عندما كان أمير المؤمنيين ...
عندما كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) جالساً يداعب أحد أبنائه الصغار ويقبله دخل عليه رجل وقال أتداعب أبناءك يا أمير المؤمنين وتقبلهم ؟! فقال له عمر نعم ، فقال الرجل إن لي أحد عشر أبناً لم أقبل منهم أحداً وما يجرؤ أحدهم على الاقتراب مني ، فقال له عمر ( رضي الله عنه ) وما يدريني لعل الله نزع الرحمة من قلبك وكان أمير المؤمنين عمر قد كتب كتاباً لتولية هذا الرجل بعض أمر المسلمين فمحاه تقديراً منه أنه إذا كان الله قد نزع الرحمة من قلب هذا الرجل على أولاده فكيف سيكون رحيماً بالناس .
تذكرت هذه القصة وأنا أستمع إلى خبر سخرية وزير العدل من المستشار يحيى دكروري رئيس نادي قضاة مجلس الدولة عندما دمعت عيناه تأثراً من عجزه عن فعل شيء من أجل الزميل القاضي الشاب الذي داهمه مرض خطير يمكن أن يودي بحياته أو يبقيه رهين المرض والعجز طول حياته دون أن يستطيع رئيس النادي فعل شيئ مع إمكان العلاج ، وهو إحساس خطير بالعجز والشفقة ملأ قلب الرجل بالرحمة ففاضت عيناه من الحزن والأسى وهو كظيم .
والبكاء في مثل هذه الحالات رحمة وإحساس نبيل لا يفعله إلا ذوي القلوب الرحيمة والمشاعر الرقيقة ، وهو أمر يحمد لصاحبه ولا يمكن أن يكون مدعاة للسخرية والاستهزاء إلا ممن كان قلبه قد قُــد من صخر بل أقسى لأن الله سبحانه وتعالى جعل من الحجارة ما يشقق فتخرج منه الماء ومنها ما يخر من خشية الله ولذلك فإن قلوب بعض البشر أحياناً تكون أقسى من الحجارة وهو أمر نعيشه ونشاهده هذه الأيام بكثرة حيث لا تتحرك القلوب ولا تدمع العيون لمن يموتون عطشاً أو جوعاً أو تعذيباً أو في العراء دون مأوى أو يفارقون الحياة بإرادتهم ياساً وسخطاً .
البكاء الذي لا يثير شفقة ولا يدعو إلى احترام صاحبه هو البكاء خوفاً من عقاب أو طلباً لعطاء لأنه في ذلك إذلال للنفس البشرية يجب أن تترفع عنه هامات الرجال ، وقد أعجب الناس بصدام حسين - مع كرهه – لاستقباله الموت دون رهبة أو ضعف ، أما البكاء تأثراً لألم مصاب لا تقدر على إسعافه أو مظلوم لا تستيطع إنصافه أو فراق حبيب لا تحب أن تفارقه فهذا أمر إنساني جبلت عليه الطبيعة السوية للإنسان وقد بكى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عند فراق أبنه إبراهيم وقال إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول ما يغضب الرب وإنّا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون ، وحمد الرسول من تفيض عيناه من خشية الله وجعله من السبعة الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله ، البكاء إذن في المواقف الإنسانية بكاء محمود بل إن من لا يبكي فيه إنسان متحجر القلب معدوم الإحساس والسخرية ممن يبكي في هذه المواقف لا يفعلها إلا لإنسان متحجر القلب نزع الله الرحمة من قلبه فصار أشد من الحجارة قسوة .
لا أعرف ماذا يقصد وزير العدل بقوله إن المستشار يحيى دكروري كان يبكي كما تبكي أمينة رزق ؟ هل يقصد إنه كان يؤدي دوراً لكي يجلب تعاطف الناس ؟ أي إنه كان يمثل دور المتأثر من الموقف وهذا في حد ذاته إهانة لرئيس النادي والقضاة جميعاً ، أم أنه يقصد السخرية من طريقة التعبير عن التأثر بالبكاء وهذا إن كان قصد الوزير فهو لا يمثل إهانة لرئيس المجلس فقط بل إهانة للفنانة القدير السيدة أمينة رزق رحمها الله والتي كانت تؤدي أدوار التاثر بصدق يدفعنا جميعاً إلى مشاركتها هذا الإحساس المرهف الصادق وبذلك يكون وزير العدل بقوله هذا يسخر ليس من رئيس المجلس الزميل المستشار يحيى دكروري والقضاة بل يسخر أيضاً من الفنانة القديرة المرحومة أمينة رزق مما يعطي الحق لورثتها لرفع دعوى تعويض عن إهانتها وبذلك يكون الوزير في الفترة القصيرة التي قضاها في الوزارة قد تسبب في زيادة عدد القضايا وإرهاق القضاة وهو الذي من مهمته حل مشكلات بطء التقاضي وتكدس القضايا في المحاكم .
