ظلام
بقلم : محمد الجندي
في ستينيات القرن الماضي لم تكن أوضاع المنطقة العربية أفضل من الآن بكثير.
كان النخر الطائفي ـ العنصري موجوداً، وكانت المخابرات الدولية، وخصوصاً المركزية الأميركية والموساد ترتع في المنطقة غرباً وشرقاً وشمالاً وجنوباً، وكانت الإدارات العربية عموماً أحرص على المصالح الأميركية والإسرائيلية من الإدارتين الأميركية والإسرائيلية بالذات.
ولكن كان هناك الاتحاد السوفييتي، وكان هناك النظامان التقدميان المصري والسوري. استطاع أكثر من بلد عربي الحصول على أسلحة حديثة للدفاع عن النفس، وقامت الإدارات المصرية والسورية والجزائرية بخطوات تقدمية مبعثرة، الإصلاح الزراعي، تأميم الشركات الكبيرة نسبياً، تعزيز دور العمال في الشركات المؤممة، وتعزيز دور الفلاحين.
لم يكن كل ذلك كافياً. ولكن لأول مرة شعر العامل والفلاح بالتحرر من العبودية، شعراً بالندية تجاه رب العمل وتجاه مالك الأرض، حتى اليوم لم يعد العامل والفلاح المصري والسوري والجزائري، على فقرهما يقبلان بالعبودية، قد يكونان فقيرين، ولكن يشعران بأنهما سيدان.
وجدت موجة تحرر في المنطقة العربية في ستينيات القرن الماضي، ولكنها كانت إلى حد كبير كاذبة، لأن التركيب الطائفي ـ العنصري في المنطقة لم يكن يسمح لتلك الموجة أن تأخذ مداها.
إن التركيب الطائفي ـ العنصري، كان وسطاً ملائماً لنمو كل النخر الذي تقوم به المخابرات الدولية. كانت مساعدات الاتحاد السوفييتي التكنولوجية للعرب ولغير العرب تباع للإدارات الاستعمارية، التي عرفت بهذه الطريقة أسرار الطائرات والدبابات والصواريخ السوفييتية الحديثة، وغير ذلك.
وبنفس الطريقة استطاعت المخابرات الدولية تجنيد عدد كبير من بعثات العالم الثالث (الطلاب والمرضى وغيرهم) في مهمة نخر الاتحاد السوفييتي عبر التهريب والتجارات غير المشروعة.
لذلك نجد اليوم الشتائم تنهال على الاتحاد السوفييتي من الذين للاتحاد السوفييتي فضل عليهم، ولولاه لم يتعلموا، أو لم يشفوا، أو لم ينالوا مركزاً ما في بلدهم، قد يكون ذلك نوعاً من العقوق الشخصي الموجود في كل زمان ومكان على مختلف الأصعدة، ولكنه في الحقيقة هو أكثر من ذلك، هو عقوق سياسي، هو موجة سياسية تصب في طاحونة الإدارة الأميركية.
والتركيب الطائفي ـ العنصري تسبب بالنخر في كل مؤسسات العالم الثالث، وحصة البلدان العربية كانت كبيرة، ففي مصر وسوريا والجزائر انتشر الفساد في المؤسسات الاقتصادية، وبدلاً من أن تكون هذه دعامة للتحرر من جهة، وأداة للرفع الجدي للسويات المعاشية للمواطنين، كانت وسيلة هدر للثروة العامة على يد مختلف أنواع السماسرة ونخر التركيب الطائفي ـ العنصري في عملية الإنجاز، فبدلاً من الأداء المتقدم والفعال في مختلف المؤسسات وبقي الأداء التقليدي الموروث من العهود السابقة. حتى التشريع بقي يراوح مكانه تقريباً دون تحديث، والمسائل التي كانت تتطلب حلولاً، كانت تحل إدارياً لا تشريعياً.
وبذلك كان التقدم لدرجة كبيرة مجرد واجهة متناقضة مع المحيط العربي عموماً، من جهة، ومع التركيب الطائفي ـ العنصري للمجتمع من جهة أخرى، كان التقدم يعتمد جهود أفراد متفانين في خدمة بلدانهم، ولكن كان هذا غير كاف لانتشال المنطقة العربية من أوضاعها.
وهزيمة 1967 أمام إسرائيل نقلت زمام الأمور في المنطقة العربية إلى يد الرجعية، التي مارست دوراً إقليمياً خطيراً، لن نستطرد فيه، ولكن نذكر بأنه أدى إلى الحرب الأهلية اللبنانية، وإلى «الصلح» المجحف الساداتي ـ الإسرائيلي، وإلى الغزو الإسرائيلي ل لبنان في 1982 وإلى الحرب العراقية ـ الإيرانية (حرب الخليج الأولى) وحصار العراق، وإلى مؤتمر مدريد 1991، وانبثاق اتفاقات أوسلو ووادي عربة، والاتفاقات غير المعلنة، أو نصف المعلنة مع الدول العربية الأخرى.
