شروط النهضة
بقلم: مالك بن نبي
ترجمة
محتويات
مقدمة الترجمة
هذا كتاب في فلسفة الحضارة وفن التوجيه نقدمه إلى قراء العربية لا كما يقدم أى كتاب مترجم ليضيف إلى أذهان القراء شحنة جديدة من المعلومات القيمة فإن هذا لم يدر بخلدنا ونحن نمارس عملية الترجمة بل إننا نقدم إلى القراء رسالة كبري وهب لها مالك بن نبي نفسه وسجل وحيها في هذا الكتاب – أو هذا الإشعاع – والكتب الأخري فهي جميعا تكون سلسلة متواثقة الحلقات تجسم للعرب والمسلمين فكرة متكاملة عن المجتمع والحضارة والدين والسياسة.
وبن نبي يتميز عن جميع الكتاب المعاصرين بأنه لا يعيش في إطار فكرة جزئية أو يعالج موضوعا مفردا بل هو يفكر في ماضي المجتمع وحاضره ومستقبله ككل ولا تشغله أعراض المرض عن المرض نفسه ثم يكتب بعد أن تكون الفكرة كلها قد نضجت في عقله , وبعد أن يكون قد تصورها من سائر وجوهها وأدارها على كل احتمال سنوات طوالا فإذا بكتابته مزيج من التفكير العميق والتعبير العلمي والإيمان الرائع .
وهكذا عرضت فكرة النهضة في هذا الكتاب لم تنبعث في نفوس الكاتب عن عاطفة طارئة أو نزوة طائشة أو انسياق وراء الدعايات المذهبية أو دعوة إلى عصبية مضطربة أو غير ذلك مما يحرك بعض الجموع العربية في بلادنا الآن .. ولو قد كان ذلك لما تجاوز داؤه حدود بلاده على الأكثر .
إنما انبعثت فكرة النهضة هنا عن عاطفة أصيلة وفطرة إنسانية وتأمل في أحداث التاريخ , وعناصر الحضارات الغابرة والمعاصرة كيف تتكون؟ كيف تنهض ؟ كيف تسبق ؟ كيف تكبو ؟ وكيف تندثر ؟ ثم كيف تتجدد أيضا ؟.
فالحضارة كائن حي يجري عليه ما يجري على سائر الكائنات غير أنها لاتصالها بأرقي الحيوانات الأرضية ( الإنسان) لا تتخلق ولا تربو إلا في حرارة المثل الأعلي وهو ( الدين )
وأهم ما يميز هذه الأزمات أن ضحاياها يتسمون بالحيرة والقلق إزاء أى من مشكلاتنا فكأنهم محبوسون في مجال مغلق. يشعرون داخله بالعجز والضحالة فإذا أرقتهم هذه الحيرة تعاطوا من الأدب والكلام ما يخدر ضمائرهم ومشاعرهم ومن هنا تكثر في لغتهم الألفاظ البراقة التي تتفلت من اليد معانيها .
وحين تتفتق عبقرياتهم عن حل لبعض المشاكل لا تجد في هذا الحل سوي مسكّن وقتي يزيد المشاكل تعقيدا لأنه إما مستورد من الخارج لا يتصل ببئتنا وإما مختلق من دجالين بارعين أو جهلة مغرورين وفي هذا الكتاب تخطيط فكري شامل لحلول مشكلاتنا يتيح لنا أن نناقش أوضاعنا في هدوء وعلي بصيرة في ضوء فلسفة موضوعية ذات طابع اجتماعي تمتد جذوره في أعماق التاريخ الحضاري للإنسانية وهو في ضوء هذه الفلسفة يناقش بعض المشاكل كمشكلة الثقافة ويحدد مفهومها تحديدا علميا لم يتح لكاتب في الشرق أو في الغرب حتي الآن ويتحدث عن توجيه رأس المال في بلادنا , بناء على تفسير جديد لمعني رأس المال لم يرد في النظرية الماركسية وهو يجعل حلول مشكلاتنا الاقتصادية بعيدة عن غلو الرأسمالية وتطرف الشيوعية .
ومن ضمن ما تعالجه هذه الدراسة ( مشكلة القيادة) فإن المؤلف يري أنها من أهم المشكلات الحضارية وأن أكثر ما يفسد القيادة أن تلجأ إلى الأساليب العقيمة في الدعاية والمهرجانات لكسب الأنصار دون أن ترسم أهدافها وتقود الجماهير في نطاق فكرة ممحصة مدروسة فأساس التطور في أى مجتمع هو تغيير معالم النفسية فيه لتتغير معالم المجتمع نفسه .
وهو لا ينسي هنا أيضا مشكلة التطبيق فإن كتابات بن نبي إنما تستمد عناصرها من الواقع المرير ومن الحاضر المعقد فهو يهاب التفكير المجرد المنقطع الصلة بالحياة الاجتماعية كما يخشي أن تضل أراؤه طريقها إلى عقل القارئ بسبب النزعة الأدبية في التعبير .
والواقع الذي يعالجه بن نبي في هذا الكتاب يشمل العالم الإسلامي كله ولكنه يبدأ انطلاقه من الأحوال في شمال أفريقية وبخاصة في الجزائر الوطن العربي المسلم المكافح ففيها تتجسد مشاكل ما يسميه ( بالقابلية للاستعمار ) .
فإلي جانب المعركة التي يخوضها الشعب الحر ضد الاستعمار وقواته المسلحة هنالك معركة أخري ضد التحليل وضد المؤامرات التي وقع فيها السياسيون السطحيون زمنا اساءوا فيه إلي نهضتهم عن قصد أو غير قصد وضد الدمار الاقتصادي الذي أصيبت به البلاد بتأثير العوامل الطبيعية وإهمال الإدارة الاستعمارية المتعمد .
والحالة في أنحاء العالم العربي والإسلامي تضم تلك الآلام أو بعضها على اختلاف في الدرجة وفي الظروف .
وهناك ملاحظتان أود أن ألفت إليهما نظر القارئ .
أولاهما : هذا الكتاب ليس مجرد نشرة تخرجها المطبعة بل هو رسالة ترتبط فهيا السطور الأولي بالأخيرة في تماسك عجيب يقتضي من القرئ الأناة واليقظة والسير مع الفكرة حتي تبلغ نهايتها وساعتها يمكنه أن يزعم لنفسه أنه بها كاملة غير مختلة .
ثانيهما: كل جملة في الكتاب تني ما تقول دون أى إضافة أدبية أو تزويق لفظي فما يكره بن نبي في الحياة أكثر من زخرفة القول ولذلك فقد نفي عن تفكيره وعن كتابته كل ما يتصل بالحشو والأطناب الذي لاهدف له وهذا لا يعني أن الكتابة في الصل الفرنسي جافة بل إن الواقع على العكس تماما فأسلوب الكتاب في الذروة من الرصانة والعمق والدقة وخفة الروح أيضا ولا غرو فالكاتب ممن يعتزبهم الدب الفرنسي ويقدر إنتاجهم الأدباء الفرنسيون وقد أضاف إلى لغة الكتابة كثيرا من الألفاظ والتعبيرات المبتكرة التي لم يسبقه إليها كاتب أديب شأنه في ذلك شأنه في أفكاره وفلسفته .
وبعد فليست هذه ترجمة نصية للطبعة الفرنسية الصادرة عام 1948 بل إن المؤلف قد زاد فيها فصولا ونقحها بما يناسب قراء العربية ونحن لا نقدم هنا الأستاذ مالك بننبي فهو أإني الناس عن كل تقديم إنما نقدم لهم رسالته في كلمات قصار نحسبها مخلة وجسبنا أننا قد نلنا شرف السبق في ترجمة أول محاولة جدية لحل مشاكلنا وأدخلنا هذه الثمرة اليانعة إلى حلبة الفلسفة والأدب والاجتماع ونرجو أن تلحقها باقي الثمرات .
مقدمة الطبعة الفرنسية
بقلم الدكتور عبد العزيز الخالدي
لكي أقوم بتقديم هذه الدراسة أجد بين يدي سيرة عاصفة مؤثرة أعرفها في الجزائر ولكني ملزم بأن أدع الحديث عنها لأن المؤلف قد منعني صراحة من مجرد الإشارة إليها وأحتفظ مع ذلك بحقي في الحديث عن العمل الذي تحتل فيه هذه الدراسة مكانا هاما منتهيا إلى بيان الطابع الخاص والقيمة الاجتماعية التي نجسدها حتي في كتابة ( لبيك) الذي اعتبره بعض القراء غريبا عن الأفق الوضاء الذي خطبه كتاب ( الظاهرة القرآنية )
ويلفت انتباهنا في كتاب ( الظاهرة ) هذا ذلك الحشد من المشاكل التي يثيرها مدخله وطريقته الجديد التي طبقها المؤلف للمرة الأولي على تفسير القرآن .
وأياما كان فلقد تاثر المؤلف في كتاب ( الظاهرة ) بمشهد شباب الإسلام الذين استهوتهم المناقشة الخطيرة بين العلم والدين فاستخلص من هذه المناقشات نتائج وثيقة أراد تبليغها للضمائر الأخري .
ولكن دقة النقد وعمق التحليل وصرامة المنطق الذي يقود إلى هذه النتيجة كل هذه الأمور ثانوية في عمل ينبع تأليفه والهدف منه من المغزي الدرامي للمشكلة أكثر من أن ينشأ عن المغزي العقلي .
وبن نبي في الواقع ليس كاتبا محترفا أو عاملا في مكتب مكبا على اشياء خامدة من الورق والكلمات ولكنه رجل شعر في حياته الخاصة بمعني الإنسان في صورتيه الخلقية والاجتماعية وتلك هي الماساة التي شعر بها بن نبي بكل ما فيها من شدة وبكل ما صادف في تجاربه الشخصية النادرة من قساوة وهي التي تقدم المادة الأساسية لمؤلفاته سواء ( الظاهرة القرآنية ) أن الدراسة التي يتقدمها اليوم كأنشودة بهيجة يحي بها ( كوكب المثالية) الذي يسجل فجر الحضارات منذ العصور المظلمة .
ولكن هذه الأنشودة ثمرة عقل يحاول فتح آفاق عملية للنهضة العربية والإسلامية التي يطالبنا بها في الجزائر وهو يكشف لنا عن مفهومها الأليم. فإذا كان دقيقا حساسا إلى هذه الدرجة فليس معني ذلك أنه رجل عقل مغرم بالتجريد أو أنه أديب فنان مولع بصور الجمال فإن الذي يأسره ويستولي عليه إنما هو الرعشة الإنسانية .. الألم ... الجوع ... الأسمال .... الجهل ..
فهل من يفكر من أول وهلة في مواجهة هذه المشكلات يكون غير فقيه لقد عاش بن نبي هذه المشكلات تماما كالآخرين الذين اتخذوا منها معارج انتخابية يتحدثون منها عن البؤس حتي درجة الإشباع التي تناسب جميع صنوف الدجل والاستغلال ونحن نعلم اليوم ما يؤدي إليه مثل هذه الحالة من الاختلال والقحط والفوضي .
ولكن التجربة الشخصية تعني عند بن نبي شيئا آخر فهي سبب للتأمل في الدواء ومن هذا التأمل نبدأ المأساة في أن تصبح عنده مشكلة فنية فهو يقودنا بتحليله الدقيق الوثيق في أركان التاريخ لكي يكشف لنا عن ( الدورة الخالدة ) التي ألهمته الأنشودة الجميلة التي ثدر بها هذه الدراسة.
ولكن قبل اقتراح الحل يجب أن تزول تماما الأنقاص من الفناء الغاص ببقايا انحطاطنا ورواسب الفوصي التي عشنا فيها سنين عديدة .
وهذا الكتاب قد استطاع في فصوله الأولي أن يلقي الضوء على تلك الحقبة الهامدة والتي حركتها بصعوبة ( التقاليد البطولية ) ثم أعقبتها مرحلة ( الفكرة )
ولكن تراثا وثنيا قد تبقي في أعماقي الضمير الشعبي اذلي شكلته القرون المليئة بخرافات الدراويش .
فإذا كان غول الدراويش قد صرعه الإصلاح فإن غولا جديدا يمكن أن يظهر أيضا وهو لا يشترط وجود أولياء أو أحجبة وحروز ولكن أو ثان سياسية وبطاقات للتصويت .
هذا هو الصراع بين الفكرة والوثن الذي أصبح طابعا جديدا للمأساة الجزائرية وبدهي أن الإدارة الاستعمارية لم تكن غافلة وهي تعرف الجزء الذي تجذبه لكي تتفرق الشعب الجزائري وتتبعثر قواه وأكثر من ذلك فإن المشكلة التي نحن بصددها قد أسئ تكييفها سواء عند دعاة افصلاح أو رجال السياسة
إن الاستعمار ليس مجرد عارض بل هو نتيجة حتمية لانحطاطنا هذه هي المشكلة ولا جدوي من فكرة لا تسلم بهذا المسلم الأساسي الذي يبرزه بن نبي وهو يؤكد أنه ليكلا نكون مستعمرين يجب أن نتخلص من القابلية للإستعمار هذه الجملة البسيطة فيما أ‘تقد هي الإشعاع النوراني الأول للإنسانية الذي استرسل لينير حلبة الصراع ولقد أضاءها من قبل نور تلك الآية المذكورة هنا كأساس للنظرية كلها " إن الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم "
ومع ذلك فإن المؤلف يري من المفيد أن يقدم أيضا التبرير التاريخي والنقدي والعقلي لهذا الأساس الرباني الذي قد يفزع العقل الديكارتي وهو يعتبر هذا التبرير الذي يكشف فب بعض الصفحات عن اصول فلسفته من القوانين التي تحكم أطراد الحضارات وهنا ينبثق حل المشكلة كنتيجة حتمية لهذا الردس التاريخي .
والنظرية تتكون جزءا فجزءا بطريقة منطقية طبقا للتكوين الأساسي لكل حضارة حيث تتكون من الأنسان والتراب والوقت .
فإذا طبقت هذه النظرية على بلاد العروبة مثلا فإنها تستوجب تكييفا فنيا للإنسان الأمي والتراب الباثر والوقت الضائع .
والمؤلف يبدأ نظريته هذه في ذلك الرمز الذي صدر به الباب الثاني والذي صاغه في كتابه بارعة وجمال أدبي فذ وإلهام اجتماعي عميق .
وخطوة خطوة يكشف لنا عن العناصر التي تبدو نظرنا ثانوية لا تستحق التفكير والتي تنال هنا اهتماما رئيسيا لأن اتصالها الحقيقي يتطورنا وحياتنا يظهر أمامنا فجأة ولقد قال فاليري كل سياسة تقتضي ( وهي عموما تجهل أنها تقتضي ) فكرة معينة للإنسان ورأيا عن مصير النوع الإنساني فكرة غبية تذهب من المادة البحتة إلى التصوف الشاطح "
فهل فكر أحد في مشكلة الرجل والتراب والوقت والنرأة والزي والتكيف والثقافة التي هي جوهر المشكلة الإنسانية كلها .
وتكوين المؤلف كمهندس قد ساعده دون شك في التصور الفني للأشياء ولكن ثقافته المذدوجة تسمح له بأن يصل هذا التصور بالخطة الإنسانية بنفس الثقة التي تطبع خاتمته المؤثرة ونضيف هنا أن الأمر لا يتعلق بعمل مفيد للجزائر فحسب لن هذه الدراسة تتعدي بعبقريتها حدود الجزائر لكي تضم مجال العالم الإسلامي حيث تتماثل المشكلة الإنسانية في سائر عناصرها .
ونظرية بن نبي تلقي ضوءا على التجديد الإسلامي الذي يتخلي فيه قطبا النهضة الروح والفن .
وهو حين يقدم في النطاق العقلي والخلقي مثله الباهر فإنما يعطي لهذين القطبين منتهي الوضوح .
ونحن نأمل أن نخدم هذه الدراسة سير النهضة في العالم العربي وفي العالم الإسلامي الذين يجب أن تتوافق صحوة ضميرها مع ضابط النغم في الضمير العام والذي يبحث بصورة مؤثرة عن وسائل طمأنينة في طريق السلام والديمقراطية
ونحن نريد أيضا أن تتقبل الدول الكبري هذه الصحوة لا " كخطر إسلامي " ولكن كنهضة لمئات الملايين من الناس الذين جاءوا بدورهم ليساهموا في الجهود الخلقية والعقلية للإنسانية .
فهل تستطيع الشبيبة العربية والإسلامية التي وجدت في ظروف مواتية أن تحرك هذه النهضة التي يعتبر بن نبي داعيها وحاديها ؟
وأنا لا أريد هنا أن أخالفه فأبدي له تقديري الشخصي كأخ لى وكأستاذ .
دكتور عبد العزيز الخالدي
الباب الأول: الحاضر والتاريخ
أنشودة رمزية
أى صديق :
لقد حانت الساعة التي ينساب فيها شعاع الفجر الشاحب بين نجوم الشرق .
وكل من سيستيقظ يتحرك وينتفض في خدر النوم وملابسه الرثة . ستشرق شمس المثالية على كفاحك الذي استأنفته هنالك في السهل حيث تهجع المدينة التي نامت منذ أمس .
ستحمل اشعاعات الصباح الجديد ظل جهدك المبارك في السهل الذي تبذر فيها بعيدا عن خطواتك.
وسيحمل النسيم الذي يمر الآن البذور التي تنثرها يداك .. بعيدا عن ظلك .
ابذر يا أخي الزارع من أجل أن تذهب بذورك بعيدا عن حقلك في الخطوط التي تتناءى عنك.
هاهي بعض الأصوات تهتف الأصوات التي أيقظتها خطواتك في المدينة, وأنت منقلب إلى كفاحك الصباحي . وهؤلاء الذين استيقظوا بدورهم سيلتئم شملهم معك فورا .
إن يا أخي الزارع لكي تهدي بصوتك الخطوات التي جاءت في عتمة الفجر نحو الخط الذي يأتي من بعيد .
وليدو إناؤك البهيج كما دوّي من قبل إناء الأنبياء في فجر آخر في الساعات التي ولدت فيها الحضارات .
وليملأ إناؤك أسماع الدنيا , وأعنف وأقوي من هذه الجوفات الصاخبة التي قامت هناك .
هاهم ينصبون الآن على باب المدينة التي تستيقظ السوق وملاهيه لكي يميلوا هؤلاء الذي جاءوا على إثرك ويلهوهم .
وهاهم قد أقاموا المسارح والمنابر للمهرجين والبهلوانات لكي تغطي الضجة على نبرات صوتك .
وهاهم قد أشعلوا المصابيح الكاذبة لكي يحجبوا ضوؤ النهار ولكي يطمسوا بالظلام شبحك في السهل الذي أنت ذاهب إليه .
وهاهم قد جملّوا الأصنام ليلحقوا الهوان بالفكرة .
ولكن شمس المثالية ستتابع سيرها دون تراجع وستعان قريبا انتصار الفكرة وانهيار الأصنام كما حدث في الكعبة .
دور الأبطال
إن عهود الملاحم كالأوديسة والالياذة ليست هي العهود التي توجه فيها الشعوب طاقاتها الاجتماعية نحو أهدافها الواقعية سواء أكانت هذه الأهدافبعيدة أم قريبة .
بل هي تصرف طاقاتها تسلية وإشباعا لخيالاتها وما جهود الأبطال الذين يقومون بأدوارهم فى تلكم الملاحم إلا جهود من أجل الطموح واكتساب المجد أو إرضاء العقيدة فهم لا يقاتلون مدركين أن نصرهم قريب وأن طريقهم إلى تخليص مجتمعهم محدد واضح فمجدهم هذا أقرب إلى الأسطورة منه إلى التاريخ .
ولو أننا سألنا أحدهم عن بواعث كفاحه فإنه لا يستطيع أن يجد بكل وضوح المبررات التي تصل عادة بالأعمال التاريخية فهو يعلم أن مجهوداته كلها تذهب هباء غير أن دوافعه الدينية وشرفه الإنساني قد حتما عليه مثل هذا المسير.
ولقد كان دور الشعوب الإسلامية أمام الزحف الاستعماري خلال القرن الماضي وحتي الربع الأول من هذا القرن دورا بطوليا فقط ومن طبيعة هذا الدور أنه لا يلتفت إلى حل المشاكل التي مهدت للإستعمار وتغلغله داخل البلاد .
إن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته مالم يرتفع بفكرته إلى مستوي الأحداث الإنسانية ومالم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها وما الحضارات المعاصرة والحضارات الضاربة في ظلام الماضي والحضارات المستقبلة إلا عناصر للملحمة الإنسانية منذ فجر القرون إلى نهاية الزمن فهي حلقات لسلسلة واحدة تؤلف الملحمة البشرية منذ أن هبط آدم على الأرض إلى آخر وريث له فيها ويالها سلسلة من النور !... تتمثل فيها جهود الأجيال المتعاقبة في خطواتها المتصلة في سبيل الرقي والتقدم .
هكذا تلعب الشعوب دورها وكل واحد منها يبعث ليكون حلقته في سلسلة الحضارات حينما تدق ساعة البعث معلنة قيام حضارة جديدة ومؤذنة بزوال أخري .
وما أجا هذه الساعة حينما تؤذن بفجر جديد من المدنية وما أهولها من ساعة حينما تعلن غروب أخري وهكذا كان شأن الجزائر عام 1930
فقد مضي على أفول شمسها زمن بعيد وقضتع في ليلها وقتا ليس بالقصير ومن عادة التاريخ ألا يلتفت للأمم التي تغط في نوخمها وإنما يتركيا لحلامها التي تطربها حينا وتزعجها حينا آخر تطريها إذ تري في منامها أبطالها الخالدين وقد أدوا رسالتهم وتزعجها حينما تدخل صاغرة في سلطة إنسان جبار وعندما برق في افقنا فرس الأمير ( عبد القادر ) في وثنيته الرائعة كان الليل قد انتصف منذ وقت طويل ثم اختفي سريعا شبح البطل الأسطوري كأنه حلم طواه النوم.
ثم توالت أشباح اخري في موجه من الأحلام تستمد مغزاها الأليم من تقاليد شعب بطل أحب دائما الفرس والبارود وكان تتابعها على الخص في البوادي حيث الخيل المسومة والمجال الفسيح متوفران لدي القبائل .
فالرابطة القبلية قد ظلت وحدها الرابطة الوثيقة التي توجد بعض الرجال فيما يشبه وحدة الرالة غير أن هذه الرابطة لم تكن بكافية لتأهيل شعب ليؤدي رسالة تاريخية وإن كانت أهلته للقيام برواية حماسية حسنة والتاريخ يقرر أن الشعب الذي لم يقم برسالته أى بدوره في تلك السلسلة ما عليه إلا أن يخضع ويذل .
ولم يكن هناك في الحقيقة من يسجل هذه الحقبة من كفاح الشعوب ضد الإستعمار سوي هؤلاء المجاهدين من رجال القبائل ولقد كان الأمير ( عبد الكريم الخطابي ) آخر من ارتشف من كأس البطولة الموروثة عن أجدادنا الأول ,لم يبق بعده باق ممن يهبون للنضال ضد المستعمر من أجل البطولة المجردة في سبيل الخلود على سنة الذين عقدوا ألويتهم للكفاح فقد كانت القبائل العربية البربرية تقاتل معه لا من أجل البقاء ولكن في سبيل الخلود ولقد كتب لها الخلود بما أوتيت من روح رفعتها فوق الهاوية حيث هوي الآخرون من الشعوب التي غمرتها موجة الاستعمار فليسأل السائل عن مصير القبائل الأمريكية قبل كريستوف كولومبس أين هي ؟ لقد أصبحت أحاديث وتمزقت كل ممزق ودفنها التاريخ في طياته حيث استقرت في ضميره نسيا منسيا ونحن نري في زوالها وانحلالها خير شاهد على أن الإسلام بما انطوي عليها من قوة روحية كان للذين يتمسكون به درعا من أن تحطمهم الأيام أو يذوبوا في بوتقة المستعمرة حيث يتقمصون شخصيته .
ولكن شمس المثالية ما تزال تواصل سيرها وسرعان ما انبلج الفجر في الأفق الذي يدعو فيه المؤذن إلى الفلاح كل صباح ففي هدأة الليل وفي سبات الأمة الإسلامية العميق انبعث من بلاد الأفغان صوت ينادي بفجر جديد صوت ينادي : حي على الفلاح فكان رجعه في كل مكان إنه صوت ( جمال الدين الأفغاني ) موقظ هذه الأمة إلى نهضة جديدة ويوم جديد .
دور السياسة والفكرة
إن الكلمة لمن روح القدس , إنها تساهم إلى حد بعيد في خلق الظاهرة الاجتماعية فهي ذات وقع في ضمير الفرد شديد إذ تدخل إلى سويداء قلبه فتستقر معانيها فيه لتحوله إلى إنسان ذى مبدأ ورساله .
فالكلمة يطلقها إنسان , تستطيع أن تكون عاملا من العوامل الاجتماعية حين تثير عواصف في النفوس تغير الأوضاع العالمية .
وهكذا كانت كلمة جمال الدين فقد شقت كالمحراث فيالجموع النائمة طريقها فأحيت مواتها ثم ألقت وراءها بذورا لفكرة بسيطة فكرة النهوض فسرعان ما آتت أكلها في الضمير الإسلامي ضعفين وأصبحت قوية فعالة بل غيرت ما بأنفس الناس من تقاليد وبعثتهم إلى أسلوب جديد في الحياة .
وكان من آثار هذه الكلمة أن بعثت الحركة في كل مكان وكشفت عن الشعوب الإسلامية غطاءها ودفعتها إلى نبذ ما كانت عليه من أوضاع ومناظر فأنكرت من أمرها ما كانت تستحسن واتخذت مظاهر جديدة لا تتلاءم حتي مع ثيابها التي كانت تلبسها فنبذت الترجيلة والطربوش والحرز والزردة ولقد بلغ تأثير تلك القوة الفعالة الجزائر فاخذت منها بنصيب .
فمأساة الجزائر مثلا حتي سنة 1918 لم تكن إلا رواية صامتة أو أثرا من الآثار التاريخية وضع في متحف أى في صدور قوم صامتين يعلمون السر النفسي للمأساة حتي أرقت ضمائرهم وأحتوته أيضا ملفات الحكومة التي كانت تعلم من أمرها ما تعلم حتي إذا ظهرت الفكرة الإصلاحية حوالي سنة 1935 تحركت المشكلة الجزائرية وقد أوتيت لسانا ينطق وفكرة تنير لها الطريق .
والذين أدركوا شبابهم في تلكم الأيام يتذكرون تلكم الخواطر التي كانت تمر بهم .
وليس من شك في أن التاريخ يري في مثل هذه الظواهر خير شاهد على رجوع الحاسة الاجتماعية إلى الجزائر بمعني أنها قد عادت إلى الحياة التي يستأنف فيها كل شعب رسالته ويبدأ تاريخه .
أما في الماضي فقد كانت البطولات تتمثل في جرأة فرد لا في ثورة شعب وفي قوة رجل لا تكاتف مجتمع, فلم تكن حوادثها تاريخا بل كانت قصصا ممتعة , ولم تكن صيحاتها صيحات شعب بأكمله وإنما كانت مناجاة ضير لصاحبه لا يصل صداه إلى الضمائر الأخري فيوقظها من نومها العميق .
وإنه لمن الواجب علينا أن ننوه ببعض ما كان من أمر مناجاة الشيخ ( صالح بن مهنة ) الضميرية الفردية – إن صح التعبير – فإن صوت مناجاته كاد يوقظ أهل قسنطينة كلها حوالي سنة 1898.
