قوي الجسم

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
قويّ الجسم


مراتب العمل المطلوبة من الأخ الصادق

  • يقول الإمام حسن البنا رحمه الله في ركن العمل من رسالة التعاليم : ومراتب العمل المطلوبة من الأخ الصادق :
الإمام حسن البنا

1 – إصلاح نفسه حتى يكون : قوى الجسم ، متين الخُلُق ، مثقف الفكر ، قادرا علي الكسب ، سليم العقيدة ، صحيح العبادة ، مجاهدا لنفسه ، حريصًا علي وقته ، منتظما في شئونه ، نافعا لغيره . وذلك واجب كل أخ علي حدته .

2 – فحدّد أهداف العمل الإسلامي لاستعادة الإسلام المُغَيَّب عن بلاد المسلمين وبدأ بالعمل علي استعادة الفرد المسلم بأوصاف القّوة الواجب اتصاف المسلم بها وهي عشرة أوصاف ، وبدأ بصفة قوة الجسم . وهناك ملاحظات علي هذا الترتيب : أولها : أنها صفات للفرد ، صفات قوّة مفقودة في تربية المسلم تحتاج إلي الاهتمام باكتسابها لكل مسلم علي حدة . ثانيها : أنها مرتبة حسب فقدانها في واقع المجتمع المسلم ، وبحسب القاعدة التربوية من أن أوّل المفقود هو أول المطلوب تحقيقه ، فأول ما فقد في واقع المسلمين هو الفرد المسلم الذي به يُستعاد الإسلام ونُحْمَي به الزمار والديار ، وأول ما فقد في الفرد المسلم همته وقوة إرادته وعظم نشاطه وحَيويَّة استعداداته واستثمار طاقاته المكنونة في طيّ معطياته كبشر وذلك كله مكنوز ومركوز في الجسم السليم الصالح بمهام العبودية لله تعالي .

3 - أن قوة الجسم صفة من صفات المسلم يداوم علي اكتسابها والحفاظ عليها وتعبيدها لمولاهُ الذي خلقه وأفاض عليه نعمة الإيجاد والخلق . فجسم العبد صوَّرها الخالق سبحانه إذْ يقول : ( هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ) ، ( وصوركم فأحسن صوركم ) وهي نعمة تحتاج إلي الإمْداد بعد الإيجاد ، وتحتاج من العبد أن يشكر ربه عليها ويدعو بدوامها عليه [ اللهم حسَّن خُلُقي كما أحسنت خَلْقي ] رابعا الملاحظات : أنه بدأ بقوة الجسم الذي هو الظرف والهيكل الذي يحتفظ بسائر القوى الروحية والعقلية وغيرها ، فبضعفه تضعف سائر القوى ، وبقوته تنمو سائر القوى المطلوبة ، فهو كالأساس للبنيان لابد من البدء به قبل غيره . خامسها : أن الله تعالي طلب من الأمة المجاهدة أن تستَعدَّ وأن تعدَّ كل ما استطاعت من القوى حيث قال جل شأنه ( وأعُّدوا لهم ما استطعتم من قوة ) وقد أخرج مسلم وغيره عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول وهو علي المنبر ( وأعدَّوا لهم ما استطعتم من قوة ) ألا أن القوّة الَّرمْيُ .] وقوة الرمي هو التدريب علي تصْويب السهام للعدد وإيصالها ، وهذا يحتاج لقوة الجسم والتدريب والتربية البدنية ، وحتى الحروب العسكرية الحديثة تحتاج إلي فنون الرمي بالقذائف والصواريخ وسائر الأسلحة .

وأخيرًا : فصفات الفرد المسلم كلها أوصاف قوة واقتداء وامتلاك للقوى : فأولها قوة الجسم ، ثم قوة الروح والنفس – متين الخلق – ثم قوة العقل والعلم – مثقف الفكر – ثم قوة الاكتساب للمال والسلطان والجاه – قادر علي الكسب – ثم توجيه كل هذه القوى حسب عقيدة التوحيد – سليم العقيدة – ثم تفعيل القُوى لإصلاح الحياة – صحيح العبادة ، ثم الثبات والاستقامة علي بذل المجهود في إيجاد المطلوب – مجاهد لنفسه – ثم الحرص الشديد علي الوقت بلا تضييع أو تكاسل في واجباته – حريص علي وقته – ولأن الأعمال والواجبات أكثر من الأوقات فلابد من اكتساب صفة التنظيم والترتيب للتغلب فقد الأوقات أوْ فوات الواجبات – منظم في شئونه – ثم إن المسلم يستثمر كل قواه في طاعة مولاه بمراعاة خلق الله فيجب أن يكون – نافع لغيره .


ماهيَّة قوة الجسم

  • قال الإمام القرطبي عند تفسير قول الله تعالي : ( إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم ) وقيل : زيادة الجسم كانت بكثرة معاني الخير والشجاعة ، ولمُ يُرَد عِظَم الجسم ، ألم تر إلي قول الشاعر :

