في ذكرى شهداء الدعوة

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
في ذكرى شهداء الدعوة


بقلم : عبد العزيز كحيل

في هذه الأيام المباركة التي تنعتق فيها كثير من البلاد العربية من الأنظمة الاستبدادية وتنتقل إلى أجواء الحرية والكرامة يجب ان نتذكّر قوافل الشهداء الذين ضحوا بأنفسهم في سبيل الله ومن أجل أمّتهم ، وصدعوا بكلمة الحقّ في وجه الحكّام الجائرين ، وخاصّة أولئك الأبطال الذين لم يقترفوا إثما ولا جُرما سوى تمسّكهم بدينهم ومناداتهم بالحرية واحترام رأي الشعب فواجَهَهُم الطغاة بالسجن والتعذيب والتهجير والقتل، ومضت الأعوام والشعوب والجماعات وكلّ الهيئات محرومة حتّى من حق إحياء ذكرى رموزها بل وحتّى إيراد أسمائها في الإعلام، ولمصر النصيب الأوفى من شهداء الحركة الاسلامية ،يجدر بها أن تغتنم حياتها السياسية الجديدة بتكريمهم جماهيريّا التكريم المناسب لمكانتهم الدعوية وتضحياتهم .

ففي أيام بائسات كئيبات من أوائل ديسمبر 1954 لقي الله تعالى على حبال المشانق ستّة من الإخوان المسلمين، منهم أربعة من قيادات الجماعة، بعد محاكمة شكلية هي أقرب إلى المسرحية الهزلية السيئة الإخراج والتمثيل لولا أن ضحاياها من خيرة أبناء مصر... ذهبوا بقرار سياسي مغلّف _كعادة الأنظمة المستبدّة الجبانة_ بأحكام قضائية هي من النوادر في تاريخ العدالة ، وقد بدأت القضية بحادثة المنشية الشهيرة كذريعة لكسر عظام الجماعة التي التفّت حولها الجماهير ووقفت من خلال مرشدها كالطود الأشمّ في وجه الطاغية المستبدّ الذي بدأت نيّته في الحكم الفردي الشمولي تلوح في الأفق و يلمسها الناس في الواقع، فأراد المتعطّش للانفراد بالسلطة أن يبني لنفسه مجداً على جماجم الدعاة المصلحين فكانت الاعتقالات بالألوف والتعذيب الذي يشيب لذكره الصغار ثم المحاكمة التي أتمنى أن يرجع إلى أرشيفها بعض طلبة الحقوق النابهين المنصفين ليُعدّوا حولها رسائل جامعية، فإنهم سيجدون فيها العجب العجاب الذي يستحقّ التسجيل حتى تكون شاهد إدانة للنظام الديكتاتوري وحتى لا يقع مثلها في يوم من الأيام.

وفي أواخر نوفمبر 1954 أصدرت "محكمة الثورة" كما كانت تسمّى أحكاما بالإعدام على عدد كبير من قيادات الجماعة على رأسهم فضيلة المرشد العام حسن الهضيبي ( وبُدِّل إلى الأشغال الشاقة مدى الحياة "لتقدمه في السنّ")، وفي تلك الأيام الباردة الحزينة من الشهر التالي قيد إلى المشنقة محمود عبد اللطيف المتّهم بإطلاق النار في المنشية وهنداوي دوير المتّهم بالإيغار له بذلك، وإضافة إلى الاثنين نفّذ الشنق في أربعة من الوجوه البارزة في مكتب الإرشاد والقيادة والعمل الدعوي، هم الشهداء: عبد القادر عودة ومحمد فرغلي ويوسف طلعت وإبراهيم الطيب رحمهم الله جميعا، ومن واجب أبناء الحركة الإسلامية أن يعرفوا شيئاً عن هؤلاء الأبطال المظلومين:

1_ عبد القادر عودة: قاضٍ مقرَّب من المرشدين الأوّلين ومن كبار قادة الجماعة، صاحب شخصية قوية وعلم غزير وأخلاق رفيعة، نفذ فيه الحكم بتهمة لم يعرض أمام المحكمة الآثمة نصفُ دليل عليها، فكان آخر كلامه قبل موته كما نقله بعض الحضور "اللهم إني أموت مظلوماً فاجعل دمي لعنةً على رجال الثورة"، واستجاب الله دعاءه فلم ينج منهم أحد من العقاب الدنيوي في شكل أمراض مستعصية وموت فظيع في حادث سير تناثرت فيه أشلاؤه وهلاك بالسكتة القلبية بعد تجرع غصص هزيمة جوان 1967 لثلاث سنوات... "ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون"...

اقترن اسم القاضي الشهيد بكتابه الفذّ "التشريع الجنائي الإسلامي" الذي تدرّسه كليات الحقوق في كبرى الجامعات في العالم، وحين استشهد _رحمه الله_ ترك طفلا صغيرا شاءت الأقدار أن يقاد هو الآخر إلى المعتقل بتهمة مفتعلة بعد أن نيّف على الستين من عمره وهو من كبار علماء الجيولوجيا في العالم... إنه خالد عودة الذي اقترف نفس جرم أبيه: الالتزام بالإسلام وصحبة الإخوان...والاستبداد ملّة واحدة.

