ضرورة التلقي على أستاذ أو معلم
بقلم : عمر التلمساني
وأعني به ذلك الرجل الذي فقه دينه وكما يذكر بعض السلف ما معناه: إنكم تعدون الفقيه من عرف أحكام الفقه وقواعد الاستنباط واستطاع أن يرجح بين أقوال الأئمة أو يستنبط الحكم الصحيح في المسألة وأن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم وتأدب بأدبهم .
أما السلف فكانوا يعدون الفقيه من توفرت فيه ثلاث صفات :
الأولى : السابق بيانها .
الثانية : أن يعمل بما يعلم وأن يكون متصفًا بالورع والإنصاف صلبًا في الحق لا يخشى في الله لومة لائم
الثالثة : أن يفقه خبايا النفوس وأمراضها وطرق علاجها .
فقد يصح ظاهر العمل أمام الناس كأن ترى إنسانًا يحسن الوضوء ويؤدي أركان الصلاة كاملة ولكنه يؤديها رئاء الناس فتصبح صلاته باطلة فمهمة الفقيه هنا كيف يعالج هذه القلوب المريضة كلاً بما يناسبه فالعلاج الذي يصلح لنفس لا يصلح لأخرى فإن نفوسًا قد يصلحها الزهد وشظف العيش ونفوسًا أخرى لا يصلحها إلا رغد العيش وسعة المال وعلى الأستاذ أن يعين تلاميذه على سد مداخل الشياطين في النفس ونوازع الهوى حتى يخليها عن الرذائل ويحليها بالفضائل .
أما معظم من بعدهم الناس فقهاء لما يحملون من درجات علمية في علوم الشريعة فجعلهم يعرف أحكام الفقه الظاهر (أعني الذين يعرفون الأحكام العملية التي تضبط تصرفات العباد الظاهرة) وقليل من هؤلاء من يتصف بالقدوة وهو ما جاء بالصفة الثانية وأقل منهم من توفرت فيه الصفة الثالثة .
- ومع هذا فيستطيع كل طالب علم أن يستفيد من كل من توفرت فيه صفة أو أكثر من هؤلاء فأما من توفرت فيه الصفة الأولى فهو يعرف كيف يتعامل مع المصادر الفقهية والمعاجم وأهم كتب التراث ويعرف طرق الاستنباط الفقهي ويعرف ماذا يقدم في الدراسة وماذا يؤخر فإذا كان هذا المعلم لن يتاح أن يتعلم منه سوى هذا فهو أمر جيد خاصة إذا لم يشهر عن هذا المعلم معصية بل قال العلماء قديمًا ما هو أشد من هذا : (خذوا العلم ولو من أفواه الفساق فإن على الحق نورًا يعرف به).
- وأما من توفرت فيه صفة القدوة كما جاء في الصفة الثانية إضافة للأولى فهو أمر جيد لأنه يعين على التربية والاطمئنان إلى صدقه وبعده عن الهوى فكم من كلمة حق يراد بها باطل ولا يوجد أعلم من إبليس وقد يجر الصنف الأول إذا كان صاحب هوى إلى فتنة مضلة إن لم يكن طالب العلم على وعي وحذر ونور من الله تعالى .
ولكن حتى هذا الصنف الثاني فلا يؤخذ منه العلم لفضل قائله ولكن يؤخذ بدلالة الدليل عليه وقديمًا قالوا: لا يعرف الحق بالرجال ولكن يعرف الرجال بالحق ولهذا لا يثنيك فضل القائل ولا درجته العلمية عن طلب الدليل فيما يقول وسؤاله عن المصادر التي يجد فيها ذلك القول ودليله ولا يكتفي بذلك بل يراجع ما قاله العلماء في هذا الدليل وحجيته وما يحتمله من معان وما رجحه أهل العلم في ذلك وما اتفقوا على تركه من المعاني التي يحتملها الدليل .
فكم لقيت من عالم يزعم اتفاق أهل العلم على أمر أجد الاتفاق على خلافه ولا يقول بقوله إلا رأي شاذ.
ولا يؤدي هذا القول مني إلى فقدان الشباب الثقة بعلماء جماعتهم فإن من هذا شأنه يكون ممن يعرف الحق بالرجال ولكن أدعوهم إلى التثبت والتبين فكل إنسان يؤخذ من قوله ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم.