تري الرجـل النَّحـيف فتزدْريـه *** وفي أثـوابه أسـد هصـور

ويعجبـك الَّـطريـر فتـبتـليـه **** فيـخلف ظنك الرجل الطرير

وقـد عَظُـم البـعـيـر بغير لُبَّ *** فـلم يستـْغـن بالعِظم البعير


  • وقال الإمام محمد عبده في تفسير المنار : بسطة الجسم المعّبر بها عن صحته وكمال قواه المستلزم ذلك لصحة الفكر علي قاعدة – العقل السليم في الجسم السليم – وللشجاعة والقدرة علي المدافعة وللهيبة والوقار . يقول علماء النفس والفلسفة : إن الإنسان قد أوْدع الخالق فيه قوى كثيرة مركوزة بالقوة فطرة ، يستخرجها الإنسان بالفعل كسبا ، فإذا لم يستخرجها بالفعل ظلت مركوزة في النفس لا ينتفع بها . وهي قُوَي منَّوعة : منها القوى العضلية ، والقوة الروحية ، والقوة الغريزية ، والقوة العلمية ، والقوة العاطفية ، وغيرها من الاستعدادات التي خلق عليها الإنسان . إذن فهناك قوى عظيمة ومنّوعة في الإنسان لابد من استخراجها في أعمال مكتسبة يتدرب عليها الفرد حتى يستثمر كافة قواه علي وجه الكمال والإتقان . فاكتساب صفة قوى الجسم إذن لا تقف عند حجم الجسم ولا علي قواه العضلية ، ولكن علي الفرد أن يتربَّي علي استخراج كافة قواه المودعة لدْيه أمانات من الخالق في أعمال الطاعات المرضية للخالق وأعلاها الجهاد بذلك كله في سبيل الله ، وهذا من معني ( إن الله اشتري من المؤمنين أنفسهم ) وأيضًا من معني ( إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ) فمن لم يستخرج قواه وطاقاته المودعة في النفس ويبذلها أعمالا وجهادا في سبيل الله تعالي فقد أوْهن وأضعف عقد البيع مع الخالق ن وأضاع علي نفسه منازل ودرجات الجنة التي اشتراها بنفسه وبما يملك في الدنيا .

والإنسان قد يجهل أن لديه قوى عظيمة مزخورة في جسمه يراد منه الانتفاع بها ، فالإنسان إذا ما داهمه عدوّ فجأة فأراد الهرب منه فإنه يعدو عدواً يسبق به أعظم العدّائين المتدربين ، ولو أحسن إنسان أن سيارة كادت أن تدهمه فإنه يقفز قفزة لا يستطيعها أعظم وَثَّاب متدرب علي الوثب ، هذا الإنسان لديه قدرات وملكات مزخورة فيه فلم تستخرج إلا بمثير لها يستخرجها بالفعل ، فإذا قصد الإنسان استخراج كل قواه فعليه أن يتدرب علي استخراجها بتكرار الفعل المثير لها ، ثم توجيه هذه القوى في طاعات الله ولما خلقت له .

الإنسان خُلق من الأرض ، فهو من جنس طينته ، فالأرض مذخور فيها ثروات ومعادن وكنوز وقوي نافعة ، ولا تستخرج هذه المنتفع إلا بأعمال وأفعال واكتشافات حتى يتم الانتفاع بها ، وكذلك الإنسان لديه من كنوز الخير وقواه ما تحتاج إلي اكتشاف واستخراج حتى يتم الانتفاع بها ، ولا تكتشف أو تستخرج إلا بمحاولات وتدريب علي استخراجها وإلا لتعطلت في الإنسان وتأخر الانتفاع بها ، وذلك من إعداد القوّة التي أُمر المؤمن بها عبادة للخالق تعالي .


كيف يتم استخراج قُوَي الجسم

إن قوة الجسم ليست فقط في وسامته وقوامه المعتدل وطوله الفاره وعضلاته المتناسقة ، وهذا قد لا يمتلكه كل إنسان ، أما ما يمتلكه كل إنسان فهي القوى المزخورة فيه . ويتمايز كل منهم من اغتنام ما يستخرج من هذه القوى في أعمال تنتج الخير وتحقق غاية الحياة الطيبة . إن محمدا رسول الله وأصحابه لم يستخرجوا ثروات الأرض عندما حققوا أفضل حضارة عرفها التاريخ ، ولكنهم استخرجوا قواهم جميعًا فتمكنوا بها من فعل كل خير ، وبها استخرجوا كنوز الأرض أيضًا . يقول الخالق سبحانه وتعالي : ( محمد رسول الله والذين معه ) هذا محمد معه رسالة الله للناس بها أصبح وهو معهم ومثلهم فكانوا تحقيقًا للرسالة ( أشداء علي الكفار رحماء بينهم ) أعدوا أنفسهم وقواهم جهادا للكفار بعد أن تكن قبل الرسالة فوجهوها لمراد الله إلي الكفار ، كما وجهوا قواهم الرحيمة إلي خيرهم وما بينهم ، ( تراهم ركعا سجدا ) دَأبهم الطاعة والانصياع والخضوع لخالقهم فلم يفعلوا ذلك كله إلا بأمره ولمرضاته ( يبتغون فضلا من الله ورضوانا ) فتوجهوا في مقاصدهم في الحياة الدنيا لطلب الآخرة ، فبذلوا المجهود كله لمرضاة المعبود وحده ، فأخضعوا الحياة لخالقها وبذلوا القوى المركوزة فيهم طلبا لرضا الخالق ، في ظاهرهم وباطنهم ، فعاد ذلك كله عليهم ظاهرا واضحا في كل أفرادهم ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) أصبحوا تمثالا للكمال البشري والاجتماع الإنساني في أرض الله ودنياه كما أراد الله ( ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوي علي سوقه ) إنهم باستقامتهم أيْنع الخير في حقول نفوسهم فاستخرج حضارة وحياة بشرية ( يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار ) حياة بهيجة وثمار مباركة لم ينبت في الدنيا مثلها ، سقوا نفوسهم بماء الحياة وللإيمان وأشربت قلوبهم في جنة فيها من كل زوج بهيج ، فتحقق لهم وبهم وعد الله وقوله تعالي لملائكته ( إني أعلم ما لا تعلمون ) وليغيظ بهم إبليس وحزبه ، ولا تزال وُعود الله للمؤمنين إلي يوم الدين إذا تحققت فيهم هذه الصفات التي وجدت في أسلافهم ، فإن قول الله تعالي ( محمدا والذين معه ) ليس المقصود معية تواجد أشخاص وأجساد فقد كان المشركون والمنافقون معه بأجسادهم ، ولكنها معيَّة صفات تتحقق في كل زمان ليغيظ بهم الكفار إلي يوم الدين ( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما )


