قضية العبارة

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
قضية العبارة الغارقة واستقلال القضاء


بقلم:المستشار/ محمود الخضيري


وجد القضاء ليقول الكلمة النهائية كلمة الحق في أي واقعة تحدث أو نزاع ينشب بين الناس ولا يستطيعون حله وديا، والمفروض أنه بعد أن يقول القضاء كلمته مستندا إلى الأسباب التي أقنعت المحكمة بما انتهت إليه من حكم، أن تسكت الأفواه وتجف الأقلام وتطوى الصحف عن الحديث في هذه الواقعة والخوض في أحداثها، وليس معنى ذلك أنني ضد مناقشة الحكم القضائي ولكن ضد المناقشة العشوائية لغير المتخصصين في القانون وفي معرفة عيوب الحكم، فهذه المناقشة متاحة أولا عن طريق الطعن فيه بطرق الطعن المناسبة وفيها يقول من يقوم بالطعن كل ما يبدو له من عيوب يراها في الحكم بشرط أن يكون ذلك مؤيدا بالأدلة والمستندات، وكم من الأحكام تغير وجه الرأي فيها في الاستئناف أو النقض بعد أن تبين خطأ المحكمة التي أصدرته أو ظهور أدلة جديدة أو مستندات لم تكن أمام محكمة أول درجة،وكذلك مناقشة الحكم والتعليق عليه جائز وممكن لرجال القانون الذين يملكون المعلومات التي تمكنهم من ذلك بغية الوصول إلى الحقيقة التي هي من المفروض أنها غاية الجميع، كل ذلك لا ينال من القاضي الذي أصدر الحكم الذي اجتهد فأخطأ فله أجر المجتهد، ولا ينال كذلك من السلطة القضائية التي تقوم بإصلاح أخطاءها بنفسها فيرتفع قدرها في نظر الناس.

هذا هو الوضع الطبيعي للعمل القضائي الذي يحظى بالاحترام والثقة في نظر الناس ويدخل على قلوبهم السكينة والرضا والاطمئنان والقناعة بأن ما انتهت إليه المحكمة هو الحق والصواب رغم اختلاف البعض معه لأنه لا يوجد في الدنيا أمر محل إجماع الناس كافة ولكن يكفي أن يكون محل رضا وقبول الأغلبية حتى يكون عنوانا للحقيقة التي يرضى بها الناس ويقبلونها، ولكي يتحقق ذلك لابد أن يقتنع الناس أن القاضي الجالس للحكم فيهم إنسان لا يمكن التأثير عليه من أي جانب أو من أي سلطة وأنه لا يمكن الضغط عليه أو إغراؤه مهما كانت الوسائل التي تستعمل معه في هذا الشأن ولا يكون ذلك إلا إذا توافرت له الظروف التي تقنع الناس أنه بعيد عن التأثير عليه مهما كانت قوة هذا التأثير أو شدة الإغراء بأن تهيئ له الدولة التي أسندت إليه هذا العمل كل متطلبات الحياة التي لا تجعل نفسه تنحرف إلى شيء يتوق إليه وهو محروم منه فيكون ذلك مدخلا للتأثير عليه، كما توفر له الضمانات التي تمنع عنه الأذى من أي إنسان مهما علا شأنه فلا يستطيع حتى الحاكم أن يؤثر سلبا أو إيجابا في حكمه، وهذا الذي نتحدث عنه هو ما نقوله عن استقلال القضاء الذي هو في الحقيقة ضمانة ليس للقضاة بل للناس والشعب الذي يجب أن يشعر بهذا الأمر في هذه الأيام حتى يطمئن إلى حاضره ومستقبله وإن مصيره ومصير أبنائه وأهله وذويه في يد أمينة لا يمكن الوصول إليها والتأثير فيها.

استقلال القضاء ليس كلمة تقال من مسئول مهما كان شأنه حتى وإن اتبعها بالقول بأن هذه الأمر لا يحتمل إلا كلمة واحدة فليس في القانون أمر يقال فيه كلمة واحدة ولكن القانون بطبيعته موضع مداولة وخلاف في الرأي يستقر الأمر بعده إلى رأي راجح تؤيده كثرة ورأي مرجوح تقف معه قلة، ونتيجة ذلك ترى الحكم قد يختلف من محكمة إلى أخرى ومن قاض إلى أخر وأخيرا يستقر الحكم عندما تقول محكمة النقض رأيها في النزاع باعتباره التفسير الأرجح للقانون وإذن ما يقول به البعض بأن هذا الأمر لا يحتمل إلا قولا واحدا هو قول غير واقعي لا يصمد أمام المناقشة الموضوعية.

