شهداء محنة 1954م .. الشيخ الشهيد.. وعشرة دروس للدعاة
عبد الحليم الكناني
محتويات
- ١ هكذا يكون الشهداء
- ١.١ السبق والمسارعة للعمل للإسلام
- ١.٢ قلة الكلام وكثرة العمل
- ١.٣ عزة المؤمن وشجاعة الداعية
- ١.٤ الجهاد بالمال دون إبطاء
- ١.٥ الصبر والاحتساب والثبات عند الشدائد
- ١.٦ الجدية وتقدير المسئولية
- ١.٧ التواضع والأدب مع المربين
- ١.٨ الولاء الكامل للدعوة واحترام القيادة
- ١.٩ اليقين والثقة في الله
- ١.١٠ الورع والزهد الصادق
- ٢ سطور مجهولة من حياة الشهيد هنداوي دوير
- ٣ يوسف طلعت صانع المدافع.. الذي أعدمه الظالمون
هكذا يكون الشهداء
هي عشرة مواقف عملية.. تخبرنا عن سمات الدعاة المجاهدين، نأخذ منها عشرة دروس عظيمة، يحتاجها كل داعية عامل للإسلام، كتبها شيخنا الشهيد (محمد فرغلي) بوقته وجهده وعرقه وماله.. وفي النهاية بدمائه، عسى أن ينتفع بها الدعاة من بعده "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ" (ق: 36). عبد الحليم الكناني
السبق والمسارعة للعمل للإسلام
كان سبَّاقًا للعمل للإسلام وهو لا يزال طالبًا بالأزهر، فقد كان عضوًا بجمعية (الحضارة الإسلامية) بالقاهرة، والتي كان من أعضائها عددٌ كبير من الشباب الذين صاروا فيما بعد أخوة فضلاء، ثم لما رأت جمعية الحضارة نشاطَ جمعية الإخوان المسلمين بالإسماعيلية، وانتشار فروعها في هذا المحيط حول هذا البلد المبارك.
واقتنع رجال الحضارة بأن التوحيد خير من الفرقة، وبأن انضمام الجهود أولى وأفضل، فاتصلوا بالإسماعيلية.. وكانت محادثات انتهت بانضمام جمعية الحضارة إلى الإخوان المسلمين، وصيرورتها شعبة من شعبهم، وصار شيخنا الشهيد من أبرز دعاتها في تلك الفترة المبكرة.
قلة الكلام وكثرة العمل
وليس هناك أبلغ من كلماته التي قالها حين طالبه إخوانه ومحبوه أن يكثر من الكتابة في مجلة الإخوان المسلمين
فكتب مقالاً قصيرًا قال فيه:
- "نحب دائمًا أن نعمل وأن ندعو إلى العمل؛ لأن العمل هو الطريق الذي يوصلنا إلى الغاية ويحقق لنا ما نرجو من الأمل، والعمل الطيب خير كله قليله وكثيره.. يشد بعضه بعضًا، أما الكلام فالخير منه قليل والكثير منه يُنسي بعضه بعضًا.
- وهنا أدعو إخواني رجالَ الوعظ و الخطابة إلى الإيجاز في خطبتهم ومواعظهم؛ ليخرج المستمعون وقد فهموا شيئًا محدودًا يمكنهم أن يحفظوه و أن يعملوا به، والزمن كفيل بأن يبلغ كل ما يريد من القول، أما أن يغتر الخطيب بما يرى من الإعجاب أو أن يشغل نفسه بأن يقول كل ما في نفسه ثم يخرج المستمع ناسيًا كل شيء عند أول خطوة فذلك ليس من الحكمة في التبليغ.
- وللكلام شهوة يجب أن نحاربها؛ لأنها تضيع الفائدة وتحبط العمل "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ" (ق: 36).
عزة المؤمن وشجاعة الداعية
يروي الأستاذ البنا في مذكراته هذا الموقف الرائع للشيخ الشهيد فيقول:
- "اتصل بعضُ عمال الجبَّاسات الفضلاء بالإخوان بالإسماعيلية فنقلوا عنهم الفكرة إلى إخوانهم، ودُعيت إلى زيارة الجباسات، وهناك بايعت الإخوان على الدعوة فكانت هذه البيعة نواة الفكرة في هذا المكان النائي، وبعد قليل طلب العمالُ إلى الشركة أن تبني لهم مسجدًا- إذ كان عددهم أكثر من ثلاثمائة عامل- وفعلاً استجابت الشركة لمطلبهم وبُني المسجد، وطلبت الشركة من الجماعة بالإسماعيلية انتداب أخٍ من العلماء يقوم بالإمامة والتدريس، فانتدبت لهذه المهمة فضيلةَ الأخ الشيخ محمد فرغلي.