تربية النفوس علي استخراج قواها

كانت دعوة سيدنا إبراهيم وابنه سيدنا إسماعيل عند رفعها لبناء الكعبة أن يجعل من ذريتهما أمة مسلمة إذ قالا : ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم ) أمة رسولها معلم للكتاب والحكمة ، ( ويزكيهم) والزكاة غَاء وطُهر ، ينمَّي الخير في نفوسهم ويطهرها من عيوب النفس ، فالمقصد غاء خير النفوس وتطهيرها من آفاتها الفطرية ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم ) ، ( قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ) إن خير الناس يبدأ من صلاح النفوس قبل صلاح الأرض ، واستثمار كنوز النفوس قبل استخراج كنوز الأرض . وهذا ما فعله رسول الله صلي الله عليه وسلم مع أصحابه ، بل ما خَلَّق الله به رسوله صلي الله عليه وسلم وجعله قدوة لمن آمن به ، فانصاعت له النفوس واكتمل فيها الخَلْق والخُلُق ، وانصلحت النفوس فأصلحت كل المجتمع . تربية النفس تحتاج إلي أفعال تدوم وإن قَلَّت ، حتى تتراكم بالتدريج صفات الخير وتصقل بها النفس فتصبح لها صفة مكتسبة ، فالصفات بالتكلّف تصبح طبيعية ثانية ، تنطبع النفس بها فتعتادها كتلقائية الفطرة إذن ، التربية فعل مكرّر لمدّة طويلة تكتسب النفس الصفة بمثل ما يكتسب العضو المهارة . يقول النبي صلي الله عليه وسلم : [ إن هذا القرآن نزل بحزْن ، فإذا قرأتموه فابكوا ، فإن لم تبكوا فتباكوا ] رواه ابن ماجه ، والتباكي هو تكلف البكاء واستدعائه ، ولا يكون ذلك إلا بتكرار فعل البكاء حتى تصبح طبيعية لقارئ القرآن . وكذلك حفظ ألفاظ وسور القرآن تحتاج إلي تكرار وترديد آياته وسورة حتى تصبح في الذاكرة بالمذاكرة طبيعية تلقائية لا تنْسي . يقول صلي الله عليه وسلم : [ تعاهدوا القرآن ، فوالذي نفسي محمد بيده لهو أشد تفلتًا من الإبل في عُقُلها ] رواه مسلم ، ويقول النبي صلي الله عليه وسلم : [ ومَن يتصبَّر يصبره الله .] رواه البخاري ومسلم وقال صلي الله عليه وسلم : [ ومن اسْتَعَفَّ يعفَّه الله ، ومن يستغن يغنه الله ، ومن يتصبر يصبره الله . ] رواه البخاري ومسلم .


الكمال والجمال في خَلْق وخُلُق رسول الله صلي عليه وسلم

لقد تَوَلّي الله رب العالمين رسول الله صلي الله عليه وسلم بالتربية خاصة بعد النبوّة ، قال بعض العلماء ، نزلت أقرء ، ثم يا أيها المزمل ، ثم يا أيها المدثر فبَّأه بإقرأ ، وربَّاه المزمل ، وأرسله بالمدثر . كان ابتداء الوحي أنه لما سمع قول الملك ونظر إليه أخذته الرََّعدة فأتي أهله فقال : [ زمَّلوني دثَّروني ] . يقول الإمام القرطبي : فَقَوْل الله تعالي لمحمد صلي الله عليه وسلم ( يا أيها المزمل قم ) فيه تأنيس وملاطفة ، ليستشعر أنه غير عاتب عليه ، وفائدة ثانية ، التنبيَّه لكل متزمَّل راقد ليله ليتنبه إلي قيام الليل وذكر الله تعالي فيه . قال القرطبي : ( قم الليل إلا قليلا ) أي صلَّ الليل كله إلا يسيرا منه ، لأن قيام جميعه علي الدوام غير ممكن ، فاستثني منه الليل لراحة الجسد .

وقال القرطبي في قول الله تعالي : ( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ) هو متصل بما فُرض من قيام الليل ، أي سنلقي عليك بافتراض صلاة الليل قولا ثقيلا يثقل حمله ، لأن الليل للمنام ، فمن أُمر بقيام أكثره لم يتهيأ له ذلك إلا بحمل شديد علي النفس ومجاهدة للشيطان ، فهو أمر يثقل علي العبد . وقال الإمام القرطبي في قوله تعالي : ( إن لك في النهار سبحا طويلا ) أي تصرفا في حوائجك ، وإقبال وإدبارا وذهابا ومجيئا .

والسبح : الجري والدوران ، ومنه السابح في الماء ، لتقليه بيديه ورجليه ، وفرس سابح : شديد الجري .

