صور من حضارتنا فى حقوق الإنسان
بقلم : المنشاوى الوردانى
محتويات
- ١ المساواة .. كنموذج
- ٢ منعا للجحود ... والحق المهدر ..
- ٣ سيدا في الأرض والسماء ..
- ٤ تعاليم الإسلام .. ووظيفة الإنسان
- ٥ المساواة والعدالة في القرآن والسنة
- ٦ المساواة مع الموهبة ... وعدم الطغيان على الاختصاص .
- ٧ حتى لا تضيع الأمانة .. تحقيق المساواة الصحيحة
- ٨ مونتسيكيو كاتب فرنسا ... وجبلة بن الأيهم
- ٩ صور من حضارتنا الإسلامية .. في حق المساواة
- ١٠ وشهد شاهد من أهلها
- ١١ كلمة هامة جدا..
- ١٢ هوامش
- ١٣ المصدر
المساواة .. كنموذج
- ترجع أهم حقوق الإنسان العامة إلي حقين رئيسيين .. المساواة والحرية . وقد ادعت الأمم الديمقراطية الحديثة أن العالم الإنساني مدين لها بتقرير هذين الحقين وما تفرع عنهما من حقوق . وتنازعت فيما بينها فضل السبق إلي ذلك . فذهب الإنجليز إلي أنهم أعرق شعوب العالم في هذا المضمار , وزعم الفرنسيون أن هذه الاتجاهات جميعا كانت وليدة ثورتهم . وأنكرت أمم أخرى على الإنجليز والفرنسيين هذا الفضل وادعته لنفسها .
والحق أن الإسلام هو أول من قرر المبادىء الخاصة بحقوق الإنسان في أكمل صورة وأوسع نطاق , وأن الأمم الإسلامية في عهد النبي محمد(r) والخلفاء الراشدين من بعده كانت أسبق الأمم في السير عليها , وأن الديمقراطيات الحديثة جميعا لا تزال متخلفة في هذا السبيل تخلفا كبيرا عن النظام الإسلامي .. (1)
منعا للجحود ... والحق المهدر ..
الحديث عن الأسلاف والتاريخ الحضاري يكون لغوا عندما يكون فقط للتغني على ألسنة العاطلين اعتذارا عن تقصيرهم أو افتخارا بأصولهم ولكنه الآن واجب منعا للجحود .. والحق المهدر .. إذا كان أسلافنا هم أصحاب الريادة في ذلك .. ويوم يكون الذين انتفعوا بهذه الحضارة مصابين بداء الغمط والنسيان أو مصابين بداء الحقد والنكران . (2)
لقد كانت أوروبا في ظلام دامس يوم كان العرب ينتقلون بين أقطار الأرض انتقال الشروق من أفق إلي أفق , ويحملون معهم يقظة الأفكار والأفئدة وشرف السيرة والخلق . فلو لم يجيء العرب برسالتهم هذه ما كان أمام الغرب إلا أحد مصيرين . إما أن يتلاشى مع الجهالات والضغائن التي خالطت شئونه ظاهرا وباطنا .. وذلك هو الأرجح ..!! وإما أن يتأخر صحوه إلي القرن السادس والعشرين أو السادس والثلاثين للميلاد بدل أن تهز كيانه حركة الإحياء خلال القرن السادس عشر . غير أن المبادىء النفسية والعقلية التي صحبت الحضارة الإسلامية ورشحت من دار الإسلام على ما جاورها من أقطار , عجلت – ونستطيع أن نقول – خلقت اليقظة الأوروبية الأخيرة وأمدتها بأسباب النماء .(3)
سيدا في الأرض والسماء ..