- وصل الأستاذ فرغلي إلى البلاح وتسلم المسجد، ووصل روحه القوى المؤثر بأرواح هؤلاء العمال الطيبين، فلم تمض عدة أسابيع وجيزة حتى ارتفع مستواهم الفكري والنفساني والاجتماعي ارتفاعًا عجيبًا.
- لقد أدركوا قيمةَ أنفسهم وعرفوا سمو وظيفتهم في الحياة وقدروا فضل إنسانيتهم، فنزع من قلوبهم الخوفَ والذل والضعف والوهن، فجدّوا في عملهم، ثم عفُّوا عما ليس لهم، فلم تأسْرهم المطامع التافهة ولم تقيدهم الشهوات الحقيرة، وصار أحدهم يقف أمام رئيسه عالي الرأس في أدب، شامخ الأنف في وقار، يحدثه في حجة ومنطق
- لا يقول ولا يقبل منه كلمة نابية أو لفظة جافية أو مظهرًا من مظاهر التحقير والاستصغار كما كان ذلك شأنهم من قبل، وتجمعوا على الأخوة، ويظهر أن هذه السياسة لم تعجب الرؤساء وقرروا أنه إذا استمر الحال على ذلك ستكون السلطة كلها لهذا الشيخ ولن يستطيع أحد بعد ذلك أن يكبح جماحه وجماح العمال.
- ظنَّ الرؤساء هذا في الشركة وفكروا في إقصاء هذا الشيخ القوي الشكيمة عن العمل، وأرسل إليه الرئيسُ المباشر، فلما توجَّه إليه قال له: إن المدير أخبرني بأن الشركة قد استغنت عن خدماتك وأنها تفكر في انتداب أحد العمال للقيام بعملكم في المسجد، وهذا حسابكم إلى اليوم حسب أمر المدير.
- فكان جواب الشيخ له بكل هدوء: ما كنت أظن يا "مسيو فرانسوا" أنني موظف بشركة جباسات البلاح، ولو كنت أعلم هذا ما قبلت العمل معها، ولكني أعلم أنني موظف من قِبل الإخوان المسلمين بالإسماعيلية وأتقاضى مرتبي منهم محوَّلاً عليكم، وأنا متعاقد معهم لا معكم على هذا الوضع، وأنا لا أقبل منك مرتبًا ولا حسابًا، ولا أترك عملي في المسجد ولا بالقوة، إلا إذا أمرني بذلك رئيس الجمعية التي انتدبتني هنا وهو أمامكم بالإسماعيلية فاتفقوا معه كما تريدون، واستأذن وانصرف.
- وسُقط في يد إدارة الشركة، وسُقط في يد إدارة الشركة وصبرت أيامًا، لعل الشيخ يطلب منها مرتبه، ولكنه كان قد اتصل بي في الإسماعيلية فأوصيناه بالتمسك بموقفه وألا يدع مكانه بحال، وحجته معقولة ولا شيء لهم، عندها لجأت الشركة إلى الإدارة، واتصل مديرها "المسيو ماينو" بمحافظ القنال الذي اتصل بدوره بالمأمور بالإسماعيلية وأوصاه أن يقوم على رأس قوة لعلاج الموقف، وحضر المأمور ومعه قوته، وجلس في مكتب المدير، وأرسل في طلب الشيخ الذي اعتصم بالمسجد
- وأجاب الرسول: لا حاجة عند المأمور ولا عند المدير وعملي بالمسجد فإذا كان لأحدهما حاجة ليحضر لي، وعلى هذا فقد حضر المأمور إلى الشيخ، وأخذ يطلب إليه أن يستجيب لمطالب المدير، ويترك العمل ويعود إلى الإسماعيلية، فأجاب بمثل ما تقدم، ووصل النبأ إلى العمال، فتركوا العمل في لحظةٍ واحدة، وأقبلوا متجمهرين صاخبين، وخشى المأمورُ العاقبةَ فترك الموقف وعاد إلى الإسماعيلية، واتصل بي للتفاهم على الحل.
قابلت بعد ذلك مديرَ الشركة، وسألته عما ينقمه من فضيلة الشيخ، فلم أجد عنده إلا أنهم يريدون شخصًا يستسلم لمطالبهم، وكان من كلامه كلمةً لا أزال أذكرها: "أنني صديق للكثير من زعماء المسلمين، ولقد قضيت في الجزائر عشرين سنة، ولكني لم أجد منهم أحدًا كهذا الشيخ، الذي ينفذ علينا هنا أحكامًا عسكرية كأنه جنرال تمامًا".
