في مواجهة الفراغ الفكري والنفسي في الشباب

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
في مواجهة الفراغ الفكري والنفسي في الشباب


إن من أكبر المهام التي يفرضها علينا "التحدي الذي تواجهه الأمة الإسلامية": تحدي الصهيونية والاستعمار والماركسية: ممثلاً في التغريب والغزو الثقافي والشعوبية: هو بناء ذاتية المثقف المسلم العربي.

إن أي ثقافة أو قراءة أو إطلاع دون هوية ومعرفة للهدف ودون إيمان برسالة الإيمان والحب لهذه الأمة والذود عنها وافتداء عقائدها ووجودها، لا قيمة لها، بل إنها سوف تكون مصدراً من مصادر الشقاء لأنها سوف تدفع صاحبها ليجري مع كل ريح، وسوف يعجز عن تحديد موقفه من أهواء المذاهب وتيارات النظريات وزخارف التعابير المنمقة الكاذبة نحن مطالبون أولاً بأن نعرف ركائز فكرنا وعقيدتنا، فإذا عرفناها آمنا بها واعتنقناها وملأنا بها كياننا الروحي والنفسي والعقلي، واستطعنا في ضوئها أن نواجه كل ما يقدم إلينا من هذا الشتات الكثير المختلط، إن الخطر الذي اجتاح بعض من غلبوا على أمرهم فانحازوا إلى هذا الفكر أو ذاك إنما كان مصدره "منطقة الفراغ" التي دفعت الرياح الهوج لتملأها ولو أنهم كانوا قد عملوا على ملأها بالحق والخير والإيمان والنور المستمد من العقيدة الصافية والفكر الأصيل لما استطاعت الأهواء أن تجتاحهم، لقد برقت يف عيونهم كلمات خادعة لفرويد ونيتشه وماركس وسارتر، ولو تعمقوها لوجدوها سماً زعافاً.

إن المثقف المسلم الأصيل، المؤمن بأمته وعقيدته لا تخدعه الأسماء اللامعة ولا المطبوعات الفاخرة ولا الكلمات البراقة وإنما يعرف الرجال بالحق فمن عرف الحق عرف أهله ومن ثم فإن هذه الركائز قد تكون قادرة على إلقاء الضوء الكاشف أمام النفوس المستشرفة للضوء والعقول المتطلعة إلى النور.

إن أمتنا ليست في حاجة إلى أن تعتنق مذهباً ما من هذه المذاهب المطروحة أمام الفكر، أو نظام مجلوب من خارج دائرة ثقافتها.

وهل يجوز لأمة لها هذا التاريخ العريق والدور الأصيل في بناء حضارة الإنسانية أن تحتوي، أو تصهر في أتون فكر الأمم، أو أن تستبعد لنظريات الفكر البشري وعندها الفكر الرباني الخالص الأصيل المستمد من وحي السماء.

إن أبرز طوابع أمتنا هي الأصالة والاحتفاظ بالكيان الخالص والذاتية التي لا تنصهر ولا تذوب في فكر الأمم، ولأمتنا المنهج الأصيل الذي يحقق لها إذا أخذت به أسعد ما تتطلع إليه الأمم من نظم الاجتماع والفكر استمداداً من التوحيد الخالص والالتقاء بالفطرة والتجاوب مع الطابع الإنساني، إن نظرة فكرنا الإسلامي العربي نظرة رحبة عميقة واسعة الآفاق والأبعاد جامعة بين الروح والمادة والعقل والقلب، والدنيا والآخرة في إطار الالتزام الأخلاقي والمسئولية الفردية والإيمان بالبعث والجزاء.

هذا الفهم الجامع الكامل الرحب من شأنه أن يثرى آفاق حياتنا في مواجهة التحدي الاستعماري الخطير الذي يلتمس الآن أصول فكرنا لتزييفه واحتوائه من خلال مؤسسات ظاهرة هي التبشر والاستشراق ومن خلال قوى خفية تتمثل في بروتوكولات صهيون وما تدبره في خفاء عن طريق الفكر والصحافة والثقافة وبواسطة مذاهب فلسفية تدور حول النفس والأخلاق والاجتماع ومقارنات الأديان وذلك في سبيل تحقيق هدفها الخطير المعلن وهو السيطرة على العالم بعد القضاء على كل قيمه ومثله وأخلاقياته.

