له ، هو طريق تحقيق الإسلام فى أنفسنا وفى الأرض..".
كما أن الجماعات تمسكت بتصورات معينة مثل"لا إله إلا الله"،" الربوبية لله وحده"، و"لا عبودية ولا طاعة لسواه"/ و"الحاكمية والشرع لله – الذي لا شريك له"و"التوحيد فى الإسلام يعنى التحرر من كل ما هو فاسد فى الفكر ... ومن العبودية التي زيفتها الدكتاتورية والمحتكرون ، والتوحيد يعنى أيضا، تحرر الروح من كل ما هو موروث وتقليدي مثل العادات والتقاليد".
لخير الأقباط
بعد الخطاب المعادى للإسلاميين الذي ألقاه السادات فى أسيوط فى ربيع عام 1979، وبعد الإجراءات التي اتخذها النظام لإرهاب الإسلاميين ، سعى الإسلاميون قبل أي شيء آخر إعادة ترسيخ ما اعتبروه الحقيقة وسط الرأي العام. فقد اتهموا بالعنف، وتعمدت الحكومة الخلط بينهم وبين جماعة شكري مصطفى . وكان ردهم على هذا الاتهام:"لقد شجبنا دائما هذه الجماعة ونحن لا نوافق على اغتيال الذهبي".
وعادت الدعوة للظهور في يونيو 1979 بعد أن صادر السادات العدد السابق منها، ولم يتخذ النظام إجراءات جديدة تتعلق بالجامعات بعد أن حل الاتحاد العام لطلاب الجمهورية. فهل شعر السادات بـأن ما فعله كان فيه الكفاية، أم أن أحدا قد استحثه على التهادن مع الإسلاميين ، وبشكل خاص مع المعتدلين الذين تمثلهم مجلة الدعوة ، والذي كانت تربطه ببعضهم علاقات وثيقة؟ ومهما كانت الإجابة، فإن النتيجة المباشرة كانت تحذير الحركة radicalization ، وبشكل خاص التحول النسبي لأصدقاء التلمسانى لصالح العناصر الأكثر كفاحية
ومن هنا اشتمل باب"أخبار الشباب والجامعات"بالدعوة، فى هذا الوقت، على"وصايا وتحذيرات"كتبها مصطفى مشهور، الذي كان يحذر"الشباب المسلم"من"التصرفات الانفعالية ، التي يستدرجنا إليها أعدائنا، ومن الصراعات الجانبية التي لا تضيع إلا وقتنا". وحثهم على"أنيسترشدوا بهؤلاء الذين سبقوهم على الطريق، وأن يبدؤوا حيث انتهى أسلافهم بدلا من الانطلاق مرة أخرى من نفس نقطة البداية".
لكن صيحات الاعتدال هذه ذهبت أدراج الرياح، وأصبح الجو العام لحرم الجامعات متوترا للغاية . وفى 24 مارس 1980 حاصر عدة مئات من أعضاء الجماعات مكتب عميد كلية العلوم فى الإسكندرية، ودخل إليه عشرة منهم، واستبقوه لمدة ثلاث ساعات ، وقدموا إليه إنذار من أربع نقاط طالبوه فيها بما يلي:
بألا يكون هناك أي مهرجانات أو عروض سينمائية بالكلية ، وألا يقدم أعضاء الجماعات لمجالس تأديب، وبأن تنظم الكلية"لقاءات إسلامية"وبأن تزال جميع العراقيل التي تعوق ترشيح الطلاب الإسلاميين لاتحادات الطلاب.
ورغم أن العامين الدراسيين 1979 / 80 و 1980 / 81 قد شهدا أحداث متكرر وأعمال فدائية commando actions تورطت فيها الجماعات و"المنحرفون"في جامعتي الصعيد ، المنيا وأسيوط، إلا أن التوتر تبلور بشكل أساسي حول المسألة الطائفية .
ويعد حجم الطائفة القبطية في المحافظات الثلاث، فى المنيا وأسيوط وسوهاج أكبر من حجم المعدل القومي الذي يبلغ 6,31 % من إجمالي السكان، إذ وصل إلى 19,4% و 20 % و 14,6% على التوالي وفقا لآخر إحصاء رسمي للسكان 1976 والذي تعرض لمناقشات ساخنة، ولكي نفهم تهمة"الاستكبار"التي وجهها الإسلاميون إلى المسيحيين .
يجب علينا أن نعود إلى الوراء حتى منتصف القرن التاسع عشر. حينما كانت الطائفة القبطية تعانى فى ذلك الوقت من الضعف، حيث حرمت تراثها الثقافي، وانحصرت فى الريف، ولم يكن لهم سوى عدة كنائس ، مما أدى إلى التفاف الأقباط حول رجال دينهم وقد تملكهم القلق من تكرار الإشارات والكلمات الشعائرية ومنذ عام 1875 تقريبا فصاعدا، وكنتيجة للتعلم الذي تلقته فى مدارس الإرساليات بشكل أساسي، بدأت نخبة قبطية فى استيعاب الثقافة الغربية الحديثة مما مكنها من اكتساب وزن هام فى قطاع الخدمات العامة، والتجارة والمهن الحرة ، الخ.
وكانت هذه ا لنخبة ذات عقلية علمانية وقد عارضت البطريرك، واعتبرته يمثل التخلف والظلام، فى محاولة للوصول إلى قيادة الطائفة. حيث سعى المجلس الملي، وهو هيئة تتكون من أشراف الأقباط، بشكل دائم لدعم النظام (الذي كان البرجوازيون الأقباط ممثلين فيه بثقل واضح إبان الثلاثينيات، من خلال مشاركتهم الجماهيرية في حزب الوفد، بينما كانت قاعدة البطريرك بشكل تقليدي الجماهير الفلاحية) .
لكن تأميمات نظام عبد الناصر، التي دمرت البرجوازية القبطية العلمانية وأجبرت عدد كبير من أفرادها على النفي الاختياري، رجحت كفة الميزان لإصلاح الكنيسة .هذا ورغم أن الكنيسة تمتعت الآن بسيطرة واضحة على الطائفة، ورغم أن نسبة السكان الأقباط كانت فى تزايد سريع، إلا أن أيديولوجية الناصرية التي كانت تدعو للقومية العربية أغرقتهم فى عالم لا يشكلون فيه سوى كم مهمل .
لكن ونظرا لأن الأجيال الشابة من الأقباط أصبحت تعانى من نفس التوترات الاجتماعية، والثقافية والاقتصادية والسياسية التي يعانى منها كل المصريين ، فقد أظهرت مؤخرا ميلا للعودة إلى الكنيسة، تماما مثلما اتجه الشباب المسلم إلى المساجد أو إلى أنشطة الإسلاميين .
وحتى أماكن الأديرة القبطية التي انبعث فيها النشاط من جديد كانت ذات قيمة رمزية لا تختلف كثيرا عن الأماكن التي اختارتها جماعة المسلمين بقيادة شكري مصطفى لهجرتها. فقد شهدت أبرشيات الصعيد انبعاثا للتفاخر الطائفي وللتعاطف المسيحي، بينما ظل رجال الاكليروس فى الظل، عاجزين عن الإجابة على الأسئلة التي تقلق الشباب، إذ أصبح النوير الفكري محصورا داخل الأديرة، عاجزا عن الوصول إلى أبرشيات الوادي.
ومع هذا، فقد جاء مطلب الهوية الثقافة القبطية ، ردا مباشرا على الفكرة السائدة عند الجماعات الإسلامية ، وعند العديد من المسلين الآخرين. فمن وجهة نظرهم، يظل أهل الكتاب (المسيحيون واليهود) متمتعين فى سلام بمنزلة (الذميين) حتى يجيء اليوم الذي يخترق فيه نور الرسالة الإسلامية قلوبهم ويصبحوا مسلمين. وليس لهم أن يتباهوا برفضهم لهذا التصور.
ووفقا لرؤية الإسلاميين للعالم، فإن الذميين دافعي الجزية يتمتعون بسعادة يحسدون عليها مقارنة بالوضع "المرعب" الذي تعرض له المسلمون فى البلدان المسيحية.
وعلاوة على ذلك تقول الجماعات الإسلامية أيضا إن الأقباط، إذا كانوا مخلصين، عليهم أن يتطلعوا إلى الدولة الإسلامية ، حيث يعرفون جيدا أن الحكومة هي الضامن للعدل والسعادة، تماما كما جاء فى القرآن، وللأسف فإن هذه العلميات قد تم التجهيز لها فى الخارج كجزء من المؤامرة العالمية ضد الإسلام، فهذا هو التبشير المسيحية طليعة الصليبية .
والصليبيون – الكلمة تستخدم هنا للإشارة إلى مسيحي الغرب وإلى المارونيين اللبنانيين – يقودون الأقباط إلى الضلال، ويحرضونهم على رفض وضعهم كذميين، وأن يعملوا هى نشر عقيدتهم، ويحرضونهم على بناء الكنائس الجديدة، لكي يستشيروا حفيظة المسلمين. وواجب كل المسلمين الصالحين أن يقفوا فى وجه هذه المشاريع الآثمة. وهذا ما حاولت جماعات المنيا أن تقوم فى ربيع عام 1980.
اندلعت الأحداث فى المنيا، مع بزوغ الزهور الحمراء فى أوائل الربيع الذي شهد دولة عنف جديدة، ومع تقديم اليتهو بن اليسار، أول سفير إسرائيلي فى مصر ، أوراق اعتماده للسادات ، ومع منح شاه إيران الأسبق حق اللجوء السياسي فى مصر. ففى مارس بدأت الجماعات بتنظيم اجتماعات عامة للنهى عن هذا المنكر.
أعادت فيها إلى الأذهان"فتوى الأزهر عام 1965التي حرمت السلام مع إسرائيل"، وطالبت بالثأر من الإسرائيليين الذين يأتون إلى مصر ومن الذين يتعاملون معهم، وفى نفس الوقت، أقيمت المؤتمرات للتشهير بوصول الشاه السابق، وفى 26 مارس منعت السلطات أحد هذه الاجتماعات ، والذي كان من المقرر عقده فى جامعة القاهرة ، إلا أن مؤتمرا آخر أقيم فى أسيوط وانتهى بمظاهرة جابت أنحاء المدينة.
وفتح الأمن المركزي النار على المتظاهرين، وانتهت المظاهرة بقتيل، وستة مصابين بالغة، وبإلقاء القبض على ستين متظاهرا.
وفى هذا الجو البالغ الخطورة نشب توتر مفاجئ بين السادات وبين بابا الأقباط، شنودة الثالث. وفى الحادي عشر من أبريل عاد السادات من زيارة رسمية كان يقوم بها للولايات المتحدة والتي نشرة خلالها الصحف الأمريكية على صفحات كاملة إعلانات بقلم مهاجرين أقباط تدين"اضطهاد المسيحيين فى مصر". وقد اعتبر السادات هذه الحملة الصحفية محاولة لما يسمى فى الولايات المتحدة"الأصولية الإسلامية".
وعقب عودته إلى مصر، سجل السادات غضبه علانية على رجال الكنيسة القبطية، وبشكل خاص قائدهم الباب شنودة. ووصلت العلاقة بين الرجلين إلى أسوأ درجاتها عندما رفض السادات ، بعد أحداث الفتنة الطائفية فى الزاوية الحمراء فى يونيو 1981 ، الاعتراف بالبابا شنودة كمتحدث رسمي عن الطائفة، وهكذا جرده فعليا من منصبه.
وكانت الكنيسة القبطية قد أظهرت معارضتها للنظام منذ ربيع عام 1980، بمقاطعتها للاحتفالات الرسمية، فلم تتم مراسم الاحتفال بعيد القيامة، ولم تحضر شخصية رفيعة واحدة من الكنيسة المستوى القبطية إلى المطار للترحيب بالسادات عند عودته من الولايات المتحدة.
وفى غضون هذا الوقت نشبت الأحداث فى مدينة المنيا وضواحيها، واشتملت على صدامات بين أفراد من كلا الطائفتين المسلمة والمسيحية وأسفرت عن عدد من القتلى، ووزعت الجماعات الإسلامية فى مصر الوسطى منشورا صورت فيه سردها للأحداث :
"اشتباك المنيا وأسيوط بين النصارى ووزارة الداخلية".
"الإخوة المسلمون:
"فى نفس الوقت الذي أعلن فيه شنودة أن المسيحيين لن يقيموا مراسم احتفالاتهم بعيدهم، ورفض أن يستقبل الرئيس فى المطار، أرسل الأنبا صموئيل (عضو الهيئة الكهنوتية فى الكنيسة، الذي كان جالسا بجوار السادات فى 6 أكتوبر 1981 ولقي مصرعه معه) إلى أمريكا حاملا تعليماته للنصارى هناك لكي يتظاهروا ويوزعوا المنشورات ضد الرئيس ، وفى نفس الوقت أمر شنودة النصارى فى مصر بحمل السلاح ومهاجمة المسلمين وهكذا قامت عصابة من نصارى المنيا بطعن اثنين من المسلمين فى الظهر بينما كانا فى طريقهما إلى المسجد.
وعندئذ تجمعت عائلتا الضحيتين وطالبتا المجرمين، الذين تصرفوا وفقا لأوامر الكنيسة بالدية. ولكن العائلتين لم تتوقعا أبدا خروج النصارى عليهم بأسلحة غير مرخصة من أسلحة آلية ونصف آلية . وأطلقوا عليهم النار من فوق أسطح المنازل ، فقتلوا أحد المسلمين وأصابوا آخرين، بينهم نساء وأطفال يرقدون الآن فى مستشفى المنيا العامة".
"وتدخلت الشرطة، وواجهت"ميليشيا النصارى"وضبطت الأسلحة، وقبضت على المجرمين . وفى اليوم التالي ، صادر البوليس"سيارة نقل محملة بالأسلحة فى طريقها للمسيحيين"وفى النهاية، جرد نصارى آخرون من سلاحهم. وبينما يمر المسلمون بهذه المحنة، أخبرتنا السلطات ب، كل هذه الأحداث من تدبير الكنيسة لكي تدعم موقف شنودة فى الخارج ولكي تحصل على امتيازات من الحكومة.
وهكذا طلب وزير الداخلية بالفعل من الأخ حلمي الجزار، أمير الجماعات الإسلامية فى مصر"أن يطلب من الجماعات تهدئة الأسرتين، فى مقابل أن تطلق الوزارة سراح المسلمين الذين قبض عليهم من المساجد، التي اتخذوها ملجأ يحتمون به من هجمات النصارى"وقد تعرض هؤلاء المسلمون أثناء حبسهم لـ"تعذيب وحشي"حيث جوعوا ومنعت عنهم المياه لمدة يومين، وحلقت لحاهم الخ.
فقامت أسرهم بمحاصرة قسم البوليس المحبوسين فيه، وأشعلت فيه النيران. لن وساطة حلمي الجزار وأمير الجماعات فى المنيا، محيى الدين أعادت الهدوء إلى المدينة ، وأطلق سراح أول مجموعة من المسلمين في ليلة 11 ابريل، كان ذلك اليوم هو يوم عودة السادات من الولايات المتحدة"ونحن نعرف أى نوع من الترحيب ذلك الذي قدمه له النصارى من المهاجرين المصريين".
ثم تتابعت الأحداث التى لا يفهمها إلا الله ، حيث القى القبض على محيى الدين ، وتعرضت جماعات المنيا وأسيوط للاضطهاد، وأعلن عن تأجيل الدراسة فى الجامعة ، الخ. فلماذا حدث كل هذا عقب عودته من البيت الأبيض؟ هل كان هذا نتيجة ضغط الصليبيين الأمريكيين لضرب الحركة الإسلامية فى مصر، والذي صورته وثيقة ريتشارد؟.
وهذه إشارة واضحة للوثيقة التي نسبت إلى المستشرق الأمريكي ريتشارد ب. ميتشل من خلال مجلة الدعوة . (يشير المناضلون الإسلاميون لميتشل باسمه الأول، على الطريقة العربية، التي تزيد من صعوبة تعرفنا عليه) فإلى أي مدى سيذهبون؟ . إن النصارى السفاحين أثناء هجومهم، أظهروا السلاح الذي جلبوه من المحافظ النصراني لجنوب سيناء (المحافظ المذكور كان هو المسيحي الوحيد الذي يشغل هذا المنصب، وقد أقيل بعد ذلك) ، بينما كان السجن نصيب المسلمين.ويقدم لنا هذا النص ، سواء قرأناه كما هو أو دققنا فيه، لمحة للكيفية التي صاغت بها الجماعات الإسلامية سواء علاقاتها الطائفية أو علاقاتها الخاصة بالدولة.. فكل شيء قد بدأ مع مهاجمة بعض الفلاحين، المسيحيين فى هذه الواقعة، بعض الفلاحين المسمين. فحاولت عائلات الضحايا الأخذ بالثأر ، لكن المسيحيين جيدي التسليح تصدوا للمسلمين.
وهذا مشهد نموذجي ودقيق للانتقام فى صعيد مصر، باستثناء أن المسيحيين فى هذه المرة لم يتبعوا القواعد المتعارف عليها. فبدلا من الرد على بنادق الصيد فى أيدي مهاجميهم بأسلحة على نفس المستوى، بما يسمح بقتي أو جريح فى كل جانب، اتضح أن لدى المسيحيين، ولدهشة المسلمين البالغة، أسلحة ثقيلة، وبالتالي فقد تغيرت الرموز.
فبدلا من أن يكون ما حدث مجرد صراعا تقليديا على تعيين الحدود بين الحقول، أو بسبب ادعاء أحدهم أن البعض قد سحر لبقرته كي ينضب لبنها، أصبحت الحادثة مأساة قومية ذات أهمية دولية. وبعد أن تفوق الفلاحون الأقباط لأول مرة فى صدام مسلح، صاروا تلقائيا نصارى مستكبرين يهاجمون الإسلام.
ووفقا لكل الاحتمالات ، كان هذا سبب تدخل الجماعات الإسلامية ، وإن لم يقل المنشور هذا . وبعد ذلك وصلت الشرطة وألقت القبض على أشخاص الجانبين. وبدلا من أن يهدى هذا من الوضع العام ، أثار تدخل الشرطة ردود أفعال جديدة منكل طائفة ضد الأخرى، ومنهما معا ضد الدولة. وأحاطت عائلات المسلمين المقبوض عليهم، أما التشديد على الادعاء بأن الشرطة قد عذبت المسلمين بقص لحاهم فيعنى أن الضحايا لم يكونوا من الفلاحين البسطاء، ذوى الذقون الحليقة.
ووصل الوضع إلى حد خروجه عن سيطرة رجال الشرطة مما دفع النبوى إسماعيل وزير الداخلية فى القاهرة ، إلى عقد صفقة مع قائد الجماعات يتم وفقها فك الحصار الذي فرضته قوات الجماعات على قسم الشرطة مقابل الإفراج عن الإسلاميين المقبوض عليهم ، ونفذ القائد المحلى للجماعات ما يخصه من هذه الصفقة، وفى مساء الجمعة 11 أبريل أطلق سراح المسجونين وساد الهدوء المدينة.
إلا ان السادات ، فور عودته من الولايات المتحدة، أمر بالقبض على مجاهدي الجماعات فى المنيا وأسيوط، وأوقف الدراسة بالجامعتين، وتنصل من اتفاق وزير داخليته.
لا يقدم منشور الجماعات سلسلة من الأحداث المترابطة فحسب، لكنه يقدم أيضا تفسيره لها – فعقب كل انعطافة جديدة للأحداث، يثبت أحدهم أنها مرحلة من مراحل المؤامرة ضد الإسلام التي يقوم بتنفيذها نصارى مصر وفقا لأوامر قادة الكنيسة ، التي تتبع بدورها تعليمات الصليبيين التي أوضحتها وثيقة ريتشارد.
وقبل أن يسرد المنشور الحدث، يضعه فى سياق التوتر بين النظام والكنيسة فشنودة يحرص الدولة ورئيسها، ليس فقط من خلال الحملة التي شنها فى الولايات المتحدة، لكن أيضا من خلال أوامره للفلاحين الأقباط بالتمرد. أما المسلمون الذين هوجموا فقد كانوا يطعنون من الخلف بينما هم فى طريقهم للمسجد. بما يوضح غدر الأقباط ونيتهم المبيتة لمهاجمة المسلمين دون استثناء ، حيث أن الضحيتين كانا فى طريقهما إلى دار العبادة.
وهذه التفصيلات فى غاية الأهمية ، إذ هى تهدف إلى منع القراء من استنتاج أن ما حدث كان مجرد خلافات عائلية. وفى واقع الأمر، فإن المنشور يذهب إلى أبعد من هذا فى الجملة التي تلت ذلك مباشرة والتي تشير إلى أن"المجرمين كانوا ينفذون أوامر الكنيسة".
وهناك دليل آخر على أن هناك مؤامرة يجرى تنفيذها، إذ أن النصارى وفقا للمنشور ، قد جلبوا أسلحة غير مرخصة استطاعوا بها أن يجبروا عائلات الضحايا على أنت تفر من أمامهم وهى التي جاءت بكامل رضاها تطلب دية القتيلين. ويصعب تصديق هذا الادعاء من جانب أي شخص يعرف أقل القليل عن قرى وادي النيل.
فبسبب انتعاش تجارة تهريب السلاح، أصبح لكل عزبة ترسانة السلاح الخاصة بها ، وتتم مصادرتها بين كل حين وآخر من خلال حملة عسكرية يجردها المحافظ. لكن الهدف الأساسي هنا أيضا كان إظهار المسلمين، رغم مطالبتهم بالثأر، وهم يقفون فى صف القانون ، بينما الأقباط هم الخارجون عليه.
ويخلص المنشور إلى استنتاج فى صورة بلاغية واضحة، أن السادات من خلال تلقيه الأوامر من البيت الأبيض، إنما ينفذ تعليمات"وثيقة ريتشارد"وأم موظفا على مستو عال، وهو المحافظ المسيحي لجنوب سيناء، يزود إخوته فى الدين بالأسلحة الآلية.
وينثني منشور الجماعات الإسلامية ، بعد أن هاجم بعنف الكنيسة القبطية، ليتهم الدولة تحت رئاسة السادات بأنها وبغض النظر عن عجزها حتى عن تطبيق قانونها الوضعي للحفاظ على أمن المجتمع (طالما أن الجماعات كما تدعى ، هي التي استطاعت أن تستعيد الهدوء) وقمة الجهاز الادارى تضم مسيحيين هدفهم الوحيد ذبح المسلمين. إن ما تشير إليه هذه الوثيقة بشكل خاص يستحق منا بعض التعليقات.
أولا، تقدم لنا هذه الوثيقة صورة لقاعدة الجماعات في الصعيد. فالطلبة الإسلاميون فى المنيا أبناء عائلات فلاحيه ومستعدون للتدخل فى صراعاتها. ويستطيعون تدبير السلاح من مخازن هذه العائلات، وقادرون على تحويل العنف التقليدي الذي يصاحب عملية الثأر إلى عنف سياسي ضد الدولة، وفى الحالة ا لسابقة تمثل ذلك فى حصار قسم الشرطة.
وكان النجاح فى تحييد هذه المؤسسة الهامة فى الدولة فى مدينة كبيرة مثل المنيا فى ربيع 1980 بتأييد أو بمشاركة جزء من السكان، بمثابة تدريبا نهائيا على تطويق مدينة أسيوط لأربعة أيام على يد جماعة الجهاد فور اغتيال السادات ، إلى أن وصل صفوة المظللين المصريين إلى المدينة وأنهوا هذا التمرد.
وعلاوة على ذلك – ومن الملفت للنظر أيضا أن يحدث هذا فى بداية عام 1980- لم تتردد الجماعات الإسلامية فى التلويح بنيران التوتر الطائفي لكي تضع الدولة فى مثل هذا الموقف الحرج، ولكي تظهر استعدادها لتدعيمها، كخطوة أولى من أجل كسر هذه الدولة. ونفس التكتيك استخدم فيما بعد، فى يونيو 1981 فى ضاحية من ضواحي القاهرة ، فى الزاوية الحمراء.
وفى النهاية ، نلحظ كذلك أن هناك ثلاثة متصارعين فى حلبة المواجهة الطائفية، فبالإضافة إلى الطائفتين المسيحية والمسلمة، تدخل الدولة أيضا طرفا فى هذه الحلبة. ويتحدى الإسلاميون الدولة لأنها، وبغض النظر عن عدم وضعها للمسيحيين فى وضعه الصحيح كذميين، تستخدمهم لاضطهاد المسلمين وتحتفظ بهم كقوات إضافية لأعمالها التعسفية.
وكانت تلك هى خلفية كل هذه الأحداث الطائفية ، حيث تلعب فيها الشخصيات الأدوار الخاصة بها كما وكأنها مقدمة مسرحية للصراع النهائي الذي نشب بين الجماعات والدولة،فى يونيو 1981 .
يونيو 1981 : مات الشاه
فى نوفمبر 1979 أرسل مراسل صحيفة اللوموند الباريسية تقريرا لصحيفته حول صلاة الجماعة التي أقامتها الجماعات بمناسبة عيد الأضحى :"لم يعد الجيش هو القوة الوحيدة المنظمة فى مصر، كما كان الوضع منذ ثورة 1952 . فقد أصبح الأصوليون الإسلاميون يمثلون قوة أخرى منظمة فى الساحة السياسية المصرية، على الرغم من انقسام صفوفهم".
وكانت الطريقة التي تعامل بها وزير الداخلية مع أحداث المنيا فى أبريل 1980 خير ما يوضح صحة هذه الملاحظة أكثر بكثير من قيام الجماعات الإسلامية بتنظيم صلاة العيدين فى العامين الآخرين. وقد أصبح من المستحيل من الآن وصاعد إلغاء وجودهم على الساحة السياسية المصرية بمجرد قرار، حيث أنهم الآن يسيطرون على قوة هائلة من المنتسبين إليهم فضلا عن تمتعهم بتأييد وتعاطف الجماهير الإسلامية .
وبهجومها الانتحاري العلني على النظام، الذي قد يواجه الاتهام بمعاداة الإسلام، سعت الجماعات لإقناع العديد من المصريين بأنها الممثل الإسلامى الشرعي لهم.
وبالتالي، ولكي يتمكن من تحطيم الجماعات، كان لزاما على النظام أن يعمل على تفتيت أواصر التضامن الإسلامى الذي وطدته الجماعات فى جميع أنحاء البلاد، وذلك من خلال اتهامهم بجريمة، بحيث يوازى الأثر الناتج من التشهير بهم ذلك التضامن تلك الجريمة كانت تدمير الوحدة الوطنية، وهى بمثابة الاعتداء على جوهر الكيان المصري كأمة من خلال إذكاء نيران الفتنة الطائفية.
إن أحداث الزاوية الحمراء تطرح، وبشكل دراماتيكي هذا التساؤل. هل تعنى القومية المصرية شيئا بالنسبة للمسلمين المصريين، أم أنهم يدينون بالولاء الكامل للأمة الإسلامية ، كما يعتقد الإسلاميون؟
وإذا كانت الدولة قد تمكنت من الانتصار على الجماعات، فإن هذا يعود لعجز الجماعات، رغم النمو الملحوظ لها، عن إقناع الجماهير المصرية المسلمة بالقتال إلى جانبها لنصرة الأمة الإسلامية . وقد كان هذا العامل أحد أسباب هزيمتهم، ويأتي فى الأهمية قبل التفاوت بين قوى النظام القمعية وقدرة الجماعات على المقاومة.