الجهاد بالمال دون إبطاء
في عام 1938م اقتُرح مشروع سهم الدعوة، وخلاصته أن يتطوع من يشاء من الإخوان ببذل نسبةٍ من ماله لا تقل عن العُشر؛ للإنفاق منها على تكاليف ومتطلبات العمل الدعوي.
ونُدب الإخوان إلى المشاركة في هذا الجهاد المالي فكانوا سراعًا، وكان من أسرعهم إخوان الإسماعيلية، وعلى رأسهم فضيلة الشيخ محمد فرغلي، وكانت مشاركتهم في صورة جماعيةٍ رائعة، دعت المشرف على المشروع أن يقدم لهم بهذه الكلمة الطيبة
تحت عنوان "صفحة الرعيل الأول":
- "ننشر في هذه الصفحة تباعًا أسماء حضرات الإخوان الذين استجابوا لنداء الجهاد بالمال وآثر الدعوة بسهمٍ لا يقل عن العُشر من أموالهم المباركة إن شاء الله. ولا يفوتنا في هذه المناسبة أن نشيد بإيمان إخواننا الأعزاء بالإسماعيلية، الذين أبت عليهم غيرتهم إلا أن يساهموا جماعةً لا أفرادًا في هذا المشروع الجليل، فوافوا المكتب بمحْضَرٍ موقَّعٍ عليه، منهم بعد أن تعهدوا بتقديم أعشار أموالهم منذ أول أكتوبر إن شاء الله، فبارك الله لهم في أموالهم، وأعزَّ الدعوة بإيمانهم".
الصبر والاحتساب والثبات عند الشدائد
وتنشر مجلة النذير (عدد 10- 5 جمادى الثاني سنة 1357هـ الموافق 1/ 8/ 1938م) هذا الموقفَ الإيماني المؤثر كتبه الأخ "عبد الله عبد المطلب المازني" - وكان في رفقة فضيلة المرشد في رحلة إلى القنال- تحت عنوان "إيمان رجل"
فيقول:
- "في أثناء حفلة بورسعيد وردت للأخ الكريم الشيخ محمد فرغلي وفا واعظ بورسعيد ومن إخوان الدعوة السابقين برقيةً قرأها في ثبات الواثق واطمئنان المؤمن ثم وضعها في جيبه في تؤدةٍ ورفق، وبعد دقائق دُعي للخطابة، فتكلم في الدعوة ونزاهتها وكان مُوفَّقًا غايةَ التوفيق وفي اليوم التالي بعد سفرنا علِمنا من فضيلة المرشد أن البرقيةَ كانت نعيًا لوفاة نجله الوحيد وأن الشيخ فرغلي كان يريد متابعةَ الرحلة معنا لولا إباء فضيلته عليه ذلك فلله ما أروع هذا الإيمان وما أكبر هذا القلب وأسماه!".
الجدية وتقدير المسئولية
ويذكر عنه إخوانه أنه
- "لما نزل الأستاذُ البنا الإسماعيلية عام 1948م وقضى مع الشهيد الشيخ فرغلي جزءًا من الليل، وكان الشهيد على وشك السفر إلى ميدان القتال، فقال له الإمام البنا: "ربما أمكنك السفر مع الفجر وتقضي ليلك معنا، وفي صلاة الفجر قالوا له لقد سافر الشيخ مبكرًا، وصار الإمام يضرب كفًا بكفٍ، ويقول فرحًا: "هكذا يكون الرجال المسلمون في مواضع المسئولية".
التواضع والأدب مع المربين
يروى إخوانه أنه
- "دُعي يوما للخطابة في وجود الأستاذ البنا، وأصرَّ عليه الإمام أن يتكلم، فوقف متلجلجًا لا يستطيع أن ينبسَّ ببنت شفه، وهو من هو في الوعظ والخطابة، ولكنه يستحي أن يتحدث في وجود الإمام البنا ".
الولاء الكامل للدعوة واحترام القيادة
يُكمل المجاهد كامل الشريف شهادته بقوله
- "أذكر أن الشيخ فرغلي لم يكن منسجمًا تمام الانسجام مع المرشد العام الجديد في الأيام الأولى لتنصيبه، وكنت أعرف عنه ذلك، وبعد نجاح الانقلاب العسكري وتأليف وزارة محمد نجيب الأولى عُقد اجتماعٌ في مكتب البكباشي جمال عبد الناصر، وكنا الشيخ فرغلي وأنا نمثل الإخوان في محاولةٍ من تلك المحاولات التي بُذلت لتحديد الخلافات بين الإخوان وحكومة الانقلاب ووضع حلولٍ لها.