لقي القاضي الشهيد ربه وله 48 سنة من العمر، وترك ذكراً طيبا باعتباره فقيهاً دستوريا وأستاذا جامعيا مرموقا وداعية إلى الله وكاتبا متميزا ترك من المؤلفات – بالإضافة إلى التشريع الجنائي – :

- الإسلام والأوضاع السياسية
- الإسلام والأوضاع القانونية
- الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه

2_ محمد فرغلي: هو عالم أزهري وخطيب مفوّه ترعرع مع دعوة الإخوان وقاد كتائبهم إلى الجهاد في فلسطين وكان له في معارك القتال ضد الإنجليز حضور قوي، هدى الله تعالى على يديه خلقا لا يحصون من العمال والفلاحين والطلبة خاصة في الإسماعيلية وذلك بفضل إخلاصه ورسوخه في الوعظ، وقد حاول قائد الانقلاب العسكري في 1952 استمالته فأومأ إليه بتوليته مشيخة الأزهر لكن الشيخ لم يلتفت إلى ذلك وبقي ثابتا مع قيادة الجماعة لا يتزحزح رغم الإغراء والوعيد، فكان جزاؤه الإعدام على جرم لم يقترفه بل لم يقم أدنى دليل على تورّطه فيه بأي شكل، سار _رحمه الله_ إلى المشنقة مبتسماً يقول "إنني لمستعد للموت، فمرحباً بلقاء الله" مات الرجل العالم الزاهد المجاهد وعمره 47 عاماً.

3_ يوسف طلعت: عاش في كنف الإخوان منذ أن عرف الإمام الشهيد حسن البنا في شبابه الأول ونذر حياته للدعوة الإسلامية وشارك في الجهاد في فلسطين وكان مصيره بسبب ذلك أن اعتقل كما حدث لغيره من المجاهدين إثر عودتهم إلى مصر، وتتدرج في المسؤولية داخل الجماعة وترأس النظام الخاص لاشتماله على خصائص القيادة من حنكة وجرأة وهدوء أعصاب وصبر وطول نفس.

وعندما انقلب الحكام العسكريون على الجماعة في 1954 اعتقل يوسف وعذّب عذاباً شديداً فأصيب بكسور في العمود الفقري والذراع والجمجمة، وأراد رئيس المحكمة الآثمة أن يسخر منه فقال "كيف تكون رئيس جهاز فيه أساتذة جامعة وأنت نجار؟" فرد عليه في إباء "لقد كان نوح عليه السلام نجاراً وهو نبي" فأفحمه.

تروي والدته لقاءها الأخير به في السجن فتقول إنه كان فرحاً مسروراً وقال لها "يا أمي شهادة نلتها وقد لبثت طول عمري أتمناها" وذكروا أنه قال قبيل شنقه "اليوم ألقى الله وهو راضٍ عني، اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون"،ومضى إلى ربه وله من العمر 40 عاماً.

4_ إبراهيم الطيب: كان رجلاً متعلما تقيا ذكيا تعرّف على الجماعة وهو شاب ولازمها وتخرج من كلية الحقوق واشتغل محاميا، ولم يفارق الإمام الشهيد منذ عرفه بل لازمه ملازمة شديدة لحبه له وإعجابه به، ووصل إلى مركز المسؤولية في النظام الخاص وترأس شعبة القاهرة، شارك في حرب فلسطين بالتعبئة وجمع السلاح واعتقل مع باقي المجاهدين بعد عودتهم. وكانت فاجعة أكتوبر 1954 فنال نصيبه من التعذيب الشديد في السجن الحزبي وحوكم كغيره وصدر في حقه الإعدام، وقبل التنفيذ دار بينه وبين أهله كلام يدلّ على إيمانه الراسخ وثقته في الله، فقد ذكر لهم ابتلاء الأنبياء ومقتل الحسين رضي الله عنه وقال: "كانت الشهادة في سبيل الله أسمى أمانينا وهذه هي قد نلناها فلا تحزنوا فإننا لمسرورون، ولسوف يريكم الله آياته"، وكان آخر ما قاله عند المشنقة: "أحكام أصدرها قضاة من مخالفينا فاقض ما أنت قاضٍ إنما تقضي هذه الحياة الدنيا، .."ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا"، وكان آخر ما قالته أمه الثكلى: "إلهي، عليك بالظالم فاقصمه، وخذه فلا تفلته"

مات رحمه الله وهو في 32 من عمره.

يحكي روبرت ميتشل صاحب الكتاب الشهير عن الإخوان – وكان في القاهرة حينذاك – أن دبابات الجيش ومدرعاته طوّقت المدينة أيام الإعدامات، وساد جوٌّ من الحزن والكآبة، كما قامت مظاهرات مندّدة في سورية والأردن وباكستان.

هكذا قُتل هؤلاء الأبطال ظلما وعدوانا، لقد كانت إدانتهم سياسية لا قضائية، وحتى لو افترضنا أن حادث المنشية من تدبير وتنفيذ هنداوي ومحمود فما ذنب الجماعة ولم يقم دليل واحد على تورّط قيادتها فيها؟ لكنه الاستبداد والظلم والطغيان، فرحمهم الله رحمة واسعة وأجزل لهم المثوبة... "قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون".

المصدر