وفى هجومه على الجماعات وتصفية حسابه معها، اعتبر النظام الجماعات قوى طرد هدفها تدمير القومية المصرية، التي تقوم وفقا لأسطورة قديمة أعاد السادات استخدامها، على التعايش المتجانس المشترك بين الأقباط والمسلمين.
وعندما وقع هجوم الدولة ،لم يكن هناك أي تعبيرات جماهيرية عن التضامن مع الإسلاميين من جانب المسلمين المصريين. وحتى يتحقق قدر من التوازن الطائفي فى القمع وبالتالي يتفادى النظام أي تضامن إسلامي محتمل، وجه ضربات عنيفة للكنيسة القبطية ورجال الدين الأقباط، الذين كانوا يمثلون قوة موازية للجماعات ، وليس للمؤسسة الرسمية أي الأزهر.
وقد كان وضع السادات فى منصف 1981 غير مستقر على الإطلاق. فبعد أن اكتسب السادات شعبية كبيرة فى العام السابق بتوقيعه معاهدة السلام مع إسرائيل التي أنهت حالة الحرب التي أنهكت الجماهير واستمرت منذ بداية عهد عبد الناصر.
لكن المكاسب التي حققها السادات من الاتفاقية اضمحلت مع الاهانات المتتالية. التي وجهتها له حكومة بيجين، وكان أكثرها شدة إعلان القدس عاصمة موحدة للدولة اليهودية. كما ساهم عجز النظام عن التعامل مع المشكلات الداخلية فى التأكيد على هذا يوما بعد يوم.
وكان الرئيس الذي تعرض لتهديد حركة الإسلاميين (التي استغلت التحرر العام من الأوهام) ولانتقادات الكنيسة القبطية ، ولتشهير المفكرين فى صحف المعارضة ا لقليلة ، معزولا أيضا على المستوى الشرق الأوسط، وشعر بأن إدارة ريحان قد خذلته حيث لم تعد توليه نفس الامتيازات التى كان يتمتع بها فى ظل رئاسة كارتر.
وكان السادات قد هرم أيضا . حيث تحولت عبقريته السياسية، التي فاقت بمراحل قدرة خصومه، الذي كان يوقع بينهم بسهولة، إلى طاغية مستبد أسكره الإطراء المبالغ فيه الذي أغدقته عليه وسائل الإعلام الغربية.
فأبدل مستشاريه بحاشية من المنافقين، والوصوليين ورجال الأمن. وكان النبوى إسماعيل وزير الداخلية على رأس جيش من المخبرين، والفتوات وقوات مكافحة الشغب التي تزايد حجمها ونفوذها يوما بعد يوم. وجسدت أحداث الزاوية الحمراء فى يونيو 1981 قمة مناخ الإثارة الذي ساد تلك الفترة.
ليس هناك معلومات واضحة عن سبب هذه الأحداث، والروايات المتوفرة على درجة كبيرة من التناقض . قال البعض أنها قد بدأت بمشاجرة صغيرة بين سيدتين من سكان الحي، واحدة مسلمة والأخرى مسيحية ، وقال البعض أن مجاهدي الجماعات قد استولوا على قطعة أرض مملوكة لقبطي ليبنوا عليها مسجدا.
ومهما كانت الحقيقة، فقد نشبت معركة ضارية بين الطائفتين فى هذا الحي الفقير والمزدحم. وقد أشعل الموقف محرضون مجهولون، وزاد من اشتعاله الصيف الحارق وانقطاع المياه عن المنطقة.
فوقعت جرائم بشعة بين أناس طالما عاشوا سويا فى وئام ، ذبح رجال ونساء ، وألقى الأطفال من الشرفات، بعد أن تعرضت أجسادهم للطعنات النافذة، وكانت حوادث النهب والقتل وحرق المباني فى كل مكان.
وفى نفس الوقت انتشرت فى المدينة المنشورات التي تدعو كل طائفة إلى رفع السلاح. وفى النهاية سيطر البوليس على الموقف، وجاء تدخله وفقا لكل الشهود، بعد أن وقعت خسائر فادحة بالفعل.
وقد أتاح الرعب الذي اجتاح المدينة بفضل الشائعات التي أطلقها المتطرفون من الطرفين للنظام الفرصة التي طال انتظارها لتدمير أواصر التضامن مع الجماعات بين الجماهير المسلمة، فالجماعات اعتبرت مسئولة عن جرائم بشعة تم ارتكابها. وفى 8 سبتمبر قدم مقال طويل فى جريدة الأهرام الرواية الرسمية للأحداث.
وكانت الجماعات فى تلك الأثناء قد تعرضت للحل، وطاردت الشرطة أعضائها فى جميع أنحاء البلاد. أما الصفحة الأولى للأهرام، فقد حملت هذا العنوان الملفت للنظر"كشف مصدر المنشورات التى ساهمت فى إشعال الفتنة الطائفية" ، وتحت هذا العنوان أكدت الأهرام أن أحد الأعضاء المسيحيين فى هيئة تدريس إحدى الكليات"وقد أتم دراسته فى موسكو"دأب على إرسال الخطابات التي تهاجم الدين الإسلامى إلى الشخصيات البارزة باسم مستعار..
وبعد أن يكتشف أمر أحد هذه الخطابات تقوم الجماعات الإسلامية بإعادة طبعه وتوزيعه على مستوى واسع مع تعليقات تحث المسلمين على مهاجمة المسيحيين. وهنا، نقدم نص خطاب أرسله وفقا لرواية الأهرام فى عدد 8 سبتمبر، فؤاد جرجس ، الأستاذ الجامعي المعتقل، والذي كان يعمل محاضرا بكلية الزراعة بجامعة القاهرة ، إلى إحدى الشخصيات .
"إن الدين الإسلامى الهزيل القائم على الجنس والنساء دين كله قتل وتخريب. دين هو سبب تخلف الشرق الأوسط وما حل به من كوارث، هو سبب التخلف الشنيع للبلاد الإسلامية . دين الضوضاء والإزعاج . دين الميكروفونات والطبل والزمر والرقص فى الأوكار".
دين السرقة والرشوة وخلو الرجل ومخالفة الشعيرة هذا هو المجتمع الإسلامى وتقولون الشريعة الإسلامية وأسيادكم الأقباط ينظرون إليكم بسخرية ويضحكون عليكم كلما رأوا شيخا يمشى يهز عمامته يمينا وشمالا كأنها من الأثقال التي تنوء رأسه عن حملها.
ولكن هل يستمر الحال طويلا على بقاء هذا الدين التافه أعتقد أن العد التنازلي بعد توقيع كامب ديفيد قد بدأ لزوال الدين الإسلامى وعودة مصر المسيحية.فأنتم فى النهاية الخاسرون خسرتم الدنيا والآخرة.
وقد أعادت الجماعات الإسلامية فى جامعة الأزهر طباعة هذا المنشور ، وأضافت إليه هذه التعليقات (هذا أيضا وفقا لعدد 8 سبتمبر من الأهرام).
"صورة من الخطاب المرسل من جهة صليبية إلى إحدى الشخصيات الإسلامية"ثم حمل المنشور الخطاب المرسل بالكامل وانتهى بتعليق للجماعات الإسلامية جاء به:"
"وبعد لشباب الأزهر كلمة:
"قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفى صدورهم أكبر""ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردونكم عن دينكم إن استطاعوا""ولن ترضى عنك اليهود والنصارى حتى تتبع ملتهم". "إليك أخي المسلم.. إلى النائمين ليستيقظوا .. إلى الغافلين لينتبهوا .. إلى الشاردين ليعودوا.. إلى المناضلين لينفروا.. إلينا جميعا فأمر جد لا هزل فيه .. فهل نترك إسلامنا فى وجه المؤامرات".
كما أعاد مقال الأهرام نشر نص منشور كتبه، مجدي رجب وردة، قائد إحدى الجماعات الإسلامية فى مدينة الإسكندرية:
"تحذير المسلمين من أعياد المشركين .. اعلم يا أخي المسلم أن هذه الملة الحنيفية المطهرة قد أسست على مخالفة قانون المشركين في الأصول والفروع، وأن سلوك الصراط المستقيم يقتضى مخالفة صراط الكافرين أيا كانوا وأوضحهم اليهود (المغضوب عليهم) والنصارى (الضالون).
"من تشبه بهم فهو منهم وقد أمرنا الله فى كتابه بمخالفة المشركين ونهانا عن التشبه بهم فيما هو من خصائصهم.. والأعياد من الشرائع والمناسك. وقد شرع الله لنا مخالفة اليهود والنصارى فى عيدهم الأسبوعي يومي السبت والأحد وفضلنا عليهم بعيد الجمعة وخصنا به.
"ومشاركة الكفار فى أعيادهم تنافى مقاصد الشريعة لأنها محدثة ومبتدعة فى دين الكفار وتقضى إلى موالاتهم وهى ذريعة إلى الكفر.
"إن التهاون فى القليل من هذه الأمور يجر إلى الكثير .. ولا يحل للمسلم أن يشارك النصارى فى احتفالاتهم بما يسمى شم النسيم".
وشم النسيم هذا يوم عطلة الاثنين التالية لعيد القيامة القبطي. وهذا التاريخ يرجع إلى العصر الفرعوني ويرمز لبداية فصل الصيف. ويميز هذا اليوم أكل البيض المسلوق ، والبصل الأخضر ، والفسيخ (سمك مملح صغير الحجم) .وقد جرت العادة أن ترتجل العائلات المقيمة فى المدينة إلى الريف لشم النسيم. وجرت العادة أيضا أن يتزاحم الناس فى افتراش المساحات الخضراء الضئيلة التي تنمو فى بعض ميادين القاهرة .
وهذا العيد، يحتفل به ا لمسلمون والمسيحيون على السواء (رغم أن المسيحيين فى الأقطار النيلية هم الذين ابتدعوا ذلك التقويم الديني) مما يجعل هذا اليوم رمزا للوحدة الوطنية.
وفى النهاية ذكرت الأهرام أن تلك المنشورات قد جرى توزيعها فى جميع أنحاء مصر أثناء الاحتفال بعيد رأس السنة المسيحي وبشم النسيم.
ومن الجدير بالذكر أن وجهة النظر الرسمية فى أسباب الفتنة الطائفية ممثلة فى مقال الأهرام، وإن حاولت الحفاظ على قدر من التوازن، لم تحقق ما زفت إليه من خلال اتهامها من جهة لقبطي وتقديمها له على أنها (أتم دراسة فى موسكو رغم أن النص لم يحتوى على أى عناصر الأيديولوجية السوفييتية) ، ومن جهة أخرى اتهامها للجماعات الإسلامية ، وليس لمسلم أو حتى لمجموعة من المسلمين، التي اعتبرها النظام متطرفة ومتعصبة .
وبالتالي فإن مسئولية المسيحي، الذي سبق خطابه منشور الجماعات، باتت شيئا واضحا لكل القراء، ولأنه لم يوصف فى أي جزء من المقال بأنه متطرف، أو متعصب أو حتى بأنه معزول عن طائفته ، تصبح الإجراءات القمعية التي اتخذت ضد بابا الأقباط بصفة قائدا للطائفة عادلة تماما.
وقد تم استعراض موقف الجماعات فى موضعين. أولا كان هناك تعليقهم على خطاب فؤاد جرجس ، فكان ذي نبرة هادئة نسبية، وخط بعناية لإحداث صدى بوجدان الفقراء المسلمين الذين تعرض إيمانهم لهذه الاهانة، ودعاهم للانضمام للجماعات"إلى الشاردين ليعودوا"قبل فوات الأوان.
والموضع الثانى كان منشور مجدي وردة، الذي يجد الوحدة الإسلامية والشعور بالتضامن الإسلامى ، موجها مباشرة ضد المسيحيين، وأيضا ضد الأمة المصرية، ممثلة فى عيدها القومي شم النسيم.
ولم يكن هناك سبيل للتحقق من مصداقية هذه الوثائق، أو للتعرف على مؤلفيها، أومن انتماء مجدي وردة للجماعات الإسلامية . فالأهرام لم تقدم إجابة على أي جزء من هذه التساؤلات .
لكن النقطة الأساسية الأهم ليست صحة وجود هذه الوثائق الثلاث لكن فى اختيارها من بين عدد كبير منها وتقديمها بأسلوب سعى لتقديم النموذج الذي تريده الدولة للفتنة الطائفية.
وبعد الاعتقالات التي أعقبت حل الجماعات الإسلامية فى 3 سبتمبر 1981 كان الأمر يبدو وكأن الحركة قد تحطمت . وتغير اتجاه الحياة فى حرم الجامعات ، فقد اختفت اللحى التي كانت تمكن أجهزة الأمن من التعرف على الطلبة الإسلاميين ، لكن ارتداء الحجاب .
رغم أنه لم يعد يلقى التشجيع من"أسابيع الشباب الإسلامى"لم يخرج عن النمط المألوف، المشاكل الاجتماعية والثقافية الدرامية التي قدمت للجماعات موضوعات ممتازة للتحريض فلم تزل قائمة الإسكان والمواصلات وقاعات المحاضرات والدروس الخصوصية ،ألخ.
كان شيئا عاديا، حتى مقتل السادات ، أنتوجه حملات الإدانة والشجب ضد التطرف والتعصب ، بينما لم يتساءل أحد عن الظروف التي أدت إلى نشوء هذه الظواهر ،اللهم إلاالأكليشيهات الجاهزة عن اغتراب الشباب والأسوأ من هذا البحث عن الأيدي الخفية ،أو عن الزعامات السرية، التى كان من الطبيعي أن تأتى من الاتحاد السوفييتي، الذي اعتبر سفيره فى مصر شخص غير مرعوب فيه فى سبتمبر.
لكن ما أن قتل السادات على يد أحد المجاهدين الإسلاميين ، وما أن أفرج عن معظم هؤلاء الذين تعرضوا للاعتقال فى سبتمبر، بدأت تظهر لهجة أكثر انتقادا لسياسة السادات تجاه الجماعات الإسلامية .
وأصبح النشر يتناول أمر كانت تناقش بشكل غير رسمي، ونشر ما يشير غلى العلاقات التى كانت تربط النظام والجماعات فى بداية السبعينات . وكان أحد مظاهر هذا العصر، إقالة محمد عثمان إسماعيل، محافظ أسيوط والأب الروحي للجماعات من منصبه.
الفصل السادس:خطب الشيخ كشك
يشغل كل عنصر من عناصر حركة الإسلاميين التي تعرضنا لها بالبحث حتى الآن مجال بعينه من مجالات النشاط. فقد انسحب شكري وجماعته من العالم اليومي ولجئوا إلى عالمهم الخاص، واصدر الإخوان المسلمون الجدد مجلة أخذوا يشنون منها حملتهم على أعضاء مجلس الشعب، وأصبح للجماعات الإسلامية جذورها داخل الحرم الجامعي، التي سعت الجماعات لتحويلها إلى قلاع إسلامية.
ومن ناحية أخرى ، كان حضور الشيخ كشك حضورا طاغيا. ففي السنوات الأخيرة منحكم السادات ، كان من المستحيل السير فى شوارع القاهرة دون سماع صوته الجهوري. فإذا ارتقيت إحدى سيارات الأجرة الجماعية فستجد السائق يستمع لإحدى خطب الشيخ كشك على جهاز الكاسيت الموجود بالسيارة.
وإذا توقفت لتناول عصير الفاكهة على ناصية أحد الشوارع، وبينما ترتشف الشفتان عصير القصب أو المانجو ،تنهمر على الأذنين عبارات آخر الخطب التي ألقاها الشيخ ،تنبعث من جهاز التسجيل القديم الذي يمتلكه البائع، بين وصلتين الأولى لكوكب الشرق أم كلثوم، والثانية أغنية مشهورة لأحد المطربين الشعبيين، وإذا رجعت إلى منزلك ستسمع صوتا من الشارع يطرق أذنيك بلغة القرآن الفصحى ،فالبواب الذي يجلس على مقعده ليلا ونهارا يشمع كشك.
إنهم يستمعون لكشك فى القاهرة ، وفى الدار البيضاء ، وفى حي المغاربة فى مارسيليا، حتى أن إحدى المجلات ذات التمويل السعودي أسمته"نجم الدعوة الإسلامية".
وقد كان له بالطبع لكشك مقلدوه، ولكن لم يتوفر لأحدهم أحباله الصوتية التي لا تضاهى، أو ثقافته الإسلامية الواسعة، أو قدرته غير العادية على الارتجال، أو روحه الجسور في نقده للأنظمة الكافرة، وللدكتاتورية العسكرية، ولمعاهدة السلام مع إسرائيل، ولتواطؤ الأزهر، أي أن كشك أعلى أصوات حركة الإسلاميين ، كان معارضا.
وفى بلدان العالم الثالث ، حيث ما تزال أغلبية الجماهير عاجزة عن تحصيل الثقافة المكتوبة تصبح الأجهزة السمعية والبصرية أكثر وسائل الإعلام أهمية. وقد وعت الحكومات ذلك مبكرا، فكان من الطبيعي أن تستغل هذه الأجهزة المناطق النائية.
لكن انتشار أجهزة الكاسيت خلال السبعينات- فكل من هاجر إلى شبه الجزيرة العربية كان يجلب معه عند عودته عدد من الأجهزة لأسرته- حول مسار هذا الخطاب.
وأصبح الناس قادرين على اختيار الأشرطة التي يريدون سماعها، وأصبح بإمكانهم استخدامها كترياق يتصدى للخطاب الرسمي. وقد كانت أشرطة الكاسيت التي استخدمها آية الله الخميني ،على سبيل المثال هى العامل الحاسم فى الإطاحة بشاه إيران .
وفى مصر، استغل الإسلام الرسمي وسائل الإعلام استغلالا واسعا. فمحطات التليفزيون والراديو تبدأ بتلاوة القرآن وبشرح لبعض آياته،ويتم هذا وفقا لقواعد التجويد ، والتجويد هو الطريقة الصحيحة لنطق القرآن وتنغيمه. وبعد ذلك يلجأ العلماء لموجات الأثير ليشرحوا للجماهير كيف أن آخر قرارات الحكومة تتفق تماما مع تعاليم القرآن .
ومع ارتقاء السادات للسلطة، اكتسبت البرامج الدينية فى التليفزيون أهمية كبيرة حتى أن داعية مثل الشيخ الشعراوى ظهر على شاشات التليفزيون أكثر مما ظهر الرئيس نفسه.
حيث تتناول خطبه، التي كانت تتمتع بشعبية كبيرة ويصوغها بمهارة فائقة، بشكل صريح ودون خجل مشاكل الحياة اليومية العادية، وتقدم حلول الإسلاميين لهذه المشاكل. لكن لم تشكل هذه الخطب التليفزيونية على الإطلاق أي تحد لشرعية النظام، بل أن الشيخ الشعراوى نفسه تولى منصب وزير الأوقاف فيما بعد.
أما الشيخ كشك فقد كان، من ناحية أخرى، ظاهرة مثيرة بالنسبة للإسلام المصري المعاصر، وأكسبته بلاغته، وقدرته على التحدث بلغة يفهمها العامة، نجاحا لا يستهان به.
لكن ولأنه ذاق طعم المعتقلات الناصرية فى مستهل حياته، لم يضع موهبته فى خدمة الحكومة، بل اعتبر نفسه رقيبا على التجاوزات والمواقف التي تتعارض مع الإسلام من وجهة نظره، سواء كانت هذه التجاوزات أخلاقية أو على مستوى الحياة السياسية والاجتماعية.
وقد كان النقد الذي يقدمه كشك يلقى شعبية كاسحة، فهو أو كما اعتقد المعجبون به لا يخاف شيئا ولا يرهب أحدا. ومن ثم اعتبره البعض روبين هود المسلم الذي كان الآمر بالمعروف والنهى عن المنكر"بالنسبة له ليس مسألة مظهر وحسب، بل قانون للحياة ذاتها.
وهذا ما حقق له نجاحا متزايدا، كما أن شعبيته التي اكتسحت العالم العربي بأكمله، جعلته بعيدا عن متناول السلطة، إلا فى فترات الأزمات الحادة، وهى حالة الشهر الذي سبق اغتيال السادات .
طفولة الشيخ
ولد عبد الحميد كشك عام 1933 فى شبراخيت ، إحدى قرى محافظة البحيرة فى الجزء الغربي من دلتا النيل بالقرب من الإسكندرية. وانحدر من عائلة ذات أصول ريفية، وكان والده تاجرا متواضعا جدا، وكان رجل بسيط مبتسم دائما ، مهما كانت مصاعب الحياة .
وكان لعبد الحميد خمسة أشقاء بينهم فتاتين عندما توفى والده، تاركا أرملته التى كانت فى الخامسة والثلاثين مسئولة عن ستة أطفال، لم يبلغ أصغرهم سن المدرسة. ورغم أن والدته كانت امرأة قروية بسيطة، إلا أنها كانت مدركة تماما لمسئوليتها، حيث أن والدها كان حريصا على تربيتها تربية إسلامية حقة، تلك التى مكنتها من أن تضرب المثل للنساء الأخريات.
وقد كانت ، وهى التى لمتكن تملك سوى أطفالها الستة، تعرف معنى الآية القرآنية التى تقول :"وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا".
ومتسلحة بهذا المبدأ ، كانت متيقنة من أن أولادها سيتلقون تعليما جيدا، فالأكبر سيدرس القانون وعبد الحميد الذى كان إبصاره سيئا سيدرس الدين، والصغار سيتعلمون التجارة.
"وهكذا ألأحق عبد الحميد الذى حفظ القرآن عن ظهر قلب فى الثانية عشرة من عمره بمدرسة دينية ابتدائية فى الإسكندرية . وهناك ناثر تأثيرا عميقا بمدرس اللغة العربية الشيخ محمد جاد ، الذى عاملنا كوالد وعلمنا مبادئ الحياة الاجتماعية ،فكان يساعد الفقير... ويستشيط غضبا عندما يضبط تلميذا يدخن".
ومع حصوله على الشهادة الابتدائية، أصبح ضريرا تماما ، وعلى الأرجح بسبب مرض الرمد الحبيبي، الذى يحصد أطفال الفلاحين الفقراء فى مصر.
ورغم أنه بحث عن العلاج لمدة عامين، إلا أنه تحقق فى النهاية، وفقا لسيرته المنشورة، من أن الله قد وهبه نعمة العمى ،فاندفع بعد ذلك فى دراسة بجد واجتهاد، وحمد الله على أنه أخذ منه البصر ووهبه البصيرة.
وقد جاء به اجتهاده المثير للإعجاب إلى المدرسة الثانوية الأزهري ة بالقاهرة حيث كان عادة يحصل على المرتبة الأولى فى فصله.
وهنا أيضا كان لمدرس اللغة العربية، كمال شاهين – الذى كان يختار عبد الحميد دائما فى كل حصة دراسية ليلخص الدرس الذى ألقاه، بسبب قدرته الفائقة على الحفظ- تأثيرا بالغا عليه.
وأهلته الثانوية الأزهري ة، التى حصل عليها بتفوق ـ للالتحاق بكلية أصول الدين فى جامعة الأزهر، وانتظم فى الدراسة فى الجامعة قبل إصلاح عبد الناصر له، وفى عام 1961 وفى الثامنة والعشرين من عمره مثل الأزهر فى عيد العلم، وبعد ذلك عين فى وظيفة إمام بالمساجد الحكومية- أو بمعنى آخر، عين كموظف فى وزارة الأوقاف .
وفى عام 1964أصبح إماما لمسجد عين الحياة بالقاهرة ، لكنه تعرض للاعتقال عام1966 خلال المحنة التى ابتلى بها عبد الناصر كل من اشتبه فى انتمائه لجماعة الإخوان المسلمين، أو كما صور ذلك كشك"عندما فتح رجال الثورة السجون والمعتقلات ونصبوا المشانق لكل من قال أن لا إله إلا الله".
وقد أودع كشك أولا سجن القلعة ثم نقل بعد ذلك إلى معتقل طرة، ولم يطلق سراحه حتى عام 1068 ، رغم عدم توجيه تهمة محددة له . وتعرض خلال هذه الفتة للتعذيب ، الذى ما زال يحمل آثاره حتى الآن.
ورغم فترات الاعتقال المتفرقة فى السنوات التالية، احتفظ بوظيفة كإمام لمسجد عين الحياة. ويبدو أن توزيع تسجيلات خطبه قد بدأ عام 1972 .
فدفعت شهرته الهائلة وزارة الأوقاف إلى بناء عدة ملاحق إضافية للمسجد ليناسب حشود يوم الجمعة. ومع ها ففى عام 1981 لم تكن مباني المسجد تكفى العشرة آلاف مصلى الذين يأتون بانتظام يوم الجمعة.
وبالإضافة اى الخطبة الأسبوعية ، كان كشك يعطى دروسا يومية لمريديه (كانت تسجل أيضا) فى ما بين صلاة المغرب والعشاء، وكان يقيم أربع جلسات فى الأسبوع يستشيره فيها أتباعه حيث يستطيع أى فرد أن يأتي ليراه ليستشيره فى مشكلة ما أو ليتحدث إليه فقط.
والتف حول كشك جماعة من الشباب الملتحي، كانوا يتولون نقل رسالته، ويقومون بكفاءة بالسيطرة على الحشود خلال الخطب ليتأكدوا من الأثر الذى تتركه تحريضاته على المستمعين .
وتتوفر التسجيلات على الفور حالما ينتهي كشك من إلقاء الخطبة، وخلال عدة أيام تنتقل عبر طول العالم العربي وعرضه، يحملها الدعاة الشباب المتحمسون الذين يرسلونها بالطائرات.
وفى يوليو 1986 كان كشك أحد الشخصيات الإسلامية التى كتبت مقالات العدد الأول من الإصدار الجديد لمجلة الدعوة ، لسان حال الإخوان المسلمين الجدد .
وكان الشيح أحد ضحايا المواجهة النهائية بين السادات وحركة الإسلاميين ، وقد تجاهلته الصحف الرسمية تماما، إلا أن خبر اعتقاله عرفه كل المصريين، سواء الذين أيدوه أو الذين عارضوه وفقا لانتماءاتهم الفكرية والاجتماعية والطائفية.
فقد اعتقل فى بداية سبتمبر 1981 واستجوب فى الثالث والعشرين منه بواسطة المدعى العام الاشتراكي فى سياق التحقيق فى الفتنة الطائفية . وبعد اغتيال الرئيس السادس من أكتوبر تحسنت ظروف اعتقاله، وسمح له بقراءة الصحف. وأفرج عنه يوم 27 يناير 1982 .
ومنذ ذلك الوقت، سمح له النظام الجديد بالكتابة فى الصحف. وأصبح له عمود منتظم الآن فى الصحيفة الأسبوعية الجماهيرية اللواء الإسلامى، وفى اللقاءات الصحفية العديدة التى أجريت معه بعد إطلاق سراحه، كان يدين التطرف.