- ويبدوا أنهم أرادوا أن يوقِعوا بين الشيخ والمرشد العام، فأخذوا يمدحون الشيخَ ويذكرون له مواقفه العظيمة في فلسطين، ثم أخذوا ينالون من شخص المرشد العام ويتحاملون عليه، غير أن الشيخ فرغلي قطع عليهم الحديث
وقال غاضبًا:
- "يجب أن تدركوا أن هذا الذي تتحدثون عنه هو زعيمنا وقائد جماعتنا، وإنني أعتبر حديثكم هذا إهانةً للجماعة كلها، ولشخصي بصفة خاصة، إذا كان هذا هو أسلوبكم في تسوية الخلاف فإنكم لن تصلوا لشيء إلا زيادة هذا الخلاف".. وكان هذا القول كافيًا لإقناعهم أنهم أمام رجل صلب العود.. قوي الشكيمة، فانصرفوا بالحديث إلى جهة أخرى".
اليقين والثقة في الله
وهذا ما ظهر في اللحظات الأخيرة من الحياة، إذ تقدم الشهيد محمد فرغلي إلى المشنقة وهو على حدِّ ما تناقلته الصحافة العالمية "في حالة سلامٍ واضحة مع نفسه"، وكان تعليقه الوحيد: "أنا مستعد للموت.. فمرحبًا بلقاء الله".
الورع والزهد الصادق
يقول فضيلة الشيخ محمد عبد الله الخطيب
- "إنه بعد إعدام الشهيد بثلاثة أيام فوجئ بصحيفة الأهرام تنشر في الصفحة الأولى صورةَ عمارةٍ ضخمة جدًا، وأمامها عربية مرسيدس مكتوبٌ تحتها "هذه عمارة فرغلي وقد بناها من تبرعات فلسطين وهذه سيارته"!!.
- "ولأننا لم نكن نظن أن الإجرام يصل إلى هذه الصورة.. حتى والناس لم تجف دماؤهم بعد، أخذتُ الأهرام وذهبت إلى البيت وكنت أسكن في الحلمية وأنا في غاية الألم، يسكن معي أحد الأخوة من أسيوط، فقال لي: هل تدري أن شقيق الشيخ فرغلي إبراهيم سيزورنا بعد قليل؛ لأنهم حضروا من البلد ليأخذوا وصية الشيخ ويستلموا ملابسه، فانتظرت حتى جاءوا فأخذت إبراهيم
- وقلت له "ممكن أشوف الوصية؟"، قال: نعم فأعطاها لي فوجدت وصية: "يا إبراهيم: اذكر أن سجن المؤمن خلوة، وأن تغريبه سياحة، وأن قتله شهادة، يا إبراهيم أنا لم أترك لكم شيئًا، فإذا أعوزتك الحاجة فاذهب إلى الشيخ الباقوري فإنه صديق يستطيع أن يقضي لك ما تريد".
ويواصل الشيخ الخطيب قائلاً:
- "ما تركه الشهيد فعلاً لأبنائه كان بيتًا قديمًا في الإسماعيلية، بيتًا قديمًا مؤجرًا بمبلغ 120 شهريًا.. ولم يكن الشهيد محمد فرغلي يمتلك المنزل كله.. بل نصفه فقط، وكان إيراده منه 60 قرشًا شهريًا.. وكانت هذه التركة الضخمة هي كل ما تركه الشهيد لأهله"!!.
وبعد أيها الدعاة.. هل من معتبر.. هل من مقتدٍ..عسى أن يلحق بهؤلاء الشهداء الأبرار.
سطور مجهولة من حياة الشهيد هنداوي دوير
- هنداوي دوير يحلل الموقف السياسي الدولي
- قيل الكثير عن الأخ الشهيد: هنداوي دوير
- قيل إنه عصبي المزاج، حاد الطبع، متهور، ثرثار، مغامر، مندفع.
- وقيل إنه عميل، ورَّط جماعته في كارثة المنشية، تنفيذًا لمخطط حكومي خبيث. وساعد على تلك الأقاويل ذلك الغموض والضباب الذي أحاط بحادث المنشية ودوافعه وملابساته وأحداثه، ثم ما كان من أمر المحاكمات التي تلته وما كان فيها من أقوال وأقاويل.
أما العمالة فقد كفانا مؤونة الرد عليها رفيقه الأخ الداعية المجاهد: علي نويتو، الذي كشف عن حقيقة ما حدث لهنداوي دوير (حيث قبض عليه ومعه زوجته الحامل ومورس ضدهما أبشع انواع التعذيب وأحطها - خصوصًا مع زوجته - حتى يعترف بما يريدون).