نشرت بعض الصحف أنباء طلب رئيس الجمهورية تقارير من عدة جهات عن صلة وزير العدل بالقضاة وتصرفاته معهم والحقيقة التي يعرفها الجميع أن هذا الأمر لم يكن في حاجة إلى تقرير ولا نحب القول أن الرئيس لا يعلم بتصرفات الوزير من يوم توليه الوزارة حتى الآن وهو الذي عمل على إصلاح بعض ما أفسده بتصرفاته فهو إذن يعلم بها وأعتقد أن الوزير لم يكن ليتصرف بـهذه الكيفية إلا أعتماداً على ثقته في مساندة الرئيس له في أفعاله ، حقاً إنه قد يكون قد خرج عن النص بعض الشيء وتصرف بطريقة لا ترضي الرئاسة وتحرج الرئيس ولكن الأمر الذي لا شك فيه أنه يتصرف اعتماداً على رضاء الرئيس ويضرب بعصاه ظناً أن ذلك يرضيه ويحقق طلبه في إسكات صوت القضاة ولذلك فإن تصرف الرئيس بطلب التقرير غير مفهوم وهو ما يفسره البعض بأنه مهلة لكي يعطي الرئيس نفسه فرصة لدراسة القرار وتهدئة الأجواء حتى لا يقال أن الرئيس استجاب سريعاً لرغبة القضاة وخضع لإرادتهم وهو ما لا يحبه الرئيس الذي يحب أن تكون تصرفاته من وحي عقله وقلبه هو لا استجابة لرأي أو طلب من يهمهم الأمر .
يا سيادة الرئيس اختيار الحكام والوزراء أمر خطير وكثرة الشكوى من المسئول تدل على فشل سياسته وهو فشل يتحمل نتيجته أمام الله والناس من اختاره لشغل هذا المنصب لأنه لم يحسن الاختيار ولأنه عندما تبين له فشله لم يعزله ورحم الله عمر بن عبد العزيز عندما كان أميراً للمؤمنين وجاءته بعض الشكايات عن أحد الولاة فقد أرسل له خطاباً يقول له فيه كثر شاكوك وقل شاكروك فإما اعتدلت وإما اعتزلت ، وصاحبنا يبدو أنه في طبعه حب للسلطة ولا يريد أن يستقيل ولذلك فإنه يجب أن يقال أو يعزل إلا إذا كان الرئيس موافق على سياسته وما يقوم به وبذلك تكون تصريحات الرئيس في احترامه للقضاء ورجاله متناقضة لفعله بالإبقاء وتشجيع من تقول تصرفاته وأقواله بعدم احترام استقلال القضاء أو احترام رجاله .
ما حدث من وزير العدل مع الزملاء قضاة مجلس الدولة لا يعتبر إهانة لهم وحدهم بل إهانة للقضاء بصفة عامة وهو ما ينبغي أن يهب الجميع للرد عليه بقوة ولا أعتقد أن هناك من يتخلف عن ذلك إلا قلة هي دائماً متخلفة عن أي عمل جاد يدافع عن الكرامة والعزة وهذه لا يجب وضعها في الحسبان والتفرقة في هذا الأمر بين قضاة مجلس الدولة والقضاء العادي هي تفرقة المقصود بها شق وحدة الصف لإضعاف موقف القضاة حتى لا تجتمع كلمتهم على سواء فتكون قوة يعمل لها ألف حساب وتنتزع حقوقها كاملة من بين أنياب من يردي السيطرة عليها وإضعاف شأنـها .
يا قضاة مصر أنتم من يغضب لشرف الأمة وكرامة الإنسان وتحمون الحرية والكرامة والشرف فهل يمكن أن تهان كرامتكم وتمس عزتكم ولا تغضبون ، من قبل اتـهمكم الوزير بالجهل أمام نواب الشعب ولم تفعلوا شيئاً وهو ما شجعه على التمادي في الإهانة حتى وصل الأمر إلى ما وصل إليه الآن فماذا تنتظرون ، ولتعلموا أن الرجل لا تردعه شكوى يعرف مصيرها ولا جمعية عمومية ولا بيان يتلى وينشر ويقرأ ثم ينسى بل يردعه موقف قوي عملي ولا أقل من إيقاف الجلسات حتى يتم الاستجابة لجميع مطالب القضاة في الاستقلال الحقيقي ، كما يجب إحياء دوركم في الجمعيات العمومية للمحاكم فهي سر قوتكم والحفاظ على هيبتكم وتفعيل دوركم في إدارة العدالة وعدم التخلي عن سلطتكم في إدراتـها .