علاَّمة الزبير الشيخ ناصر الأحمد
المستشار عبد الله العقيل
مولده ونشأته:
هو الشيخ العلاّمة زينة علماء الزبير والفرضّي الذي لا يُبارى في عصره ناصر ابن إبراهيم الأحمد، ولد في (الزبير) سنة 1322هـ 1891م وهو من أهل (التويم) في نجد، ثم نزح والده إبراهيم إلى الزبير وتزوج فيها، وقد توفي والده وهو ابن ست سنوات، فنشأ في بيت عمه عبد الرحمن الأحمد.
تلقى العلم على بعض المشايخ في الزبير كالشيخ عبدالله بن حمود والشيخ محمد بن عوجان والشيخ عبد العزيز الناصري وغيرهم.
تأسيس مدرسة النجاة:
حين أسس العلاّمة الموريتاني الشيخ محمد الأمين الشنقيطي مدرسة النجاة الأهلية في الزبير سنة 1340هـ 1920م بالتعاون مع أهل الزبير الذين انتخبوا من بينهم هيئة إدارية ضمَّت كلاًّ من: (محمد الأمين الشنقيطي، محمد العسافي، أحمد التركي، سليمان السويدان، إبراهيم البسام، محمد العقيل، عبد المحسن المهيدب، عبد الرحمن الفريح، داود البريكان) باشرت بتجميع التبرعات واستئجار بيت كبير ليكون مدرسة مؤقتة لحين الفراغ من مشروع البناء، وفتحت المدرسة أبوابها وكان من أوائل المدرسين فيها: (عبد الرزاق الدايل، أحمد الخميس، علي السبيعي، أحمد العرفج، عبدالله المزين، يوسف الجامع، جاسم العقرب، ناصر الأحمد، عبد الرحمن الهيتي، عيسى الشرهان)، وبعد عامين تم بفضل الله بناء المدرسة، فانتقل المدرسون والطلبة والإدارة إليها، وكانت ثمرة من ثمار التعاون على البر والتقوى.
معرفتي به:
عرفتُ أستاذي الجليل ناصر الأحمد منذ كنت في المرحلة التمهيدية بمدرسة النجاة سنة 1936م، وكان ـ يرحمه الله ـ مديرها آنذاك، وكنت رغم صغر سني، أدرك أن الرجل فيه من الصفات التي تجعله محبوباً ومحترماً من الناس جميعاً، لما يتصف به من المهابة والوقار، والبشاشة وحسن الخلق، كما أن نور الإيمان يشع من وجهه، ومظاهر الجد والحزم واضحة في تصرفاته.
وحين كبرتُ في السِّنِّ، توثقتْ علاقتي به، وازددت قرباً منه، بحكم الجوار في السكن وكثرة اللقاء به، ولم تمنعني الدراسة في البصرة ثم بغداد فالقاهرة عن التردد على مجلسه وزيارته، حتى إذا تخرجت في الجامعة والتحقت مدرساً في مدرسة النجاة صار لقاؤنا به كل يوم في الصباح بالمدرسة وفي المساء بمجلسه العلمي في بيته.
وكان ـ يرحمه الله ـ بارعاً في علوم كثيرة كالتفسير والحديث والسيرة والتراجم والفقه وبخاصة الفرائض والرياضيات ومسك الدفاتر والفلك والجغرافيا وعلم النبات والحيوان، فهو بحق موسوعة علمية تجمع بين القديم والجديد والأصالة والمعاصرة يعيش أحداث عصره ويواكب تطورات الحياة ويرقب ما يستجد من الأحداث بعين الناقد البصير، ويؤكد على صلاحية دين الإسلام لكل زمان ومكان، وكنا مجموعة من طلبة العلم ومدرسي النجاة نواظب على حضور مجلسه ونستفيد من توجيهاته وإرشاداته فقد كان مخلصاً في قوله وعمله، يؤثر التدرج على الطفرة، والهدوء على الضجيج ويبتعد عن الأنظار ولا يحب المظاهر ولا يتصدَّر الصفوف ولا يكثر الاختلاط إلا بالقليل من الصالحين من طلبة العلم والدعاة العاملين لمصلحة الإسلام والمسلمين.
