عقله العظيم وفطانته عليه الصلاة والسلام
بقلم:الشيخ سعيد حوى
محتويات
- ١ مقدمة
- ٢ ومن نقاشه مع وفد نصارى نجران كما ترويه كتب السيرة في أمر عيسى هذا المقطع :
- ٣ ومن وصاياه صلى الله عليه وسلم :
- ٤ ومن خطبة طويلة له عليه الصلاة والسلام حفظ منها أبو سعيد الخدري ما يلي :
- ٥ - عن معاذ بن جبل – رضي الله عنه - :
- ٦ عن أبي ذر – رضي الله عنه – قال :
- ٧ ويختم العقاد كلامه في هذا الموضوع بقوله :
- ٨ المصدر
مقدمة
إن الصفة الرابعة للرسل عليهم الصلاة والسلام هي الفطانة وهي الصفة الملازمة للتبليغ .
إذ الرسول معرّض وهو يقوم بعملية التبليغ لمناقشات لخصوم أو لتساؤلات الأتباع أو لاعتراضات المشككين وانتقاداتهم ، فلا بد أن يكون لديه من الذكاء وقوة البيان وحدة العارضة ما يستطيع به أن يدحض شبه الآخرين فلا تقوم لهم حجة ، إذ لو قامت لهم حجة لما كان له عليهم سلطان وذلك مقتضى قوله تعالى : {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} .
وهذا لا يتم إلا بأن تكون دعوة الرسول حقاً كلها ، إذ غير الحق لا تكون حجته واضحة ، والباطل دائماً حجته داحضه ، ولا يتم كذلك إلا بعقل يستطيع إحكام الحجة في العرض . فكم من حق لم يجد عقلاً فضاع ، ولا يتم هذا كله إلا بفصاحة وبيان يمكن بهما عرض الحجة بالشكل الأكمل ، ولا يتأتى هذا إلا لأعلم الناس وأذكى الناس وأفصح الناس .
فالناس يتفاوتون علماً ويختلفون اختصاصاً . فمنهم رجل الدين , ومنهم السياسي ، ومنهم الاقتصادي ، ومنهم الطبيب ، ومنهم رجل الحكمة ومنهم ومنهم . وكل واحد من هؤلاء ينبغي أن تقام عليه الحجة فما لم يكن الرسول أعلم الخلق لا يستطيع إقامة الحجة .
والناس يتفاوتون ذكاء وقوة حجة وعارضة ، والرسول مهمته أن يقيم الحجة على كل البشر فما لم يكن أذكى البشر فإنه لا يستطيع أن يفعل .
وإنسان يحتاج إلى هذا كله لا بد له من لسان مبين , وفصاحة عظيمة ، حتى قال موسى يوم كلفه الله بالوحي : {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُواْ قَوْلِي} .
وباجتماع هذه الجوانب كلها تتحقق صفة الفطانة عند الرسول وتدل بذلك على صاحبها أنه رسول الله حقاً مع استكمال بقية الشروط .
فالحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
والحجة الكاملة البينة الخاصة فيه .
والعرض السليم الكامل الأداء .
وإلزام الخصوم العجز عن أن يكون لهم موقف حق إلا بالمتابعة .
كل هذا لا يتأتى إلا لدعوة الله المحيط علماً بكل شيء ، ولرسوله الذي يختاره أهلاً لحمل دعوته {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} .
2- وباستعراضنا لهذه الجوانب عند رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم نجد أن له من كل شيء ذروته ، فمن حيث إن دعوته كلها حق فذلك لا مرية فيه وتحقيق ذلك في كل بحوث هذا الكتاب .
ومن حيث الفصاحة فهو أفصح العرب على الإطلاق وأبينهم لغة ونطقاً وأداء .
ومن حيث إقامة الحجة فإنك لا تجد إنساناً يستطيع إقامة الحجة المقنعة على كل إنسان حسب مستواه العقلي بكل بساطة كما كان يفعل رسول الله r، وبهذا تأتّى له أن يقيم الحجة على الناس بدينه كله ، عقيدة وعبادات وسلوكاً ومنهاج حياة ، هذا مع توفيق الله له ، وحكمته – جل جلاله – في أن جعل القرآن الكريم قد فصّل كل شيء ، وحاجّ كل إنسان فحجّه ، فكان القرآن مع حديث رسول الله r الصحيح كما فحصه علماء الحديث – وهما محفوظان – حجة الله على البشر في كل جيل إلى قيام الساعة .