ولم يكن كشك الشيخ الوحيد الذى تعرض للاعتقال فى سبتمبر 1981 فقد لاقى نفس المصير زميلاه السكندريان الشيخ محمود عيد والشيخ المحلاوي، وهما على صلة وثيقة بالجماعات الإسلامية ،بالإضافة إلى رهط آخر من الأئمة الرسميين وغير الرسميين، بسبب تحويلهم المنابر لمهاجمة الحكومة، على حد التعبير الرسمي الذى استخدم فى ذلك الحين.لكن لم يكن لأحد من هؤلاء انتشاره ، ولم يكن لأحدهم شهرته.
خطبة الجمعة
يقع مسجد عين الحياة ، الذى يشتهر أكثر باسم مسجد الشيخ كشك فى أحدى حدائق القبة بالقاهرة ، بالقرب من حيين فقيرين هما الزيتون والعباسية، ويشكل هذا الحيان، وهما أكثر أحياء المدينة ازدحاما بالسكان، نصدر الكتلة الأساسية التى تحضر خطب الشيخ يوم الجمعة، حيث يتوافدون على المسجد سيرا على الأقدام، يرتدى بعضهم الجلباب الأبيض، لكن أكثرهم يرتدون ملابس غربية متواضعة الطراز والجودة،.
وهناك أيضا من يأتي من أقصى أطراف المدينة ليستمع للشيخ ، يأتي معظمهم فى المواصلات العامة، وبعضهم يركب سيارته المرسيدس الخاصة.
ومن خلا الحكم على ملبسهم، من ناحية أخرى،ينتمي معظم الحضور إلى الجماهير المدنية الفقيرة التى تشكل الكتلة الرئيسية من سكان القاهرة ، وليس للطبقات الفقيرة التى تشكل الكتلة الرئيسية من سكان القاهرة ، ولليس للطبقات الأغنى. والمسجد نفسه بنى وسط أحد مشاريع الإسكان الشعبي الذى أقيم لمحدودي الدخل فى فترة الستينات.
والمسجد فى الإسلام، إذا جاز لنا أن نستخدم الاستعارة المسيحية ، بناء من اللحم وليس من الصخر. حيث أن تصميمه المعماري وشكله الهندسي لا يعنيان الكثير، فأهم الأشياء بالنسبة للمسجد توفيره لمكان للصلاة واتساعه لاستيعاب الحشود التى تأتى لصلاة الجمعة ولسماع الخطبة.
وفى هذا الإطار يمكننا أن نستوعب هذه المساحات الواسعة ألملفته للنظر للمساجد فى مصر المعاصرة، ونستوعب أيضا تزايدها المستمر، الذى يشجعه القانون.
ويعد مسجد الشيخ كشك نموذج لهذا التوسع . فحشود الجمعة لمتكن تملأ صحن المسجد والقاعات الإضافية التى أنشأتها وزارة الأوقاف فحسب، بل أيضا الأزقة فى المنطقة السكنية المجاورة.
والأرض يغطيها الحصير الذى يجلس عليه المؤمنون يستمعون لخطبة الشيخ ويقيمون صلاتهم عليه. ومكبرات الصوت تعلق على جدران المباني المجاورة لتوصل صوت الشيخ إلى المصلين .
ويبدأ توافد المصلين فى جماعات متراصة قبل والى ساعة من آذان الظهر. وبينما ينتظرون الخطبة، يمضون الوقت فى تفقد السلع التى يعرضها الباعة أمام المسجد.
يتخاطفون الصور الفوتوغرافية للشيخ وشرائط الكاسيت التى تحتوى خطبه والتي تباع بالمئات، وعشرات الكتيبات التى صدرت من مكتبة الشيخ كشك ، فضلا عن تشكيلة من الأدبيات الإسلامية وأدبيات الإسلاميين التى تباع بأسعار تخضع للمساومة، بجوار ما يجب أن يقتنيه المسلم الصالح ، سجادة الصلاة والسواك والطيب.
كذلك ينادى الباعة الجائلون على بضاعتهم التى تشمل كل الأصناف بداية من الطعام والشراب وحتى قطع إكسسوار السيارات.
وبعد أن يأخذ كل مكانه. وبعد أن يتم الانتهاء من قراءة قرآن الجمعة عبر مكبرات الصوت. يعم السكون. وفجأة مثل قصف الرعد ، تنطلق عبارة الحمد لله رب العالمين .
وتبدأ خطبة الشيخ كشك . وتستغرق حوالي الساعة ونصف الساعة، أى ثلاثة أضعاف وقت الخطبة المألوفة، وتغطى وجهي شريط كاسيت من نوع ماكسل maxell مدته تسعون دقيقة، ويستطيع المصلون شرائها فور انتهاء الخطبة.
وقد ألقيت الخطبة التى سنلخصها فيما يلى يوم 10 أبريل 1081 . ولم تستلهم موضوعا بعينه، حيث لم يحدث شيء خارج عن العادة خلال الأسبوع الأول من شهر أبريل من ذلك العام، وتليت وكأنها التحدث بالعربية الفصحى بطلاقة. لكنه كان يعمد أحيانا لاستخدام الزخارف اللفظية لإحداث تأثير أكبر بين مستمعيه.
ورغم أن هذا قد يصدم المحافظين، إلا أنه كان يسعد جمهور الشيخ. إذ أن هذا الأسلوب، كما يرى مستمعوه، رغم استخدامه للغة القرآن الفصحى، يقرب هذه اللغة من أذهانهم .
ويعمد كشك فى الدقائق العشرة الأخيرة من خطبته إلى استخدام اللهجة القاهرية اليومية، فبعد أن يغرق مستمعيه فى فيض من لغته الخطابية الطنانة، يتحول فجأة إلى العامية اليومية ليستأثر بكامل انتباههم.
وخطبة كشك تتكون من ثلاث حركات ذات إيقاع متغير ومحتوى مختلف ، مقدمة تستغرق حوالي عشرين دقيقة، وتفسير للقرآن يستغرق حوالي نصف الساعة، وفى النهاية يجيء الموضوع الرئيس للخطبة، الذى يتناول الأحداث التى وقعت مؤخرا والوضع العالمي بشكل عام.
الاستهلال
"الحمد لله رب العالمين ، يا رب ، اجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا ، ونور صدورنا.. أشهد أن لا إله إلا الله . بذكره تطمئن القلوب، وبرحمته تغفر الذنوب"..
"اسمع معي إلى قول مولانا فى الحديث القدسي"عبدي اذكرني حين تغضب ، أذكرك حين أغضب"؟؟ إذا غضبت فاذكر الله ،فالغضب من عمل الشيطان، يوسوس به لابن آدم . إذا غضب أحدكم فليتوضأ بالمال، وإن الغضب من النار، ولا يطفئ النار إلا الماء... إذ غضبت فقل"لا إله إلا الله"...
ويصيح الشيخ"يا من تؤمنون بالوحدانية ، من هو الواحد؟ (يرد المؤمنون"الله") من هو البصير (يكرر المؤمنون"الله"وتتوالى أسئلة الشيخ وإجابات المصلين ثلاثة وثلاثين مرة) .."قال أعرابي أوصني يا رسول الله قال لا تغضب قال زدني . قال ، لا تغضب . قال زدني .
قال ، لا تغضب ولك الجنة".. لماذا ؟ لأن الغضب يحدث انفعالات وتفاعلات كيميائية فى الدم، فهناك غدد فى الجسم تسمى الأدرينالية ، عندما يغضب ابن آدن تفرز مادة الأدرينال فى الدم، فيسبب هذا ارتفاعا فى ضغط الدم ، فيضغط الدم على القلب إلى المخ، وعندئذ تجد ابن آدم قد احمر وجهه وعيناه، لارتفاع ضغط الدم،.
فيدفعه الغضب إلى أن يغضب ربه جل جلاله، ويقسم بالطلاق .والحبيب يقول"تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتز له عرش الرحمن"...
يصعد الدم إلى الدماغ . وقد يكون فى ذلك انفجار فى شرايين المخ، وقد تكون فى ذلك جلطة، وقد يكون فى ذلك شلل. ولذلك فإن المسيح عندما رأى أمه حزينة قال لها"لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا"، جدول ماء رقراق."وهزي إليك بجزع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا"فكلى من الرطب الجني، واشربي من الماء السري، وقرى عينا بالغلام الذكي.
لكن يا مسيح ، هل الأكل والشرب يذهبان الغضب؟ إن الغضبان إذا وضع أمامه المن والسلوى، ما وجد لهما طعما فتدارك المسيح الموقف وقال لها أحزينة أنت لأنك ولدتني بغير أب؟"فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما .ولن أكلم اليوم إنسيا"إذن ، فمن الذى سيتكلم؟
قال لها: أشيري إلى فسأقف محاميا عنك أمام محكمة العدل الإلهية القدرة . ولذلك أشارت إليه . فقالوا"كيف نكلم من كان فى المهد صبيا"فإذا بالمسيح يخرج البطاقة العائلية . فى خانة الإسلام"إنى عبد الله".
لم يقل أنا ابن الله ، ولا أنا عضو فى شركة ثلاثية تدير الكون ."إني عبد الله". المؤهلات العلمية ،"أتاني الكتاب" الوظيفة ،"جعلني نبيا". الدرجة الإلهية ،"وجعلني مباركا أينما كنت".
التكاليف"أوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا". الكرامة ،"وبارا بوالدتي". الرفعة"ولم يجعلني جبارا شقيا المنحة"السلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا".. فإذا كنت مأمورا بالصلاة، فلمن أصلى ؟ إذن أنا لست الله. أيصلى الله لله ...
ما دمت قد ولدت فقد نزلت من رحم ضيق طوله سبعة سنتيمترات ،وعرضه خمسة سنتيمترات، وسمكه اثنان ونصف سنتيمترا . الإله الذى وسع كرسيه السموات والأرض يعيش فى رحم مظلم، يعيش فى رحم ضيق .. إن الله حل مشكلة المسيح فى كلمة واحدة"إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون".
تفسير قرآني
"يا حماة الإسلام، ويا حراس العقيدة ، إلى أين تذهب اليوم؟ إلى المحكمة أى محكمة؟ إلى محكمة الثورة، م محكمة الشعب، أم إلى محكمة الغدر، أم محكمة أمن الدولة ، أم محكمة عسكرية، أم محكمة القيم، أم إلى محكمة الاشتباه، أم إلى محكمة المدعى الاشتراكي؟ لا هذا ولا ذاك، ولا تلك ولا هذه ولا هؤلاء جميعا. إنما نذهب إلى محكمة مكتوب على بابها"والله يقضى بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء . إن الله هو السميع البصير".
أيها الإخوة ، من الذى سيقدم أمام هذه المحكمة الإلهية؟ مع الدرس الحادي عشر بعد المائة الرابعة أنتقل بحضرتكم إلى محكمة القرآن. لا أقول إن رئيس الدائرة هو الفريق أول فلان، ولا عضو اليمين هو العميد فلان، ولا عضو الشمال هو العقيد فلان، ولا الادعاء برئاسة المقدم فلان، ولا أمين السر فلان .
إنما أقول إن قاضيها هو من لا يغفل ولا ينام ... من الذى سيقدم إلى المحاكمة؟ إبليس . وما هى صحيفة الجنايات؟ وما هى الجناية التى ارتكبها إبليس فى حق ملك الملوك؟ .. سنحاكم إبليس اليوم، الذى ماذا أتى؟ وماذا فعل؟ ورجائي أيها الإخوة الأعزاء أن يكون عندنا صبر فى الاستماع إلى تلك القصص الإلهية.
لأنني أنا أقدم لحضرتكم قصص الأنبياء ، لا أقدمه على أنه مسلسل أمريكي أثيم وفاحش، ولا على أنه فيلم ساقط، ولا على أنه مسرحية تافهة...".
"وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين"أبى ، أبى على أمر من وتعالوا بذلك لنستمع إلى هذه المناقشة التى دارت بين إبليس وبين ملك الملوك... سؤال ، ما منعك أن تسجد إذ أمرتك ؟ ... فتحت الجلسة ج 1 :"أنا خير منه خلقتني منار وخلقته من طين"...
(أرسل أبو بكر الصديق إلى كسرى ملك الفرس رسول قال له دون وجل يا كسرى، هل أخذك الكبر حتى تتخذ من نفسك إله؟ كيف يكون هذا ، وقد جئت من مجرى البول؟ أولا، ألم يأت منى أبيك من مجرى البول؟ .. وثانيا، ألم تخرج من أمك من حيث تتبول؟ .. لا تنس أصلك، فمن ينس أصله يضيع، يقذف به فى النار، فلا تتفاخر بمساواتك بالواحد القهار).
(قال الله للشيطان"واستفزز من استطعت منهم بصوتك"أو بمعنى آخر، بالغناء .فالأغنية هى مزمار الشيطان، رفيق الفجور..).
(وقد وجد الشيطان مذنب بارتكابه عامدا الجرائم الواردة فى الآيات، 77، 78، 84، 85 من صورة ص ، وآيات أخرى مشابهة).
(إننا فى خطر ،لقد كان إبليس هوا لأكثر معرفة.. لكنه كان ذي أخلاق فاسدة.. فالمعرفة مثل المطر الذى يروى ، والأخلاق مثل الأرض ، فإذا كانت الأرض فاسدة فلن يؤثر المطر عليها... وقال الشيطان لله"قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين. إلا عبادك منهم المخلصين"وأسأل الله أن يجعلنا من عباده المخلصين .
وقد رأى الإمام الحسن البصري إبليس يوما فى منامه فقال له"كيف حالك مع العباد الله"أجابه إبليس"يا حسن ، كنت بالأمس أدل الناس على طريق الخطيئة، أما اليوم فإني أتعلم منهم". اى أن المعلم أصبح تلميحا وأصبح التلميذ معلما .
إذن ننتهي إلى الحكم بأن إبليس هو عدو الله، ويمكنني القول بأننا نعيش فى زمن تحاك فيه المؤامرات ضد الإسلام، تدبر المكائد لتقود المسلمين إلى الضلال، ولتثير البلبلة بينهم، ولكي تعلن الحرب على الله ورسوله..).
الخطبة
(استمع إلى الأخبار التى قرأتها فى مجلة الدعوة هذا الشهر"قبض على جماعة فى حي المعادى يصلى أعضاؤها ميممين وجوههم شطر بيت المقدس".
وهنا نحن أمام فرقة اتبعت الضلال ، جماعة تصلى دون أن تولى وجهها شطر الكعبة، بل صوب بيت المقدس. يقول الله تعالى"قد نرى تقلب وجهك فى السماء فلنوليك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره .
هذه الفرقة أرادت أن تسيء إلى الإسلام بالتوجه نحو بيت المقدس. وأقول لكم بكل صراحة- وألم ثقيل يجسم على صدري- إنه منذ دخلت إسرائيل مصر، وأنشأت لها سفارة فى القاهرة ، وأنا على يقين من أن هناك فرق مشبوهة تتلقى تعليمات من يد خفية ، تنشر الشكوك والشائعات حول الله ورسوله..).
"أيها السادة الأعزاء فرق شتى ظهرت هذه الأيام، وكلها تدعى الصلة بالله، وكلها تنتسب إلى رسول الله. والأزهر فى نوم عميق ، وثبات هائل. عندما قامت الثورة – أو عندما وقع الانقلاب العسكري فى مصر – وصدرت الأوامر إلى تصفية الاسم. كانت الخطوة الولي التى خطاها رجال الثورة القضاء على القضاء الشرع هى ، المحاكم الشرعية ،التى كانت تحكم بأوامر الله".
"بأي وسيلة ؟ لفقوا تهمة لقاضيين ، شيخين جليلين، هما الشيخ سيف والشيخ فيل. فاتهموهما بشرب الحكر والزنا وطالعتنا الصحف يومها بهذه المأساة... وبعد القضاء على القضاء الشرعي، وقع الكشف الطبي على ا لشيخين البريئين ، فأثبت الطب أن بهما شللا جنسيا، وهما بريئان براءة الذئب من دم ابن يعقوب. لكنها مصر، خير من يلفق التهم للأبرياء...
فتحو السجون والمعتقلات، ونصبوا المشانق ، لكل من يحمل فكرة عن لا إله إلا الله . فى سنة 1961 قضى على الأزهر مبرما باسم تطوير الأزهر، ولكنه تدمير، ولكن تطوير.
وإلا فخبروني يا رجال الأزهر، كمحفظ أحدكم من القرآن إذا تخرج من الأزهر؟ كم سورة يحفظها؟ إنهاك من خريجي الأزهر فى هذه الأيام من لا يستطيع قراءة القرآن فى المصحف الشريف...
قصة على الأزهر قضاء مبرما بدليل أن شيخ الأزهر كان متخصصا فى الفلسفة، وما سمعناه عن شيوخ أزهر متخصصين فى الفلسفة ، شيخ الأزهر دكتوراه من ألمانيا، والذي قبله دكتوراه من فرنسا...
هل عقمن أرحام المسلمين حتى تحصلوا على شهادات تالدكتوراة من فرنسا يا مشايخ الأزهر؟ ولست أدرى من الذى سيعين بعد ذلك شيخا للأزهر ؟ قد يكون لواء أركان حرب ويتولى مشيحة الأزهر لا تقوم للإسلام بأي خدمة.. فى سنة 1965فتحت المشانق كي ا ه ‘نتخذ، مرة أخرى للنفس الذى قال لا إله إلا الله . وبعد ذلك ألغين الأحوال الشخصية كلها وأصبحنا نعرض شريعة الله على مجلس الشعب".
"هل تقبل بتطبيق شرع الله أن ترفض يا مجلس الشعب؟ أتعرضون الله تعالى على حفني من عبيد ليوافقوا على الله أو لا يوافقوا على الله ، ما هذه المهزلة . ما هذه المهزلة. ونام الأزهر، وذهب الدعاة إلى السجون..
وفوجئنا بفرق شتى نصبت من أنفسها أوصياء على دين الله . هذا سلفي لا يحب الصوفي وهذه مساجد الأوقاف ، وتلك مساجد السنية. هؤلاء أنصار السنة ، وهؤلاء جماعة التبليغ , هؤلاء التكفير والهجرة ، وتلك جماعة التوقف. ووقف الإسلام بين الفرق..".
"ما الذى حدث؟ ما الذى حدث يا مسلمون؟ ... إن هذا القول إنما جاء من السفارة الأمريكية أومن السفارة الإسرائيلية أو من السفارة السوفيتية أومن سفارة بريطانيا".
"المودة الجديدة التى يتبناها المراهقون، أصحاب المراهقة الفكرية. الذين نبتوا حديثا وأخذوا العلم بدون أستاذ ودون شيخ معلم ، أخذوه من الكتب ولم يفهموه ...
داعية كبير عنده من العمر سبعون عاما يخرج له حدث، حدث مراهق، قرأ ثلاث كلمات أو ثلاث ورقات من كتب ابن تيمية أو كتب ابن عبد الوهاب،استطاع أينكون وصيا على الدين، يا للمهزلة ويا للعار يا شيخ الأزهر، يا من نمتم وتركتم الإسلام نهبا لكل من هب ودب".
"أخبرني أحد العلماء وقال، كنت ألقى محاضرة فى محافظة المنيا، وبعد الانتهاء من المحاضرة سأل سائل، الخل حلال أم حرام؟ ... والأدهى من ذلك أنى ذهبت إلى إمارة أبو ظبي وسألت نفس ا لسؤال ...
إن هذا السؤال قد ضرع فى إحدى السفارات ، سفارة إسرائيلية ، سفارة أمريكية ، سفارة روسية، سفارة بريطانية، للتشويش على الإسلام،ومني درى ، ربما يصدرون فتوى غدا بأن العدس والبصارة حرام لأنهما يلهيان عن ذكر الواحد الديان. من يدرى ، من يدرى ، ,لا إله إلا الله".
"عملية إلهاء المسلمين . قوم أخذوا من الإسلام ظواهره وتركوا حقائقه . وأرادوا أن يبلبلوا الأفكار، ويفرقوا الصف.
وإسرائيل ماذا تصنع اليوم؟ تحفر قناة تصل بين ا لبحرين الأبيض والميت فى أرض المسلمين . وإذا تم حفر هذه القناة، فقد عزل قطاع غزة والضفة الغربية، عزل القطاع والضفة عن الأرض العربية.
فماذا رد المسلمين؟ النظارة حرام ،الخل حرام، هذا أمير فرقة، وذاك أمير فرقة، والكل كالغنم الشريدة فى الليلة الشاتين.
(وبعد أن يوجه الاتهام للأزهر مرة ثانية، يضرب كشك الأمثلة التى تلخص تعاليم للإسلام التى أكد عليها الرسول والصحابة الأوائل، فيذكر كثل الوالدين اللذين مات ابنهما الوحيد ولم يكفا عن الصلاة) .."ده الواحد النهاردة لو ابنه خاله دور تانى فى الامتحان،دور تأنى يقولك مش تعرف الجامع. طب ليه؟ يقولك الواد سقط . أكنك كنت تصلى عشان الواد ينجح يعنى؟".
ومهما كان ارتباك الذى يظهر فى هذه الخطبة ، إلا أنها ذات تركيبة غير عادية من المعاني التى تجذب المستعصمين وتضعهم فى الاتجاه الذى يريده كشك. أما ترجمتها ونقل معانيها، فقد لا تنقل سوى تجسيد شاحب لمهارته البلاغية، إذا وضعنا فى اعتبارنا الفجوة الثقافية التى تفصل قارئ هذه السطور .. وبين المؤمن الذى يجلس مستمعا لكشك.
ومشكلة الداعية هى فى أن يتناول معاني النص الذى يؤمن بقدسيته، رغم أن قدسية النص تحجب هذه المعاني، ويفسرها لمستمعيه، الذين يعرفون النص كله أو بعضه (أو بحد أدبي يحفظونه، سواء فى الكتاب ، أو فى الدروس الدينية) ، ويستمعون إليه عادة كعقيدة تقليدية قليلة (تحريم الخمر، ولحم الخنزير ، وهلم جرا) لكنهم نادرا ما يجدون فيها حلولا لمشاكل الحياة المعاصرة.
ومهارة الداعية تتلخص فى تكراره تفسيره للقرآن دون هوادة، وأني كتشف داخله إجابات على كل التساؤلات التى تقلق مستمعيه. ومع إصرار كل الإسلاميين المصريين على أن الإسلام نظام كامل وشامل ، تصبح مشكلتهم إقناع الجماهير المسلمة بهذا ، هذه الجماهير التى تتحكم في سلوكها اعتبارات نابعة من نظم تفكير أخرى(سواء كانت اللهجة الاشتراكية أو الليبرالية للحكومات المتعاقبة ، أو بمعنى آخر ما بقى منها مع الزمن).
وإذا كان الداعية يرغب فى إشباع جمهوره من القرآن ومعانيه، فعليه أن يحاول الوصول إلى مستواهم ، أي يتكلم لغتهم. وكشك يجيد هذا، ربما إلى الحد الذى ينطبق عليه اتهام منتقديه له بالديماجوجية. كما أن لديه نزوع قوى تجاه ذكر الأعضاء التناسلية بشكل مستمر.
والأسلاك، بعكس النزعة الفيكتورية الغربية، يتناول الجنس بشكل صريح، لأنه ورغم أن الزنا جريمة مرفوضة تماما إلا أن الجنس الخلال (داخل حدود الزوج) يعتبر امتيازا، ليس فقط لأنه تكاثر للنوع، بل أيضا لأنه مصدر للمتعة (للرجل ، على كل حال).
وأيا كان القدر الذى أوردناه من خطبة كشك، فيجب علينا أن نفهم أولا وقبل اى شيء أن نجاحها الفائق للعادة هو نتيجة مباشرة لقدرته على التحدث إلى مستمعيه، إلى مئات الآلاف من العرب المسلمين الذين يستمعون إليه بشكل دائم ، ويديرون أشرطة التسجيل التى تحتوى خطبه بشكل يومي، من المغرب إلى العراق.
فهو يتكلم لغتهم ويستخدم تعبيرات خطابهم discovers الدفين. وهذا فى حد ذاته دليل على فشل نظام التعليم الحديث المفترض أنه مقتبس من تنوعات ليبرالية أو اشتراكية مستقاة من النظام الغربى ذلك النظام الذى سعت الناصرية لتأسيسه على المستوى الجماهيري.
وحيث لم يوفر استظهار المقررات لجماهير المتعلمين رؤية للعالم تتوافق مع المقولات التى يفترض أن المعرفة العلمانية قد أمدتهم بها، ومن ثم فقد كانوا تربى صالحة لخطب الشيخ كشك.
وهناك صورتان خطابيتان لهما دلاله خاصة ، الاستعارات الطبية، وتحويل القرآن إلى مقولات معاصرة. فالاستعارات الطبية فى خطبه صارخة.
وتنجلى فقرة الأدرنيالين التى أوردناها فى استهلال خطبته عن مثال نموذجى لهذه الاستعارات. إذ يقدم كشك وصفا طبيا للتغيرات الكيميائية التى يسببهااتلغضب، وفقا لرأيه ومن ثم يوسع هذا الوصف ليشمل تصور رؤيوى apocalyptic لـ"انفجار شرايين المخ"وتتشابك هنا معاني عديدة. وأكثرها وضوحا هو الاتفاق الكامل بين الإيمان وبين العلم، فالله ينهى عن الغضب، وأيضا لنفس الاستنتاج .
واختيار الطب دونا عن أى مادة علمية أو تقنية أخرى ليس اختيارا عشوائيا، إذ يستطيع كشك أن ينتقى استعاراته من أى فرع آخر من فروع العلم كالهندسة، أو الالكترونيات، أو الطبيعة، الخ. لكن الطب، فى أذهان الجماهير، هو العلم الذى يدرس فى أفضل كلية في مصر، وهو الفرع الذى يفترض أن يتخصص فيه أذكر طلاب مصر، وفقا لعملية التنسيق.
ومن خلال ذكر المراجع الطبية فى صورة الخطابية ، يضع كشك نفسه، أمام مستمعيه فى مصاف صفوة المفكرين المصريين. إلا أن ممارس الطب – مهنة الصفوة التى يدفع ذكرها أى مصري لأن يحلم بأن يقسم ابنه يوما قسم أبوقراط- تستدعى صورة أخرى أيضا ، الاستشارات باهظة الثمن والاحتقار المطلق الذى يظهره الطبيب لمرضاه، الذين يحصلون على وصفات طبية لا يمكن فهمها ومكتوبة بالانجليزية.
(كما كان يستخدم أطباء موليير اللاتينية، كأفضل وسيلة لإرهاب مرضاهم) والذين يغادرون عيادة الطبيب ، التى ينتظرون داخلها لعدة ساعات، دون أدنى فهم سواء للأمراض التى يعانون منها ومسبباتها.
بينما كشك فى الناحية الأخرى، يصف العملية الباثولوجية مستخدما مصطلحات قد تثير سخرية من يمارس هذه المهنة، لكنها تكشف عن أسرا"العملية الكيميائية للمؤمن، بالضبط كما تكشف له أسرار القرآن . وفى نهاية استطراد كشك حول المسيح".
كانت الحجة الطبية بمثابة المفتاح الذى استخدمه ليقيم دليله،فيكفى ذكر مقاييس الرحم عند المرأة لسحق الادعاء بإلوهية المسيح، بأسلوب يتشابه تماما مع رسالة أبو بكر الصديق التى وجهها لكسرى، يذكره فيها بأصله بلغة لا تختلف مع عبارة القديس أو حبستين: inter feces et uvinam anascimve أى"المولود بين البراز والبول".