وانهار الاتحاد السوفييتي عملياً في 1985 (مع وصول غورباتشوف إلى السلطة) فتحولت الإدارة الأميركية إلى ضراوة غير مسبوقة على الأصعدة الدولية والإقليمية.
على صعيد الشرق الأوسط اعتبرت الإدارة الأميركية والإسرائيلية، أن ساعة الانتصار على «هنود» (تشبيها بالهنود الأميركيين الأصليين) الشرق الأوسط قد دقت.
كل شيء مهيأ، المليارات البترولية والأفيونية ردت القيادات السياسية في الشرق الأوسط إلى أيام ما اصطلح عليه في التاريخ الإسلامي بعصر الانحطاط، أو إلى ما هو أشد ظلامية، والمشاعر الوطنية مسخت، فأصبحت التطلعات، التي كانت في ستينيات القرن الماضي ليست فقط مرفوضة، وإنما مدانة باعتبارها «رجعية» غير مسموح بها إلا في حدود ضيقة جداً، الدعوة إلى التقدم، إلى محاربة الاستعمار، إلى النظر إلى الإدارتين الأميركية والإسرائيلية كعدو.
إن عملية غسل الأدمغة الجارية حالياً على يد الإدارات الأميركية والإسرائيلية والعربية، تهدف إلى جعل المرء يعتقد أن «التقدم» انتهى مع انهيار الاتحاد السوفييتي، وأن الاستعمار ليس عدواً، وإنما هو بالعكس، منقذ من القمع لصالح «الديمقراطية» ومن الخطر الإيراني، ومن كل ما يتعارض والمخططات الأميركية ـ الإسرائيلية في المنطقة.
لذلك، أتى الاستعمار «المنقذ» إلى العراق واحتلت القوات الأميركية ذلك البلد بمباركة تشكيلاته الطائفية ـ العنصرية، من جهة والإدارات الشرق أوسطية، من جهة أخرى.
جريمة الإبادة الأميركية ـ الإسرائيلية في فلسطين ليست فقط منسية، وإنما مباركة أيضاً.
المخابرات الإسرائيلية على شكل رجال أعمال وصحفيين وأكاديميين، مموهين أميركياً وأوروبياً (أي لديهم جوازات سفر غير إسرائيلية) أو غير مموهين يملؤون الساحات العربية بدءاً من العراق المحتل، إلى سائر البلدان العربية، شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، ولا يعترض المرء على هؤلاء باعتبارهم جزءاً من عملية «سلام» متكاملة، وإنما لأنهم جزء من عملية غزو متكاملة.
«الهنود» الشرق ـ أوسطيون قد يقاومون الغزو هنا أو هناك، وقد يدفعون ثمناً باهظاً من دمائهم، ولكن تقدير الإدارتين الأميركية والإسرائيلية أن النصر سيكون في النهاية للرجل الأبيض، أي للعسكرية الأميركية والإسرائيلية.
إننا لا نتفق مع الإدارتين المذكورتين في مثل ذلك التقدير، ونعتقد أن شعوب الشرق الأوسط، ستتحرر في النهاية، أولاً، هذه الشعوب ليست «هنوداً» وإنما هي متطورة كثيراً أو قليلاً، وسوف نتعلم في النهاية الدفاع المجدي عن النفس. ثانياً، القرن الواحد والعشرون هو غير القرن الثامن عشر، ورغم تكريس أجهزة الاتصال الدولية والإقليمية (الإعلام، الانترنت، الثقافة والفن) للظلام، فالمهمة في جعله نهاية كونية هي أمر مستحيل.
سيكون الكلام للمعدة، لا للأدمغة المغسولة، والفقر مهما حرم الإنسان من مستلزمات الحياة، فلا يستطيع أن يحرمه من دفاعه عن نفسه، إلا بحرمانه من الحياة ذاتها. الأمر الذي يعني، أن سيادة الظلام تعني القضاء التام على الحياة، وربما هذا ما تسير فيه الإدارة الأميركية عامدة، أو غير عامدة، عبر تعميم الفقر والجوع والحروب والمجازر، وعبر تسميم البيئة وجعل الكرة الأرضية غير صالحة للحياة.
التركيب الطائفي ـ العنصري للمجتمعات، ومن الجملة للمجتمعات العربية هو ظلام، ويتمنى المرء أن تعي الشعوب العربية عبر منظماتها السياسية ذلك بسرعة كافية تقيها من مختلف الكوارث، التي ينطوي عليها هذا الظلام. وليست المسألة أمنية، وإنما هي نضال ضد الظلام، نضال لا بد منه، للخروج إلى النور، رغم الاستعمار، ورغم الاحتلال ورغم الإبادة.
المصدر
- مقال:ظلامالمركز الفلسطينى للتوثيق والمعلومات