ومن هنا فإن هذا التحدي يجب أن يكون قائماً في نفس كل منا وعقله، لا يغيب عنا لحظة ولا تجدنا ننظر في أمر من هذا الخطر الذي ترمي إليه كل القوى الطامعة في بلادنا والتي ترى أن خير وسيلة لاحتوائنا هو استقطاب فكرنا، حيث أننا أمة لا يمكن أن تخضع إلا إذا أزيلت رواسيها: القرآن والإسلام واللغة العربية.

لقد تنبهنا لهذا الخطر منذ وقت طويل وبقى أن نحول هذا الفهم إلى إرادة حية تصد هذا الكيد وتحمي هذا الميراث وتحمل تلك التبعة وتزود عن هذه الأمانة بكل مرتخص وغال، ذلك أن أي إنسان منا ما هو إلا ابن هذه الأمة وهذا الفكر وهي بنوة عريقة ونسب كريم فقد حمل آبائنا أشرف رسالة وأعظم دعوة وكانوا من المجاهدين في سبيل هذا الحق، قادة للهدى والنور والخير في كل أرض وعصر ومن حقهم علينا أن نسير على طريقهم في النضال وأن نحمي هذه الأمانة ونذود عنها وأن نظل قادرين على حمل اللواء، وأن نقدم الإسلام إلى الأمم الحائرة التي تعيش اليوم في قلق وتمزق نتيجة غلبة النزعة المادية عليها.

ومن أجل تحقيق هذا كله أردت أن أضع بين أيديكم هذه المجموعة من الحقائق الفكرية والثقافية كأساس لبناء نظرة صحيحة إلى الحياة.

(أولاً): إن التدين جزء من الطبيعة البشرية ولا يستطيع الإنسان أن يعيش بغير دين وقد عجزت الأيديولوجيات والمذاهب الحديثة أن تقدم له بديلاً عن الدين يرضي روحه ويسعد حياته.

لقد حررت الأديان الإنسان من عبودية المجتمع وعبودية الفرد ليتجه إلى الله وحده ولكن هذه الأيديولوجيات أعادت الإنسان إلى سجن المجتمع – لقد تضاءل الإنسان ليصبح مجرد نملة اجتماعية في مجتمع النمل.

لقد علمت الأديان أنه ليس حشرة اجتماعية ولكنه إنسان ذو كرامة. فاستطاعت أن تمنح معتنقيها هداية لا تستطيع أن تجاريها فيها الأيديولوجيات التي فصلت الإنسان من عبادة قوى الطبيعة إلى عبادة قوى المال والمادة.

(ثانياً): إن الإنسان ليست له أزمة ولا قضية حادة في ظل مفهوم الإسلام ذلك أن الإسلام نظر إلى الإنسان نم خلال طبيعته الجامعة بين الروح والجسم والعقل القلب. نظر إليه بوصفه كياناً متكاملاً وبذلك أقر رغباته المادية كلها وأباحها له دون أن يقيدها إلا بضوابط معينة قصد بها حماية الإنسان نفسه من الانهيار والتدمير وحتى يكون قادراً على أداء رسالته في الحياة ومواجهة مختلف التحديات دون أن يضعف أو ينهار.

(ثالثاً): ألغى الإسلام الفكرة الوثنية القديمة (التي تتجدد عن طريق الأيديولوجيات) القائلة بأن هناك صراعاً بين الجسم والروح، وأعلن أن الجسم والروح متكاملان وبذلك عارض مفهوم الرهبانية ومفهوم الإباحية معاً ودعا إلى التوازن وإلى إعلاء الرغبات حتى تتحقق القدرة على تنفيذها على النحو الطبيعي السليم.

لقد وضع الإسلام ضوابط من ثلاث عناصر:

الاعتدال – الحلال – العفة.

ولذلك فقد عجزت أزمة الجنس أن تمد لها مجالاً في محيط الإسلام لأنها لم توجد أصلاً.

وفي الغرب (وفي الفكر الغربي الوافد الذي نراه في المسرحيات والسينما ونقرأه في الكتب والروايات) نجد مجتمعاً آخر، يختلف اختلافاً أساسياً عن مجتمعنا.

لقد كانت أوروبا تعيش في ظلال القسر الشديد ثم انطلقت إلى الإطلاق الشديد وبذلك كانت مضطربة في الأولى لأنها خالفت الفطرة، ممزقة في الأخرى لأنها جاوزت الطبيعة.

