صدمة أوباما
صدمة أوباما ..... بقلم / عبد الحليم قنديل
ربما لا يصح أن نتنكر لمعنى الصدمة فى زيارة باراك أوباما المزمعة لمصر، واعتزامه توجيه خطاب علاقات عامة للعالم الإسلامي من القاهرة، فليست القصة في مكانة مصر كبلد وشعب هو قلب العالم العربي والإسلامي بامتياز، لكن القصة في أن أوباما حين يجيء للقاهرة، فهو يحل ضيفا على نظام حسني مبارك، وليس على الشعب المصري، وينزل في قصر الديكتاتور المصري، ويدعم نظاما يخصم من مغزى الدور المصري، ويضيف ثقل مصر لحساب خدمة إسرائيل وطاعة واشنطن، ويتعامل مع جوائز العار كأنها أكاليل الغار والفخار.
وربما لا يصح أن نتنكر للأثر السلبي لزيارة أوباما المزمعة على صورة أوباما نفسه، صحيح أن أوباما رئيـس أمريكا الآن، وصحيح أن أمريكا وسياستها مكروهة كراهة التحريم في مصر، لكن أوباما يحظى ـ مع ذلك ـ بقدر من الشعبية في مصر، وربما في العالم العربي والإسلامي عموما، بعض الأسباب يعود إلى بشرته السمراء، وإلى تواضعه البادي، وإلى سحره الشخصي، وإلى خلفية عائلته وجذوره المسلمة، وأهم الأسباب في شبابه الذي يعاكس مغزى شيخوخة الحكم في مصر.
فأوباما في نصف عمر مبارك، أضف أن أوباما نتاج ديمقراطي مثير، بينما مبارك يعبر عن نظام يغتصب السلطة بالقهر والعدوان، وقد كان انتخاب أوباما وفوزه اللافت، وبروح التفاؤل التي صاحبته، حدثا غير مريح بالجملة لنظام مبارك، ولا زلت أذكر القصة التي جرت عقب فوز أوباما، والتي انفردت بنشر تفاصيلها ووثائقها، وقد كنت وقتها رئيسا لتحرير 'صوت الأمة ' في مصر، فقد جرى إعلان حالة الطوارئ في مبنى جريدة 'الأهرام ' في الثامنة مساء الأربعاء 5 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008، كانت قد ظهرت النسخ الأولى من الجريدة اليومية الرسمية، ووصلت الطبعة الأولى ـ 150 ألف نسخة ـ من المطابع، وبدا الأمر عاديا كما يحدث كل ليله، لكن الأوامر صدرت فجأة باخفاء نسخ الطبعة الأولى، وبوقف توزيعها على الصحافيين، ولم يفهم أحد سر ما يجري، وإلى أن تكشف، فقد جرى اتصال عاجل من جهة أمنية حساسة، وصدرت الأوامر بالإعدام الفوري، وفرم طبعة المئة وخمسين ألف نسخة، والسبب: رسم كاريكاتيري للفنان المصري المعروف حلمي التوني، وفي مكانه المألوف أعلى يسار الصفحة العاشرة، بدا الرسم مثيرا لفزع مبارك، فعلى يسار اللوحة رسم لأوباما بأجنحة الملائكة، ووراءه العلم الأمريكي بنجومه وخطوطه، وفي أعلى يمين اللوحة أول عبارة قالها أوباما بعد النصر: لقد وصل التغيير إلى أمريكا، وإلى أسفل يمين اللوحة رسم لسيدة فلاحة تمثل مصر المحزونة، وقد بدت مستبشرة فرحة على غير عادتها، وتقول لأوباما 'مبروك يا ابني .. وعقبال عندنا .. وخليك فاكر احنا دعينا لك'. بدا الرسم ـ على بساطته ـ عبقريا ومثيرا لاستياء الثيران الهائجة إلى أبعد حد، وبدا فزع الأجهزة فرعا من فزع مبارك، والسبب كلمتان هما: عقبال عندنا، وقد جرى حذفهما على الــفور بعد إغلاق أبواب صالة التحرير المركزي في الدور الرابع، وحيث جرت عملية جراحية لحذف الكلمتين، وترك الرسم فارغا بدونهما في طبعة الصحيفة الأولى العلنية بعد السرية، والتي نزلت للأسواق في الساعات الأولى من صباح الخميس 6 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008، جرت العملية بسرعة، وبصورة عسكرية صارمة، جرى إخفاء الرسم الذي بدا تهديدا لمبارك، وأمنية وحلما بزوال حكمه، وأملا في ان ينتهي إلى الخرابة ذاتها التي انتهى إليها رئيسه بوش، وهكذا بدا الفزع وقتها من سيرة أوباما في القاهرة، فقد تشاءم مبارك من رسم حلمي التوني، وسابت مفاصل حكمه، ولمجرد كتابة جملة تقول: عقبال عندنا يا أوباما (!).
