طريق الإخوان المسلمين
- كتب حسن البنا لإخوانه مذكرا فقال لهم:
الدين: الذى يحيى الضمير، ويوقظ الشعور، وينبه القلوب، ويترك مع كل نفس رقيبًا لا يغفل، وحارسًا لا يسهو، وشاهدًا لا يجامل ولا يحابى ولا يضل ولا ينسى، يصاحبها فى الغدوة والروحة والمجتمع والخلوة، ويرقبها فى كل زمان ويلحظها فى كل مكان، ويدفعها إلى الخيرات دفعًا، ويدعها عن المآثم دعًا، ويجنبها طريق الزلل، ويبصرها طريق الخير والشر ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾[الزخرف: 80].
الدين: الذى يجمع شتات الفضائل، ويلم بأطراف المكارم، ويجعل لكل فضيلة جزاء، ولكل كرامة كفاء، ويدعو إلى تزكية النفوس والسمو بها وتطهير الأرواح وتصفيتها ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا* وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾[الشمس: 9-10].
الدين: الذى يدعو إلى التضحية فى سبيل الحق، والفناء فى إرشاد الخلق، ويضمن لمن فعل ذلك جزيل المثوبة، ويعد من سلك هذا المنهج أحسن الجزاء يزين الحسنة وإن صغرت، ويزن السيئة وإن حقرت، يرى الفناء فى الحق خلودًا، والموت فى الجهاد خلودًا ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ﴾[آل عمران: 169-170]، ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾[الأنبياء: 47].
الدين: الذى يشترى من المرء هذه الأعراض الدنيوية وتلك المظاهر المادية بسعادة تمتلئ بها نفسه ويهنأ بها قلبه من فضل الله ورحمته ورضوانه ومحبته ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ﴾[النحل: 96].
الدين: الذى يجمع كل ذلك، ثم هو بعد يصافح الفطرة، ويمازج القلوب، ويخالط النفوس، فيتحد بها وتتحد به، ويتخلل ذرات الأرواح ويساير العقول، فلا يشذ عنها ولا تنبو عنه، يهش له الفلاح فى حقله، ويفرح له الصانع فى معمله، ويفهمه الصبى فى مكتبه، ويجد لذته وحلاوته العالم فى بحوثه، ويسمو بفكرته الفيلسوف فى تأملاته، وهل رأيت على نفوس البشر أقوى سلطانًا من الدين؟ هل رأيت فى تاريخ البشرية أعظم تأثيرًا فى حياة الأمم والشعوب منه؟ وهل رأيت الفلاسفة العلماء ما كان من التأثير البليغ للمرسلين والأنبياء؟
لا وأبيك؛ فإنما الدين قبس من روح الله السارية فى ذرات هذه النفوس وفطرها، يضىء ظلامها، وتشرق شمسها ويأوى إليها فتهش له، فإذا تمكن منها كان كل له فداء ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِى سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِىَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾[التوبة: 24].
الدين: الذى يسمو بقدسيته وجلاله فوق كل نفس، ويعلو على كل رأس، ويجل عن الاختلاق، ويتنزه عن التقليد والمحاكاة، فيوحد بذلك بين القلوب، ويؤلف النفوس، ويقطع مادة النزاع، ويحسم أصول الخلاف، ويزيد ذلك ثباتًا وقوة بتوجيه القلوب على الله وحده، وصرف النفوس عن الأغراض والمطامع والشهوات واللذائذ، والسمو بالمفاسد والأعمال إلى مراتب المخلصين والصادقين الذين يبتغون بعملهم وجه الله لا يرجون من ورائه جزاءًا ولا شكورًا ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾[الشورى: 13].
الدين: الذى يسمو بالوفاء إلى درجة الشهادة ويعده فريضة يسأل بين يدى الله عنها، وفضيلة يتقرب إلى الله بها، ودليلاً على الرجولة الكاملة والعزيمة الصادقة ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً* لِيَجْزِىَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ﴾[الأحزاب: 23-24].
الدين: مجتمع الفكر الصائبة، ومعقد الآمال المتشعبة، ورمز الأمانى الفردية والاجتماعية والقومية والعالمية وذلك تعبير له تعبير ﴿وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾[المنافقون: 8].
رأى قوم أن يصلحوا من أخلاق الأمة عن طريق العلم والثقافة، ورأى آخرين أن يصلحوه من طريق الأدب والفن، ورأى غيرهم أن يكون هذا الإصلاح عن طريق أساليب السياسة، وسلك غير هؤلاء الرياضة، وكل أولئك أصابوا فى تحديد معانى هذه الألفاظ أو أخطأوا، وسددوا أو تباعدوا، وليس هذا مجال النقد والتحديد، ولكن أريد أن أقول: إن الإخوان المسلمين رأوا أن أفعل الوسائل فى إصلاح نفوس الأمم "الدين"، ورأوا إلى جانب هذا أن الدين الإسلامى جمع محاسن كل هذه الوسائل وبعد عن مساويها، فاطمأنت إليه نفوسهم، وانشرحت به صدورهم، وكان أول وسائلهم العملية فى تطهير النفوس وتجديد الأرواح "تحديد الوسيلة واختيار المبدأ"، وعلى هذا الأساس وضعت "عقيدة الإخوان المسلمين" مستخلصة من كتاب الله وسنة رسوله، لا تخرج عنهما قيد شعرة، وفرض الإخوان على أنفسهم حفظها والتزام حدودها وتنفيذ نصوصها والقيام بتعهداتها. وأعتقد أنها وسيلة عملية فى تربية النفوس وتقويم الأخلاق، وبهذه المناسبة أذكر كل أخ مسلم بأن من واجبه أن يحفظ عقيدته ويعمل على إنفاذ ما تستلزمه من تعهدات ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾[التوبة: 119].
انظر:
جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (33)، السنة الخامسة، 10ذو الحجة 1356ه- 13فبراير 1938م، ص(1-3).