أما الإسلام فقد قبل مبدأ الفطرة القائم على التوازن. أعلن وجود الرغبات من مال وطعام وجنس ولكنه وضعها في إطارها الصحيح ولم يجعل الطعام قضية تفوق القضايا أو تسيطر عليها ولم يجعل الجنس قضية القضايا كما نرى فيما ينقل إلينا ولكنه جعل الحياة متكاملة في عناصرها متوائمة في رغباتها وحدودها بعيدة عن الزهادة والسرف والرهبانية والتحلل والإطلاق والكبت وجعل للحياة أفاقاً أوسع من المادة وأعلى من الرغبات جعل هناك الأشواق الروحية والنفسية والعقلية إلى الثقافة والعلم والعبادة.

فالإسلام لا يرفض الرغبات الحسية ولكنه يضعها في إطار واضح. فيجعل تحقيقها عن الطريق الطبيعي بالزواج في حالة القدرة أو التسامي والإعلاء بها بعد في حالة عدم الاقتدار.

وذلك: دون أن تفقد هذه الرغبات حقها المعترف به في حالة الاستطاعة.

رابعاً: كذب الإسلام ودحض الافتراض القائل بأن الدين يصرف الإنسان عن النضال والعمل وأعلن أن الدين يدفع إلى القوة والتقدم والكشف والعمران جميعاً إيماناً بدعوة الله للإنسان إلى العمل واستخلافه في الأرض.

ولا ريب أن دعوة الإسلام إلى امتلاك الإرادة الخاصة ورفض القيود ومقاومة الغزو كانت مصدر كل النضالات الوطنية التي انطلقت في العالم الإسلامي منذ جاءت موجة الاحتلال الأجنبي إلى الآن.

خامساً: أعلن الإسلام عن قيام الإرادة الحرة لكل مسلم وكل إنسان.

فكل إنسان مريد وقادر على العمل والتعبير، وقد هدي إلى الطريقين: طريق الخير وطريق الشر وعليه أن يختار أحدهما وفطرته تهديه ودين الله المبلغ له عن طريق الرسل والكتب ترشده.

هذه الإرادة لها تبعتها: هي المسئولية والحساب والجزاء الأخروي. فلا إرادة بلا مسئولية ولا مسئولية بلا جزاء.

أما الذين يقولون بالجبرية والصدفة وبأن الحياة مطلقة وأن من حق الإنسان أن يأخذ منها ما يشاء قبل أن يدركه الموت فذلك ليس مفهومنا، وهو في ذاته مفهوم باطل بحكم العقل والقياس وأن ترتيب البث والجزاء بعد الموت ليس أمراً مستحيلاً ولا متناقضاً مع العقل والفطرة، ذلك لأن للإنسان رسالة في الحياة، هو مطالب بأن يقوم بها على الوجه الصحيح، في سبيل إقامة مجتمع يرضى عنه الله تبارك وتعالى، فله في ذلك أجر الإحسان وجزاء الخطأ فإقرار البعث مطابق للفطرة ولا يشكل تناقضاً عقلياً بل إن إنكار البعث هو الذي يشكل التناقض، ويصور هذه الحياة، على أنها مسرحية هزيلة أو لعبة أو لهواً وهي ليست كذلك بالقطع، الإنسان له رسالة وهو محاسب عليها (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون).

سادساً: قرر الإسلام أن هناك قاسم مشترك أعظم على مختلف القيم والتصرفات: والأخلاق مقررات جاء بها الدين من عبد الله وهي ثابتة ثبات الفطرة الإنسانية نفسها، لا تتغير بتغير الزمان والمكان.

(فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله).

وقاعدة الأخلاق الأساسية في الإسلام هي أن الحق واحد والخير واحد وانهما لا يختلفان ولا يتعددان وكذلك الشر والباطل.

والأخلاق هي تمييز بين الحق والباطل والخير والشر، وسيظل الخير هو الخير والشر هو الشر على اختلاف الأزمنة والبيئات ولن يتحول يوماً إلى ضده.

ولقد دعانا الإسلام إلى أخلاقية الحياة وأقام الالتزام الأخلاقي في كل الأعمال والتصرفات وجعله جزءاً من الدين فالدين في الإسلام جامع بين العقيدة والشريعة والأخلاق وهي لا تنفصل ولا تتجزأ.

أقول هذا لنكون في يقظة إزاء المذاهب التي تقول بأن الأخلاق نسبية، لا، ليست الأخلاق ولكنها التقاليد.

