في ذكرى رجل المواقف
يسر جريدة البصائر أن تنشر في سانحة هذا العدد نص كلمة سماحة الشيخ عبد الرحمن شيبان التي ألقاها نيابة عنه الأستاذ محمد العلمي السائحي بمناسبة ذكرى مظاهرات 11 ديسمبر وذكرى وفاة الشيخ أحمد سحنون 08 ديسمبر 2003 في فعاليات ملتقى الشيخ أحمد سحنون الذي نظمته حركة الإصلاح الوطني يوم السبت 05 محرم 1432 هـ الموافق لـ 11 ديسمبر 2010 بفندق السفير فإليكموه:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المصطفى الصادق الأمين، المبعوث هديه ورحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أما بعد؛ فإني إذ أشكر لحركة الإصلاح وإطاراتها إشراكي في هذا الحفل الذي نحتفي فيه بذكرى مظاهرات 11 ديسمبر 1960، وذكرى رحيل العلامة الأديب والداعية الأريب، الشيخ أحمد سحنون رحمه الله، أهنئكم على هذا الربط بين المناسبتين، فإذا كانت مظاهرات 11 ديسمبر تذكرنا بخروج الآلاف المؤلفة من الجزائريين والجزائريات في ذلك اليوم المشهود، هو الذي فرض على المجتمع الدولي الاعتراف بحق شعبنا في تقرير مصيره.
وأجبر المحتل الفرنسي على التوقف عن مناوراته ومراوغاته، والدخول في مفاوضات جدية مع ممثلي قيادة الثورة التحريرية المباركة، أي أن شجاعة الشعب الجزائري الذي تحدى إرهاب المحتل ولم يثنه تهديد ولا وعيد عن النزول إلى الشوارع في كافة مدن الجزائر وقراها ليصرخ بصوت واحد:" الجزائر مسلمة" نافيا بذلك أية رغبة في الانضمام إلى فرنسا التي تخالفه عقيدة ولسانا، فكذلك لا تخلو هذه الالتفاتة إلى شخصية الشيخ أحمد سحنون رحمه الله من الإشارة اللطيفة إلى أن شجاعة جماهير 11ديسمبر 1960 ، من شجاعة أفراد هذا الشعب الحر، ومن ذا ينكر شجاعة هذا الراحل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدفاع عن أصالة هذا الشعب وقيمه وثوابته.
وإني أنتهز الفرصة التي سنحت بهذه المناسبة، لأدعو تنظيماتنا السياسية وحركاتنا الجمعوية إلى الاقتداء بحركة الإصلاح في هذا المنهج الذي نهجته في العناية برجال الأمة وقادتها، على الصعيد الديني والفكري والسياسي، حتى تضع بذلك بين أيدي ناشئتنا نماذج صالحة تترسم خطاها، وتنحو منحاها، في العطاء والبذل خدمة لهذه الأمة، وسعيا للعودة بها إلى الإبداع الحضاري، إن لم يكن عاجلا فآجلا، إذ هي أحق به من سواها، وذلك جهد تربوي جليل لابد أن نضطلع به، ولابد أن توليه قيادتنا السياسية، ومؤسساتنا التعليمية والثقافية أقصى ما تستطيعه من عناية.
وأبلغ ما تقدر عليه من اهتمام، لكون ذلك خير معين لأبناء وبنات الجزائر على التحلي بالقيم الفاضلة التي جسدتها تلك الشخصيات، من خلال ممارستها لفعلها السياسي أو الفكري أو الديني، فضلا عن أن تعلق ناشئتنا بتلك القيم التي تمثلها تلك الشخصيات، هو الذي يمكن المجتمع الجزائري من امتلاك ما يحتاج إليه من إمكانيات الصمود والتحدي، اتجاه ما يعترض سبيله من تحديات داخلية وخارجية ، ولا خلاف على أن أكثر الشخصيات جاذبية وأبلغها تأثيرا في النفوس، هي تلك التي سخرت كل طاقاتها لخدمة المجتمع مؤثرة مصلحته على مصلحتها، ويأتي في مقدمتها تلك الشخصيات التي اهتدت بهدي القرآن الكريم، وتخلقت بأخلاق الرسول عليه صلوات الله وسلامه، ولعل هذه الحقيقة هي التي دفعت عباس محمود العقاد إلى الكتابة والتأليف في هذا المجال.