ولكننا نعرض لصفحة مجهولة من حياة الأخ الشهيد هنداوي دوير، ربما يستغربها البعض ويعجب لها، فقد كان شاعرًا مجيدًا، ومثقفًا واعيًا؛ بل كانت له مساهمات وكتابات جيدة في صحافة الإخوان المسلمين، يحلل فيها الموقف الدولي، والسياسة العالمية تحليلاً واعيًا عميقًا، يكشف عن وعي وإدراك وسعة اطلاع وحسن متابعة للأحداث الداخلية والخارجية.
ونشرت له مجلة المباحث القضائية بابًا ثابتًا تحت عنوان (الموقف الدولي) شمل كل أعدادها تقريبًا. وننشر هنا نموذجًا من مقالاته التحليلية للسياسة الدولية، ونضعها بين أيدي الباحثين والقراء لعلها تلقي أضواءً جديدة على شخصيته، التي تضاربت حولها الأقوال والتفسيرات.
إعداد: عبد الحليم الكناني
الموقف الدولى المسألة المصرية
بقلم: هنداوي دوير
"على أثر خطاب العرش الذي ألقاه رئيس وزراء مصر نيابة عن جلالة الملك في البرلمان المصري غداة افتتاحه، والذي أعلن فيه أن معاهدة سنة 1936م واتفاقيتي السودان سنة 1899م لم يعد كل ذلك أساسًا صالحًا للعلاقات المصرية الإنجليزية، وقرر رئيس وزراء مصر بطريقة يُشم منها التهديد، اعتزام الحكومة المصرية إلغاء هذه الاتفاقات التي تكبل وادي النيل بالأغلال.
على أثر هذا الإعلان احتلت القضية المصرية مكانًا بارزًا في أنهار الصحافة العالمية، كل يفسر هذا التصريح بحسب هواه ومصالحه، فقالت جريدة برافدا الشيوعية شبه الرسمية: "إن المصريين يريدون التخلص من الاستعمار الرأسمالي وإن كانت تعوزهم المقدرة على الكفاح الجدي والإيجابي"
وقالت جريدة الكازار الأسبانية:
- "إن الشعب المصري يؤيد حكومته في هذه المسألة القومية"، وأعلنت الصحف الأمريكية أن المطالب المصرية الخاصة بسحب القوات البريطانية من قناة السويس وإنهاء الحكم الثنائي في السودان يستند إلى منطق الجماهير أكثر من استناده إلى النظرة الواقعية للأمور، وأن القوات البريطانية في منطقة قناة السويس هي الحامية العربية الوحيدة في الشرق الأوسط.
وكثرت تعليقات الرسميين على هذه الفقرات من خطاب العرش المصري، وكان أبرزها ما جاء على لسان مستر بيفين الذي قرر "أن الحكومة العمالية لن تترك منطقة قناة السويس بدون دفاع، وهي لن تتخلى عن حق تقرير السودانيين لمصيرهم"، وإذن فلا جلاء ولا وحدة.
وأستطيع أن أقرر أن عرض القضية المصرية على المحافل الدولية ضار بمصلحة مصر وإننا لن نجني من عرضها على الجمعية العامة أو مجلس الأمن شيئًا إلا ضياع الوقت والمال، خصوصًا إذا قامت الحكومة المصرية بإلغاء المعاهدة والاتفاقيتين السودانيتين فعلاً، وذلك لن القانون الدولي الذي سنحتكم إليه وهو دستور هذه الهيئات الدولية يقرر أن كل معاهدة عقدت باتفاق طرفين لا يجوز إلغاؤها أو تعديلها إلا باتفاق الطرفين بصرف النظر عن الظروف التي وقعت تحتها المعاهدة وبغض النظر عن الضغط السياسي والعسكري اللذين أثرا على أحد طرفي المعاهدة؛
إذْ لا يلتفت القانون الدولي لهذه الظروف ولا يعترف بها، وتكون مصر بإلغائها المعاهدة من جانب واحد قد ارتكبت مخالفة دولية، وأخلت بالتزاماتها من ناحية الشكل؛ الأمر الذي تتحمل مصر على أثره المسئولية الدولية من عدم إمكان نظر القضية بما فيه صالح مصر.
وبغض النظر عن وجود التنافس الشيوعي والرأسمالي في هيئة الأمم، وأن المعسكر الأنجلو أمريكي الذي استطاع أن ينتزع قرارات من مجلس الأمن ومن هيئة الأمم تؤيد الغزو الأمريكي لكوريا وتباركه، يستطيع كذلك، وبمنتهى السهولة واليسر أن يأخذ قرارًا بأن مصر قد جانبت الصواب في إلغاء المعاهدة من جانب واحد، وإن على الطرفين أن يدخلا في مفاوضات لإنهاء النزاع ونعود نستجدي ونرجع إلى الحلقة المفرغة.