3- ولتوضيح ظهور هذه الجوانب عند رسول الله r . سنختار نماذج من مناقشاته يقيم بها الحجة على آخرين ومن خطبه أو كتبه يدعو بها إلى شيء من شريعته ومن كَلِمِهِ المعلل بالحكمة في الأمر أو النهي أو الخير مما يدلك على مدى ملكة الإقناع التي وهبها الله لرسوله حتى جعله أكمل الخلق في كل الخلق :
أخرج عبد الله بن أحمد وأبو يعلى عن سعيد بن أبي راشد قال : رأيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص وكان جاراً لي شيخاً كبيراً قد بلغ الفناء أو قرب ، فقلت ألا تخبرني عن رسالة هرقل إلى رسول الله r ورسالة رسول الله r إلى هرقل ؟ قال : بلى ... وذكر الحديث ومن جملته :
" فانطلقت بكتابه ( أي كتاب هرقل ) حتى جئت تبوك فإذا هو جالس بين أصحابه على الماء . فقلت : أين صاحبكُم ؟ قيل : هاهو ذا . فأقبلت أمشي حتى جلست بين يديه فناولته كتابي فوضعه في حجره ثم قال : ممن أنت ؟ قلت : أنا أحد تنوخ . فقال : هل لك في الحنيفية ملة إبراهيم ؟ قلت : إن رسول قوم وعلى دين قوم لا أرجع عنه حتى أرجع إليهم . قال : {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} .
إلى أن قال : ثم إنه ناول الصحيفة رجلاً عن يساره فقلت : من صاحب كتابكم الذي يقرأ لكم ؟ قالوا : معاوية ، فإذا في كتاب صاحبي يدعوني إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ، فأين النار ؟ فقال رسول الله r : سبحان الله فأين الليل إذا ذهب النهار " .
قال الهيثمي : رجال أبي يعلى ثقات ورجال عبد الله بن أحمد كذلك .
أخرج ابن خزيمة عن عمران بن خالد بن طليق بن محمد بن عمران بن حصين قال : " حدثني أبي عن أبيه عن جده أن قريشاً جاءت إلى الحصين – وكانت تعظمه – فقالوا له : كلم لنا هذا الرجل فإنه يذكر آلهتنا ويسبهم ، فجاءوا معه حتى جلسوا قريباً من باب النبي r فقالوا : أوسعوا للشيخ . وعمران وأصحابه متوافرون . فقال حصين : ما هذا الذي بلغنا عنك . إنك تشتم آلهتنا وتذكرهم وقد كان أبوك حصينة وخيراً ؟ فقال : يا حصين إن أبي وأباك في النار ، يا حصين كم تعبد من إله ؟ قال سبعاً في الأرض وواحداً في السماء . قال : فإذا أصابك الضر من تدعو ؟ قال : الذي في السماء . قال : فإذا هلك المال من تدعو ؟ قال : الذي في السماء . قال : فيستجيب لك وحده وتشركهم معه ، أرضيته في الشكر أم تخاف أن يغلب عليك ؟ قال : لا واحدة من هاتين ، قال : وعلمت أني لم أكلم مثله .
قال : يا حصين أسلم تسلم .
قال : إني لي قوماً وعشيرة فماذا أقول ؟
قال : قل اللهم أستهديك لأرشد أمري ، وزدني علماً ينفعني .
فقالها حصين فلم يقم حتى أسلم . فقام إليه عمران فقبل رأسه ويديه ورجليه . فلما رأى ذلك النبي r بكى وقال :
بكيت من صنيع عمران ، دخل حصين وهو كافر فلم يقم إليه عمران ولم يلتفت ناحيته فلما أسلم قضى حقه فدخلني من ذلك الرقة . فلما أراد حصين أن يخرج قال لأصحابه : قوموا فشيعوه إلى منزله ، فلما خرج من سدة الباب رأته قرش فقالوا : صبأ ، وتفرقوا عنه " كذا في الإصابة ج1 ص337 .