ومن خلال استخدام هذه الحجج ، التى تقول كل منها باتفاق الطب، هذا العلم المتفوق فى مصر، والإيمان ، يخضع كشك المعرفة الحديثة للمعرفة القرآنية .
لكن هذه الأسلمة للعلم لا تجعله بعيدا عن إدراك مستمعيه ، بل تقربه إليهم بكشف أسراره. فما يكتبه الأطباء بالانجليزية يشرحه كشك (بأسلوبه الخاص) باللغة العربية، فيفهمه مستمعوه.
أما الأسلوب البلاغي الثاني فى الخطبة، وهو العنصر الآخر لنجاح الداعية، فهو تقطيع الآيات القرآنية إلى وحدات صغيرة يصل بينها بتعليقات أو حجج مبسطة مصاغة بلغة عصرية.
فخلال استطراده حول المسيح، على سبيل المثال، قام بتقطيع الآيتين 30، 31 منم سورة مريم مستخرجا لغة مألوفة ليشجع مستمعيه على الخوض فى النص . فبينما تقول الآية"قال إنى عبد الله أتاني الكتاب وجعلني نبيا"يقول كشك فى خطبة"فإذا بالمسيح يخرج البطاقة العائلية. فى خانة الاسم (أنا عبد الله) .. المؤهلات العلمية (أتاني الكتاب) ... الخ).
واستخدام هذا الأسلوب بشكل أكثر فعالية ، عندما اتهم إبليس بارتكاب الجرائم المنصوص عليها فى المواد 77 و78 من صورة ص ، والمواد بالطبع، هى آيات السورة.
وهذه المتأنقات البلاغية ترسخ سلطة الشريعة فى الخطاب ذاته، فى مواجهة العدل الانسانى، الذى هو فى واقع الأمر، كما توضح الفقرات التى وردت فيما بعد فى الخطبة، مجرد سلسلة من المظالم، من محاكم الغدر والثورة.
أما الآية"والله يقضى بالحق..."فقد أدخلها الشيخ فى نهاية القائمة الهزلية التى تضمنت أسماء المحاكم المصرية، كشار يزين واجهة المحكمة الإلهية, وهنا أيضا، يرسخ الخطاب قابلية تطبيق القرآن بشكل طبيعي تماما، دون حاجة لبرهان.
ويسخر كشك كذلك من تبعية الهيئتين القضائية والتشريعية للهيئة التنفيذية، وليس هناك دليل على ذلك أقوى من المحاكم العسكرية أو المدعى العام الاشنراكى، التى تنفى شرعية النظام القانوني المصري الساري، الذى استلهم من القانون الفرنسي.
وهنا صور كشك النظام القضائي وكأنه جهاز الطاغية القضائي، فالشريعة فقط، التى استلهمت رأسا من الله، هى التى لا يمكن أن يستغلها الحاكم ولذلك فهي تضمن، كما يرى كشك، أن الناس"سيقضى بينهم بالحق".
وتيمات كشك هى التيمات themes الشائعة فى حركة الإسلاميين ، والتي غالبا ما كان يعرضها أفراد لم يتلقوا على الإطلاق ذلك التعليم الأزهرى التقليدي، مثل البنا ، وقطب، وبدرجة أقل شباب الجماعات الإسلامية أو شكري مصطفى. لكن أصالته وتأثيره داخل حركة الإسلاميين يعنيان من إنكاره لشرعية النظام الإسلامية بصفته شيخ م المشايخ، أى بصفته عضو فى هيئة العلماء.
وهو نفسه كأزهري، لم يستطيع أبدا أن يتبنى مواقف شكري أو مواقف فرج، منظر المجموعة التى اغتالت السادات . وفى حقيقة الأمر، كانوا هدفا لهجائه اللاذع،"أصحاب المراهقة الفكرية"الذين"قرأوا ثلاث صفحات أو ثلاث كلمات من كتب ابن تيمية".
ومع هذا، فقد عبرا وإن بشكل أخرق عن التشويش العميق الذى يتحمل مسئوليته الأولى، فى نظر كشك الأزهر نفسه. حيث فشلت أعلى مؤسسة إسلامية فى مهمتها، أي فى تربية الشباب، وتستدعى هذه الملاحظة ملاحظات المدعى العسكري إبان محاكمة شكري مصطفى.
لكن بينما كان المدعى العسكري يرى جذر الشر فى عجز العلماء عن فهم مشكلات العالم الحديث، كان كشك يراه فى تبعية الأزهر للنظام السياسي والعسكري نفسه (ولست أدرى من الذى سيعين بعد ذلك شيخا للأزهر؟ قد يكون لواء أركان حرب ويتولى مشيحة الأزهر) والذي يمنع المؤسسة الدينية من أداء وظيفتها. وفى لقاء أجرى معه، اقترح كشك الإجراءات التالية لعلاج هذه الوضع:
وهنا يتحدى واحد من المؤهلين للحديث باسم الإسلام ذلك التحديث الذى سعت إليه الدولة الناصرية ومع هذا ، فرغم تقديم"نجم الدعوة الإسلامية"لتحليل صارم للدولة المستقلة، واصما إياها بأقسى النعوت، إلا أننا نجده أقل فصاحة عندما تطرح خطة عمل الإطاحة بالدولة وبناء مجتمع مسلم مكانها.
لكن خطبه تقود بالضبط إلى نفس الموقف، حتى على الرغم من تحذيره لمستمعيه من أهواء"المفكرين المراهقين"دون أن يذكر لهم الطريق الذى يراه صحيحا.
وفى نفس الوقت، فإن خط يدين الممارسة"الإصلاحية"للإخوان المسلمين الجدد الذين تجمعوا حول التلمسانى ومجلة الدعوة ، كما يستدل على ذلك من سخريته اللاذعة من الذين"يعرضون الله تعالى على حفنة من عبيده ليوافقوا على الله أو لا يوافقوا على الله"، فى اللحظة التى انشغلت فيها الدعوة بالضغط بعنف على مجلس الشعب من أجل تطبيق الشريعة.
إن كشك ، مثله مثل قطب، يضع علامات على طريق دون أن يشير غلى نهايته، وفى أكتوبر 1981 لجأت قوى أخرى لقتل الطاغية فى محاولة لتحطيم الدولة.
الفصل السابع: اغتيال الفرعون
فى السادس من أكتوبر 1981 ، جلس أنور السادات مختالا فى زيه العسكري، فى المنصة الرئيسية المخصصة له ليشاهد العرض العسكري الذى خصص لإحياء الذكرى الثامنة لانطلاقة حرب أكتوبر ضد إسرائيل.
وكان إحياء هذه الذكرى يتم غالبا فى جو احتفالي خاص، نظرا لأن ما حدث فى أكتوبر 1973 ، عندما عبر الجيش المصري قناة السويس وحطم خط بارليف الاسرائلى فى سيناء، وقد وطد من سلطات الرئيس.
فعبور القناة مثل بالنسبة للسادات ما مثله التأميم بالنسبة لجمال عبد الناصر ، إنجاز ذو أهمية قصوى، يمنح النظام الشرعية المطلقة.
وفى كلتا الحالتين، فإن هذه الشرعية كانت تستخدم بالتالي، لإخماد أو لمحاولة إخماد، أى نقد يوجه لفساد أو تقصير البيروقراطية، أو لاحتكار السلطة من قبل فئة واحدة، أو لاستمرار البؤس والتخلف.
وقد اختار أعضاء إحدى جماعات الإسلاميين المعروفة باسم"جماعة الجهاد"هذا اليوم المشهود للعمل ضد الدولة بأكثر الطرق المتاحة دراماتيكية، أى باغتيال الرئيس. حيث اجتمع فى هذا اليوم، فى المنصة الجهاز السياسي المصري برمته، وارتدى أفراده أزياءه الرسمية، فبدوا وكأنهم غير حقيقيين ، مثل شخوص من الكرتون تجمدت فى أوضاع رسمية.
ولم يكن لدى أحد من المصريين أدنى شك فى أن هذه الأبهة التى كان يقام بها هذا الاحتفال كان الغرض منها إلى حد ما التشويش على الانتصارات اللاحقة التى حققها الهجوم المضاد للجيش الاسرائلى عام 1973 وتقدمه الحثيث نحو القاهرة .
وفجأة وعلى مرأى من كاميرات التليفزيون أخذت عربة مدفع عسكرية فى التوقف، وقفز منها أربعة رجال، وفتحوا نيران أسلحتهم الأوتوماتيكية على المنصة، والرجل الذى بدى فى أبهى صورة كان هو الذبيحة، حيث تناثر حرس الرئيس الخاص، ولقي السادات مصرعه وسط حالة من الهلع لا يمكن وصفها.
ولو كانت القنابل التى ألقاها أحد المهاجمين قد أصابت هدفها، لكان كل الموجودين فى المنصة فى ذلك اليوم قد لقوا نفس مصير الرئيس.
وبعد أن مرت لحظات الصدمة والذهول، عرف المصريون جميعا الملازم أول خالد الإسلامبولى ، قائد مجموعة الاغتيال ، كما عرفوا تلك الجملة التى قالها بعد أن أطلق النار وكانت تتردد فى كل مكان"أنا خالد الإسلامبولى ، قتلت الفرعون، ولا أخاف الموت".
وقد تداولت الطبقات الغنية ، شريط الفيديو الذى صور عملية الاغتيال، والذي وصل سعره إلى أرقام فلكية فى السوق السوداء، حيث كان يعرض بشكل مستمر فى بيوت الأثرياء.
ولم يحظ أى من قام بعملية الاغتيال قبل ذلك بمثل هذا الإعجاب الذى حظي به خالد الإسلامبولى ، بينما قوبلت جنازة الضحية، تلك الجنازة التى حضرها قادة العالم، بغضبة علنية من قبل الشعب المصري.
فخالد قتل السادات فى أوج الغضبة الشعبية عليه، بعد عام كان من أبرز معالمه أحداث الزاوية الحمراء فى يونيو وهجمة سبتمبر القمعية ضد المعارضة الدينية والعلمانية التى أسفرت عن ألف وخمسمائة معتقل.
أى أن خالد الإسلامبولى ، فى نظر الرأى العام المصري اليد اليمنى للإرادة الشعبية، وليس مجرد عضو عسكري فى جماعة إسلامية.
ومثل هذا العمل نجاحا مشهودا للحركة، جاء بعد عقدين سادهما القمع والمواجهات الفاشلة مع الدولة. إلا أنه بع السادس من أكتوبر ، وبعد الهجوم القصير الذى ولده تمرد الإسلاميين فى مدينة أسيوط فى 8 أكتوبر ، ثبت أن هذا النجاح لم يكن سوى لحظة مسرحية.
فالسادات لفه نائبه، ولم يحدث أى تغيير بنيوي فى الدولة يمكن أن يرضى حركة الإسلاميين . واشتدت الهجمة القمعية الموجهة ضد الحركة، وكأن هذه الحركة كتب عليها أن تظل ضعيفة ، وإذا استخدمنا المصطلحات التى تبناها سيد قطب، فإن الحركة كانت تمر بمرحلة ضعف جديدة.
والجماعة التى انتهى إليها الإسلامبولى هى أكثر اتجاهات حركة الإسلاميين التى تعرضنا لها حتى الآن شهرة. حيث نمتلك بيم أيدينا كتيبا وضعه المفكر الرئيس للجماعة.
وهو المهندس عبد السلام فرج، وعنوان هذا الكتاب هو"الفريضة الغائبة"والفريضة الغائبة هنا هى الجهاد، أى تلك الحرب المقدسة التى يجب إعلانها على الحاكم الظالم ولكن العلماء بذلوا قصارى جهدهم لكي يحجبوها أو يغيبوها وعلاوة على ذلك، فقد نشرت الصحف اليومية المصرية قوائم مفصلة للمتهمين بعضوية الجماعة.
وفى النهاية، فقد باع أحد المحامين نسخة من التحقيقات التى أجريت مع المتهمين الرئيسيين إلى صحيفة لبنانية.
وقد شكلت أيديولوجية وممارسةجماعة الجهاد تحولا عن الخط الذى تبنته حركة الإسلاميين منذ صدور"معالم في الطريق"حيث قد كتاب"الفريضة الغائبة"نظرية وممارسةالجماعة فى صورة تقييم سلبي لمختلف أقسام حركة الإسلاميين . فالجهاد كما أوضح فرج. هو السعي لوضع حد لهذا السجل الحافل بالاخفاقات.
وفى رأى عبد السلام فرج، فإن كل أشكال الاستراتيجيات الانتقالية التى عبر عنها شكري مصطفى، والجماعات الإسلامية ، وأضرابهم- كل منهم عمل على تجنب القمع المؤلم للدولة فى نفس الوقت الذى كان يقوم فيه بتدريب المجاهدين- كان مصيرها الإخفاق فى النهاية.
فشكري مصطفى ، رغم كل احتياطاته، قد انتهى إلى المشنقة عام 1978 ، ومن ناحية أخرى، فإن الطبيعة المعادية للإسلام للنظام لم تتغير منذ بداية حركة الإسلاميين ، وهذا فى ذاته دليل على إخفاقها.
ويستوقف قارىء كتاب الفريضة الغائبة عدم اهتما المؤلف بعملية إعادة بناء المجتمع التى تبنتها جماعة المسلمين أو الجماعات الإسلامية ، ورفضه لفكرة إعادة أسلمة المجتمع تدريجيا خلال رئاسة السادات .
فالمساجد كانت تقام فى كل مكان ، وتطبيق الشريعة الإسلامية يناقش فى مجلس الشعب، والنساء المحجبات والشباب الملتحون أصبحوا من المناظر المألوفة فى الحياة العصرية- لكن ما كان يعنى فرج، أن كل هذا ليس له أهمية طالما يقبض على السلطة حكام يعتبرهم خارجين على الإسلام.
هذه الأيديولوجية كرست كتابة بالتالي لمسألة السلطة والدولة، دون أن يتعرض لأى تحليل للمجتمع. وفى بحثه عن نقطة الضعف فى فكر الإسلاميين منذ حسن البنا - أي إستراتيجية الاستيلاء على السلطة- أرجع ذلك غلى الأولوية المطلقة للجهاد ضد الحاكم الظالم، أي الحرب المقدسة فى صورة ثورة ضد النظام واغتيال رأس الدولة وبهذا اختلف عبد السلام فرج مع إستراتيجية"معالم في الطريق"ومع صورها المعدلة التى تعاقبت فى السبعينات
التتر المعاصرون
قدم كتيب فرج برنامجا عمليا لتأسيس الدولة الإسلامية . وكان للكتاب أصالته التى لا يمكن إنكارها، رغم أنه فى نطاق جماعة الجهاد، التى انقسمت إلى قسمين أحدهما فى القاهرة والآخر فى الصعيد، لم يولى قادة القسم الأخير النص الذى قدمه عبد السلام فج والذي كان ينتمي لمجموعة القاهري اهتماما كبيرا.
فكرم زهدي ، زعيم العناصر النشيطة فى المنيا وأسيوط، قرر فى التحقيقات أنه سمع أن"الفريضة الغائبة"لم يتضمن شيئا جديدا فى الواقع وأنه لم يكن سوى تجميع لمقتطفات أخذت عن عدد من العلماء.
ويستطيع أي قارئ عادى أن يخرج من الكتاب بالانطباع التالي، على النقيض من شكري مصطفى الذى رفض الحديث الشريف ككل، استخدم عبد السلام فرج الحديث كمصدر لتدعيم أفكاره الخاصة.
وكان مرجعه المحوري نصا قصيرا للمفكر الكبير الذى عاش فى العصر الوسيط، ابن تيمية ، وقد مكنه تفسيره لابن تيمية أو تحريفه له، على حد تعبير منتقديه من البرهنة على الحقيقة التالية ، رغم أن السواد الأعظم من الجماهير مسلحون الآن، فإن حكامهم يستخدمون اسم الله فقط لكي يحكموا بما يخالف المبادئ التى جاء بها القرآن فالنمط الذى يتبعه حكام المسلمين اليوم.
كما قال فرج، هو الذى اتبعه التتار الذين استولوا على البلاد الإسلامية وطبقوا فيها نظاما قانونيا غير إسلامي، أى"الياسق"وكما أفتى ابن تيمية بضرورة الجهاد ضد الحاكم الذى يحكم وفقا لمبادئ التتار، أمر فرج بضرورة إعلان الحرب المقدسة ضد النظام الذى لم يكتف بأن لا يحكم وفقا للشريعة الإسلامية بل طبق نظاما قانونيا زيفه المشرعون الغربيون.
بعد المقدمة التمهيدية المألوفة، بدأ كتيب فرج كما يلى"فإن الجهاد فى سبيل الله ، بالرغم من أهميته وخطورته العظمى على مستقبل هذا الدين فقد أهمله علماء العصر وتجاهلوه بالرغم من علمهم بأنه السبيل الوحيد لعودة ورفع صرح الإسلام من جديد. آثر كل مسلم ما يهوى من أفكاره وفلسفاته على خير طريق رسمه الله سبحانه وتعالى لعزة العباد".
والذي لا شك فيه هو أن طواغيت هذه الأرض لن تزول إلا بقوة السيف ، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم"بعثت بالسيف بين يدى الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له..."وإقامة الدولة الإسلامية وإعادة الخلافة قد بشر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا فضلا عن كونها أمر من أوامر المولى جل وعلا واجب على كل مسلم بذل قصارى جهده لتنفيذه..
"هو فرض أنكره بعض المسلمين وتغافل عنه البعض، مع أن الدليل على فريضة قيام الدولة واضح بين فى كتاب الله تبارك وتعالى"وأن احكم بينهم بما أنزل الله"ويقول"ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون".
- "ويبدو هنا تساؤل : هل نحن نعيش فى دولة إسلامية؟ من شروط الدولة أن تعلوها أحكام الإسلام...
"وأفتى شيخ الإسلام ابن تيمية فى كتابه الفتاوى – الجزر الرابع –"كتاب الجهاد"عندما سئل عن بلد تسمى"ماردين"كانت تحكم بحكم الإسلام ثم تولى أمرها أناس أقاموا فيها حكم الكفر ، هل هى دار حرب؟
فأجاب: أن هذه مركب فيها المعنيان ، فهو ليست بمنزلة دار السلم، التى يجرى عليها أحكام الإسلام، ولا بمنزلة دار الحرب، التى أهلها كفار، بل هى قسم ثالث، يعامل المسلم فيها بما يستحق، ويعامل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه...
س"فالمسلم لمن يستحق السلم، والحرب لمن يستحق الحرب.. فالدولة تحكم بأحكام الكفر بالرغم من أن أغلب أهلها مسلمون.."
"والأحكام التى تعلو المسلمين اليوم هى أحكام الكفر.. فبعد ذهاب الخلافة نهائيا عام 1942 واقتلاع أحكام الإسلام كلها، واستبدالها بأحكام وضعها كفار.. أصبحت حالتهم هى نفس حالة التتار كما ثبت فى تفسير ابن كثير لقوله سبحانه وتعالى، فى سورة المائدة"5/ 50"(أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون).
"قال ابن كثير"ينكر الله تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم، المشتمل على كل خير ، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التى وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله"كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يصنعونها بآرائهم وأهوائهم ، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان .
الذى وضع لهم الياسق وهن عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، فيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه فصارت شرعا متبعا يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله. فمن فعل ذلك فهو كافر، ويجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله ، فلا يحكم سواه من كثير ولا قليل"ابن كثير – الجزء الثاني – ص 67".
"فحكام هذا العصر فى ردة عن الإسلام، تربوا على موائد الاستعمار سواء الصليبية أو الشيوعية أو الصهيونية، فهم لا يحملون من الإسلام إلا الأسماء".
الحرب المقدسة ضد الكفار
قد يصيبنا الملل من الخوض فى هذه المقتطفات العديدة التى استشهد بها عبد السلام فرج من ابن تيمية. لكنها تشكل القسم الأكثر وضوحا من الجزء الأول من النص، ومؤلف الكتاب لم يفعل شيئا سوى التسلل بين المقاطع العابرة التى تنطبق عل مناسبات بعينها محاولا أن يجعل منها مناسبة للوقت الحاضر ومن ثم ليطبقها على مصر العاصرة.
وقد أنكر كل المراقبين المصريين تقريبا مشروعية استخدام فرج لنص عالم الحديث العظيم . وحجتهم فى هذا أن عبد السلام فرج، الذى قال عنه الشيخ كشك أنه"مفكر مراهق"pubscent thinker ، لم يفهم شيئا من النصوص التى أخذ منها مقتطفاته وأن هذه النصوص على أى حال لا يسرى مفعولها على وصف المجتمع أو الدولة فى مصر المعاصرة.
- لماذا قرر عبد السلام فرج أن يقيم دعوته على تعاليم ابن تيمية؟ ولماذا اختار نصا لم يكن واحدا من أشهر مؤلفاته، ولم يكن سوى تجميع لفتاوى خصصت للرد على أسئلة تخص زمن معين؟
وقد ولد ابن تيمية لعائلة من القضاة (1263- 328) ونشأ فى أوج عصر المماليك فى وسط ثقافي كانت القاعدة فيه هى عدم مقاومة الظلم و"النشاط الفقهي الذى لا ينازع فيه كان الجهاد فقط، وهو الذى يتطلب أقصى جهد من كل وأقصى التحام من الجميع.
وقد أصبح عملا ينطوي على الندم الاجتماعي والانسحاب الفردي إلى الصلاة، والصوم والعزلة". والدوائر السياسية – التى هيمن عليها الأمراء، وهم فى الأصل عبيد أتراك سابقون تعربوا جزئيا وتلقوا تربية عسكرية خالصة- سعت لاكتساب الشرعية الإسلامية من العلماء، الذين"جعلتهم روحهم الطيعة معتمدين تماما على طبقة الأمراء، ولم يشاركوا على الإطلاق فى الثورات الشعبية، التى ظلت على الدوام حركات اجتماعية افتقرت إلى الأيديولوجية وإلى التماسك".
ورغم أن سلطة العلماء كان لأغنى عنها لكفالة هيمنة الدكتاتورية العسكرية الأوليجاركية الغريبة عن الجماهير الشديدة التدين ، فإن المذهب القضائي للدولة المملوكية لم يكن الشريعة الإسلامية ،"والعلمنة القانونية .... كانت علاوة على ذلك تزداد باضطراد من خلال فساد حكام معينين ، ومن خلال الأوضاع الفردية المجردة التي ينزع فيها السلاطين إلى العمل في ظل المغريات الكافية للمزاج الشخصي ودون أي ضغوط ، وربما أيضا من خلال فساد ورشوة الهيئة الإدارية التي يبدو أنها كانت مصرة على استغلال القانون أكثر من خدمته".
تلك كانت الأوضاع التي ظهر فيها ابن تيمية . وليس هناك سوى شك ضئيل في أنه لولا الطابع الأجنبي للطبقة العسكرية ، لاستدعى هذا الوصف لمصرفي عصر المماليك المقارنة بالمجتمع المصري المعاصر كما تراه حركة الإسلاميين .
وقد واجه ابن تيمية المجتمع الذي أدرك أمراضه بالفعل ، وأحد هذه الأمراض كلن الظلم ، الذي أصبح الآن المبدأ الذي يعلو كل شيء ، مما ألحق الأذى بوجدانه المسلم ، فوهب حياته وعمله للنضال من أجل استبدال"نظام الاستغلال الاجتماعي الذي قام على قاعدة الأقلية العسكرية .... بنظام آخر مثالي للتكافل الاجتماعي من أجل عزة الإسلام".
وهذا النضال هو"الجهاد"الذي كان عقيدة ابن تيمية في مجملها ، أو كما قال هنري لوست henri loust، كانت دعوته الدائمة والأبدية .
وقد خصص ابن تيمية أحد فصول رائعته"السياسة الشرعية"، للجهاد ،"أفضل ما تطوع به الإنسان ، وكان ـ باتفاق العلماء ـ أفضل من الحج والعمرة ، ومن الصلاة التطوع ، والصوم التطوع ، كما دل عليه الكتاب والسنة".
فطبيعة المرء الحقيقية كمسلم لا تظهر في معاناة الصيام ولا في الانسحاب إلى التقوى الفردية ، وإنما في الجهاد: "فإن من الناس من يرغب في الأعمال الشديدة في الدين أو في الدنيا ، مع قلة منفعتها ، فالجهاد أنفع فيها من كل عمل شديد".
ورغم أن الدمشقي الثائر قد وجه هذه الكلمات بشكل أساسي إلى هؤلاء الذين لجئوا إلى التصوف ، فمن المفهوم أن يلجأ رجل مثل فرج ، بعد أن قرأ النص ، إلى تطبيق نفس الكلمات على إخوته في الدين ، الذين أضاعوا ، وفقا لرأيه ، وقتهم في سعيهم لممارسةإسلام لم يكرس بشكل كامل للجهاد .
وفي واقع الأمر ، كما سنرى بعد قليل ، فقد كان هذا هو النقد الرئيسي لمؤلف الفريضة الغائبة الذي أخذه على تجمعات الإسلاميين والتجمعات الإسلامية الأخرى .
وقد أجاز ابن تيمية ما يمكن أن نسميه"بالجهاد داخل المجتمع"، حيث أكد على أنه" ثبت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة أنه يقاتل من خرج عن شريعة الإسلام وإن تكلم بالشهادتين". ولكن السياسة الشرعية لم تقرر بشكل واضح ما إذا كان هذا الأمر موجها بشكل أساسي إلى الحاكم أو إلى الثائر .
فلجأ فرج بالتالي إلى نص اقل شهرة ، حدد ملوك ماردين الكفار والتتار كأهداف يعلن عليها الجهاد . ومن ثم فقد ساوى فرج بين هذه الصور التاريخية وبين حكام اليوم.
تلك كانت بعض عناصر حياة ونضال ابن تيمية الذي كان المجاهدون الإسلاميون المنتمون لجماعة الجهاد قادرين على استخدامه لإقرار مشروعية عملهم باسم تعاليم الإسلام .
وسواء حرفوا النص أم لم يحرفوه وهو السؤال الذي أثار جدلا عنيفا بين مختلف المعارضين على الساحة المصرية المعاصرة ، حيث ادعى كل منهم احتكاره للتفسير الشرعي أو"التقدمي"للفقيه الكبير . أما بالنسبة لنا فالمهم هو أن فرج قد شعر بأهمية اللجوء إلى سلطان ابن تيمية لإضفاء الشرعية على نضاله الخاص ، أي على اغتيال السادات .
تنفيذ أوامر الله
إذا كان فرج قد اعتبر الجهاد جزء من تعاليم الإسلام الغائبة وأن عملية استعادتها هي المهمة التي ألقيت على عاتقه ، فقد قرر أيضا أنه ، أي الجهاد ، هو الطريق الوحيد الفعال للنضال من أجل تأسيس الدولة الإسلامية ، لأن كل الطرق الأخرى ، مهما تتطلب من تضحيات ، مآلها إلى الفشل .