لقد كانت تجارب الأمم مع الطغاة والمستبدين كثيرة ومريرة .. وظل الجهاد النبيل لتخليص الأفراد والجماعات من قيود الذل والانحطاط موصولا على اختلاف الأزمنة والأمكنة . ولما كان الإسلام هو الرسالة الخاتمة لديانات السماء كلها , فقد ضمنه الله – جل وعلا – من التعاليم ما يكفل للبشر حياة مستقرة . وما يوضح الحقوق المقررة لكل إنسان . بل ما يفصل هذه الحقوق تفصيلا يمنع الريبة والجدل . ثم إن قدر الإنسان – في ظل في ظل الإسلام – رفيع , والمكانة المنشودة له تجعله سيدا في الأرض والسماء . ذلك أنه يحمل بين جنبيه نفخة من روح الله , وقبسا من نوره الأقدس وهذا النسب السماوي هو الذي رشحه ليكون خليفة عن الله في أرضه . وهو الذي جعل الملائكة – بل صفوف المخلوقات الأخرى – تعفو له وتعترف بتفوقه ( إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين . فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ) ( ص/71-72)
وصحيح أن للبشر أخطاء لا يليق أن يتورطوا فيها , وأن لهم مسالك ما كان ينبغي أن تقع منهم , ولكن كرامة الجنس البشري في جملته لا تسقط بهذه الأخطاء وتلك المسالك وأن نعمة إيجاده وإمداده لا تهدر لهذه العشرات البشرية (4)
تعاليم الإسلام .. ووظيفة الإنسان
إذا كانت الإنسانية تمردت في المزالق التي اعترضتها . وأصابها كثير من الهوان والانحطاط الذي كاد ينسيها أصلها ووجهتها ... أصلها العريق , ووجهتها الكريمة .. فقد تعهد الله جماهير البشر برسله كي يقودوا القافلة ويهدوها الطريق .
ثم جاء الإسلام بتعاليمة الخالدة من كتاب وسنة . فكان نفحة ضخمة من السماء لتوطيد مكانة الإنسان على الأرض . كان حماية له من الآفات التي تمسح وظيفته في الوجود أو تحرمه الحقوق المقررة له منذ الأزل , مادية كانت هذه الحقوق أو أدبية .
وركائز هذه الحقوق كانت إلي القرن الماضي لا تعدو الجوانب السياسية والمدنية .. ثم زادت حساسية الجماهير , وبدأ تطلعها إلى آفاق أعلى , فقررت الحقوق : الاجتماعية والاقتصادية والثقافية . وأحصاها جميعا الميثاق العالمي إحصاء تستوعب التفاصيل ولا يسأم التكرار .
وقد عدنا إلى الإسلام ... نستخرج منه هذه الحقائق جملة .. ونفصل في حق المساواة والعدالة كحق سام تهفو إليه الشعوب وهو بيت القصيد في الحركات السياسية في العالم .. ومصدر وسبب الصراع والتعب في حياة البشرية .
المساواة والعدالة في القرآن والسنة
هذا باب رحب واسع قد تكتب فيه حلقات ولكننا نحاول الاقتراب من هذا البستان نقتطف منه ثماره .. ونشم من أزهاره دون إخلال ...
- قال تعالى (يا أيها الناس اتقو ربكم الذي خلقكم من نفس واحده وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ) ( النساء / 1 )
- وقال تعالى ( يا بنى آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتى فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ( الأعراف / 35 )
يقول الشيخ الغزالي - رحمه الله - إن هذين النداءين نماذج لضروب النداء التي وردت في القرآن الكريم والتي توضح بان الانسانيه معنى مشترك يتساوى سكان الأرض في حقيقته ونتيجته , لا فرق بين أهل المناطق الحارة والمناطق الباردة , ولا فرق بين آبائهم من قرون مضت أو ذراريهم بعد قرون مقبله . واختلاف البشر في اللغات والألوان لا يخدش ما تقرر من تساويهم في الحقيقة الانسانيه الاصليه . إنه_ والكلام للغزالي _ كاختلاف ألوان الورود في البستان , واختلاف الأزياء التي يرتديها الإنسان وقد رفض الإسلام رفضا حاسما أن يكون ذلك مثار تفرقه أو سبب انقسام بل جعله بالنسبة إلى الخالق الكبير آية على إبداعه
( ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين )" ( الروم / 22 )
وبالنسبة إلى الناس أنفسهم مثار تعارف لا تناكر , وائتلاف لا اختلاف .
