في انتظار ديغول اسرائيل

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
في انتظار ديغول اسرائيل


بقلم : محمد يوسف جبارين( ابوسامح)

على مدار السنين الطوال ، ظل الاستعمار الفرنسي ينبش مخالبه في بطون شعب الجزائر ، وظلت ارادة الحياة الحرة تقلم أظافره .. تلقي بفلذات أكبادها في أتون حرب شعبية ضارية .. هو يريد هدم آمالها في التحرير ، وهي تريد اقتلاعه من أرض الجزائر ، وظل الصراع حول السيادة على الأرض مريرا وداميا ، الى أن لم يعد للاستعمار الفرنسي من اختيار ، بين الامكانيات المتاحة أمامه ، الا أن يختار الرحيل عن أرض الجزائر .

عندها بدأت تبرز ، على صعيد العقلية الاستعمارية ، ضرورة الاجابة عن كيف يتم انقاذ فرنسا ، من ورطتها في الجزائر ..كيف يتأتى لفرنسا أن ترحل ، ومن دون أن يتسبب رحيلها في تصدعها من داخلها ، ومن دون أن يؤدي الرحيل الى الحاق أضرار بالغة الأثر في مكانتها الدولية .

الرحيل آنذاك بات مهمة واجبة النفاذ ، لكن الكيفية التي سوف يتم بها الرحيل ، هي بذاتها التي غدت ، في أذهان قادة فرنسا ، مهمة صعبة ، ومصدر قلق وتخوف نابع من اصرار أولئك القادة على أن يحافظوا ، على سلامة الجبهة الداخلية لفرنسا ، وعلى مكانتها بين الأمم ، وعلى مصالحها في كافة أرجاء المعمورة ، وكل ذلك لكي تستطيع فرنسا بعد الرحيل أن تستمر ، وتكون قادرة على أن تتجدد في كل الأوقات . فكيفية الرحيل ، بكل أبعادها وآثارها على فرنسا ، كانت ومن دون أدنى شك ، شغل العقل الحريص على فرنسا ، وشغل العقل المؤمن ، بأن الرحيل بذاته ، عملية تخليص لفرنسا ، من هذا الاستنزاف الاقتصادي والعسكري الذي يفرضه ثوار الجزائر ، وهو الاستنزاف الذي أوصل فرنسا حافة اليأس .

كيف يكون الرحيل ؟ سؤال فرضته مصلحة فرنسا ، وجاءت الاجابة عليه تقول ، بأن يتم ، بحيث لا يتأتى تفسيره على أنه الانهيار أو الهزيمة ، وبحيث لا يؤدي بشباب فرنسا الى فقدان ثقتهم بأنفسهم ، فالثقة بالنفس ضرورة للقدرة على الاستمرار في البناء والتجدد ، واذن مصلحة فرنسا لا غيرها اقتضت رجلا حكيما وقويا مثل ديغول ، ليقدر على جعل الرحيل حقيقة واقعة ملموسة ، وبقرار سياسي منبثق من جانب فرنسا ذاتها .

ومنذ ذلك الوقت وموقف ديغول مفيد لكل لقوة استعمارية ، لم يعد أمامها من امكان غير الرحيل ، فبدلا من أن ترحل وهي تجر من ورائها ذيول الخزي والعار ، تلجأ الى اسلوب ديغول ، الى الباس الهزيمة التي لا مفر منها ثوبا سياسيا ، يطمر الهزيمة ويخفيها ، فلا تكاد تراها أعين الباحثين عن رؤيتها ، وهذا بحد ذاته يقتضي شكلا معينا يتشكل فيه الرحيل ، ومن أجل هذا لا مناص للقوة الاستعمارية ، من اللجوء الى أصحاب الأرض الأصليين ، ففي غياب عونهم يغدو الرحيل عاريا مفضوحا بقوتهم وباعلامهم .

مهمة أصحاب الأرض الأصليين ، وكما يريدها المستعمرون الذين قد أوشك رحيلهم ، انما تنحصر في ستر عورة الرحيل ، وغالبا ما توافق الشعوب على مساعدة الغزاة ، على الرحيل من ديارها ، وذلك بعد أن تكون قد أرغمت الغزاة على اتخاذ قرار الرحيل ، وبعد أن تكون قد جعلت مصلحتهم كامنة في الرحيل ذاته .

