في دحض فكرة الخلود الصهيونية
2008-09-21
بقلم : محمد خالد الأزعر*
يمكن مقارعة الفكرة القائلة بأبدية الوجود والسيطرة الصهيونية في فلسطين ومحيطها استنادا إلى مجموعة من الحقائق. فمن ناحية، تتعارض هذه الفكرة مع منطق التاريخ وتجاربه وجدلية العلاقة بين الاستعمار والتحرير. معظم المستعمرين ادعوا من قبل الصهيونية والصهاينة بأنهم باقون في مستعمراتهم إلى الأبد، وأن زوال الحال من المحال.
وحتى أولئك القليلين الذين دثروا عدوانيتهم بفكرة «الوجود المؤقت إلى حين» لم يكونوا يضمرون سوى الأبدية والديمومة في مستعمراتهم.. ومع ذلك فقد زالت معالم هذه العملية الاستعمارية برمتها من أنحاء المعمورة، وما كان وجودها إلا مؤقتاً لفترة أو أخرى طالت أم قصرت.
وتحظى هذه الملاحظة بصدقية تاريخية أقوى بالنسبة لنماذج الاستعمار الاستيطاني السابقة على الصهيونية في المنطقة العربية. فلا الاستعمار الفرنجي بقي في فلسطين (وهذا مثل مخيف للصهيونيين) ولا الاستعمار الفرنسي والإيطالي بقيا في الجزائر أو ليبيا، على تباين الحقب واختلاف الظروف والمعطيات التي تفاعلت فيها الظاهرة الاستيطانية في هذه الأمثلة.
ولا يستطيع أحد الادعاء أن الاستعمار الاستيطاني في هذه النماذج لم يكن يظن أن وجوده أبدياً وأزلياً لا راد له ولا معقب عليه. ومن ناحية ثانية فإن إطلاق صفة الأبدية على بعض الحقائق التي جرى توليفها صهيونياً ويهودياً في الجغرافيا الفلسطينية، أمر يتعارض مع تاريخ اليهود أنفسهم. هذه مفارقة تستحق من القيادات الصهيونية عناية خاصة.
التاريخ اليهودي، وهو مجموعة تواريخ في الحقيقة، حافل بمشاهد التغير والانقلابات الفجائية إن جازت العبارة. في أوروبا مثلاً، راوح هذا التاريخ بين العدائية الشديدة ضد اليهود والاحتضان الكامل لوجودهم؛ بين الإعجاب بهم وبين الشك فيهم والكراهية أو الصداقة أو التحالف معهم. لذلك كان أولى بالقيادات الصهيونية.
وهي الأدرى بتاريخ المجتمع الذي تدعي تمثيله، أن تكون أكثر حذرا تجاه فكرة الأبدية والاستمرارية منذ الأزل وإلى الأبد. المقصود بذلك هو السؤال الآتي: لماذا تثق هذه القيادات في مسار التاريخ اليهودي (الصهيوني) في فلسطين واتساقه «إلى الأبد» فيما تدعوها قراءة التاريخ إلى غير ذلك؟.
ومن ناحية ثالثة، قد نذهب إلى أن فكرة أبدية كثير من المستجدات والظواهر التي تخلفت عن الوجود الصهيوني في فلسطين تتعارض وحقائق «الشرعية الدولية». وفي هذا السياق لا نحتاج لنفي صفة الأبدية عن هذه المستجدات سوى إلى تطبيق ما ارتضاه المجتمع الدولي تجاه الصراع الصهيوني العربي والقضية الفلسطينية.
إن هذا التطبيق بروح غير تآمرية، وبحسن نية ودون الكيل بأكثر من مكيال، سوف يتكفل على وجه السرعة ببيان أي زيف وأسطورية وتفاهة تحملها مقولات نتانياهو وأساتذته بخصوص مصير فلسطين عموماً والقدس ووادي الأردن. وعلينا أن نتذكر هنا أن المجتمع الدولي استهلك لدحض دعاوى مشابهة أخرى بالأبدية، وقتاً أقل بكثير من العقد ونصف العقد التي استهلكها لإزاحة الدعوة النازية.
ونحسب أن ما هو أوقع في دلالته على عقم الفكرة الصهيونية حول أبدية المستجدات التي نشرتها في فلسطين وكونها لا تصدر إلا عن عقل مريض، يمكن استخلاصه من تاريخ فلسطين بعامة والقدس بخاصة. إن مسار التاريخ، الشفهي منه والمدون.