ولعل اختياره للشخصيات الإسلامية في سلسلة عبقرياته أنه وجدها أكثر إشعاعا، وأشد اجتذابا، وأقدر على حمل الناشئة على الاقتداء بها، وترسم خطاها واستلهام مواقفها، ومن فضل الله على الجزائر والجزائريين، أنه قيض لها نماذج قوية من تلك الشخصيات، التي كانت نموذجا حيا لما يمكن أن ينتجه الهدي القرآني والنبوي من نماذج إنسانية رائعة، تكون ملاذا للأمة في الملمات، ونبراسا يهديها في الظلمات، ومن ذا ينكر أثر عبد الحميد بن باديس، ومحمد البشير الإبراهيمي، والعربي التبسي، ومالك ابن نبي، رحمهم الله جميعا.
ومن هذا السلف الصالح: الشيخ أحمد سحنون – رحمه الله – الذي هو موضوع احتفائنا، وأصل اجتماعنا، ذلكم الرجل الفاضل، والعالم المناضل، والداعية الحكيم، والسياسي المحنك، والشاعر الفذ، الذي اتصلت أسبابه بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين ورجالها، منذ نعومة أظفاره فكان له شرف المشاركة في نضالها، وتحمل عذاب السجون والنفي أيام الاحتلال، ثم الإقامة الجبرية والتهديد بالاغتيال فيما بعد الاستقلال.
ذلكم الرجل الذي أتم حفظ القرآن ولم يتعد الثالثة عشر من عمره، ثم تتلمذ على يدي الشيخ محمد خير الدين في قرية "فرفار" كما أخذ عن بعض شيوخ زاوية علي بن عمر بطولقة، وهو وإن حرم من إكمال تعليمه داخل الجزائر وخارجها، فإن ذلك لم يمنعه من مواصلة الدرس والطلب عن طريق المطالعة، حتى تمكن من افتكاك مكانة مرموقة في كوكبة المثقفين في الجزائر وخارجها ويكفيه شرفا أنه كان عضوا في هيئة تحرير جريدة البصائر إلى جانب الأستاذ توفيق المدني والشيخ حمزة بو كوشة، والأستاذ باعزيز بن عمر، ولعل من أهم ما تميزت به شخصية الشيخ أحمد سحنون رحمه الله هذه الميزات:
- 1 – القوة في الحق: فلقد كان رحمه اله إذا تبين له الحق في جانب وقف عنده، وانحاز إليه، ونافح عنه، ولو كان ذلك على حساب حياته ذاتها، يشهد على أنه بعد الإفراج عنه سنة 1959 خير بين التعاون مع الاحتلال أو الإعدام فاختار الإعدام دون تردد، ولكن قيادة الثورة قامت بتهريبه إلى باتنة ثم سطيف التي بقي فيها حتى الاستقلال.
- 2 – استقلالية الرأي: كان رحمه الله حريصا على الاستقلال برأيه وكان يرفض رفضا قاطعا كل الضغوط التي ترمي إلى حمله على التخلي عن رأيه، وتبني آراء لا يؤمن بها أو يراها مجانبة للصواب، وقد جر ذلك عليه متاعب كثيرة، حتى أنه تعرض سنة 1996 لمحاولة اغتيال بسبب رفضه لمحاولة استغلاله في تبرير ما كان يجري من اقتتال في الجزائر بسبب توقيف المسار الانتخابي سنة 1991.
- 3 – حرصه على وحدة المجتمع وتلاحمه: فقد كان رحمه الله يجتهد لحماية الوحدة الاجتماعية من كل خطر يتهددها، ويتصدى لكل الصراعات التي ترمي إلى تمزيق المجتمع وتقويض أمنه واستقراره، يشهد بذلك أنه هو الذي تدخل يوم 05 أكتوبر 1988 ليهدئ من روع الشباب الثائر ويحول بينهم وبين الاندفاع في إتلاف أملاك الدولة والمجتمع.