قال تعالى :( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) ( الحجرات / 13 )
ويقول صاحب الرسالة - r وهو يخطب الناس في حجة الوداع : " أيها الناس , إن ربكم واحد , وان أباكم واحد, كلكم لآدم , وآدم من تراب , أكرمكم عند الله اتقاكم , ليس لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي , ولا لأحمر على أبيض , ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى : ألا هل بلغت ؟ اللهم فاشهد , ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب " (6)
- وتقاول مره أبو ذر الغفاري وعبد زنجي في حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فاحتد أبو ذر على العبد وقال له : " يا ابن السوداء " فغضب النبي الكريم, وقال :" طف الصاع , طف الصاع ." اى قد تجاوز الأمر حده " ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى أو بعمل صالح " ,فوضع أبو ذر خده على الأرض , وقال للأسود :" قم فطأ على خدي "
- وروى الإمام مسلم بسنده عن أبى هريرة - رضي الله عنه - انه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) (7) .
- وإذا نظرنا إلى قوله تعالى :( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم ) الحجرات /11) فقد نزلت من وفد بنى تميم عندما استهزأو بفقراء الصحابة أمثال عمار وبلال وخباب وابن فهيره وصهيب وسلمان وسالم مولى أبى خديقة وغيرهم , لما رأوه من رثاثة حالهم . وقيل نزلت في سخريه الغنى بالفقير , وقيل في عكرمة بن أبى جهل ,فعندما جاء المدينة مسلما كان بعض المسلمين إذا رأوه قالوا: ابن فرعون هذه الأمة ,فشكا ذلك إلى الرسول - صلوات الله وسلامه عليه- فنزلت هذه الايه ... وقال ابن عباس نزلت في ثابت بن شماس حيث عير أحد الناس في مجلس لرسول الله بأمه (8) .
· وقد ساق الشيخ عطية صقر - رحمه الله - شواهد توضح حسن الفهم لمسالة المساواة ... فقال رحمه الله : " المساواة الصحيحة هي في تهيئة الفرص للكمال المادي والادبى , بمعنى أن لكل إنسان الحق في أن يكافح ويعمل ليكمل نفسه ماديا وأدبيا بالتزام القواعد والنظم المقررة لذلك بحيث لا يكون هناك تمرد على الطبيعة أو طغيان على حقوق الآخرين .
قال تعالى ( من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ) فصلت / 46 ) .
(وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) (التوبة / 105)
( وان ليس للإنسان إلا ما سعى . وان سعيه سوف يرى . ثم يجزاه الجزاء الأوفى )( النجم /39-41) .وفى الحديث الشريف " اعملوا فكل ميسر لما خلق له " ولا يجوز أبدا أن توضع عقبات تحول دون الإنسان وتكمل نفسه في المجالات المختلفة إلا بضوابط قوية يضعها الدين ,أو تحددها القوانين المنظمة لحياة المجتمع والقائمة على أصول صحيحة , ليس منها هوى ولا غرض ولا تعصب ولا عنصرية وما إلى ذلك , وهذا حق طبيعي لكل إنسان بمقتضى انسانيته لا يحرمه منه لون أو لغة أو بيئة أو نسب أو غنى أو فقر وما إلى ذلك من الأوضاع العارضة التي لا تمس جوهر الإنسان كانسان.
وقد جاء الإسلام ليقرر هذه المساواة في إتاحة الفرض فجعلهم فيها سواسية كأسنان المشط ,لا يتفاضلون إلا بالمواهب الخيرة والأعمال الصالحة(إن أكرمكم عند الله أتقاكم)(الحجرات /13) وجاءت النداءات في القرآن عامة شامله عند الدعوة إلى كل خير : ( يا أيها الناس ),(يا أيها الذين آمنوا),(يا بنى آدم) وأبطل الأوضاع السابقة التي تحول دون هذا الحق , جاعلا السبق للعاملين المجدين , ونادى النبي أهل بيته وقال :( خذوا لأنفسكم لا أغنى عنكم من الله شيئا ) (11) وقال : ( من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه ) (12)
وهيأ الفرض لذوى الكفايات أن يتولوا المناصب دون نظرا إلى لون وجنس وغنى وفقر . كما جعل الجميع متساوين في المسئولية قاضيا على الاستثناءات والمحسوبيات , وطبق النبي ذلك على نفسه وعلى ذويه واقرب الناس إليه ,والنصوص في ذلك أكثر من أن تحصر وكان تطبيقه لمبدأ المساواة في تكوين الأسر واصهار البيوت بعضها لبعض نموذجا عاليا للديمقراطية الإسلامية الصحيحة . وموفقه من تزوج زينب
بنت جحش - الشريفة القرشية - من زيد بن حارثه مولاه , قد حطم به الحواجز المصطنعة من الاحساب والأنساب .(13)
المساواة مع الموهبة ... وعدم الطغيان على الاختصاص .