وبعد شهور قليلة، بدا النظام الذي كان مفزوعا من سيرة أوباما، وهو يردد اسمه كأنه تميمة الحظ، ويقيم الأفراح والليالي الملاح فرحا باسمه، فقد أصبح أوباما رئيسا بعد أن كان حلما، وبانت حدود التغيير في سياسة أوباما في ما يخصنا، صحيح أن الرئيس أسود وبقلب أبيض هذه المرة، لكن المؤسسة الأمريكية بيضاء وبقلب أسود، وأوباما من أصول مسلمة، لكن المؤسسة هواها إسرائيلي خالص، ولم يبق لأوباما ـ في ما يخصنا ـ غير التمتمات والبلاغيات اللفظية، فالأولوية تبقى لخدمة إسرائيل ودعم الديكتاتوريات العربية الحليفة لواشنطن، وهو ما كان موضع ارتياح مبارك ونظامه، فقد جرى إدراج اسم مبارك في قائمة استدعاءات إدارة أوباما لرجال واشنطن في المنطقة، جرى إدراج اسم مبارك مع عبد الله ملك الأردن وعباس الفلسطيني ونتنياهو الاسرائيلي، وتلقت إدارة مبارك الخبر بفرح غامر، فهو علامة على رضا أمريكي، خاصة أن مبارك لم يجر استدعاؤه إلى واشنطن منذ خمس سنوات خلـــت، بينما لم يكف هو عن إرسال بعثات طرق الأبواب، وتكليف اللواء عمر سليمان ـ مدير المخابرات المصرية ـ بجس النبض، وتكثيف زيارات ابنه ـ الموعود بالتوريث ـ جمال مبارك إلى واشنطن، ثم انه انتقل إلى ما هو أهم، وطبق القاعدة الذهبية التي يشتري بها عمرا إضافيا في الحكم كلما ضاقت به الظـــروف، وهو تكثيف المحبة لإسرائيل طمعا في كسب رضا واشنطن، وحتى قبل أن يتسلم أوبــــاما مــــهام الرئاسة رسميا، كان مبارك يستضيف تسيبي ليفني ـ وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة ـ في القـــاهرة، ولتعلن ـ بعد لقاء حميم مع الرئيس المصري ـ عن إطلاق الحرب فـــي غــزة، والتي كان موقف مبارك فيها أميل للموقف الإسرائيلي، فقد حمل 'حماس' وصواريخها المسؤولية، واحتفظ بخيوط التواصل الساخن مع مجرمي الحرب الإسرائيليين، وأعاق أي مسعى لعقد اجتماع عاجل لقمة عربية بالخصوص، وخاب أمله في نتائج الحرب، فلم ينته الهجــــوم الإسرائيـــلي الوحشـــي بالقضاء على حماس كما كان يأمل، وتقبل الهزيمة ـ مع إسرئيل ـ في ميدان القتال، وعلى أمل أن يتحقق بالسياسة ما عجزت إسرائيل عن تحقيقه بالحرب، وحين استبطأ النتائج، فإنه أعلن حربا على المقاومة الفلسطينية من نوع آخر، فقــــد راح يشدد الحصار بإغلاق معبر رفح لأغلب الوقت، وأبدى اعتراضا مراوغا على مذكرة التفاهم الأمريكية ـ الإسرائيلية لوقف تهريب السلاح إلى المقــــاومة، كان الاعتراض المراوغ أشبه بطلقة دخـــان، بينــــما راح يقوم بدوره المرسوم بالضبط، يغلق الأنفاق بمعونة أمريكية لوجــستية مباشـــرة، ويصـــعد بنغمة الهجوم الإعلامي على المقاومة إلى السقف الذي تريده إسرائيل بالضــبط، وباستــخدام مفـــردات الدعــــاية الإسرائيـــلية ذاتها، ووصف حركات المقاومة بالإرهابية، وإلى حد بدا معه الإعـــلام الرسمي المصري كأنه نسخة بالعربية من دعاية إسرائيل العبرية، ثم كان تصعيد الصدام مع حزب الله، واعتقــــال شبكة مقاومـــة غالبها من المصريين، وبتهمة تقديم دعم لوجستي للمقاومة الفلسطينية عبر الحدود المصرية، وهو ما كان مبعث ارتياح غامر في اسرائيل، فقد وضع نظام مبارك جهاز الأمن المصري في خدمة أمن إسرائيل، ودون مراوغات أو التباسات هذه المرة، ثم أضاف مبارك ـ تأكيدا لإخلاصه ـ دعوة نتنياهو وباراك لزيارة مصر، وهو ما استحق عنه مبارك جائزة إضافية من الإدارة الأمريكية، وجرى الإعلان عن زيارة أوباما المزمعة، والتي تبدو كجرعة تنفس صناعي لنظام مبارك المأزوم.
المصدر : نافذة مصر