والحق أن هذا الشيخ الوقور كان في طليعة المصلحين إذ أنه قام قومه مباركة ضد الخرافيين ( الدراويش) غير أن الحكومة الساهرة على الهدوء كيلا يستيقظ النائمون عملت على إبعاده وعاقبته بمصادر مكتبته الثمينة وفرقت أمثاله من ( مقلقي النوم العام ) في نظر الاستعمار فحولت الشيخ ( [[عبد القادر المجاوري]]) من منصبه بمدرسة قسنطينة إلى مدرسة العاصمة وهكذا استطاع النوم أن يشد بالأجفان من جديد بعد أن حاولت تفلتا من قيوده ومضت هذه الأصوات التي كانت أن تلفت إليها الأذهان وتجمع حولها الناس وكأنها شجار حدث في وسط الليل .
ولم ينتبه إليه نائم .
ولكن شعاع الفجر قد بدأ ينساب بين نجوم الليل من قمة الجبل فلم يلبث أن محت آياته الظلمة من سماء الجزائر فحوالي عام 1922 . بدأت في الأرض هينمة وحركة وكان ذلك إعلانا لنهار جديد وبعثا لحياة جديدة فكأنما هذه الأصوات استمتدت من صوت جمال الدين قوتها الباعثة بل كأنها صدى لصوته البعيد ولقد بدأت معجزو البعث تتدفق من كلمات ( ابن باديس) فكانت تلك ساعة اليقظة وبدأ الشعب الجزائري المخدر يتحرك ويالها من يقظة جميلة مباركة يقظة شعب ما زالت مقلتاه مشحونتين بالنوم فتحولت المناجاة إلى خطب ومحادثات ومناقشات وجدل وهكذا استيقظ المعني الجماعي وتحولت مفاجأة الفرد إلى حديث الشعب فتساءل الناس : كيف نمنا طويلا ؟ وهل استيقظنا حقا ؟ وماذا يجب أن نفعل الآن ولقد كانت هذه الأسئلة على شفاه قوم غمرتهم الدهشة وما زالوا يتقلبون في خدر النوم يتلمسون منه فكاكا.
كانت الحكومة في شك من أمرها ومن المفيد أن تذكرهم كانت بطيئة في تكفيها مع الظروف الجديد فبعد عشر سنوات أى حوالي عام 1933 ل تكن هذه الحكومة قد تفهمت تلك الظروف إذ نجد أن حاكم الجزائر – وقد أصدر لائحته المشهورة التي حرمت المساجد على العلماء المصلحين – نجده يصف الشعب الجزائري بأنه " شعب خامل "!!.
ومن الواجب ان نذكر أن هذا الخمول الذي لم يكن إلا في الإدارة الاستعمارية الشامخة هو السبب الأساسي للبلاء بينما البلاد قد شاعت فيها الحيوية وامتلأت بالغليات والثورة .
لقد انطقت الأفكار ثم تلاقت وتصارعت فكانت أحيانا تتفجر شأن فقاقيع الهواء على سطح ( الغلاية) وأحيانا أخري تتحول مباشرة من حالة الجمود إلى حالة التبخر والشيوع في صورة مدرسة أو مسجد أو مؤسسة اصلاحية وظهرت النظريات الاجتماعية التي كانت يومئذ رائجة في سوق الأفكار ظهرت هذه النظريات في افكار الشباب المتطلعين إلى كل تجديد فهذا يرنو إلى المذهب الكمالي وذاك يأخذ بالمذهب الوهابي وذلك ينزع إلى التمدن الغربي ومنهم من انحدر بفكره إلى مذهب المادة وكل واحد من هؤلاء وأولئك يتخذ ملبسا يعبر عن نزعة تفكيره فهذا يلبس القبعة ليشعرنا بأنه يقفو اثر مصطفى كمال وأنه تزعم تحرير النساء وانه يريد أن ينشر في البلاد التدريس المدني ( اللاديني ) وأنه يريد أن يبدل مكان الشريعة القانون الوضعي .
ونري من بين هؤلاء وأولئك عمائم الإصلاح تدلنا على منهاج آخر يقوم على عقيدة صحيحة ورجوع إلى السلف الصالح وتغير ما بالنفس من آثار الانحطاط .
ولكنا نري أن هذه القيادات والاتجاهات رغم تباينها واختلافها كانت متفقة على نقطة واحدة هي : إرادة الحركة والتجديد والفرار من الزوايا الخرافية غلى المكاتب العلمية ومن الخمارات الحقيرة إلى مواطن أكثر طهارة وفائدة .
لقد كانت حركة الإصلاح التي قام بها العلماء الجزائريون أقرب هذه الحركات إلى النفوس وأدخلها في القلوب إذ كان أساس منهاجهم الأكمل قوله تعالي ( إن الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم ) .
فأصبحت هذه الاية شعار كل من ينخرط في سلك الإصلاح في مدرسة ( ابن باديس ) وكانت أساس لكل تفكير فظهرت آثارها في كل خطوة أحاديثه تتخذها شرعة ومنهاجا فهذا يقول لابد من تبليغ الإسلام إلى المسلمين وذاك يعظ : فلنترك البدع الشنيعة البالية التي لطخت الدين ولنترك هذه الأوثان وذلك يلح : يجب أن نعمل يجب أن نتعلم يجب أن نجدد صلتنا بالسلف الصالح , وتحيي شعائر المجتمع الإسلامي الأول .
وإنه لتفكير سديد ذلك الذي يري أن تكوين الحضارة كظاهرة اجتماعية إنما يكون في نفس الظروف والشروط التي ولدت فيها الحضارة الأولي كان هذا صادرا عن عقيدة قوية ولسان يستمد من سحر القرآن تأثيره ليذكر الناس بحضارة الإسلام في عصوره الزاهرة .
والشعب المتدين الطروب كان مصغيا ولكن المستقبل هدف بعيد فلابد من طرق واضحة ودفعات قوية لكي يدرك هدفه وإذن فيجب أن تحدد الكلمات معالم هذه الطرق وأن تحتوي على الخمائر المباركة لهذه الدفعات وعلى الرغم من قوة عبارات الإصلاحيين الجزائريين فإن هذه الكلمات قد انحرفت ولكل أسف – عن أهدافها لأسباب تضاد المنهج فلقد كان النوم يخدرهم عن أن ينتشروا وعيهم وجهدهم باستمرار فكانت النتيجة انحرافا ولا نتيجة لأن الحكمة قد تركت مكانتها للإنتهازية السياسية .
ولكن مهما كان شأن جمعية العلماء إزاء ذلك الانحراف ومهما كان ركونها أحيانا إلى التفكير غير المنهجي فإنها لا تزال في طليعة النهضة الجزائرية الصحيحة ومن أقوي محركاتها .
على أن من الممكن أن يتجول هذا النوع من التفكير غير المنهجي إلى انتهازية خطيرة وبخاصة في العصورة المضطربة عندما تؤدي كل خطوة خاطئة إلى الموت أحيانا .
فليس للإنحراف طرق مرسومة نظريا ولكن له دوربا مضلة يتعثر فيها السائر في كل خطوة .
وهنا يظهر السبب الذي دعا العلماء إلى أن يسيروا عام 1936 في القافلة السياسية التي ذهبت إلى باريس .
فبأي إنيمة أرادوا أن يرجعوا من هناك وهم يعلمون ان مفتاح القضية في روح الأمة لا في مكان آخر ؟
وبأى شئ في الحقيقة قد رجعوا ؟ ألم يرجعوا بإخفاق المؤتمر الجزائري وبتشتيت جمعيتهم فلقد ساد الرأي الانتخابي وأصبح قائد بدلا من أن يكون مقودا وهكذا انقلبت الحركة الإصلاحية على عقبها وأصبحت تمشي على قمة رأسها لا على قدميها وما كان الأمر خاص بالجزائر بل كان العالم الإسلامي مصابا بمثل ما أصاب الجزائر فقد نشأت فيه التيارات الحزبية وانعكست فيه روح السمو وقوة الصعود والنهوض إلى عاطفة سفلية وجاذبية سفلية .
وربما كان عام 1936 في الجزائر هو القمة التي بلغتها روح الكفاح والإصلاح الاجتماعي وهي نفسها القمة التي هبط منها الإصلاح إلى هاوية لا قرار لها .
وكان ذلك إبان حرب عام 1939 عندما أرعدت سحبها السوداء في أفق العالم .
ومن المحزن حقا أن العالم الإسلامي إبان هذه الحقبة قد استسلم لرقاد طويل فلم يفطن لساعات التاريخ الفاصلة ولم يحاول انتهاز فرصتها السانحة ليتخلص من الاستعمار .
دور الوثنية
" إذا فصلت السياسة عن الدين فقدت معناها كل طفل في مدرستنا يدري الأنظمة السياسية في الهند , ويعرف كيف أن بلاده تتقد بإحساسات جديدة بآمال جديدة ولكننا أيضا في حاجة غلى الضوء الثابت المستقر ضوء الإيمان الديني ".غاندي "
من المعروف أن القرآن الكريم قد أطلق اسم الجاهلية على الفترة التي كانت قبل الإسلام ولم يشفع له شعر رائع وأدب فذ من أن يصفهم القرآن بهذا الوصف لأن التراث الثقافي العربي لم يكن يحوي سوي الديباجة المشرقة الخالية من كل عنصر " خلاق " أو فكر عميق وإذا كانت الوثنية في نظر الإسلام جاهلية فإن الجهل في حقيقته وثنية لأنه لا يغرس أفكارا يل ينصب أصناما وهذا هو شأن الجاهلية فلم يكن من باب الصدقة المحضنة أن تكون الشعوب البدائية وثنية ساذجة ولم يكن عجيبا أيضا أن مر الشعب العربي بتلك المرحلة حين شيد معيدا للأقطاب ( الدراويش) المتصرفين في الكون ومن سنن الله في خلقه أنه عندما تغرب الفكرة يبزغ الصنم والعكس صحيح أحيانا .
وهكذا كل شأن الجزائر فإنها كانت حتي عام 1925 على الرغم من إسلامها – تدين بالوثنية التي قامت نصبها في الزوايا هنالك كانت تذهب الأرواح الكاسدة لالتماس البركات ولاقتناء الحروز ذات الخوارق والمعجزات غير أنه ما إن سطع نور الفكرة الإصلاحية حتي تحطم ذلك المعبد فخرت الأوثان مع أسف عماتنا وخالاتنا اللاتي أدهشهن ما رأين .
وبالفعل فقد خمدت نيران أهل الزردة( الفتة ) وزالت عن البلاد حمي الدراويش وتخلصت منها الجماهير بعد أن ظلت طوال خمسة قرون ترقص على دقات البنادير وتبتلع العقارب والمسامير والخرافات والأوهام .
ولقد ذهبت بذهابهم تلك الجنة التي وعدها المريدون بلا كد ولا عمل إلاما يتلمسونه من رضا الشيخ ودعواته وحلت مكانها جنة الله التي وعدها المتقين العاملين .
وهكذا أتيح ( للإصلاح) أن يمسك بين يديه مقاليد النهضة الجزائرية وأمكنه أن يبعثها خلقا آخر بالروح الإسلامية التي تخلصت من كابوس الأوثان وكأني بالفكرة الإصلاحية قد بلغت أجها وانتصرت يوم افتتاح المؤتمر الجزائري عام 1936 مما جعلنا نتساءل هل سوف نمضي هكذا حتي النهاية ؟
لقد كان ذلك ممكنا لو لم يشعر العلماء المصلحون – بكل أسف – بمركب النقص إزاء قادة السياسة في ذلك العهد فما لأوهم وسايروهم ظنا منهم أنهم سوف يذودون عنهم نوائب الحكومة ولقد كان ذلك ممكنا لو لم يكونوا على استعداد للعودة إلى فكرة الزوايا ذات الطابع السياسي والأصنام المزوقة بأسماء جديدة .
لقد كانوا يستطعيون أن يبلغوا ذلك لو أن أوراق الحروز التي نبذها الشعب لم ترجع إليه باسم أوراق الانتخابات ولو أن العقول التي كانت تصدق بالمعجزات الكاذبة لم تعد مرة أخري تصدق بمعجزات صناديق الانتخابات ولو أن الزردة التي كانت تقام في ساحات المشايخ لم تعقبها الزردة التي تقام في الميدان السياسي والتي أصبحت تقدم فيها الأمة قربانها من حين إلى حين .
لقد كان من واجبنا أن نتنبه فلا نلدغ من حجر مرتين غير أننا لم نكن في الواقع قد تخلصنا من الأسلوب الخرافي ذلك الأسلوب الطفولي الذي نتجت عنه قصة ألف ليلة وليلة تلك القصة التي استبنا مذاقتها في عصور انحطاطنا وكان لها تأثيرها في جونا الخلقي والاجتماعي .
ولقد كان حقيقا بنا أن نوصد مرة واحدة في عام 1936 باب التيه فلا ندع أرواحنا تسبح في متاهات لا حد لها ولو أننا احتطنا لأنفسنا بمثل هذه الاحتياطات البسيطة لاستطعنا منذ ذلك التاريخ أن نواجه الواقع وأن نحل مشكلتنا بأيدينا حلا واقعيا علميا .
فلقد كان على الحركة الإصلاحية أن تبقي متعالية على أوحال السياسة والمعامع الانتخابية ومعارك الأوثان ولكن العلماء آنذاك قد وقعوا في الوحل حيث تلطخت ثيابهم البيضاء .. وهبطت معهم الفكرة الإصلاحية فجرت في المجري الذي تجر فيه ( الشامبانيا) في الأعراس الانتخابية الممزوجة أحيانا بدم تريقه اليد السوداء لاغتيال الإصلاح .
ولئن كان هناك شئ يؤسف له منذ عام 1925 فإن أكبر أسفنا على زلة العلماء التي كانت زلة نزيهة لما توفر فيها من النية الطاهرة , والقصد البرئ .. ومع ذلك فإنه أن لا يغرب عن بالنا أن الحكومة الاستعمارية كانت هي السبب الخارجي لتلك الخطوة المشئومة لتي خطاها العلماء نحو السراب السياسي وكان ذلك حينما تكونت في فرنسا الجبهة الشعبية التي بذلت الوعود بغير حساب .
ولكن ألم تكن المعجزة الحقة في تحويل الأمة وتقدمها شيئا أغلي من هذا السراب ؟
ألم يكن موطن المعجزة هو ما دل عليه القرآن أى النفس ذاتها ؟
أو لم يكن العلماء أنفسهم ينهلون من ذلك الينبوع معجزاتهم من عام 1925 حتي عام 1936 إذ كانوا يغيرون ما بنفس الفرد ذلك التغيير الذي هو الشرط الجوهري لكل تحول اجتماعي رشيد ؟
وإذن فلا يجوز لنا أن نغفل الحقائق فالحكومة مهما كانت ما هي إلا آلة اجتماعية تتغير تبعا للوسط الذي تعيش فيه وتتنوع معه فإذا كان الوسط وطنيا حرا فما تستطيع أن تكون غير ذلك وإذا كان الوسط قابلا للإستعمار فلابد من أن تكون حكومته استعمارية .
هذه الملاحظة الاجتماعية تدعونا لأن نقرر أن الاستعمار ليس من عبث السياسيين ولا من أفعالهم بل هو من النفس ذاتها التي تقبل ذل الإستعمار والتي تمكن له في أرضها .
وليس ينجو شعب من الاستعمار وأجناده إلا إذا نجت نفسه من أن تتسع لذل مستعمر وتخلصت من تلك الروح التي تؤهله للإستعمار ولا يذهب كابوسه عن الشعب كما يتصور البعض بكلمات أدبية أو خطابية وإنما بتحول نفسي يصبح معه الفرد شيئا فشيئا قادرا على القيام بوظيفته الاجتماعية جديرا بأن يحترم كرامته وحينئذ يرتفع عنه طابع " القابلية للإستعمار" وبالتالي لن يقبل حكومة استعمارية تنهب ماله وتمتص دمه فكأنه بتغيير نفسه قد غير وضع حاكميه تلقائيا إلى الوضع الذي يرتضيه.
ولا شك في أن الأزمة السياسية الراهنة تعود في تعقدها إلى أننا تجهل أو نتجاهل القوانين الأساسية التي تقوم عليها الظاهرة السياسية والتي تقتضينا أن ندخل في اعتبارنا دائما صلة الحكومة بالوسط الاجتماعي كآلة مسيرة له وتتأثر به في وقت واحد وفي هذه دلالة على ما بين تغيير النفس وتغير الوسط االاجتماعي من علاقات متينة ولقد قال الكاتب الاجتماعي ( يورك) :" إن الدولة التي لا تملك الوسائل المسايرة للتغيرات الاجتماعية لا تستطيع ان تحتفظ ببقائها "
ومن الواضح أن السياسة التي تجهل قواعد الاجتماع وأسسه لا تستطيع إلا أن تكون في دولة تقوم على العاطفة في تدبير شئونها وتستعين بالكلمات الجوفاء في تأسيس سلطانها ولن تستطيع فهم هذه الملاحظات الاجتماعية إلا إذا فهمنا الآية الكريمكة التي اتخذها العلماء شعارا لهم في تأسيس دعوتهم : (إن الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم ) . وما بقي الإصلاح متمسكا بأهداب هذه الآية فلن يستطيع درويش جديد أن يهدد البلاد بخطر خرافته ولكن زلة العلماء عام 1936 كان لها أكثر الأثر في عودة البلاد إل الأفكار الوثنية فقد كان من آثار هذه النكسة تلك الزردة الكبري التي أقامتها ( النخبة ) من رجال السياسة في بلدة ( سطيف) حيث أمسكت بكلتا يديها المبخرة ثم ألقت فيها العود الأخير من الجاوي " المبارك" الذي كان السدنة يعطرون به زواياهم .
وما كانت تلك الزردة إلا ابتداء لدروشة جديدة تذهب معها جهود الإصلاح هباء وكأنها لم تكن درويشة لا تختلف عن سابقتها إلا بأنها تبيع بدل الحروز والتمائم حروزا في شكل آخر هي أوراق الانتخابات والحقوق السياسية والأماني السامجة في الخيال .
ومع ما استجلبناه من مصر ( الفاروقية ) من الإسطوانات والأشرطة السينمائية المجافية للفن والأخلاق , فإننا قد استجلبنا منها أيضا أسسا لسياستنا تقوم على أفكار تضلل العقول البسيطة , كان لها أسوأ تأثير في حياتنا حيث اتخذتها ( الدروشة السياسية ) شعارا لها ومبدأ وكررتها على مسمع من الشعب حيث رددها معها سنين طويلة صباح مساء : ( إن الحقوق تؤخذ ولا تعطي ) لحاها الله كلمة تطرب وتغري فالحق ليس هدية تعطي . ولا إنيمة تغتصب وإنما هو نتيجة حتمية للقيام بالواجب فهما متلازمان والشعب لا ينشئ دستور حقوقه إلا إذا عدل وضعه الاجتماعي المرتبط بسلوكه النفسي .
وإنها لشرعة السماء :( غير نفسك تغير التاريخ) .
وعلي هدي هذه الكلمة بدأ الإصلاح الجزائري من النفس , هادفا في جوهره إلى تغيير الإنسان فبعث فيه روحا وثابة أشرقت معها بوادر النهضة الكبرى وكان الانطلاق الرائع للضمير الشعبي فيما قبل عام 1936 في انسجامه وإطراده وحماسه هو ملحمة الفكرة الإصلاحية التي توجها المؤتمر الإسلامي المنعقد فذ ذلك العام .
وخلال العصر الذهبي الذي بدأ عام 1925 واستمر حتي زوال المؤتمر الذي مات فيمهده كنا تشعر بالنهضة ولم يكن زادنا في مبدأ رحلتنا سوي كلمات من الفصحي وبعض آيات من القرآن وهكذا ابتدأت على أثر هذه النهضة المدارس الأولي تشيد بسيطة متواضعة كتلك المدارس الأولي التي افتتحت في الغرب في عهد شارلمان والتي كانت أصولا للمدنية الغربية .
ولقد كنا إذ ذاك إذا ما خلصنا إلى سمرنا نتحدث حديث " الغشيم "!!.. ولكنه ليس عقيما إذ هو يدور حول الشئون الاجتماعية كالتعليم والتربية وتطهير الأخلاق والعادات ومستقبل المرأة واستخدام رؤوس الأموال وكانت هذه الأحاديث ذات قيمة لأنها كانت بعيدة عن منطق الغوغاء وعن الرياء والذاتية وعن النزعات الانتخابية فقد أصبحت لكل كلمة من هذه الكلمات قيمتها في الوسط الجزائري ولكل سعي أثره وإن قل إذ هو يساهم في بناء التقدم والنهضة تماما كما تساهم القشة الصغيرة ف ي بناء عش الطير إبان الربيع ..
ولم يتخلف الأدب الجزائري عن الركاب فقد بدأ يصور تقدم البلاد في قصائد جدد فيها نشاطه بعد ركود طويل كانت تلك القصائد تإني ربيع النهضة أى ربيع الفكرة لا ربيع الصنم .
وكنت تري في كل مسجد أو مدرسة أو منزل حديث الإصلاح بين مؤيد ومنتقد ولكن كلا الفريقين كان يتمتع باللسان العف والسريرة النقية إذا كانت المبادئ هدفهم من وراء اختلافهم لا الأغراض الشخصية والوظائف السياسية ..
وكانت الأمة تقدم تضجياتها لبناء المدارس والمساجد من أجل البعث الفكري والبعث الروحي الذين هما عماد كل حضارة في سيرها الحثيث .
ولعلك نلاحظ كم يكون شاقا القيام بهذه التضحيات في بلاد فقيرة امتص المستعمر خيراتها غير أن الشعب الذي آمن بالفكرة كان عزاؤه في جهده الشاق أنه سوف يحظي بالعاقبة الحميدة . لقد كان يعيش في جو من الحماس يتيح له أن يصنع المعجزات الاجتماعية من تغيير العوائد والأفكار والاتجاهات والأشياء وكانت الاستجابة لهذه التحولات بادية في تقاليد مدينة ( تبسة) مثلا تلك المدينة التي بدت أعراسها وجنائزها أقرب إلى الكرامة والوقار مما لم تعرفه قبل الإصلاح وأنه لمن الواضح أن الشعب الذي بدأ يعود إلى وقاره ويستمسك بأسباب كرامته ويميل إلى التناسب والجمال في مظهره العام قد أعاد سيره في موكب التاريخ .
وكنت تشاهد حركات الهدف منها إزالة كل منكر لا تقبله العقيدة ولا يقره الذوق العام ومن ذلك حركة محاربه الخمور وبيعها حتي لم يجد باعة تلك السموم حيلة يفرون بها من هجوم الحركة الإصلاحية إلا أن يلجأ إلى الحكومة حوالي عام 1927 فقد تناقص إبرادهم وبارت تجارتهم وبدأت المساجد تمتلي برواد الخمارات كما أن الحلقات الدراسية الليلية عمرت بأولئك الذين انصرفوا عن حلقات الزوايا. ولعل هذا التغيير المطرد والنسق الجديد من الحياة قد اقلق كثيرا أولئك الذي كانت مواردهم وإمكانياتهم مستمدة من سباتنا .
وبدأت المعجزة تشق طريقها بقوة وعزم إلى أن جاءت عام 1936 فإذا بها تضل طريقها حتي تعلقت عليها السبل ثم اختارت طريقا ظنت أنه موصلها إلى هدفها المنشود ولم تدر أنها تتجه إلى الجهة التي انطلقت منها .
وهكذا عادت أدراجها ميممة وجيها شطر السراب السياسي حيث تتواري من ورائها بوارق النهضة والتقدم .
لقد أصبحنا لا نتكلم إلا عن حقوقنا المهضومة ونسينا الواجبات ونسينا أن مشكلتنا ليست فيما نستحق من رغائب بل فيما يسودنا في عادات وما يراودنا من افكار وفي تصوراتنا الاجتماعية بما فهيا من قيم الجمال والأخلاق . وما فيها أيضا من نقائض تعتري كل شعب نائم وبدلا من أن تكون البلاد ساحة للعمل المثمر والقيام بالواجبات الباعثة إلى الحياة فإنها أصبحت منذ سنة 1936 سوقا للانتخابات وصارت كل منضدة في المقاهي منبرا تلقي منه الخطب الانتخابية فلكم شربنا في تلك الأيام الشاي وكم سمعنا من الأسطوانات وكم رددنا عبارة ( إننا نطالب بحقوقنا ) تلك الحقوق الخلابة المغرية التي يستسهلها الناس وفلا يعمدون إلى الطريق الأصعب : طريق الواجبات .
وهكذا تحول الشعب إلى جماعة من المستمعين يصفقون لكل خطيب أو قطيع انتخابي يقاد إلى صناديق الاقتراع أو قافلة عمياء زاغت ن الطريق فذهبت حيث قادتها الصدف فيتيار المرشحين .
وفي هذا اختلاس أى اختلاس للعقول التي أشرفت على قطف ثمار نهضتها فإن هذه العقول قد عادت إليها الوثنية التي تلد الأصنام المتعاقبة المتطورة كما تتطور الدودة الصغيرة إلى فراشة طائرة إذا ما صادفت جو ملائما وهذا يعني أن البلاد لم تتحقق فيها النهضة المنشودة وكل الذي كان هو أن أحداثا صدمتها صدمة عنيفة أيقظتها من نومها ثم لم تلبث بعد أن زال أثر هذه الصدمة أن غالبها النعاس فعادت إلى النوم وأمكنها من جديد أن تبين الزاوية ولكن في خيال آخر وأمكنها في نومتها هذه أن تعود إلى أحلامها غير أنها أحلام ذات موضوع آخر أنها أحلام الانتخابات قامت على أطلال الزوايا المهدمة التي دمرها معول الإصلاح الأول .
وهو يعني من ناحية أخري أن أرواحنا لا تزال مكدسة في محيط الطلاسم والخيال ذلك المحيط الذي لا يزال يحتفظ بها منذ أن سقطت الحضارة الإسلامية .
وهكذا وجدنا أنفسنا بين أحضان الوثنية مرة أخري كأن الإصلاح قد حطم الزوايا والقباب من دون الوثن فقد توارت الفكرة عن العقول وحلت محلها الوثنية التي تتكلم اليوم وحدها إذ نصبت لها في كل سوق متبر يستمع الناس إليها تسلية لهم وإغفالا لواجباتهم وإبعادا لهم عن طريق التاريخ لقد ورث الميكروب السياسي ميكروب الدروشة فأصبح يفعل بالشعب ما كان سلفه يفعل وبعد أن كان الشعب يقتني بالثمن الغالي البركات والحروز أصبح يقتني الأصوات والمقاعد الانتخابية ويسعي إليها في تعصب لا يفترق عن تعصبه الأول دون أى ذوق ناقد ودون أى جهد لتغيير نفسه أو مجتمعه وبعد أن آمن الشعب لأحد رجاله وزعمائه السياسيين بمعجز والطيارة الخضراء ) أصبح يؤمن بالعصا السحرية التي تحوله بضربة واحدة إلى شعب رشيد مع ما به من جهل وما ينتابه من أمراض اجتماعية !!..
وإنما لنتذكر – بكل أسف – مأدبة أقامها طلبة الجامعة في الأشهر الماضية وتكلم فيها أحد الطلاب فقال :
- إننا نريد حقوقنا ولو مع جهلنا وعرينا ووسخنا"!!