هذا إذا حدث الإلغاء من جانب الحكومة المصرية وحدها فعلاً، ولكن إذا استعدينا هيئة الأمم على الاحتلال الإنجليزي لمصر دون إلغاء المعاهدة فستكون النتيجة هي نفسها التي عرفناها من عرض القضية على مجلس الأمن على أيدي الحكومة السعدية السابقة، بل قد تكون النتيجة أكثر خذلانًا للقضية؛
لأن النحاس باشا الذي وصف معاهدة سنة 1936م بأنها معاهدة الشرف والاستقلال، والذي أنكر وجود الضغط السياسي والعسكري غداة توقيع المعاهدة لا يستطيع الآن هو نفسه أن يقول إنها عقدت تحت الضغط العسكري أثناء احتلال القاهرة والإسكندرية، ولا يستطيع أن يقف أمام المحافل الدولية كمسألة شخصية لتورطه في مديح المعاهدة والثناء عليها وعلى الإنجليز.
ولما تمردت حكومة الوفد الأخيرة على إنجلترا على غير عادتها أمام ضغط الرأي العام المصري وارتفاع مستوى الوعي القومي الذي لم تعد تخفى عليه القيود الملفوفة في ثوب فضفاض من الحرير، ولما كان القانون الدولي من ناحية الشكل في صالح إنجلترا، وحدث هذه المرة أن صفي النزاع التقليدي بين الوفد والقصر الملكي، لما كان ذلك كذلك وجهت إنجلترا- استنادًا الى مركزها الدولي- صفعات قوية متوالية إلى حكومة الوفد
خاصةً وإلى الشعب المصري عامة، فتشددت في المفاوضات السياسية بين النحاس باشا والسفير الإنجليزي في مصر في الصيف الماضي حتى توقفت، وتشددت انجلترا في محادثات الأرصدة الأسترلينية حتى انقطعت إلى أجل قريب ستلوح بها أنجلترا، وهي تعلم مقدار الأزمات المالية التي تجتاح مصر، وحتى عقود الشركات التي تعاقدت فيها مصر مع الشركات الإنجليزية على استيراد الأسلحة للجيش المصري، تلك العقود التي يحميها القانون التجاري الدولي لا القانون الدبلوماسي فسختها إنجلترا بحجة حرب كوريا.
ويقول المراقبون السياسيون أن مركز الوزارة المصرية أصبح على كف عفريت وأستطيع أن أقول أنه إذا لم تنجح المفاوضات بين بيفين وصلاح الدين التي ستستأنف قريبا في لندن فستستقيل الوزارة الوفدية أو تقال . والذي يحيرني الآن هو كيف تستقيل الوزارة الوفدية أو تقال والعلاقة بين الوفد والقصر الملكي على أحسن ما يرام، وعلم ذلك عند الله "وفي داوننج ستريت رقم 10".
ولقد يممت الحكومة المصرية شطر أمريكا تستعديها على إنجلترا وتستجديها العون على يد صلاح الدين بك وزير الخارجية المصرية لإمكان استفادة مصر من برنامج الرئيس ترومان في النقطة الرابعة لمساعدة الشعوب المتأخرة وإمكان مد مصر بالأسلحة والذخيرة على غرار تركيا واليونان وإيران محافظة على المصالح الأمريكية، وكانت الصفعة المزعجة التي جاءت على لسان مستر أتشيسون الذي قال لصلاح الدين بك بالحرف الواحد: "تستطيع مصر أن تأخذ الأسلحة من بريطانيا وإن وجود بريطانيا في الشرق الأوسط أحفظ للمصالح الأمريكية من أمريكا نفسها".
وذلك التصريح يُذكرنا بالمعاهدة الإنجليزية الفرنسية في سنة 1904م، والتي قضت بإطلاق يد فرنسا في سوريا ولبنان، وانفراد إنجلترا بالسيطرة على مصر على أثر الصراع السياسي الطويل بين الدولتين على تقسيم الأسلاب في الشرق الأوسط؛ وإذن فالمسألة ليست مسألة حق وباطل، ولكنها مسألة توزيع مناطق النفوذ ورعاية المصالح المشتركة بين إنجلترا وأمريكا والوقوف صفًا واحدًا لمواجهة الخطر الشيوعي الزاحف.