ولكن هناك نقطة هامه نوضحها .. وهى أن المساواة بمعناها المطلق لا تصلح في إدارة الحياة .. فأهل الموهبة والفهم والاختصاص لها السبق والريادة في إدارة شئون الحياة وهذه من أمانة الإسلام. فالذين يريدون المساواة بمعناها المطلق - الكلام للشيخ عطية صقر - قوم خياليون وهم في الحقيقة أعداء للمجتمع. فهل من العقل والحكمة مثلا أن يولى جبان قيادة الجيوش , أو يقلد جاهل منصب التعليم والإفتاء أو يعطى الخامل من الأجر مثل ما يعطى المجد المناضل ؟ وهل من المساواة أن يزحم بعض الشباب رجلا له احترامه الادبى في سنه أو علمه في مجلس , أو يغلط له في القول أو يتعالى عليه دون مراعاة للأدب والذوق ؟ إن النبي _ r _ يقول : " إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبه المسلم , وحامل القران غير الغالي فيه والمتجافى عنه , وذي سلطان فقسط" (14) ؟
ويقول : " ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا " (15)
ويقول :" إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه "(16), وكان ذلك عندما قدما عليه جرير بن عبد الله فمد له النبي له ثوبه ليجلس عليه . وفى الحديث أيضا " انزلوا الناس منازلهم " (17)" ما أكرم شاب شيخا لسنه إلا قيض الله له من يكرمه عند سنه "(18).
ولما ذهب عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلي النبي r وهما عائدان من خيبر , أراد عبدالرحمن أن يتكلم , فقال له النبي " كبر كبر " (19) أي اترك الكبير يتكلم , وكان عبدالرحمن أصغرهم فسكت .
حتى لا تضيع الأمانة .. تحقيق المساواة الصحيحة
النبي r جعل المناصب لمن يستحقها بكفايته وعمله , وحذر من إهمال هذه القاعدة وقال " إذا وسد الأمر إلي غير أهله فانتظر الساعة " (20) وكان ذلك جوابا عن كيفية إضاعة الأمانة . وجاء في الحديث الشريف " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء , حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فأفتوهم بغير علم فضلوا وأضلوا " (21) وجاء أيضا في الحديث " أ، رسول الله r لعن المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال "(22)
مونتسيكيو كاتب فرنسا ... وجبلة بن الأيهم
مونتسيكيو هذا .. هو كاتب فرنسا الشهير .. وجبلة بن الأيهم .. نصراني أسلم في عهد عمر بن الخطاب t كلاهما لم يفهما معنى المساواة الحقيقية والصحيحة التي جاءت وسطا بين المذاهب المتناقضة في كتابه ( روح القوانين ) برر مونتسيكيو اتخاذ الزنوج عبيدا وقال : إن شعوب أوروبا بعدما أبادت سكان أمريكا الأصليين , وهم الهنود الحمر , لم تر بدا من استعباد شعوب أفريقية لكي تستخدمها في استغلال هذه الأقطار الشاسعة , فان هذه الشعوب سود البشرة من أقدامهم إلي رؤوسهم , ولا يمكن أن يتصور أحد أن الله , وهو ذو الحكمة البالغة قد خلق روحا , وعلى الأخص روحا طيبة , في أجسام حالكة السواد !! وجبلة بن الأيهم كان أميرا تتوفر له شارات السيادة في الجاهلية والإسلام وأسلم مع من دخل من جماهير العرب في هذا الدين . عرض له يوما أن كان يطوف بالكعبة فزاحمه أعرابي من العامة , وداس ثوبه غير قاصد فاستشاط الأمير غيظا ولطم الأعرابي على وجهه .