وهو من المقلين في الفتاوى، حيث يجيب السائلين والمستفتين عن استفساراتهم بإيراد أقوال المذاهب مع أدلتها ويترك للسائل اختيار ما يراه منها دون ترجيح لشدة ورعه وزهده وعزوفه عن الفتيا وتواضعه.
مجلس العلم:
وكان مجلس العلم في بيته يضم الكبار في السن والشباب من طلبة العلم وأذكر منهم على سبيل المثال: «عبد المحسن المهيدب، عبد العزيز السويلم، ناصر الزير، وإبراهيم الناصر، ناصر السويدان، عيدان الحدبان، إبراهيم المبيض، جاسم الجامع، يعقوب العقيلي، سعود العقيل، عبد العزيز السنيد، إبراهيم الصقير، محمد الخضيري، محمد الصفطاوي، عبد العزيز الربيعة، عبدالله العقيل، عمر الدايل، هاني بسيسو، وعبد الرحمن الديحان، ومحمد العرفج، ويعقوب الصالح، وعبدالله الرابح.. وغيرهم»، بل كثيراً ما يفد إلى المجلس أناس من خارج الزبير للتزود من علمه والتعرف إلى شخصه، والاستفادة من توجيهاته.
وهو عالم ورع وتقي وزاهد ترى إشراقة النور في وجهه، يلقاك بكل الحب والتقدير ويرحب بك ويفسح لك في مجلسه، ويستمع إليك بكل مشاعره وأحاسيسه، ويأسرك بحديثه، ويغمرك بعطفه وكثيراً ما يكرر في مجلسه، بأن فساد الزمان وهوان الناس وضعفهم أمام الأعداء والانغماس بالمادة، لا علاج له إلا بالعودة إلى الدين الصحيح والمنهج القويم الذي جاء بكتاب الله وسُنَّة رسوله (صلى الله عليه وسلم)، وأن التربية الروحيـة والبناء الخلقي والتسلح العلمي، هو خير الزاد بعد تقوى الله وإخلاص النية له، في مواجهة التحديات الكبرى ضد الإسلام والمسلمين، وأن منهج الإمام الشهيد حسن البنا في تربية الشباب وجمع المسلمين على كلمة سواء أثبتتْ أنه أنجح المناهج المعاصرة لإقامة المجتمع الإسلامي لأن العمل الجماعي هو خير وسيلة للوقوف أمام الأفكار الوافدة، والمبادئ الهدامة، فالسيل لا يوقفه إلا سيل أشد منه، والتيار لا يصدّه إلا تيار أقوى منه.
إن تجربة الإخوان المسلمين التربوية بمصر من أنجح التجارب التي وفق الإمام البنا لإرساء قواعدها، فقد وفقه الله أن يجمع سائر طبقات المجتمع على منهج الإسلام المستقى من الكتاب والسُّنَّة وما أجمع عليه سلف الأمة، وخير مثال على هذا: هذه النماذج من المدرسين بمدرسة النجاة من الإخوان المسلمين، الذين تربّوا بمدرسة حسن البنا، فهم ترجمة صادقة عن الإسلام قولاً وعملاً، وقد نجحوا في تربية تلامذة النجاة وأبناء الزبير حتى أحبَّهم الصالحون من أهل الزبير.
يقول العلاّمة د. يوسف القرضاوي في كتابه القيم (التربية الإسلامية ومدرسة حسن البنا):
«.... إن تربية المسلم الذي يكتفي من الإسلام بالصلاة والصيام والذكر والدعاء، وإذا ذُكر أمامه حال الإسلام والمسلمين اقتصر على الحوقلة والاسترجاع، غير تربية المسلم الذي يغلي صدره غيرة على الإسلام، كما يغلي القِدر فوق النار، ويذوب قلبه أسى على المسلمين، كما يذوب الملح في الماء، ثم يحوِّل ذلك الأسى وتلك الغيرة إلى قوة دافعة للعمل وانطلاقة باعثة على التغيير، هذا هو المسلم المنشود الذي لا يستسلم للواقع، بل يعمل على تغييره كما أمر الله، ولا يعتذر بالقضاء والقدر، بل يؤمن بأنه هو قضاء الله الغالب وقدره الذي لا يرد، إنه المسلم الذي يعمل لإقامة رسالة، وبناء أمة، وإحياء حضارة...».
