عالم رباني فقدناه
بقلم: عبد الحميد البلالي
لم تمنع حرارة يوم 30 يوليو 2007 م، والتي تجاوزت الخمسين درجةً مئويةً، آلاف المحبين من جميع الجنسيات من التوافد على مقبرة الصليبخات لتوديع العالم الرباني الدكتور السيد نوح، بعد أن غادرنا يوم الإثنين 30/7/ 2007 م بعد مرض عضال لم يغير من أخلاقه العالية، وسمته الذي يشبه سمت التابعين، رضي الله عنهم.
فقد زرته في المستشفى قبل وفاته بعشرة أيام، فوجدته راقدًا على سرير المرض في مستشفى ثنيان الغانم، وقد مُنعنا من الدخول عليه، ففتحوا الباب، وإذا بالمرض قد أخذ الكثير من وزنه، وبالرغم من كثرة الأسلاك الموصلة بجسده، إلا أن الابتسامة لم تفارقه، فرفع يده إليَّ مسلمًا عليَّ، وابتسامة الإيمان تملأ وجهه الراضي بما كتب الله له.
لقد تعرفتُ على د. السيد نوح في دولة الإمارات منذ ما يُقارب خمس عشرة سنة أو يزيد، وكان لقاءً مشتركًا في محاضرة، ومنذ تلك اللحظة أيقنت أنني أمام عالمٍ رباني يختلف تمامًا عن الكثير من علماء هذا العصر، ففي تلك المحاضرة سلَّم عليَّ بحرارة، وكأنه يعرفني منذ عشرات السنين، وفاجأني حينها بعبارة تدل على تواضعٍ عظيم، عندما قال لي: "أنا أستفيد من كتبكم" فقلت: أستغفر الله. مَن أنا يا شيخ حتى تستفيد من كتبي!
لم يقل ذلك مجاملةً، بل قالها متجردًا من الألقاب والشهرة، والعلم، قالها لأن الفقيه الحق هو مَن تواضع للآخرين عن قدرة، فقد خرج الحسن البصري مع صاحبين له يتذاكرون التواضع فقال لهما: وهل تدرون ما التواضع؟ التواضع أن تخرج من منزلك فلا تلق مسلمًا إلا رأيت له عليك فضلاً.
كان يرحمه الله صاحب همَّة عالية، فلا تكاد تراه إلا وهو في شغلٍ للدعوة إلى الله، ما بين خطبة جمعة أو درس في مسجد، أو حلقة علم يديرها، أو إصلاح بين الناس، أو قراءة، أو بحث ينفع به المسلمين أو سفر لنشر دعوة الله تعالى، حتى بعدما ذهب إلى الصين لزرع كبدٍ جديد، وعودته للكويت، ما إن رأى من نفسه شيئًا من العافية حتى نفض الغطاء عن جسده الواهن، وانطلق إلى مسجده وحلقته وطلبته ينير لهم طريق الحق.
قد ترى الكثير من الناس في حالات متعددة بين الابتسامة والعبوس، أو بين الضحك والبكاء، أو بين السخط والرضا، ولكنني لم أرَ د. السيد نوح يرحمه الله، ولم ألقه يومًا من الأيام إلا والابتسامة تملأ محياه، حتى في مرض الموت لم تفارقه الابتسامة، وكان إذا سأله أحد وهو في مرضه عن صحته، يقول: "بخير.. الحمد لله".
لقد كان يرحمه الله سريع الدمعة، غزير العبرة، شديد التأثر بكتاب الله تعالى، يقول أحد الذين صلوا يومًا بجانبه: لقد سمعته يبكي بكاءً شديدًا عندما قرأ الإمام، ولم يتوقف أبدًا من البكاء، حتى انتهت الصلاة، وطلبوا منه أن يقول خاطرة، فقام أمام الناس، وقال: "لا كلامَ بعد كلام الله، ولا موعظةَ بعد مواعظ الله".. ثم انصرف، واكتفى بهذه الموعظة.
كنت نقلت له عتاب بعض الإخوة عليَّ لاختصاري لبعض المعاني في كتبي الدعوية، رد عليَّ يرحمه الله "أنت اختصر ونحن نفصل".. ومَن قرأ كتبه حقًّا يستمتع بذلك التفصيل غير الممل، والمليء بالعلم، فقد أثرى المكتبة الإسلامية بمجموعةٍ من أروع الكتب في السلوك والدعوة.. منها كتاب "زاد على الطري
المصدر
- مقال:عالم رباني فقدناهإخوان أون لاين