أن الأخلاق من عند الله والتقاليد من صنع المجتمع نفسه. فالتقاليد متغيرة نعم، أما الأخلاق فلا ولقد يظن دعاة الفكر المادي أن الأخلاق كالدين نبعت من الأرض ولم تنزل من السماء ولذلك فهم يرونها متغيرة أما نحن:

المسلمون فنفرق بين الأخلاق والتقاليد ونرى أن الأخلاق ثابتة كثبات القيم الأساسية وأن التقاليد متغيرة ويجب أن تتغير مع اختلاف العصور والهيئات.

والقاعدة أن هناك ثوابت وهناك متغيرات: والتطور والتغير والتحول إنما يشمل المتغيرات أما الثوابت فشأنها شأن الأفلاك والمدارات التي تتحرك فيها الكواكب فهي ثابتة. ذلك في الإسلام أفلاك ثابتة وقيم لا يمكن أن تتغير ولكن ما في داخلها يتغير ويتحرك.

وتلك ميزة الإسلام:

سابعاً: هناك منهجان مختلفان: منهج للعلوم ومنهج للإنسانيات: منهج العلوم يستمد قوته من المادة ويتحرك في فلكها ولكنه لا يصلح للتطبيق على الإنسان: ولا يستطيع مقايسة الأخلاق والنفس والمجتمع.

إن المفاهيم التي ترتبط بالإنسان في مشاعره وعواطفه يصعب إخضاعها لقوانين الظواهر الطبيعية.

ذلك لأنها تتعرض لظروف مختلفة تتعلق بأعماق النفس ولا تخضع للتجربة.

ثامناً: لا تصدقوا الفكر الذي تقدمه الروايات والأفلام السينمائية والمسرحيات ولا تعتبروه مسلمات. ذلك لأنه لا يصدر عن حقائق وإنما عن أهواء وخيال.

الواقع هو المجتمع الذي نعيش فيه بما قامت عليه أعمدته من مقومات رسمها الدين الذي هدى البشرية إلى الحق، ثم جاءت العلوم مفسرة له:

أما ذاك عالم الخيال والوهم:

إن الإسلام قد قدم لنا كل المفاهيم والقيم والتفسيرات لمختلف قضايا المجتمع والإنسان والأخلاق والنفس على نحو كريم، فيه السماحة واليسر، وفيه قبول الاضطرار والمغفرة عند الإساءة.

والتوبة من الذنب، إطارات واسعة فسيحة وقيم أساسية: ثم بعد ذلك قدرة على الحركة دون تزمت أو ضيق فإذا جاءت اليوم الرواية الخيالية والمسرحية وأفلام السينما لتقدم لنا مفاهيم أخرى مخالفة للفطرة أو مضادة للحق فما أحرانا أن نعرف وجه الحق وأين هو ولا نتحول تحت تأثير البريق الخاطف أو الضوء الساطع، أو التقاء هذه المفاهيم مع أهواءنا ورغباتنا، لا نتحول إلى اعتناق مفاهيم ليست من الأصالة في شيء ولنعرف تماماً أن الرواية والمسرحية والقصة السينمائية ليست إلا ملهاة وتسلية أريد بها إزجاء الفراغ وإدخال شيء من الترويح على الناس ولكنها لا تكون أبداً نظماً ولا عقائد ولا قوانين مقررة نحاول أن نطبقها في المجتمع فننقل أحكام عالم الخيال إلى عالم الواقع والعكس هو الصحيح.

فهي لن تزيد عن أن تكون مخدراً يريد به أصحابه نقل الناس ساعات من واقعهم إلى عالم غريب خيالي ثم إذا هم عادوا وجدوا الواقع قائماً بقوته واستمراره لا مفر من التسليم له والاعتراف به والتجاوب معه.

ولنكن قادرين على الفهم الواسع العميق للفارق البعيد بين حقائق الأمور كما جاءت بها رسالات السماء وبين نظريات الفكر البشري التي وضعها الإنسان وفق هواه وفي سبيل تحقيق رغبائه متجاوزاً ما يراد له من الخير إلى ما يريد هو من الشر، لنفرق دائماً بين الواقع القائم في عالم الحياة والوجود، ومكاننا منه ومسئوليتنا إزاءه وبين هذا العالم الوهمي الخرافي الذي صنعه الإنسان ليدخل على بعض النفوس تسلية أو ملهاة ولا نخلط أبداً بين العالمين: عالم الواقع وعالم الوهم والخيال.

نحن نعي أننا ملتزمون أمام الله بمسئولية الفرد إزاء المجتمع، الفرد الذي يملك إرادة التصرف والذي يتحرك في الحياة بين قوى الخير والشر فيختار ما يشاء ويتحمل مسئوليته: مسئولية الجزاء والعقاب والثواب في عالم آخر بعد أن نموت ونبعث.