وفي سعيه لحشد الأدلة على هذا الفشل ، صاغ فرج قائمة بالاتجاهات المختلفة في حركة الإسلاميين كنماذج للصيغة المسلمة لإعادة بناء المجتمع في مصر المعاصرة . فانتقد أولا الجمعيات الخيرية التي أسسها بعض المسلمين المصريين لتنظيم حياتهم اليومية بشكل تعاوني .
وهذا النشاط الخيري يتم تحت الإشراف التام لوزارة الشئون الاجتماعية ، رغم أن أنشطتها (الخدمات المحلية ، قراءة القرآن وتفسيره ، إلخ) تدار من جانب أعضائها وليس من خلال السلطات التنفيذية . وخلال رئاسة السادات ، أصبحت بعض هذه الجمعيات معامل تفريخ أخرجت الأعضاء الجدد لجماعات الإسلاميين الراديكالية
وقد أكد فرج على أن هذه الجمعيات الخيرية لم تقدم أي مساهمة تذكر للجهاد من أجل الإسلام : "هناك من يقول إننا نقيم جمعيات تابعة للدولة تدفع الناس إلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأعمال الخير ، والصلاة والزكاة وأعمال الخير تلك أوامر من الله عز وجل ، واكن إذا تساءلنا هل كل هذه الأعمال والعبادات هي التي سوف تقيم دولة الإسلام ، فالإجابة الفورية"هي لا"هذا بالإضافة إلى أن هذه الجمعيات خاضعة أصلا للدولة ، ومقيدة بسجلاتها ، وتسير بأوامرها".
وبعد نقده لهؤلاء الذين سعوا إلى تقويم النفوس ، استمرت"الفريضة الغائبة": "هناك من قال إن علينا أن نقيم حزبا إسلاميا في قائمة الأحزاب الموجودة ... ولن يستطيع حزبهم بلوغ الهدف الذي قام من أجله ، وهو تحطيم دولة ، بل على العكس ، فسيكون ذلك إسهاما في بناء دولة الكفر ، فهم يشاركونهم في الآراء ..
ويشتركون في عضوية المجالس التشريعية التي تشرع من دون لله .."وآخرون قالوا إن على المسلمين الاجتهاد في الحصول على المناصب وأن تملأ المراكز بالطبيب المسلم والمهندس المسلم ، إلخ ، ومن ثم فسيتصدع النظام الكافر تلقائيا ودون مجهود وسيفسح الطريق أمام الحكم الإسلامي .. والمرء لا يحتاج لسماع هذا الزعم إلا مرة واحدة ليتحقق من أن هذا محض خيال".
"وما زال البعض يقول إن الدولة الإسلامية ستقوم من خلال الدعوة وحدها ، وتكوين قاعدة عريضة ... وبالنسبة للبعض ، فهذا يساوي التحول عن الجهاد ، رغم أن الحقيقة هي أن القلة المؤمنة هي المطلوبة لقيام الدولة الإسلامية .. وعلى كل حال ، كيف للدعوة أن تحرز أي نجاح ووسائل الاتصال كلها يسيطر عليها النظام الكافر ، الذي أعلن الحرب على دين الله ؟"
"والبعض يقول إن الطريق لإقامة الدولة الإسلامية هو الهجرة إلى بلد أخرى ، وإقامة الدولة هناك ثم العودة مرة أخرى فاتحين .. عليهم توفير الجهد ، وإقامة دولة الإسلام ببلدهم ، ثم يخرجوا منها فاتحين .." "ومثل هؤلاء من يقول : إنه سوف يهاجر إلى الجبل ، ثم يعود فيلتقي بفرعون ، كما فعل موسى ، وبعد ذلك يخسف الله بفرعون وجنوده الأرض .. وكل هذه الشطحات ما نتجت إلا من جراء ترك الأسلوب الصحيح والشرعي الوحيد لإقامة الدولة الإسلامية .."
"وفي النهاية ، هناك من قال بأن علينا الانشغال بطلب العلم ، إذ كيف ستنتصر في المعركة المقدسة دون علم ؟ .... فمن يحتج بعدو علمه بأحكام الجهاد فعليه أن يعرف أن أحكام الإسلام سهلة وميسرة إن أخلص النية لله فعلى هذا ينوي الجهاد في سبيل الله . وبعد ذلك فأحكام الجهاد تدرس في سهولة ويسر وفي وقت قصير للغاية .. أما تأخير الجهاد بحجة طلب العلم ، فتلك حجة من لا حجة له .
وبقراءتنا لهذه السطور ، نتعرف على الملامح المألوفة الآن للاتجاهات المختلفة في حركة الإسلاميين المصرية ففرج ينبه الإخوان الجدد ، الذين طالبوا بإلحاح في عامي 1976 و1977 بإنشاء حزب إسلامي ، بأنه لا يمكن لأحد أن يتمتع بالحصانة وهو يشارك في نظام يسيطر عليه ويتلاعب به الكفار .
أما هؤلاء الذين اعتمدوا على الدعوة وحدها ، مثل كشك ، فقد رد عليهم فرج بأن النظام سيكون قادرا على الدوام على أن يتخلص من صوت الداعية كلما حانت الفرصة له .
ورد على الجماعات الإسلامية ، التي كانت عاجزة يحلم بعض أعضائها بالتغلغل داخل جهاز الدولة في محاولة لتقويضه من الداخل ، بأن العلم لا يجب أن يضعف من العزيمة وأن العمل في أجهزة الدولة سيقوي تلك الدولة في النهاية ، كما أكد شكري لهؤلاء الذين اتبعوا شكري مصطفى في هجرته أن هذا الطريق ليس سوى ذريعة لتجنب الالتزام الصارم بالجهاد .
ويجب التسليم بأن فرج ، لكي يوقف هذا السجل الحافل بالإخفاق ، قد لمس بدقة بالغة العامل الرئيسي لافتقار أسلافه إلى النجاح : أي عجزهم عن طرح مسألة الاستيلاء على السلطة .
ولا يعني هذا أن دلالة الجهاد قد استخف بها أسلافها مثل البنا ، والمودودى ، وقطب ، حيث كانت نصوصهم الهامة التي عالجت مسألة الجهاد المقدس في سبيل الله توزع بشكل واسع في شكل كتيبات من خلال الطلبة الإسلاميين ، حتى ظهور فرج ، ظلت تعاني من جراح القمع : فذكريات مذابح 1954 و1965كانت ما تزال ساطعة .
ومن ناحية أخرى ، لم تقر جماعة الجهاد ديالكتيك مرحلتي الاستضعاف والتمكن . ولأن كل هذه السبل كانت تؤدي إلى المشانق والمعتقلات ، فإن ما تحتاجه الجماعة قبل أي شيء آخر هو الهجوم الأكثر سرعة بقدر الإمكان على الدولة الكافرة ، والاستيلاء على السلطة .
وكان من الصعب تغيير قرار فرج . فقد بشر بالجهاد كنضال عسكري مباشر ضد الحاكم الظالم . وهذا ، كما قال ، واجب على كل المسلمين ، والهدف الأول يجب أن يكون العدو الداخلي ، وأما الأعداء الخارجيين فيأتي دورهم بعد ذلك :
"بالنسبة للأقطار الإسلامية فإن ديارهم ، بل أصبح العدو يمتلك زمام الأمور ، وذلك العدو هم هؤلاء الحكام الذين انتزعوا قيادة المسلمين ، ومن هنا فجهادهم فرض عين"
ويوضح هذا التأكيد كيف كان فرج مهتما بأن يضع عمله داخل إطار التراث الإسلامي . ففرض الجهاد نوعان . عندما يكون مرتبطا بحرب الفتح خارج أقاليم الإسلام ، يصبح"واجبا جماعيا (فرض كفاية): حيث ان بعض المسلمين يكلفون إنجازه، بينما يعفى البعض الآخر منه"ومن ناحية أخرى"عندما يهاجم المسلمون ، تصبح حربا دفاعية، ومن ثم تشكل واجبا يفرض على كل مؤمن (فرض عين) ، حتى على هؤلاء الذين لم يتعرضوا للهجوم بشكل شخصي"
وهنا كان العدو داخل أرض الإسلام نفسها. والحاكم المطلق يجب أن يحارب كما حورب الصليبيون الذين غزوا البلاد بالضبط، من خلال تعبئة ليست فقط عامة بل شاملة. وهذا هو الفرق بين قتال العدو الداخلي والعدو الخارجي.
"وهناك قول بأن ميدان الجهاد اليوم هو تحرير القدس، كأرض مقدسه، والحقيقة أن تحرير الاراضى أمر شرعي واجب على كل مسلم ولكن :
أولا: إن قتال العدو القريب أولى من قتال العدو البعيد. ثانيا: إن دماء المسلمين التى ستنزف، حتى وإن تحقق النصر. فالسؤال الآن : هل هذا النصر لصالح الدولة الإسلامية القائمة؟ أم أن هذا النصر هو لصالح الحكم الكافر القائم؟ وهو تثبيت لأركان الدولة الخارجة عن شرع الله؟ .. فالقتال يجب أن يكون تحت راية مسلمو قيادة مسلمة، ولا خلاف فى ذلك.
ثالثا: إن ساس وجود الاستعمار فى بلاد الإسلام هم هؤلاء الحكام فالبدء بالقضاء على الاستعمار هو عمل غير مجدي وغير مفيد، وما هو إلا مضيعة للوقت. فعلينا أن نركز على قضيتنا الإسلامية وهى إقامة شرع الله أولا فى بلدنا، وجعل كلمة الله هى العليا.
وتذكرنا هذه السطور بإجابة شكري مصطفى على سؤال المحكمة عن الموقف الذى ستأخذه الجماعة إذا غزت"القوات اليهودية"مصر"إذا وصل اليهود أو غيرهم فإن الحركة لت تسعى للحرب فى صفوف الجيش المصري ، بل عليها أن تذهب بنفسها إلى مكان أمين".
وبمعزل عن الاختلاف الجذري بين تكتيك العزلة أو الانسحاب الذى دعي إليه شكري مصطفى والجهاد الذى شدد عليه فرح ، فقد كان هناك تطورا فى طابع الحديث عن إسرائيل، حيث كان نوفمبر 1977 هو الحد الفاصل، فقبل ذلك اليوم كانت الدولة هى التى تصر على الحرب، بينما أشرعت التجمعات المعارضة بعد هذا التاريخ نفس النداء، اليسار باسم محاربة"رأس الجسر الذى وضعته الامبريالية فى الشرق الأوسط".
والإخوان المسلمون الجدد وجزء من حركة الإسلاميين باسم"تحرير الأماكن المقدسة"وقد وجه فرج خطابه إلى المعارضة، فى حين تحدث شكري مصطفى إلى الدولة.
ولم يعلق مؤلف الفريضة الغائبة أى آمال على الدولة، التى كانت فى تناقض شديد مع الموقف الساذج سياسيا لجماعة المسلمين . نظر بازدراء أيضا لهؤلاء الذين اعتبروا الامبريالية هى المسئولة عن كل مشاكل مصر.
واعتبر أي شيء غير قتال الطاغية هو مجرد لغو فى أفضل الأحوال و تغرير للنظام فى أسوأها من خلال تحويل اتجاه الطاقات إلى الخطابة التى لا طائل منها أو تجاه أهداف تافهة، تلك الطاقات التى يمكن توجيهها بشكل أفضل.
وفى الواقع، فإنه حتى إذا تعرض هذا الجهاد للهزيمة، فإننا يجب أن نحاول ولا شيء غير هذا"إن إقامة الدولة الإسلامية هو تنفيذ لأمر الله ، ولسنا مطالبين بالنتائج... بمجرد سقوط الحكم الكافر فكل شيء سوف يصبح بأيدي المسلمين...".
وفى النهاية يجب ملاحظة أن التنظيم الذى أسمته الصحف المصرية"جماعة الجهاد"يفتقر فى واقع الأمر إلى درجة الالتحام التى نتوقعها من جماعة تخطط لاغتيال رأس الدولة.
وهذا لا يعد فقط لوجود فرعين منفصلين – واحد فى القاهرة والآخر فى الصعيد- كانا فى أفضل الأحوال يتعاونان دون أن يسود أحدهما الآخر، بل لأن الاغتيال نفسه لم يقر إلا قبل عشرة أيام من تنفيذه. والمحرك الرئيسي له كان خالد الإسلامبولى ، وقد حظي بموافقة"مجلس شورى التنظيم"، الذى كان يواجه فى الحقيقة أمرا واقعا.
قتل المسيحيين
كما كان كتيب فرج مجرد نتائج رؤية نقدية لحركة الإسلاميين ، كذلك كان مجاهدو جماعة الجهاد مجرد أطفال ضائعين babaes in thnwood والإشارة هنا تعود على ظاهرة الخروج من جماعة إلى أخرى، وخاصة فى حالة شكري مصطفى وتهديداته بعقاب الخارجين من جماعته على أنهم مرتدين.
وأفضل رؤية لحركة الإسلاميين ، التى وصفها فرج بأنها"حقل الذين يعملون من أجل الإسلام"رؤيتها على أنها سديم من جماعات صغيرة تتأرجح أيديولوجيا بين فرج وشكري من ناحية التلمسانى من ناحية أخرى. واللحظة التى يحترق فيها أيى نجم فى هذا السديم خاصة ما إذا صاحب هذا الاحتراق بريق أخاذ، هى اللحظة التى سيجذب حوله هالة من المجاهدين الهائمين فى حركة الإسلاميين .
فبعد رحلة السادات غلى القدس ،ضاعفت الجماعات الإسلامية من هجومها الكلامي على النظام، إلا أنه لم يطرح أى عمل حقيقي على هذه التجمعات، حيث أخذ نوع الجماعات إلى العنف شكل العمل الجسدي ضد كل مشاكل بالنسبة لهم جرائم أخلاقية، اصطحاب الشبان للفتيات، والحفلات الموسيقية، وعرض السينما .. الخ.
وقد حولت هذه الأعمال حرم الجامعات إلى أرض إسلامية، لكن رغم هذا كان هناك هوة عميقة تفصل بين القول والفعل، ذلك الفعل الذى أدركه مجاهدو جماعة الجهاد فيما بعد.
أى أن نشأة جماعة الجهاد جاءت من الانقسامات فى الجماعات الإسلامية وكانت واضحة بشكل خاص فى الصعيد. فأمير الجماعات فى أسيوط، ناجح إبراهيم عبد الله سيد- الرجل الذى عرفه وادي النيل بأكمله باسم ناجح فقط، وهو خطيب موهوب ذو فصاحة بليغة، وظهر بشكل خاص فى ا لخطب التى كان يلقيها فى استاد الجامعة أثناء العيدين – أصبح أحد قادة جماعة الجهاد، والرابع فى قائمة المتهمين.
وقائد فرع الصعيد، كرم زهدي، الذى كان يعيش فى المنيا، كان على اتصال بفرج من خلال طالب من الإسلاميين كان يقابله بانتظام فى لقاءات الجماعات. وفى النهاية، كان محمد الإسلامبولى ، شقيق الملازم أول خالد الإسلامبولى. قائدا للجماعات فى كلية التجارة بجامعة أسيوط.
وفى واقع الأمر، فكما كان إعداد الدولة القيصرية لأخيه هو الدافع الذى حرك لينين نحو العمل، فإن خالد قرر أن يقتل السادات بعد أن علم بالظروف التى يعيش فيها أخوه وهو رهن الاعتقال، حيث أن محمد الإسلامبولى كان واحدا من 1536 معتقل قبض عليهم فى بدايات سبتمبر 1981 بعد أحداث"الفتنة الطائفية".
وقد قالت أم خالد بعد ذلك فى مقابلة مع إحدى المجلات الأسبوعية :"عندما سمع خالد الأخبار، انفجر خالد فى البكاء وقال لى"لماذا قبض على أخي ، الذى لم يرتكب أي جريمة"وظل يبكى كثيرا حتى أصيب بالتشنج. وبعد أن هدأ قال لى"كونى صبورة يا أمي ، إنها إرادة الله .. وكل طاغية وله نهاية".
وكان تعطش جزء من مجاهدي الجماعات الإسلامية لعمل أكثر جذرية وتحررهم من تردد الجماعات وافتقارها إلى إستراتيجية قومية هو الذى شجعهم على الاجتماع معا فى جماعة الجهاد، والتي قدمت لهم إمكانية العمل السريع والعنيف.
وهذه الظاهرة يمكن ملاحظتها بشكل خاص فى الصعيد، حيث كان 64% من أعضاء الجماعة طلابا (بينما 36% فقط كانوا يشغلون وظائف خارج الجماعة) بينما كان الطلاب فى القاهرة ، من ناحية أخرى ، أقلية داخل الجماعة. وقد يرجع هذا إلى نفوذ عبد السلام فرح، الذى تولى تجنيد الأعضاء من بين الشباب الذين كانوا يرتادوا مساجد المجاهدين فى حي بولاق الدكرور فى الضواحي الغربية من العاصمة.
وفى هذا الحي الذى كان معظم أبنيته دون المستوى، وكان يعيش فيه آلاف المهاجرين من الريف، والذي كان أقل من 30% من منازله فقط هى التى لديها مياه وصرف صحي، اعتاد فرج إلقاء خطبة الجمعة فى أحد المساجد الأهلية الذى بناه نسيب له.
وخلال المناقشة مع مستمعيه ، كان يحدثهم عن ضرورة الجهاد المسلح لتأسيس الدولة المسلمة، وبعد تبادل الزيارات، ينجح فى استمالة عدد منهم. وفى المقابل يقدمونه لأصدقائهم وأقربائهم، وهم الذين يصبحون بالتالي مرشحين للتجنيد.
وقد تكن تنظيم القاهرة من خمس أو ست مجموعات، لكل منها أميرها الخاص. ويتقابل الأمراء أسبوعيا ليرسموا الإستراتيجية العامة. ويبدو أن كل أمير كان يحفظ بدرجة من الاستقلالية ، وأن فرج لم يكن يمارس ذلك النوع من السلطة، الذى هيمن به شكري مصطفى على جماعة المسلمين، على أعضاء الجماعة، وبدرجة أقل على الأمراء، سواء كان سبب هذا افتقاره للقدرة أو افتقاره للارداة.
وقد تقابل فرج مع كرم زهدي، الذى كان رأس العناصر الإسلامية النشيطة فى الصعيد، لأول مرة فى عام 1980 ، ووفقا لرواية مؤلف الفريضة الغائبة، فإن فرج هو الذى أقنع كرم زهدي بأن الجهاد المسلح ضد الحاكم الظالم- والذي كان يعنى فى هذه الحالة اغتيال السادات - هو الشرط الهام والكافي لتأسيس الدولة الإسلامية .
ووفقا لكرم زهدي الذى لم يقدر فرج تقديرا كبيرا، فإن هذه اللقاء لم يضف له شيئا جديدا. حيث كان رأيه، أن الجهاد واجب يؤيده كل الدعاة المستقيمين ، إلا أنه يجب إعلانه أولا وقبل كل شيء على المسيحيين ، وبعد ذلك على الرئيس الذى اعتبره رهينتهم.
ورغم عد التعاطف بين قادة القاهرة وقادة الصعيد، إلا أن اللقاءات كانت تتم بينهم بشكل منتظم، وبالتناوب فى أرض كل منهم مرة . وفى يونيو 1980 قرروا أن ينسقوا أنشطتهم، مع احتفاظ كل منهم بحرية العمل داخل منطقته. ولضمان اتفاقهم طلبوا من الشيخ عمر عبد الرحمن، وهو أستاذ ضرير فى جامعة الأزهر بأسيوط، أن يصبح مفتى الجماعة.
وكان للشيخ روابط بكرم زهدي منذ 1974 عندما كان الأخير عضوا فى الجماعات الإسلامية ، التى كانت تدعو الشيخ بانتظام لإقامة الندوات فى المنيا وأسيوط. وقد كان الشيخ، من فرط التزامه بالسنة ، يمنع تلميذاته من سؤاله أ سؤال، ويصر أن يقوم بذلك زملاءهم الذكور.
فرغم أن إصابته بالعمى كانت تحميه من الزنا بالعين، إلا أنه كان يخاف من ارتكاب الزنا بالأذن ، من خلال سماع صوت امرأة محرمة عليه . وفى ربيع 1981 وافق الشيخ على العمل كمفتى للجماعة، وبينما مثل فرج وزهدي السلطة التنفيذية ، أو سلطة الخلافة، كان مفتيهم يصدر الفتاوى التى تمنح الشرعية لكل أعمالهم. أى أنه كان أزهرهم .
وعندما كان يسمع المجاهدون الشباب هذه الفتاوى ، يتأكدون من دخولهم الجنة فى حالة انضمامهم إلى الجهاد المسلح أو فى حالة قتلهم الصياغ الأقباط خلال السرقات التى كانوا يقومون بها من أجل تمويل التنظيم. وقد اختلفت رؤية مجاهدو القاهرة للمسيحيين عن رؤية مجاهدي الصعيد.
حيث قررت مجموعة القاهرة أن الهدف الرئيسي للجهاد هو تدمير الدولة الكافرة . أما مسألة المسيحيين فستتم معالجتها بطريقة أو بأخرى مع الأيام، ولا توجد تفصيلات أكثر عن المصير الذى ستقدمه الدولة الإسلامية فى المستقبل . بينما اعتبر زهدي وأصدقاؤه من ناحية أخرى ، أن التبشير المسيحي هو العقبة الرئيسية أمام انتشار الإسلام.
"إن ما أراه هو أن المسيحيين يتركزون فى المنيا وأسيوط وأنهم قد استغلوا ميزة كثرتهم العددية ليقيموا البراهين على قوتهم وتفوقهم. إن لديهم أسلحة ، وهذا ما دفع الشباب المسلم لأن يقاوموا بشدة بعثات التبشير من أجل وضع حد لتظاهر الصليبيين بالتفوق..
وتتضمن هذه العمليات توزيع الكتيبات النصرانية ، والبيانات ، وشرائط الكاسيت التى تهاجم العقيدة الإسلامية وتحرض الشباب على اللجوء للكنيسة، ودق النواقيس بشكل مستمر وفى أوقات غير مناسبة، وقرع الأجراس أثناء الآذان، وتنظيم الرحلات الكشفية والاتحادات المسيحية لإظهار قوتهم، ولدرجة توزيع نسخ من العهد الجديد فى حرم الجامعات وفى المقاهي، كما يفعلون فى المنيا.
وهذه هى الطريقة التى يظهر بها التبشير الصليبي نفسه... والمسيحيون لديهم الكثير من المال.. وقد استخدموه لشراء السلاح، الذى خزنوه، بقدر ما نعلم ، فى منازلهم وفى الكنائس ، فى انتظار اليوم الذى سيخرجون فيه، كما فى لبنان، لتحويل مصر لدولة قبطية عاصمتها أسيوط، كما ذكر الرئيس السابق".
- س: هل تعنى إجابتك السابقة أن أسلوب انتشار الإسلام قد تحول من الدعوة للجهاد؟
- جـ : إنه أمر طبيعي ، ففي أعقاب هذه الأحداث المتتالية، كان للدعوة أن تتضمن كل شيء . يجب علينا أن ندعو الشباب للاستعداد للجهاد، بما فى ذلك الاستعداد لمواجهة المؤامرة الواضحة التى يديرها النصارى دون أن يكون الشباب المسلم جاهزا لها".
تلك كانت إجابات كرم زهدي على أسئلة المحقق. وكانت الرغبة فى الانتقام من المسيحيين قد تأججت بشكل خاص فى أعقاب أحداث الفتنة الطائفية التى وقعت فى صيف 1981 فى الزاوية ا لحمراء ونزولا على هذه الرغبة اصدر الشيخ عمر عبد الرحمن فتوى فى وقت مناسب تماما:
فكما قال كرم زهدي"في وقت أحداث الزاوية الحمراء أصدر فتوى في نصارى مصر ، الذين رفعوا السلاح ، وأطلقوا النار على المسلمين ، واستولوا على مسجد . وقرر أنه إذا كان المسيحي يمد يد العون للكنيسة بالمال بغرض إصابة المسلمين بالأذى ورفع السلاح ضدهم ، فإنه من الجائز شرعا من حياته وأملاكه .
وإذا رفع السلاح فقط ، فمن الجائز أخذ حياته فقط ، وإذا كان يساعد الكنيسة بالمال فقط ، فيكفي أخذ أملاكه . وبعد ذلك اجتمع مجلس الشورى (الخاص بفرع الصعيد) في أسيوط وقرر الأخذ بالثأر من المسيحيين .
واقترح على الشريف أن يكون مكان هذا العمل في نجع حمادي ، حيث يوجد عدد من الصاغة المسيحيين المتعصبين الذين رفعوا السلاح ضد المسلمين وقدموا مساعدة مالية لا يستهان بها للكنيسة ، وهو المال الذي اشتروا به السلاح . وقد ذهبنا ، وهاجمناهم ، وقتلناهم ، وأخذنا الغنيمة التي اشترينا بها السلاح للتنظيم ..
لقد قتلنا ستة مسيحيين ورجعنا بالغنيمة التي تكونت من خمسة كيلو جرامات من الذهب وثلاثة آلاف جنيه مصري وقد صدم العنف المفرط لهذه الكلمات للضباط الذين استجوبوا زهدي . فسألوه عما إذا كان يعلم أن القرآن قرر أن المسيحيين (واليهود) هم"أهل الكتاب"الذين لهم منزلة خاصة في أرض الإسلام ، أي أهل الذمة ، ورد زهدي على هذا السؤال بتفسير بالغ الأصولية للقرآن :
"في الشرع يسمى المسيحيون واليهود"الذين كفروا من أهل الكتاب"وقال اله تعالى"لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم"وقال أيضا"إن الذين كفروا من الكتاب والمشركين في نار جهنم". وهذا يعني ، وفقا لتفسيره ، اليهود والمسيحيين . والمقصود بتعبير"الذين كفروا من أهل الكتاب"هم أهل الكتاب ، لأنهم لم يؤمنوا بهذا الكتاب".
فبالنسبة لزهدي ، أنشط عناصر الصعيد ، كان المسيحيون كفار ، ومن ثم فهم أهداف مناسبة للجهاد ، للحرب المقدسة في سبيل الله ، حتى قبل الطاغية . أما بالنسبة لفرع القاهرة فقد كانت الأولوية للنضال ضد للسادات .
والاختلاف بين الفرعين الإقليميين كان نتيجة لعدد من العوامل ، أقلها عدم التجانس في التجنيد ، فقد ارتبط مجاهدو الصعيد ، الأعضاء السابقون في الجماعات الإسلامية ، والذين يشبهون الطلبة الإسلاميون الذين كتبوا منشورا ووزعوه في المنيا عام 1980 ، بشدة في البيئة الاجتماعية للمناطق الريفية النائية وقاسموا هذه البيئة ردود الأفعال التقليدية مثل عادة الأخذ بالثأر .
وبالتالي أصبح الأقباط ، الذين تجاوز وزنهم العددي في الصعيد"حد التسامح"الإسلاميين ، هدفا أكثر إلحاحا بكثير بالنسبة للمجاهدين من الطاغية ، الذي لاح وكأنه هدفا بعيدا وصعب المنال .