ويشهد على ذلك أنه كان يحرص على وصل الجسور بين أهل الرأي من العلماء والمثقفين والسياسيين، ورجال السلطة ممن تقلدوا الحكم في البلد، وأنه كان يرى من الضروري أن يتحقق التعاون بين أهل العلم وأهل السلطة، كما يظهر ذلك واضحا في قصيده الذي عنونه بـ ((إلى الله أشكو)) والذي قال فيه:
إلى الله أشكو ما تقاسيه أمتي
- وما هي فيه من هموم وأحزان
فذا عالم قد باع بالفلس دينه
- وذا حاكم من غير عدل وإحسان
وهل طائر دون الجناحين طائر
- وهل هو يعلو دون ما طيران
جناحا المعالي عالم متحرر
- وحاكم عدل عاش غير أناني
فإن لم يكونا فالحياة شقية
- يذوق بها الإنسان كل هوان
وإن وجدا عشنا حياة سعيدة
- نحل من العلياء كل مكان
فيا رب عجل للأنام بعالم
- يسير بهم نحو العلا بأمان
تحلى بحسن الخلق والدين والحجا
- حريص على خير الورى متفان
وسدد ولي الأمر في كل خطوة
- لنيل أمانينا بغير توان.
وهو في موقفه هذا الذي عبر عنه في قصيده الآنف الذكر، يصدر عن موقف لابن باديس رحمه الله الذي كان قد استفاده هو الآخر من مقال محمد الخضر حسين الذي نشرته له مجلة الهداية الإسلامية تحت عنوان" أولو الأمر" والذي أعاد نشره له الإمام عبد الحميد بن باديس مع التقديم له، في مجلة الشهاب في عددها الأخير الذي توقف صدورها بعده، وهو موجود في المجلد الخامس عشر ص 370 .
ومن أهم ما جاء في المقال هو قول الشيخ محمد الخصر حسين فيه:" وإذا حدثنا التاريخ عن أمة ذلت بعد عزة، أو دولة سقطت بعد قوة، فتبعة ذلك الذل أو السقوط، ملقاة على رقاب أولئك العلماء الذين لا ينصحون، أو الرؤساء الذين لا يحبون الناصحين".
4 – الغيرة الشديدة على مكونات الهوية والشخصية الوطنية: لقد كان رحمه الله حريصا على الدفاع عن البعد العربي والإسلامي للشخصية الوطنية وذلك يتضح بكل جلاء في قصيدته ((الحاكم إمام المسلمين)) حيث يقول فيه:
حاكم المسلمين يدعى إماما
- كيف عادى إمامنا الإسلاما؟
وتوارى عن شعبه وتعالى
- وتعدى حدوده وتعامى
فاستحل الحرام وهو إمام
- وإذا بالحرام ليس حراما
وإذا قام عالم ونهاه
- عن تعدي الحدود يلقى أثاما
فيضاعف له العذاب ويلقى
- في ثرى سجنه يعاني السقاما
وتطول به الإقامة في السجن
- كجان وقد يذوق الحماما
ويشهد على غيرته عن الشخصية الوطنية، أنه هو الذي قاد التظاهرة النسوية المليونية سنة 1989 ردا على دعاوى النساء العلمانيات اللواتي دعون للتغريب وإلغاء قانون الأسرة.
سادتي سيادتي: لو مضينا في تعداد خصال هذا الرجل الفذ الداعية البارع والعالم العامل لما انتهينا من ذلك ولو امتدت بنا الأيام والليالي، ولكن فيما ذكرناه ما يكفي دلالة على ما تفرد به من خصال ومزايا، نرجو من الله أن يعتدها له من حسناته، وأن يلهم شبابنا وشاباتنا الاعتبار بها، والإفادة منها ، فيما يتصدون له من أعمال، ويتخذونه من مواقف ، والله ولي السداد والتوفيق.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المصدر
- مقال:في ذكرى رجل المواقفموقع: جريدة البصائر