أقول : منذ بدء الوحي علي نبينا صلي الله عليه وسلم طولب بقيام الليل معظمه إلا يسيرا منه ، وكأنه الأصل القيام والنوم بالليل استثناء . أما النهار فظل النبي صلي الله عليه وسلم مُطالبا بالسَّبْح فيه والقيام فيه بكل المهام المطلوبة وتخلص إلي نتيجة حتمية وهي : تقليل النوم ، مع أتعاب الجسم . وقال النبي صلي الله عليه وسلم بما طالبه ربه فأشفقت عليه زوجه خديجة رضي الله عنها قالت فقالت : يا رسول الله ألا تنام !! ألا تستريح ؟ فيخبرها النبي صلي الله عليه وسلم بقوله : [ لقد مضي عهد النوم يا خديجة ] ونفهم عنه صلي الله عليه وسلم قوله : [ ما رأيت مثل النار نام هاربها ، ولا مثل الجنة نام طالبها ] رواه الترمذي فدوام صلي الله عليه وسلم علي هذا الجهاد طوال سنين عمره المبارك ، ولأن الله تعالي أنزل عليه فيما أنزل في مكة قوله تعالي : ( فإذا فرغت فانصب ، وإلي ربك فارغب ) فلا راحة لمن طلب راحة الآخرة . قال ابن مسعود رضي الله عنه : إذا فرغت من الفرائض فانصبه في قيام الليل . والنصب : التعب ، وقال الحسن وقتادة : إذا فرغت من جهاد عدوَّك فانصب لعبادة ربك ، وقال الجنيد : إذا فرغت من أمر الخلق ، فاجتهد في عبادة الحق . وكان فيما أنزل عليه بمكة قوله تعالي : ( وجاهدهم به جهادا كبيرا ) قال المفسرون : أي جهاد لا فتور فيه .

ودام رسول الله عليه وسلم علي ذلك حتى قالت عائشة رضي الله عنها : [ كان يقوم من الليل حتى تتفطَّر قدماه فقلت له : لِمَ تصنع هذا وقد غُفِر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا . ] قد يَتَبادر إلي الذهن كيف يتحمل الجسم كل هذا الجهاد والنصَّب ؟ وقد يتساءل إنسان : ألم يقل المولي عز وجل ( لا يكلف الله نفسا إلا وُسعها ) وقال تعالي : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ] ؟ الجواب : واقع الصحابة رضوان الله عليهم كان مثل قدوتهم صلي الله عليه وسلم كما سنري بعد ، وكانوا سعداء بهذا الأمر ، إذْ أصبحت العبادات سعادات ، فاستخرجوا ما لله في أنفسهم وأجسادهم جهادا وطاعات ، فأعطاهم الله ( ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة ) . كما نفهم عن الخالق عز وجل ( ألا يعلم مَن خلق وهو اللطيف الخبير ) فلقد بلَّغ عنه الصادق المصدوق صلي الله عليه وسلم ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : [ يعقد الشيطان علي قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عُقد يضرب علي كل عقدة : عليك ليل طويل فارْقُد ، فإن استيقظ فذكر الله تعالي انحلَّت عقدة ، فإن توضأ انحلت عقدة ، فإن صلي انحلت عُقُدُهُ كلها فأصبح نشيطًا طيَّب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان ] رواه البخاري ومسلم وعند أبي خزيمة في صحيحه [ فيصبح نشيطا طيب النفس قد أصاب خيرا ، وإن لم يفعل أصبح كَسلا خبيث النفس لم يصب خيرا ، فحملوا عُقَد الشيطان ولو بركعتين ] .

الأمر يحتاج إلي إيمان بالله الذي يعطي ويمنع ، ويُصبح ويُسْقم ، والصحابة رضي الله عنهم صدقوا وعملوا فسعدوا ونجوا ، ويبقي أمرنا يحتاج إلي زيادة إيمان وزيادة عمل . يقول مولانا عز وجل : ( ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا :. وإذا لآتيناهم من لدنا أجر عظيما :. ولهديناهم صراطا مستقيما :. ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .: ذلك فضل من الله وكفي بالله عليما .: يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا . ) ,


النبي صلي الله عليه وسلم كان قدوة ، قوي الجسم

روي الإمام أحمد الترمذي عن أبي هريرة رضي الله قال : [ ما رأيت أحدًا أسرع في مشيئه من رسول الله صلي الله عليه وسلم كأن الأرض تُطوى له ، إنا لنجْهد أنفسنا وإنه غير مكترث .] أي غير ملاقي تعبا في مشيته . كما روي ابن سعد عن يزيد بن مرتد رضي الله عنه [ كان رسول الله صلي الله عليه وسلم إذا مشي أسرع حتى يهرْوِل الرجل وراءه فلا يدركه ] روي البيهقي [ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم صارع أَبَا الأَشَدَّ الجُمَحيّ وأسمه كلدة فَصَرَعَهُ ، وبلغ من شدة أبي الأشدَّ أنه كان يقف علي جلد البقر ويجاذبه عشرة من تحت قدميْه فيمزَّ ق الجلد من تحته ولا يتزحزح ] .