- أما من شغل نفسه بأمراض القلوب وطرق علاجها فلابد أن يسبق ذلك تحقيق الشرطين السابقين لأن هناك من يزعم فن معرفة النفوس وله في ذلك مقالات تعجب السامعين وهو غير متحقق بعلوم الشريعة فهما واستنباطًا فكلامه محل نظر لأنه لن يخلو من شطحات غير منضبطة فعلاج النفوس لا يكون إلا بما جاء في القرآن والسنن الصحاح وكل رياضة لتربية النفوس ليست في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا في قياس صحيح ولا في استدلال يعرفه العلماء المشهورون بالفضل من سلف هذه الأمة فإذا جاء هذا الدعي ووضع أيدينا على قول شاذ من شطحات بعض المتصوفة مستدلاً بنص في غير موضعه علينا أن نقف عند قول أصحاب الفضل المعروفين وعلينا أن نراجع ترجمة ذلك الصوفي وأن نعرف قول العلماء فيه.
- وقد يكون هناك شخص تحقق فيه قدر من كل صفة من الصفات الثلاث السابقة وهو أحد اثنين من الناس :
- أ- إما أن يضع نفسه موضع العلماء فيظنه الناس بلسانه العليم أنه من طبقة العلماء والعارفين وهو ليس كذلك .
- ب- وإما إنسان صادق مع الله فسيبين مكانه للناس في أنه على عتبات الطريق يسعى للحق ويتحراه وهذه فئة طيبة من مثقفي هذه الحركة الإسلامية .
وصمام الأمام مع الاثنين هو سؤالهم عن مصادر المعرفة التي رجعوا إليها لتحري الدليل فيها.
وهنا يسأل سائل: إذا كان الأمر فيه مزالق كثيرة فلم لا نعتمد على كتب التراث وخاصة لمن مات وكان معروفًا بين الناس بصلاحه ؟
نقول: لقد كان شأن السلف الصلاح تلقي العلم عن شيوخهم فأول ذلك ملازمة الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذهم بأقواله وأفعاله ثم التزم التابعون الصحابة سيرتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى فقهوا .
ويعاب على ابن حزم الظاهري أنه لم يلازم الأخذ عن الشيوخ ولا تأدب بأدبهم ويصنف ذلك العلماء الراسخون كالأئمة الأربعة وأشباههم وهكذا انتقل العلم جيلاً بعد جيل إلى عصرنا هذا حقيقة بعد أن دون العلم في الكتب قالوا كان العلم في صدور الرجال وبعد أن صار في الكتب أصبح مفاتحه بأيد الرجال .
أسرارا لتلقي على العلماء
وذلك إن للتلقي على أيدي الأساتذة أسرار كثيرة منها :
- اختصار الطريق لفهم المقصود لأن المعاني التي تقبل الفهم على وجوه شتى يوجه الأستاذ إلى المعنى المقصود .
- ومنها أن التلميذ قد يعجبه علم فيتبحر فيه بينما يكون علمًا لا يبنى عليه عمل فيدله الأستاذ على العلم الذي يعتبر من صلب العلم ليستزيد منه وما هو من العلوم المعاونة للعلوم الأساسية فيأخذ منها بالقدر الذي يحقق مقصود صلب العلم أما طرف العلم فيأخذ منه بالقدر اليسير .
وحتى ما هو من صلب العلم يمكن أن يدرس بمنهج المتعة العقلية وافتراض القضايا أو يدرس بطريقة يقوم عليها عمل .
- وكما ذكرنا سابقًا أن مهمة الأستاذ من السلف لا تقف عند حدود بناء الفهم الصحيح بل تتجاوز ذلك لبناء النفس وتصحيح السقيم منها والحث على العمل الصالح فيحكي أن تلميذًا ذهب إلى الإمام أحمد بن حنبل ليتلقى عليه العلم فأنزله الإمام في إحدى غرف داره ووضع له بجوار فراشه إبريقًا للماء وطستًا يتوضأ فيه فلما جاء وقت الفجر ذهب الإمام ليوقظه ليحضر صلاة الجماعة فوجد الماء في الإبريق كما هو فقال له الإمام 'عجبت لطالب علم لا يقوم الليل'.