ورفعت إلي عمر بن الخطاب القضية , فحكم بالقصاص إلا أن يعفو الأعرابي .. فقال جبلة مستكبرا : كيف ؟ وهو سوقة وأنا ملك .
فقال عمر قولته الحاسمة : إن الإسلام سوى بينكما ..!! وارتد الأمير عن الإسلام .. لقد ترك أرض المساواة وآثر أرض الطبقات .. حيث فر إلي أرض الرومان .
صور من حضارتنا الإسلامية .. في حق المساواة
(1) حاول البعض في عصر الرسول الكريم أن يخدش قاعدة المساواة العامة أمام القانون , فقوبلت محاولاته بكل شدة .. وذلك أن قريشا أهمها أمر المرأة المخزومية التي سرقت فرأوا أن يستشفعوا بأسامة بن زيد إلي رسول الله r كي يمنع إقامة الحد على المرأة .. وكانت النتيجة شهيرة ومعروفة .. قول النبي الأعظم " أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة " ؟ ثم قام في الناس خطيبا يقول لهم :" إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه , وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد . وأيم الله .. لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها " (23)
(2) لما ظهر الإسلام كان المؤذن لرسول الله r بلالا العبد الأسود , وكان صوته هو الذي ينادي جماعة المؤمنين خمس مرات كل يوم للوقوف بين يدي الله . ولما فتحت مكة صعد بلال هذا مؤذن الكعبة المقدسة , يرفع عقيدته بشعار الإسلام " الله أكبر الله أكبر .. أشهد أن لا اله إلا الله "
(3) عير أبو ذر الغفاري أحد الزنوج واشتط به الغضب فقال له " يا ابن السوداء " .. سمع الرسول الكريم هذه الكلمة النابية فأنكرها أشد الإنكار وقال لأبي ذر :" أعيرته بأمه ؟ إنك امرؤ فيك جاهلية ".. وبقية القصة ذكرناها آنفا .
(4) لقد نصر دعوة الإسلام الفقراء والسود من أبناء العرب والعجم كبلال بن رباح وعمار بن ياسر وخباب بن الأرت وصهيب الرومي وسلمان الفارسي وسالم مولى أبي حذيفة وغيرهم .
(5) أحبت قريش أن تقلب ميزان المساواة والعدل .. وطلبت قسمة جائرة تطالب فيها بطرد المستضعفين والفقراء عن دعوة النبي الأكرم مقابل صفقة يكونون هم في صدارة الدعوة .. ورفض رسول الله r ونزل الوحي يحسم القضية كلها : " ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين . وكذلك فتنا بعضهم ببعض " ( الأنعام /52-53 ) .. وهكذا ألقت السماء كلمتها : إن المبادىء لا يضحى بها ولو من ناحية الشكل ومن دخل في دين الله فليخلع عن نفسه أردية الجاهلية . (24)
(6) شكا يهودي عليا إلي عمر بن الخطاب في خلافة عمر , فلما مثلا بين يديه خاطب عمر اليهودي باسمه بينما خاطب عليا بكنيته , فقال له : يا أبا الحسن حسب عادته في خطابه معه , فظهرت آثار الغضب على وجه علي . فقال له عمر : أكرهت أن يكون خصمك يهوديا وأن تمثل معه أمام القضاء على قدم المساواة ؟ فقال علي : لا ولكنني غضبت لأنك لم تسو بيني وبينه , بل فضلتني عليه إذ خاطبته باسمه بينما خاطبتني بكنيتي.