ولقد قال لي يرحمه الله أكثر من مرة وفي أكثر من مجلس: «إن خير ما قدّمته لمدرستك وأهل بلدك هو هذا الاختيار الموفق للمدرسين من الإخوان المسلمين الذين كانوا نماذج صادقة للمدرس المسلم، وخيراً وبركة على أهل الزبير بعامة ومدرسة النجاة بخاصة ونرجو أن يكون ذلك في ميزان حسناتك».
لقد كان أستاذنا الشيخ ناصر الأحمد قمة في الخلق والعلم والدين والزهد والورع والتقوى والبعد عن مواطن الشبهات، فيه عزة المسلم، وأنفة المؤمن، وإخلاص العالم، وكان كثير الاهتمام بشؤون المسلمين، يتقصى أخبارهم ويسأل عن أحوالهم، فيفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم، ويدعو للدعاة الصالحين والعلماء العاملين، ويدعو على الظلمة المستبدين والحكام المتسلطين ويبشر بقرب الفرج للمسلمين.
حلِم وتواضع:
وهو واسع الصدر حليم على الجهلة، يتبسَّط معهم، ويصغي بكليته إلى مشكلاتهم، ويرأف بهم، ويخاطبهم عى قدر عقولهم، ويستوعب ما يُعرض عليه من المشكلات والمعضلات، ويشير بالحل الذي يوفقه الله إليه ويراه مناسباً، كما أنه متواضع مع الصغير والكبير والغني والفقير يتعفف عن هدايا الكبراء ويبتعد عن غشيان مجالسهم، باستثناء الصالحين منهم وأهل الخير والإحسان الذين يعرفون حق الله في أموالهم ويوطئون أكنافهم للناس جميعاً.
وهو لطيف المعشر يحب الدعابة في حدود الأدب الإسلامي، فيمزح مع محبيه وتلامذته ورواد مجلسه ويشارك في الرحلات الخلوية الجماعية مع مدرسي النجاة في العطل وأيام الربيع ويسرد القصص والحكايات التاريخية والواقعية لإدخال السرور على قلوب الجميع ويشير إلى الحكمة والعبرة في كل قصة من تلك القصص للاستفادة منها.
وهو حين تنتهك حُرمات الدين أو يُساء إلى الصحابة والتابعين ومن سار على منهجهم من الدعاة العاملين يثور كالأسد الهصور، ويغضب حتى يحمرَّ وجهه ويقول كلمة الحق لا يخاف لومة لائم، ولم يأخذ من المدرسة سوى مرتب رمزي يستعين به مع إيراد النخيل الذي يملكه بالبصرة لسد حاجته وأهله، ولم يسبق له أن طلب من أحد شيئاً لنفسه، ولكنه فيما يتعلق بجمع التبرعات للمدرسة، لا يتردد في مخاطبة أهل الخير من التجار المحسنين، لأنه يريد لهذه المدرسة الاستمرار في النمو المطرد لأداء رسالتها السامية، وله خطبة سنوية في الحفل الذي تقيمه المدرسة لجمع التبرعات من أهالي الزبير، يهيب بهم إلى البذل من أموالهم لدعم المدرسة ويغلب عليه الانفعال والبكاء أثناء إلقائها.
مقابلة الملك سعود:
إن الشيخ العلاّمة ناصر الأحمد من الأعلام المعاصرين الذين كان لهم دور مهم في رفد الصحوة الإسلامية ونشر العلم الديني وتربية أبناء الجيل على منهج الإسلام القويم، وقد صرف جل اهتمامه لمدرسة النجاة وكان يعمل الليل والنهار ويبذل قصارى جهده لتؤدي رسالتها وتنهض في تربية الجيل المؤمن الذي يحمل رسالة الإسلام ويؤدي دوره في الحياة على أكمل وجه، وحين تعرَّضت المدرسة لأزمات مالية بسبب قلة الموارد من جهة وتوسع المدرسة من جهة أخرى لم يهدأ له بال حتى شمَّر عن ساعد الجد وقام بنفسه رغم كبر سنه برئاسة وفد إلى المملكة العربية السعودية، ضم كلاًّ من: ناصر الأحمد، وجاسم الجامع، وعبدالله العقيل، وقابل الوفد جلالة الملك سعود بن عبد العزيز الذي قدَّم له الدعم السخي، كما تبرَّع الكثيرون من أهالي الرياض والدمام والخُبَر، وبخاصة خريجي مدرسة النجاة بمبالغ طيبة وشكَّل وفداً آخر لزيارة الكويت وجمع التبرعات من أهل الخير فيها الذين لم يتأخروا عن رفد المدرسة ومساعدتها، كما أوصاني حين استقرَّ بي المقام في الكويت بالاتصال بجميع من درس بمدرسة النجاة سواء كانوا في الكويت أو المملكة العربية السعودية لدعوتهم للإسهام المستمر بدعم نشاط المدرسة، وكان يحرص على أن يكون أساتذة المدرسة من أصحاب الدعوة وذوي الكفاءات العلمية الذين يتركون الأثر الطيب والقدوة الصالحة في نفوس تلامذتهم.