روي الأئمة أن المسلمين عرض لهم في بعض الخندق صخرة عظيمة شديدة بيضاء مدورة لا تأخذ فيها المعاوِل ، فكسرت حديدهم ، وشقت عليهم ، فشكوا ذلك لرسول الله صلي الله عليه وسلم وهو في قبّة تركية فقال : أنا نازل ، ثم قام وبطنه معصوب بحجر من الجوع ، فدعا بإناء من ماء فنقل فيه ، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به ، ثم نضح من ذلك الماء عليها ، فأخذ المِعْوَل من سلمان ، وقال : بسم وضرب ضربة فكسر ثلثها ، وبرقت برقة فخرج منها نور من قبل اليمن فأضاء ما بيْن لابتيْ المدينة حتى كأن مصباحا في جوفْ ليل مظلم ، فكبَّر رسول الله صلي الله عليه وسلم وقال : أُعطيتًُ مفاتيح اليمن ، ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر ، ... الحديث ]

وروي الأئمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : [ قَدِم رسول الله صلي الله عليه وسلم وأصحابه مكة – أي في عمرة القضاء – وقد وصفتهم حُمَّي يثرب ، فقال المشركون : إنه يقدم غدا قوم قد وهنتهم الحمّى ، ولقوا فيها شدّة ، فجلسوا علي قَيْقُعَان – جبل – مما يلي الحِجْر ، فأطلع الله تعالي نبيّه بردائه وأخرج أن يَرْملوَا – يسرعوا – ثلاثة أشواط ، ويمشوا بين الركنين ، ليرى المشركون جلد هم , ثم استلم الركن الأسود ثم هرول كذلك ثلاثة أشواط ومشي سائرها. ]

ردى البخاري والنسائي عن أنس رض الله عنه قال : [كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يدود علي نسائه في الليلة الواحدة وهي إحدى عشرة , قال فتادة : قلت لأنس : أكان يطيق ذلك ؟ قال : كنا نتحدث أنه أعطي قوت ثلاثين .] أي قوة ثلاثين دجلا في الجماع , ويكون ذلك عند قبيل السفر للغزو , أو عند العودة منه لمراعاة العدل بينهن حتى لا تتأذي إحداهن رض الله عنهن بالغيبة , فما أُعطي أحد من البشر قوة إلا وأعطي النبي صلي الله عليه وسلم أو غيرها صلي الله عليه وسلم . في غزوة أحد قال محمد بن عمر وأهل السيّر : ثبت رسول الله صلي الله عليه وسلم مكانه ما يزول قدمًا واحدًا ، بل وقف في وجه العدوّ ، وما يزال يرمي عن قوسه حتى تقطع وَتَرهُ وبقيت في يده منه قطعة تكون شِبْرا في سِيَة القوس ، فأخذ القوس عكاشة بن محصن ليوتره له فقال : يا رسول الله لا يبلغ الوَتَر ، فقال : مُدَّة فيبلغ . عكاشة : فوالذي بعثه بالحق لمددته حتى بلغ ، ثم أخذ رسول الله صلي الله عليه وسلم قوسه ، فمازال يرمي به وأبو طلحة يستره متترسًا عنه حتى تحطمت القوس وصارت شظايا وفنيت نبله ، ورمي رسول الله صلي الله عليه وسلم بالحجارة ، وكان أقرب الناس إلي العدوّ .


النبي صلي الله عليه وسلم يعلَّم ويدرَّب أصحابه علي الرَّمي والقوَّة

عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال : [ عليكم بالرمَّي فإنه من خير لعبكم ] رواه البزار والطبراني . وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال : [ مرَّ النبي صلي الله عليه وسلم علي قوم ينتضلون ، فقال : ارْموُا بني إسماعيل ، فإن أباكم كان راميا ، ارمْوُا وأنا مع بني فلان فأمسك أحد الفريقين بأيديهم ، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : ما لكم لا ترمون ؟ قالوا : كيف نرمي وأنت معهم . قال النبي صلي الله عليه وسلم : ارْموا وأنا معكم كلكم ، فرموا عامة يومهم فلم يسبق أحدهم الآخر . ] رواه البخاري وعن عطاء بن أبي رباح قال : [ رأيت جابر بن عبد الله ، وجابر بن عميْر الأنصاري رضي الله عنهم يرتميان ، فَمَلَّ أحدهما فجلس ، فقال له الآخر : كسلت سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول : كل شيء ليس من ذكر الله عز وجل فهو لهْو ، أو سَهْو إلا أربع خصال : مشي الرجل بين الغرضين وتأديبه فرسه ، وملاعبته أهله ، وتعليم السباحة .] رواه الطبراني في الكبير بإسناد جيد . ومعني الغرضين : هو ما يقصده الرماة بالإصابة ، فكل ذلك لبيان فضل التدريب علي الرمي وغيره ليشب الجميع علي القوة والرياضة وحب الجهاد وتعلم فنون الحرب .