فإذا جاء عالم الوهم والخيال من خلال الرواية أو القصة أو المسرحية ليشكك في ذلك ويقدم لنا صوراً زاهية براقة من معطيات الجنس أو الطعام أو الترف فذلك كله خداع وتضليل، ولذلك نحن نرفضه ونبتسم ونسخر منه، لأننا نعلم أنه يريد أن يخرجنا من أرض الواقع التي يجب أن عيشها دائماً، ويخرجنا من أصالة مفاهيمنا حين يريد أن يصور لنا الحياة وكأنها متعة طيبة من خلال أصواء وترف وذهب وحرير، كل هذا هو عالم الوهم الذي يخذل من يصدقه، لأنه لا يلبث بعد أن ينتهي من قراءته أو مشاهدته أن يجد نفسه في عالم الواقع القائم المستمر، بل ويجد الحسرة تملأ النفس على حد تعبير القصص القديمة: نظر نظرة أعقبتها ألف حسرة.

فماذا يجد بعد: ما هو رد الفعل: إنه ذلك الإحساس بالتمزق والحرمان إذا ما اندمج في الخيال وظن أنه الواقع.

لنقبل إذن عالمنا الواقع الحي على حقيقته ولا نسرف في خداع أنفسنا بالخيال والوهم لبضع لحظات مع أغنية لا تصور إلا أكاذيب الشعراء أو مسرحية أو فيلماً لا يصور إلا أوهام الذين يريدون تدمير النفس الإنسانية، لنحاول أن نعيش واقعنا فإذا لم يكن ما نريد فلنرد ما يكون، فإن علينا أن نعمل ونتقدم ونضيف ونجدد ونكافح حتى نحقق الحياة الطيبة التي نرجوها.

تاسعاً: في مجال النظرة إلى الأمور يجب أن نفرق بين أمرين هامين:

هناك أمور مشتركة بين الأمم هي العلوم فالعلم عالمي عام.

وهناك أمور خاصة مطبوعة في كل أمة بطابعها: هي الأخلاق والأدب والفن. لكل أمة مزاجها وذوقها وتقاليدها وعقيدتها.

ويمكن أن تلتقي الأمم في العلوم وفي المعارف العامة أما ما سوى ذلك فيؤخذ بحذر شديد.

وقد حرص الإسلام على أن يحفظ شخصية أهله ولذلك دعاهم إلى معارضة التقليد وإنكار التبعية وكفل لهم منهجه الرصين المحكم القادر على ملاقاة كل بيئة وعصر – وكفل لهم كل ما يحتاجونه في مجال الاجتماع والسياسة والاقتصاد والتربية.

ولم يمنع الإسلام الانفتاح والالتقاء بالثقافات المختلفة ولكن على قاعدة أساسية واضحة: هو أن لا تحجب الشخصية الأصلية ولا الملامح العامة ولا تهدم قيمة من القيم الأساسية.

وقد دعا الإسلام إلى إعلان التمييز بين المسلمين وغيرهم في العادات والأخلاق وأسلوب العيش والحياة. وأعلن أن التقليد فقدان للشخصية وأن التبعية عبودية للفكر والعقل.

عاشراً: الإسلام ليس ديناً فحسب ولكنه نظام مجتمع والدين جزء منه.

والإسلام منهج حياة وليس نظرية، وهو منهج متكامل لا يقبل التجزئة ولا يقر النظرة الانشطارية التي ترى رؤية أهل التخصص الحديث فليس علم النفس وحدة أو علم الاجتماع أو السياسة أو الاقتصاد هو وحدة كل شيء، ولكن هذه العلوم والمفاهيم قاصرة بذاتها ولا تصلح إلا حين تتكامل في إطارها لخدمة الإنسان نفسه فلا تقوم نظرية في واحدة منها على نقيض حقيقة في الأخرى، هذا التكامل هو الذي يحول دن التمزق حين يعلي قوم العقل أو يعلي قوم الوجدان.

أما نحن فنوازن بين العقل والوجدان والروح والمادة والدنيا والآخرة فلا نفقد الطمأنينة النفسية والسكينة الروحية والثقة العقلية.

كذلك فإن منهج المعرفة الإسلامي يقوم على الترابط بين القيم ويتخذ من الوحي هادياً للعقل ومن الفطرة سبيلاً إلى العلم، هذا المنهج الذي يقوم على التحرر من الهوى والتعصب. ويتجاوز الرغبة الخاصة إلى الغاية الكبرى.