أخرج أحمد عن أبي تميمة الهجيمي عن رجل من قومه " أنه أتى رسول الله r أو قال : شهدت رسول الله r وأتاه رجل فقال : أنت رسول الله أو قال أنت محمد ؟ فقال : نعم . قال : ما تدعو ؟ قال : أدعو الله عز وجل وحده ؛ مَنْ إذا كان لك ضر فدعوته كشفه عنك ، ومن إذا أصابك عام فدعوته أنبت لك ، ومن إذا كنت في أرض قفر فأضللت فدعوته رد عليك.
فأسلم الرجل ثم قال : أوصني يا رسول الله ، فقال : لا تسب شيئاً . أو قال أحداً – شك الحكم – قال : فما سببت بعيراً ولا شاة منذ أوصاني رسول الله r.
أخرج أحمد عن عدي بن حاتم قال : " لما بلغني خروج رسول الله rكرهت خروجه كراهية شديدة فخرجت حتى وقعت ناحية الروم – وفي رواية : حتى قدمت على قيصر – قال : فكرهت مكاني ذلك أشد من كراهتي لخروجه . قال : قلت : والله لو أتيت هذا الرجل فإن كان كاذباً لم يضرني وإن كان صادقاً علمت ، قال : فقدمت فأتيته . فلما قدمت قال الناس : عدي بن حاتم ، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي : يا عدي بن حاتم أسلم تسلم – ثلاثاً - . قال : قلت : إني على دين . قال : أنا أعلم بدينك منك ، فقلت : أنت تعلم بديني مني ؟ قال : نعم ، ألست من الركوسية وأنت تأكل مرباع قومك ؟ قلت : بلى ، قال : هذا لا يحل لك في دينك ، قال : نعم ، فلم يعد أن قالها فتواضعت لها ، قال : أما إني أعلم الذي يمنعك من الإسلام تقول : إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا قوة لهم وقد رمتهم العرب . أتعرف الحيرة ؟ قلت : لم أرها وقد سمعت بها . قال : فوالذي نفسي بيده ليمتن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد . وليفتحن كنوز كسرى بن هرمز ، قال : قلت كنوز ابن هرمز ؟ قال : نعم ، كسرى بن هرمز ، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد.
قال عدي بن حاتم : فهذه الظعينة تأتي من لحيرة تطوف بالبيت في غير جوار ، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى ، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة لأن رسول الله rقد قالها " . كذا في البداية ج5 ص66 وأخرجه البغوي أيضاً في مجمعه بمعناه ، كما في الإصابة .
وأخرج أحمد عن عدي بن حاتم قال : " جاءت خيل رسول الله r وأنا بعقرب فأخذوا عمتي وناساً فلما أتوا بهم رسول الله rقال : نصفوا له . قالت : يا رسول الله بان الوافد وانقطع الولد وأنا عجوز كبيرة ما بي من خدمة ؛ فَمُنَّ عليَّ ، منَّ الله عليك . فقال : ومن وافدك ؟ قالت : عدي بن حاتم . قال : الذي فر من الله ورسوله ؟ قالت : فمنَّ عليَّ ، فلما رجع ورجل إلى جنبه – نرى أنه عليُّ – قال : سليه حملاناً ، قال : فسألته فأمر لها . قال عدي : فأتتني فقالت : لقد فعلت فعلة ما كان أبوك يفعلها وقالت : إيته راغباً أو راهباً ، فقد أتاه فلان فأصاب منه وأتاه فلان فأصاب منه ، قال : فأتيته فإذا عنده امرأة وصبيان – أو صبي – فذكر قربهم منه ، فعرفت أنه ليس ملك كسرى وقيصر . فقال له : يا عدي بن حاتم! ما أفرك ؟ أفرك أن يقال : لا إله إلا الله ، مَنْ إله إلا الله ؟ ما أفرك ؟ أفرك أن يقال : الله أكبر . فهل شيء أكبر من الله عز وجل ؟ فأسلمت فرأيت وجهه قد استبشر " .