روي البغوي عن ابن أبي مليكة قال : [ دخل رسول الله صلي الله عليه وسلم غدير ماء ، فقال : يسبح كل رجل إلي صاحبه ، فسبح كل رجل منهم إلي صاحبه ، حتى بقي رسول الله صلي الله عليه وسلم وأبو بكر ، فسبح رسول الله صلي الله عليه وسلم إلي أبي بكر حتى اعتنقه ، وقال : لو كنت متخذا خليلا حتى ألْقي الله عز وجل لا تحدث أبا بكر خليلا ، ولكنه صاحبي ] رواه الطبراني أيضًا . في عسكر غزوة أحد استعرض رسول الله صلي الله عليه وسلم عسكره فاستصغر غِلْمانا فردّهم ، ثم أجاز رافع بن خَديج لمَّا قيل له إنه رامٍ ، فقال سَمرة بن جندب لزوج أمَّهِ : إن رسول الله صلي الله عليه وسلم أجاز رافع بن خديج وردّني وأنا أَصْرَعُهُ ، فعلم بذلك رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال : تصارعا ، فصرع سمرةُ رافعاً فأجازه رسول الله صلي الله عليه وسلم .] رواه أهل السَّيَر والطبراني . ، وروي الإمام أحمد عن عبد الله بن الحارث رضي الله عنه قال : [ كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يصَف عبد الله وعبيْد الله وكُثَيْر أبناء العباس رضي الله عنهم ثم يقول : مَن سبق إليّ فله كذا كذا ، فيستبقون إليه فيقعون علي ظهره ، فيُقبَّلْهم ويلتزمهم .] وروي الطبراني قال : [ كان أنس رضي الله عنه يجلس ، ويطرح له فراش ويجلس عليه ، ويَرْمي ولدُه بين يديه ، فخرج عليهم يوما وهم يرمون فقال : يا بني بئس ما ترون ، ثم أخذ القوس فرمي ، فما أخطأ القرطاس .] كان هذا لعب الصحابة ولهوهم ، كان إعدادا وتربية لشحذ القوّة من أجل الجهاد ، ألعاب ومسابقات وسباحة ورمي ومسابقات في العَدْو السريع ، صغارا وكبارا وشيوخا وبينهم رسول الله صلي الله عليه وسلم .


النبي صلي الله عليه وسلم يقيم مهرجانات رياضية هادفة

روي البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : [ أجْري رسول الله صلي الله عليه وسلم ما ضَمُر من الخيل : من الخفياء إلي ثنيَّة الوداع ، وأجْري ما لم تَضْمُر : من الثنيَّة إلي مسجد بني زريف . قال ابن عمر : وكنت فيمن أجري ، فطفَّف بي الفرس المسجد ] قال سفيان : من الخفياء إلي الغنية خمسة أميال ، ومن الثنيَّة إلي مسجد بني زريف ميل أو نحوه ، ومعني أجري أي سابق بين الفرسان علي الخيل . وروي الطبراني ورجاله كلهم ثقات عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : [ كان النبي صلي الله عليه وسلم يعرض غلمان الأنصار في كل عام ، فمن بلغ منهم بعثه ، فعرضهم ذات عام ، فمرّ به غلام فبعثه في البعث ، وعرض عليه سمرة من بعده فردّه ، فقال سمرة : يا رسول الله ، أجزت غلاما ما وردَدني ولو صارعني لصرعته ، قال : فدونك فصارعه ، فصارعته فصرعته ، فأجازني في البعث ] كان الصغار متطلعين لهذا الشرق العظيم للجهاد مطالبين به كحق لهم ، متدربين ومتأهلين لهذا العمل الشاق ، يدخلون في كل عام استعراض القوة لعلهم يجازون كأبطال الجهاد في سبيل الله ، وَهَا هُوَ رسول الله صلي الله عليه وسلم يقيم لهم المهرجانات والمسابقات في الجَرْي وركوب الخيل ، وسباقها بحسب درجات ومستويات قوتها وبراعتها وتدريبها ، وكذلك يقيم مسابقات الرمي ، ومسابقات المصارعة تدريبا عسكريا صنع منهم الأبطال التي تقهر الأعداء . قال محمد بن عمر في المسيرة : [ سابق رسول الله صلي الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق بين الخيل والإبل ، فسبقت القصواء الإبل وعليها بلال بن رباح رضي الله عنه ، وسبق فرسه الَّطرب والذي سبق عليه أبو أسيد الساعدي رضي الله عنه . ] رواه صاحب السيرة الشامية .

وروي محمد بن عمر وصاحب السيرة الشامية عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه في غزوة ذي قَرَد قال : [ أرد فني رسول الله صلي الله عليه وسلم وراءه علي العضباء راجعين إلي المدينة ، فلما كان بينها وبينه قريب من ضَحْوَة ، وفي القوم رجل من الأنصار كان لا يًُسْبَق ، فجعل ينادي : هل مَن يسابق ؟ إليَّ رجل يسابق إلي المدينة ، فعل ذلك مراراً وأنا رسول الله صلي الله عليه وسلم مُرْدِفي ، فقلت له :أما تكرم كريما ولا تهاب شريفا ؟ قال : لا ، إلا رسول الله صلي الله عليه وسلم ، قلت : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي خَلَّني فَللأ سابق الرجل ، قال : إن شئت ، قلت : أذهب ، فطفر عن راحلته ، وثنيْت رجلي فطفرت عن الناقة ، ثم ارتبطْتُ عليه شَرفا أو شرفيْن ، يعني استبقْيت نفسي ، ثم عدوْت حتى ألحقه ، فأصُكُّ بين كتفيه بيدي ، وقلت سبقتك والله ، فضحك وقال : واللهِ إنْ أظن ، فسبقه حتى قدمنا المدينة ، فلم تلبث إلا ثلاثا حتى خرجنا إلي خيبر .] إنها حياة الجهاد لا يلبثون إلا أياما قليلة ثم يعاودون الخروج للجهاد ، لهوهم ولعبهم تدريب علي قوة الجهاد ، الجهاد سبيلهم للحياة الطيبة في كل متطلباته ومراحله ، بل لكل مراحل العمر !