- ومن مزايا التلقي على الأستاذ أن يدل تلميذه على أقوال العلماء في المسألة وخاصة أقوال مخالفيه وبيان دليله ودليلهم والأستاذ الصادق مع الله ليس هو الحريص على أن يتبع تلميذه رأيه ولكن هو الحريص على أن يكون لدى تلميذه الحرص على تحري الحق والتقيد بالدليل فيحكى من أخبار سحنون بن سعيد أنه قال : كان مالك وعبد العزيز بن سلمة ومحمد بن إبراهيم بن دينار وغيرهم يختلفون إلى ابن هرمز فكان إذا سأله مالك وعبد العزيز أجابهما وإذا سأله ابن دينار وذووه لا يجيبهم فتعرض له ابن دينار يومًا فقال له يا أبا بكر لم تستحل مني مالا يحل لك ؟ (أي يكتمه العلم وهو محرم عليه ذلك) فقال له يا ابن أخي وما ذاك؟ قال يسألك مالك وعبد العزيز فتجيبهما وأسألك أنا وذوي فلا تجبنا ؟ فقال أوقع ذلك يا ابن أخي في قلبك ؟ قال نعم قال إني قد كبرت سني ودق عظمي وأنا أخاف أن يكون خالطني في عقلي مثل الذي خالطني في بدني ومالك وعبد العزيز عالمان فقيهان إذا سمعا مني حقًا قبلاه وإن سمعا خطأ تركاه وأنت وذووك ما أحبتكم به قبلتموه قال ابن حارث هذا والله والدين الكامل والعقل الراجح لا كمن يأتي بالهذيان ويريد أن قوله من القلوب منزلة القرآن .
* أما عيوب اتباع الأستاذ
- إن شخصية التلميذ تذوب في شخصية الأستاذ ويصير له مقلدًا ولآرائه متعصبًا .
- ومن العيوب أن يتبع التلميذ فردًا يظن أنه عالم وما هو بعالم وإن حمل الدرجات العلمية.
وعلاج ذلك
أن يكون للتلميذ أكثر من شيخ وأستاذ ومعلم فإن كثرتهم مفيدة لأن لكل فرد أسلوبًا موضوعيًا وأسلوبًا ذاتيًا .
- فالأسلوب الموضوعي عادة ما يكون شموليًا فلكل علم قواعد فإذا تعرض الشيخ للفقه فيخضع لمناهج التفكير الفقهي وإذا تناول التفسير أخضع بحثه قواعد التفسير وهكذا .
- أما الأسلوب الذاتي فهو إما فكري وإما سلوكي .
- فالأسلوب الفكري يخضع لثقافة الشخص الخاصة كأن يكون مؤرخًا فيفسر القرآن تفسيرًا تاريخيًا ودروسه قائمة على ثمار تجارب الأمم ويرى أن التفكير من خلال تاريخ الأمم والشعوب هو تفكير عريض يسع الكثير وأن الله تعالى ناقش العقائد والأخلاق والشرائع من خلال قصص الأمم الغابرة وتاريخها لتتحقق لنا منهم العبرة .
ويرى اللغوي غير ذلك وهكذا يرى صاحب كل علم وفن في علمه وفنه أشرف العلوم وأخطر المعارف
- أما الأسلوب الذاتي السلوكي فقد يكون الأستاذ كريمًا أو يعيش على القصد متصوفًا أو غير متصوف وهكذا .
نستخلص من هذا أن اختلاف مناهج التفكير واتقان فرع من فروع المعرفة يلقي زوايا من الضوء تفيد التلميذ فيما توسع فيه استاذه من المعرفة .
فكثرة الشيوخ يوجد حوارًا مكشوفًا بين العلماء أو حوارًا مستورًا في عقل التلميذ فيتلقى من كل شيخ على مسألته إجابة مختلفة عن سابقه قد يقع طالب العلم في أول الأمر في حيرة ولكنه بعون الله وإعادة النظر فيما يقرأ ويسمع سيصل إلى الحقيقة فهذا الحوار يفتح الذهن ويلمع العقل ويكشف زوايا النقص عند هذا وعوار فكر ذاك .
هذا بالإضافة أنه سيترك في شخصية التلميذ بصمات من الجود في نفسه لما لقيه من كرم هذا ونفحات من عمق العبادة لما تتسمه من الجو الروحي في عبادة ذاك ومن التدقيق والتحري وراء المسائل لما تعلمه من عمق البحث ومعرفة المصادر من الآخر ومن سعة الصدر وعدالة الحكم على الناس لما لمسه من سماحة هذا وتحمله لمتاعب الناس وتحريه العدالة في الحكم وهكذا فيتسع عقله وقلبه لاتفاق الناس وخلافهم فلا يضيق واسعًا وإن أخذ بعزيمة فلا ينتقص من قدر من أخذ بالرخصة ولا يضيق صدره بمخالفة ما دام يتأول تأويلاً مستساغًا له فيه منوحة.
المصدر
- مقال:ضرورة التلقي على أستاذ أو معلمموقع:الشبكة الدعوية