- ولقد كانت هذه الكلمة موضع استحسان من جميع الحاضرين ! ألا قاتل الله الجهل الذي يلبسه أصحابه ثوب العلم فإن هذا النوع أخطر على المجتمع من جهل العوام لأن جهل العوام بين ظاهر بسهل علاجه أما الأول فهو متخف في غرور المتعلمين "
ولقد بدأنا بالفعل في التقهقر والعودة إلى الظلام وبعثرة الجهود وتحطيم المساعي والإسراف في إمكانياتنا القليلة التي تتطلب منا صرفها فيما يفيد تقدمنا .
وختاما فإن ( الزردة ) التي أقامتها ( النخبة) من رجال السياسة يوم ( سطيف ) كانت لصالح الاستعمار الذي تمكن على إثر تقهقرنا من قتل ( المؤتمر ) وتشتيت العلماء .
وأصبحت الحركة الجزائرية منذ ذلك الحين لا ترأسها فكرة بل تقدها أوثان وليس يهمنا هنا الشكل بل الموضوع فليس الخطر من الانقياد للدروشة ولكن الخطر من الانقياد الأعمى أيا كان !.
وليس الخطر أيضا من اسم الصنم ولكن من سيطرة الوثنية .
إن جوهر المسألة هو مشكلتنا العقلية ونحن لا زلنا نسير ورؤسنا في الأرض وأرجلنا في الهواء وهذا القلب للأوضاع هو المظهر الجديد لمشكلة نهضتنا .
الباب الثاني: المستقبل
أنشودة رمزية
- فلما عصي آدم ربه وغوي ... أنزله الله إلى الأرض منبوذا . ولم يكن له يستر به جسده إلا بعض أوراق من الشجر , ولم يكن له من زاد إلا الندامة التي كانت تعتصر قلبه وتنهش ضميره .
- ولما وطئت قدماه الأرض سخرت الوحوش من ضعفه, وهزأت القوي الطبيعية من عريه وفقره , فأحس آدم بالجوع والبرد والخوف ففر هاربا وأوي إلى غار مظلم .
- لقد بدأ هناك يفكر في فقره ووحدته في بيئته كل من فيها يعاديه وهو لا يعرف من أسرارها شيئا .
نظر إلى السماء فرأي الطير يكتسحها ونظر إلى البحر فرأي السمك يرتع فيه ويلعب وتطلع إلى الأرض فإذا بالوحوش تصول في الغاب وتجول .
- فغبط آدم هذه الحيوانات كلها لما أوتيت من مأكل ومأوي ولما أمنت من خوف وازداد في قلبه الندم . حتي ملك عليه نفسه هنالك رفع يديه إلى السماء يتضرع فاستجابت له السماء قائلة : اذهب أيها الرجل . فإني أعطيتك عقلا ويدا وأعطيتك ترابا وزمانا .
- ذاهب فإن لك في الحياة أن تفعل مثل ما يفعل الطير فتحلق في الفضاء وآن تغوص في اليم مثل الحوت فتعبر المسافات الطويلة في البحار .
- حينئذ ارتدت إلى آدم نفسه وتفتحت مغاليق الحياة أمام عينيه وإذا بشمسها تسطع على غاره المظلم وتشئ له السبيل إلى مستقبله الساطع الخلاب .
من التكديس إلى البناء
لقد ظل العالم الإسلامي خارج التاريخ دهرا طويلا كان لم يكن له هدف واستسلم المريض للمرض وفقد شعوره بالألم حتي كأنه يؤلف جزءا من كيانه وقبيل ميلاد هذا القرن سمع من يذكره بمرضه ومن يحدثه عن العناية الإلهية التي استقرت على وسادته فلم يلبث أن خرج من سباته العميق ولديه الشعور بالألم وبهذه الصحوة الخافتة تبدأ بالنسبة لعالم الإسلامي حقبة تاريخية جديدة يطلق عليها : النهضة ولكن ما مدلول هذا الصحوة ؟ إن من الواجب أن نضع نصب أعيننا " المرض " بالمصطلح الطبي لكي تكون لدينا عنه فكرة سليمة فإن الحديث عن المرض أو الشعور به لا يعني بداهة : الدواء .
ونقطة الانطلاق هي أن الخمسين عاما الماضية تفسر لنا الحالة الراهنة التي يوجد فيها العالم الإسلامي اليوم والتي يمكن أن تفسر بطريقتين متعارضتين :
فهي من ناحية : النتيجة الموفقة للجهود المبذولة طوال نصف قرن من الزمان من أجل النهضة .
وهي من ناحية أخري : النتيجة الخائبة لتطور استمر خلال هذه الحقبة دون أن تشترك الآراء في تحديد أهدافه أو اتجاهاته .
ومن الممكن أن نفحص الآن سجلات هذه الحقبة ففيها كثير من الوثائق والدراسات ومقالات الصحف والمؤتمرات التي تتصل بموضوع النهضة هذه الدراسات تعالج الاستعمار والجهل هنا والفقر والبؤس هناك وانعدام التنظيم واختلال الاقتصاد أو السياسة ولكن ليس فيها تحليل منهجي للمرض أعني دراسة مرضية للمجتمع الإسلامي بحيث لا تدع مجالا للظن حول المرض الذي يتألم منه منذ قرون .
ففي الوثائق نجد أن كل مصلح قد وصف الوضع الراهن تبعا لرأيه أو مزاجه أو مهنته فرأي رجل سياسي كجمال الدين الأفغاني : أن المشكلة سياسية تحل بوسائل سياسية بينما قد رأي رجل دين كالشيخ محمد عبده أن المشكلة لا تحل إلا بإصلاح العقيدة والوعظ .. الخ .. على حين أن كل هذا التشخيص لا يتناول في الحقيقة المرض بل يتحدث عن أعراضه .
وقد نتج عن هذا أنهم منذ خمسين عاما لا يعالجون المرض وإنما يعالجون الأعراض وقد كانت النتيجة قريبة ن تلك التي يحصل عليها طبيب يواجه حالة مريض بالسل الجرثومي فلا يهتم بمكافحة الجراثيم وإنما يهتم بهيجان الحمي عند المريض ... والمريض نفسه يريد منذ خمسين عاما أن يبرأ من مضاعفات آلامه , من الاستعمار ومن الأمية ومن الكساح العقلي الخ ..
وهو لا يعرف حقيقة مرضه ولم يحاول أن يعرفه بل كل ما في الأمر أنه شعر بألم فاشتد في الجري نحو الصيدلي أى صيدلي يأخذ من آلاف الزجاجات ليواجه آلاف الآلام .
وليس هناك فى الواقع سوي طريقتين لوضع نهاية لهذا الحالة المرضية فإما القضاء على المرض وإما إعدام المريض . ولنا أن نتساءل حينئذ إذا ما ما كان المريض الذي دخل الصيدلية دون أن يدرك مرضه على وجه التحديد سيذهب بمحض الصدفة لكي يقضي على المرض أو يقضي على نفسه .
هذا شئ عن حالة العالم الإسلامي لقد دخل إلى صيدلية الحضارة الغربية طالبا الشفاء ولكن من أى مرض ؟ وبأي دواء ؟ .. وبدهي أننا لا نعرف شيئا عن مدة علاج كهذا ولكن الحالة التي تطرد هكذا تحت أنظارنا منذ نصف قرن لها دلالة اجتماعية يجب أن تكون موضع تحليل وفي الوقت الذي تقوم فيه بهذا التحليل يمكننا أن نفهم المعني الواقعي لتلك الحقبة التاريخية التي نحياها ويمكننا أيضا أن نفهم التعديل الذي ينبغي أن يضاف إليها .
فيجوز لنا أن نطلق على هذه الحقبة أنها ( بادرة حضارة ) أو بلغة علم الإلهيات ( مرحلة إرهاص ) وجه العالم الإسلامي جهوده الاجتماعية هادفا إلى تحصيل حضارة .
فقد قرر على هذا ضمنا أن اتجاهه هذا يمثل بالتحديد علاج مرضه ونحن نوافقه على هذا دون أن نفعل سوي تقرير الواقع بيد أننا نريد أيضا أن نحدد المرض ضمنا ثم ندع للصدفة المجال اللازم لها في حالة ما إذا لجأ المريض إلى الصيدلية لكي يبرأ – كما قلنا – من مرض لا يعرف عنه شيئا محددا بدواء يتعاطاه من القنائن مصادفة .
فالعالم الإسلامي يتعاطي هنا ( حبة ) ضد الجهل ويأخذ هناك ( قرصا ) ضد الاستعمار وفي مكان قصي يتناول ( عقارا ) فهو يبني هنا مدرسة ويطالب هنالك باستقلاله وينشئ في بقعة قاصية مصنعا ولكنا حين نبحث حالته عن كثب أن نلمح شبح البرء أى أننا لن نجد حضارة ومع ذلك فهناك جهوده محمودة يمكن أن نلاحظ من خلالها السلبية النسبية لجهود العالم الإسلامي حين نقارنها بجهود اليابان مثلا منذ خمسين عاما أو جهود الصين منذ عشر سنوات فهناك شئ من الغرابة في الحالة الني نفحصها مما يدفعنا إلى تفهم كيفية سيرها ( آليتها ) ومن أجل هذا يجب أن نعرف المقياس العام لعملية الحضارة ليقلي لنا ضوءا كاشفا على ( السلبية النسبية ) وانعدام الفاعلية في جهود الإسلامي إن المقياس العام في عملية الحضارة هو أن الحضارة هي التي تلد منتجاتها وسيكون من السخف السخرية حتما أن نعكس هذه القاعدة حين نريد أن نصنع حضارة من منتجاتها .
يضاف إلى هذا أن القاعدة في علم الاجتماع ليست كنظيرتها في علم الرياضة حد صارما ما بين الحق والباطل والخطأ والصواب ولكنها مجرد توجيه عام يمكن به تجنيب الأغلاط الفاحشة إذ لا يمكن أن يوجد حد دقيق بين حضارة تتكون وحضارة تكونت فعلا ونحن في القرن العشرين نعيش في عالم يبدو فيه امتداد الحضارة الغربية قانونا تاريخيا لعصرنا ففي الحجرة التي اكتب فيها الآن كل شئ غربي فيما عدا ( القلة ) التي أراها أماما فمن أذن أن نصنع ستارا حديديا بين الحضارة التي يريد تحقيقها العالم الإسلامي والحضارة الحديثة .
ولكن هذا يجسم المشكلة بأكملها فليس من الواجب لكي ننشئ حضارة أن نشتري كل منتجات الأخرى فإن هذا يعكس القضية التي سبق أن قررنا وهو يقود في النهاية إلى عملية محالة كما وكيفا .
فمن ناحية الكيف : تنتج الإحالة من أن أى حضارة لا يمكن أن تبيع حملة واحدة الأشياء التي تنتجها ومشتملات هذه الأشياء . أى أنها لا يمكن أن بيعنا روحها وأفكارها وثرواتها الذاتية . وأذواقها هذا الحشد من الأفكار والمعاني التي لا تلمسها الأنامل . والتي لا توجد في الكتب أو في المؤسسات ولكن بدونها تصبح كل الأشياء التي تبيعنا إياها فارغة دون روح وبغير هدف .
وهي بوجه خاص لا تمنحنا ذلك العديد الهائل من العلائق التي لا توصف والتي تبعثها أى حضارة داخل أشيائها وأفكارها من جانب وبين هاتين المجموعتين والإنسان من جانب آخر .
وفي استخدامنا للمصطلحات البيولوجية نجد أن الحضارة مجموعة من العلايق بين المجال الحيوي ( البيولوجي) حيث ينشأ ويتقوي هيكلها وبين المجال الفكري حيث تولد وتنمو روحها فعندما نشتري منتجاتها فإنها تمنحنا هيكلها وجسدها لا روحها .
ومن ناحية الكم : أن تكون الإحالة أقل , فليس من الممكن أن تتخيل العديد الهائل من الأشياء التي نشتريها ولا أن نجد رأس المال الذي ندفعه فيها ولئن سلمنا بإمكان هذا فإنه سيؤدي قطعا إلى الإحالة المزدوجة فينتهي بنا الأمر إلى ما أسميه ( الحضارة الشيئية) إلى جانب أنه يؤدي إلى " تكديس " هذه الأشياء الحضارية . ومن البين أن العالم الإسلامي يعمل منذ نصف قرن على جمع أكوام من منتجات الحضارة أكثر من أن يهدف إلى بناء حضارة وقد تنتهي هذه العملية ضمنا إلى أن نحصل على نتيجة ما بمقتضي ما يشمس بقانون الأعداد الكبيرة أعني قانون الصدفة فكوم ضخم منت المنتجات المتزايدة دائما يمكن أن يحقق على طول الزمن وبدون قصد ( حالة حضارة) ولكنا نري فرقا شاسعا بين هذه الحالة الحضارية وبين تجربة مخططة كتلك التي ارتسمتها روسيا منذ أربعين عاما والصين منذ عشر سنوات هذه التجربة المزدوجة تبرهن على أن الواقع الاجتماعي خاضع لنهج فني معين تطبق عليه فيه قوانين ( الكيمياء الحيوية ) و( الديناميكية الخاصة ) سواء في تكونه أم في تطوره .
ومن المعلوم أن عملية التحلل الطبيعي ( للأورانيوم) لا تدخل في نطاق القياس للإنسان إذ أن كمية معينة من هذه المادة ولتكن جراما يتحلل نصفها طبيعيا خلال أربعة مليارات وأربعمائة مليونا من السنين ولكن المعمل الكيميائي قد توصل إلى أن تتم العملية الفنية للتحلل في بضع ثوان .
وبالمثل نجد أن عوامل التعجيل بالحركة الطبيعية تلعب دورها الكامل في دراسات الاجتماع كما هو مشاهد في التجربة الخالدة لليابان فمن عام 1868 إلى 1905 انتقلت من مرحلة العصور الوسطي أو ما سبق أن أطلقت عليه ( بادرة الحضارة ) إلى الحضارة الحديثة فالعالم الإسلامي يريد أن يجتاز نفس المرحلة بمعني أنه يريد إنجاز مهمة ( تركيب) الحضارة في زمن معين , ولذا يجب عليه أن يقتبس من الكيمياء طريقتها فهو يحلل أولا المنتجات التي يريد أن يجري عليها بعد ذلك عملية التركيب .وكل ناتج حضاري تنطبق عليه الصيغة التحليلية الآتية :
ناتج حضاري = إنسان +تراب + وقت
وهي صيغة وحيدة تصدق على جميع " أشياء " الحضارة ومعانيها أى على المجال المادي والمجال الروحي فهي تنطبق على المصباح الذي فوق رأسي وعلى الفكرة التي أعبر عنها في هذه اللحظة وعلى القلم الذي يكتبها وعلى القرطاس الذي تكتب عليه .
ففي المصباح مثلا يوجد الإنسان خلف العملية والصناعية التي يعتبر هذا المصباح ثمرتها والتراب في عناصره موصل وعازل وهو يتدخل بعنصره الأول في نشأة الإنسان العضوية والوقت ( مناط ) يبرز في جميع العمليات البيولوجية والتكنولوجية وهو ينتج المصباح بمساعدة العنصرين الأولين : الإنسان والتراب .
فالصيغة صادقة بالنسبة لأي حضاري وإذا ما درسنا هذه المنتجات حسب طريقة الجمع المستخدمة في الحساب فستنتهي حتما إلى ثلاثة أعمدة ذات علاقة وظيفية :
حضارة = إنسان +تراب + وقت.
وتحث هذا الشكل تشير الصيغة إلى أن مشكلة التراب مشكلة الوقت فلكي نقيم بناء حضارة لا يكون ذلك بأن نكدس المنتجات وإنما بأن نجل هذه المشكلات الثلاثة من أساسها ومع ذلك فإن هذه الصيغة تثير عند التطبيق اعتراضا هاما هو : إذ كانت الحضارة في مجموعها ناتجا للإنسان والتراب والوقت فلم لا يوجد هذا الناتج تلقائيا حيثما توفرت هذه العناصر الثلاثة ؟ ... وأنه لعجب يزيله اقتباسا للتعليل الكيماوي :
فالماء في الحقيقة نتاج للأيدروجين والأكسجين , وبرغم هذا فهما لا يكونانه تلقائيا فقد قالوا : إن تركيب الماء يخضع لقانون معين يقتضي تدخل ( مركب ) ما بدونه لا تتم عملية تكوين الماء وبالمثل لنا الحق في أن نقول إن هناك ما يطلق عليه ( مركب الحضارة ) أى العامل الذي يؤثر في مزج العناصر الثلاثة بعضها ببعض فكما يدل عليه التحليل التاريخي الآتي مفصلا نجد أن هذا ( المركب ) موجود فعلا هو الفكرة الدينية التي رافقت دائما تركيب الحضارة خلال التاريخ فإذا اتضح صدق هذه الاعتبارات عن التفاعل الكيميائي الحيوي وعن ديناميكية الواقع الاجتماعي كان لنا ان نخطط بطريقة ما – مجال تطوره كاطراد مادي نعرف قانونه وفي الوقت نفسه يسمح لنا ذلك بالقضاء على بعض الأخطاء التي يشيعها ما يطلق عليه ( أدب الكفاح ) في العالم الإسلامي حيث يزكي الاتجاه نحو التكديس .
من هذا الأدب الذي يبدي أحيانا الإيمان المضطرم والأصالة الصادقة يتحول ( التكديس) من نطاق الأحداث البسيطة إلى نطاق الفكرة لقد هضمناه جملة وتمثلناه في سلوكنا ولنقرأـ مثلا العبارة التالية ولقد سار العالم العربي في طريق هذه الحضارة التي يسميها الناس" الحضارة الغربية " وما هي إلا حضارة إنسانية استمدت أسسها من حضارات إنسانية عديدة ومنها الحضارة العربية الإسلامية وساهم ويساهم في إنائها شرقيون وغربيون , ملاحدة ومؤمنون ولا رجوع للعالم العربي عن هذا الطريق ولا نكسه "
لاشك أننا نتذوق الجمال الأدبي والتوقيع الموسيقي فهذه العبارة ولكن أخشي ما نخشاه أنها تترجم عن تفاؤلية صالحة لأن تقلل في أذهاننا من خطورة المشكلة ..
أخشي ما نخشاه أن تنسينا أن كل ما ساهمنا ونساهم به في الإطار الغربي الذي نعيش فيه هو ( القلة ) والقلة فقط .
وأخشي ما نخشاه أخيرا من تفاؤلية كهذه تدعيمها وتكثيرها للاتجاهات المؤسفة نحو " التكديس " في العالم الإسلامي .
الدورة الخالدة
" إنه من السنن الأزلية أن يعيد التاريخ نفسه كما تعيد الشمس كرتها من نقطة الانقلاب " " نيتشه"
من الملاحظات الاجتماعية أن للتاريخ دورة وتسلسلا فهو تارة يسجل للأمة مآثر عظيمة ومفاخر كريمة وهو تارة أخري يلقي عليها دثارها ليسلمها إلى نومها العميق فإذا ما أخذنا هذه الملاحظة بعين الاعتبار تحتم علينا في حل مشكلاتنا الاجتماعية أن ننظر مكاننا من دورة التاريخ وأن ندرك أوضاعنا وما يعتورنا من عوامل الانحطاط وما تنطوي عليه من أسباب التقدم. فإذا ما حددن مكاننا من دورة التاريخ سهل علينا أن نعرف عوامل النهضة أو السقوط في حياتنا ولعل أعظم زيإنا وتنكبنا عن طريق التاريخ أننا نجهل النقطة التي منها نبدأ تاريخنا ولعل أكبر أخطاء القادة أنهم يسقطون من حسابهم هذه الملاحظة الاجتماعية ومن هنا تبدأ الكارثة ويخرج قطارنا عن طريقة حيث يسير خبط عشواء .
ولا عجب فإن كوارث التاريخ التي تحيد بالشعب عن طريقه ليست بشاذة .
ونحن نجد مثلها في الكارثة التي أصابت العالم الإسلامي في واقعة صفين فأخرجته من جو المدينة الذي كان مشحونا بهدي الروح وبواعث التقدم , إلى جو دمشق حيث تجمعت مظاهر الترف وفتور الإيمان .
وعليه فإنه لا يجوز لأحد أن يضع الحلول والمناهج مغفلا مكان أمته ومركزها بل يجب عليه أن تنسجم أفكاره وعواطفه وأقواله وخطواته مع ما تقتضيه المرحلة التي فيها أمته أما أن يستورد حلولا من الشرق أو الغرب فإن في ذلك تضييعا للجهد مضاعفة للداء .. إذ كل تقليد في هذا الميدان جهل وانتحار .
وعلاج أى مشكلة يرتبط بعوامل نفسية ناتجه عن فكرة معينة تؤرخ من ميلادها عمليات التطور الاجتماعي في حدود الدورة التي تدرسها فالفرق شاسع بين مشاكل ندرسها في إطار الدورة الزمنية الغربية ومشاكل أخري تولدت في نطاق الدورة الإسلامية .
فالمشكلة التي أحاول درسها في هذا المؤلف ليست من المشاكل التي تخص عالم 1948 بل هي من المشاكل التي تخص عالم 1367 وإنني لأخشي أن لا يعجب قولنا هذا بعض من تعودوا النشوة بالكلمات العذبة أو ألفوا الاقتناع بالحلول المجربة في أمة من الأمم غير أني أحب أن أعجل إلى الموضوع فلا أضيع الوقت في سرد الأسباب والمبررات التي يستند إليها أولئك المشعوذون .
إن كل شعب مسلم يعيش في عام 1367 أى في نقطة من دورته تنطلق منها الأحداث التي لا تزال في ضمير الغيب وهي نفسها مادة مستقيلة فإذا ما تطلعنا إلى الشعب الجزائري في هذه النقطة من التاريخ فإننا نجده والشعوب الإسلامية في مستوي واحد وفي مشكلات متقاربة إن لم نقل متحدة وبذلك فإننا نكون قد وضعنا المشكلة في مكانها من التاريخ ونكون أيضا قد جعلنا مشكلتنا في وضعها المناسب وفي الطور الذي تستطيع منه أن تبدأ الحضارة دورها .
وعند هذه النقطة من تاريخنا يجدر بنا التساؤل : هانحن أولاء على أهبة سفر وإن قافلتنا لتشد رحالها ولكن إلى أين تسير ؟ وبأي زاد سوف نقطع الطريق ؟. وإن هذا التساؤل لتحتمه علينا الظروف فإنه كل سفر يجب أن نعلم أية جهة نقصد ؟ وبأى زاد نترود ؟!..
وإنه لسؤال جدير بالاهتمام ولا يكفي فيه أن نجيب إجابات ارتجالية مقتضبة مثل " لا " أو " نعم" بل يجب التأمل في سنن التاريخ التي لا تغيير لها كما أشار القرآن الكريم ( سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ) وكما وضحها ذلك العبقري عمدة المؤرخين ( ابن خلدون ) .
وأول ما يجب أن نعرفه عن شعب حديث اليقظة ولا تزال آثار النوم الطويل بادية عليه هو : عل بيده أسباب تقدمه ؟
إننا نجد في القرآن الكريم النص المبدئي للتاريخ التكويني ( إن الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم ) ويبنغي أن نقرر هذا المبدأ حسب إيماننا به فقط بل يجب أن يكون تقريره في ضوء التاريخ .
و" نعم " لا تجدي كجواب عن السؤال المطروح أمامنا , إلا إذا تأكدنا من شرطين:
أولهما : هل المبدأ القرآني سليم في تأثيره التاريخي ؟
ثانيهما : هل يمكن للشعوب الإسلامية تطبيق هذا المبدأ في حانتها الراهنة ؟
الشرط الأول :
" مطابقة التاريخ للمبدأ القرآني " .
إذا نظرنا إلى الأشياء من الوجهة الكونية إننا نري الحضارة تسير كما تسير الشمس فكأنها تدور حول الأرض مشرقة في أفق هذا الشعب ثم متحولة إلى أفق شعب آخر .
وإنه لمفيد للقادة أن ينظروا هذه النظرة الفاحصة فيدركوا طبائع الأشياء ولكن الكثير منهم تأخذه العزة بالإثم فيزعم أن إرادته فوق إرادة الأقدار حتي ليكاد يقول :" يا شمس قفي " وهيهات أن تقف الشمس أو يستمع لهرائه مستمع فإن الأقدر أولا تلبث أن تقود الحضارة إلى حيث قدر الله لها السير من دور إلى دور ومن فجر إلى فجر غير عابثة بما يحاوله الباطل من إطفاء النور , أو تغيير الحقائق ولا ملتفتة إلى تبثه الزوايا من وهم أو إلى ما يتخرص به الاستعمار ومن المعلوم أنه حينما يبتدئ السير إلى الحضارة لا يكون الزاد بطبيعة الحال من العلماء والعلوم ولا من الإنتاج الصناعي أو الفنون تلك الأمارات التي تشير إلى درجة ما من الرقي بل إن الزاد هو " المبدأ الذي يكون أساسا لهذه المنتجات جميعا .
ففي نقطة انطلاق الحضارة ليس أمامنا سوي العوامل المادية الثلاثة التي ألمحنا إليها فيما سبق من الكلام : الإنسان . التراب . الوقت . وفي هذه العوامل ينحصر رأس مال الأمة الاجتماعي الذي يمدها في خطواتها الأولي في التاريخ .
ولقد سبق أن أشرنا من الوجهة النظرية إلى العامل الذي يمزج هذه العناصر الثلاثة: الإنسان والتراب والوقت ليبعثها قوة فعالة في التاريخ .
وحسبنا أن ندرس مثلا الحضارتين الإسلامية والمسيحية في المرحلة الأولي من نشوئهما .
وكما يتضح من الشكل الذي بالهامش لا يختلف تطور الحضارة المسيحية عن تطور الحضارة الإسلامية إذ هما ينطلقان من الفكرة الدينية التي تطبع الفرد بطابعها الخاص وتوجه نحو غايات سامية .
فالحضارة لا تنبعث كما هو ملاحظ – إلا بالعقيدة الدينية وينبغي أن نبحث في كل حضارة من الحضارات عن أصلها الديني الذي بعثها ولعله ليس من الغلو في شئ أن يجد التاريخ في البوذية بذور الحضارة البوذية وفي البرهمية نواة الحضارة البرهمية .
فالحضارة لا تظهر في أمة من الأمم إلا في صورة وحي يهبط من السماء يكون للناس شرعة ومنهاجا أو هي – على الأقل – تقوم دورة الحضارة
وتبلغ تلك القيم أوجها في نقطة حيث يصل تأثير الروح إلى ذروته تلك الروح التي تدفع الفرد إلى القيام برسالته في إنشاء حضارة بعد ما غيرت ما كان في نفسه من عوامل الركود كما تدل تلك لنقطة على أقصي ما وصل إليه السمو الروحي .
وفي نقطة تبلغ الحضارة منتهي توسعها ومن بعدها تبدأ في الانحدار. ولعل نقطة د تساوي في عمر الحضارة الإسلامية وحرب صفين " المشار إليها بعام 38 هجرية . وفي نقطة نجد الدور الفكري ينتهي عند ابن خلدون ثم يبدأ دور الانحدار.
أسسها في توجيه الناس نحو معبود غيبي فكأنما قدر للإنسان ألا تشرق عليه شمس الحضارة إلا حيث يمتد نظره إلى ما وراء حياته الأرضية ز إذ حينما يكتشف حقيقة حياته الكاملة يكتشف معها أسمي معاني الأشياء التي تهيمن عليها عبقريته وتتفاعل معها .