رجال صحت رجولتهم وقوِيَت أجسامهم

معاذ بن عمرو بن الجموح ، ومعوَّذ بن عفراء رضي الله عنهما فتيان من الأنصار شاركا في معركة بدر ، قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه : [ إني لفي الصف يوم بدر إذ التْفتُّ إلي يميني وعن يساري فتيان حديثًا السَّن ، فكأني لم آمن بمكانهما ، إذْ قال لي أحدهما سِرَّاً من صاحبه : يا عم ، أرني أبا جهل ، فقلت : يا ابن أخي ، فما تصنع به ؟ قال : أُخْبرتُ أنه يسب رسول الله صلي الله عليه وسلم ، قال : والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا ، فتعجبتُ لذلك . قال : وغمرني الآخر فقال لي مثلها ، فلم أنشب أن نظرت إلي أبي جهل يجول في الناس ، فقلت : ألا تريان ؟ هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه ، قال : فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه ثم انصرفا إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم ، فقال : أيكما قتله ؟ فقال كل واحد منهما : أنا قتلته ، قال هل مسحتما سيفكما ؟ فقالا : لا ، فنظر رسول الله صلي الله عليه وسلم إلي السيفين ، فقال : كلاكما قتله .] رواه البخاري وأصحاب السَّيَر ., ونحن نعجب مع عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لا لجرأتهما فقط وشجاعتهما ، ولكن لقَّوتهما وتدريبهما علي القتال ، فإن أبا جهل لعنه الله كان صنديدا شجاعا مدَّربا علي فنون الحروب

. روي البخاري وابن إسحاق في غزوة أحد : [ أن رجلا من المشركين خرج فدعا إلي البراز ، فأحْجم القوم حتى دعا ثلاثا وهو علي جمل له ، فقام إليه الزبير بن العوَّام فوثب حتى استوي معه علي بعيره ، فعانقه واقتتلا فوق البعير ، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم الذي يَلي حضيضي الأرض مقتول ، فوقع المشرك ، ووقع عليه الزبير فذبحه ، فأثني عليه رسول الله صلي الله عليه وسلم وقال : إن لكل نبي حواريا ، وإن حواريّ الزبير .]

روي البخاري وأصحاب السَّيَر عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال : [ غزونا مع رسول الله صلي الله عليه وسلم هوازن فبينما نحن نتضحَّي مع رسول الله صلي الله عليه وسلم إذْ جاء رجل علي جمل احمر ، فأناخه ثم انتزع طلقا من حقبة فقيَّد به الجمل ، ثم تقّدمت فتغَّدي مع القوم وجعل ينظر ، وفينا ضعفة ورقَّّة من الظهر ، وبعضنا مشاة ، إذْ خرج يشتد فأتي الجمل فأطلق قيده ، ثم أناخه ثم قعد عليه فاشتدّ به الجمل فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : اطلبوه واقتلوه . قال سلمة : وخرجتُ اشتد فكنت عند وَرِك الجمل ، ثم تقدمت حتى كنت عند أمامه ، ثم تقدّمت حتى أخذتُ بخطام الجمل فأنخْتُه ، فلما وضع وكتبه علي الأرض اخترطت سيفي فضربت عنقه فندر رأسه ، ثم جئت بالجمل أقوده عليه رحله وسلاحه ، فاستقبلني رسول الله صلي الله عليه وسلم والناس معه فقال : مَن قتل الرجل ؟ قالوا : ابن الأكوع قال : له سلبه أجمع .]

روي أصحاب السَّيَر عن أبي اليَسَر كعب بن عمر رضي الله عنه في غزوة خيبر : [ أنهم حاصروا حِصْن الصَّعْب بن معاذ ثلاثة أيام ، وكان حصنًا منيعا ، وأقبلت غنم لرجل من يهود ترتع وراء حصنهم ، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم مَن رجل يطعمنا من هذه الغنم ؟ فقلت : أنا يا رسول الله ، فخرجت أسْعي الظُّبي ، فلما نظر إليّ رسول الله صلي الله عليه وسلم مُوَليَّا قال : اللهم منَّعنْا به ، فأدركت الغنم ، وقد دخل أوّلها الحصن ، فأخذت شاتين من آخرها فاحتضنتهما تحت يدي ، ثم أقبلتُ أعدوا كأن ليس معي شيء حتى انتهيت إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم ، فأمر بهما فَذُبحتا .] هؤلاء هم الذين إذا سمعت مَن يقول : رُهْبانا بالليل فُرسانا بالنهار لا ينصرف وَهَلك إلا إلي أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم ورضي الله عنهم ، والذين قيل فيهم : احتقروا الضعف وإن حكم وتسلَّط ، وقاوموا الباطل وإن ساد وغلب ، وبقي الرجل رجلا وإن حطمَّه كل ما حوْله ، هانت عليهم أنفسهم في الله فأعزهم بعزَّ عزيز ، ولم يستبقوا من نفوسهم قوّة فحفظ الله عليهم قوتهم بها في الدنيا برغم حرصهم علي بذلها لمن باعوها ثمنا للجنة ( فأتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة ) . ولم يكن ذلك لرجال الصحابة دون نسائهم ، فقد روي مسلم ، وأحمد ، وابن أبي شيبة عن أنس رضي الله عنه قال : [ اتخذت أمُّ سُليم خنجرا أيام حنين ، فكان معها ، فلقي أبو طلحة م سليم ومعها الخنجر ، فقال أبو طلحة : ما هذا ؟ قالت : إنْ دنا منَّي بعض المشركين أبْعَجُ به بطنه ، فقال أبو طلحة : أما تسمع يا رسول الله ما تقول أم سليم ؟ فضحك رسول الله صلي الله عليه وسلم .]