تبرر الشعوب دورها ذلك بقولها ، بأن مهمتها ليست سفك الدماء ، وانما تحقيق النصر ، وهذه موافقة ، يترتب عليها لقاء حول طاولة مفاوضات ، بين أصحاب الأرض ، وبين الغزاة المندحرين ، وموضوع المباحثات هو بناء هيكلية الرحيل . يقولون بأن ديغول مفقود في اسرائيل ، وأقول لا بل يفتقدونه ، فهو الذي ينقصهم ويتمنونه .

لقد تردد اسم ديغول الموعود في أكثر من مناسبة ، فمن قائل بأن س هو ديغول اسرائيل المنتظر ، ومن قائل لا بل ص ، وأما أنا فأقول بأن انتفاضة الارادة الشعبية الفلسطينية واصرارها على حريتها على أرضها ، انما هي بعينها هي صانعة ديغولهم .

ومن الناس ، من تدور به قراءة الواقع المرير والمتشابك الحلقات ، فلا يدري كيف يستخرج نفسه من دوامة الحال والأحوال العاصفة بكل واد في الوطن ، فيتوه في ارباك لا يسعفه في اقامة رأي ، غير التأشير على التعقيد في اشكاليات الصراع . وعلى مناط الصعوبة في استواء على حل لاشكالية واحدة ، فكيف ... وكل اشكاليات الصراع متشابكة المتغيرات ، فلا يمكنه عقل عزل متغيرات اشكالية عن الأخرى ، خلال محاولاته الرامية الى رؤية حل ، فكيف حال الحلول لكل الاشكاليات ، وكيف حال الحل المركب منها كلها ، والذي يحال كحل كلي للقضية الكلية ، التي هي برمتها قضية المصير . ومع ذلك فثمة راء يرى ، بفكر متقد نفاذ ، يرى جملة التعقيد ، والعلاقات التي تحكمها ، وأيضا يرى ما يستتر وراء سحب ، من لا امكان موهوم بعجز ، عن قراءة مستقبلية لحركة التاريخ ، أي ما هو آيل اليه الصراع في مرحلته الحالية ،

فيصل الى القول ، بأن قوى اليمين المتطرف في اسرائيل ، الفوارة بكل عنصرية ، والغارقة بأوهام مستغرفة من الكيفية التي قامت بها وعليها اسرائيل ، وتود هذ العنصرية ، لو تتنامى بهذه الكيفية وتظل تنسخها ، من ماض الى حاضر الى مستقبل ، ولهذا فانها بالضرورة القوى العنصرية التي سوف تحول دون ظهور ديغول ، فما حاجتها الى ما يوقف غلواء صهيونية عنصرية تتأجج بها ، وتأخذ بها الى ما يموج بها من أحلام وأوهام ، فلا بد بأن ديغول هذا ، انما هو البادي لها كصاكمة ، فهو بحكم وعيها لضروراتها ، بذاته الذي لا يجب أن يكون ، فكينونيته ، تعني بأنها بذاتها ، وبكل ما بها ، بأنها التي لا يجوز لها أن تكون ، فهو الضد الذي ، لا مساومة على أن يكون ، فلا مفر من أن لا يكون ، فعلى ذلك هي وبكل ما تملك الحائل الذي يلقي بكل حوله لكي لا يكون .

لكني على فهمي لكل ما تنضح به هذه الصهيونية العنصرية ، وعلى معرفتي بالجوهر العنصري لهوية دولة يهود ، فاني بما أراه من علاقات القوة ، وكيف هي تدنو وتقترب لتتساند، في عملية تستحيل بها ، الى القوة الجوهر ، في تسيير حركة التاريخ في هذه المنطقة .

فاني استطيع أن أقول بأن الرحيل قادم .. اني أراه قادم ، فهو الممكن الوحيد الذي لا امكان لغيره أن يكون ، انتهى زمن التمدد الاستعماري في أرضي .. ولم يعد سواه التقلص والتراجع .. السير الى الوراء .. فساعة الغروب قد دنت .. والشمس في طلعتها تشرق دوما من الشرق وتغرب في الغرب ، وهكذا كان حال سير التاريخ ، في هذه المنطقة التي هي بلادي ..