ولئن كانت إنجلترا قد جلَّت قواتها العسكرية عن القاهرة والإسكندرية إلى فايد فامتنع بذلك الضغط العسكري شكلاً على العاصمة، فإذا افترضنا جدلاً أن الحكومة الوفدية تشجعت واستجمعت كل أسباب القوة المعنوية والمادية، وقامت بإلغاء المعاهدة من جانب واحد وقاطعت الإنجليز في فايد، ومنعت عنهم الماء والتموين والعمال المصريين واعتبرتهم معتدين
فإن إنجلترا لن تفقد أعصابها وتزحف قواتها إلى العاصمة المصرية لتحتلها من جديد، وكيف تفقد إنجلترا أعصابها وفي يدها إسرائيل التي قال عنها مستر بيفن "إن إسرائيل قد أنشئت لتبقى وتعيش"، والأمر أسهل من السهولة نفسها، توعز إنجلترا إلى إسرائيل بتطهير فلسطين كلها وطرد الجيوش العربية منها
والجيش المصري- والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه- في حالة لا تسر الوطنيين، نقص من الأسلحة وفساد شامل من الرشوة التي سيطرت على أذهان الرؤساء فيه، والقضية الكبرى أمام القضاء شاهد مؤسف على هذه الحقيقة، عند ذلك سنستغيث ببريطانيا لمدنا بالسلاح
وإذا دخلت إسرائيل الحدود المصرية سنسلم لبريطانيا العظمى بكل غال ونفيس ونرتمي تحت أقدامها راكعين، مع ما لا يخفى من المطامع اليهودية في التوسع وفساد العلاقات العربية وتمزق الجامعة العربية، والبرلمان اليهودي مكتوب على بابه بأنوار النيون العبارة التالية "من الفرات إلى النيل هذا وطنكم يا بني إسرائيل".
والعيب والنقمة واللوم كله سيضعه التاريخ على سعد زغلول ومدرسته الذين صافحوا الإنجليز ومكنوا لهم من رقابنا وسلموا مصر للإنجليز عاثوا فيها فسادًا منذ ستين عامًا مضت، والويل لمن بقى منهم من الذين قالوا "نحن كرماء لضيوفنا" عندما يصحو الشعب ويفيق من ورطة التهريج الحزبية المسيطرة على أذهان الكثيرين من أبناء هذه الأمو المغلوبة على أمرها .
واعتقادي أن الحكومة المصرية ليست جادة في مخاصمة الإنجليز، ولو كانت جادة بحق لقطعت عن القوات الإنجليزية في فايد التموين (الخبز والخضر والسمن والبيض واللحم) والحجة الحيوية فعلاً لمحاربة الغلاء الفاحش الذي يرزح تحت أعبائه عامة الشعب المصري باستثناء قلة من الباشوات المصريين والرأسماليين، وهؤلاء لا يشعرون بغلاء وإن صار ثمن البيضة الواحدة جنيهًا مصريًا.
وإن هذه القوات هي سبب الغلاء الحقيقي في مصر، هذه القوات تأكل العيش الأبيض منذ سنة 1939م ونحن نأكل العيش الأسود، وتأكل اللحم وقد عزَّ شراؤه على كثير من عامة الشعب والقوة الشرائية للإنجليز في فايد أكبر من القوة الشرائية عند عامة الشعب المصري، والمزاحمة الفعلية تأتي تبعًا لهذه القدرة.
والسوق حرة ولا قيد، والتاجر الذي يعرض بضاعته يطلب أعلى ثمن، ومن يدفعه يتسلمها ولا حرج ولو كان من الإنجليز أعداء هذه الأمة
يوسف طلعت صانع المدافع.. الذي أعدمه الظالمون
داعية مجاهد منذ صباه، عشق الدعوة والجهاد فكانت حياته كلها دعوة وجهاد، وكانت خاتمتها الشهادة بفضل الله. أول مجاهد دخل أرض فلسطين، وشهدت له كفار ديروم ودير البلح بطولات وانتصارات، واختراعات أذهلت القادة والجنود، وجُرح فيها فكانت شهادة كتبها بدمه، وخاط جرحه بيده، وواصل الجهاد، ولما عاد أُلقي في الزنازين؛ لأنه من الإخوان المسلمين المجاهدين.
وجاهد في القنال، وطلب الإنجليز رأسه بأي ثمن، فقدمها لهم الطغاة دون مقابل. وهذه شهادات مؤكدة، لا يرقى إليها شك، صور ووثائق للمجاهد الشهيد.. النجار العبقري: يوسف طلعت ..أحد ثمار الشجرة الطيبة.. دعوة الإخوان المسلمين.