فزهدي ورفاقه كانوا قد شكلوا جماعة ارتبطت بجذور عميقة بالعائلات المسلمة المحلية ، وإذ كانت روابطهم التقليدية قد جعلتهم ينزعون الزيف مقولة الجهاد بالشكل الذي حددها به فرج ، فإن هذه الروابط نفسها هي التي مكنتهم من استغلال الانتماءات العائلية المتزمتة التي أثبتت نفعها إلى حد كبير في 8 أكتوبر 1981 ، عندما سيطرت الجماعة على مدينة أسيوط .
وعلى عكس ذلك ، قررت جامعة القاهرة العمل ضد الطاغية أولا وقبل كل شيء ، ولم تعلق أهمية كبيرة على الأقباط . لكنهم لم يكن لديهم شبكة من المتعاطفين والمؤيدين ، وعملهم المنفصل ـ اغتيال السادات ـ لم يعقبه أي اندفاع للجماهير المسلمة في شوارع القاهرة بالصورة التي كان فرج يسعى إليها .
اغتيال الفرعون
كان خالد الإسلامبولي هو الذي اتخذ قرار اغتيال السادات . ووقت الاغتيال كان في الرابعة والعشرين ، حيث ولد لعائلة من وجهاء ملوي ، وهي مدينة لا تبعد كثيرا عن المنيا ، في صعيد مصر . وكان والده محاميا ويشغل وظيفة مستشار قانوني في شركة وطنية كبيرة لتقطير السكر في نجع حمادي .
وقد كان خالد متفوقا في المرحلة الثانوية ، حتى أن الدرجات التي حصل عليها في الثانوية العامة تؤهله لدخول كلية الطب ، لكنه بدلا من ذلك اختار أن يلتحق بصفوف الجيش حتى يحقق حلمه طفولته في أن يصبح طيارا . لكنه فشل في الالتحاق بالكلية الجوية ، ومع هذا ، فقد التحق بالكلية الحربية ، وعين في سلاح المدفعية ، برتبة ملازم أول .
وكان الضابط الصغير ، الذي عاش في الثكنات ، مثل العديد من الطلبة ، يذهب إلى منزل أسرته كل يوم جمعة لكي يغسل ملابسه . وفي 3 سبتمبر 1981 عاد إلى منزل والديه لكي يلتم شمل العائلة .
وهناك علم أن أخيه محمد ، قائد الجماعات في كلية تجارة أسيوط ، قد قبض عليه في الليلة السابقة في حملة اعتقالات شملت أكثر من ألف وخمسمائة معارض أمر بها السادات . وقد سحب محمد من فراشه وهو في ملابس النوم و"أخذ بعيد". وبعد أن سمع خالد القصة ، انتابته ثورة عارمة . وأخبر والدته أنه سيسعى للثأر ، وأن"كل طاغية وله نهاية".
وقبل تسعة أيام من العرض العسكري في السادس من أكتوبر ، شرح خالد ، الذي كان عضوا في جماعة فرج ، خطته لقائده : أي قتل السادات خلال العرض . وكان خالد قد تم تعيينه كقائد لعربة نقل مدرعة ومن ثم فقد خطط لاستبدال ثلاثة من الجنود المعينين للركوب معه بثلاثة من زملائه .
وعند مرور العربة أمام المنصة ، هكذا شرح خالد خططه لفرج ، سيوقفها فرملة اليد (لم يكن السائق من بين المتآمرين) ويقفز منها الرجال الأربعة ، ويلقون بقنابلهم اليدوية ، وبعدها يفتحون نار مدافعهم الرشاشة على مكان الرئيس . وكل المطلوب منهم الآن توفير القنابل والذخيرة .
وطبقا للبيان الذي قدمه خالد أثناء محاكمته ، فإن اغتيال السادات كان نتيجة منطقية لاستدلالات فرج عن التتار . وبقدر ما يبدو هذا مؤكدا ، فإن اغتيال السادات قد يرجع إلى أن الإطار النظري للاغتيال قد رسخته طريقة التفكير المعروضة في كتاب فرج ، أو إلى رغبة خالد في الثأر من اعتقال أخيه ، أو إلى هذه الفرصة التي أتاحها اشتراك الضابط الشاب في العرض العسكري الذي سيحضره رئيس لدولة .
وقد تحمل فرج مسئولية توفير القنابل والذخيرة . وفي النهاية ، تم شراؤها من دوائر مهربي السلاح ومن خلال وسطاء كانوا مجاهدين سابقين في حركة الإسلاميين (ودفع ثمنها من ثمن الغنيمة التي أخذوها من الأقباط) ، وهذا ما يظهر بوضوح تلك الروابط التي خطط المعارضون لإقامتها مع العالم السفلي التقليدي .
وفي 26 سبتمبر أقيم اجتماع في صفت اللبن ، وهو حي بائس من أحياء القاهرة . حضر فيه أمراء مجموعات القاهرة وبعض قادة الصعيد ، الذين تم استدعائهم بشكل خاص لهذه المناسبة .
وبعد أن عرضت الخطة ، نشب حوار ساخن بين كرم زهدي وعبود الزمر حول مسألة قدرة التنظيم على التحرك المباشر من اغتيال السادات إلى"الثورة الشعبية"التي كان من المفتر أن تنبثق منها الدولة الإسلامية ، وبينما أكد زهدي على قدرته على السيطرة على أسيوط ، كان لدى عبود شكوك كبيرة حول قدرة فرع القاهرة على شل المراكز العصبية في العاصمة .
وكان عبود ضابطا بالقوات الجوية في الخامسة والثلاثين من عمره وتلقى تدريبا على وسائل الأمن الحربي . وفي التحقيقات ظهر عبود كشخصية قوية ، أكثر نضجا من زملائه المتهمين .
وبينما استمر فرج في شرحها لابن تيمية بشكل متصل ، وجد زهدي متعته في العنف ، وبدا الإسلامبولي متهورا في قراره القيام بعمل يتطلب شجاعة عظيمة مع عدم تفكيره في العواقب ،أظهر عبود ، على النقيض منهم ، عقلا منهجيا قادرا على تقييم اللحظة بشكل هادئ على أساس مخاطرها ونتائجها . فتدريبه العسكري وخبرته في القيادة كانت بلا شك عوامل هامة في تشكيل رؤيته هذه ، وكان مدركا تماما لتفوقه بجلاء في هذا المجال .
وخلال التحقيقات الأولية أقر مسئوليته عن"تنفيذ"عمليات الجماعة .وعلى الأرجح ، أنه لم يستطيب أن يرى الملازم أول خالد الإسلامبولى الذي يصغره بأحد عشر عاما يقحم مجال تخصصه .
وفي واقع الأمر ، كان عبود يشبه إلى حد كبير الضباط الأحرار الذين كانوا في الثلاثينيات من عمرهم ، مع أنه كان يتمتع بشعور ديني جارف لا يدانيه فيه أي من متمردي 1952 . فهو الذي انحدر من أسرة من وجهاء الريف ، انسلخ من طبقتهم ، وأخذ على عاتقه"مهنة"عصرية ، وهي رفع السلاح ضد الدولة باسم قيم الإسلام .
ولم يغفل قاضي التحقيق خطورة وجود ضابط مخابرات حربية بين قادة مؤامرة للإسلاميين ، وقد كان مهتما بشكل خاص بمعرفة الكيفية التي انتمى بها العديد من ضباط الجيش والبوليس للتنظيم . ورغم أنه كان ضابطا ، إلا أنه لم ينس أن الحكام الكفرة الذين ثار عليهم هو وأصدقاؤه قد جاءوا أساسا من الجيش ، ومن ثم فقد أشبع فضول قاضي التحقيق .
- س : من مين الضباط من القوات المسلحة والبوليس كان عضوا في تنظيمك"؟
- ج :"عدد صغير جدا من ضباط الاحتياط . فنحن لم نسع لتجنيد ضباط الجيش ، إلا أن هذا كان يحدث أحيانا . إلا إذا قابلنا واحدا في المسجد واكتشفنا بمحض الصدفة أن الشخص الذي تحدثه ضابطا".
- س :"لماذا لم تحاول أن تكسب مجندين من القوات المسلحة"؟
- ج :"خططنا كانت تعتمد على الثورة الشعبية ، وإعداد الجماهير لهذا الهدف ... و أنا أعتقد أن الثورة الشعبية ستحل مسألة القوات المسلحة والبوليس ، لأنه من المستحيل بالنسبة لهم أن يوجهوا بنادقهم للجماهير".
- س :"استمر وأوضح"..
- ج :"أوضحت التجربة الإيرانية أنه في حالة حدوث الثورة الشعبية ، من المستحيل على الجيش والبوليس قتال الجماهير الشعبية التي تريد تطبيق شريعة الله . ومن ثم ستحدث انقسامات فى القوات المسلحة، وستنضم أقسام منها إلى الثورة الشعبية والسلاح فى يدها، دون أى حاجة لتجهيزها لذلك ، وهكذا تكتسب الثورة القوة".
وقد أدى إصرار عبود على الربط بين اغتيال الحاكم والإعداد لـ"ثورة شعبية"غلى معارضته خطة خالد الإسلامبولى منذ البداية. وكان رأيه أن التنظيم أمامه فترة لا تقل عن سنتين حتى يكون قادرا ليس فقط على اغتيال الرئيس لكن أيضا لاستخدام الاغتيال كنقطة انطلاق لعملية بناء الدولة المسلمة. إلا أن رأى عبود تم تجاهله، وفى ليلة سبتمبر قررت مجموعة القاهرة وضع خطة الاغتيال موضع التنفيذ، بينما عاد كرم زهدي وأنصاره إلى الصعيد لكي يستعد للسيطرة على أسيوط.
وتأكدت نبوءات عبود، عن افتقار القاهرة للإعداد، بأسرع مما توقع. فعقب أن غادر الاجتماع، وجد أنه لا يستطيع العودة إلى منزله، حيث تأكد من أن البوليس أعد له كمينا هناك. وكان فرج وأصدقاؤه موضوعين تحت الرقابة اللصيقة قبل عشرة أيام من الاغتيال ، ووجدوا أنه من الصعب الإعداد"للاستيلاء على المراكز العصيبة"لكن يبدو أن خالد الإسلامبولى لم يكن هدفا لأى مراقبة، وبدأ فى وضع خطته موضع التنفيذ.
فاستصدر تصاريح للجنود الذى عينهم ليقاسموه عربته فى يوم العرض،وفى ليلة 5 أكتوبر كان شركاؤه الثلاثة نائمين فى الثكنات. وخالد كان يحمل القنابل والذخيرة فى حقيبته، حيث كان الضباط لا يتعرضون للتفتيش . وأخذ الرجال ليصنعوا هذا المشهد القصير الذى خلدته كاميرات التليفزيون الأمريكي.ونحر السادات ، وصرخ خالد، قتلت الفرعون.
وظلت القاهرة هادئة، بغض النظر عن تلك الانفجاريات الفردية القليلة التى لم يتحدد المسئول عنها على وجه اليقين. وكما تنبأ عبود، كان التنظيم عاجزا عن شل المراكز العصيبة لكي يفجر الثورة الشعبية. وفى أسيوط ، لم يبدأ أصدقاء زهدي هجومهم فى السادس، بل بدءوه فى فجر الثامن من أكتوبر ، أول أيام عيد الأضحى ، حيث اعتادت الجماهير الإقامة فى منازلها.
وكان عنصر المفاجأة من ناحية أخرى كاملا ، فقد هاجمت مجموعات منهم مديرية الأمن، حيث كان طاقم الخدمة أقل عدد ممكن، تحت قيادة ضابط مسيحي. وفقد هذا الضابط عنقه، بينما قتل ببشاعة عدد كبير من الشاويشية، وهم رجال بوليس فقراء يحصلون على رواتي بائسة، وقتل المسلمون والأقباط دون تمييز.
ونتيجة لهذا الهجوم الساحق، عجزت قوات الأمن فى الصعيد عن السيطرة على المدينة، إلا أن قوات المظلات التى تدفقت على المدينة من القاهرة ، والتي هبطت فى استاد الجامعة حيث كانت الجماعات الإسلامية تقيم صلاة الجماعة، سحقت التمرد فى اليوم التالي.
وقد ضخمت الاعتقالات الواسعة من عدد المعتقلين الذين قبض عليهم فى سبتمبر، وواجهت السجون المصرية مشكلة ازدحام حقيقية . وخلف حسنى مبارك نائب الرئيس السادات بعد استفتاء عام روتيني. وأفرج عن الذين اعتقلوا فى سبتمبر بالتدريج، بينما قدم أعضاء جماعة الجهاد للمحاكمة فى محاكمتين منفصلتين.
وخصصت المحاكمة الأولى للذين اغتالوا السادات . حيث اتهم فيها أربعة وعشرون شخصا، حكم على خمسة منهم بالإعدام، خالد ورفاقه الثلاثة وفرج ،ونفذ فيهم حكم الإعدام فى 15 أبريل 1982 . وقد اتهم فرج بكتابة"الفريضة الغائبة".
وخصصت الثانية . والتي لم تنتهي حتى وقت كتابة هذا الكتاب، لمحاكمة 302 متهما، هرب بعضهم، وحوكم غيابيا وقد طالب المدعى العام بإعدام كل المتهمين. وقبل ذلك ، نشرت صحف القاهرة اليومية قائمة بالمتهمين وهذه القائمة ، التى ظهرت فى 9 مايو 1982 فى جريدة الجمهورية، اشتملت على أوسع وأشمل عينة متوفرة أمام الباحثين لدراسة أنماط التجنيد فى حركة الإسلاميين فى مصر السادات .
ويجب التعامل معها بحذر ، بالطبع فنحن لا نستطيع أن نثق تماما فى أن كل من اتهمهم المدعون المصريون هم بالفعل مجاهدون فى جماعة الجهاد. لكن مع تحفظنا ، تعطينا القائمة معلمات عن أعمار ومهن وعناوين المتهمين، وهذا ما يوفر لنا صورة للمجاهدين الإسلاميين ، وهذه الصورة تبدو ذات مغزى كبير وتشهد على صدق الانطباع الذى خرجت به من دراسة أيديولوجية الحركة وممارستها الاجتماعية.
وهناك عدن نقاط تثير الشك بشكل واضح. فالذين حددت القائمة وظيفتهم على أنهم تجار يمكن أن يكونوا أي شيء بدءا من بائعي الصحف البائسين حتى صاحبي المتاجر الكبيرة. وبالمثل، فرغم ذكر عناوين المتهمين فى معظم الحالات، إلا أنه لا توجد خريطة مفصلة بشوارع القاهرة يمكن رسم هذه العناوين عليها بدقة. ولتحديد جهة سكن المتهمين الذين اعتبرتهم القائمة من سكان القاهرة الكبرى، كان لابد من الرجوع إلى الأقسام والمراكز.
وبالإضافة إلى هذه العينة، يوجد تحت أيدينا عينتان أخرتان من المجاهدين الإسلاميين ، الأولى نشرتها جريدة الأهرام هام 1974 . وبها إشارة إلى أعمار ومهن المتهمين فيها. والثانية ، وإن كانت تضم عدد صغير ، ظهرت فى مقالة كتبها عالم الاجتماع المصري- الأمريكي سعد الدين إبراهيم كتحقيق حول الأعضاء المسجونين من مجموعة 1974 وجماعة المسلمين. والجدول ، والرسوم البيانية ، والخريطة الموجودة فى نهاية هذا الفصل توضح المعلومات المتوفرة عن هؤلاء المتهمين .
ويمكن تصنيف المتهمين وفقا لانتمائهم للمحافظات والمذكور فى الجدول إلى مجموعتين متميزتين ، واحدة فى القاهرة الكبرى، بما فى ذلك عدد صغير من مدن الدلتا، والأخرى فى الصعيد، مركزه فى ثلاث محافظات هى المنيا، وأسيوط، وسوهاج. والمجموعتان تتوزعان بالعدل عبر البلاد، إلا أنه يجب الأخذ فى الاعتبار ذلك الاستثناء الموجود فى الإسكندرية.
وقد يعود هذا فى الأغلب إبى صدفة بحتة، إذ أن هذه المدينة لم تكن مستثناة من وجود معارضين إسلاميين بها، فالجماعات الإسلامية كان لها قاعدة قوية هناك بالإضافة إلى أن نصف المتهمين فى قضية الفنية العسكرية كانوا من الإسكندرية. وتفسير هذا يبدو بسيطا، وهو أن فرج لم يجد الفرصة لإقامة الروابط مع الإسلاميين فى الإسكندرية كما فعل مع مجاهدي أسيوط.
ويوضح الشكل الأول أن الغالبية العظمى من المتهمين فى الصعيد كانوا من الطلاب، بينما كان الطلاب أقلية فى القاهرة الكبرى والدلتا.فمحافظات الصعيد الثلاث ، المنيا وأسيوط وسوهاج ، فيها أعلى نسبة من الأقباط بالبلاد، وعواصمها مدن بنها جامعات .
والامتداد الجغرافي للجامعات كان بالغ الاتساع (جامعة أسيوط توزعت على مدينتين : أسيوط نفسها للكليات العلمية والحقوق، والتجارة وسوهاج للكليات الأدبية والإنسانية)، وطلبتها كانوا ينزعون إلى العيش خارج محيط الأسرة أكثر من أى مكان آخر، ويتجمعون فى المدن الجامعية أو فى بيوت الطلبة مثل الحمرا فى أسيوط. وهذا على الأغلب سبب التماسك الشديد لمجموعة الصعيد بالمقارنة بفرع القاهرة .
ويوضح الشكل الثاني أن النسبة الإجمالية بين الطلبة وغير الطلبة كانت شبه متعادلة، وإن كانت نسبة الطلبة أعلى بدرجة قليلة جدا. والمقارنة بجماعة الفنية العسكرية ذات دلالة واضحة هنا ، ففي حالة عدم وجود معلومات حديثة تفيد النقيض، يمكننا أن نفترض أن حركة الإسلاميين ، أو بحد أدنى أحد فصائلها وهو جماعة الجهاد، قد خططت لإنشاء جيتو الجامعات، بالشكل الذى كان يأمله عصام الدين العريان.
ولو كان هذا صحيحا، فستكون هذه الخاصية الجديدة مصدر قوة لحركة الإسلاميين فى المستقبل. ونزعة مشابهة يوضحها الشكل الخامس ، فرغم أن معظم المتهمين فى قضية الجهاد الذين كانوا بين الخامسة والعشرين والثلاثين تساوى تقريبا نفس النسبة لمنهم تحت العشرين فى قضية الفنية العسكرية.
ويلخص الشكلان 3 و4 والخريطة حقائق التركيب الاجتماعي للجماعة. حيث يوضح الشكل الثالث أن أقل بقليل من ثلث المتهمين فى قضية الجهاد كانوا من طلاب الكليات النخبوية أى الطب والهندسة، وهى نسبة أعلى بكثير من المعدلات القومية، رغم أنها نسبة تقل عن المستويات القياسية لجماعة الفنية العسكرية.
والغياب الفعلي للملتحقين بالكليات العسكرية بين المتهمين، رغم أنهم مثلوا أكثر من ربع متهمي 1974 ، يكمله النسبة الضئيلة من الضباط ورجال البوليس بين المتهمين الذين يشغلون وظائف (الشكل الرابع) ويصادق على تأكيدات عبود الزمر فى هذا الصدد .
وقد اعتمدت جماعة الجهاد بدرجة أقل نسبيا على الطلاب من جماعة الفنية العسكرية ، وطلابها كانوا أيضا أكثر قدرة على التعبير عن جماهير الطلاب. ومرة ثانية، إذا كانت هذه النزعة الواضحة حقيقة ، فسيكون هذا مصدرا إضافيا للقوة الثورية.
ويجب تفسير الشكل الرابع بحذر كبير. لأن التصنيف وفقا لمهن المتهمين تم من أجل تبسيط المعلومات التقريبية فهل يعنى وجود هذا العدد الكبير من الحرفيين والتجار- والذين يدعمون بشكل عرضي الانطباع الذى سيجده المرء فى شوارع القاهرة ، حيث يطلق عدد كبير من ملاك محلات البقالة لحاهم ويرتدون غطاء رأس أبيض- أن هذه الطبقات الاجتماعية، التى تستفيد فى الظاهر من سياسة الانفتاح الاقتصادي، لديها سبب عميق لتحدى النظام ؟ ونحن من جانبنا لا يمكننا أن نتأكد من الإجابة على هذا السؤال.
والخريطة التى رسمت لتحديد العلاقة بين عناوين المتهمين وبين الأنماط المختلفة لأحياء القاهرة ، ذات دلالة بالغة . حيث يشد الانتباه تركيز المتهمين فى مناطق حزام البؤس فى الجيزة، وهى منطقة ذات مساكن دون المستوى الانسانى.
من ناحية أخرى ، فإن كل من الأحياء التى تقطنها الطبقة المتوسطة والأقسام المركزية فى المدينة القديمة، حيث توجد منازل جيدة البناء كثيفة السكان، تخلو فى الواقع من أعضاء الجهاد.
وجزء من هذا التوزيع يرتبط، بالطبع بتحركات فرج. ومع هذا ، فإن صورة التجنيد الذى مارسه فرع القاهرة بالشكل الذى أبرزته الخريطة تثبت على نحو وثيق صحة الافتراضات التى فرضتها بناء على وثائق محاكمة جماعة المسلمين ودراستي للجماعات الإسلامية .
فالوسط الأكثر خصوبة بالمجاهدين الإسلاميين هو المجموعة النسبية 20- 25 سنة فى الأحياء الممتدة على حواف المدن الكبيرة. حيث يعيش الناس هناك على حد الكفاف بكل ما فى الكلمة من معنى، وأول كل شيء سكانهم فى أرض وسط لم تكن الريف الذى جاءوا منه إلا أنها لم تكن المدينة، التى لم يصلوا قلبها.
وتركيبتهم الثقافية كانت أيضا هامشية، فهم لم يعودوا ينتمون إلى البني القروية التقليدية، وهى لن تمدهم ثانية بمصادر الحياة المادية أو باندماج اجتماعي حقيقي . لقد كانوا أطفال الهجرة من الريف، ووصلوا إلى الضواحي بعادات مقطوعة الصلة بالماضي.
ومع هذا فعلى عكس توقعاتهم ، فشل التعليم (حتى العالي منه) فى أن يوفر لهم مفاتيح الحياة العصريةومن هذه الدوائر تجتذب حركة الإسلاميين أفواجا ضخمة . إنه الرموز الحية ، وما أكثر عددها، لفشل المشاريع العصروية للدولة المستقلة.
خاتمة
"عندما يصبح نوع جديد من الظواهر هدفا للدراسة العلمية، فإن هذه الظواهر تتمثل بالفعل فى الخيال لا من خلال صورة محددة فحسب، بل من خلال تصورات تتشكل على نحو فج أيضا... وكم من مرة تكون (تلك التصورات) خطرة وذلك بالقدر الذى تكون به غير كافية ، وعلى ذلك فإننا لن نحقق النجاح بحال من خلال تطوير تلك التصورات، أى كان أسلوبنا فى تطويرها، فى اكتشاف قوانين الواقع".
(دور كايم)
قدمت حتى الآن خطاب وممارسةحركة الإسلاميين فى شكل خام بدرجة ما. وأقول"بدرجة ما"لأن عملية اختيار المصادر وترجمة وتنظيم المادة، لا غنى عنها فى دراسة أي شيء واقعي، وهى عملية منوط بها تقديم أوسع رؤية ممكنة للموضوع. ومن هنا انصب اهتمامي على تقديم شتى تشكيلات الحركة المتنوعة أحيانا، من أجل كشف تناقضاتها وليس من أجل حجب هذا العمل أو ذاك حيث أن هذا من شأنه أن يحد من مصداقية أى خطة موضوعة مسبقا.
وقد يجد القراء فى هذا بعض الاضطراب. إلا أنهم على العكس من ذلك يجب أن يشعروا بالرضا، إذ أنه لابد من الاصطدام بالعجز عن فهم الشرق عند تناول حركة الإسلاميين .
فالدهشة والذهول لهما قيمة تساعد على الاكتشاف، كعلاج للنزعة التلفيقية التى تختزل كل الأشياء غير المألوفة إلى مقولات شائعة، أو بمعنى آخر ، تنكر عدم ألفتها. والمرء يجب أن يسمح لنفسه بعدم الفهم إذا أدرك الثراء الكامل لحركة الإسلاميين .
وليس من قبيل النزوة أن نذكر هذه الاحتياطات الايستمولوجية الأولية، بسبب بضعة ظواهر معاصرة رصدت بسطحية شديدة وحكم عليها بشكل متسرع مثل هذه الحركة. ويبدو هذا واضحا حتى فى المصطلحات التى استخدمت لتعيينها ، فكلمة الإسلامية مثلا تنطق integrisme memusulman بالفرنسية و myslimfundantalism بالانجليزية وهذان المصطلحان النضالات الطبقية ذات طابع الديني .. لم يغير هذا شيئا فى طبيعة هذه النضالات ومن السهل تفسيره من خلال ظروف العصر..".
لكن المنظور الذى استخدمه إنجلز لأول مرة – وغمر منذ هذا الوقت قدرا لا يستهان به من الفكر النقدي"التقدمي"– استخدم بفعالية كبيرة لإظهار البعد الاجتماعي للظاهرة الدينية والذي حجب بدوره الدلالة الحقيقية للتعبير الديني نفسه، بل غيبه خلال الباب السحري للأيديولوجيا"فى حركات العصيان الشعبي فى الغرب المسيحي، كان المظهر الديني بمثابة شعار وقناع فقط للهجوم على نظام اقتصادي متفسخ، وفى النهاية يتم القضاء على هذا النظام، وينشأ نظام جديد، ويتحقق التقدم، العالم".
إن كل ما تبقى من الدين هنا هو"القناع" ، الذى على المحلل أن يغمض عينيه عنه بلا تردد خلال سعيه لاختزال التمرد الشعبي إلى مقولات المادية التاريخية.
على أن الإسلام أثبت، لسوء الحظ بالفعل صموده أمام هذا الديالكتيك الرائع"فنشوء العالم المحمدي"، كما قال إنجلز، عبارة عن"حركات ولدتها أسباب اقتصادية رغم أنها حملت مظهرا دينيا. ولكنها حتى عندما نجحت، تركت الظروف الاقتصادية على حالها وتمسها. فلم يتغير شيء، وأصبحت الصدامات تتم بشكل دورى".
وسواء كان العالم يتقدم إلى الأمام تجاه المستقبل المشرق أو على العكس من ذلك لا يتحرك من مكانه، فإن المدخل التحليلي يظل كما هو ، أى أن البعد الديني للظاهرة قناع ذو أهمية ضئيلة، والتأثيرات المفترضة للحركة هى التى تؤخذ فقط بعين الاعتبار.
وينظر لهذه التأثيرات إذن وفقا لشروط معيارية. ويرجع هذا بدرجة كبيرة لظروف الحركة العمالية فى القرن التاسع عشر ، حيث كانت اليوتوبيات الدينية تبدو وكأنها شتلات تنمو بكثرة حول البنية الصغيرة للشيوعية، وقد عزم ماركس وإنجلز على اجتثاثها من جذورها. وكمثال على ذلك، انظر again spiky ، الذى"سعى ... تحت راية الشيوعية، لأن يكون زبون لكل مخلفات المسيحية ..".