حادي عشر: قرر الإسلام أن الإيمان بالله قوة دافعة تعطي الأمل وتحول دون اليأس وتبعث الثقة المتجددة في النفس الإنسانية، وتحرص على المعاودة في حالة الإخفاق وليس الإيمان مضاداً للمعرفة ولكنه ضوءها الكاشف فالإسلام لا يقف بالإنسان عند مفهوم المعرفة القائم على الحس والتجربة بل يضيف إليه علماً آخر جاء به الوحي وسجله القرآن وفيه تفصيل عالم الغيب وعالم الآخرة وقد جعل الإسلام الإيمان بالغيب شرطاً أساسياً من شروط المعرفة.

ثاني عشر: إن من أخطر ما يطرح في أفق مجتمعنا: القول بأن كل إنسان حر، ومعنى الحرية هنا أنه يرفض التجربة التي قدمتها له الأجيال السابقة وذلك عين الضعف والقصور والعجز، فالشخصية القوية الرحبة تكون قادرة على مناقشة وجهة النظر الأخرى، ولو كانت خاطئة، والنظر في تجارب الذين مضوا على الطريق، إما أن يحجب الإنسان نفسه عن ذلك فإنه سوف يتقوقع في أضيق الحدود وسوف يعجز عن اقتحام الحياة وتحقيق النجاح.

علينا أن نواجه خبرات الناس وتجاربهم ومعنا ضوئنا الكاشف ومقاييسنا الأصلية. بل علينا أن نطالب الأجيال التي سبقتنا بتجربتها، وعلينا أن نكون منصفين فنأخذ خير ما فيها، ثم نحاول أن لا نقع فيما وقعوا فيه من أخطاء.

تلم هي ضرورة الالتقاء بين الأجيال، وحتمية الحلقات المتتابعة ببين الأمم، ليس بين الأجيال صراع كما يقولون، بل بينها لقاء وتكامل.

لقد استشرى هذا الخطر: خطر رفض تجربة الأجيال السابقة، والنظر إليها في شيء كثير من الانتقاض أو الزهد فيها وذلك من شأنه أن يفوت خيراً كبيراً، ولقد تعالت صيحات تقول: إن على الأبناء أن يشقوا طريقهم دون توجيه من أحد وأن عليهم أن يستعلوا على تجربة الأجيال التي سبقتهم وكيف يستعلي من لا يملك شيئاً. كيف يستعلي من يجهل.

وكيف يرى نم ينظر في الظلام، إننا دائماً في حاجة إلى أمرين وكل الأمم الناهضة تتشبث بهما: منهج أصيل هو ضوء كاشف نعرض عليه كل شيء ولا نقبل إلا ما يقره.

وتجربة للذين سبقوا على الطريق وبنوا قبلا حتى نعرف موضع اللبنة التي سيقدر لنا أن نضعها، إن هؤلاء الذين يعلنون تلك الصيحة ليسوا لنا بناصحين ولا أمناء، إنهم يريدون تحطيم الرابطة الأصلية بين الأجيال وإيجاد الصراع بينها، ونحن جميعاً نعرف بروتوكولات صهيون وما نصت عليه في هذا الشأن: إنها تريد تدمير هذه الأمة الصامدة في وجه الغزو الفكري والاستعمار والصهيونية.

إنهم يطمعون في إخراج أجيال مدمرة ممزقة نفسياً متحللة من كل القيم والضوابط فهم يدفعون الأجيال إلى التمرد على القيم الأساسية للمجتمعات، وعلى الآباء وعلى المربين وعلى الأساتذة (صحيح أن بعض الآباء والمربين والأساتذة ليسوا مستوى المثل الأعلى) ولكن: ليس الطريق هو إزاحتهم ورفضهم وإنما الطريق هو الوصول إلى التجارب وفحصها: والأخذ بالنافع وأمن عثار الضار منها، إن الشباب وهو يحمل أمانة الغد لابد أن يبني على الأساس وأن يتحرر من أخطاء السابقين وأن يستمد التجربة والمثل الأعلى والأسوة من المنهاج وهو القرآن والنموذج الكامل وهو محمد صلى الله عليه وسلم قدوة الأجيال والعالم.

ثالث عشر: إن الإسلام يدعونا إلى المجاهدة والمذاهب النفسية الحديثة تدعونا إلى الانطلاق فأيهما الخير من أجل بناء الشخصية الإسلامية القادرة على مواجهة أخطار المجتمع وصناعة الحياة والدفاع عن القيم والمقدسات.

