فصل في دبلوماسية الوقت الضائع
بقلم : عبد العال الباقوري
أخيراً، صحت الدبلوماسية العربية أو فريق منها على الأقل، على أهمية عنصر الوقت في التفاوض مع العدو الإسرائيلي، صحيح أنها صحوة متأخرة ومتأخرة جداً، جاءت بعد ضياع وقت طويل منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي إلى اليوم.. ولكن أن تأتي الصحوة متأخرة خير من أن لا تأتي، والسؤال هنا: هل هذه الصحوة حقيقية؟ أي هل تستطيع الدبلوماسية العربية أن توقف ضياع الوقت وتبديده وصولاً إلى تحقيق تسوية في الحدود التي تراهنت عليها الدول العربية واعتبرتها الحد الأدنى الذي يحقق مطالب مشروعة ومعلنة وتساندها مقررات الشرعية الدولية، بالطبع بدءاً من القرار 242 من 1967 وليس بدءاً من القرارين 181 و194 أي قراري التقسيم تقسيم فلسطين وقرار حق العودة للاجئين الفلسطينيين.
هناك شك، وشك كبير في أن تتمكن الدبلوماسية العربية من النجاح في تحديد إطار زمني لعملية التفاوض من أجل تسوية مقبولة مع العدو الإسرائيلي، وأسباب ذلك متعددة، على رأسها وفي مقدمتها موقف الولايات المتحدة المساند دون حدود أو قيود لما يريده الكيان الصهيوني.
وهذا الموقف لم يؤد إلى اليوم إلى بلورة موقف عربي يستطيع أن يقول: لا للولايات المتحدة.. ولعل هذا بات واضحاً منذ دعا الرئيس الأميركي جورج بوش في تموز/ يوليو الماضي إلى «اجتماع» جديد من أجل التسوية، وهي الدعوة التي باركتها الدول العربية جميعاً ـ باستثناء سورية ـ من خلال اجتماع مجلس الجامعة العربية، بعد أيام معدودة من تصريح الرئيس بوش، حيث أيدت الدول العربية الدعوة ورحبت بها دون أن تقف قليلاً لمعرفة مضمون هذه الدعوة، ومن الذي سيحضر المؤتمر وما هو جدول أعماله وما الذي يمكن أن يحققه. مع أن حديث بوش نفسه كان يمكن أن يثير العديد من الملاحظات والتحفظات على دعوته نفسها.
وبعد أن مرت عدة أسابيع،وبعد أن قامت كوندوليزا رايس بزيارتها إلى المنطقة، بدأ يظهر على استحياء نوع من التحفظ العربي من خلال الحديث عن جدول أعمال هذا الاجتماع، وضرورة الإعداد الجيد له، بل وارتفعت أصوات هنا أو هناك تتحدث عن إمكانية مقاطعة هذا الاجتماع.
صحيح أن هذه المطالب هي مواقف كلامية، من المعتاد التراجع عنها، ومع ذلك يمكن أن تكون مفيدة، حتى لو ظهرت متأخرة، وعلى استحياء أحياناً.
وهنا يجب أن نعرف بوضوح ما يقال علناً على لسان هذا المسؤول العربي أو ذاك، وبين ما يتم طرحه من اللقاءات والاجتماعات المغلقة.. ومع ذلك، فإن واشنطن لم تبد ارتياحاً لما بدأ يتحدث به بعض الدبلوماسيين العرب، وأحياناً الحكام العرب، فقد أدركت وزيرة الخارجية الأميركية أن «أي قائد فلسطيني لن يتمكن من القيام بعدد من التنازلات المطلوبة.. من دون دعم عربي» (نقلاً عن صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية في 3 تشرين الأول/ أكتوبر الحالي).
وكانت صديقتها تسيبي ليفني وزيرة خارجية الكيان الصهيوني سبقتها إلى القول بأن «إسرائيل معنية بأن تؤدي الدول العربية دور العامل الداعم للقادة الفلسطينيين المعتدلين».
وأضافت: «بدلاً من انتظار نهاية المسيرة، على العرب أن يوافقوا على الصفقة مع إسرائيل. رسالتنا إلى الزعماء العرب هي لا تكونوا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين».
ولم تقف وزيرة الخارجية الإسرائيلية عند هذا الحد بل قالت بوقاحة لا تحسد عليها:«إن دور قادة الدول العربية هو تعزيز المسيرة، وليس وضع العراقيل في وجهها» (هآرتس في 30/9/2007) ولا يدري أحد عن أية مسيرة تتحدث وزيرة الخارجية الإسرائيلية، التي وقع عليها الاختيار لترأس وفد المفاوضة الإسرائيلي مع الوفد الفلسطيني، حيث يجري بحث ووضع «الوثيقة المشتركة» التي ستقدم إلى اجتماع الخريف الذي أصبح يعرف باسم «اجتماع أنابوليس» مقر قيادة البحرية الأميركية.
وشيئاً فشيئاً بدأت تتكشف حقيقة النيات والأهداف من وراء هذا الاجتماع، بحيث يكون ـ في جانب منه على الأقل ـ مجرد فصل آخر من دبلوماسية الوقت الضائع.