ومن هنا يستطيع المؤمن إدراك الحقيقة الساطعة التي يفسرها التاريخ في الفقرة التي وردت في أحد الكتب المنزلة القديمة " في البدء كانت الروح .
ومن المعلوم أن جزيرة العرب مثلا لم يكن بها قبل نزول القرآن إلا شعب بدوي يعيش في صحراء مجدية يذهب وقته هباء لا ينتفع به لذلك فقد كانت العوامل الثلاثة : الإنسان والتراب والوقت راكدة خامدة وبعبارة أصح مكدسة لا تؤدي دورا ما في التاريخ حتي إذا ما تجلت الروح بغار حراء كما تجلت من قبل بالوداي المقدس أو بمياه الأردن – نشأت من بين هذه العناصر الثلاثة المكدسة حضارة جديدة فكأنما ولدتها كلمة ( اقرأ ) التي أدهشت النبي الأمي وأثارت معه وعليه العالم فمن تلك اللحظة وثبت القبائل العربية على مسرح التاريخ حيث ظلت قرونا طوالا تحمل للعالم حضارة جديدة وتقوده إلى التمدن والرقي .
ومما هو جدير بالاعتبار أن هذه الوثبة لم تكن من صنع السياسيين ولا العلماء الفطاحل بل كانت بين أناس يتسمون بالبساطة ورجال لا يزالون في بداوتهم غير أن أنظارهم توجهت في تلك اللحظات إلى ما وراء أفق الأرض فتجلت لهم آيات في أنفسهم وتراءت لهم أنوارها في الآفاق .
نعم أنه لمن الغريب ان يتحول هؤلاء البسطاء ذوو الحياة الراكدة عندما مستهم شرارة الروح تتمثل في خلاصة الحضارة الجديدة وأن يندفعوا بروحها وثبة واحدة إلى تلك القمة الخلقية الرفيعة ثم ما لبث أن انتشرت في حياة فكرية واسعة متجددة نقلت من علوم الأولين ما نقلت وأدخلت علوما جديدة حتي إذا ما بلغت درجة معينة انحدرت القيم الفكرية التي أنتجتها دمشق وبغداد وقرطبة وسمرقند .
ومن هنا ندرك سر دعوة القرآن الكريم المؤمنين إلى التأمل فيما مضي من سير الأمم وذلك حتي يدركوا كيف تتركب الكتلة المخصبة من الإنسان والتراب والوقت .
ولا شك في أن المرحلة الأولي من مراحل الحضارة الإسلامية التي ابتدأت من غار حراء إلى صفين وهي المرحلة الرئيسية التي تركبت فيها عناصرها الجوهرية إنما كانت دينية بحتة تسودها الروح .
هذه الحقبة ظلت روح المؤمن هي العامل النفسي الرئيسي من ليلة حراء إلى أن وصلت إلى القمة الروحية للحضارة الإسلامية وهو ما يوافق واقعة صفين عام 38 هـ .
ولست أدري لماذا لم يطلبه المؤرخون إلى هذه الواقعة التي حولت مجري التاريخ الإسلامي إذ أخرجت الحضارة الإسلامية إلى طور القيصرية الذي يسوده العقل وتزينه الأبهة والعظمة في الوقت الذي بدأت تظهر فيه بوادر الفتور الدالة على أفول الروح .
فإن مؤرخينا لم يروا في تلك الكارثة إلا ظاهرة ثانوية وهي نشوء التشيع في العالم الإسلامي , مع تداولهم لحديث ألمح فيه الرسول إلى الكارثة وقد ورد فيه ما معناه أن الخلافة تكون بعده أربعين عاما ثم تكون ملكا عضوضا .
ولا شأن لنا هنا بتحقيق مدي صحته من جهة السند أو الرواية ومهما يكن الأمر فإنه مما لا شك فيه أن الحضارة الإسلامية قد خرجت من النفوس كقوة دافعة إلى دور تنشر فيه أفقيا من شاطئ الأطلنطي إلى حدود الصين .
وهكذا وجدنا الحضارة الإسلامية تتوسع وتنتشر فوق سطح الأرض تغلب جاذبيتها بما تبقي لديها من مخزون روحي حتي إذا ما وهنت فيها قوي الروح وجدناها تخلد تخلد إلى الأرض شيئا فشيئا .
وقد بدأ العلم في تلك الحقبة ينتشر بفضل أساتذة سطعت أسماؤهم في جو المعرفة كالفارابي وابن سينا وأبي الوفاء , وابن رشيد إلى ابن خلدون الذي أضاءت عبقريته سماء الحضارة الإسلامية في نهايتها ومن هنا نستطيع أن نقرر أن المدنيات الإنسانية حلقات متصلة تتشابه أطوارها مع أطوار المدينة الإسلامية والمسيحية إذ تبدأ الحلقة الأولي بظهور فكرة دينية ثم تبدأ أفولها بتغلب جاذبية الأرض عليها بعد أن تحطم منها الروح ثم العقل .
ذلك هو منحني السقوط الذي تخلقه عوامل نفسية أحط من مستوي الروح والعقل وطالما أن الإنسان في حالة يتقبل فيها توجيهات الروح والعقل المؤدية إلى الحضارة ونموها فإن هذه العوامل النفسية تختزن بطريقة فيما وراء الشعور وفي الحالة التي تنكمش فيها تأثيرات الروح والعقل تنطلق الغرائز الدنيا من عقالها لكي تعود الإنسان إلى مستوي الحياة البدائية .
وكذلك كان شأن المسلم فقد بعث الدين فيه روحا محركا للحضارة فلم يلبث بعد مرحلة قضاها في الخلافات والحروب أن عاد إلى حيث هو الآن إنسانا بدائيا .
ولو أردنا أن نسمي هذه المرحلة الخالية من الروح والعقل والخاتمة لكل حضارة لأطلقنا عليها بلاد تردد اسم المرحلة ( السياسية ) بالمعني السطحي لكلمة " سياسة " .
والتجارب التاريخية العامة تؤكد أطوار الحضارات هذه ولا تكاد حضارة ما تشذ عن هذه القاعدة .
ولقد يثير هذا التأكيد سؤالا في أذهان القراء عما يسمي ( حضارة شيوعية ) إذ لا يمكننا أن نري فيها ( طابع الروح ) الذي عرفنا في الدورة العامة للحضارة وبذا يقال : إن الشيوعية كحضارة ليست منبثقة عن ( عامل الروح ) !
هذا الخطأ الشائع إنما يأتي أولا من تفسير أصول الشيوعية باعتبارها ( حضارة ) ومؤلفات ماركس وانجلز تخفي – في الواقع – التكوين الحقيقي للظاهرة الشيوعية .
وهذه لا يمكن أن تفسر إذا ما ضربنا صفحا عن الحضارة المسيحية تلك التي تكون – عند تحليلها – سطح التربة الخصيب حيث أستمد الفكرة الماركسية حيويتها .
فنحن مضطرون إلى أن نعتبر الشيوعية ( أزمة ) للحضارة المسيحية هذا من الناحية التاريخية ولنا أن نأخذ في اعتبارنا الناحية النفسية ( السيكلولوجية ) التي تهمنا أكثر .
فمن هذه الناحية تعتبر الشيوعية النظرية قبل كل شئ فكرة . فكرة ماركس ولكن هناك شيوعية تاريخية هي في جوهرها نشاط المؤمنين المدفوعين بنفس القوي الداخلية التي دفعت غيرهم من المؤمنين في مختلف العصور , أولئك الذين شهدوا مولد الحضارات فالظاهرة متماثلة في جوهوها النفسي ومحددة هنا وهناك بنفس سلوك الفرد حيال مشاكل المجتمع الناشئ .
فنحن لا يمكننا أن نفكر في المثل الذي ضربه ( استخانوف) للطبقة العاملة في روسيا إبان تنفيذ المشروع الأول للسنوات الخمس حين رفع مستوي الإنتاج اليومي إلى الضعف في مناجم الفحم دون أن نفكر في المثل الذي ضربه سلمان الفارسي الذي كان يقوم بأضعاف العمل الذي يؤديه الصحابي الواحد في حفر الخندق حول المدينة في غزوة الأحزاب أو الذي ضربه عمار بن ياسر حين كان يحمل حجرين على كاهله في بناء مسجد المدينة حيث كان الفرد يحمل حجرا واحدا ففي كلتا الحالتين نجد أن الإيمان هو الذي مهد الطريق للحضارة .
وبتأمل الحضارة المسيحية الحالية نجدها تسير سيرة الحضارة الإسلامية التي سبقتها في الزمن ومهما يكن في هذا التقرير من غرابة – إذ من البين أن مولد المسيحية يسبق الإسلام بمراحل – فإن التاريخ يؤيدها فيما نذهب إليه ذلك أنه يقرر : أن الحضارة تولد مرتين أما الأولي فميلاد الفكرة الدينية وأما الثانية فهي تسجيل هذه الفكرة في الأنفس .
وإذا كانت المدينة الإسلامية قد جمعت المولدين في وقت واحد فإن ذلك يعود إلى الفراغ الذي وجدته الفكرة الإسلامية في النفس العربية العذراء التي تنشأ فيها ثقافة ولا ديانة سابقة فخلالها بذلك الجو.
ولم يكن حظ الحضارة المسيحية في نفوس أهلها وبيئتها كخط الحضارة الإسلامية فقد نشأت الفكرة المسيحية في وسط فيه الخليط من الديانات والثقافات العبرية والرومانية واليونانية فلم يتح لها أن تدخل إلى قلوب الناس وسط هذا الزحام الفكري الثقافي لتؤثر فها تأثيرا فعالا ولم يكتب لها أن تعمل عملها إلا عندما بلغت وسط البداوة الجرمانية في شمال أوربا حيث وجدت النفوس الشاغرة فتمكنت منها وبعثت فيها الروح الفعالة التي اندفعت بها لتكن حلقتها في سلسلة التاريخ .
ومن المفيد أن أعزز هذا النظر برأي للمفكر وهرمان دي كيسر لنج في كتابه ( البحث التحليلي لأوروبا ) حيث يقول ومع الجرمانيين ظهرت روح خلقية سامية في العالم المسيحي ..
ولعل عبارة هذا النص يمكن أن تبدو أكثر أو أقل صدقا أن " الروح السامية " التي يعينها ليست في التحليل النهائي سوي الفكرة المسيحية المتأهبة تماما للدخول في التاريخ .
ولكن المفكر الأماني لم يتردد في القول بأن الميلاد النفسي للحضارة المسيحية متوافق مع ظهور روح خلقي .
ولا شك أن كتابا آخرين لاحظوا هذه الملاحظة أيضا بطريقة أو بأخري فالمؤرخ ( هنربيرين ) قد لاحظ ذلك الارتباط بعث الدين وظهور الحضارة في كتاب له عنوانه (محمد وشارلمان) قارن فيه بين الحضارتين الإسلامية والمسيحية .
فإن المؤلف المذكور يري في شارلمان الشخصية التي بعثت مبدأ المسيحية في النفوس البكر فأنبتت فيها الحضارة تماما كما فعل الرسول من قبل .
وإنه لمن الأهمية التاريخية أن نلاحظ أن الروح المسيحية لم تجد طابعها الخاص في فن المعمار إلا عندما تفاعلت هذه الفكرة مع القبائل الجرمانية فتمثلت عبقريتها الفنية حينئذ في صورة ( المعبد القوطي ) الذي يدل علة ارتفاعه على علو في الضمير الديني وطموح ذلك الطموح الذي كان يهز أوربا من عهد الكارولنجبان إلى عهد النهضة .
فلما بدأت هذه النهضة , خرجت حضارة أوروبا من مرحلة السمو الروحي إلى مرحلة التوسع العقلي التي انطبعت بطابع (ديكارت) والتوسع في البلاد الذي حققه ( كريستوفر كولومبس ) باكتشاف أمريكا وعودة أخري إلى كتاب ( البحث التحليلي لأوروبا ) توضح لنا هذا التطور إذ يتحدث مؤلفه عن هذا التحول في الحضارة الأوروبية في قوله :ط وكان أعظم ارتكاز حضارة أوروبا على روحها الدينية ثم بعد ذلك يفسر لنا الروح كعامل اجتماعي فيقول :" ولست أعني بالروح ذلك الشئ الدال على منطق , أو عقل و أو مبادئ مجردة وإنما هو بصفة عامة ذلك الشعور القوي في الإنسان والذي تصدر على إدارك مخترعاته وتصوراته وتبليغه لرسالته وقدرته الخفية على إدراك الأشياء ".
وبالجملة يتعلق الأمر بحالة خاصة وشروط خلقية وعقلية لازمة للإنسان لكي يستطيع أن ينشئ ويبلغ حضارة .
ولكن أليست هذه الشروط هي نفس ما أشار إليه القرآن من تغيير النفس الذي جعل أساس لكل تغيير اجتماعي ؟!!
إن المفكر المذكور يجيب مرة أخري فيقول : إن الروح المسيحية ومبدأها الخلقي هما القاعدتان اللتان شيدت عليهما أوروبا سيادتها التاريخية ".
وإذا لم يكن ( كيسرلنج) قد وضح حتي الآن فكرة المراحل الثلاثة للحضارة المسيحية فإنه لاشك قد أشار إليها ونحن نجد عنده تأييدا لفكرتنا عن تطور الحضارة وتنوع العوامل النفسية إذ يقول : إن مركز الثقل للحضارة تزحزح عن مكانه وتحول بالنهضة والإصلاح الديني من مجال الروح إلى مجال العقل "
ولا شك أن ذلك التزحزح الذي يشير إليه ( كيسرلنج) إنما يعني المرحلة الجديدة التي دخلت فيها الحضارة المسيحية في طورها العقلي وإذا لاحظنا عند( كيسرلنج) أشارة إلى المرحلتين الأوليين لتلك الحضارة فإننا نجد الإشارة إلى المرحلة الثالثة واضحة عند كتاب آخرين , إذ سادهم شعور بفناء المدنية الأوروبية مثل ( اسوالد سبنجلر ) في كتابه ( أفول الغرب ) .
ولعله من الواضح أن مشكلة الحضارة في العصر الحاضر لا تخص الشعوب الإسلامية فقط بل إنها تخص أيضا الشعوب المتقدمة نفسها التي تهدد فيها مدنيتها بالفناء .
وجملة القول أن الوسيلة إلى الحضارة متوفرة ما دامت هنا لك فكرة دينية تؤلف بين العوامل الثلاثة : ألإنسان , والتراب , والوقت لتركب منها كتلة تسمي في التاريخ " حضارة " .
" الشرط الثاني "
( أشد ما اثر في حياتي نصيحة سمعتها من أبي : يا بني اقرأ القرآن كأنه أنزل عليك ) " إقبال "
إمكانية تطبيق المبدأ القرآني الآن ؟
إننا لكي نتوصل إلى التركيب الضروري كحل للمشكلة الإسلامية أ‘ني مزج الإنسان والتراب والوقت يجب أن يتوفر لدينا مؤثر الدين الذي يغير النفس الإسلامية أو كما يقول كيس لنج نمنح النفس مبدأ الشعور ".
فهل يكن تحقيق هذا الشرط في الحالة الراهنة للشعوب الإسلامية ؟؟ إن التردد في الإجابة عني هذا السؤال بالإيجاب لا يدل إلا على جهل بالإسلام, وبصفة عامة بتأثير الدين في السكون فإن قوة التركيب لعناصر الحضارة خالدة فى جوهر الدين وليست ميزة خاصة بوقت ظهوره في التاريخ فجوهر الدين – حسب العبارة الشائعة – مؤثر صالح في كل زمان ومكان .
وتسجيله في النفس وهو ما يهم التاريخ – كما سبق في حديثنا عن الحضارة المسيحية التي تركبت بعد ألف عام من ظهور الفكر المسيحية – يمكن أن يتجدد ويستمر ما لم يخالف الناس عن شروطه وقوانينه وهو ما ترمز إليه الآية الكريمة ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن نصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) ومن هذه الوجهة نستطيع أن نقول :
إن العلماء الجزائربين كانوا أقرب إلى الصواب من السياسيين حين دعوا إلى الإصلاح بمعني دفع النفس الإنسانية إلى حظيرة الإيمان من جديد ولكن هؤلاء العلماء – لسوء الحظ – قد انحرفوا هم أنفسهم عن الطريق القويم متبعين رجال السياسة ولقد كان الوقت مناسبا لكي يعودوا إلى الطريق القويم متبعين رجال السياسة ولقد كان الوقت مناسبا لكي يعودوا إلى الطريق القويم واثقين من أنه لا نجاة بغيره ولقد كان عليهم أن يستأنفوا جهدهم الذي بدأوه ثم قطعوه عام 1936 وأن يعدوا الجيل القادم لحمل رسالة الحضارة في نفسه ومعرفة كيف يضعها الوضع الصحيح في المستقبل حتي يستطيع كل فرد أن يؤدي رسالته في مجاله الخاص متحملا في سبيلها الآلام الجسام مغاليا هذه الآلام والدين وحده هو الذي يمنح الإنسان هذه القوة فقد أمد بها أولئك الحفاة العراة من بدو الصحراء الذين اتبعوا هدي محمد صلي الله عليه وسلم .
وبهذه القوة وحدها يشعر المسلم – رغم فاقته وعريه الآن – بثروته الخالدة التي لا يدري من أمر استخدامها شيئا .
العدة الدائمة
عندما يتحرك رجل الفطرة ويأخذ طريقه لكي يصبح رجل حضارة فإنه لا زاد له – كما بينا – وهي التراب , والوقت وإرادته لتلك الحركة .
وهكذا الإيتاح لحضارة في بدئها رأسمال غلا ذلك الرجل البسيط الذي تحرك والتراب الذي يمده بقوته الزهيد حتي يصل إلى هدفه والوقت اللازم لوصوله .
وكل ما عدا ذلك من قصور شامخات ومن جامعات وطائرات ليس إلا من المكتسبات لا من العناصر الأولية .
والمجتمع الإنساني يمكنه ان يستإني وقتا ما عن مكتسبات الحضارة ولكنه لا يمكنه أن يتنازل عن هذه العناصر الثلاثة التي تمثل ثروته الأولية دون أن يتنازل في الوقت نفسه عن جوهر حياته الاجتماعية .
وقد تحقق هذا حين كانت الدول المتقاتلة في الحرب الأخيرة لا تقوم خسارتها في الحرب بالذهب والفضة بل بساعات العمل أى يقيم من الوقت , ومن الجهود البشرية ومن منتجات التراب وهكذا كلما أصبح المكتسب غير كاف أو حالت دون الحصول عليه عقبات , وكلما دقت ساعة الخطر للرجوع إلى القيم الأساسية تستعيد الإنسانية مع عبقريتها قيمة الأشياء البسيطة التى كونت عظمتها .
تلك هي القيم الخالدة التي نجدها كلما وجب علينا العودة إلى بساطة الأشياء أى في الواقع كلما تحرك رجل الفطرة وتحركت معه حضارة في التاريخ .
العنصر الأول الإنسان
إن المشاكل لتي تحيط بالإنسان تختلف باختلاف بيئته فالإنسانية لا تعاني مشكلة واحدة بل مشاكل متنوعة تبعا لتنوع مراحل التاريخ فلا يمكن لنا أن نقارن في الوقت الحاضر بين رجل أوروبا المستعمر ورجل العالم الإسلامي القابل للاستعمار لأن كليهما في طور تاريخي خاص به .
ففي بلد أوروبية كبلجيكا نجد الرجل لا يتمتع بتوازن اقتصادي في حياته فهنالك اضطراب نتج عن عدم الملاءمة بين حاجاته وتيار الإنتاج الصناعي المسرع ومن هنا تنشأ مشكلة اجتماعية يعانيها شعب بلجيكا ولا يشعر بها شعب لا يعيش في مجال هذا التيار والبلاد الإسلامية على نقيض ذلك أزمتها فى الركود فهو مشكلة الإنسان المتوطن فيها الذي عزف عن الحركة وقعد عن السير في ركب التاريخ .
فالأمر في الحالة الأولي يتعلق بحاجات غير مشبعة وديناميكية مضطربة على حين يتعلق في الأخرى بعادات راكدة أوجدت الفرد في حالة توازن خامد وخمول تام في الوقت الذي خطت فيه الحضارة خطوات العماليق .
وعليه فالأمر متصل بمشكلتين مختلفتين في أساسهما فهنالك هم في حاجة إلى مؤسسات بينما نحتاج هنا إلى رجال فعن الرجل تنبغ المشكلة الإسلامية بأكملها وبخاصة في الجزائر فالمسألة هي :
يجب أولا أن نصنع رجالا يمشون في التاريخ مستخدمين التراب والوقت المواهب في بناء أهدافهم الكبري .
ففي بلاد مستعمرة كالجزائر نري أنه ليس فيها طبقات وإنما هنالك صنفان من الناس :
الصنف الأول : وهو الذي يسكن المدينة إما متعطل لا يعمل شيئا وإما أنه يبيع بعض العقاقير والحاجات وإما أنه " شاويش " في إدارة استعمارية وبعض آخر نجده محاميا أو صيدليا أو قاضيا وقليل ما هم .
والصنف الثاني : وهو الذي يسكن البادية مترحلا بلا مواش فلاحا بلا محراث ولا أرض .
والفرق بين هذين الصنفين هو ان ساكن الحضر رجل قليل تتمثل فيه القلة في كل شئ والثاني رجل الفطرة الذي يرضي من الأشياء بالعدم , ولكن رب عدم خير من القليل , إذ أن رجل المدينة الذي رضي بالقليل من الأشياء قد تغلغت في نفسه دواعي الانحطاط التي قضت على المدنيات المتعاقبة على بلاده من أيام قرطاجنة فهو يحمل روح الهزيمة بين جوانحه فقد عاش حياته دائما في منحدر المدينة إذ هو دائما في منتصف الطريق وفي منتصف فكره وفي منتصف تطور لا يعرف كيف يصل إلى هدف إذ هو ليس نقطة الانطلاق" في التاريخ كرجل الفطرة ولا " نقطة الانتهاء " بل هو " نقطة التعليق " هذان الوصفان :" رجل القلة " و" رجل النصف "الذي دخل في ميدان فكرة هي الإصلاح فمسخها ( نصف فكرة وأطلق عليها اسم " السياسة " لأنه لم يكن مستعدا إلا لنصف جهد ونصف اجتهاد وتصف طريق . اليوم فإن ذلك الرجل المقل يحاول وضع القضية الجزائرية في طريق تصف الحل أمام المجلس المنصف بين المستعمرين وأهل البلاد ذلك المجلس الذي فرضه الاستعمار كميدان لإنصاف المثقفين .
فقد صار من اللازم أن نضع أمامنا المشكلة بأكملها وأن نأخذ في اعتبارنا على الأخص – عنصرها الأساسي : الرجل ويلزمنا أولا أن نفهم كيف يؤثر الإنسان في تركيب التاريخ الذي درسنا قانونه في الفصل السابق .
ومن الملاحظ أنه في القرن العشرين يؤثر الفرد في المجتمع بثلاثة مؤثرات :
أولا : بفكره.
ثانيا : بعمله .
ثالثا : بماله .
وحاصل البحث أن قضية الفرد منوطة بتوجيهه في نواح ثلاثة :
أولا – توجيه الثقافة
ثانيا – العمل
ثالثا – رأس المال .
فكرة التوجيه
لابد لنا – قبل كل شئ – من تعريف فكرة التوجيه فهو – بصفة عامة – قوة في الأساس وتوافق في السير ووحدة في الهدف فكم من طاقات وقوي لم تستخدم لأننا لا نعرف كيف نكتلها .
كم من طاقات وقوي ضاعت فلم تحقق هدفها حين زحمتها قوي أخري صادرة عن نفس المصدر متجهة إلى نفس الهدف .
فالتوجيه هو تجنب الإسراف في الجهد وفي الوقت فهناك ملايين السواعد العاملة والعقول المفكرة في البلاد الإسلامية صالحة لأن تستخدم في كل وقت والمهم هو أن ندير هذا الجهاز الهائل المكون من ملايين السواعد والعقول في أحسن ظروفه الزمنية والإنتاجية المناسبة لكل عضو من أعضائه .
وهذا الجهاز حين يتحرك يحدد مجري التاريخ نحو الهدف المنشود وفي هذا تكمن أساسا فكرة توجيه الإنسان الذي تحركه دفعة دينية وبلغة الاجتماع الذي يكتسب من فكرته الدينية معني ( الجماعة) ومعني( الكفاح ) .
توجيه الثقافة
إن توجيه الأشياء الإنسانية يعني أولا تعريفها وفي التاريخ منعطفات هائلة خطيرة يتحتم فيها هذا التعريف والنهضة في العالم الإسلامي احدي تلك المنعطفات والثقافة من هذه الأشياء الأساسية التي تتطلب بإلحاح تعريفا بل تعريفين :
الأول : يحددها في ضوء حالتنا الراهنة
والثاني : يحددها حسب مصيرنا .
لأن جيلنا هذا حد فاصل بين عهدين عهد الكساد والخمول وعهد النشاط والمدنية .
فنحن قد شرعنا في بناء نهضتنا منذ خمسين عاما ذلك هو مكاننا أى تلك هي اللحظة الخاطفة التي تسجل نهاية الظلام في ضميرنا ودبيب الحياة في ذلك الضمير فهي اللحظة الفارقة بين عهد الفوضي الجامدة والجمود الفوضوي وعهد التنظيم والتركيب والتوجيه .
وحينما يصل التاريخ إلى مثل هذا المنعطف من دورة الحضارة فإنه يصل إلى المنطقة التي فيها نهاية عهد ببداية عهد آخر ويتجاوز فيها ماضي الآمة المظلم مع مستقبلها المشرق البسام .
وهكذا حين نتحدث عن النهضة يلزمنا أن نتصورها من ناحيتين :
1- تلك التي تتصل بالماضي أى بخلاصة التدهور وتشعبها في الأنفس وفي الأشياء .
2- تلك التي تتصل بخمائر المصير وجذور المستقبل .
هذا التمييز الضروري ليس موضوعه مظهر الترف العقلي لطائفة من الناس ولكن موضوعه تكييف حاله شعبة وتقرير مصيره بما في ذلك حالة السائل ما دام السؤال موجودا في النظام الاجتماعي .
وإنه ليجب بادئ الأمر تصفية عاداتنا وتقاليدنا وإطارنا الخلقي والاجتماعي مما فيه من عوامل قتالة ورم لا فائدة منها حتي يصفو الجو للعوامل الحية والداعية إلى الحياة .
وإن هذه التصفية لا تتأتي إلا بفكر جديد يحطم ذلك الوضع الموروث عن فترة تدهور مجتمع يبحث عن وضع جديد, هو وضع النهضة
ونخلص من ذلك إلى ضرورة تحديد الأوضاع بطريقتين .
الأولي : سلبية تفصلنا عن رواسب الماضي .
والثانية : إيجابية تصلنا بالحياة الكريمة .
ولعل هذه النظرية قد لوحظ أثرها في الثقافة الغربية في عهد نهضتها إذ كان توماس إلا كويني ينقيها – ولو عن غير قصد منه – لتكون الأساس الفكري للحضارة الغربية وما كانت ثورته ضد ابن رشد وضد القديس أوغسطين إلا مظهرا للتحديد السلبي حتي يستطيع تصفية ثقافته مما كان يراه فكرة إسلامية أو ميراثا ميتا فيزيقيا للكنيسة البيزنطية . وأتي بعده ديكارت بالتحديد الإيجابي الذي رسم للثقافة الغربية طريقها الموضوعي الذي يبني على المنهج التجريبي ذلك الطريق الذي هو في الواقع السبب المباشر لتقدم المدنية الحديثة تقدمها المادي .