إن المجاهدة بمعنى معارضة الأهواء والمطامع والكظم بمعنى تأجيل الرغبة ليس هو الكبت الذي صور فرويد أخطاره وبالغ في التخويف منها.

تلك المخاطر الوهمية التي أذاعها فرويد عن الكبت تختلف تماماً، ذلك أن الكبت إنما يستمد معناه ومدلوله من إنكار الرغبات أساساً وتحريمها عقيدة وعدم الاعتراف بها واحتقارها: كاحتقار الجنس أو المال أو الطعام بينما الإسلام يقرها جميعاً وينكر تحريمها: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة): إن الإسلام لا يحتقر الرغبات وإنما يعترف بها (نفسية وحسية) اعترافاً كاملاً دون إنكار لها وإن كان يدعو إلى الاعتدال في استعمالها أو تأجيل ممارستها حتى تتحقق القدرة التي تضعها في إطارها المشروع والصحيح. فتأخير ممارستها ليس كبتاً وإنما هو إعلاء.

إن خطر الكبت الذي تفترض الفرويدية أنه يؤدي إلى العصاب لا يتحقق إلا نتيجة الإنكار والرفض والاحتقار للرغبات، أما الاعتراف بها مع التأجيل فذلك مما لا يتعارض مع الطبيعة البشرية وهو ما ترضاه وتحتمله، ولقد هللت طويلاً دعوات التربية الحديثة بأن توجيه الأطفال وعقابهم يؤدي إلى كذا وكذا من الأمراض ثم أثبتت التجارب التي أجريت على الطبيعة وبالإحصاء الدقيق أن ذلك محض وهم، وإن النفس الإنسانية قابلة للتوجيه والتحذير والعقوبة دون أن يحدث ذلك عندها شياً البتة مما يسمى بمركبات النقص أو غيره.

ونحن نؤمن أن صانع النفس البشرية (جلا وعلا) أقدر على فهمها وآمن عليها من الأخطار وهو الحامي لها من أولئك الفلاسفة الماديين، وأن ما رسمه لها من أساليب تحذير وضوابط ومناهج ترغيب وترهيب إنما هو دوائها الحق وأنه متقبل منها وليس بشاق عليها ولا خطر فيه وليس له ضرر ما على النحو الذي تهول به الفلسفات المادية والوثنية.

وإن كنا نريد أن نعرف الخلفيات فلنذكر أن الهدف هو تفكيك عروة الشباب منذ الطفولة وبناء أجيال متحللة مدمرة ورفع يد الآباء عن التوجيه وخلق جو من الكراهية في محيط الأسرة حتى يفقد الشباب تلك الثمرة الخصبة "تجربة الجيل" وثمرة العبرة من كفاح الآباء وذلك في طريق هدف بروتوكولات صهيون الصريح: الذي يقول: "يجب تدمير المجتمعات الإنسانية قبل السيطرة عليها".

رابع عشر: أعطى الإسلام البشرية: التفسير الجامع (الرباني المصدر الإنساني الهدف) لا ريب أنه صدق التفاسير، لقد أهمل التفسير المادي جوانب المعنويات والقوى الذاتية والدين والأخلاق وهي جميعها بعيدة الأثر في مقدرات التاريخ وحركة المجتمعات وسيظل الدين بمفهومه الإسلامي الواسع الجامع عنصراً هاماً من عناصر تشكيل الذاتية الفردية والاجتماعية.

وأن القائلين بأن الدين ليس مصدراً من مصادر التوجيه أو ليس عاملاً من عوامل بناء الحضارات وحركة التاريخ إنما يتجاهلون شطراً هاماً من طبائع النفوس وخصائص الأشياء.

خامس عشر: ما يزال الإسلام والإسلام وحده هو المنهج القادر على إعطاء النفس العربية والإسلامية، بل النفس الإنسانية ريها وسكينتها، وقوتها وحيويتها.

إن الخطأ هو اعتناق عقائد المجتمعات التي تشكلت على نحو خاص، والخطأ هو أن تأخذ الأمور من نهاياتها فهذه الحضارات قد شاخت وبان عوارها وفسدت ولم تعد تنفع أهلها، وحاول أصابها تعديل مناهجها مرة بعد مرة، ومع ذلك فلم تحقق لهم ما يطمعون فيه، إن ما يطمعون فيه لا يوجد لأنهم يقيسون بمقياس واحد: مقياس جزئي، هو مقياس العقل والعلم والمادة بينما يقيس الإسلام بمقياس متكامل:عقل وقلب وعلم ووحي وروح ومادة.