أخرج أبو يعلى ، عن حرب بن سريج قال : حدثني رجل من بلعدوية ، قال : حدثني جدي قال : " انطلقت إلى المدينة فنزلت عند الوادي ، فإذا رجلان بينهما عنزة واحدة ، وإذا المشتري يقول للبائع : أحسن مبايعتي ، قال : فقلت في نفسي هذا الهاشمي الذي قل أضل الناس ، أهو هو ؟ قال : فنظرت فإذا رجل حسن الجسم ، عظيم الجبهة ، دقيق الأنف ، دقيق الحاجبين . وإذا من ثغره نحره إلى سرته مثل الخيط الأسود شعر أسود ، وإذا هو بين طمرين . قال : فدنا منا فقال : السلام عليكم ، فرددنا عليه ، فلم ألبث أن دعا المشتري فقال : يا رسول الله قل له يحسن مبايعتي ، فمد يده وقال أموالكم تملكون ، إني أرجو أن ألقى الله عز وجل يوم القيامة لا يطلبني أحد منكم بشيء ظلمته في مال ولا في دم وعرضٍ إلا بحقه ، رحم الله امرأ سهل البيع ، سهل الشراء ، سهل الأخذ ، سهل العطاء ، سهل القضاء ، سهل التقاضي ثم مضى .
فقلت : والله لأقصن هذا فإنه حسن القول ، فتبعته فقلت : يا محمد فالتفت إلي بجميعه فقال : ما تشاء ؟
قلت : أنت الذي أضللت الناس وأهلكتهم وصددتهم عما كان يعبد آباؤهم .
قال : ذاك الله .
قال : ما تدعو إليه ؟
قال : أدعو عباد الله إلى الله .
قال : فقلت : ما تقول ؟
قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله وتؤمن بما أنزله علي وتكفر باللات والعزى وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة .
قال : قلت : وما الزكاة ؟
قال : يرد غنينا على فقيرنا .
قال : قلت : نعم الشيء تدعو إليه .
قال : فلقد كان وما في الأرض أحد يتنفس أبغض إلي منه ، فما برح حتى كان أحب إلي من ولدي ووالدين ومن الناس أجمعين .
قال : فقلت : قد عرفت ، قال : قد عرفت ؟
قلت : نعم .
قال : تشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله وتؤمن بما أنزل علي ، قال : قلت : نعم يا رسول الله ، إني أرد ماءً عليه كثير من الناس فأدعوهم إلى ما دعوتني إليه فإني أرجو أن يتبعوك . قال : نعم فادعهم ، فأسلم أهل ذلك الماء رجالهم ونساؤهم فمسح رسول الله r رأسه " .
وذكر الإمام البخاري وأبو داود وأتم ما ذَكَرَا رزين مساجلة جرت بني المسلمين وأبي سفيان بعد موقعة أحد – وقد أصيب المسلمون – فنادى أبو سفيان جماعة من المسلمين وهذا نص الحادثة كما رووها : " فأشرف أبو سفيان ( أي على المكان الذي كانوا فيه ) فقال : أفي القوم محمد ؟ فقال : ( أي الرسول وكان معهم ) لا تجيبوه . فقال : أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ فقال : لا تجيبوه . فقال : أفي القوم ابن الخطاب ؟ فلم يجبه أحد ، فقال : إن هؤلاء قتلوا ، ولو كانوا أحياء لأجابوا : فلم يملك عمر – رضي الله عنه – نفسه . فقال : كذبت يا عدو الله ، أبقى الله لك ما يحزنك . قال أبو سفيان : أُعْلُ هبل . فقال صلى الله عليه وسلم أجيبوه . فقالوا : ما نقول ؟ قال : قولوا الله أعلى وأجل . قال أبو سفيان : لنا العزى ولا عزى لكم . فقال r: أجيبوه . قالوا ما نقول ؟ قال قولوا الله مولانا ولا مولى لكم . قال أبو سفيان : يوم بيوم والحرب سجال ، وتجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني . قال r: أجيبوه ، قالوا : ما نقول ؟ قال : قولوا لا سواء ، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار " أخرجه البخاري وأبو داود إلى قوله " لم تسؤني " وأخرج باقيه رزين .
وعن ابن إسحاق من حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال : " لما أصاب رسول الله rالغنائم يوم حنين – وقسم للمتألفين من قريش ( أي حديثو العهد بالإسلام ليمكن الإسلام في قلوبهم ) وسائر العرب ما قسم ، ولم يكن في الأنصار منهم شيء قليل ولا كثير – وجد ( أي تغيرت قلوبهم ) هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى قال قائلهم : لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه . فمشى سعد بن عبادة – رضي الله عنه – إلى رسول لله r فقال : يا رسول الله ! إن هذا الحي من الأنصار ، قد وجدوا عليك في أنفسهم . فقال : فيم ؟ قال : فيما كان من قسمك هذه الغنائم في قومك وفي سائر العرب ، ولم يكن فيهم ذلك شيء . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأين أنت من ذلك يا سعد ؟ قال : ما أنا إلا امرؤ من قومي .
قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة . فإذا اجتمعوا فأعلمني . فخرج سعد فصرخ فيهم ، فجمعهم في تلك الحظيرة . فجاء رجل من المهاجرين فأذن له فدخلوا ، وجاء آخرون فردهم – حتى إذا لم يبق من الأنصار إلا اجتمع له . أتاه فقال : يا رسول الله قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار حيث أمرتني أن أجمعهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام فيهم خطيباً ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : يا معشر الأنصار ! ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله ، وعالة ( أي فقراء ) فأغناكم الله ، وأعداء فألف الله بين قلوبكم ؟ قالوا : بلى . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا تجيبون يا معشر الأنصار ؟ قالوا : وما نقول يا رسول الله ! وبماذا نجيبك ؟ المنُّ لله ولرسوله . قال : والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم ؛ جئتنا طريداً فآويناك ، وعائلاً فآسيناك ، وخائفاً فآمناك ، ومخذولاً فنصرناك . فقالوا : المنُّ لله ولرسوله . فقال رسول الله r: أوجدتم في نفوسكم يا معشر الأنصار في لعاعة ( أي في شيء تافه إذ اللعاعة نبت ناعم لا يعمر طويلاً ) من الدنيا ؟
تألفت بها قوماً أسلموا ووكلتم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام ، أفلا ترضون – يا معشر الأنصار – أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاة والبعير ، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم ، فوالذي نفسي بيده لو أن الناس سلكوا شعباً ، وسلكت الأنصار شعباً ، لسلكت شعب الأنصار ، ولولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار ، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار . قال : فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم ( أي بلوها بدموعهم ) وقالوا : رضينا بالله ربّاً ورسوله قسماً ثم انصرف . وتفرقوا " وهكذا رواه الإمام أحمد من حديث ابن إسحاق ولم يروه أحد من أصحاب الكتب من هذا الوجه وهو صحيح .
وأخرج مالك عن عطاء بن يسار : " أن رجلاً سأل رسول الله r فقال : أستأذن على أمي ؟ فقال : نعم . فقال الرجل : إني معها في البيت . فقال : استأذن عليها . فقال : إني خادمها ؟ فقال رسول الله : استأذن عليها ، أتحب أن تراها عريانة ؟ قال : لا . قال : فاستأذن عليها " .
وأخرج الإمام أحمد والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي أمامة – رضي الله عنه - : " أن فتى شاباً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ائذن لي بالزنا . فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا : مه . فقال : أدْنُ فدنا منه قريباً . قال : اجلس فجلس قال صلى الله عليه وسلم : أتحبه لأمك ؟ قال : لا والله جعلني الله فداءك . قال : ولا الناس يحبونه لأمهاتهم ، قالr: أفتحبه لابنتك ؟ قال : لا والله ، يا رسول الله جعلني الله فداءك . قال : ولا الناس يحبونه لبناتهم ، قال r أفتحبه لأختك ؟ قال : لا والله جعلني الله فداءك . قال ولا الناس يحبونه لأخواتهم ، قال صلى الله عليه وسلم : أفتحبه لعمتك ؟ قال : لا والله ، جعلني الله فداءك . قال : ولا الناس يحبونه لعماتهم ، قال صلى الله عليه وسلم : أفتحبه لخالتك ؟ قال : لا والله ، جعلني الله فداءك . فقال : ولا الناس يحبونه لخالاتهم ، قال : فوضع يده r عليه ثم قال : اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وأحصن فرجه قال : فلم يكن – بعد – ذلك الفتى يلتفت إلى شيء " .
ومن نقاشه مع وفد نصارى نجران كما ترويه كتب السيرة في أمر عيسى هذا المقطع :
" قالوا : من أبوه ( أي عيسى يريدون أن يقيمون الحجة بهذا السؤال على أنه ابن الله – تعالى الله- عن ذلك علواً كبيراً - ) .
وقد رد القرآن عليهم بقوله : {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} .