استقلال القضاء هو إحساس يدخل إلى قلوب المواطنين وعقولهم وضمائرهم بأن ما يقول القاضي هو الصدق في النهاية وأنه حكمه كلمة الحق التي يجب أن يذعن لها الجميع، وتزعزع ثقة الناس في ذلك يؤدي إلى تزعزع النظام والأمن والأمان في الدولة كلها. ولكي يشعر الناس بذلك لابد أن تتوافر في القضاء ورجاله والإجراءات التي يتبعونها في تحقيق القضايا، الشفافية والحيدة والنزاهة التي توجد هذه الثقة وأي إخلال بذلك ممكن أن يجعل القلق وعدم الثقة تتسرب إلى نفوس الناس ويبدأ الشك في صدق الحكم أو القرار الذي يمكن أن يصدر من القاضي الذي ينظر في هذه القضية، حتى تصرفات القاضي سواء خارج الجلسة أو أثناء نظر القضية يمكن أن تؤثر على هذه الثقة، مثل جلوسه في مكان لا يحبون مشاهدته فيه أو في وضع لا يرضونه له ولو خارج الجلسة فإن هذه يؤثر في ثقة الناس في حكمه وكذلك الأمر لو شاهده الناس في الجلسة في وضع يمكن أن يخل بالحيدة اللازمة بين الخصوم وهو ما قد يؤدي أحيانا بأحد أطراف الخصومة إلى رد القاضي عن نظر الدعوى لإحساسه أن القاضي يعامل خصمه بطريقة تختلف عن الطريقة التي يعامله هو بها أو لا يعطيه من فرص الدفاع عن نفسه مثل ما يعطي خصمه. من أجل ذلك وحتى يتوافر للناس هذه الثقة في القضاء كانت مطالبة نادي القضاة بالضمانات التي توفر لهم الاستقلال الكامل الذي يجعل الناس يطمئنون إلى عدل قضاتهم وأنهم لن يحيدوا عن الحق مهما كان الأمر عسيرا وشاقا.

لم أطلع على الحكم الصادر في قضية غرق العبارة ولم أطلع على إجراءات المحاكمة وما حدث في التحقيقات إلا بالقدر الذي تناولته أجهزة الإعلام التي تابعت هذا الموضوع ولكني أعرف كرجل قانون أنها جنحة قتل خطأ لا تختلف عن غيرها من جنحة القتل الخطأ إلا في عدد القتلى الذي تجاوز الألف، وأعلم بحكم عملي أنه في كل قضايا القتل والإصابة الخطأ أنها لا تقع إلا إذا وجد خطأ يتسبب في وقوعها والبحث فيها يدور دائما عن المتسبب في وقوعها وهو من وقع منه الخطأ الذي أدى إلى الحادث. وقد ينتهي الأمر إلى أن من أخطأ قد توفى في الحادث فينتهي الأمر إلى حفظ الأوراق لوفاة المتهم وقد يتمكن من الهرب عقب الحادث ولم يمكن القبض عليه فينتهي الأمر إلى قيد الواقعة ضد مجهول، ورغم ذلك نعرف أن هناك خطأ وإن لم يعرف صاحبه، وأما في قضية العبارة الغارقة فقد حصل الجميع على البراءة ولم يدن حسبما جاء بالأخبار سوى قائد سفينة تقاعس عن النجدة، أدين لتقاعسه ولم يدن لتسببه في الغرق، إذن المتسبب في الغرق لم يعرف بعد وكان لابد أن يعرف ويتم اتخاذ الإجراءات ضده أو تحفظ الدعوى ضده لوفاته، أما أن يقال أنه ليس هناك خطأ من أحد فهو الأمر محل العجب لأننا لم نسمع أن عوامل الطبيعة هي التي أدت إلى غرق الباخرة بركابها.

القاضي الذي أصدر الحكم في هذه القضية إما أنه بطل درس القضية دراسة جيدة وكافية وانتهى إلى هذه النتيجة التي يعلم سبقا أنها تصدم الرأي العام وتسبب في هذه الموجة من الغضب لدى الشعب الذي كان يتابع هذه القضية بشغف نظرا لأعداد الضحايا وما يحيط بصاحب العبارة من أقوال وشائعات تتسبب هو في زيادتها بهروبه إلى الخارج خوفا من العقاب وما قيل عن مساعدة المسئولين له في ذلك وإما إنه مسنود بطريقة مستفزة جعلته يتصور أن من يسنده يمكن أن يحميه من غضب الرأي العام وهنا تكون الكارثة وأتمنى من كل قلبي أن يكون الاحتمال الحقيقي هو الأول حتى لا يتسبب ذلك في تشويه سمعة القضاء.

ما حدث من تناول الحكم في أجهزة الإعلام بالصورة التي تم بها غير سليم وليس في مصلحة العدالة أو الدولة أو المتقاضين حيث قام غير المختصين بمناقشة وقائع الدعوى وأسانيدها وتحدث المتضررون عن مشاعرهم وآلامهم بطريقة تستفز الناس ضد الحكم دون مناقشة موضوعية وهو ما يمكن أن يمثل ضغطا أدبيا على القضاة حيث يرون الحقيقة في الأوراق تخالف عما تذكره وسائل الإعلام وتهيئ الرأي العام له وتجعله ينظر إلى رأي القاضي الذي يخالف ما ذكرته وسائل الإعلام بالشك والريبة، لذلك فإني أطلب من زملائي عدم التأثر بذلك وأن يكون ما حدث دافع لهم لدراسة القضايا دراسة جيدة ومتأنية ودقيقة في حيدة ونزاهة وتجرد وإصدار الحكم الذي يقتنعون في النهاية أنه الحق دون خوف أو تردد ما دام في أسبابه ما يرد على كل صغيرة وكبيرة مما أثاره الخصوم و أملي كبير أن لا تسمح أجهزة الإعلام لغير المتخصصين في القانون في مناقشة الأحكام وأن يتم ذلك بطريقة موضوعية بعيدة عن الإثارة والتجريح الذي لا يفيد في الوصول إلى الحقيقة التي هي هدف الجميع فيالنهاية