وبعد قرن من الزمان يتحدى"العالم المحمدي"التعامل مع الظاهرة الدينية على أنها ظاهرة أيديولوجية صرفة . فالشك الذى أقره إنجلز أصبح يمثل عقبة محورية، ليس فقط أمام الماركسيين المهتمين بالشرق (الذين عانوا الكثير من الاحباطات) لكن أيضا أمام هؤلاء الذين اهتموا بالتشابك بين ما هو ديني وما هو سياسي.
فالمسالة يجب أن تطرح من جديد، بقلب الفرضيات ، لأن الأيديولوجي فى هذا المجال تكاد تكون مرادفة للجهل، فالتعبير الديني عن الظاهرة الاجتماعية ليس هو قناعها، بل هو كشف النقاب عنها.
الديني والسياسي،
تساءل ميجوبل أبينسور"هل لا توجد هناك مراحل لليوتوبيات التى أقلق بروز المسألة الدينية فيها تشكيلة متنوعة من اتجاهات الفكر الاجتماعي التى يبدو أنها مهيئة تماما لمراجعة نفسها؟ هل زودنا الفهم النمطي للحركة الروحية بمفتاح يفسر نشأتها؟
وعند نقطة التقاطع بين الديني واليوتوبيوى ، ماذا سيحدث للدعوة النبوية prophetic call ، وللحاجة إلى العدل، وللطموح الأخلاقي ، وللأهداف الأخروية eschatological objectives ؟ إن البحث عن إجابات حركة الإسلاميين على هذه الأسئلة سيتيح لنا أن نفهم كيف ولماذا أدى رفضها لقبول الحاصر إلى تطوير منظور اخروى اعتمد على نموذج .
وقد استدعت كل تشكيلات الحركة التى تعرضها لها بالبحث هذا النموذج لماضي، لكن كل منها دعى إلى إعادة إحياء هذا العهد المنسي كل على طريقته الخاص ، الـ"جيل القرآني الفريد"الذى حث"معالم في الطريق"قراءه على السير فى خطاه ، الرسول والصحابة وخبرة تعاقب مرحلتي الاستضعاف والتمكن والتي أراد شكري مصطفى أن تعاود"جماعة المسلمين"تمثلها ، و"حياة المسلم النقي"كما كانت تحياها الجماعات الإسلامية فى المعسكرات الصيفية.
ولكي نفهم الكيفية التى صيغ بها هذا النموذج، فلنبدأ بملاحظة الطريقة التى نظرت بها التيارات المختلفة فى حركة الإسلاميين إلى المجتمع المصري المعاصر.
حيث رسم كل منها صورته الخاصة، مركزا على هذا التناقض أو ذلك الفارق الدقيق فشكري وفرج حاربا نفس المجتمع ونفس الدولة، لكن بينما حكم الأول على المجتمع ككل بأنه مجتمع جاهلي وانسحب منه، ركز الأخير على تحدى الدولة وأنكر أن يكون لـ"السياسي"أى مكانة مستقلة فى ا لمجتمع المسلم الصحيح.
وبعد أن رسخ الإسلاميون أو رؤية للعلاقة بين المجتمع المصري المعاصر والدولة، حولوا هذه الرؤية إلى النموذج الأصلي، وأخذوا يتأملونه فى ضوء الماضي.
وكانت تلك هى الخطوة التالية المثيرة للجدل، والتي جعلت من حركة الإسلاميين ظاهرة فريدة بين حركات المطالب الاجتماعية الأخرى، التى عبرت عن اليوتوبيات، أو عن النظريات الثورية.
فرؤيتها للماضي، وللتاريخ، استقطبت حول"العصر الذهبي"، وهى الفترة من الهجرة عام 622 ميلادية حتى مرحلة استيلاء الخليفة الأموي معاوية على السلطة بالقوة عام 660 .
أما الأربعة عشر قرنا التى تلت الفترة فقد اعتبروها أقل أهمية من الفترة السابقة ، ورفضوها فى بعض الأحيان وقد شهدت هذه السنوات الثمانية والثلاثون تحقق المجتمع المسلم المثالي والتوسع الاقليمى للإسلام، تحت قيادة الرسول و (الخلفاء الأربعة الراشدين) الذين خلفوه.
وهذا النوع من المرجعية reference فى ذاته ليس غريبا ، فأثينا بيريكليس كانت نموذج الديمقراطيات الغربية لألفى عام. إلا أن هذا لم يدفعها لنقل كل ملامح المجتمع الأثيني إلى مجتمعاتها، وفى المقام الأول المؤسسة الاجتماعية للعبيد. والسؤال الهام، إذن ، هو لماذا تم اختيار هذا النموذج.
فأن تختار مكة هو أن تروض أثينا، أى أتن ترفض النموذج الغربي. وعلاوة على ذلك ، فإن طابع كل من النموذجين المرجعيين يختلف عن الآخر. فالمدينة القديمة كانت مقفلة ، سواء على المستوى الاقليمى أو على المستوى الترنسندنتالى، واستلهام الديمقراطية المعاصرة لها طرح جانبا بعدها الديني، متبعا أرسطو فى هذا المجال.
إذ أن أرسطو فى تصوريه لمبادئ القانون الأثيني archat - -العناصر الستة الضرورية لقانون أى مدينة – وضع خدمة الآلهة فى المرتبة الخامسة، أى أن المؤسسة الدينية لا تلعب دورا حاسما فى وظائف المدنية الدولة. أما العصر الذهبي للإسلام فقد كان، من ناحية أخرى ، منفتحا على الخارج.
فمن حيث المكان، انتشر دون هوادة، من الحجاز فى العربية السعودية إلى العراق إلى فارس غلى مصر ، الخ. ومن حيث الترنسندنتالية ، فقد تم بناء هذا العالم باسم الله ، أو كما قال guyau "إن التآلف الاجتماعي، بوصفه أحد ملامح الطبيعة الإنسانية ، يمتد هنا حتى وراء النجوم"وهذا الاختلاف الأنطولوجى بين النموذجين يتوازى مع الاختلاف بين الذين استخدموا هذين النموذجين ، فالطبقة السياسية التى تحكم المجتمعات الغربية تشجع أسطورة أثينا الإبداعية لأنها تمد النظام بالشرعية.
أما فى المجتمعات المسلمة المعاصرة، فإن الطبقات التى تعارض النظام القائم هى التى تلجأ إلى العصر الذهبي للإسلام، لكي تنزع الشرعية من النظام الموجود. وبقدر ما اتفقت الاتجاهات الراديكالية فى حركة الإسلاميين ، فقد توقف الزمن عند سنة 660 م عندما استولى معاوية عل الخلافة وأدخل نظام الوراثة.
إنهم لا يعترفون بالتاريخ اللاحق،والذي استمر مع هذا حتى الوقت الحاضر. وقد قال شكري مصطفى مثل هذا عندما قال للمدعى العسكري إنه منذ إغلاق أبواب الاجتهاد، أصبح تاريخ الإسلام مجرد قصة لتواطؤ العلماء مع الحكام واعتبر هذا التاريخ، وبنفس القدر الدول المعاصرة التى تدخل ضمنه، تاريخا غريبا. وولاءه، مثله فرج، لن يكون لهذه الأمم بحدودها الحالية. إنهم ليسوا بمصري ين ، لكنهم أولا وقبل أى شيء مسلمون.
إن ما يميز حركة الإسلاميين المتطرفة عن بقية المسلمين فيما يتعلق بما يعنيه الرجوع إلى العصر الذهبي هو أن الحركة تمحو التاريخ من أجل إعادة إحياء الأسطورة الأساسية ، بينما بقية المسلمين يكيفون أنفسهم مع تاريخ المجتمعات المسلمة.
وقد يعتبرون هذا التاريخ تزويرا للنموذج الأصلي، لكنهم لم يعتبروا أن الأربعة عشر قرنا التى انقضت منذ هذا اليوم (بما فى هذا الحياة المعاصرة) غريبة عن الإسلام. وبالنسبة لمعظم المسلمين، لا تستتبع الإشارة إلى عصر الرسول والخلفاء الراشدين بالضرورة تقدير النظام القائم بشكل سلبي.
وفى التراث الثقافي لأوربا الغربية، كان تصور أثينا بيركليس على أنها نموذج سياسي ينحصر فقط فى فترة زمنية متأخرة جدا، ولإقرار استقلال الدنيوي عن الروحي. وقد كان هذا الانفصال ممكنا بسبب منشأه الأصلي، إذ أن الفكر الغربي نهل من منبعين، العقيدة المسيحية من جهة والقانون الروماني العلماني من جهة أخرى .
وهذان المصدران تمفصلا articulated معا عبر قرون المسيحية كلها، لقد كان هناك علاقة تربطهما، لكن لم يكن هناك تطابق بينهما أبدا.
والإسلام، على النقيض من ذلك ، ميزه"التوحيد"، أو الوحدة الجوهرية، فالتمييز بين الدين والدولة، بين الروحي والدنيوي، لا يعنى أى شىء بالنسبة لعقيدة المسلم، حيث أن القرآن ، الذى أنزل على الرسول محمد، هو المصدر الوحيد، الذى اشتمل على الأحكام التى تنظم العلاقات بين الإنسان والله وعلى المبادئ التى تحكم الحياة الاجتماعية.
ولم يتمفصل أى قانون دنيوي مع الإسلام على الإطلاق مثلما تمفصل القانون الروماني مع العقيدة المسيحية ، والمحاولة لتطعيم الإسلام بالفلسفة اليونانية خلال عصر الخلفاء العباسيين (الذين أمروا بترجمتها) حكم عليها بالموت.
وإذا تحقق التوحيد، فعلى قائد المؤمنين ، الخليفة أن يولى عنايته تطبيق الأوامر القرآنية . وبشكل خاص وضع الوظيفة الصارمة للعدالة موضع التنفيذ وصيانة الأخلاق المسلمة. وهو بالتالي سيلعب دورا اجتماعيا أساسيا، ووفقا للمجاهدين الإسلاميين ، فإن النبي محمد والخلفاء الأربعة الراشدين هم فقط الذين قاموا بإنجاز هذه المهمة على الوجه الأكمل.
ومع هذا ، فقد استمرت المجتمعات الإسلامية حتى الآن، هذا رغم انتقال السيطرة على السلطة من"الخلفاء الأربعة الراشدين"إلى الخلافة التى نجمت عن الحكم الوراثي أو الخلافة الوراثية، إلا لسلطان إلى الأمير غلى المملوك إلى الملك ، إلى الرئيس.
والذي يرفضه المجاهدون الإسلاميون فى كل هؤلاء الحكام، الذين أسموهم"الظالمين"، هو أن دعواهم بخدمة الإسلام هى مجرد محاولة لإضفاء الشرعية على أنظمتهم، ولإخفاء حقيقة ذلك النظام يخدم نزواتهم الشخصية فحكم العصر، كما كتب فرج"فى رده عن الإسلام ، لأنهم تربوا على موائد الاستعمار... ، فهم لا يحملون من الإسلام إلا الأسماء".
ولم يكن فرج أول مسلم يتهم الحاكم بالخروج على تعاليم الإسلام. فقبل ظهور حركة الإسلاميين بكثير، أثيرت الشكوك حول مسألة ارتقاء معاوية للسلطة من خلال القوة- وهو الأمر الذى استمر، مع استثناءات نادرة حتى اليوم.
وقد طرح هذا الشكل من أشكال الاستيلاء على السلطة نوعين من المشاكل- استمرت فى واقع الأمر حتى الآن. فالحاكم الذى يستخدم القوة يشعر بحاجة ملحة للشرعية القائمة بالفعل والتي ستمنح نظام الاستقرار حيث أن استخدام القوة لن يحقق وحده هذا الاستقرار.
والعلماء وحدهم هم الذين يستطيعون أن يمنحوه هذه الشرعية، حيث أنهم يحتكرون تفسير كتاب الله ، وهم وحدهم المؤهلون للفتوى بأن الحاكم ، مهما كان شكل ارتقائه السلطة، يحكم بما أنزل الله .
وإذا كانت"الحكومة الراشدة"المثالية هى التى كانت فى العصر الذهبي، فإنه فى ظل"حكومة راشدة"حقيقية يمكن الحد من نزوات الحاكم من خلال النصيحة الواعية للعلماء، والفقهاء ،وهم الوسطاء الحقيقيون بين العامة وبين حكامهم- ومن هنا فقد كتب المفكر الإسلامى الكبير الذى عاش فى العصر الوسيط الغزالي (1058 – 1111)"إن العالم هو معلم وموجه لضمير السلطة السياسية فى إقامة العدل وفرض النظام بين الناس وهكذا يسود النظام والعدل فى هذا العالم". فالعلماء يحتلون إذن ما أسماه بوردوى bourdieu الوضعين المتناقضين"للمهمة الدينية ، أى"تبرير وجود الطبقات الحاكمة فى السلطة"و"فرض الاعتراف بشرعية السيطرة على المحكومين".
وفى مقابل لعبها لهذا لدور، تحصل الهيئة المستقلة"لسياسة وسائل الخلاص"على مميزات لا يستهان بها فى الحياة الاجتماعية. ومع هذا ، فقد كان عليهم أن يحققوا التوازن بين الحاكم والمحكوم ، فلو منحوا الحاكم الشرعية بلا حدود دون أن يكبحوا نزواته، سيفقدوا مصداقيتهم فى عيون الجماهير، الذين سيستغنون بالتالي عن خدماتهم ويتحولون إلى الأشكال المستقلة المتشيعة فى السلوك الديني.
والحاكم بالتالي سيتهم رجال الدين بعدم الفعالية، ويتعرضون لغضبه. وهذا ما حدث خلال محاكمة شكري مصطفى وعندما زعم المدعى العسكري أن عجز رجال الدين هو المسئول عن وجود جماعة المسلمين. ومع ذلك، فإن الدولة تحصد ثمار سياستها فى تدجين العلماء، والمثال على ذلك إصلاح الأزهر خلال عهد عبد الناصر.
ويتساءل الشيخ كشك متهكما عما إذا كان شيخ الأزهر المقبل سيكون من لواءات الجيش. لكن ورغم أن الداعية ومن أسماهم"المفكرين المراهقين"(شكري وفرج فى هذه الحالة) قد اتفقوا على تحدى دور العلماء فى مصر المعاصرة، فقد اختلفوا حول حل هذه المسألة بشكل حاد.
فبالنسبة لكشك، يجب إصلاح العلماء حتى يكون باستطاعتهم أن يلعبوا دورهم الكلاسيكي فى توجيه النصح للحاكم، كما أكد على ذلك الغزالي. وهذا ما كان يقصده من اقتراحاته بأن يكون التعليم الأزهري معتمدا بشكل كامل على كتاب الله ، وأن يكون شيخ الأزهر منتخبا ولا يتم تعيينه من قبل الحاكم بعد الآن، ومن ثم يحثل على راتبه من أملاك المسلمين، الأوقاف، وليس من ميزانية الدولة.
أما بالنسبة لشكري، من ناحية أخرى ، فلم يكن العلماء سوى خدم للحاكم الظالم"ببغاوات المنابر"ولا مكان لهم بين صفوف جماعة المسلمين.
وفى نهاية الأمر، فمن وجهة نظر فرج أن العلماء قد فشلوا فى مهمتهم بحجبهم فريضة الجهاد ضد الحاكم، وفشلوا فى إعلان خروجه على الإسلام، كما فعل ابن تيمية بفتواه عن ملك ماردين الذى توجه التتار.
إذن فقد اختلف الثلاثة فى طريقتهم لفهم الموضوع، لكن جوهر طريقة كل منهم ظل الطموح لتحقيق العدالة بالشكل الذى رآه كل منهم، العدالة التى لم يطبقها الحكم لكن يكلفها كتابا لله .
وقد يبدو الأمر غريبا بالنسبة للبعض أن يتطلب فهم حركة الإسلاميين المعاصرة رؤية مغرقة فى ماضي المجتمعات الإسلامية . إذن لماذا اصطبغ الطموح إلى العدالة فى مصر بالصبغة الدينية ، وهى البلد التى استلهمت نظامها القانوني من التشريع الفرنسي؟
هل حركة الإسلاميين محتومة؟
بينما تضرب جذور حركة الإسلاميين بعمق فى تاريخ المجتمعات الإسلامية ، فإن فصائل الحركة التى تعرضنا لها بالبحث ظهرت للوجود فى العقد السابع من القرن العشرين.
وقد يبدو تحليلا غريبا ذلك الذى اتبعه الناطقون باسم الإسلام الرسمي فى اختزال الحركة إلى انحراف من ذلك النوع الذى مثله الخوارج. وعبر هذا الكتاب، حاولت أن أضع الحركة فى سياقها الصحيح، أي المجتمع المصري فى السبعينات، ومن ثم فإن هذا السياق يشير غلى هدف الدراسة وهدف الدراسة يلقى الضوء على هذا السياق فى عملية أخذ وعطاء ثابتين.
وفى متابعتي لتطور الجماعات الإسلامية فى الجامعات، لاحظت أنه قد دانت لهم السيطرة على الجامعات بعد إخماد صوت المعارضة المنافسة أى الماركسية واليسار الناصري ، وهى التى كانت سائدة فى بداية عهد السادات .
وعند مناقشة النص الذى كتبه الطبيب الشاب عصام الدين العريان، أحد منظري الطلبة الإسلاميين ، لفت نظري علاقة تثير الدهشة بين رؤيته للتاريخ وبين التطور الديالكتيكى الدارج فى الماركسية .
وهذا التشابه يقابله ظاهرة أخرى ملفتة للنظر، وهى الظاهرة التى لاحظها الأنثربولوجيون الفرنسيون وعلماء السياسة الذين عملوا فى شمال أفريقيا، فقد كان عدد من الدعاة الإسلاميين ، فى تونس والمغرب ، الذين اتبعوا أو قلدوا كشك، ماركسيين لينيين سابقين تلقوا العالم فى الجامعات الفرنسية.
وكما أشرت من قبل، فإنه لا يجب تفسير وجود ههذ الحقائق المتشابهة أو تلك بشكل آلى على أنه دليل على"مناورة شيوعية"لحركة الإسلاميين ، التى نظر إليها البعض على أنها دمية تحركها الأجهزة السرية السوفييتية .
وليس من الصعب مطلقا أن يتسلل بعض المجاهدين الذين ينتمون إلى مدارس فكرية متباينة إلى الحركة هنا وهناك، سواء للتجسس عليها من الداخل أو لأسباب أخرى. ومع هذا فإن مدى هذه الظاهرة لا يبدو أنه ذو شأن يذكر، وعلى أى حل فإنها لم تلغ أو تغير من الطابع الخاص لحركة الإسلاميين .
بل على العكس، فمن وجهة نظري، يبدو أن هذه الحركة قد نجحت ، فى لحظة تاريخية هامة، فى إظهار قدرة واضحة على اجتذاب قسم بأكمله من الطبقات المسحوقة فالمجتمع، وفى جعل خطابها البوتقة التى صهرت فى داخلها كل مطالب المعارضة.
وفى مصر، كما فى أى مكان، ينتعش هذا النوع من المعارضة فى ظل فوضى من أشكال التعبير التى تتراوح بين ما أسماه michel de certoau "وسائل تجنب الإخفاق"وبين تطوير أشكال مفصلة من الطوائف المغلقة مثل"إخوان الصفا".
وهم يمثلون ما أسماه د . سيد عويس ، أكثر علماء الاجتماع المصريين دقة ،"الأشكال الشعبية لمقاومة الظلم والعنف"، ويشكلون بنية الحياة السياسية اليومية في مصر المعاصرة ، التي تسيطر عليها مؤسسات الحياة السياسية القانونية ـ سواء مدنية ، أو دينية ، أو عسكرية ـ بدرجة ليست كبيرة .
وقد كتب miche de certeau يقول"رغم أن شبكة"المراقبة"تتغلغل في كل ركن من أركان الحياة ، إلا أنه يتساوى مع هذه الحقيقة في الأهمية أن نكتشف عدم سيطرتها على المجتمع ككل . فأي نوع من الموضوعات الشعبية (وهي في ذاتها شديدة البساطة والعادية) تلك التي تتعامل ميكانزيمات الانضباط وتنساق لها فقط إلى الحد الذي تتمكن به من تشويهها ؟ وما هي"وسائل تجنب الإخفاق"التي تعمل كمتمم ، بين المستهلكين (أو"المحكومين") ، لهذه الموضوعات الصامتة والتي تتم من خلالها عملية الحفاظ على النظام الاجتماعي السياسي ؟
وقد حاول الدكتور سيد عويس ، الذي تناول المشكلة من منطق مختلف تماما عن de certeau ، تطوير تنميط مؤقت لهذه الموضوعات الشعبية ، حيث عدد عشرة"متنفسات"أو طرق يلجأ أفراد المجتمع المصري إليها لمواجهة سوء الحظ ومختلف أنواع الظلم . وهذه"المتنفسات"تتراوح بين"اللامبالاة"و"النفاق"، و"التهكم"، و بين"الهجرة"و"التمرد"و"الثورة".
وهذه المتنفسات"البالغة البساطة ، من ذلك النوع الذي تمثله المتنفسات الثلاثة الأولى ، يألفها كل من يعيش أو عاش في مصر : فالشرائح التي تعاني الإذلال والمهانة تلجأ إليها يوما بعد يوم في علاقتها بصاحب السلطة .
ولا يوجد قطر عربي فيه مثل هذه اللغة والمواقف التي تحمل رموز في غاية القسوة والسخرية : فأصغر موظف يقال له"بيه"أو"باشا"، وفي كل مرة يطلب الأعلى مقاما شيئا يجيب عليه الناس بأدب جم مغمغمين بكلمة"حاضر"، وبعد تأدية هذه الإيماءة الميكانيكية ، وبعد تمثيل دور الجندي المنضبط ، يتنافس الجميع في السخرية من نفي هؤلاء الموظفون ، ويسمونهم"عبيد الروتين".
حتى أصبح كل الفراعنة ، عظاما أو صغارا ، وهم الذين اشتركوا في احتقار واستغلال الشعب المصري لخمسة آلاف سنة ، هدفا منتظما لسخرية المصريين ويحافظ هذا النوع من التحرر الشعبي على شكل من أشكال التوازن الاجتماعي : فرغم أن المستغل يزداد غنى ، إلا أنه لا يتمتع بأي هيبة ، بل يتمتع فقط بالسخرية والألقاب التي تثير الضحك .
وفي نفس الوقت ، فإن أي شيء تفعله الطبقات المستغلة ، تقوم به على أسوأ ما يكون . فالبواب الذي ينام على حصيرة في مدخل البناية يخدش في هدوء سيارات السكان ، وهو يقوم بوظيفته في تنظيفها . والمدرس الذي يحصل على راتب ضئيل يأتي إلى الفصل متأخرا لا يدرس للطلاب شيئا .
والطلاب الذين ينجحون هم فقط الذين يدفعون له مقابل الدروس الخصوصية ، والدخل الذي يحصل عليه من الدروس الخصوصية هو الذي يمكنه من العيش . ويتخلص هذا الديالكتيك بأكمله في كلمتين مشهورتين في لغة القاهرة العامية : وهما"معلهش"و"بقشيش".
معلهش ، السيارة خدشت ، معلهش ، الطفل جاهل ، معلهش ، الماكينة تعطلت ، معلهش ، هناك ثلاثة أيام ـ أو ثلاثة أشهر ـ تأخير معلهش مسيو ، قالها موظف في القنصلية المصرية في إيطاليا ل ungaretti بعد نسيان تحرير تأشيره مما جعله لا يستطيع اللحاق بالسفينة إلى الإسكندرية .
والغمغمة بمعلهش تمثل لامبالاة تتناسب مع الفجوة بين السعر والتكلفة ، بين الجهد والأجر : فأجور الكفاف تثمر جهود معلهش . والتعويض عن هذه الفجوة يسمى"البقشيش"أو"الفساد".
ورغم أن شكل"معلهش"للمقاومة الفردية يمنح من يستخدمه قدرا ضئيلا لكن لا يمكن إنكاره من الحرية ، فإن إلغاء تأثيراته من خلال البقشيش . له عواقب وخيمة على النظام الاجتماعي ـ السياسي ، حيث يدعم الفرد الذي يمتلك النقود ، والذي ينظم توزيع البقشيش من أجل إلحاق الأذى بالجماهير المعدمة .
وبينما يسخر ديالكتيك معلهش وبقشيش من النظام الاجتماعي ويعبر عن استخفافه به ، يعمل على الحفاظ على النظام في التحليل النهائي .
وهذا ما دفع الجماهير التي ظلت أحوالها المعيشية غير المحتملة ، رغم هذه المتنفسات"البسيطة"التي تعبر من خلالها عن سخطها ، للتحول إلى متنفسات أخرى ، إلى الأنماط الأكثر تطورا من أنماط مقاومة سوء الحظ والظلم ، إلى هذه الأنماط التي حددها سيد عويس في نهاية قائمته : أي إلى والتمرد .
وهذه المتنفسات التقليدية قد لا تمثل سوى تكتيكات مؤقتة وجزئية لا تقود إلى إستراتيجية لإسقاط الدولة والاستيلاء على السلطة . والأمثلة على ذلك عديدة ، منها الهجرة إلى الخليج ، والعودة بعد ذلك بعدة سنوات .
ومنها جريمة الثأر المنتشرة في المناطق الريفية . لكن هذا النمط استخدمه المجاهدون الإسلاميون ذات مرة ـ جماعة المسلمين ، والجماعات الإسلامية ، وفرع الصعيد في جماعة الجهاد ـ للتحول إلى إستراتيجية مضادة سعت لإسقاط النظام . وهذه الإستراتيجية المضادة قد تكتسب درجة من درجات السفسطة . مثل نظرية شكري مصطفى عن مرحلة الاستضعاف ومرحلة التمكن .
وقد أدركت الدولة تماما الخطورة التي تمثلها أشكال المقاومة التقليدية هذه ، حيث أنها تشكل عقبة ليس فقط أمام النظام القائم بل أيضا أمام أي محاولات"يعقوبية"لتغيير النظام الاجتماعي من أعلى .
فهذا سعد زغلول ، ومؤسس حزب الوفد الوطني الكبير ورئيس وزراء عدد من الحكومات المصرية ، يكتب في مذكراته :"لقد اعتاد الشعب أن ينظر إلى الحكومة كما ينظر الطائر إلى الصياد ... ويجب علينا أن نغير هذا الموقف بأن يثق الشعب في الحكومة ويجب علينا أن نقنع الشعب بأن الحكومة جزء من الأمة ."
وعلى نفس المنوال يقول لطفي السيد . المفكر المصري الجليل في مصر ما بين الحزبين :"لن يندهش أحد منا لأن يجد القرويين يبذلون قصارى جهدهم لحماية أحدهم إذا اتهم بارتكاب جريمة ما ولمنع القضية من الوصول إلى المحكمة . فالحكومة وموظفوها لا يعملون لمصلحة الأمة . والجماهير بالتالي تعرقل قرارات الحكومة. حتى عندما تكون هذه القرارات عادلة تماما".
وعندما استولى الضباط الأحرار على السلطة في يوليو 1952 ، عزموا على تغيير التاريخ من خلال الثورة من أعلى . ورغم إدعائهم الصريح بالعمل من أجل مصلحة الطبقات المظلومة في مصر ، ورغم إلغائهم للأحزاب السياسية ، التي اعتبروها رمزا للحياة السياسية ومؤسساتها في ظل النظام القديم ، إلا أنهم أعادوا تشكيل مؤسسات جديدة اعتبرها الشعب متساوية في الظلم مع سابقتها ، إن لم تكن أكثر منها .