والحضارة الإسلامية نفسها قامت بعملية التحديد هذه من ناحيتها السلبية والإيجابية إلا أن الحضارة الإسلامية قد جاءت بهذين التحديدين مرة واحدة وصدرت فيهما عن القرآن الكريم الذي نفي الأفكار الجاهلية البالية ثم رسم طريق الفكرة الإسلامية الصافية التي تخطط للمستقبل بطريقة إيجابية .
وهذا العمل نفسه لازم اليوم للنهضة الإسلامية
ولعل هذه المسألة قد أصبحت منذ زمن قريب موضع بحث وتأمل وإننا لنجد فعلا في ريح الإصلاح التي هبت على العالم الإسلامي منذ محمد عبده وتلامذته كابن باديس بشائر ذلك التحديد السلبي الذي حاولوا فيه تحطيم عللنا وعوامل انحطاطنا .
ولكن الدوائر الأزهرية والزيتونية لم تعبأ بتلك المحاولة من قبل محمد عبده وتلامذته ولم تستطع أن تتصور في بعض الأحيان النتائج التي تقتضيها الحركة الإصلاحية وهذا الأمر يعود بلا شك إلى ما بقي في أنفسنا من وطأة شديدة للانحطاط.
وأما التحديد الإيجابي فإننا وإن كان قد وضح لنا مجمله إلا أنه لا يزال غامضا غير محدد .
فليس المقصود هنا من التحديد الإيجابي وضع منهاج جديد للتفكير فإن ديكارت قد وضعه بصورة لا نتوهم تغييرها إلا بانقلاب على هائل لا تحتمله الظروف الآن وإنما المقصود تحديد محتواه من العناصر الجوهرية التي نراها لازمة تماما للثقافة وهي :
1- الدستور الخلقي
2- الذوق الجمال
3- المنطق العملي
4- الصناعة ( بتعبير خلدون )
تعريف الثقافة
هذا التحديد المزدوج للثقافة لا أثر له إلا إذا زال ذلك الخلط الخطير الشائع في العالم الإسلامي بين ما تفيده كلمتا " ثقافة " و" تعليم" ففي الغرب يعرفون الثقافة : على أنها تراث " الإنسانيات " الإغريقية اللاتينية . بمعني أن مشكلتها ذات علاقة وظيفية بالإنسان فالثقافة على رأيهم هي :" فلسفة الإنسان " .
وفي البلاد الاشتراكية حيث يطبع تفكير ماركس كل القيم عرسي ( يادانوف ) الثقافة – في تقريره المشهور الذي قدمه منذ عشر سنوات لمؤتمر الحزب الشيوعي في موسكو – على أنها ذات علاقة وظيفية بالجماعة فالثقافة عنده هي : فلسفة المجتمع .
ونزيد هنا أن هذين التعريفين يعتبران من الوجهة التربوية مشتملين على " فكرة عامة " عن الثقافة دون تحديد لمضمونها القابل لأن يدخله التعليم في عقلية الجماعة .
وهذا ما نريد أن نحاوله هنا . حين نربط ربطا وثيقا بين الثقافة والحضارة .
وفي ضوء هذا الربط تصبح الثقافة نظرية في السلوك أكثر من أن تكون نظرية في المرعفة وبهذا يمكن أن يقاس الفرق الضروري بين الثقافة والتعليم ولكي نفهم هذا الفرق يجب أن نتصور – من ناحية فرديين مختلفين في الوظيفة وفي الظروف الاجتماعية ولكنهما ينتميان لمجتمع واحد كطبيب انجليزي وراع انجليزي مثلا .
ومن ناحية أخري نتصور فردين متحدين في العمل والوظيفة ولكنهما ينتميان إلى مجتمعين مختلفين في درجة تقدمهما وتطورهما فالأولان يتميز يلوكهما إزاء مشكلات الحياة بتماثل معين في الرأي يتجلي ما يسمي " الثقافة الانجليزية ".
بينما يختلف سلوك الآخرين أحيانا اختلافا عجيبا يدل على طابع الثقافة الذي يميز أحد الرجلين عن صاحبه لأنه يميز المجتمع الذي ينتمي إليه .
هذا التماثل في السلوك في الحالة الأولي والاختلاف في السلوك في الثانية هما الملاحظتان المسلم بهما في المشكلة التي أمامنا وعليه فالتماثل أو الاختلاف في السلوك ناتج عن الثقافة لا عن التعليم .
ونحن نريد أن نؤكد هذا لندرك أن السلوك الاجتماعي للفرد خاضع لأشياء أعم من المعرفة أوثق صلة بالشخصية منها بجمع المعلومات وهذه هي الثقافة .
فالثقافة إذن تتعرف بصورة عملية على أنها :" مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي يلقاها الفرد منذ ولادته كرأسمال أول في الوسط الذي ولد فيه والثقافة على هذا هي المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته .
وهذا التعريف الشامل للثقافة هو الذي يحدد مفهومها فهي المحيط الذي يعكس حضارة معينة والذي يتحرك في نطاقه الإنسان المتحضر وهكذا نري أن هذا التعريف يضم بين دفتيه فلسفة الإنسان وفلسفة الجماعة أى ( معطيات ) الإنسان ( ومعطيات) المجتمع مع أخذنا في الاعتبار ضرورة انسجام هذه المعطيات في كيان واحد تحدثه عملية التركيب التي تجريها الشرارة الروحية عندما يؤذن فجر احدي الحضارات .
الحرفية في الثقافة
لأقد نتج عن عدم محاولتنا تصفية عاداتنا وحياتنا مما يشوبها من عوامل الانحطاط – كما أشرنا سابقا – أن ثقافة نهضتنا لم تنتج سوي حرفيين منبثتين في انحاء شعب أمي .
ونحن مدينون بهذا النقض لرجل " القلة" الذي بتر فكرة النهضة فلم ير في مشكلها إلا حاجاته ومطامعه دون أن يري فيها العنصر الرئيسي لما في نفسه .. وعليه فإنه لم ير في الثقافة إلا المظهر الناقة فهي عنده : طريقة ليصبح شخصية بارزة وإن زاد فعلم يجلب رزقا وتيجة هذا التحريف لمعني الثقافة متجسدة في ذات ما نسميه :
" المتعالم أو المتعاقل "
والحقيقة أننا منذ خمسين عاما نعرف مرضا واحدا يمكن علاجه هو الجهل والأمية , ولكننا اليوم أصبحنا نري مرضا جديدا مستعصيا هو ( التعالم) وإن شئت فقل : الحرفية في التعلم والصعوبة كل الصعوبة في مداواته وهكذا فقد أتيح لجيلنا أن يري خلال النصف الأخير من هذا القرن ظهور نموذجين من الأفراد في مجتمعنا : حامل المرافعات ذات الثياب البالية وحامل اللافتات العلمية .
فإذا كنا ندرك بسهولة كيف نداوي المريض الأول فإن مداواتنا للمريض الثاني لا سبيل إليها لأن عقل هذا المريض لم يقتن العلم ليصيره ضميرا أفعالا بل ليجعله آلة للعيش وسلما يصعد به إلى منصة البرلمان وهكذا يصبح العلم مسخة وعمله زائفة غير قابلة للصرف وأن هذا النوع من الجهل الأدهي وأمر من الجهل المطلق لأنه جهل حجرته الحروف الأبجدية وجاهل هذا النوع لا يقوم الأشياء بمعانيها ولا يفهم الكلمات بمراميها وإنما بحسب حروفها فهي تتساوي إذا ما تساوت حروف الكلمتين متساوية .
وكلام هذا المتعالم ليس " كتهتهة" الصبي فهي" صبيانية " وبراءة فهو ليس متدرجا في طريق التعلم كالصبي وإنما " تهتهة" تتمثل فيها شيخوخة وداء فهو الصبي المزمن .
فلابد من إزالة هذا المريض ليصفو الجو للطالب العاقل الجاد وعليه فإن مشكلة الثقافة لا تخص طبقة دون أخري بل تخص مجتمعنا كله بما فيه المتعلم والصبي الذي لم يبلغ مرحلة التعليم إنها تشمل المجتمع كله من أعلاه إلى أسفله إن بقي هنالك علو في مجتمع فقد حاسة العلو فأصبحت هذه الحاسة عنده أفقية زاحفة راقدة .
إنه لمن أوليات واجبنا أن تعود الثقافة عندنا إلى مستواها الحقيقي وإذاك يجب أن نحددها كامل تاريخي لكي نفهمها ثم كنظام تربوي تطبيقي لنشرها بين طبقات المجتمع .
معني الثقافة في التاريخ :
والثقافة – بما تتضمنه من فكرة دينية نظمت الملحمة الإنسانية في جميع أدوارها من لدن آدم – لا يسوغ أن تعتبر علما يتعلمه الإنسان بل هي محطي يحيط به وإطار يتحرك داخله وهو يغذي الحضارة في أحشائه فهي الوسط الذي تتشكل فيه كل جزئية من جزئياته تبعا للغاية العليا التي رسمها المجتمع لنفسه بما في ذلك الحداد والفنان , والراعي , والعالم , والإمام وهكذا يتركب التاريخ
فالثقافة هي تلك الكتلة نفسها بما تتضمنه من عادات متجانسة وعبقريات متقاربة وتقاليد متكاملة وأذواق متناسبة وعواطف متشابهة وبعبارة جامعة هي كل ما يعطي الحضارة سمتها الخاصة ويحدد قطبيها من عقلية ابن خلدون وروحانية الغزالي , أو عقلية ديكارت وروحانية جان دارك هذا هو معني الثقافة في التاريخ .
معني الثقافة في التربية :
وإذا حاولنا أن نحدد الثقافة بمعناها التربوي فيجب أن نوضح هدفها وما تتطلبه من وسائل التطبيق .
فأما الهدف فإنه قد اتضح بما قدمناه في الفصل السابق من أن الثقافة ليست علما خاصة لطبقة من الشعب دون أخري بل هي دستور تتطلبه الحياة العامة بجميع ما فيها من ضروب التفكير والتنوع الاجتماعي .
وعلى الأخص إذا كانت الثقافة هي الجسر الذي يعبره البعض إلى الرق والتمدن فإنها أيضا ذلك الحاجز الذي يحفظ البعض الآخر من السقوط من فوق الجسر إلى الهاوية .
وعلى هدي هذه القاعدة فإن الثقافة تشتمل في معناها العام على إطار حياة واحدة يجمع بين راعي الإنم والعالم بحيث توحد بينهما مقتضيات مشتركة وهي تهتم في معناها الخاص بكل طبقة من طبقات المجتمع فيما يناسبها من وظيفة تقوم بها وما لهذه الوظيفة من شروط خاصة وعلى ذلك فإن الثقافة تتدخل في شئون الفرد وفي بناء المجتمع وتعالج القيادة فيه كما تعالج مشكلة الجماهير ..
وإذا ما أردنا إيضاحا أوسع لوظيفة الثقافة فلتمثل لها بوظيفة الدم فهو يتركب من الكريات الحمراء والبيضاء وكلاهما يسبح في سائل واحد من " البلازما" ليغذي الجسد " والثقافة هي ذلك الدم في جسم المجتمع يغذي حضارته ويحمل أفكار " النخبة " كما يحمل أفكار " العامة " وكل هذه الأفكار منسجم في سائل واحد من الاستعدادات المتشابهة والاتجاهات الموحدة والأذواق المتناسبة .
وفي هذا المركب الاجتماعي للثقافة ينحصر برنامجها التربوي وهو يتألف من عناصر أربعة يتخذ منها الشعب دساتير لحياته المثقفة .
1- دستور الأخلاق لتكوين الصلات الاجتماعية .
2- دستور الجمال لتكوين الذوق العام .
3- منطق عملي لتحديد أشكال النشاط العام .
4- الفن التطبيقي الموائم لكل نوع من أنواع المجتمع أو ( الصناعة ) حسب تعبير ابن خلدون .
التوجيه الأخلاقي
إننا لا نهتم هنا بالأخلاق من الزاوية الفلسفية ولكن من الناحية الاجتماعية وليس الأمر هنا تشريح مبادئ خلقية بل أن نحدد ( قوة التماسك) اللازمة للأفراد في مجتمع يريد تكوين وحدة تاريخية هذه القوة مرتبطة في أصلها بغريزة ( الحياة في جماعة ) عند الفرد والتي تتيح له تكوين القبيلة و العشيرة والمدنية والأمة والقبائل الموغلة في البداوة تستخدم هذه الغريزة لكي تتجمع , أما المجتمع الذي يتجمع لتكوين حضارة فإنه يستخدم نفس الغريزة ولكنه يهذبها ويوظفها بروح خلقي سام .
هذا الروح الخلقي منحة من السماء إلى الأرض يأتيها مع نزول الأديان عندما تولد الحضارات ومهمته في المجتمع ربط الأفراد بعضهم ببعض كما يشير إلى القرآن الكريم في قوله تعالي :
" وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم".
ومن العجب أن نجد إنفاقا له مغزاه ودلالته بين ما نوحي به هذه تعني هنالك " الربط والجمع "
وليس من شك في أن نظرات المثقفين إلى المدينة الغربية مؤسسة على غلط منطقي إذ يحسبون أن التاريخ لا يتطور ولا تتطور معه مظاهر الشئ الواحد الذي يدخل في نطاقه حتي إنك لتنظر إلى الشئ بعد حين فتحسبه قد تبدل بشئ آخر وما هو في الحقيقة إلا الشئ نفسه تنكر لك في مظهره الجديد.
وإن شبابنا لينظرون إلى المدينة الغربية في يومها الحالي ويضربون صفحا عن أمسها الغابر حيث نبتت أولي بذورها وتلونت في تطورها ونموها ألوانا مختلفة وما فتنت تتلون عبر السنين حتي استوت على لونها الحاضر فحسبناها نباتا جديدا .
ولو أننا تناولنا بالدراسة مشروعا اجتماعيا كدمعية حضانة الأطفال في فرنسان لبدا لنا من أول نظرة أنها جمعية تقوم على شؤونها دولة مدنية وتحكم عليها بأنها مؤسسة نشأت في بادئ أمرها على أسس مدنية ( لا دينية)!. بينما لو درسنا تاريخها ورجعنا إلى أصول فكرتها الأولي لوجدناها ذات أصل مسيحي فهي تدين بالفضل إلى القديس ( فانا ندي بول ) الذي أنشأ مشروع الأطفال المشردين خلال النصف الأول من القرن السابع عشر .
غير أن نظرتنا العابرة هذه جعلتنا ننظر إليه وكأن تاريخه قد ابتدأ من يوم أن التفتت أنظارنا إليه فأعرناه بعض اهتمامنا وإن هذا لشأن شبابنا في نظرتهم إلى الأشياء .. فإن أكبر مصادر خطئنا في تقدير المدنية الغربية أننا ننظر إلى منتجاتها وكأنها نتيجة علوم وفنون وصناعات وننسي أن هذه العلوم والفنون والصناعات ما كان لها أن بدونها فهي الأساسي الخلقي الذي قام عليه صرح المدنية الغربية في علومه وفنونه بحيث لو ألغينا ذلك الأساس لسري ذلك الإلغاء على جميع ما نشاهده اليوم من علوم وفنون فلو أخذنا جهاز الراديو مثلا لرأينا فيه مجهودات علمية وفنية مختلفة دون أ يخطر ببالنا أثر القيم المسيحية في بناء هذا الجهاز بينما هو في الواقع أثر من آثار العلاقات الاجتماعية الخاصة التي وحدت جهودا مختلفة لهرتز الألماني "بوبوف" الروسي و"برانلي " الفرنسي , " ماركوني" الإيطالي و" فليمن" الأمريكي فكان الراديو نتيجة هذه الجهود جميعا وهل هذه العلاقات الخاصة في أصلها سوي الرابطة المسيحية التي أنتجت الحضارة الغربية منذ عهد شارلمان ؟. وهكذا .
ولسوف نصل في النهاية – إذا ما تتبعنا كل مظهر مدني من مظاهر الحضارة الغربية – إلى الروابط الدينية الأولي التي بعثت الحضارة وهذه حقيقة كل عصر وكل حضارة .
إن روح الإسلام هي التي خلقت من عناصر متفرقة كالأنصار والمهاجرين أول مجتمع إسلامي حتي كان الرجل في المجتمع الجديد يعرض على أخيه أن ينكحه من يختار من أزواجه بعد أن يطلقها له لكي يبني بذلك أسرة !!.
إن قوة التماسك الضرورية للمجتمع الإسلامي موجودة بكل وضوح في الإسلام ولكن أى إسلام ؟....الإسلام المتحرك في عقولنا وسلوكنا والمنبعث في صورة إسلام اجتماعي .
وقوة التماسك هذه جديرة بأن تؤلف لنا حضارتنا المنشودة وفي يدها – ضمانا لذلك – تجربة عمرها ألف عام وحضارة ولدت على أرض قاحلة وسط البدو رجال الفطرة والصحراء .
التوجيه الجمالي
( إن الله جميل يحب الجمال )
لا يمكن لصورة قبيحة أن توحي بالخيال الجميل فإن لمنظرها القبيح في النفس خيالا أقبح والمجتمع الذي ينطوي على صورة قبيحة لابد أن يظهر أثر هذه الصور في افكاره وأعماله ومساعيه .
ولقد بعثت هذه الملاحظة كل من عنوا بالنفس الاجتماعية من علماء الأخلاق أمثال الغزالي لدراسة الجمال وتقديره في الروح الاجتماعية.
ويمكن أن نلخص أفكارهم – في هذا الصدد – في اعتبارهم الإحسان صورة نفسية للجمال .
وترجمة هذا الاعتبار في لغة الاجتماع أن الأفكار – بصفتها روح الأعمال التي تعبر عنها أو تسير بوحيها – إنما تتولد من الصور المحسة الموجودة في الإطار الاجتماعي والتي تنعكس في نفس من يعيش فيه وهنا تصبح صورا معنوية يصدر عنها تفكيره فالجمال الموجود في الإطار الذي يشتمل على ألوان وأصوات, وروائح , وحركات , وأشكال يوحي للإنسان بأفكاره ويطبعها بطابعه الخاص من الذوق الجميل أو السماحة القبيحة .
فبالذوق الجميل الذي ينطبع فيه فكر الفرد يجد الإنسان في نفسه نزوعا إلى الإحسان في العمل وتوخيا للكريم من العادات .
ولا شك أن للجمال أهمية اجتماعية هامة إذا ما اعتبرناه المنبع الذي تنبع منه الأفكار وتصدر عنه بواسطة تلك الأفكار أعمال الفرد في المجتمع . والواقع أن أزهد الأعمال – في نظرنا – له صلة كبري بالجمال فالشئ الواحد قد يختلف تأثيره في المجتمع باختلاف صورته التي تنطق بالجمال أو تنضح بالقبح , ونحن نري أثر تلك الصورة في تفكير الإنسان وفي عمله وفي السياسة التي يرسمها لنفسه بل حتي في الحقيبة التي يحمل فيها ملابس سفره .
ولعل من الواضح لكل إنسان أننا أصبحنا اليوم نفقد ذوق الجمال ولو أنه كان موجودا في ثقافتنا إذن لسخرناه لحل مشاكل جزئية تكون في مجموعها جانبا من حياة الإنسان.
ويكفينا للتدليل على ذلك ما نراه مثلا من شأن ذلك الطفل الذي يلبس الأسمال البالية والثياب القذرة التي إن شئنا وصفها لقلنا إنها ثياب حيكت من قاذورات وجراثيم والمرقعات غير المتناسبة يحمل في المجتمع صورة القبح والتعاسة معا بينما هو جزء من ملايين السواعد والعقول التي تحرك التاريخ ولكنه لا يحرك شيئا لأن نفسه قد دفنت في أوساخه ولن تكيفينا عشرات من الخطب السياسية لتغيير ما به من القبح وما يسوده من الصغة النفسية والبؤس الشنيع .
فإن هذا الطفل لا يعبر عن فقرنا المسلم به بل عن تفريطنا في حياتنا .
ولنستخدم أبسط معني للجمال ولننظر من قريب إلى أسمال هذا الطفل فهي – على كونها أسمالا – تحمل معني القبح وتحمل أكثر من ذلك جراثيم تقتله ماديا وأدبيا فليست هذه الأسمال جرابا للوسخ فقط ولكنها سجن لنفس الطفل أيضا . ومن الوجهة الخلقية فقد أراد الطفل ستر عورته ولكن مرقعاته قتلت كرامته , لأن العدالة الشكلية تذهب أحيانا إلى أن " الجبة " تصنع الشيخ .
وليس من شك في أن مصطفى كمال فرض القبعة لباسا وطنيا للشعب إنما أراد بذلك تغيير نفس لا تغيير ملبس إذ أن الملبس يحكم تصرفات الإنسان إلى حد بعيد .
فإذا مالاحظنا أن مرقعات طفلنا قد أصبحت بما تحمل من أوساخ لا تقيه من البرد أو الحر وجدنا أيضا أنها لا تستدر في الإنسان عطفا , بل تبعث فيه اشمئزاز ,ذلك بتأثيره الصورة الشنيعة والرائحة الكريهة والألوان المتنافرة .
وإن دستور الجمال في النفس الإنسانية ليعبر عن هذه المأساة كلها بكلمة واحدة والمعالجة الممكنة ومن المؤكد أننا سوف لا تأتي له بثوب آخر فنحن نريد أن نخلصه من قبحه في سرعة ويسر وإذن فنحن نأخذ بيد هذا الطفل إلى الماء فننزع عنه مرقعاته وتأمره بأن يقوم بغسل واحدة منها ذات لون أقرب إلى الذوق قطعة تكفي لستر عورته بغسلها ثم يرتديها , بعد أن يغتسل هو أيضا مما به من وسخ ثم نأخذه إلى حلاق يحلق له رأسه ونتركه بعد ذلك يسير في حاله بعد أن نعلمه كيف يقصد في مشيه وكيف لا يطاطئ رأسه بهذا لا يظل كومة متحركة من الأوساخ بل يصبح طفلا فقيرا يسعي لقوته تجد فيه صورة للفقر والكرامة لا للقبح والمهانة . ولا يظنن ظان أننا بضربنا هذا المثل نري أن ذوق الجمال يسعي لحل مشاكل المساكين فحسب بل إننا أردنا التدليل على تأثيره في المجتمع باختيار نموذج من صميم أوضاعنا الاجتماعية أما تأثيره فعام يمس كل دقيقة من دقائق الحياة كذوقتنا في الموسيقي وفي الملابس والعادات وأساليب الضحك والعطاس وطريقة تنظيم بيوتنا وتمشيط أولادنا ومسح أحذيتنا وتنظيف أرجلنا .
ولقد صدرت أخيرا بعض الأوامر في مدينة موسكو – نقلتها إلينا الصحافة بتاريخ 3/ 8/ 1957 – تلزم سكانها بأن يراعوا بكل يقظة نظافة مدينتهم فهم مهددون بغرض غرامة تبدأ من خمسة وعشرين إلى مائة روبل على كل من يبصق في الشارع أو يلقي بأعقاب ( السجائر ) على الرصيف أو يعلق ملابسه في الشباك المطل على الشارع أو يلصق إعلانات على الحوائط وأيضا كل من يركب السيارات العامة بملابس العمل المتسخة .
فلو أننا سألنا عمدة موسكو مثلا عن السبب الذي دعا لمثل هذه الاحتياطات لأجابنا بأنه : النظام ويجيب طبيب من وجهة نظره بأنه الصحة وثالث فنان يذهب إلى أنه : جمال المدينة .
وكل إجابة من هذه الإجابات صادقة كسلوك يميله وضع خاص ولكن جميع هذه الإجابات لا تكون صادقة إلا لأنها تعبر عن سلوك عام يؤدي إلى ( الثقافة الشيوعية ) التي تصدرها في شكلها الأعم الذي سميناه تعريف الثقافة ( المحيط ) الاجتماعي .
وعليه فإن فكرة المحيط تدخل في كل عمل فردي أو إداري في وسط متحضر ولكنها تدخل ضمنا فقط – كما رأينا – لا على وجه التحديد الذي نريد القيام به هنا حين نتحدث عن أحد مقومات الثقافة وهو الجمال .
والإطار الحضاري بكل محتوياته متصل بذوق الجمال بل إن الجمال هو الإطار الذي تتكون فيه أى حضارة فينبغي أن نلاحظه في نفوسنا وأن تتمثل في شوارعنا وبيوتنا ومقاهينا نفس مسحة الجمال التي يرسمها مخرج رواية في منظر سينمائي أو مسرحي .
يجب أن يثيرنا أقل نشاز في الأصوات والروائح والألوان .
كما يثيرنا منظر مسرحي سيئ الأداء .
إن الجمال هو وجه الوطن في العالم فلنحفظ وجهنا لكي تحفظ كرامتنا ونفرض احترامنا على جيراننا الذين ندين لهم بنفس الاحترام .
المنطق العملي
لسنا نعني بالمنطق العملي ذلك الشئ الذي دونت أصوله ووضعت قواعده منذ أرسطو وإنما نعني به كيفية ارتباط العمل بوسائله ومعانيه وذلك حتي نستسهل أو نستصعب شيئا بغير مقياس يستمد معاييره من الوسط الاجتماعي وما يشتمل عليه من إمكانيات وليس من الصعب على الفرد المسلم أن يصوغ مقياسا نظريا يستنتج به نتائج من مقدمات محددة غير أنه من النادر جدا أن يعرف المنطق العملي أى استخراج أقصي ما يمكن من الفائدة من وسائل معينة .
ونحن أحوج ما نكون إلى هذا المنطق العملي في حياتنا لأن العقل المجرد متوفر في بلادنا غير أن العقل التطبيقي الذي يتكون في جوهره من الإرادة والانتباه فشئ يكاد يكون معدوما .
والمسلم يتصرف في أربع وعشرين ساعة كل يوم فكيف يتصرف فيها ؟. وقد يكون له نصيب من العلم أو حظ من المال فكيف ينفق ماله ويستغل علمه ؟
وإذا أراد أن يتعلم علما أو حرفة فكيف يستخدم إمكانياته في سبيل الوصول إلى ذلك العلم أو تلك الحرفة ؟..
إنا نري في حياتنا اليومية جانبا كبيرا من ( التفاعلية ) في أعمالنا إذ يذهب جزء كبير منها في العبث والمحاولات الهازلة .
وإذا ما أردنا حصرا لهذه القضية فإننا نري سببها الأصيل في افتقادنا الضابط الذي يربط بين الأشياء ووسائلها وبين الأشياء وأهدافها فسياستنا تجهل وسائلها وثقافتنا لا تعرف مثلها العليا, وفكرتنا لا تعرف التعليق وإن ذلك كله ليتكرر في كل عمل نعمله وفي كل خطوة نخطوها .
ولقد يقال : إن المجتمع الإسلامي يعيش طبقا لمبادئ القرآن ومع ذلك فمن الأصوب أن نقول : إنه يتكلم تبعا لمبادئ القرآن . لعدم وجود المنطق العملي في سلوكه الإسلامي .
ونظرة إلى واقعنا لنري الرجل الأوروبي والرجل المسلم : أيهما ذو نشاط وعزم وحركة دائبة ؟.