وروي محمد بن عمر عن عمارة بن غَزيَّة قال : [ قالت أم عمارة : لما كان يوم حنيْن والناس منهزمون في كل وجه ، وكنا أربع نسوة ، وفي يدي سيف لي صارم ، وأم سليم معها خنجر قد حزمته علي وسطها وإنها يومئذ حامل بعبد الله بن أبي طلحة ، وأم سليط ، وأم الحارث ، فجعلت أم عمارة تصيح يا للأنصار : أية عادة هذه ، ما لكم والفرار ؟ قالت : وأنظر إلي رجل من هوازن علي جمل أوْرق معه لواء يُوضع جمله في أثر المسلمين ، فأعترض له فأضرب عرقوب الجمل ، فيقع علي عُجزه وأُشدُّ عليه ، ولم أزل أضربه حتى قتلته ، وأخذت سيفا له ، ورسول الله صلي الله عليه وسلم قائم ، مُصْلت السيف بيده .] ، وروي محمد بن إسحاق وأهل السَّيَر ، والطبراني برجال الصحيح : [ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم خرج إلي الخندق فجعل نساءه وعمَّته صفية في أُطُم – حصن – يقال له : فارع ، وجعل معهم حسان بن ثابت ، وخرج رسول الله صلي الله عليه وسلم إلي الخندق فأقبل عشرة من يهود ، فجعلوا يقمعون ويرمون الحصن ، ودنا أحدهم إلي باب الحصن وقد حاربت قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلي الله عليه وسلم وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا ، ورسول الله صلي الله عليه وسلم في نحر العدّو ، لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا إذا أتانا أتٍ ، فقلت لحسان : يا حسان قُمْ إليه فاقتله ، فقال : يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب ، والله لقد عرفتِ ما أنا بصاحب هذا ، ولو كان ذلك فِيَّ لخرجتُ مع رسول الله صلي الله عليه وسلم . قالت صفية : فلما قال ذلك ، ولم أَرَ عنده شيئا احتجزت ثم أخذت سيفا فربطته علي ذراعي ، ثم تقدمت إليه حتى قتلته ، فلما فرغتُ منه رجعت إلي الحصن فقلت : يا حسان ، انزل إليه فاسْلُبْه ، فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل ، قال : ما لي بسلبه من حاجة يا بنت عبد المطلب ، فقلت له : خذ الرأس وارْم به علي اليهود ، قال : ما ذاك فَيَّ ، فأخذت هي الرأس فرمت به علي اليهود ، فقالوا : قد علمنا أن محمدا لم يترك له خُلوفا ليس معهم أحد ، فتعرقوا .]

إن أصحاب المهارات الجسدية يقضون معظم حياتهم في برامج منتظمة في التدريب ، ونظام للأكل والتَّريُّض ، ومع هذا لا يبلغون معشار ما كان عليه الصحابة رجالا وشبابا وأطفالا ونساءً من قوة الجسم وقوة الإرادة ، ذلك أنهم رضوان الله عليهم كانت لهم أوْراد عبادية منتظمة بالليل وبالنهار ، بل كانت كل أوقاتهم تدريب علي القوة ، حتى الوضوء ، والصلاة فقد نظفت ونشطت أجسامهم ، بل كان الصيام قد نسَّق ونشط قواهم ، فأصبحت القوّة تحمي الحق .


النبي صلي الله عليه وسلم كان مع نسائه ، ومع أصحابه يروَّح عن النفوس أوقاتاً

روي أبو نُعَيْم عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : [ روَّحوا القلوبَ ساعةً فساعة .] وروي البيهقي في الشعب عن وهْب بن منبَّه " حق علي العاقل أن يشغل بأربع ساعات : ساعة يناجي ربَّه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يُفضي فيها إلي إخوانه الذين يجبرونه ويعينونه وينفَّسوا عن نفسه ، وساعة يخلَّي بين نفسه ولذاتها فيما يحل فإن هذه الساعة عوْن علي باقي الساعات وإجمام القلوب .] ، وروي البخاري في الأدب عن المقدام بن شريح عن أبيه قال : [ سألت عائشة رضي الله عنها عن البُدُوُ قلت : أكان رسول الله صلي الله عليه وسلم يَبُدُو ؟ قالت : نعم ، كان يبدو إلي هؤلاء التَّلاع .] ومعني يبدو : أي يخرج إلي البادية لقضاء وقت للترفيه ، والتَّلاع : هي مساقط الماء من علوًّ علي أرض ينمو فيها الأشجار والخضرة ، وروت عائشة رضي الله عنها أنها خرجت معه صلي الله عليه وسلم علي قعود كادت أن تقع من فوقه ، وأنها كانت تسابق النبي صلي الله عليه وسلم . روي الإمام مالك في الموطَّأ عن ابن عمر رضي الله عنهما : [ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم يأتي يتفَّرج في حيطانها – بساتينها – ويستريح عندهم . روي البخاري عن أبي موسي الأشعري رضي الله عنه [ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم كان قاعدًا في مكان فيه ماء دَلَّي فيه رجليه قد كشف عن ركبتيه ، فلما دخل عثمان غطاهما .] وكان ذلك في حديقة فيها بئر للماء .

روي أبو داود الطيالسي ، والترمذي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : [ كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يعجبه الصلاة في الحيطان . ] قال أبو داود : يعني البساتين . ، روي أبو نعيم عن عائشة رضي الله عنها قالت : [ كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يعجبه النظر إلي الخضرة .] وروي ابن السُّنَّي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : [ كان أحب الألوان إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم الخضرة ، وكان يعجبه النظر إلي الخضرة ، والماء الجاري ، والوجه الحسن ورواه ابن السني وابن عديّ وأبو نعيم عن أنس .


والحمد لله رب العالمين