(7) لما تولى أبوبكر الخلافة بعد رسول الله r خطب الناس فقال :" أيها الناس إني وليت عليكم ولست بخيركم فان أحسنت فتابعوني , وان صدقت فقوموني , القوي فيكم ضعيف حتى اخذ الحق منه , والضعيف فيكم قوي حتى اخذ له الحق . أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فان عصيت فلا طاعة لي عليكم "
(8) وقال عمر بن الخطاب في أول خطبة له بعد توليه الخلافة .. " أيها الناس انه والله ما فيكم أحد أقوى عندي من الضعيف حتى اخذ الحق له , ولا أضعف عندي من القوي حتى اخذ الحق منه .ويقول في رسالته في القضاء التي كتبها إلي أبي موسى الأشعري , وهى التي جمع فيها معظم أحكام الإسلام في القضاء :" من عبدالله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلي عبدالله بن قيس : سلام عليك أما بعد : فان القضاء فريضة محكمة , وسنة متبعة , فافهم إذ أدلي إليك , وأنفذ إذا تبين لك , فانه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له.. آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك , حتى لا يطمع شريف في حيفك , ولا ييأس ضعيف من عدلك ". ويقول في وصيته للخليفة من بعده :"اجعل الناس عندك سواء , لا تبال على من وجب الحق , ثم لا تأخذك في الله لومة لائم ,وإياك والأثرة والمحاباة فيما ولاك الله " .
(9) وقال أمير المؤمنين عثمان بن عفان حينما ضاق الناس ببعض تصرفاته :" إني أتوب وأنزع , ولا أعود لشيء عابه المسلمون فإذا نزلت من منبري فليأتني أشرافكم فليروني رأيهم . فوالله لئن ردني الحق عبدا لأذلن ذل العبيد ".
(10) وقال عمر بن الخطاب للناس يوما : " ما قولكم لو أن أمير المؤمنين شاهد امرأة على معصية ؟" – يعني أتكفي شهادته في إقامة الحد عليها ؟؟ فقال له على بن أبي طالب :" يأتي بأربعة شهداء أو يجلد حد القذف شأنه في ذلك شأن سائر المسلمين"
(11) حدث مرة أن ولدا لعمرو بن العاص ضرب رجلا من دهماء المصريين في عهد ولايته على مصر . فأقسم المجني عليه ليشكونه إلي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب . فقال له : اذهب فلن ينالني ضرر من ضرر من شكواك , فأنا ابن الأكرمين .. وقضى عمرو في القضية في موسم الحج وقال لعمرو بن العاص قولته المشهورة :" متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا "؟! ثم توجه إلي الشاكي وناوله درته , وقال له " اضرب بها ابن الأكرمين "
(12) عن جابر قال :" مرت بنا جنازة فقام لها النبي r وقمنا فقلنا : يا رسول الله إنها جنازة يهودي ؟ قال : إذا رأيتم جنازة فقوموا " وفي رواية أخرى : " أليست نفسا ؟" (25)
(13) روى سفيان : سمعت عن حماد بن أبي سليمان يحدث عن الشعبي أن أم الحارث بن أبي ربيعة ماتت وهي نصرانية فشيعها أصحاب النبي r .
(14) وعن سعيد بن جبير : قلت لابن عباس : رجل فينا مات نصرانيا وترك ابنه . قال ينبغي أن يمشي معه ويدفنه . (26)
(15) كتب عمرو بن الخطاب منشورا للناس يقول فيه : إني لم أبعث عمالي – يعني الولاة – ليضربوا جلودكم ولا ليأخذوا أموالكم . فمن فعل ذلك فليرفعه إلي لأقتص له . فقال عمرو بن العاص : لو أن رجلا أدب بعض رعيته أنقصه منه ؟ فقال عمر " أي والذي نفسي بيده لأقصنه منه وقد رأيت رسول الله r يقص من نفسه .."
(16) عندما سافر عمر بن الخطاب t إلي بيت المقدس للتفاوض مع البطريرك في تسليم البلد عقب حصارجيش أبي عبيدة لها لم يكن معه هو وغلامه إلا ناقة واحدة فكانا يتناوبان ركوبها الواحد بعد الآخر , إلي أن اقتربا من بيت المقدس , وكان الدور للغلام في الركوب , فلم يجد عمر غضاضة من المشي وغلامه راكب , حتى دخلا بيت المقدس على هذه الحال .