ولقد استمرت المراسلة بيننا وأنا في الكويت وهو في الزبير وكنت أنتفع بتوجيهاته وإرشاداته وأستشيره في الكثير من أموري الخاصة والعامة وأسعد بآرائه الصائبة ونصائحه الغالية.
علمه وتواضعه:
إن أستاذنا العلاّمة الشيخ ناصر الأحمد شيخ العلماء بالزبير بلا منازع وهو الصورة المشرقة المضيئة لما يجب أن يكون عليه العلماء من حيث سعة الاطلاع والتبحر في العلم ومتابعة ما يستجد في واقع الحياة المعاصرة.
ولقد كان يستدرك على الشيخ محمود شلتوت فتاواه في المواريث المنشورة بمجلة الأزهر، كما كان يستدرك على الشيخ محمد أبو زهرة فتاواه في المواريث المنشورة في مجلة لواء الإسلام.
كما كان علماء الموصل وبغداد والقضاة الشرعيون في مختلف المناطق يرجعون إليه في المشكل من مسائل المواريث التي تعرض عليهم، في الوقت الذي يتهيب فيه من أن يؤم المصلين في المساجد أو يخطب الجمعة، بل كان يقدم تلامذته وتلامذة تلامذته على نفسه في الإمامة والخطابة من شدة زهده وورعه حتى إنه لم تطبع له كتب رغم غزارة علمه، باستثناء كُتيب صغير عن مناسك الحج، لأنه كان عزوفاً عن التأليف كعزوفه عن الإمامة في المصلين وخطبة الجمعة في المساجد، وكان كل حرصه منصبَّاً على الاهتمام بتلامذة النجاة ليكونوا في المقدمة من الناحية العلمية والخلقية والدينية وقد حقق الله أمنيته فقد كان أكثرهم كذلك والحمد لله، وقد أخذوا مواقعهم واحتلوا مكان الصدارة في مختلف ميادين الحياة بالجد والمثابرة والصدق والأمانة فخدموا أنفسهم وأمتهم ودينهم ووطنهم.
ترغيبه بالهجرة إلى المدينة المنورة:
وكان ـ يرحمه الله ـ يُرغب في الهجرة إلى المدينة المنورة باعتبار أن الإيمان يأرز إليها، ويورد الكثير من الأحاديث النبوية عن فضل المدينة وضرورة الحرص على السكنى فيها والموت فيها.
ولقد استجاب لدعوته بعض رواد مجلسه أمثال الشيخ إبراهيم الناصر والحاج عيدان الحدبان، وعبد المحسن البابطين، وآخرون، هاجروا إليها، وكان يتمنى ذلك لنفسه لولا حرصه الشديد على مدرسة النجاة وخوفه من التفريط بمسؤوليتها، لأنه يعتبر القيام بشؤونها نوعاً من الرباط في سبيل الله وثغرة من الثغرات التي لا بد من حراستها.
وفاته:
انتقل إلى جوار ربه يوم 25/7/1962م وهو يتجول في بستان النخيل الذي يملكه بالبصرة، حيث أصيب بنزيف في المخ توفي على أثره مباشرة.
وقد شُيع في جنازة مهيبة حضرتها جموع غفيرة من البصرة والزبير وصُلِّي عليه في (مصلى العيد) لعدم اتساع المسجد الجامع لجموع المشيّعين فكانت أكبر جنازة في العقود الأخيرة، ودفن في مقبرة الزبير.
نسأل الله عز وجل أن يتولاه برحمته وأن يسكنه فسيح جناته مع النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.
المصدر
- مقال: علاَّمة الزبير الشيخ ناصر الأحمد موقع عبدالله العقيل