فقد أعلنت كوندوليزا رايس في المؤتمر المشترك مع السيد محمود عباس (أبو مازن) رئيس السلطة الفلسطينية، في رام الله في يوم الاثنين 15 تشرين الأول / أكتوبر الحالي أن المؤتمر «سيضع أسساً للمفاوضات»، وتحدثت في اليوم التالي مباشرة، في القاهرة، عن أن «ما يجري هو بداية لعملية وليس نهايتها»، أما متى تكون هذه النهاية، وأية نهاية ستكون، فهذا علمه عند ربك.
والقول الفصل في ذلك أن «اجتماع الخريف ليس نهائياً» وليس حتى بداية النهاية!!؟
لكن السيد أحمد أبو الغيط وزير الخارجية المصري، وفي المؤتمر الصحفي مع وزير الخارجية الأميركية ركز على ضرورة وضع حد أو إطار زمني للمفاوضات، وقال ما يلي:
@ «المقصود بالجدول الزمني وجود إطار زمني لفترة المفاوضات بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي.
ونرحب بالطبع إذا ما تم التوصل للاتفاق المنشود قبل نهاية ذلك الإطار الزمني.
@ «إن كثيرين في العالم العربي يرون أن هناك محاولة لإضاعة الوقت والمناورة، بما يؤدي لعدم تحقيق الهدف المنشود من السلام الحقيقي.
@ «لا نريد تكرار تجربة مؤتمر مدريد الذي عقد عام 1991، عندما قال اسحق شامير رئيس الوزراء الإسرائيلي عندئذ إنه سيستمر في التفاوض عشر سنوات ولم يتحقق أي شيء.
@ «إن الإطار الزمني الذي تطالب به مصر ليس إطاراً صارماً، بل إننا نتحدث عن تاريخ مستهدف، فلتقل إنه 6 أشهر أو 9 أشهر أو عام. لكن لا نستطيع أن نتفاوض إلى نهاية التاريخ».
إن أهمية كلمات السيد أبو الغيط ترجع إلى أن المماطلة وكسب الوقت أسلوبان ثابتان من أساليب الدبلوماسية الصهيونية، منذ نشأت الحركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر إلى اليوم.
وبعد توقيع اتفاقات أوسلو في عام 1993، وقف اسحق رابين رئيس الوزراء الإسرائيلي عندئذ، ليعلن أمام الكنيست: لا توجد مواعيد مقدسة.
أما إيهود أولمرت رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي فإنه استبعد في أواخر أيلول/ سبتمبر الماضي «حدوث اتفاق مع الفلسطينيين في القريب العاجل» ورجح أن يستغرق إنجاز هذا الاتفاق ما بين 20 إلى 30 عاماً».
(صحف الكيان الصهيوني في 26/9/2007).
ومعنى هذا أن اجتماع الخريف لن يكون ـ من وجهتي النظر الإسرائيلية والأميركية ـ أكثر من اجتماع علاقات عامة من ناحية وبحيث ينتزع من العرب تنازلاً كاملاً عن «المقاطعة» واصطفاف جميع الدول العربية في درب التطبيع، خاصة الدول العربية التي لم تعترف بالكيان الصهيوني فقد جعل أولمرت من شروط العضوية في هذا الاجتماع الاعتراف بإسرائيل، بل ما يسمونه «حق إسرائيل في الوجود كدولة للشعب اليهودي» وهي صيغة كما كتب الباحث الفلسطيني المعروف سلمان أبو ستة، يراد بها من الشعب الفلسطيني «الإقرار بأن تشريده من موطنه والاستيلاء على أرضه وممتلكاته وتعرضه لأكثر عملية منظمة للتنظيف المعرفي في التاريخ الحديث هو عمل شرعي قانوني أخلاقي يقره الشعب الفلسطيني ويتنازل بموجبه عن حقه في وطنه».
إن هذه الصيغة، صيغة «حق إسرائيل في الوجود»، هي أحد الأفخاخ المنصوبة في الطريق إلى «أنابوليس» إلى جانب فخ إضاعة الوقت، وانتزاع اعتراف عربي بالتنازل عن حق العودة للاجئي 1948 ونازحي 1967، مع فتح باب التطبيع على مصراعيه.
وكل هذا يجعل الذهاب إلى هذا المؤتمر مخاطرة كبرى سواء فلسطينياً أو عربياً.
وإذا كان رفض الذهاب إلى اللقاء أو الاجتماع ليس في طاقة الحكام العرب والفلسطينيين الذين لم يعودوا بقادرين على أن يقولوا لأميركا: لا، فلا أقل من الاستمساك بوضع إطار زمني محدد وملزم للتسوية، التسوية التي لا يجب أن تمس حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وفي إقامة دولته المستقلة. هل هذا ممكن؟.
وإذا لم يتحقق هذا الممكن وفي مدى زمني محدد، فإننا لن نكون فقط أمام فصل جديد في دبلوماسية الوقت الضائع، بل سندخل في دوامة ضياع الحقوق الثابتة والأصلية، والتي لا يجوز التنازل عنها، ومرة أخرى: هل هذا ممكن؟.
إنه ممكن لو توفرت إرادة عربية قوية، لا تفرط اليوم فيما استمسكت به أمس، ولا تفرط غداً فيما تستمسك به اليوم.
المصدر
- مقال:فصل في دبلوماسية الوقت الضائعالمركز الفلسطينى للتوثيق والمعلومات