(17) تنازع الأمير العباسي إبراهيم بن الخليفة المهدي هو وبخيتشوع الطبيب ( وكان نصرانيا ) بين يدي القاضي أحمد بن أبي دؤاد , فزري إبراهيم على بختيشوع , وأغلظ له , فأحفظ ذلك القاضي فقال : يا إبراهيم إذا نازعت أحدا في مجلس الحكم فلا ترفع عليه صوتك , ولا تشر إليه بيدك , وليكن قصدك أمما ( أي معتدلا ) , وطريقك نهجا (أي واضحا ) , وريحك ساكنة , وكلامك معتدلا , ووف مجالس الحكومة حقها من التوقير والتعظيم . فقال الأمير إبراهيم : أمرت بسداد , وحضضت على رشاد . ولست بعائد إلي ما يثلم مروءتي عندك , ويخرجني من مقدار الواجب إلي الاعتذار وقد وهبت حقي من هذا العقار لبختيشوع , فليت ذلك يمحو ذلتي .
· والصور الحضارية والأخلاقية في المساواة عبر عصور الإسلام كثيرة خاصة بين المسلمين والذميين والمسلمين بعضهم البعض .. وكذلك المساواة مع الأرقاء وحسن معاملة الخدم .. وهذه تحتاج إلي صفحات طوال .. ولكننا نكتفي بما أشرنا إليه من صور دون إقلال ودون إخلال (28)
وشهد شاهد من أهلها
(أ) تحدث مندوبو المقوقس عظيم القبط في مصر بعد أن قابلوا عمرو بن العاص فقالوا: رأينا قوما الموت أحب إليهم من الحياة ,والتواضع أحب إليهم من الرفعة , ليس لأحد منهم في الدنيا رغبة , جلوسهم على التراب , وأميرهم كواحد منهم , ما يعرف كبيرهم من صغيرهم , ولا السيد فيهم من العبد ,وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها أحد , يغسلون أطرافهم بالماء , ويخشعون في صلاتهم .
(ب) تعجب نابليون بونابرت من انتشار الإسلام بقوله : إن وراء هذا سرا لا نعلمه ..إننا إذا طرحنا جانبا الظروف العرضية التي تأتى بالعجائب , فلابد أن يكون وراء انتشار الإسلام سر لا نعلمه , وأسباب مجهولة مكنته من الانتصار السريع على المسيحية. وربما كانت العلة المجهولة أن هؤلاء القوم الذين وثبوا فجأة من أعماق الصحارى قد صهرتهم قبل ذلك حروب داخلية عنيفة طويلة , تكونت في أثنائها أخلاق قويه , ومواهب عبقرية, وحماسة غلابة , وربما كانت هذه العلة شيئا آخر من هذا القبيل ..(29)
(ت) ذكر نورمان بينز أنه لما فتح العثمانيون القسطنطينية كان أكثر الشعب المسيحي في عشية الكارثة ينفرون من أي اتفاق مع كنيسة روما الكاثوليكية أشد من نفورهم من الاتفاق مع المسلمين . وما زال الناس يرددون الكلمة المشهورة التي نطق بها رئيس ديني في بيزنطة في ذلك الحين , وهى : إنه لخير لنا أن نرى العمامة التركية في مدينتنا من أن نرى فيها تاج البابوية (30)
كلمة هامة جدا..
إذا كنا أخذنا نموذج المساواة والعدالة بهذا الاختصار غير المخل في مسألة انتصار الإسلام لحقوق الإنسان .. فإننا نسأل أنفسنا سؤالا هاما .. ما الفائدة .. وقد عاد المسلمون إلى العصبية الجاهلية والطبقية وغلبة منتجعات ومجتمعات الأغنياء على الفقراء .. وهذا ما بدأت تشهده الساحات العمرانية في بلاد المسلمين .. وكذلك التردي الأخلاقي الذي شوه شوارع المسلمين .. وتعالى فيها كل غنى على كل فقير .. والأمير على الخفير .. واستقوى الكبير على الصغير .. وتسلط أصحاب النفوذ والمال والسلطان على الضعفاء من بنى الإنسان.. ما الفائدة من التغني بأمجاد الماضي .. ونحن نحتاج إلى التحلي بهذه الأمجاد سلوكا وعملا حتى يثب العملاق مرة أخرى محققا الطفرة الحضارية التي حققها أسلافنا .