ليس هو الرجل المسلم بكل أسف الذي يأمره القرآن كما يعرف ذلك تماما – بقوله تعالي " واقصد في مشيك " وقوله" ولا تمش في الأرض مرحا "
ألم نقل : إن الذي ينقص المسلم ليس منطق الفكرة ولكن منطق العمل والحركة فهو لا يفكر ليعمل بل ليقول كلاما مجردا بل أكثر من ذلك يبغض أولئك الذين يفكرون تفكيرا مؤثرا ويقولون كلاما منطقيا من شأنه أن يتحول في الحال إلى عمل ونشاط .
ومن هنا يأتي عقمنا الاجتماعي فنحن حالمون ينقصنا المنطق العملي ولننظر إلى الأم التي تريد أن تربي ولدها فهي إما أن تبلده بمعاملة أم متوحشة وإما أن ترخي له العنان وتتميع معه , فإذا أبدت إشارة أو أصدرت أمرا شعر الطفل بتفاهة إرادتها فلم يعبأ بها إذن أن الوهن والسخف يطبعان المنطق حتي في عين هذا الصبي المسكين .
الصناعة
لا تعني بالصناعة ذلك المعني الضيق المقصود من هذا اللفظ بصفة عامة في البلاد الإسلامية فإن كل الفنون والمهن والقدرات وتطبيقات العلوم تدخل في مفهوم الصناعة .
والراعي نفسه له صناعته ومما يدلن على القيمة الاجتماعية لهذه الحرقة المتواضعة الزهيدة أن لها مدرسة وطنية في فرنسا بمدينة ( رامبوليه) من ضواحي باريس فلو رأينا الراعي الخريج من هذه المدرسة والراعي العربي يقود كل منهما قطيعة لعلمنا أى فرق بينهما ؟
ومن المسلم به أن الصناعة للفرد وسيلة لكسب عيشه وربما لبناء مجده ولكنها للمجتمع وسيلة للمحافظة على كيانه واستمرار نموه وعليه فإنه يجب أن نلاحظ في كل فن هذين الاعتبارين وإنا لنري في هذا الباب ضرورة إنشاء مجلس للتوجيه الفني ليحل نظريا وعمليا المشكلة الخطيرة للتربية المهنية تبعا لحاجات البلاد وقد بدأ الأخذ بهذا الاتجاه في مصر الآن .
هذا الحل المنطقي لمشكلة الصناعة هو الذي يتيح لرجل الفطرة ورجل القلة ( المدينة) أن يلجأ معا باب الحضارة التي بدأت فعلا ولكنها واقفة في مفترق الأقدار وفي مهب الأهواء والمبادئ قلقة لا تعرف لنفسها طريقا .
ولسوف تخيب آمالنا التق عقدناها إذا ما عولنا في قضيتنا على العلم الذي نتعلمه في المدارس الرسمية أو غير الرسمية أو على ما تعدنا به السياسات الانتخابية , وما تعدنا إلا غرورا .
ولقد نعلم أن الحل الوحيد منوط بتكوين الفرد الحامل لرسالته في التاريخ فقد صار مؤكدا أن السرقة الكبري التي ورثنا عنها جيلا من ( المتعالين ) وورثنا عنها التنافس على المقاعد الأولي حتي في لجان الإنقاذ في كارثة فلسطين في البلاد الإسلامية
كل هذه الفضائح التي يغذيها الاستعمار بكل عناية لا يمكن أن نضع لها حدا إلا بتحديد الثقافة.
وإن الإمكانيات البسيطة في البلاد الإسلامية لتسمح لنا بأن نحقق هذا التحديد سريعا , وأن تكون القيادة الفنية التي تحتاج إليها الآن .
توجيه العمل
" ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده " " حديث شريف"
قلنا إن مشكلة الإنسان تتكامل في ثلاثة عناصر أساسية هي : توجيه الثقافة وتوجيه العمل وتوجيه رأس المال .
وقد انتهينا في الفصل السابق من دراسة توجيه الثقافة والآن نبدأ في دراسة توجيه العمل الحلقة الثانية في مشكلة الإنسان .
ولقد يظهر بعض الغرابة عندما نلاحظ درجة النمو الاجتماعي في البلاد الإسلامية فتتحدث عن توجيه يكاد يكون لا وجود له !!.
إن الشيح المألوف للمتعطل في هذه البلاد – ذلك المسكين الذي يقتل وقته بلا شعور فيما لا يجدي – قد أصبح هذا الشبح نقطة استفهام مقلقة تحت عنوان هذا الفصل .
ولكن ألم نتحدث عن توجيه الثقافة ؟ فهل هناك ثقافة في بلادنا ؟ لا بأس على كل حال من أن نتحدث عن توجيه شيء لا وجود له فحديثنا نفسه محاولة لخلقه ومساهمة في تكوينه .
ونقطة الاستفهام هذه لا تسد الطريق إلا على من ينظر إلى الأشياء في وضعها لا في مصيرها .
والعمل وحده هو الذي يخط مصير الأشياء في الإطار الاجتماعي ورغم أنه ليس عنصرا أساسيا كالرجل والوقت والتراب إلا أنه يتولد من هذه العناصر الثلاثة لا من الخطب الانتخابية أو الوعظية .
فعندما كان المسلمون الأول يشيدون مسجدهم الأول بالمدينة كان هذا أول ساحة للعمل صنعت فيها الحضارة الإسلامية .
فلو أننا نظرنا إلى هذه الساحة في بساطتها وقلة شأنها في ذلك الوقت لدعانا ذلك إلى الابتسام ولكن أو ليس هناك قد تلقي بناؤه الحضارة الإسلامية دروس العمل ؟؟!!
أو ليسوا هنالك قد قبضوا لأول مرة على عصا التاريخ ؟.
إن الشئ الذي يهمنا في المجتمع الناشئ هو الناحية التربوية في عملنا لا الناحية الكسيبة إذ أن الناحية الكسيبة لا تظهر إلا بعد تقسيم العمل وأى خلط بين هذين المظهرين يدفع المجتمع الناشئ إلى إهمال شطر من إمكانياته وإثقال كاهله بالأعباء التي لا يمكن تحملها إلا لمجتمع تطور فعلا وأصبح شعاره :
" كل جهد يستحق أجرا ".
ولكن في المجتمع الناشئ تفقد كلمة " أجر " معناها , لأن العامل لا علاقة له بصاحب عمل ولكن بجماعة , أو عشيرة يشاطرها بؤساها ونعماها .
وبصفة عامة توجيه العمل هو سير الجهود الجماعية في اتجاه واحد بما في ذلك جهد السائل , والراعي , وصاحب الحرفة , والتاجر والطالب , والعالم , والمرآة , المثقف والفلاح لكي يضع كل منهم في كل يوم لينة جديدة في البناء .
فإعطاء ثلاثة حروف من الأبجدية عمل وتقبل هذه الحروف عمل وإسداء نصح عن النظافة أو الجمال – دون أن يغضب الناصر حين لإيضاح لنصحه – عمل وغرس شجرة هنا عمل واستغلال أوقات فراغنا في مساعدة الآخرين عمل وهكذا ..
فنحن نعمل طالما أننا نعطي أو نأخذ بصورة تؤثر في التاريخ فتوجيه العمل هو تأليف كل هذه الجهود لتغيير وضع الإنسان وخلق بيئته الجديدة ومن هذه البيئة يشتق العمل معناه الآخر : كسب العيش لكل فرد
وفي الواقع يجب أن يكون التوجيه المنهجي للعمل شرطا عاما أولا ثم وسيلة خاصة لكسب الحياة بعد ذلك لأن هذا التوجيه – حين يتحد مع توجيه الثقافة وتوجيه رأس المال – يفتح مجالات جديدة للعمل .
وعلى قدر ما يصبح في البلاد من فنيين وفنون وحرف تتجه أحوال معيشة الفرد إلى وضعها الطبيعي حتما ولا يمكن أن يحدث هذا دون ذلك لأنه كلما تقدم التوجيه المثلث للإنسان يتغير وجه الحياة حتما فيكتمل ويحتل مستوي أرفع دائما .
ومن ناحية أخري كل عمل الإنسان قد صدر عن يده التي انبثقت منها أيضا فكرته عندما كانت تعد مهدة وإطاره والمحيط الملائم لتطوره .
فلنكرم اليد التي تمسك بالمبرد ( والفارة) فمنها ستنبثق المعجزات التي تنتظرها وبالفعل لقد انبثقت المعجزة هنالك حيث تحركت اليد فأمسكت الآلة أو قلبت التراب .
وهكذا نجد أن توجيه الثقافة مع توجيه العمل يعدان – دون أدني شك – للبسي الأسمال وللعاطلين مكانهم في المجتمع في ظل وارف من الكرامة والرفاهية .
توجيه رأس المال
لم يكن رأس المال في حد ذاته هو المشكلة التي تعرض لها كارل ماركس في آرائه عام 1848 وإنما كان تعرضه لنتائجه الاجتماعية كرأسمالية .
وتفصيل ذلك أن الثورة الصناعية كانت في أيامه قد جاءت نتائجها الأولي في أوروبا الغربية وكان تركيز رؤوس الأموال وظهور طبقة ( البروليتاريا ) العاملة أكبر ما يميز هذا العصر وبالأخص في المناطق التي ظهر فيها التصنيع مبكرا كمقاطعة ( الريناني) في ألمانيا ومنطقة ( بلاد الجال ) ببريطانيا .
وعلى هذا فإن ظروف ذلك العصر لم تكن لتدعو كارل ماركس إلى تحديد رأس المال من حيث إنه آلة اجتماعية وإنما من حيث إنه آلة سياسية بين يدي طبقة معينة هي : " البرجوازية " لاضطهاد طبقة أخري هي " البروليتاريا " فهو قد نظر إلى رأس المال فن هذه الزاوية لأن أوضاع المجتمع وظروفه قد حتما عليه هذا النظر .
يقابل هذه الحال الآن ( في سنة 1948) حال البلاد الإسلامية فإنها لا تواجه مشكلة الرأسمالية لأن رأس المال نفسه لم يتكون بعد في غالب تلك البلاد : وإذن فالمشاكل التي كانت تعانيها أوروبا في ذلك التاريخ لا تهم العالم الإسلامي أو تمسه في شئ فقد انتفت من بلادنا المشاكل التي خلفها رأس المال في أوربا وعليه فإن القضية في البلاد الإسلامية ذات مشاكل كل تختلف تمام الاختلاف عن مشاكل أوروبا ومن هنا فقد تحتم علينا دراسة هذه المشاكل دراسة خاصة وبالتالي تحديد رأس المال باعتباره آلة اجتماعية تنهض بالتقدم المادي لا آلة سياسية في يدفئه رأسمالية كما عالجها ماركس ومدرسته وذلك حتي يرتفع عن الأذهان كابوس الغموض الذي عرقل نمو حياتنا الاقتصادية فسبب لنا عقدة نفسية تجاه رأس المال ناشئة عن عدم فهمنا للمعني الديناميكي لهذا المصطلح العلمي .
وينبغي لنا أن نفهم قبل كل شئ أن كلمة " رأسمال" ليست من مصطلحنا ولا هي من الشئ الذي تعودناه فنحن دائما نخلط بين شيئين متمايزين تمام التمايز : الثروة ورأس المال . ولتحديد كلا الاصطلاحين بالمعني الاجتماعي , نلاحظ أن الثروة يمكن فهمها من وجهتين في بلادنا :
1- بالنسبة للمركز الاجتماعي لصاحبها هل هو فلاح أو صاحب مواشي أو صاحب ضيعة ؟.
2- بالنسبة لاستعمال صاحبها لها . وهو يستعملها في إطاره الذي تقتضيه حرفته المحلية وفي كلا الحالتين تظهر الثورة أمامنا وكأنها من مكاسب الشخص غير المتحركة وغير الداخلة في الدورة الاقتصادية فهي شئ محلي مستقر في حقل صاحبه أو في داره أو حو خيمته وليس لها من عمل مستقل كقوة مالية تدخل في بناء الصناعات وتمويلها أو في التجارة أو غير ذلك من المادين الاقتصادية كما هو الشأن في رأس المال .
فالثروة تلقب بلقب صاحبها أما رأس المال فإنه ينفصل إسما عن صاحبه ويصبح قوة مالية وهذا شئ معروف عند الاقتصاديين .
وهذه القيود التي تقعد بالثروة عن أن ترقي إلى مستوي رأس المال تجعل منها شيئا بدائيا بسيطا من الناحيتين الاقتصادية والأدبية شيئا يستخدمه الفرد في ميدانه الخاص مثل عقاره أو قطيعة أو رشته فهي لا تسعي لغايتها كقوة مالية مستقلة وإنما فقط لسد حاجات صاحبها المحدودة .
وبعد هذا التوضيح لمعني الثروة فإنه يسهل علينا تحديد معني رأس المال فهو في جوهره :" المال المتحرك" الذي يتسع بمقتضي نموه لمحيط أكبر من محيط الفرد وأقصي من المقدار الذي تحدده حاجياته الخاصة .
وهو في العادة مجرد , لا ينسب إلى صاحبه فلا يقال:" رأسمال فلان وإنما فقط " رأسمال ".
ولقد سجل التاريخ أن بدء تكوين رأس المال قد ظهر مع ظهور الصناعات الميكانيكية اى الصناعات التي من طبيعتها أن تجعل للمال دورا كبيرا يناسب مقتضياتها :
فالبلاد النائية التي تستورد منها المواد الأولية ثم المصانع التي تحول فيها تلك المواد إلى سلع ومنتجات ثم الأسواق التي تصرف التي تحول فيها تلك المواد إلى سلع ومنتجات ثم الأسواق التي تصرف فيها تلك السلع كل ذلك جعل للمال دورا متسعا يخرج عن نطاق استعمال الفرد الخاص ومحيطه إلى محيط ينتقل فيه من بلد إلى بلد ويقيم العلاقات الاقتصادية بين البلدان ويصبح قوة ممولة سميت برأس المال ولا شك أن المال الذي تصبح هذه حاله من التنقل بين البلاد , يخلق حركة ونشاطا ويوظف الأيدي والعقول أينما حل وحيثما ارتحل وجدير بالذكر أن رأس المال كان من نتائجه في أوروبا خلق ظاهرتين اجتماعيتين :
1- طبقة العمال كنتيجة للثورة الصناعية
2- الاستعمار كنتيجة للحاجة إلى التصدير والاستيراد
وهكذا قضي التوسع الاقتصادي بأن لا يصبح المال في قبضة صاحبه فقط وأن يتعدي حدود ميدانه الخاص إلى ميدان أوسع انتشارا وأعم فائدة وبأن يكتسب في تطوره هذا معني اجتماعيا سمي بالرأسمالية .
غير أن هذه الظاهرة – التي نقلت " الثورة " من حالتها البسيطة إلى حالة واسعة منتشرة سميت " بالرأسمال " – لم تحدد " رأس المال " من حيث الكم ولكن من حيث الكيف فالدرهم الذي يتحرك يونتقل ويدخل ويخرج عبر الحدود يسمي " رأسمال " والمليار من الدراهم المستقر الساكن هو ثروة ذات محيط ضيق .
أما " تركّز" رؤوس الأموال فهو صفة طارئة على رأس المال وليس من جوهره وهو صفة لا تتناقض مع الصفة الأولي لرأس المال – وإنما تكملها .
وعليه , فإن توجيه رأس المال وهو لا يزال في طور التكوين في بلادنا – لا يتصل أولا بالكم بل بالكيف فإن همنا الأول أن تصبح كل قطعة مالية متحركة متنقلة تخلق معها العمل والنشاط أما الكم فإن ذلك في الدور الثاني " دور التوسع والشمول وتاريخ العرب نفسه يحمل نموذجا بسيطا لما قدمنا .
إذ كانت مكة قبل الإسلام تسّير أموالها حسبما يقتضيه الأسلوب الرأسمالي ومن المعروف أن قريشا لم تكن تملك من أموال الإنتاج الشئ الضخم كالعقارات والمصانع غير أن قوافلها كانت تجوب الصحراء حاملة بضائع الشرق الأدني , في رحلة الشتاء والصيف , وكانت قريش كلها تساهم في تزويد هذه الرحلة والحالة اليوم في البلاد الإسلامية الفقيرة تشبه هذه الرحلة والحالة اليوم في البلاد الإسلامية الفقيرة تشبه إلى حد بعيد حالة الجزيرة الفقيرة ( التي كانت تسكنها قريش ) حيث لم يبق لأغلب أهل البلاد الإسلامية عقار ولا قطيع ولا مصنع في الشمال الإفرنجي وفي جزيرة العرب والمحميات وفي إيران والأفغان وباكستان وتركيا واندونيسيا فالقضية ليست – كما بينا – في تكديس الثروة ولكن في تحريك المال وتنشيطه بتوجيه أموال الأمة البسيطة وذلك بتحويل معناها الاجتماعي من أموال كاسدة إلى رأس مال متحرك ينشط الفكر والعمل والحياة في البلاد .
وزيادة على هذا يمكن أن نقتبس من أوربا تجربتها التي مرت بها والتي خرجت منها إلى توجيه رؤوس الأموال وتخطيط اقتصادها وذلك حتى لا تقع فيما وقعت فيه أوربا – حين تحركت فيها الآلة من مشاكل حرية الإنتاج والتجارة تلك الحرية التي جاءت بالاضطرابات الاجتماعية .
لنتخذ من الآن الحيطة حتي تكون أموالنا مطبوعة بطابع الديمقراطية لا بطابع الإقطاعية .
فالقضية إنما هي قضية منهاج يحدد لنا تخطيطا مناسبا نبني عليه حياتنا الاقتصادية ولا يكون فيه مكان لتركز رؤوس الأموال في أيدي فئة قليلة تستغل السواد الأكبر من الشعب وإنما تتوفر فيها مساهمة من الشعب مهما كان فقيرا وبذلك يتم التعادل بين طبقات المجتمع وتنسجم مصلحة الجماعة مع مصلحة الفرد .
ولنا أن نرحب ببعض الجهود التي بذلها في البلاد الإسلامية بعض رجال اقتصادنا في العهد القريب ونحن نري في تلك الجهود – وإن لم تحقق غاية ما نتمناه – تشجيعا على الاستمرار في تدعيم هذا الاتجاه الاقتصادي ودليلا على أن تكوين رأس المال ممكن حتي في وطن فقير إذا ما اتحدت فيه الجهود وتوجهت نحو الصالح العام .
ولا يفوتنا أن ننبه بإلحاح إلى أننا في حاجة إلى تكوين مجلس لتوجيه " الثورة " وتوظيفها لتتحول إلى " رأسمالي " بالمعني الأنف الذكر.
ولتخطيط أهدافه الاقتصادية وبهذا التوجيه الذي يسير متضافرا مع توجيه الثقافة وتوجيه العمل يكون الفرد قد استكمل الشروط لتشييد حضارة تطابق إطاره الخاص .
مشكلة المرأة
ليست مشكلة المرأة شيئا نبحثه منفردا عن مشكلة الرجل فهما يشكلان في حقيقتهما مشكلة واحدة هي مشكلة الفرد في المجتمع .
وإنه ليحسن بنا بادي الأمر أن نستبعد من دائرة بحثنا تلك الأقاويل التي تقولها بدافع من عواطفهم أولئك الذين نصبوا من أنفسهم ذادة عن حقوق المرأة من كتاب الشرق أو الغرب فإنه ليس بمجد لنا أن نعقد نسبة بين الرجل والمرأة ثم تخرج منها بنتائج كمية تشير إلى قيمة المرأة في المجتمع وإنها أكبر أو أصغر من قيمة الرجل , أو تساويها فليست هذه الأحكام إلا افتئاتا على حقيقة الأمر ومحض افتراء .
ولسنا نري في الأقاويل التي تقولها على حقوق المرأة أدعياء تحريرها أو الذين يطالبون بإبعادها من المجتمع إلا تغبيرا عن نزعات جنسية .
ولتوضيح هذه الحقيقة يجدر بنا أن ننظر إلى الدوافع النفسية العميقة التي تدفع كلا الطرفين إلى القول بآرائه وحينئذ يصعب علينا معرفة هذه الدوافع على حقيقتها وأنها جميعها تصدر عن شئ واحد هو دافع الغريزة الجنسية طبقا لتحليل فرويد.
فهذه النقطة كانت مبدأ الانطلاق لكلا الفريقين غير أنهما سارا بعد ذلك في طريقين مختلفين .
وقد يكون هذا التعليل ظاهرا بالنسبة لأولئك الذين يطالبون بخروج المرأة في زينة فاتنة إذ في ذلك ما يوقظ غرائزهم أو يرضي شهواتهم .
غير أن أولئك المتمسكين بإبعاد المرأة عن المجتمع والمؤمنين بضرورة إبقائها في سجنها التقليدي قد يبدو في تعليل الدافع النفسي لموقفهم بأنه جنسي بعض الغرابة ولكن هذه الغرابة لا تلبث أن تزول حينما نعلم أن ليس لتفكيرهم من مبرر منطقي إلا ما يتعللون به من الحفاظ على الأخلاق الذي يختفي وراءه مغزي التمسك بالأنثي .
فالغريزة هنا تكلمت بلسان آخر ولقد يكون ذلك واضحا إذا ما خرجت المرأة في صورة تلفت إليها الغرائز أما أن تخرج في هيئة يقبلها الخلق فإنه لا يتأتي مثل ذلك التفكير وعليه فليس لهم في منعها من الخروج مبرر إلا ما يستقر في نفس الرجل وبدافع جنسي من الخوف على أنثاه أن تشاركه فيها غيره ( وإذن فهو بدافع عن أنثاه ) وهنا يظهر جليا ذلك الاعتبار الجنسي في تفكيره وهكذا نري أن كلا الفريقين يصدر عن اعتبار واحد هو الغريزة ولا أمل لنا في أن نجد في آرائهما حلا لمشكلة المرأة .
وإذن فهذه المشكلة ينبغي أن تصفي أولا عن مثل هذه النزعات ثم تحل حلا يكون لمصلحة المجتمع فيه الاعتبار الأول فالمرأة والرجل يكونان الفرد في المجتمع فهي شق الفرد كما أن الرجل شقه الآخر .
ولا غرو فالرسول صلي الله عليه وسلم يقول : ( النساء شقائق الرجال ) .
والله تعالي خلقهما من نفس واحدة وأخبر عن ذلك بقوله " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجال كثيرا ونساء "
فالمرأة والرجل قطبا الإنسانية ولا معني لأحدهما بغير الآخر فلئن كان الرجل قد أني في مجال الفن والعلم بالمعجزات فإن المرأة قد كونت نوابغ الرجال .
ونحن نري لزاما علينا أن يكون تناولنا الموضوع بعيدا عن ذلك الأناشيد الشعرية التي تدعو إلى تحرير المرأة فالمشكلة لا تتحد في الجلي اللطيف فحسب أو في بنات المدن أو العائلات بل هي فوق ذلك تتعلق بتقدم المجتمع وتحديد مستقبله وحضارته .
وإذا تساءلنا هل يجب نزع الحجاب ؟ أو هل يسوغ للمرأة التدخين ؟ أو التصويت في الانتخابات ؟ أو هل يجب عليه أن تعلم ؟ فينبغي ألا يكون جوانب بدافع من مصلحة المرأة وحدها بل بدافع من حاجة المجتمع وتقدم المدنية فيه إذ ليست الغاية من البحث في اشتراكها في هذا المجتمع إلا الإفادة منها في رفع مستواه وإذن فليس من المفيد لنا أن ننظر إلى مشكلتها بغير هذا المنظار .
ولقد نعلم أنه يضيق صدر بعض ذوي الأذواق الرقيقة بما نقول فيحتجون علينا بأن مثل هذا الموقف يذيب المرأة في المجتمع ولكنا نقول لهم : إن إ‘طاء حقوق المرأة على حساب المجتمع معناه تدهورا لمجتمع , وبالتالي تدهورها أليست هي عضوا فيه ؟ فالقضية ليست قضية فرد وإنما هي قضية مجتمع .
لقد بدأت المرأة المسلمة التي كانت إلى زمن قريبا تلبس في إفراط ( الملاية) تسلك في سيرها الاجتماعي الطريق الذي رسمته أوروبا لنسائها متخلية أن في ذلك حلا لمشكلتها الاجتماعية .
ونحن نأسف أن يكون نساء الشرق هكذا من البساطة حيث يرون مشكلتهن قد حلت بمثل هذا التقليد لنساء أوروبا فإن مشكلة المرأة مشكلة إنسانية يتوقف على حلها تقدم المدنية فلا يكون حلها إذن بمجرد تقليد ظاهري لأفعال المرأة الأوروبية دون ما ننظر إلى الأسس التي بنت عليها المرأة الأوروبية سيرها ونحن إذ نحاول في هاذ الفصل أن نحدد مهمة المرأة في المجتمع ينبغي أن ننظر إلى هذه لمشكلة وهي تسير منسجمة مع المشاكل الاجتماعية الأخرى في سبيل تقدم المدنية فلا وجود لهذه المشكلة بغير هذا الإطار وهو ما يريد تأكيده في هذا الفصل .
والآن نسأل أنفسنا : هل من المفيد للمرأة المسلمة أن نجعلها في مركز تشبه فيه أخته الأوروبية ؟ لقد اتبعت هذا الطريق بعض البلاد الإسلامية وهي تمثل في نظرها حركة التجديد في حياة المرأة التي ما زال يدعو إليها المجددون ولكننا بشئ من النظر نري أن انتقالنا بالمرأة من امرأة متحجبة إلي امرأة سافرة تطالع الصحف وتنتخب وتعمل في المصنع لم يحل المشكلة فهي لا تزال قائمة وكل الذي فعلناه أننا نقلنا المرأة من حالة إلى حالة وسنري عما قريبا أن انتقالنا هذا عقد المشكلة بعد أن كانت بسيطة فليست حالة المرأة الأوروبية بالتي تحسد عليها فظهور المرأة الأوربية في مظهر لا يخاطب في نفس الفرد إلا غريزته أثار أخطار جديدة كنا نود أن يكون المجتمع بمنجاة منها فمشكلة النسل في البلاد الأوروبية وصلت إلى حالة تدعو أحيانا إلى الرثاء إذ أنها فقدت تنظيمها الاجتماعي بحيث جعلت المجتمع الأوروبي – وقد أمحت منه معاني التقديس لعلاقات الجنسية – يعتبر هذه العلاقات تسلية للنفوس المتعطلة وبذلك فقدت وظيفتها من حيث إنها وسيلة لحفظ الأسرة وبقاء المجتمع .
ومن هنا نذيرا جديدا للذين يجعلون من أوروبا مثلهم الأعلى في كل تجديد فإن مشكلة المرأة الأوروبية ما زلت خطيرة حتي في ذهن المرأة وفي تصورها لنفسها وفي أن تحقق كمثل أعلي خلقي وجمالي لحضارة ويمكن أن نري خطورة هذه المسألة في أحد مظاهر حياتها في أوروبا أعني " المودة " فالزي الذي تختاره المرأة لنفسها دليل واضح على الدور الذي تريد تمثيله في المجتمع فقد كانت المرأة الأوروبية إلى عهد قريب تلبس اللباس اللطيف من ( الدانتلا ) تستر به مع أنوثتها سرها المكتوم حتي أخمص قدميها وتتخذ من حيائها حاجزا يمنعها من التردي في الرذيلة فكانت بردائها هذا خير مثل الرقة والأدب في المجتمع إذ كانت السيدة الجديرة بكل احترام والزوجة الصالحة التي تمسح بيديها الرقيقتين عن نفس الزوج متاعب العمل .