دنت ساعة الممكن الوحيد الذي هو رحيل المستعمر ، وما كل مغامراته التي نراها الا محاولاته الأخيرة في تشبت بأوهامه في الأرض ، انها المنازعة الأخيرة ، وما هذه الحرارة التي تلتهب في الألفاظ وفي المواقف ، سوى الصرخات الأخيرة التي تسبق الانكفاء ، والارتكاس برغمه وغصبا عنه ، فتراجعه مرغما ، هو واقع حقائق القوة التي تدنو وتقترب ، من رسم سيره الذي ينكفىء به .. خلفا در ، ثم .. الى الأمام سر..الى حيث المكان الذي جئت منه . فهذا هو الارغام القادم ، باشراقة الحرية .. اني أراها بعيون عقلي ، بريقا يلمع في عيون الأحرار في بلادي ، فالرحيل على ذلك ، لن يكون اختيارا منساقا بقيم فاضلة ، تطل فجأة على عنصرية مستعمرين ملأوا الأرض أوجاعا وآلاما وخرابا ، ورسخوا بشاعة حالهم وسيرتهم في التاريخ ، وانما الرحيل انبثاق ، من القسر والارغام الذي يمارسه التناقض الملتهب بالتحادد ،

والذي لم يعد ينطق بغير الايماءات الدالة على نزعة حقيقية لدى المستعمر ، تطل عليه من داخل حقيقة ممكناته ، ومن داخل قتام يتخلل طموحاته ، ومن أكناف رياح تضرب في آماله ، وكلها تلح بأن يجد له مفرا يسهل له درب انسحابه من أوهامه ، الى وضع أقدامه على طريق فراره ، فهذا ضرورة هوية دولة يريدها يهودية وفقط ، وهذا حتم ثقافة الحصن الراسخة في تكوين ثقافته ومعتقداته ، وهذا ضغط هوية فلسطينية تلح على استقلاليتها في أرضها ، والزام حرية الارادة لهذه الهوية الفلسطينية ، التي ألقت بفلذات أكبادها ، في أتون كفاحها من أجل حريتها ، ودقت على كل باب في الدنيا في عملية كونية ، تحاول في خلالها ، أن تستحصل اضافة في قدرتها على بلوغ آمالها في الحرية ، فالقدرة شرط الحرية ، والوحدة شرط القدرة ، ومن موجبات القدرة استجماع الارادة الدولية لتنضاف الى القدرة الذاتية ( ذلك بأن للنشأة ظروف محيطة ومؤثرة ،

فقدرة للتنشئة ، وأخرى قدرة مستقاة من تحكم بالظروف المحيطة ، لكي تنصب كمضاف في اكمالية الاحقاق والتحقيق للنشأة ، فالانفصالية بين النشأة وبين ظروفها ، انما هو ترك للظروف تدور دورتها بكل ما بها من قوى فاعلة ، فلربما تستوي على حال مناهض للنشأة فتعيق التنشئة بدلا من أن تصب في قيامتها ) ، فالتنافذ في تلك الظروف بحثا عن التحكم بها بكل ما يخدم النشأة هو ضرورة واجبة ، ولا يجوز اغفالها ، فبها قوى لا بد من استجماعها ، وذلك من داخل المصالح المشتركة لتصب في القدرة الذاتية الموظفة في النشأة الأولى ، وما يليها من اعلاء بنانيها ، فالارادة الدولية ضرورة قيامة لنشأة الدولة ، فهي المضاف اللازم ، والمصروفة طاقاته في الاستطاعة على زحزحة الاحتلال ، الى استنقاع في عجز ، في مقدرتة على استدامة وجوده ، والى ذلك تنضاف المتغيرات الدولية ، التي لا بد تنزع يوما تحت الحاح المصالح ، الى امتصاص بؤر توتر من هذا العالم . ديغول آت ، وسوف يعاني ، من ضغوط تأتيه من جانب العناصر اليمينية المتطرفة ، وقد عانى من قبله ديغول فرنسا .. عانى من العناصر المتطرفة ، ومن فظاظة ضغوط ومؤامرات كثيرة .

جاء أبرزها من جانب منظمة الجيش السري التي تزعمها الجنرال الفرنسي راؤل سالان ، وبرغم ذلك لم يتردد ديغول في الدخول في مفاوضات مع حكومة الجزائر في المنفى ، وهي المفاوضات التي انتهت ، بالتوقيع على اتفاقية ( ايفيان ) التي حصلت بموجبها الجزائر على استقلالها السياسي .


المصدر