لقد كانت حضارتنا ثورة إسلامية في مجال حقوق الإنسان أطلقت جيوش العرب من مكانها في الجزيرة لهدم عروش الجبارين وإقرار مبدأ المساواة بين الناس. " إن أولئك المسلمين الأحرار عدوا القياصرة والأباطرة أصناما حية ورأوا من إخلاصهم لكلمة التوحيد أن تتحول هذه الأصنام إلى أنقاض . فليس من توحيد الله أن يثنى إنسان صلبه ثم يهوى على الثرى ليقبل نعل رجل ما , تصف الأساطير بأنه إمبراطور !! والغريب أن تلك الصور التي هدمها الإسلام من قرون طوال لا تزال لها بقايا بين الناس حتى الآن ..!!
هوامش
(1) حقوق الإنسان في الإسلام , د/ على عبد الواحد وافى , وزارة الأوقاف المصرية , 1950 , ص3
(2) حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة , الشيخ محمد الغزالي , دار الدعوة بالإسكندرية , 1992 , ص5
(3) الشيخ محمد الغزالي , المصدر السابق
(4) المصدر السابق .. بتصرف
(5) المصدر السابق , ص13
(6) رواه ابن هشام
(7) رواه مسلم
(8) الجامع لأحكام القرآن للقرطبى / تفسير سورة الحجرات وانظر كتاب (مفاهيم دينية ) للدكتور /أحمد عمر هاشم , المجلس الأعلى للشئون الإسلامية من ص 79 -82
(9) من كتاب ( منارات على الطريق ) للشيخ عطية صقر , دار الغد العربي بالقاهرة 1996, ص 303-307
(10) رواه الطبراني
(11) رواه البخاري ومسلم
(12) رواه مسلم
(13) انظر كتاب منارات على الطريق للشيخ عطية صقر
(14) رواه أبو داود بإسناد حسن
(15) رواه أبو داود والترمذي وقال : حسن صحيح .
(16) رواه الطبراني والحاكم وغيرهما
(17) رواه أبو داود- رياض الصالحين ص 170
(18) رواه الترمذي وقال غريب.
(19) رواه البخاري ومسلم
(20)رواه البخاري
(21) رواه البخاري ومسلم
(22) رواه البخاري
(23) رواه البخاري
(249 من كتاب ( هذا ديننا ) للشيخ محمد الغزالي
(25) رواه البخاري
(26) من كتاب ( المحلى ) لابن حزم , باب الجنائز
(27) رواه احمد
(28) انظر في تفصيل هذه الصور الحضارية في حقوق الإنسان..
- (ا) البداية والنهاية للحافظ ابن كثير الدمشقي
- (ب) تاريخ الإسلام للإمام الذهبي
- (ج) صفة الصفوة لابن الجوزى
- (د) فجر الإسلام للأستاذ أحمد أمين
- (ه) عظمة الإسلام لمحمد عطية الابراشى
- (و) العبقريات للأستاذ عباس محمود العقاد
- (ز) حياة محمد للدكتور / محمد حسين هيكل
- (ح) سماحة الإسلام للدكتور /أحمد الحوفى
- (ط) حقوق الإنسان في الإسلام للدكتور / على عبد الواحد وافى
- (ى ) حقوق الإنسان.. للشيخ محمد الغزالي
- (ك) صور من حياة الصحابة للدكتور /عبد الرحمن رأفت الباشا ....وغيرهم
(29) مذكرات سانت هيلين 3/183 عن كتاب محمد رسول الله .. وسماحة الإسلام
للدكتور / احمد محمد الحوفى /القاهرة/1997 ( انظر ص 80- 85)
(30) من كتاب ( سماحة الإسلام ) للدكتور الحوفي نقلا عن الإمبراطورية 391 لنورمان بتيز .
(31) حقوق الإنسان للشيخ محمد الغزالي , ص 20
المصدر
- مقال:صور من حضارتنا فى حقوق الإنسانموقع:الشبكة الدعوية