غير أنها اليوم تلبس الفتان المثير الذي لا يكشف عن معني الأنوثة بل عورة الأنثى فهو يؤكد المعني الجسدي الذي يتمسك به مجتمع ساده الغرام باللذة العاجلة .
وعلى نقيض هذا نجد امرأتنا المسلمة تلبس ( الملاية ) فتسرف في ستر جسدها بشكل شاذ معيرة عما يطبع مجتمعاتنا من الميل إلى الركود والتخلف وهي من ناحية تعبر عما يراود نفوسنا أحيانا من رياء .
فالأمر يجري في كلتا الحالتين بين تفريط وإفراط ومن الواجب أن توضع المرأة هنا وهنا حيث تؤدي دورها كخادمة للحضارة وملهمة لذوق الجمال وروح الأخلاق ذلك الدور الذي بعثها الله فيه كأم وكزوجة للرجل.
وحبذا لو أن نساءنا عقدن مؤتمرا عاما يحددن فيه صالح المرأة بالنسبة لصالح المجتمع حتي لا تكون ضحية جهلها وجهل الرجل بطبيعة دورها فإن ذلك أجدي علينا من كلمات جوفاء ليس لها في منطق العلم مدلول.
ذلك أني لا أري مشكلة المرأة بالشئ الذي يحله فلم كاتب في مقال أو في كتاب ولكني أري أن هذه المشكلة متعددة الجوانب ولها نتاج إنساني أو هكذا يجب أن تكون ولن يكون تخطيط حياتها في المجتمع مفيدا إلا إذا نظرنا إلى مثل هذا المؤتمر بعين الاهتمام بشرط أن يضم الوسائل الكفيلة بتناول المشكلة من جميع أطرافها بشرط أن يضم الوسائل الكفيلة بتناول المشكلة من جميع أطرافها فيجب مثلا أن يضم علماء النفس وعلماء التربية الأطباء وعلماء الاجتماع وعلماء الشريعة وغيرهم ولسوف يكون هذا التخطيط حتما في صالح المجتمع لأن علماء والمفكرين فيه هم الذين وضعوه .
وتحديدنا لعمل المرأة في المجتمع جدير بالاعتبار فمن المعلون أن المرأة الأوروبية كانت ضحية هذا الاعتبار لأن المجتمع الذي حررها قذف بها إلى أتون المصنع وإلى المكتب وقال لها :" عليك أن تأكلي من عرق جبينك , في بيئة مليئة بالأخطار على أخلاقها وتركها في حرية مشئومة ليس لها ولا للمجتمع فيها نفع ففقدت – وهي مخزن العواطف الإنسانية – الشعور بالعاطفة نحو العائلة وأصبحت بما ألقي عليها من متاعب لعمل امرأة تشبه رجلا .
وهكذا حرم المجتمع من هذا العنصر الهام في بناء الأسرة وهو العنصر الأساسي فيها وجنت أوروبا ثمار هذه الأسرة المنحلة مشاكل من نوع جديد .
وهناك شئ جدير بالإثارة في هذا الفصل هو مسالة تعدد الزوجات : هل تعدد الزوجات أفضل من الاقتصار على امرأة واحدة ؟ أم العكس ؟
ونحن نري أننا لا نستطيع أن نبحث هذه المشكلة أيضا بعيدا عن واضع المجتمع بحيث نغفل تفوق عدد النساء على الرجال وما يجر ذلك على المجتمع من مشاكل .
إن دارس الاجتماعات لا يدرس الأشياء كما هي عليه فحسب بل كما سوف تؤول إليه أيضا ولذلك فحين نري المرأة المسلمة تسير متطورة تتساءل إلى أى وجهة تشير ؟.. إننا لا نعلم حتي الآن طريقها ولا تدرك هدفها لأن مجتمعنا يسير مستسلما للحوادث والأيام .
نعم إننا نري المرأة في تطور ,ولكننا لم نشع بعد في التخطيط الدقيق لجميع أطوارها فنحن نراها في مظاهرها الجديد فتاة في المدرسة وفي حركة كشفية وفي تسابق في الحياة العامة كعاملة ومولدة وطبيبة ومدرسة وعاملة في المصنع والأتوبيس ونائبة أخيرا.... ومهما يكن عجزنا كبيرا عن تخطيط مراحل تطور الفتاة المسلمة فإنه يلزمنا عند أى تخطيط ألا نغفل بعض القضايا الجوهرية كقضية " الحضور " أعني حضور المرأة في المجتمع حضورا محسا بينا .
نعم إن امرأتنا عندما لا تحضر هذا المجتمع ولا تدرك أحداثه التي تجري فيه ولا تطوراته التي سوف يصير إليها تدع المجال لامرأة أخري تخلفها حتي في البيت الذي تعتكف فيه كما نري الآن " مودة التروج بالأجنبيات عند شبابنا وهي نتيجة تباعد المرأة العربية عن المجتمع لقد بدأت الأجنبية تضع طابعها في حياتنا فعلا .
ونحن لا ندري أى مكان هام تشغله الآن المرأة الأوروبية في لا شعورنا لأن المرأة التي تحضر مجتمعها وتعني بشئونه توجه كل الاستعدادات الخفية في الرجل فإذا به يخضع لسلطانها من حيث لا يشعر .
ونستطيع القول : إن المرأة الأوربية قد أصبحت اليوم في الجزائر مثلا – من حيث لا تشعر هي نفسها – تقود خيال شبابنا الشعري واتجاهاته في ذوق الجمال بل وربما في مثله الأخلاقية ولقد أصبحت تؤلف من حيث لا تشعر مآسيه الكبيرة أو الصغيرة التي تظهر في حياتنا اليومية أو تخفي وتستتر .
ومن الواضح أن الأوروبية لا تتمتع بهذه الميزة إلا لأن المرآة عندنا لا تقوم بدورها أحيانا فكيف ؟ وبأي أسلوب يمكن للمرأة المسلمة أن تقوم بدورها ؟... إن علماءنا ومثقفينا ونساءنا أنفسهن جميعا مسئولون عن هذا الجواب . وربما كان القاري ينتظر من المؤلف أن يتجاوز الإشارة إلى عقد المؤتمر المقترح آنفا إلى الإجابة عن هذا السؤال نفسه وعرض حل معين له وإن مثل هذا الموقف يجعلنا لا نفرق بين المشكلة من ناحيتها الفنية كمشكلة رأس المال مثلا والتراب الذي عالجه الفني بإعطاء نظرته الخاصة فيه وبين المشكلة الاجتماعية التي لا تكتفي لحلها النظرة الخاصة مهما كانت قيمتها من الناحية الفنية لأن الحل هنا يتطلب التنفيذ أى الوصول إلى وسائل عملية أكثر من التحليل البحت الذي يحدد الوجوه النظرية .
فالقضية إذن من حيث إنها تتطلب التنفيذ هي في النهاية موقوفة على من بيده وسائل التنفيذ . ولا شك أن مؤتمرا يحدث فيه ما يسميه الفقهاء بالإجماع هو الكفيل بهذا فالقضية تتطلب بالضبط ( إجماعا ) لا أخصائيين تتطلب حلا جماعيا , لا وجهة نظر فرد مهما كانت قيمتها .
والإجماع يكون إما بطريق مسايرة الظروف وإما بتسيير الظروف نفسها فأما الطريق الأول فهو الطريق الذي يتبعه العالم الإسلامي اليوم لا بالنسبة لمشكلة المرأة فحسب بل بالنسبة لكل مشاكله .
وأما الطريق الثاني فإنه يكون يدرس المشاكل وتعيين وسائل حلها فوسائل حل مشكلة المرأة يجب أن تقرر في مؤتمر عام , تصبح مقرراته دستورا لتطوير المرأة في العالم الإسلامي .
مشكلة الزي
إن التوازن الأخلاقي في مجتمع م منوط بمجموعة من العوامل الأدبية والمادية والملبس هو أحد تلك العوامل .
فالعباءة مثلا من الأشياء التي ورثتها لنا بيئة تميل بروحها إلى التنعم والهدوء .
ولقد كان هذا اللباس يناسب جميع طبقات الشعب في الماضي على تناقضها فكما أنه كان لباس الزاهد المتقرب إلى الله . ولباس الراعي المسكين فإنه قد كان لباس الأمراء المنهمكين في الملاذ والشهوات وذلك لأن قاسما مشتركا من الحياة الراكدة الهادئة كان يجمعهم .
ولكن هل تتصور العباءة على ظهر عامل الماكينة أو مصلحها أو على ظهر عامل المنجم في باطن الأرض ؟.
إن العالم الإسلامي على أبواب نهضة يدخل بها المصنع والمعمل وإن هذا كله ليدعوه إلى أن يساير ملبسه ذلك النشاط الجديد . فهذا شأن الأمم جميعا . فالشعب الياباني قد بدأ بتغيير ملبسه عندما دق بابه " كومودور بيري" قائد الأسطول الأمريكي عام 1868 , لأنه أدرك أن لا مناص له من الخروج من ذلك الطور العتق إلى الحضارة الحديثة.
وفهم أن ذلك يقتضيه التخلي عن عباءته الحريرية المسماة ( بالكيمونو) لكن يلبس ذلك اللباس الأزرق القطني الذي يناسب عامل الميكانيكا وليس اللباس من العوامل المادية التي تقر التوازن الأخلاقي في المجتمع فحسب بل إن له روحه الخاصة به وإذا كانوا يقولون : ( القميص لا يصنع القسيس ) فإني أري على العكس من ذلك فإن القميص يساهم فى تكوين القسيس إلى حد ما لأن اللباس يضفي على صاحبه روحه ومن المشاهد أنه عندما يلبس الشخص لباسا رياضيا فإنه يشعر بأن روحا رياضية تسري في جسده ولو كان ضعيف البنية وعندما يلبس لباس العجوز فإن أثر ذلك يظهر في مشيته وفي نفسه , ولو كان شابا قويا .
ولم يكن نزع الطربوش والاستعاضة عنه بالقبعة في تركيا الكمالية بالشئ البسيط فقد كان أتاتورك يعلم أن الطربوش جزء من الفكر العتيق فكر الباحثين عن السلوي وقتل الوقت أولئك الذين سئموا الحياة وباتوا يدخنون لأنفسهم بحياة الترجيلة ويتلهون بكركرتها عن كر دقائق الوقت , تسلية لأنفسهم بحياة تنابلة السلطان لقد كان من المحتم عليه أن يحطم ذلك الاستقرار المتحجر في أحلام دامت قرونا على شاطئ البوسفور , فكانت القبعة هي القنبلة التي انفجرت في ذلك المجتمع فحطمت أحلاه الخاوية وبددت عن أفقه دخان النرجيلة وطوت زرابية المبثوثة , التي كان يلقي عليها همته ونشاطه .
لقد كانت فكرة مصطفي إكمال التي دبرها قنبلة وإنما لم يتم تأثيرها لأن مصطفى كمال لم يفكر في الشروط الأخرى لنهضته.
ومهما يكن من أمر فإننا نري أن مشكلة موضع اعتبارات مهمة غير التي ذكرنا ونعني بها تلك التي تدفع غلى الاعتناء بالشكليات ومن المعلوم أن الملبس يسير مع أهله في تطور التاريخ وتبدل الأزمان فإننا نري الدول المتقدمة تغير أزياءها الرسمية حسب تغيرات التاريخ وخصوصا بعد انكبات الحربية فإذا ما شوهت هزيمة كرامة زي من الأزياء العسكرية , نري الدولة المهزومة كثيرا ما تقتبس أزياء الدولة المنتصرة وقد شاهدنا ذلك مثلا في الجيش الروسي بعد عام 1917 كما نشاهد اليوم في الجيش الفرنسي الذي اقتبس من الأزياء العسكرية الأمريكية ما يعرف بزي وصيره زيا له معروفا برمز ولقد يحدث هذا التشويه بسبب نكبات التاريخ في الملابس المدنية أيضا ومما يذكر في هذا الباب مالا حظه مستشرق كان قد ترجم للرحالة والمؤرخ الاجتماعي ( أبي الفداء ) الذي كان يدرس عادات وأخلاق قبائل الصقالية الأقاطنة على شواطئ ( الثوبي ) فقال المستشرق في شأنه :
( إن العرب كانوا يحبون إظهار عمائمهم في كل مكان ...)
وربما كانت هذه الملاحظة صائبة ولكن ليت شعري !! .. ماذا يفعل أبو الفداء بعمامته اليوم وقد فقدت عزها بعد صارت منذ قرون تاجا لأجيال جاهلة مستعبدة ؟.
أجيال من الباشوات والفراشين الذين تطوعوا في صفوف الاستعمار ؟
نعم . إنه لمن الغباوة أن ننكر اليوم مشكلة الزي المناسب لرجال النهضة ونسائها ولكننا نكون أكثر غباوة إذا ما استسلمنا في ذلك إلى التقليد البحث بلا التفات إلى مقتضيات أحوالنا من حيث دستور الجمال و وضيقنا الاقتصادي والقيام ببعض الواجبات كالصلاة مثلا .
الفنون الجميلة
تبرز أهمية الفن الجميل في أحد موقفين : فهو إما داع إلى الفضيلة وإما داع إلى الرذيلة فإذا ما حددت الأخلاق مثله وغذي الجمال وحيه فينبغي عليه أن يحدد هو وسائله وصوره الفنية للتأثير على الأنفس .
ويبرز خطر الفن عندما بشرع في تقرير هذه الوسائل التي تجعله مربيا أو مفسدا وذلك حسبما يختار من الصور والألحان – فالرقصة مثلا إما أن تكون قصيدة شعرية, أو قصيدة جنسية وهي على كل حال طريقة للطير في التقرب من أثناء وللرجل كذلك في شأنه مع المرأة. غير أن الرقصة تطورت عند الإنسان فأصبح فيها شئ من الشعر عن اليونان وشئ من التصوف في طقوس بعض الأديان وفي كل هذه التطورات نجد الأخلاق قد حددت أهدافها ومراميها وبقيت الوسيلة التي تعطي الرقصة صورتها الفنية فالتقرب من المرأة قد يكون بغزل شريف وقد يكون بغير ذلك ,والهدف واحد ومن المؤسف أن الرقصة عندنا قد أصبحت صورة جنسية فقط بينما هي قد اتخذت لها عند اليونان صورة شعرية وأصبحت في بلادنا أيضا مشوهة للذوق لأنها اتخذت وسيلتها إلى النفوس الغريزة الجنسية فقط فإذا ما فهمنا الفن على هذه الصورة فإننا نستطيع أن نوسع نطاقه حتي يشمل طريقة المشي في الشوارع وكيفية شرب الماء وكيفية التثاؤب في المجتمعات العامة عير أن المجال لا يتسع لكي تضم هذه السطور القليلة كل هذا كذلك فإننا نمتفي من الفن بمعناه الشائع أى بما هو معتبر من مظاهره العادية المنتشرة في البلاد الإسلامية اليوم كالموسيقي والإناء والسينما وغير ذلك .
وأحب أن أخص بالحديث الموسيقي والسينما الذين يعتبران وسيلتين مؤثرين من وسائل التهذيب الشعبي مؤثرتان لأنهما موحيتان !!..
إن أغلبية البلاد العربية تابعة لمصر في هاتين الناحيتين فالسؤال إذن هو : ما قيمة الموسيقي والسينما في مصر ؟..
لقد سمعنا ولا شك نحيب الأنوف والشهيق الذي يتكرر ألف مرة والذي يسمي بالموسيقي المصرية !!.
فهل هذا من الموسيقي ؟... هذه الأشياء التي تتجاهل بل تجهل المكان والزمان والفصول ؟..
إنها لا تذكرنا بشئ في الواقع بالحفيف الخفيف لربيع في الغاية ! يتساقط أوراق الخريف المحزن !!.. بالبهجة الحارة في الصيف !.
بهياج العاصفة في البحر !!. بدمدمة الرعد ! بالجحيم ! بالنعيم !..
أين العالم الذي تحدثنا عنه الموسيقي المصرية التي تجهل حق الخطوة العسكرية للجنود ؟... إنه ليس في السماء ... وليس في الأرض .... بل لا يوجد في أى مكان .
إن الموسيقي المصرية ليست فنا متصلا بقيم أو بأشياء , بل هي فن يتصل بالعدم إلا في بعض الأحوال الاستثنائية في الظروف الأخيرة .
فآ قيمة تربوية يمكن أن تعترف لها بها في هذا العالم ! عالمنا المكون من الزمان والمكان ومن النوائب أيضا ؟..
وهذا الفيلم المصري ماذا أفادنا ؟ وماذا أقترح علينا ؟ أنا لا أريد أن أعتقد بأن الشعب المصري قد تجرد من حاسة التفرقة بين الجد والهزل فكيف تنشأ فيه المهازل ! أو الأفلام ؟..
وأياما كان الأمر فإن البلاد العربية والإسلامية يجب أن تتحرر من هذا الغل الخلقي التهذيبي – وهو أخطر الأغلال – لكي تنقذ ذوقها الفني .
إننا نري أن للفن الجميل دخلا حتي في الصور التي تختار لأطفالنا الصغار في كتبهم المدرسية فلقد شاهدت صورة في كتاب مدرسي للأطفال يدرس في مصر ( قبل الثورة ) ويظهر فيه طفل ترافقه أخته هما ذاهبان إلى المدرسة ووراءهما خادم يحمل لهما حقيبتهما فهذه صورة تبعث في نفس الطفل روح الأتكال واحتقار العمل والعاملين : وهي تصور ما يناسب حاجة ( الباشوات ) الذين كان بيدهم قبل ناصية الأمر لا سواد الشعب .
ولا شك في أن مثل هذه الصور وسائل قتالة في وطن يحتاج إلى التهذيب لا في سلالة الباشوات ولكن في أبناء الشعب .
وقبل أن نفرغ من هذا الفصل نلفت النظر لمظهر آخر من مظاهر الحياة الفنية عندنا وذلك أننا لا نجمع في خدمتنا للفن بين الجهد والعبقرية كأن الكسل من ميزات الفن الجميل عندنا . وربما نعجب إذا سمعنا أن المقدرة والنبوغ في الفن هما نتيجة الكد الطويل والجهد المستمر , والعمل الثابت , والاجتهاد في البحث والانتقاد يقصد التحسين .
وليس من شك في أن الواهب الفطرية شرط واجب إلا أنها ليست الشرط الوحيد لأن المواهب وحدها وإن كانت تنير اسم الفنان إلا إنها – من غير كد وجهد – تحرقه وسرعان ما يصبح في ظلمات النسيان وهكذا كان شأن بعض فنانينا إنهم أضاءوا لحظة ثم انطفئوا إلى الأبد مع أنهم كانوا على جانب من المذاهب لو أنهم استخدموها في سبيل الفن لكانوا بين الخالدين .
وهذه الإشارة إلى وجوب التوفيق بين المواهب والمجهودات الشخصية في ميدان الفن الجميل , نراها تنطبق أيضا في ميدان الرياضة , حيث نري كثيرا من الرياضيين عندما يطلبون الكسب العاجل ولا يركنون إلى الجهد الطويل،فتذهب مواهبهم الغالية هباء منثورا.وعلى كل فأنه يلزمنا أن نقرن بين الموهبة والقدرة لنحصل على شئ يكون جديرا باسم الفن.
إن الفن الذي ليس إلا رياء كاذبا . وتصنعا مخلا لبعض الفنانين الذين يهملون مظهرهم مبالغة في البساطة ليظهروا أصالتهم الفنية هو من نفس المشرب الممثل في بعض شبابنا الرياضيين ,حين يبالغون في تعقيد مظهرهم بتقليد أبطال السينما في إطالة الشعر , واستخدام العطور والمساحيق أحيانا, بينما الرياضية تعني البساطة .
إن هذا ليس من روح الفنون بل هو من باب الجنون وواجبنا أن نضرب على أيدي أولئك المتبطلين فلا نسمح لهم بأن يشوهوا ذوقنا الفني باسم الفن , والفن منهم براء .
العنصر الثاني التراب
التراب أحمد العناصر الثلاثة التي تكون الحضارة فإذا ما توفر " المركب الديني " لهذه العناصر – كما أسلفنا – فإننا نري التراب في بلاد الإسلام جديرا يبحثه هنا كعامل من عوامل الحضارة .
ونحن حينما تتكلم عن التراب لا نبحث في خصائصه وطبيعته فما لهذا البحث وضع الكتاب ولكننا نتكلم عنه من حيث قيمته الاجتماعية , وهذه القيمة الاجتماعية للتراب مستمدة من قيمة مالكيه فحيثما تكون الأمة منحطة يكون التراب على مذهبها في الانحطاط .
وبمقياسنا نستطيع أن نقول : إن التراب في أرض الإسلام عموما على شئ من الانحطاط بسبب تأخر القوم الذين يعيشون عليه ذلك أن الأرض الزراعية في بعض البلاد كالجزائر مثلا بدأت تتقهقر رويدا أمام غزو الصحراء , فأكفان الرمال تمتد هناك حيث كان يوجد قطعان الماشية , والأرض الخضراء .
ولقد شاهدت الصحراء قبل عشر سنوات جنوب مدينة (تبسه) ولكنها اليوم قد أصبحت شمالها . وليس بمستبعد – إذا ما واصلت الصحراء هذا التقدم – أن تكون عاصمة البلاد بعد قرن أو قرنين واحة محفوفة بشئ من النخيل تحيط بها الرمال .
ونحن لا نري في هذا مجرد مشكلة بل نراها في الحقيقة مأساة دامية إذ تموت الأرض الخضراء عن أهلها , وتتركهم يتامي بين يدي الصحراء المقفرة وليس لهم من مطعم إلا بعض أشجار من النخيل وليس لهم مشرب إلا بقية مما ترك الشتاء من مطر هذا المصير الذي تنتظره أراضينا الخصبة يشبه إلى حد كبير مأساة ( برقة) التي اكتسحتها الرمال منذ ألف عام .
ولكن ماذا فعل سكان الأرض أمام هذا الغزو ؟....
إنهم وقفوا منه موقف الضعيف الجبان ! لقد فر ساكن البادية ذلك الرحالة الذي لم تبق له أرض يحرثها بين الصحراء التي تبدده وبين المدن الساحلية التي ترفضه أو تبتلعه حيث تجعل منه إنسانا منبوذا .
ولقد كان من آثار هذا الجدب الضارب في الأرض أن أصبحت رحلة القبائل في الشتاء والصيف مهددة بالانقراض ولسوف يكون في انقراضها انقراضا لرجل الفطرة الذي لم يستقر مصيره في البلاد .
وهكذا يذهب تراثنا الحيوي هباء.. إنه الهرب ... إنه التشتت .. إنه الموت !!! إن الوضع خطير ولكنه لا يدعونا إلى اليأس من إصلاح ما نحن فيه فإن علينا أن نوقف النزيف أولا وأن ننقذ الشعب من خطر الموت في أسماله دون أن يجد ما يسد به رمقه .
ونقطة الانطلاق في كل إصلاح اجتماعي هي أولا توفير القوت والملبس ثم نطرح القضية على بساط التخطيط.
وقد سبق أن بحثت هذه القضية من الناحية الزراعية بحثا كاملا متخصصا غير أننا نود أن نلفت النظر إلى وجه آخر فيها وذلك من حيث تأثير المناخ والأحوال الجوية وهي تخص على الأقل 80% من البلاد الإسلامية مثل باكستان والأناضول والأردن واليمن وغيرها ولكنا تجعل نقطة على بلاد الشمال الإفريقي التي تعرفها فعلي طول الخط الذي يمتد من جنوب باكستونستان إلى جنوب مراكش تتقدم الصحراء كل سنة والسبب في ذلك يعود بلا شك إلى الإقلال من الأشجار والغابات إقلالا بالغا , وبخاصة في الأعوام الأخيرة .
وانقراض الغابة في الشمال الأفريقي شئ له تاريخ قديم , يرجع إلى عهد الماهنة التي صيرت جنوب البلاد ( أرضا حريقا ) كما يقول أهل البلاد .
ومن ذلك العهد بدأ خط الصحراء يصعد من الجنوب إلى الشمال في كل سنة ويزدرد شيئا فشيئا الأراضي الصالحة للزراعة ليدفئها تحت الرمال .
وليست أرض البادية – في أصلها – إلا أرضا خضراء مخصبة حولتها الأيام إلى ما هي عليه الآن , وهي جادة في تخريبها حتي تبلغ المأساة منتهاها عندنا تتعذر الحياة فيها على الحيوان وعلى النبات .
وهذا التحول في الأرض الخصبة إلى الصحراء يؤدي إلى تحول في الحياة الاقتصادية فقد تتحول أولا حرفة البلاد من الزراعة إلى رعي الماشية ومن هذه إلى لا شئ. وإن هذا التطور الطبيعي ليفرض على الحياة البشرية أن تتبع هذه الدورة الجهنمية ونتيجة هذا التكيف تظهر في صورة حياة اجتماعية جديدة هي " الحياة النباتية ".
وإن الإنسان ليدرك هذا الطور حين لا يجد في يده من الوسائل ما يرد به غائلة الصحراء فيترك العمل حيث لم تعد له حاجات يطلب إشباعها .
لقد كانت بلاد الشمال الأفريقي قبل ألف سنة تحتوي على مساحات من الأشجار تبلغ سبعة من الهكتارات غير أننا نجدها اليوم فقد نقصت إلى الثلث تقريبا وهنا يكمن سر المأساة التي نعيشها اليوم حيث نجد الجو لا يكف عن أن يقترب يوما من الطقس الصحراوي القاري .
ولقد أصبحت القضية اليوم في طورها النهائي من الخطورة , لأنها أصبحت تمس كيان الفرد لا مصالحة فقط ومن المناسب ذكر بعض الأرقام توضيحا لخطورتها : فعلي سبيل المثال انخفض عدد السكان في منطقة جنوب قسنطينة وهي ( تبسة) منذ عام 1939 إلى الآن من مائة وثمانين ألفا إلى أربعين ألفا تقريبا بينما المواشي التي كانت مورد الإقليم الوحيد نجدها اليوم على وشك الانقراض .
وظاهر أن سبب الأزمة جوي ناشئ عن قلة المطر وهي تتسبب في جفاف القشرة الخصبة من الأرض فتذروها الرياح , وتكفنها المال .. وهكذا تولد الصحراء في مهد الأرض الخصبة .
وبدهي أنه لا حل لهذه الأزمة غير الشجرة ولا يمنع ذلك أن يكون ثمة حل آخر ولكنه في أيدي علماء الدول المتمدينة أولئك الذين يستعملون علومهم لتخريب الأرض لا لتعميرها فمن اليسير عليهم أن تحل تلك المشكلة حلا علميا باستعمال الطاقة الكامنة في الذرة إذ أن كل جرام من المادة يحوي آلاف المليارات من الوحدات الحرارية.
فلو أن هذه القوة استعملت في تبخير ماء البحر بدلا ممن أن تصرف في تبخير الجنس البشري وتدمير أرضه إذن لحلت قضيتنا بواسطة الأمطار الصناعية.
ولكن ذلك بعيد عن أذهانهم فإن سمة المدينة التي ينتسبون إليها تتطلب منهم ذلك التدمير فلم يبق لنا إذن إلا أن نلتفت إلى الشجرة غير أنه لن يتحقق لنا مثل ذلك النصر على الصحراء إلا إذا انتصرنا على أنفسنا الخاملة الكسول لأن القضية لا تتطلب شجرة واحدة بل مئات الملايين .
وبالأحرى فإن القضية لا تهم الجزائر وحدها بل الكتلة الطبيعية التي تكونها جبال الأطلس والبحر المتوسط أى أفريقيا الشمالية كلها .