إن حضارة الإسلام لا تقوم على العلم وحده ولكن على العلم في إطار العقيدة.

سادس عشر: إن تخلف المسلمين في العصر الحديث قضية مستقلة، عن منهج الإسلام ذاته، فمنهج الإسلام حين طبق أمام تلك الحضارة الباذخة وحين غفل عنه المسلمون وتجاوزونه وقعوا في هوة التخلف فالعيب ليس عيب المنهج، لأن المنهج رباني وقد سجلت تجربته بصماتها على التاريخ.

إن القيم الإسلامية في تقدميتها ونصاعتها ليست مسئولة عن التخلف، وإنما جاء التخلف نتيجة تجاوزها وإهمالها، يقول ولفرد كانتول سميث: "إنه دين استطاع أن يوحي إلى المتديئين به شعوراً بالعزة كالشعور الذي يخامر المسلم من غير تكلف ولا اصطناع".

ولقد يرى البعض أن تخلف المسلمين ليس له إلا سبب واحد: هو سقوط العزيمة، سقوط الإرادة: الغفلة عن الأخطار المحدقة من كل جانب (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم): (ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم).

إن ظواهر التخلف ظهرت في اليوم الذي بدأ فيه المسلمون يميلون إلى الحلول السهلة، ويسترخون، ويتجاهلون الخطر المحدق. ويبتعدون عن حياة اليقظة التامة والمرابطة الدائمة في الثغور، والانحراف عن مبادئ القرآن.

هذه أمة الرباط إلى يوم القيامة كما حدث الصادق المصدوق، لقد فقد المسلمون التحدي فسقطت العزيمة:

غفلوا عن المجاهدة، فقدوا روح الصلاة والإيمان واكتفوا بالمظاهر، عن ذلك دارت الدائرة عليهم، يقول أرنولد تويئبي: إن الغرب وضع الحبل في رقبة العالم الإسلامي منذ القرن الخامس عشر وكان يتهيب أن يشده، ثم بدا له المسلمين في نوم عميق فشد حلبه وسيطر عليهم.

سابع عشر: إن دخائل كثيرة دخلت على المسلمين وأفسدت حياتهم وأعلت من شأن المتعة والترف وأبعدتهم عن الاخشيشان والقدرة على الصمود، وفرغت حياتهم من فريضة الجهاد وتخلفوا عن مفهومهم الأصيل: احرص على الموت توهب لك الطريق، وغفلوا عن بذل النفس رخيصة في سبيل الحق، وتقهقروا إلى الحرص والخوف والجبن والذلة بما أعجزهم عن مواجهة الموت في ميادين المقاومة.

وقبلوا بالحياة ذليلة، ولو علموا أنهم سيموتون في نفس اللحظة التي ينتهي فيها الأجل لما حرصوا ولا جزعوا. واليوم حين تعود فريضة الجهاد إلى حياتهم يبدأون عصراً جديداً.

ثامن عشر: أقر الإسلام حرية الفكر والعقيدة: "لا إكراه في الدين" ودعا إلى المطالبة بالبرهان والدليل ونهى عن تحكيم الهوى وفتح باب الاجتهاد ودعا إلى عدم الانخداع بالأوهام والاغترار بالظنون وأنكر القول بغير دليل وقرر عدم كتمان العلم وأطلق حرية البحث ودعا إلى التحرر من التبعية والتقليد وأقر مبدأ الأصالة.

وفرق بين العقائد والمعارف. وجعل العقائد خاصة وجعل المعارف عامة وفرق بين الأساس والعارض وفرق بين المعارف الجوهرية والمعارف غير الجوهرية (من لغو القول وإزجاء الفراغ) ودعا إلى الأخذ من كل علم بأحسنه كما دعا إلى التحري عن الحق وأفهم أهله بأن من كرامة العلم الربط بين العقيدة والعمل بها ورفض مبدأ العلم لذاته وقرر أن العلم يعترف بالحق إذا تبين وأن يغير العالم رأيه إذا جاء الدليل وإنما يطلب العلم من أجل العمل بع وأقام الإسلام الفطرة ودعا إلى نقاءها وشدد بالنهي عن إفسادها بالتعاليم الضارة.

ودعا إلى التحري عن الحق وطالب أهله بأن من كرامة العلم أن نعترف بالحق إذا تبين وأن نرجع إلى الحق إذا جاء الدليل ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس ثم هديت فيه لرشدك أنه تعود إلى الحق فإن الحق قديم وإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.