ورد عليهم رسول الله r بما يلي :
قال : ألستم تعلمون أن الله حي لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء ؟
قالوا : بلى .
قال : ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه ؟
قالوا : بلى .
قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئاً ؟
قالوا : لا .
قال : ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ؟
قالوا : بلى .
قال : فهل يعلم عيسى من ذلك شيئاً إلا ما عُلِّم ؟
قالوا : لا .
قال : ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى في الرحم كيف يشاء ؟ وأن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث ؟
قالوا : بلى .
قال : ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غذّي كما يغذّى الصبي . ثم كان يأكل الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث؟
قالوا : بلى .
قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم ؟
ويوم الحديبية وقد حميت قريش للحرب وهو لا يريده قال كلمة أحاطت بجوانب الموضوع الذي يجعل قريشاً لا تريد إلا ما أراد قال :
" يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب ؟ فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فما تظن قريش ؟ فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة " . تنفرد السالفة : يعني الموت .
هذه نماذج على مناقشاته التي يقيم بها الحجة على ألآخرين بالبساطة المقنعة والفصاحة الآسرة .
وسنرى نماذج على حدة ذكائه الهائل في تصريف الأمور وتدبيرها في الفصل الثاني من هذا الباب .
أما هنا فنريد أن نتمم ببيان فصاحته التي لا مثيل لها وهي السمة المرافقة التي لا بد منها في إقامة الحجة ونضرب على ذلك أمثلة من خطبه وكتبه وكلمه الذي كان كله بليغاً .
في حجة الوداع خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس خطبة طويلة ، وكان الذي يبلغها عنه ربيعة بن أمية ، وهذا جزء منها ترى فيه نماذج الكلم الذي فعل فعله في القلوب بما لم يفعله كلام آخر :
" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لربيعة : قل يا أيها الناس إن الرسول يقول : هل تدرون أي شهر هذا ؟ فقال ربيعة . فصاح الناس : الشهر الحرام . فقال رسول الله : قل لهم إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا .
ثم قال : قل يا أيها الناس إن الرسول يقول : هل تدرون أي بلد هذا ؟ فيقول ربيعة فيصيح الناس : البلد الحرام فيقول عليه الصلاة والسلام : قل لهم إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة بلدكم هذا .
ثم يأمره : يا أيها الناس إن رسول الله يقول : هل تدرون أي يوم هذا ؟ فيقول لهم فيصيحون : يوم الحج الأكبر . فيقول قل لهم : إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا " .
ذكره ابن هشام وهو بمعناه عند البخاري ومسلم .
ومن كلمة له عليه الصلاة والسلام : " أمرني ربي بتسع : خشية الله في السر والعلانية وكلمة العدل في الغضب والرضا ، والقصد في الفقر والغنى ، وأن أصل من قطعني وأعطي من حرمني ، وأعفو عمن ظلمني ، وأن يكون صمتي فكراً ، ونطقي ذكراً ونظري عبرة ، وآمر بالمعروف " لرزين ، والجمل الستة الأولى لها طرق وشواهد تحسنها .
ومن وصاياه صلى الله عليه وسلم :
" يا غلام ! احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك – أو قال : أمامك – تعرَّف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة . إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله تعالى ؛ فإن العباد لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله تعالى لك لم يقدروا على ذلك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله تعالى لك لم يقدروا على ذلك . جفت الأقلام وطويت الصحف ، فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا في اليقين فافعل ، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً واعلم أن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسراً ولن يغلب عسر يسرين " . صحيح ، أخرجه أحمد والترمذي مع اختلاف في اللفظ .
ومن خطبة طويلة له عليه الصلاة والسلام حفظ منها أبو سعيد الخدري ما يلي :
" إن الدنيا خضرة حلوة ، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعلمون ، ألا فاتقوا الدنيا واتقوا النساء " .
" ألا لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه " .
" ألا إنه ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة بقدر غدرته ، ولا غدرة أعظم من غدرة إمام عامة ، يركز لواؤه عند استه " .
