صناعة المجد والريادة

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
صناعة المجد والريادة
توفيق الواعي.jpg

بقلم: أ. د. توفيق الواعي

الأمم هي التي تصنع التاريخ، وتُنشِئ الحضارات، وتنهد إلى المجد، وتتنوع الحالات الراهنة في هذه الصناعة على ثلاثة اتجاهات اليوم:

الأول: أمة ليس لها تاريخ، وهذه تحتاج لبناء مجدها إلى جهد أكبر، وعمل أشمل وفكر أوسع، لتستطيع أن تكتب لذاتها صحائف مجد، وتسطِّر لنفسها وقائع فخار، وتثبِّت لشعبها مكانة عز.

الثاني: أمة لها تاريخ، ولكنها نامت عنه، وضلت دروبه، وفرَّطت في مجده، واتبعت شهواتها الجامحة وشيطانها الرجيم، واستبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير، وعاشت أماني كذابًا، وأحلام يقظة، وأمجادًا خُلَّبًا، بعيدًا عن الحقيقة والواقع.

الثالث: أمة تعيش قمتها الحضارية، ومجدها السامق، وهذه يلزمها مضاعفة الجهد؛ لتظل متربِّعةً على القمة، تسابق الزمن لتتعدَّى الراكضين نحو المجد، والساعين إلى الريادة.

فسابقوا المجد حتى ملَّ أكثرهم وعانق المجد من وفَّى ومن صبرا

والأمم ينتهي أمرها بالتصدع الحضاري، وتذوب ثقافةً وفكرًا وشخصيةً في حضارة أخرى جديدة، إذا فقدت عناصر بقائها، وذابت ثقافتها، وأصبحت لا تستطيع مقاومة الأفكار الجديدة، أو استيعاب الحياة المتطورة، فتأتي حضارة أخرى تستطيع ذلك، وترث تلك الحضارة البائدة، وعلماء الحضارة يقررون أن الثقافات التي تتربى عليها الأمم لها أعمار وأطوار.. أطوار تتدرج فيها، وأعمار تقضيها وتعيشها.

فابن خلدون في تأملاته العديدة، وباعه الطويل في دراسته للحضارات، وطبيعة العمران، يقرر أن الحضارات تتعاقب على الأمم في أربعة أطوار، هي: طور البداوة، ثم طور التحضر، ثم طور الترف، ثم طور التدهور الذي يؤدي إلى السقوط.

وقد سار على رأي ابن خلدون الفيلسوف الاجتماعي الإيطالي "فيكو" (Vico)، فقرَّر "أن المجتمعات تمر بمراحل معينة، من النمو والتطور والفناء"، ولكن.. هل تنحل الأمة الإسلامية، ويعتريها ما يعتري غيرها من توارث الحضارات؟!

يجيب على هذا "ليوبولد فايس" (محمد أسد)، فيقول: "إذا كنا نعتقد أن الإسلام ليس مدنيةً من المدنيات الأخرى، وليس نتاجًا بسيطًا لآراء البشر وجهودهم، بل شرعٌ سنَّه الله لتعمل به الشعوب في كل مكان وزمان.. فإن الموقف يتبدل تمامًا، وإن ما يظهر انحلالاً في الإسلام ليس في الحقيقة إلا موتًا وخلاءً يحلان في قلوبنا، التي بلغ من خمولها وكسلها أنها لا تستمع إلى صوت الحق سبحانه".

وعناصر البقاء والريادة في البعث الإسلامي عالية ورائدة وذات عناصر واضحة، منها: 1- احترام العقل واتخاذه كدليل إلى معرفة الحقائق: قال تعالى: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً (36)﴾ (الإسراء) ﴿هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109)﴾ (النساء)، ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)﴾ (لقمان)، العلم في كل شيء، حتى في الدلالة على وجود الله سبحانه وتعالى، واحترام العقل حتى في هذا المجال الحيوي.

2- المحافظة على الخيرية والريادة بحقها وتكاليفها: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران: من الآية 110).

3- التماسك أمام الصعاب والصبر والمصابرة أمام العقبات حتى تزول وتنقشع الغمم، ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)﴾ (آل عمران).

4- العمل لاكتساب عناصر الخير والصلاح الدائم؛ حتى يسعد الإنسان بالمسيرة الخيرة، وإلا أصبح ملفوظًا من سنن الريادة الإسلامية، ويأتي من الأمة من يستحقها ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)﴾ (محمد) ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ (105)﴾ (الأنبياء).

5- وعْد الله بالوراثة والريادة: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ (النور: من الآية 55)، فالأمة الموعودة بالاستخلاف هي الأمة الإسلامية.

6- عموم الرسالة وبقاؤها سراجًا منيرًا، وتوجيهًا مضيئًا إلى آخر الزمان، وصدق الله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28)﴾ (سبأ) ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)﴾ (الأنبياء).

7- مخاطبتها للإنسان كله جسدًا وروحًا؛ فلا انفصام ولا تجاذب، ولكنه تعاون وتوافق، وصدق الله: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)﴾ (القصص) ﴿فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)﴾ (الجمعة).

وقد حدثوا أن عمرَ بنِ الخطاب رأى قومًا قابعين في ركن المسجد بعد صلاة الجمعة، فسألهم من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون على الله، فعلاهم بالدرة ونهرهم، وقال: لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة" وقرأ الآية.

وكان الإسلام بحق شريعةَ بعثٍ وحياةٍ حقيقيةٍ، فرَّقت بين الجهالة والريادة، وبين الضياع والهداية، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ (الأنفال: من الآية 24)، وكان حياةً للعقول والنهضات، وكان أنوارًا للهداية التي شرَّقت وغرَّبت في العالمين، ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا..﴾ (الأنعام: من الآية 122)، نعم لا يستوون في كل شيء: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)﴾ (فاطر).

وقد شهد بهذا النور القاصي والداني؛ يقول غوستاف لوبون: إن سبب انحطاط المسلمين والشرق، هو تركه روح الإسلام، وتشبثه بالعقائد الباطلة، ويقول "برناردشو": لقد كان دين محمد موضع تقدير سامٍ لما ينطوي عليه من حيوية مدهشة، وإنه هو الدين الوحيد الذي له ملكة الهضم لأطوار الحياة المختلفة، وأرى أن يُدَعى "محمد" بمنقذ البشرية.

وبعد.. فهل يستطيع المدُّ الإسلامي الحديث أن يصحِّح المسيرة ويوجِّه الدفة إلى الهدى والنور لتظهر الرسالة وتؤدي دورها في صناعة المجد للأمة من جديد؟! نسأل الله ذلك.

المصدر

قالب:روابط توفيق الواعى