حيث تحولت حماسة الناصرية الكبيرة للاشتراكية العربية ، بمواجهتها لحقائق الإدارة اليومية ، إلى بيروقراطية أنتجت الروتينية وعدم الكفاءة في كل المجالات وقامت ببناء المعتقلات للذين أظهروا معارضتهم لها . وفي هذا المجال لم تختلف الدولة المصرية المستقلة على الإطلاق عن سابقاتها .
ومع ذلك ، فخلال العقود الثلاثة التي انقضت منذ انقلاب 1952 وحتى اغتيال السادات في أكتوبر 1981 ، طبقت الدولة سياسة تعليمية جديدة ، مكنت فئة ثقافية ـ اجتماعية عريضة من الوصول إلى الكلمة المكتوبة . وقد أطلق موريس مارتين ، وهو مراقب مرهف قضى نصف قرن في تجواله في مصر ، على هذه الفئة"الفلاحية".
وهي تشمل هؤلاء ـ والانفجار السكاني يعني أن هناك أعداد متزايدة منهم ـ الذين جاءوا من طبقات اجتماعية كانت تقليديا أمية ، بما في هذا الجيل الشباب الذي ينتمي للحاضر . حيث أقحموا في نظام تعليمي وصفنا مراحله العليا في الفصل الخامس . وقد لقنهم هذا التعليم أسلوب الحياة العصرية مجرد خداع .
وفي صفوفهم ، أخذت مقاومة الظلم وسوء الحظ شكل الهجرة والتمرد . وقد أمدت هذه الفئة حركة الإسلاميين بجمهورها الرئيسي ، وهذه الحركة كانت قادرة على أن تتبنى مباشرة تصوراتهم عن العدالة ، والتي قمعتها بعنف ذكريات إسلام الأمس ، ومن خلال حنينهم إلى القرية الأم التي ـ بالنظر إلى الأحياء المزدحمة في أطراف المدن الكبيرة ـ أصبحت تقريبا أسطورة مثلها مثل العصر الذهبي للإسلام .كما كان المجاهدون الملتحون في جلاليبهم الفضفاضة قادرين على التحدث بلغة اليوتويبا التي تبدو مقنعة لهؤلاء الشباب .
هذا الجيل الجديد الذي شعر بتعرضه للخداع . فالشباب كان حقل تجارب للتجارب الخرقاء للدولة المستقلة ، وهناك مبرر كافي للاقتناع بأنهم ، حالما يعاد تشكيلهم من خلال أيديولوجية الإسلاميين ، لن يقتنعوا بعد الآن ، كما قنع الأكبر منهم سنا ، بديالكتيك معلهش وبقشيش .
مظاهر اليوتوبيا
منذ اليوم الغامض في نهاية الخمسينات ، بينما كان نزيلا في مستشفى معتقل طرة ، الذي كتب فيه سيد قطب تلك الفقرة"معالم في الطريق"التي قرر فيها أن الدولة الإسلامية سيتم تأسيسها من خلال"الحركة"وليس من خلال"الدعوة"حتى أكتوبر 1981 ، عندما اغتيل السادات على يد أحد قراء"الفريضة الغائبة"، انحصرت رؤية الإسلاميين الراديكالية فى أن العنف الثوري هو السبيل الوحيد لإسقاط الجاهلية، البربرية التى تخلت عن أخلاقيات الإسلام.
ومع هذا ، وعلى عكس هذه الرؤية تم صياغة عدد من النظريات المختلفة. نظرية قطب عن الحركة، التى تصور فى الأصل أنها ستعالج أخطاء إستراتيجية الإخوان المسلمين، كان المقصود بها صيانة مفهوم الجهاد، النضال المقدس، داخل حركة الإسلاميين من خلال تعريفه على أنه نضال فعلى ضد الدولة المستقلة التى أسسها عبد الناصر.
والدولة ، رغم هذا أحبطت بشكل فعال كل المحاولات المختلفة التى سعى فيها المجاهدون الإسلاميون لمواجهة النظام مباشرة .
وباستثناء أكتوبر 1981 ، كانت المؤسسات القمعية قادرة دائما على ضرب الحركة عندما تكتسب درجة من التنظيم تكفى لتقديم دليل مادي على"مؤامرة"ولكن قبل أن تجهز نفسها للمواجهة، ولهذا السبب فإنه لم يتم وضع تعريف للأشكال الدقيقة لتكتيك الاستيلاء على السلطة.
فهناك أمثلة كثيرة على هذا التكتيك، من بينها"مؤامرة 1965 "التى مكنت عبد الناصر من شنق سيد قطب ، وقضية الفنية العسكرية عام 1974 ، والمواجه مع جماعة المسلمين عام 1977 (عام رحلة السادات للقدس) ، وأحداث الفتنة الطائفية فى الزاوية الحمراء فى يونيو 1981 .
ومن هذه الناحية، يمكن الزعم بأن حدود"معالم فى ال طريق"كبرنامج عام (ماينفستو) قد اتسعت بشكل واضح. حيث أن سحق جماعة شكري مصطفى (جماعة المسلمين) كان بمثابة علامة بارزة على فشل الإستراتيجية التى قامت على الاقتضاء بالنموذج النبوي، وتصورها للتعاقب المتوقع لمرحلتي الاستضعاف والتمكن، بنفس الصورة التى اتبعها الرسول، الذى كان ضعيفا فى مكة قبل الهجرة واكتسب القوة بعد انسحابه إلى المدينة.
لقد حط سيد قطب بشدة من شأن قدرة الدولة على الرد ومن شأن تماسك الأيديولوجية التى قدمتها هذه الدولة، على مختلف"العقبات التى تعترض طريق الشباب"والتي حددها الطبيب الشاب عصام الدين العريان، قائد الجماعات الإسلامية ، عندما قام بمسح لمهام حركة الطلبة الإسلاميين فى فجر القرن الخامس عشر للهجرة.
وفى واقع الأمر، فإنه رغم اقتناع الجماهير"الفلاحين"بنظريات الحركة الشعبوية، فقد عجزت الحركة عن فصل الطبقات الاجتماعية الأخرى عن النظام. كما أن استيعاب قطب ومقلديه تم بشكل متشابه تماما من خلال لغتهم البلاغية الخاصة، ورغم أن نموذج المعتقل يمنح طريقة فهم مليئة بالكنايات للدولة الناصرية التى تحدثت بصوت أعلى من أى عدد من التحليلات النظرية المغرقة فى التدقيق، إلا أن الصورة لم تكن كافية مع ذلك لكي تمنح المجاهدين المستعدين للقتال أى فهم حقيقي للميكانزمات التى تحافظ الدولة من خلالها على سيطرتها على المجتمع.
بينما حط شكري مصطفى والجماعات الإسلامية من البراعة التى جمعهم بها البوليس السري فقط ليطيح بهم دفعة واحدة وبسهولة شديدة. وتصورت الجماعات فى يونيو 1981 أن التضامن الإسلامى سيتحول لصالحهم ضد كل من الأقباط والدولة، التى فشلت فى إدراك أن الجماهير المصرية لم تشعر بالولاء للأمة فى شكلها الأسطوري الذى أحيته حركة الإسلاميين ، وأن هذه الجماهير لم تقطع صلتها بشكل جذري بقيم الأمة المصرية ككل، هذه القيم التى كان الإسلام أهم عناصرها، إلا أنه لم يكن العنصر الوحيد.
إن الصعوبات التى وقفت عقبة أمام انتصار عنف الإسلاميين على جهاز الدولة والحاجة إلى إعطاء المجاهدين شيئا ليفعلوه يفسران تركز عدوانية الطلبة الإسلاميين وأعضاء جماعة الجهاد على أهداف غير الدولة.
وقد ذكرت قبل ذلك تأثير ذلك على الجامعات، حيث رسخ الطلبة الملتحون المعنى الذى فهموه للنظام الأخلاقي، الأسياخ الحديدية فى الأيدى، ومهاجمة كل شاب وفتاة يتمشيان سويا، حظر العروض السينمائية والحفلات الموسيقية، وتنظيم المحارق لكتب الداروينية والماركسية والكتب الشيطانية الأخرى.
لكن اللحظة المشهودة جاءت خلال مشاركة حركة الإسلاميين فى أحداث الفتنة الطائفية. حيث جذب العنف المعادى للمسيحيين انتباه المراقبين الأجانب وأدى إلى التعتيم على الأبعاد الأخرى للحركة، أى أن الغابة حجبتها الأشجار.
وهذه الأحداث، سواء شارك الإسلاميين فيها أو حرضوا عليها، قد تم تحليلها بشكل عام وفقا لوجهتي نظر. الأولى تتلخص ببساطة فى أن المسلمين لونهم تعصب لا يرتوي إلا بدم المسيحيين ، وأن المجاهدين الإسلاميين لم يفعلوا شيئا سوى الوصول بهذا الموقف إلى أقصى مداه.
ووجهة النظر الثانية كانت مقارنة بأحداث للأقباط خلال هذه الأحداث الطائفية بما أصاب الأقليات الأخرى خلال فترات التوتر الاقتصادي والاجتماعي ، اليهود فى ا,ربا، السوريون واللبنانيون فى غرب أفريقيا، والهنود فى شرق أفريقيا، والأرمن فى تركيا ، والبهائيين فى إيران ، حيث كانت كل طائفة منهم بمثابة كبش فداء للجماهير المحيطة، وكانوا هدفا للحكومات التى كانت تبحث عن الشرعية.
ومع هذا ، فإن أى من الرؤيتين لا تسمحان لنا بفهم خصوصية الظاهرة. ففي نهاية وصفى لأحداث المنيا التى وقعت فى ربيع 1980 ، استرعى انتباهي أن التوتر الطائفي لم يشتمل على طرفين، أى المسلمين والمسيحيين ، بل اشتمل على ثلاثة أطراف، حيث أن الدولة كانت طرفا فى الأحداث أيضا، ولن تصيبنا الدهشة إذا وجدنا هذه الأطراف الثلاثة بارزة بشكل واضح فى تعليق الشيخ كشك على الأحداث فى خطبته يوم 6 يونيو 1981 : "لقد كان هناك شغب فى عتمة الليل. وقد كان شيئا مأساويا أن نرى المسيحيين يفتحون النار ، متخذين قلوب المسلمين أهداف لهم. فمنذ متى وللمسيحيين هذه الجرأة "...
.. فمنذ أن دخل عمرو بن العاص مصر، عاش المسيحيين والمسلمون معا دون أن يكون لديهم أدنى سبب للشكوى... ولا يوجد مكان فى الأرض تتمتع فيه أى أقلية بمثل هذه الحقوق الممنوحة للمسيحيين فى مصر، فهم يشغلون أهم الوظائف ، وزراء وأعضاء فى مجالس إدارات البنوك ولواءات والبابا الذى يجلس على كرس الكنيسة بكل سلطاته...
أما بالنسبة لى ، فأنا أهمس له"أنبا شنودة ، أبعد عن عقلك تلك الرغبة فى إعادة السيطرة، لا تفكر فى أنك ستكون يوما رأس هذه الدولة.. وإذا تصورت أن أمريكا ستحميك، فاعلم أن الله هو الذى يحمينا، الله الذى لا يموت".
من هو المسئول عن هذه المأساة ؟ المسئولية الأولى يتحملها الأزهر ، فلو وجد الشباب قادة حقيقيين يقتدوا بهم، ما كان حدث هذا ... المسيحيون يعرفون جيدا أنه منذ قيام الثورة، أقيمت المحاكم لمحاكمة المسلمين، هل قدم مسيحي واحد"لمحكمة الشعب"التى رأسها جمال سالم؟
بل كان كل المتهمين مسلمين"ومحكمة أمن الدولة العليا"التى حكمت على سيد قطب بالإعدام شنقا عام 1965، فى وقت لم يكن فيه دولة ولم يكن فيه أمن ، فقد كانت السجون مليئة ، وأنا نفسي تعرضت للاعتقال، إلا أنني لن أقابل على الإطلاق قسيسا واحدا.. أنظر إليهم، هؤلاء ا لأقباط ،وهم متأكدون جدا من قوتهم ويتباهون بذلك.. أيها الشاب المسلم.
.. فالأنبا شنودة يريد أن يستفزكم جتى يلجأ لأمريكا، وبريطانيا ، وفرنسا ليرسلوا أساطيلهم إلى شواطئ مصر، تحت ستار اضطهاد الأقلية".
وفى هذه الفقرة الموجزة، صور المسلمون على أنهم ضحايا لقمع الدولة، بينما يثقل كاهل المسيحيين ما يتمتعون به من ألقاب ويشغلون الوظائف الهامة. ووفقا لكشك، فإنهم يتلقون دعم الحاكم ، رغم انهم ليسوا بمسلمين، لإلحاق الأذى بالمسلمين.
وقبل عام من إلقاء"نجم الدعوة الإسلامية"لهذه الخطبة، نشرت وثيقة مصري ة ترجع إلى القرن الرابع عشر ترجمها مستشرق فرنسي شاب.
وهى تحكى عن شغب معادى للمسيحيين نشب فى مدينة قوص، فى صعيد مصر، كما يرويها أحد الشيوخ الذى اتهم الأقباط"بالاستفادة من مزايا وظائفهم لدى الأمراء لكي يحصلوا على امتيازات لبنى جلدتهم ولإرهاق المسلمين"وقد وصف نفس هؤلاء الأمراء بأنهم"مسلمون غير متحمسين ومنحرفون وضعوا مصلحتهم الشخصية فوق مصلحة الإسلام"، وأثروا"السلطة والثروة على العدالة التى عينوا من أجل فرضها".
وفى حقيقة الأمر، فإنه على الرغم من أن الأقباط، طوال التاريخ الممتد لمصر المسلمة، قد شغلوا العديد من المناصب الرسمية (موظفون لدى الدولة) ، خاصة جباية الضرائب، فمن الواضح بنفس الدرجة أن وصفهم ككل على أنهم موظفين لدى الدولة لن يكون منصفا على الإطلاق، وكذلك بالنسبة لوصفهم بأنهم"لواءات ، ووزراء، ورؤساء لمجالس إدارات البنوك"فأكثرية الأقباط يعملون بالزراعة مثلهم مثل مواطنيهم المسلمين.
لكن محاجاة الإسلاميين ، مثلها مثل حجة الشيخ كاتب الوثيقة السابقة، كانت تستهدف ضرب الدولة، من خلال ضرب المسيحيين ، تلك الدولة التى زعم تفضيلها لهم. وفى فكر الإسلاميين يجهل المسيحيون الأخلاق المسلمة والعدالة كما جاء فى القرآن ، وهى الأخلاق الوحيدة الحقة، والعدالة الوحيدة الحقة.
إنهم من ثم على استعداد، فى مقابل الألقاب والثروات ، لتقديم أنفسهم كأدوات للحاكم الظالم، لتنفيذ، نزواته وسياسته الآثمة. وبالنسبة للجماعات الإسلامية ، لا يمكن تشبيه المحافظ المسيحي مثل محافظ جنوب سيناء الذى تم تعيينه عام 1980 بالمحافظ المسلم فوفقا لرأيهم هى يسعى لإساءة استعمال وظائفه، لكي يحابى أبناء دينه ، ويلحق الأذى بالمسلمين ، ويقوم بما يرضى نزوات الحاكم.
وبالنسبة لحركة الإسلامي ن ، فأن تهاجم الأقباط هو أن تهاجم الدولة. وهى لا تتهم كثيرا بالضحايا ، سواء اغتيلوا أو ضربوا بالهراوات لأنهم يعتقدون بأن المسيح ابن الله أو لأن مهاجميهم اعتبروهم أدوات تنفيذ لنزوات الحاكم الظالم لكن ومع ذلك فإن حالة أحداث الفتنة الطائفية من ذلك النوع الذى وقع فى نهاية السبعينات كان بديل لحركة الإسلاميين لعجزها عن ضرب الدولة مباشرة.
وسنحاول هنا أن نصوغ موازنة مؤقتة لنشاطات الحركة، حتى اغتيال أحد أعضاء جماعة الجهاد للسادات فى السادس من أكتوبر 1981 .
أولا، من خلال النجاح فى القضاء على الرئيس نفسه، أظهر عنف الإسلاميين فعاليته (قتل المستبد) وعدم جدواه أيضا، وهذا لا يعود فقط لاستمرارية الدولة التى أسسها عبد الناصر، لكن أيضا بسبب استمرار نظام السادات ، حيث استمرت الشخصيات القيادية فى نظامه فى شغل الوظائف الرئيسية فى الجهاز الاقتصادي والسياسي.
وهناك أيضا عدة عوامل مجهولة ستحدد ما إذا كان كتاب"الفريضة الغائبة"سيحل محل"معالم في الطريق"أو على العكس من ذلك سيسدل عليه ستائر النسيان مثل كتابات شكري مصطفى التى يتعذر الحصول عليها الآن. لكن كتاب المهندس الشاب سيتجاوز، فى رأيى ، سيد قطب، إذا لم يكن يعبر باختصار عن عصر جديد فى فكر الإسلاميين .
فقد ظهر"معالم في الطريق"بعد الهزائم التى لقيتها جماعة الإخوان المسلمين منذ 1984 وحتى 1954 ، ودعى لطريق النضال ضد الجاهلية، بربرية القرن العشرين، تماما كما حاول كتاب"الفريضة الغائبة"أن يقيم أسباب فشل حركة الإسلاميين ضد نفس الجاهلية منذ عام 1965 .
حيث طرح فى مواجهة استراتيجيات الانسحاب من المجتمع، وإعادة بناء المجتمع، التى دعمتها جماعة المسلمين وطلبة الجماعات الإسلامية تصورا أبسط وأكثر فعالية اقتضى استئثار السياسة. وكان الهدف الرئيسي للجهاد، كما أكد فرج على ذلك ، هو استئصال الفرعون.
فى الشرق الأوسط الذى عرفته فى الثمانينات، والغريب تماما عن المقولات السياسية الغربية، تهدد رسالة النبي محمد بأن تصبح أكثر إصرار وصلابة كلما استفحلت لعنة الفرعون.
كرونولوجيا
تسجل الكرونولوجيا العديد من الأحداث الرئيسية التى وقعت فى مصر فى الفترة من 1928 . والفقرات التى لا تسبقها أى إشارة تشير إلى الأحداث التى تخص حركة الإسلاميين . بينما تشير الفقرات التى تسبقها علامة إلى الأحداث الأعرض فى الحياة السياسية المصرية.
- 1928 تأسيس حسن البنالجماعة الإخوان المسلمين فى الإسماعيلية .
- 1933 إقامة المؤتمر الأول للإخوان المسلمين فى القاهرة .
- 1936 الإخوان يجمعون التبرعات لعرب فلسطين، توقيع معاهدة 1936.
- 1937 التقارب بين الإخوان والقصر فى مواجهة الوفد.
- 1939 انشقاق جماعة"شباب سيدنا محمد"وإدانتها للبنا بسبب تسوياته مع النظام ، بداية الحرب العالمية الثانية.
- 1940 الاتصال الأول بين البنا والسادات من أجل تحرير مصر من الاستعمار البريطاني .
- 1941 إبعاد البنا إلى الصعيد بناء على أوامر بريطانية ، مظاهرات لتشجيع قوات المحور.
- 1942 فبراير: وزارة وفدية فرضتها على الملك الدبابات البريطانية ، القبض على السادات لاتصاله بالألمان.
- 1943 تكوين"الجهاز السري"للإخوان المسلمين.
- 1944 نهاية وزارة الوفد
- 1946 تشجيع الحكومة للإخوان المسلمين فى نضالهم ضد الوفد والشيوعيين .
، ج عنيف .. وصدامات عديدة بين جماعات سياسية متنافسة.. ومفاوضات أنجلو مصري ة لتحرير مصر من شروط معاهدة 1936 .
- 1947 معارضة داخلية ورد فعل غاضب إزاء قوة الجهاز السري، تصويت الأمم المتحدة على تقسيم فلسطين.
- 1948 يناير : اكتشاف مخابئ تعود ملكيتها لجماعة الإخوان المسلمين، الحرب فى فلسطين . واتصالات فى الجبهة بين متطوعي الإخوان وضباط من جماعة ناصر ، مارس: اغتيال الجهاز السري لأحد القضاة، أبريل : متطوعون من الإخوان يحاربون ضد الصهاينة. ، يونيو – سبتمبر : أحداث عنف معادية لليهود وللأوربيين فى القاهرة ، نوفمبر: كشف النقاب عن وجود جهاز سرى للإخوان ، ديسمبر: حل الإخوان المسلمين بسبب مسئوليتهم عن"محاولات لقلب نظام الحكم القائم، والإرهاب والاغتيال".
- 1949 اغتيال حسن البناعلى يد البوليس السري فى 12 فبراير . وتولى صالح عشماوي قيادة جماعة الإخوان المنحلة.
- 1950 حكومة وفدية فى السلطة.
- 1951 مايو : إعادة تشكيل الإخوان قانونيا. أكتوبر : إلغاء مصر لمعاهدة 1936 من جانب واحد. وصدامات مع القوات البريطانية الموجودة فى مصر. ديسمبر: تعيين القاضي حسن الهضيبي مرشدا عاما للإخوان المسلمين ، وخليفة للبنا بشكل رسمي.
- 1952 يناير : انتقاد الهضيبى للعنف، وخلافات عامة بين الأعضاء والمرشد العام . مهاجمة الجيش الانجليزي لأحد أقسام البوليس المصري. وفى اليوم التالي خربت أحداث الشغب المعادية مدينة القاهرة . يوليو: انقلاب عسكري تقوم به جماعة ا لضباط الأحرار. تأييد حماسي للانقلاب من جانب عامة الإخوان. سبتمبر : الهضيبى يرفض عرض الضباط الأحرار بتمثيل الإخوان المسلمين فى الحكومة.
- 1953 الجهاز السري يفلت من يد المرشد العام .
يناير : حل كل الأحزاب السياسية وتكوين دولة الحزب الواحد.واستثناء الإخوان المسلمين من قرار الحل. نوفمبر: طرد عبد الرحمن السندى، رئيس الجهاز السري ، من الجماعة. ديسمبر: طرد صالح عشماوي (رجل ناصر) ومحمد الغزالي من الإخوان المسلمين.
- 1954 يناير : حل جماعة الإخوان المسلمين.
فبراير : صراع بين عبد الناصر ونجيب، والأخير، دعمه الإخوان السابقون ،والوفديون والشيوعيون ، ووقف عقبة أمام استئثار منافسه بالسلطة المطلقة. أغسطس : اختفاء المرشد العام من الحياة العامة ولجوءه إلى العمل السري. أكتوبر : محاولة أحد الإخوان المسلمين اغتيال ناصر فى الإسكندرية .وحملة عنيفة جدا شنتها الدولة ضد الإخوان. نوفمبر: محاكمة سريعة لقادة الإخوان. ديسمبر : شنق ستة من المتهمين ، من بينهم عبد القادر عودة . والزج بمئات منهم فى المعتقلات.
- 1955إقامة مؤتمر باندونج.
- 1956 تأميم قناة السويس.
- 1957 مايو : ذبح واحد وعشرين من الإخوان فى سجن طرة. ولقاء زينب الغزالي وعبد الفتاح إسماعيل فى مكة لكي يعيدوا"انطلاق الإخوان المسلمين".
- 58– 1962 فترة الوحدة المصرية السورية.
- 1962 توحيد مختلف جماعات الإسلاميين حول نواة إعادة تشكيل الإخوان المسلمين. واطلاعهم على كتاب سيد قطب "معالم في الطريق".
1964إرسال الجيش المصري إلى اليمن. مايو : إطلاق سراح سيد قطب من السجن.
أغسطس - سبتمبر: حملات قمع ضد الإخوان. واعتقالات واسعة، وقد كان من ضمن المعتقلين شكرى مصطفى.
- 1966 29 أغسطس : إعدام سيد قطب.
- 1967- 1971 تكوين تيار من تيارات الإسلاميين فى المعتقل ينادى بتكفير المجتمع.
- 1967 يونيو : حرب الأيام الستة. وهزيمة تلحقها إسرائيل بالدول ا لعربية.
- 1968 فبراير : مظاهرات طلابية ضد المسئولين عن الهزيمة.
نوفمبر: مظاهرات طلابية جديدة. الإخوان المسلمون فى المنصورة يشاركون فى مظاهرات نوفمبر.
- 1970 أكتوبر : وفاة ناصر، وخلافة السادات له.
- 1971: مايو : إبعاد السادات للناصريين الموالين للسوفييت فى"ثورة التصحيح".
الإفراج عن المجاهدين الإسلاميين الذين اعتقلوا فى ظل عهد عبد الناصر. وقد كان شكري مصطفى وعمر التلمساني من بين هؤلاء المفرج عنهم .
نوفمبر: مظاهرات جديدة. تيار الإسلاميين يواجه الناصريين والشيوعيين فى الجامعات.
- 1973 مولد الجماعات الإسلامية . والقبض على أعضاء ينتمون لجماعة المسلمين (جماعة شكري مصطفى) والعفو عنهم بعد أكتوبر .
أكتوبر : الحرب ضد إسرائيل، وتشجيع النظام للجماعات الإسلامية .
- 1974 21 ابريل: هجوم جماعة صالح سرية على الكلية الفنية العسكرية.
- 1975 يناير : مظاهرات ينظمها اليسار. وبداية سياسة الانفتاح الاقتصادي.
- 1976 مارس: سيطرة الجماعات الإسلامية على مؤتمر اتحاد الطلاب.
يوليو: إعادة إصدار مجلة"الدعوة". نوفمبر : شكري يهاجم"المرتدين"والقبض على بعض المجاهدين مع عدم تقديمهم للمحاكمة.
يوليو: اختطاف الشيخ الذهبي بواسطة جماعة المسلمين. واغتياله فى يوليو. يوليو- نوفمبر: القبض على أعضاء جماعة المسلمين ومحاكمتهم. نوفمبر: رحلة السادات للقدس.
- 1978 النظام يسلب الجماعات الإسلامية نجاحها فى انتخابات الطلاب.. وحركة الإسلاميين بأكملها ، وبمختلف اتجاهاتها تنتقد بعنف"السلام المخزي مع اليهود".
- 1979مارس: توقيع اتفاقية كامب ديفيد.
مايو : زيارة السادات للأقاليم ، وهجومه على حركة الإسلاميين . يونيو : إعادة تشكيل اتحاد الطلاب لإنهاء سيطرة الإسلاميين عليه. مصادرة عدد من أعداد"الدعوة".
أحداث عنف بين الأقباط والجماعات الإسلامية فى أسيوط. ولقاء فرج وزهدي، قائدا فرعى جماعة الجهاد.
سبتمبر: حظر الجماعات الإسلامية ، ومصادرة صحف الإسلاميين والقبض على الإخوان المسلمين الجدد وعلى الشيخ كشك. وقرار خالد الإسلامبولى قتل السادات . اعتقالات السادات ل، 1536 معارض، وعزله بابا الأقباط، ومنعه صحف المعارضة من الصدور. أكتوبر : اغتيال السادات . تمرد فى أسيوط.