" ألا إن بني آدم خلقوا على طبقات شتى ، فمنهم من يولد مؤمناً ويحيا مؤمناً ويموت مؤمناً ، ومنهم من يولد مؤمناً ويحيا مؤمناً ويموت كافراً ، ومنهم من يولد كافراً ويحيا كافراً ويموت مؤمناً ، ومنهم من يولد كافراً ويحيا كافراً ويموت كافراً ، ألا وإن منهم البطيء الغضب سريع الفيء والسريع الغضب سريع الفيء ، البطيء الغضب بطيء الفيء ، فتلك بتلك . ألا وإن منهم بطيء الفيء سريع الغضب ، ألا وخيرهم بطيء الغضب سريع الفيء وشرهم سريع الغضب بطيء الفيء ، ألا وإن منهم حسن القضاء حسن الطلب ، ومنهم سيء القضاء حسن الطلب ، ومنهم حسن الطلب حسن القضاء ، فتلك بتلك ألا وإن منهم السيء القضاء سيء الطب ، ألا وخيرهم الحسن القضاء الحسن الطب ، وشرهم سيء القضاء سيء الطلب ، ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم ، أما رأيتم إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه ؟ فمن أحسن بشيء من ذلك فليلصق بالأرض " . أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن .
- عن معاذ بن جبل – رضي الله عنه - :
قال : " كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصبحت يوماً قريباً منه ونحن نسير . فقلت : يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار . فقال : لقد سألت عن عظيم ، وإنه ليسير على من يسره الله عليه . تعبد الله لا تشرك به شيئاً ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان , وتحج البيت . ثم قال : ألا أدلك على باب من أبواب الخير ؟ قلت : بلى يا رسول الله . قال : الصوم جنة ، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار ، وصلاة الرجل من جوف الليل شعار الصالحين . ثم تلى : {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} . إلى قوله : {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ، ثم قال : ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه ؟ قلت : بلى يا رسول الله . قال : رأس الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد . ثم قال : ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ قلت : بلى يا رسول الله . قال : كف عليك هذا ، وأشار إلى لسانه ، قلت : يا رسول الله ! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال : ثكلتك أمك يا معاذ ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم – أو قال : على مناخرهم – إلا حصائد ألسنتهم " .
عن أبي ذر – رضي الله عنه – قال :
" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاثة يحبهم الله ، وثلاثة يبغضهم الله . فأما الثلاثة الذي يحبهم الله : فرجل أتى قوماً فسألهم بالله ولم يسألهم بقرابة بينه وبينهم فمنعوه ، فتخلف رجل بأعقابهم فأعطاه سراً لا يعلم بعطيته إلا الله والذي أعطاه ، وقوماً ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به فنزلوا ، فقام يتملقني ويتلو آياتي ، ورجل كان في سرية فلقي العدو فانهزموا فأقبل بصدره حتى يقتل أو يفتح له . وأما الثلاثة الذين يبغضهم الله : فالشيخ الزاني ، والفقير المختال ، والغني الظلوم " .
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله – عز وجل – يوم القيامة : يا ابن آدم ! مرضت فلم تعدني ، فيقول : يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين ؟ قال : أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده ؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده . يا ابن آدم ! استطعمتك فلم تطعمني . قال : يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟ قال : إن عبدي فلاناً استطعمك فلم تطعمه ، أما علمت لو إنك أطعمته لوجدت ذلك عندي . يا ابن آدم ! استسقيتك فلم تسقني . قال : يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين ؟ فيقول : إن عبدي فلاناً استسقاك فلم تسقه ، أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي " .
والسر في فصاحته صلى الله عليه وسلم أنه يقول الكلمة القصيرة فتبلغ كل مبلغ وتحيط كل إحاطة ، وتصل إلى أدق القضايا ، ويتفاوت الناس في الأخذ منها على مقدار ما أوتوا من حكمة وعلم وذكاء وفهم . وقد عبر هو عليه الصلاة والسلام عن سر فصاحته فقال : أوتيت جوامع الكلم . وانظر عبارته هذه ، تر معناها أنه ليعبر عن المعاني العظيمة الكثيرة الكبير بكلمة مختصرة سهلة ، ولكنها لا تدرك معانيها لما أحاطت به ، وهذه قضية يعرفها كل من اطلع على أحاديث عليه الصلاة والسلام ، التي بلغت عشرات الآلاف ، والمحفوظة في كتب الحديث المعتمدة المنقحة الصحيحة . وخذ أي حديث من أحاديثه وأي كلمة من كلامه تجد هذا واضحاً بالشكل الذي لا يلحق به إنسان إلا في نوادر الحالات ، ولكن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كله من هذا النوع ومن ثم كان أفصح العرب على الإطلاق .