نشرت جريدة الأهرام المصرية يوم 31/ 7/ 1938م تقول:
- " ألَّف جماعةٌ من الإخوان المسلمين في مدينة الإسماعيلية مظاهرةً بدأوها من الجامع العباسي إلى دار الإخوان؛ إظهارًا لشعورهم وعطفهم نحو فلسطين، وقد اعتقل البوليس عددًا من المتظاهرين، وبعد أن انتهت نيابة الإسماعيلية من التحقيق معهم، قرَّرت القبض على حسن البنا ويوسف محمد طلعت وآخرين، وحبسهم أربعة أيام على ذمة التحقيق".
ونشرت مجلة النذير عدد 11/ 8/8/1938م:
- وعقب صلاة الجمعة خرج الإخوان المسلمون بمظاهرة رائعة قوية مرت في شوارع البلد فألقت الرعب في قلوب الكافرين، وكان المتظاهرون يهتفون بحياة فلسطين العربية معلنين تضامنهم مع اخوتهم العرب المجاهدين، وقد جاء رجال البوليس وحاولوا تفريق المتظاهرين ولكنهم خشوا تلك الجموع الحاشدة، فمرت المظاهرة هاتفة معلنة حق العرب، وسارت من مسجد العباسي إلى دار الإخوان المسلمين
- وقد اعتقل رجال البوليس عددًا من المتظاهرين، وبعد أن حققت معهم النيابة قررت القبض على الإخوان: "حسن حسن البنا، ويوسف محمد طلعت، ومرسي سيد أحمد الطربي، ومحمد عبد الهادي عفيفي، وحسن مرسي" وقررت حبسهم أربعة أيام على ذمة التحقيق، وأفرجت بكفالةٍ قدرها خمسة جنيهات عن كلٍّ من حضرات: "عثمان الجصي، ومحمد درويش، وإسماعيل إبراهيم، والسيد المنياوي، وزكي المغربي، ومحمد أبو العلا، وبديوي زناتي، وحسن محمود صادق، ومصطفى طرطور".
ويشهد له قائد معسكر الإخوان بالبريج المجاهد كامل الشريف فيقول:
- "كان ذا عقلية مبتكِرة خلاقة لا تعجز عن إيجاد حلٍّ لأي معضلة. أذكر حين كنَّا في فلسطين أننا غنمنا بعض قنابل المورتر من العدو، ولم نكن نملك المدفع اللازم لها في ذلك الوقت المبكِّر من الحرب، فوقفنا عاجزين، ولكن يوسف طلب منَّا أن نمهله أسبوعًا، فتركناه ونحن لا ندري ماذا ينوي، وبعد أيامٍ قدم لنا أسطوانة فولاذية مثبتة على حاملٍ أرضي، ولم تكن لمعة دقيقة الصنع كالمدفع الأصلي ولكننا استخدمناها في ضرب مراكز اليهود القريبة بقنابل المورتر!.
- وحين وقفنا عاجزين أمام مشكلةٍ مستعصية هي: كيف نستطيع أن نُلقي المفرقعات على استحكامات اليهود من مكانٍ بعيد، كان هو أول من فكَّر في صنع "راجمة ألغام" مبتكرة ساعدتنا كثيرًا على قذف ألغامنا دون أن نتعرض للإصابات.
ويقول الدكتور أحمد الشرباصي في كتابه (مذكرات واعظ أسير):
- "تعرف إليَّ اليوم رجلٌ مفتول العضلات، أسمر اللون، حاد النظرات، بسَّام الملامح، مهيب اللحية، إنه الأستاذ الحاج يوسف طلعت، وهو كما عرفتُ من قدماء الإخوان المسلمين الذين شهدوا ميلادَ الدعوة، وله حديث عذب يستفيض فيه فلا يملُّه سامعه.
- وقد قيل لي إنه أول مصري دخل فلسطين مجاهدًا حينما بدأت كتائبُ الإخوان المسلمين المجاهدة تزحف زحفها العجيبَ المبارك فوق ساحة الأرض المباركة، و قيل لي إنه استطاع بفنه واقتداره أن يصنع مدفعًا حربيًا بيديه في الميدان، فكانت أعجوبةً استحوذت على تفكيري".
وقال الشاعر المُجيد "عبد الباسط البنا" هذا الزجل؛ تعليقًا على صورة الشهيد مع مدفعه بفلسطين:
آدي صورة الأخ المسلم
- ياللي ظلمتوا الإخوان
بعقيدته الخالصة اتقدِّم
- لحمى الدين والأوطان
دا المدفع لو يتكلم
- راح يهتف بالقرآن
يسجد لله ويسلم
- على فرسان الميدان