يؤكد أن الثابت «النسبي الأكبر» في هذه البلاد هو الوجود العربي، وأنه إذا كان من حق قوم إدعاء الأبدية لأنفسهم ـ بالمعنى النسبي وإلا دخلنا في دائرة عدم العقلانية الصهيونية ـ في هذه البلاد فإنهم العرب تحديداً.
يقول المؤرخون الثقاة من العرب وغيرهم إن أرض فلسطين كانت ممراً لشعوب كثيرة وأقوام، بحكم توسط موقعها. لكن أقدم هذه الشعوب استقراراً وثباتاً وانتشاراً في المساحة المعروفة بفلسطين (كلها) الآن هم الكنعانيون والوافدون من الجزيرة العربية.
ومن الصحيح أن أقواماً آخرين قدموا إلى هذه البلاد أو مروا بها جيئة وذهاباً؛ غزواً أو طلباً للعيش ؛ حكاماً أو محكومين، ومن هؤلاء فراعنة مصر والهكسوس والحيثيون والحوريون والخابيرو (مرتزقة من أشور) والآراميون والبلست والعموريون واليبوسيون والسلوقيون واليونانيون والرومان والبطالمة، وغير هؤلاء في مراحل تاريخية أقرب وأحدث.
لكنهم جميعاً ما صبغوا البلاد بخواتمهم بأكثر مما فعل الآباء الكنعانيون الأوائل. وفي تاريخ هذه البلاد القديم أيضاً، ان العبرانيين مروا بها عبر ثلاث موجات، ما خرجت في تأثيرها عما فعله سابقوها ولاحقوها من الآخرين.
والحال كذلك، ما الذي يدعو القيادات الصهيونية إلى الثقة في أن التاريخ أغلق دفاتره ومضى إلى الأبد بعد غزوتهم الاستيطانية القائمة منذ نيف ومئة عام لهذه البلاد؟ ومن أين تأتي منطقية القول إن للصهيونية الكلمة النهائية في تاريخ فلسطين؟
وينطبق على القدس بالتحديد، التي يكثر استخدام تعبير الأبدية الصهيونية بخصوص مستقبلها، ما ينطبق على مجالها الفلسطيني الأرحب. فحتى الاسم الصهيوني العبري الحالي للمدينة مشتق بالتأكيد من اسمها الكنعاني (يورشاليم من اورشالم)، وأنه مع تعلق أقوام كثيرة بهذه المدينة، ومرورهم بها وحكمهم لها بل وتغير اسمها عبر تاريخها الممتد لنحو خمسة وثلاثين قرناً.
فقد ظل الثابت الأكثر بروزاً ونتوءا في تاريخها بكل أبعاده هو الوجود العربي الفلسطيني. أوليس مثيرا للدهشة أن قرابة مئة عام من عمليات تغيير معالم المدينة وتجريف الوجود العربي - الفلسطيني بها، لم تعلن الانتصار النهائي لفكرة الأبدية الصهيونية لمستقبلها، وان عمليات نضالية قوية مضادة يمكن أن تفضي إلى بيان الجوهر العربي الإسلامي الحضاري لها؟.
ومع ذلك فإن عدم استقامة «الأبدية» كمفهوم صهيوني وكفكرة يستظل بها الصهيونيون ويرددونها بتكرارية مملة وان كانت مستفزة، لا يعني بحال الكف عن مكافحتها على كل المستويات. فالتاريخ عموماً لا ينحاز إلى أحد بعينه بغض النظر عن أدائه وتعاطيه مع المتغيرات.الثبات النسبي الممتد للبعد العروبي لفلسطين أو القدس لم يكن هبة تلقائية من هذا التاريخ للعرب قديماً وحديثاً.
ثمة عمليات كفاحية مريرة خاضها الأجداد لمقاومة الدعاوى المضادة لتاريخهم كشأن الدعوة الصهيونية الحالية.. ويقيناً لا يقل الثمن المطلوب من الأحفاد لدحر الإدعاء بأبدية التاريخ الصهيوني الإسرائيلي لفلسطين، الجزء أو الكل، عما سبق أن دفعه الأجداد. إن الوعي بسخف فكرة ما يستدعى ضرورة مقاومة أضرارها العاجلة والآجلة.
- كاتب وأكاديمي فلسطيني