وقد ضرب العقاد أمثلة على هذا الذي قلناه وحللها فأتى بالجيد ، نجتذيء منه بمثال يقول : " ومن أمثلته ( أي الكلام الجامع للمعاني الكبار في الكلمات القصار عند رسول الله ) علم السياسة الذي اجتمع كله في قوله صلى الله عليه وسلم : " كما تكونوا يول عليكم " . فأي قاعدة من القواعد الأصيلة في سياسة الأمم لا تنطوي بين هذه الكلمات ؟ ؟
ينطوي فيها أن الأمم مسؤولة عن حكوماتها لا يعفيها من تبعة ما تصنع تلك الحكومات عذر بالجهل ، أو عذر بالإكراه ، لأن الجهل جهلها الذي تعاقب عليه ، والإكراه ضعفها الذي تلقى جزاءه .
وينطوي فيها أن العبرة بأخلاق الأمة لا بالنظم والأشكال التي تعلنها الحكومة . فلا سبيل إلى الاستبداد بأمة تعاف الاستبداد ولو لم يتقيد فيها الحاكم بقيود القوانين ، ولا سبيل إلى حرية أمة تجهل الحرية ، ولو تقيد فيها الحاكم بألف قيد من النظم والأشكال .
وينطوي فيها أن الولاية تبع تابع ، وليست بأصل أصيل ، فلا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأحرى ألا يغير الوالي قوماً حتى يتغيروا هم قبل ذلك .
وينطوي فيها أن الأمة مصدر السلطات على حد التعبير الحديث .
وينطوي فيها أن الأمة تستحق الحكم الذي تصبر عليه ، ولو لم يكن حكم صلاح واستقلال ، وذلك هو الإبلاغ الذي ينفذ فيه وجهاته كل نفاذ " .
ويختم العقاد كلامه في هذا الموضوع بقوله :
" وأمثال هذه الأحاديث في أصول السياسة والأخلاق والاجتماع مما لا يتناوله الإحصاء ، في هذا المقام . كان محمد صلى الله عليه وسلم فصيح اللغة ، فيصح اللسان ، فصيح الداء ، وكان بليغاً مبلغاً على أسلس ما تكون بلاغة الكرامة والكفاية ، وكان بلسانه وفؤاده من المرسلين ، بل قدوة المرسلين " .
وحسبك هذه الشهادة من العقاد شيخ أدباء العرب في القرن العشرين .
وبهذا نرجو أن تكون قد اتضحت لك صفة الفطانة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان الحق ، وإقامة الحجة فيه ، ونصاعة البيان في عرضه ، وكمال الأداء في إيصاله . وستتضح لك هذه الصفة أكثر في الفصل الثاني ، حيث الكلام عن السياسي الأول ، والمحارب الأول ، والمعلم الأول عليه الصلاة والسلام ، ولعل الفصل الثاني سيكون أكثره مشيراً إلى عظمة عبده وفطانته صلى الله عليه وسلم فلنقتصر هنا على ما قدمناه .
وبهذا نختم الفصل الأول من هذا الباب وقد رأيت فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم له من الصفات الأساسية للرسل كمالها وتمامها وأن ذلك دليل على أنه رسول الله حقاً ، خلقه الله على أكمل الأحوال وأرفع المقامات ووفقه لأعظم الأعمال ، مما ينوء بحمله كل الرجال مجتمعين . فسار في طريق لم تضطرب بدايته فيه ، ولم تتحول مسيرته عنه . حتى وصل إلى نهايته على استقامة من أول الشوط إليها ، كل خطوة بعد التي تليها ، بناء يتكامل يوماً فيوماً حتى تم ، لا نقص فيه ولا عوج ، ولا ينقض منه شيء أبداً ، وما كان ذلك ليكون لولا أن الله المحيط علماً بكل شيء هو الذي يسدّد رسوله صلى الله عليه وسلم ويرعاه ويسيّره حتى كان ما كان .
الشيخ سعيد حوا
المصدر
- مقال:عقله العظيم وفطانته عليه الصلاة والسلام موقع : برهانكم