فالمشكلة واحدة لا تتجزأ من قابس إلى أغادير.
ولعل هذا يتطلب منا خدمة شاقة ولكن لنا في دول أخري أسوة حسنة فإنها قد تعرضت لمثل هذه المحن فواجهتها بكفاح وعبقرية .
ففرنا حوالي عام 1850 قامت بغرس الأشجار في الناحية الجنوبية الغربية من بلادها حيث كانت رمال الشاطئ الأطلنطي والمستنقعات الضارة تهدد أراضيها لقد وقف سكان تلك المنطقة بهمة وصبر , يوقفون الرمال عند حدها وتكبدوا في سبيل ذلك ما تكبدوا وقضوا عشرين سنة يسدون الطريق على الرمال من مدينة ( بوردو) إلى مدينة ( بيارتيز).
لقد انتصروا على الرمال التي أرادوا صدها وكانت نتيجة انتصارهم أبعد مما كانوا يتوقعون .
فقد كانت تلك المنطقة أفقر المناطق وأخطرها على الصحة في فرنسا فأصبحت بما تمتعت به من الأشجار الكثيرة ذات حركة اقتصادية ممتازة إذ أصبحت أول منتج في العالم لزيت ( التريبنتين) المستخرج من تلك الأشجار وأصبحت ملجأ صحيا للمرضي من جميع أنحاء العالم .
ولن يعيينا أن نضرب أمثلة من جميع أنحاء العالم للتدليل على ذلك الانتصار الباهر الذي سجله الإنسان على عوامل الطبيعة , وذلك باستعماله العدة الثلاثية الدائمة : الإنسان والتراب والوقت ويمكن أن نذكر – لولا الإطالة – المعجزات التي قامت بها روسيا في هذا الميدان وكذلك هولندا التي يعتبر أكثر من ثلث بلادها مصنوعا .
ومهما يكن من بدائية وسائلنا فإن علينا أن نعمل فالعمل لازم لزوم دراسة طبيعة الأرض والمناخ فمثلا غرس الأشجار في الأرض الصخرية ضرب من العبث في أول الأمر إذ يجب أولا أن نبدأ بزراعة الشواطئ القريبة من البحار والتي لا يزال فيها بقية من استعداد لأن تستصلح بغرس الأشجار , ويكون ذلك بإنشاء مراكز فنية في مناطق معينة ينطلق منها ( التشجير ) إلى داخل البلاد .
هذا من الناحية الفنية أما من الناحية النفسية فإن يلزمنا أن تصبح الشجرة رمز رجل البلاد المهددة بالرمال في إرادته للبقاء بل ليكن لنا يوم للشجرة يكون عيدا يتمثل فيه كفاحنا ضد الرمل الذي نري خطره اليوم في غالب بلاد العروبة والإسلام .
ولن نستطيع انتشال ذريتنا القادمة إلا بالعمل الشاق الذي يقوم به جيلا الحاضر وعندما تحقق تلك المعجزة التي تكون بانتصارنا أنفسنا وعلى أهوال الطبيعة فإننا سوف نري أى رسالة في التاريخ نحن منتدبون إليها لأننا نكون في حياة جديدة ابتدأت بالجهود الجماعية بدل الجهود الفردية ولسوف تظهر أمامنا بعد أعمال جليلة خطيرة ولكنها سوف لا تخيفنا لأن شعبا أخضع التراب ومهد فيه لحضارته لم يعد شعبا نوائب الزمن .
العنصر الثالث الوقت
" ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي : يا ابن آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد فاغتنم مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة ..." حديث شريف
" الوقت نهر قديم يعبر العالم منذ الأزل ".
فه يمر خلال المدن , يغذي نشاطها بطاقته الأبدية أو يدلل نومها بأنشودة الساعات التي تذهب هباء وهو يتدفق على السواء في مجال كل شعب وكل فرد , بفيض من الساعات اليومية التي لا تغيص ولكنه في مجال ما يصيره " ثروة " وفي مجال آخر يتحول عدما . فهو يمرق خلال الحياة ويصب في التاريخ تلك القيم التي منحها له ما انجز فيه من أعمال .
ولكنه نهر صامت حتي إننا ننساه أحيانا وفي ساعات الغفلة أو نشوه الحظ تنسي الحضارات أحيانا قيمته التي لا تعوض .
ومع ذلك ففي ساعات الخطر في التاريخ تمتزج قيمة الوقت بغريزة المحافظة على النفس إذا استيقظت ففي هذه الساعات التي تحدث فيها انتفاضات الشعوب لا يقوم الوقت بالمال منا ينتفي عنه معني العدم إنه يصبح جوهر الحياة الذي لا يقدر .
وحينما لا يكون الوقت من أجل الإثراء أو تحصيل النعم الفانية أعني حينما يكون لازما لتحقيق الخلود والانتصار على الأخطار يسمع الناس فجأة صوت الساعات الهاربة ويدركون قيمتها التي لا تعوض ففي هذه الساعات لا تهم الناس الثروة أو السعادة أو الألم , وإنما الساعات نفسها فيتحدثون عن " ساعات العمل " أعني العملة الوحيدة المطلقة التي لا تبطل ولا تسترد إذ ضاعت إن العملة الذهبية يمكن أن تضيع, وأن يجدها المرء بعد ضياعها ولكن لا تستطيع أى قوة في العالم أن تحطم دقيقة ولا أن تستعيدها إذا مضت .
وحظ الشعب العربي الإسلامي من الساعات كحظ أى شعب متحضر ولكن ... عندما يدق الناقوس مناديا الرجال , والنساء , والأطفال إلى مجالات عملهم في البلاد المتحضرة ... أين يذهب الشعب الإسلامي ؟
تلك هي المسألة المؤلمة .... فنحن في العالم الإسلامي نعرف شيئا يسمي " المدة " ... ولكنها المدة التي تنتهي إلى عدم لأننا لا ندرك معناها ولا تجزئتها الفنية . ولسنا نعرف إلى الآن فكرة " الزمن " الذي يتصل اتصالا وثيقا بالتاريخ , مع أن فلكيا عربيا مسلما هو " أبو الحسن المراكشي " يعتبر أول من أدرك هذه الفكرة الوثيقة الصلة بنهضة العلم المادي في عصرنا وبتحديد فكرة الزمن يتحدد معني التأثير والإنتاج وهو معني الحياة الحاضرة الذي ينقصنا .
هذا المعني الذي لم نكسبه بعد هو مفهوم الوقت الداخل في تكوين الفكرة والنشاط في تكوين المعاني والأشياء .
فالحياة والتاريخ الخاضعان للتوقيت كانا وما يزال يفوتنا قطارهما فنحن في حاجة ملحة إلى توقيت دقيق وخطوات واسعة لكي نعوض تأخرنا .
وإنما يكون ذلك بتحديد المنطقة التي ترويها ساعة معينة من الساعات الأربع والعشرين التي تمر على أرضنا يوميا .
إن وقتنا الزاحف صوب التاريخ لا يجب أن يضيع هباء كما يهرب الماء من ساقية خربة ولا شك أن التربية هي الوسيلة الضرورية التي تعلم الشعب العربي الإسلامي تماما قيمة هذا الأمر ولكن بأي وسيلة تربوية ؟... إن من الصعب أن يسمع شعب ثرثار الصوت الصامت لخطي الوقت الهارب...!!
ومع ذلك فكل علم له مرحلة التجريبية التي تتصف بالاحتمال والمحاولة وهما يسبقان ضرورة الفكرة الواضحة التي يستخلصها العقل في المرحلة التالية فينبغي أن نحدد التجربة المطابقة لمقتضي الحال كي نعلم " المسلم " علم الوقت فنعلم الطفل والمرأة والرجل تخصيص نصف ساعة يوميا لأداء واجب معين فإذا خصص كل فرد هذا الجزء من يومه في تنفيذ مهمة لمصلحة الحياة الإسلامية في جميع أشكالها العقلية والخفية والفنية والاقتصادية والمنزلية .
وسيثبت هذا ( النصف ساعة ) عمليا فكرة الزمن في العقل الإسلامي فإذا استغل الوقت هكذا فلم يضع سدي ولم يمر كسولا في حقلنا فسترتفع كمية حصادنا العقلي واليدوي والروحي وهذه هي الحضارة .
ولابد لنا في خاتمة هذا الفصل أن نورد تجربة قريبة منا وواقعة تحت أنظارنا , وهي أيضا في متناول المقاييس العملية هذه التجربة هي ما حدث في ألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية تلك الحرب التي خلفت وراءها ألمانيا عام 1945 قاعا صفصفا حطمت فيها كل جبها الإنتاج ولم تبق لها من شئ تقيم على أساسه بناء نهضتها وفوق ذلك فقد تركتها لتصرف شئونها تحت احتلال أربع دول فلما بدأ النشاط يسري في نفس الشعب الألماني في مستهل سنة 1948 كان ساعتئذ في نقطة الصفر من حيث المقومات الاقتصادية الموجودة لديه .
واليوم وبعد عشر سنوات تقريبا نري معرض ألمانيا يفتح أبوابه بالقاهرة في شهر مارس 1957 فتذهلنا المعجزة إذ ينبعث شعب من الموت والدمار وينشئ الصناعات الضخمة التي شهدناها .
ولو أننا حللنا تلك المعجزة لوجدنا فيها عوامل شتي لا سبيل إلى إنكارها من بينها الاقتصادي في الجهاز الإداري وفي التكليف الإدارية فقد أصبح كثير من أعمال الحكومة يقوم به أفراد الشعب كواجب عليهم ولكن العامل المهم من هذه العوامل جمعيها هو : الوقت .
فقد فرضت الحكومة عام 1948 على الشعب الألماني كله , نساء وأطفالا ورجالا التطوع يوميا ساعتين يؤديها كل فرد زيادة على عمله اليومي وبالمجان من أجل الصالح العام فقط .
ولقد سمي هذا التجنيد العام وهو العمل للمصلحة العامة فهذه المعجزة الاجتماعية التي أتت بها ألمانيا قد كان للوقت في إخراجها حظ موفور ويمكننا أن ندرك قيمة الوقت مباشرة في عودة في عودة الحياة الاجتماعية والاقتصادية لشعب لم يبق لديه من الوسائل إثر الحرب الثانية إلا العناصر الثلاثة : الإنسان والتراب والوقت .
وهنالك حيث تهدد الصحراء وجودنا وحيث لا نملك في أيدينا سوي هذه العناصر الثلاثة سيري العالم ازدهار حياتنا من جديد هنالك حيث يخيم الجهل والفقر سيشهد الناس سيطرة الصناعة والفن والعلم والرفاهية .
الاستعمار والشعوب المستعمرة
المعامل الاستعماري
لا شك أن بحثنا سوف يكون معرضا لانتقاد محق إذا نحن تغافلنا عن تأثير المعامل الاستعماري واتصاله بنهضة البلاد العربية والإسلامية اتصالا وثيقا غير أنه يجب أن نتحدث عن هذا المعامل من ناحيته الفنية :
فللفرد بصفته عامل أوليا للمدينة قيمتان الأولي منهما خام والأخرى صناعة أو : الأولي منهما طبيعية والأخرى اجتماعية .
أما القيمة الأولي فهي موجودة في كل فرد من الأفراد في تكوينه البيولوجي وتتمثل في استعداده الفطري لاستعمال عبقريته وترابه ووقته .
وإذا نظرنا إلى المسلم الجزائري مثلا من هذه الزاوية فإننا نراه مزودا من ذلك بأطيب زاد فإن التاريخ يشهد بكفاءته وعبقريته في هذا الشأن إذ أنه سطر من مظاهر هذه العبقرية كثيرا ما بين عهد القديس أغوستين البوني إلى عهد ابن خلدون .
وأما القيمة الثانية وهي القيمة الصناعية فإنه يكتسبها من وسطه الاجتماعي وهي تتمثل في الوسائل والمسيرات التي يجدها الفرد في إطاره الاجتماعي لترقية شخصيته وتنمية مواهبه وتهذيبها ووظيفة الهيئة الاجتماعية إما تتمثل في الواقع في هذه الترقية أو التنمية . فإنها تصنع للإنسان ما يمده في رفع مستواه من مدرسة أو مستشفي ومن إدارة تسهر على مصلحته الخ ... ومن هنا تبدأ قضية الاستعمار تهمنا حيث إنه يفرض على حياة الفرد عاملا سلبيا نسميه بالمصطلح الرياضي ( المعامل ) الاستعماري وإن ذلك المعامل له تاريخه في سياسة الاستعمار فقد كان القائد الفرنسي " بوجو" وهو في عهد الاحتلال الصورة المقابلة لصوره الأمير عبد القادر – أول فرنسي أدرك حقيقة الشعب الجزائري وما ينطوي عليه من عبقرية فذة إدراكا وضع بمقتضاه الطريقة المناسبة لاستقرار الاستعمار .
وقد وضعها أساسا لتخطيط سياسته الفرنسية التي كانت في نظره تحتاج إلى معمرين يتكافئون مع قيمة الأهالي الطبيعية لذلك فإن شهادته بتلك الحقيقة لم تكن تخلو من النظر السياسي إذ كان يريد اختيار معمرين تساوي قيمتهم قيمة الشعب الجزائري المستعمر .
ولئن كانت شهادة الجنرال المذكور من قبيل الاعتراف بمزايا الخصم .
ذلك الاعتراف الذي يحمل في طياته بقية الخلق الفرنسي القديم فإن تلك الشهادة قد أصبحت اليوم هي الموحية لسياسة التهديم في جوهر الفرد الجزائري ومحو عبقريته , ولقد ظهرت طلائع هذه السياسة غداة الهزيمة التي أصابت فرنسا عام سنة 1870 فانتقضت من هيبتها .
وبدلا من أن يدفعها شعورها بالنقص إلى الرفع من قيمة شعبها فإنها رغبة منها في إقرار التوازن بين المعمرين والمستعمرين قد عمدت إلى الانتقاص من قيمة هؤلاء الآخرين وتحطيم قواهم الكامنة فيهم فمنذ ذلك الحين بدأ الحط من قيمة الأهالي ينفذ بطرق فنية كائنة معامل جبري وضع أمام قيمة كل فرد بقصد التنقيص من قيمته الإيجابية ولقد رأينا هذا ( المعامل ) يؤثر في حياة الفرد في جميع أطوارها يؤثر فيه وهو طفل إذ لا يمده المجتمع بما يقوي جسده وينمي فكره أو يهيئ له مدرسة أو توجيها هذا إذا كان له أب يحنو عليه أما إذا فقد من نشأته الأب فسيكون الأمر أدهي وأمر ولسوف يؤول صاغرا إلى ماسح أحذية أو وسائل يتخلي عن كل عزة وكرامة ب إراقة ماء وجهه. فإذا ما كتبت له النجاه من كل هذه النكبات وهيئت له الأسباب لأن يجد مقعدا في مدرسة ... فكم من العراقيل توضع في طريقه ... يمتحنون بلا إنصاف , وحكام بلا شفقة ومستخدمون بلا ضمير ... وأخيرا فكم يلاقي ذلك الفتي المسلم في سبيل الحصول على وظيفة حقيرة, وإذا ما بلغ مبلغ الرجال ماذا يعمل ؟ فالشراء والبيع والسفر والكلام والكتابة والتليفون وكل الأعمال التي تقوم عليها حياته الاجتماعية لا تنالها يداه إلا بشق الأنفس ومن خلال شبكة دقيقة مسمومة من الحقاد تسلبه كل وسيلة لإقامة حياته وتنشر من حوله الأفكار المحطمة لقيمته والمعرقلة لمصالحة ينسجها خبث المستعمر الداهية وبدهي أنه في حالته هذه لا سبيل له الآن يقوم بأعماله إلا بالقدر الذي يقدره بالاستعمار له . فهو يعيش كأن يدا خفية وتارة مرئية تشتت معالم طريقه وتقصي باستمرار أمامه العلامة التي تحدد هدفه فلا يدره أبدأ .
نعم هناك واقع استعماري هو ذلك المعامل الاستعماري لقد تكلم البعض في شأن هذا المعامل بلسان السياسة فطالبوا بالحقوق التي هضمها الاستعمار وأغفلوا الواجبات وأصبح هذا الكلام من أروع مظاهر المأساة التي يعانيها الجنس البشري في عصرنا وتكلم عنه آخرون بلسان الواجبات كغاندي ففاز بحقوقه كاملة وكأنها نظرة قرآنية غير منتظرة عند ذلك المصلح البرهمي .
أما هنا فنحن نريد أن نبحثه بحثا علميا في بلادنا ولكي نتبع المقياس الصحيح في درس الاستعمار فإنه يلزمنا أن نراه في أعماق التاريخ وأن نوسع نطاق البحث فيه لأنه ليس بالشئ الذي يخص علاقات الجزائر بفرنسا فحسب ولكنه يهم بصفة عامة علاقات الحضارة الغربية نكسة في التاريخ الإنساني لأننا إذا بحثنا عنه فسنجد أصوله تعود إلى روما حيث المدنية الرومانية وقد أعقبه العهد الإسلامي الذي كان في الواقع تجربة من نوع جديد في تاريخ علاقات الشعوب فنحن لا نري الحكم الإسلامي قد استعمر بما في هذه الكلمة من معني مادي منحط بل كان فتحه للبلاد كجنوب فرنسا وأسبانيا وأفريقيا الشمالية لا لاستغلالها ولكن ليضمها للحضارة الإسلامية في الشام أو العراق وليس لأحد أن ينكر هذه الحقيقة محتجا بأن انعدام التفرقة السياسية إنما يعود إلى أن شعوبه كانت متوحدة في الدين فإن الواقع التاريخي يشهد وأقباط مصر ويهودها يشهدون بأن الإسلام لم يكن يعم البلاد كدين وإنما كحضارة وقد وجدنا القسيس ( هربرت) يتعلم العلوم الإسلامية ثم يرقي عرش الباباويه باسم البابا سلفستر الثاني فيصبح المحرك الأول للحرب الصليبية الأولي نعم ما كان لذلك أن يحدث لولا أن الإسلام قد جاء بعهد جديد في تاريخ العلاقات بين الشعوب .
ومن سوء حظ الإنسانية أن نسيت أوروبا أو تناست هذه التجربة اليوم .
ولا عجب فإن الواقع كما لاحظه ( جوستاف لوبون ) هو أن جميع الوسائل قد اتخذت نحو الحضارة الإسلامية من سجل التاريخ من أجل ذلك زور الكتاب الغربيون التاريخ حتي ظهر في عيون من أخذ عنهم أن التاريخ البشري ليس تلك السلسلة التي تتصل فيها جهود الأجيال وإنما المدنية في نظرهم تلك المسافة المختزلة التي تبتدئ من ( الأكروبول) في أثينا وتنتهي عند قصر ( شايو) بباريس أو أكثر من ذلك بقليل لقد تظهر هذه الخرافة علمية في أعين قوم من أعلام المثقفين في أوربا حتي إنه لتعلوهم الدهشة إذا ما كشف لهم المحدث عن وهم هذه المسافة التي رأوا في متدئها ابتداء للمدينة وفي منتهاها انتهاء لها ولو أنهم دققوا النظر لوجدوا هوة كبيرة تفصل حضارة أرسطو وحضارة ديكارت وأن تلك الهوة من القرون هي الحضارة الإسلامية وإني لأذكر يوما دهش فيه محدث لى بينت له زيف معلوماته التاريخية وأوضحت له هذه الحقيقة التي كانت همزة الوصل في التاريخ الإنساني بين حضارة باريس وأثينا .
غير أن المدينة الحاضرة تخطت الحضارة الإسلامية التي تحمل رسالة الإنسانية لتأخذ من الحضارة الرومانية روحها الاستعمارية والمعمرون أنفسهم يعترفون بذلك من حيث لا يشعرون إذ نسمعهم صباح مساء يردون أعمالهم إلى عبقرية الرومان ومن هنا نري أن الاستعمار قد رجع بالإنسانية في التاريخ ألف عام أى إلى ما قبل المدينة الإسلامية ولكن ذلك لا يدفعنا إلى أن نحسبه شرا كله بل إن خيرا قد حققه الله على يديه من حيث لا يدري فلئن كان بطشه انتقاما فإن في طياته رحمة ولنتأمل .. ما الذي بعث العالم الإسلامي من نومه قرونا , من الذي أيقظه من خمسين سنة تقريبا ؟ من الذي قال له قم !! إنه الاستعمار نعم أنه قد خلع علينا بابنا , وزعزع دارنا وسلب منا أشياء ثمينة . لقد أخذ من حريتنا وسيادتنا وكرامتنا وكتبنا المنسية وجواهر عروشنا وأرائكها الناعمة التي كنا نود أن لو بقينا عليها نائمين !...
ولكن إذا كان هذا هو الواقع الاستعماري فيجب أن نعترف بأنه أيقظ الشعب الذي استسلم لنوم عميق بعد الغداء الدسم الذي أكله عندما كان يرفل في نعم حضارته والتاريخ قد عودنا أن كل شعب يستسلم للنوم فإن الله يبعث عليه سوطا يوقظه على أن الذي نلاحظه في العبقرية الرومانية إنما هو الروح القيصرية بينما نلاحظ في الإسلام روح الإنسانية .
وللإنسان أن تختار بين هاتين القيادتين في مستقبلها الذي لابد فيه من يقظات أخري لشعوب نائمة ومن تداول مستمر لتلك القيادة .
فأما أن يكون مستقبلها نوما تغط فيه ولا تستطيع النهوض من شرق فجر جديد فتعجز عن تجديد حضارة لا تحمل طابعا خاصا من شعب متكبر يسوم الإنسانية سوء العذاب من غير ما ضمير يردع ولا قانون يمنع وإما أن تأتي بحضارة تكون للبشر جميعا : تستخدم مواهبهم المتنوعة وتطور قواهم المتعددة وفي هذين الاحتمالين عقدة عصرنا الحاضر وإن تلك العقدة بيد ( الكبار ) فهل هم يريدون حلها لصالح الإنسانية ؟ ومهما يكون من أمر فإن واجبنا نحن ( غير الكبار ) أن نتحدث في الأشياء التي تخصنا ومنها ذلك المعامل الاستعماري الذي يعمل في حياة الفرد ضد مصيره وضد ضميره .
وإن الواجب يقضي على كل ( غير كبير)( أن يشعر بما تنطوي عليه شخصيه من قيمة جوهرية هي تراثه الخاص الذي لا سلطان لأحد عليه فكما أنه ليس للاستعمار أن يتصرف في الزمان والمكان فكذلك لا يستطيع أن يتحكم في عبقرية الإنسان .
ولئن كان له من السلطان السياسي ما يهدم مجتمع الفرد ويزيف قيمته الاجتماعية فإن قيمته الجوهرية التي تشتمل على شروط بسيطة لازمة لاجتياز مرحلة العسرة من حياته تقصر عنها يد المستعمر وما دامت القيم الجوهرية الثلاثة الإنسان والتراب والوقت وهي الزاد وقت العسرة ) في يد شعب يشعر بها حينما ينهض من النوم , فإن ذلك الشعب بلا شك يمسك بيده مفتاح الأقدار وربما تصادفه عراقيل أو يعثر مرات كثيرة , أو يفقد الأدوات المساعدة في طريقه ولكن هيهات أن ينتكس يعود إلى الانحطاط إذا ما تصرف في إمكانياته تصرف الرشيد .
وأخيرا فإن المعامل الاستعماري في الواقع يخدع الضعفاء ويخلق في نفوسهم رهبة ووهما ويشلهم عن مواجهته بكل قوة وإن هذا الوهم ليتعدي أثره إلى المستعمرين أنفسهم فيغريهم بالشعوب الضعيفة ويزين لهم احتيالهم إذ يحاولن إطفاء نور النهار على الشعوب المتيقظة ويدقون ساعات الليل عند غرة الفجر لترجع إلى العبودية والنوم .
ولكن مهما سمعنا تلك الدقات الخادعة تلح في إفهامنا فإننا لن نعود إلى النوم فقد أصبحنا والحمد لله ولا رجعة إلى الظلام مهما حاول الاستعمار إنه النهار .... النهار ..
معامل القابلية للاستعمار
تبين لنا من الفصل السابق كيف يحرف الاستعمار منهجيا معادلة الفرد المستعمر باستخدام أنواع من العراقيل متعددة يصادفها الفرد في طريقه .
وعرفنا كيف يؤثر المعامل الاستعماري لتضييق نشاط الحياة في البلاد المستعمرة حتي تكون مصبوبة في قالب ضيق يهيئه الاستعمار في كل جزئية من جزئياته خوفا من أن تتيح الحياة المطلقة لمواهب الإنسان أن تأخذ مجراها الطبيعي إلى النبوغ والعبقرية .
على أنه من الناحية الجدلية هذا الاعتبار خارجي بكيفية ما لأنه يرينا كيف يؤثر الاستعمار على الفرد من الخارج ليخلق منه نموذج الكائن المغلوب على أمره والذي يسميه المستعمر في لغته ( الأهلي ) .
ونحن في هذا الفصل نريد أن نتعرض لمعامل آخر ينبعث من الحدود الضيقة التي رسمها الاستعمار وحدد له فيها حركاته وأفكاره وحياته .
فنري أولا هذا الرجل يقبل اسم ( الأهلي ) يوم استأهل لكل ما ترمي إليه المقاصد الاستعمارية من تقليل قيمته من كل ناحية حتي ناحية اسمه.
ومما يلاحظ أنه منذ سنين قليلة كان هذا الرجل يحمل هذا الاسم كرايته , وكانت الجرائد تعنون صحفها وكنا نسمع هذه الكلمة تتردد في خطب الطبقة المثقفة ( الأهلية ) ونقرؤها في مقالاتها وإذا لم تكن شاهدنا خصيانا يلقبون أنفسهم ( بالخصي) فإننا فقد شاهدنا مرارا مثقفين جزائريين يطلقون على أنفسهم ( الأهلي ) ومعني ذلك أننا قد أخذنا أنفسنا بالمقياس الذي تقبسنا به إدارة الشئون الاستعمارية ".
إن المستعمر يريد منا بطالة يحصل من ورائها يدا عاملة بثمن بخس فيجد منا متقاعدين بينما الأعمال جدية تترقب منا الهمة والنشاط .
وهو يريد منا جهلة يستغلهم فيجدنا نقاوم ذلك الجهد البسيط المبذول عندنا ضد الأمية وهو جهد " جمعية العلماء " .
وهو يريد منا انحطاطا في الأخلاق كي تشيع الرذيلة بيننا تلك الرزيلة التي تكون نفسية رجل " القلة" فيجدنا أسرع إلى محاربة الفضيلة التي يحاول نشرها العلماء في بلادنا وهو يريد تشتيت مجتمعنا وتفريق أفراده شيعا وأحزابا حتي يحل بهم الفشل في الناحية الأدبية كما هو فاشلون في الناحية الاجتماعية فيجدنا متفرقين بالسياسات الانتخابية التي نصرف في سبيلها ما لدينا من مال وحكمة وهو يريد منا أن نكون أفرادا تغمرهم الأوساخ ويظهر في تصرفاتهم الذوق القبيح حتي نكون قطيعا محتقرا يسلم للأوساخ والمخازي .
وبذلك تكون العلة مزدوجة فكلما شعرنا بداء المعامل الاستعماري الذي يعترينا من الخارج فإننا نري في الوقت نفسه معاملا باطنيا يستجيب للمعامل الخارجي ويحط من كرامتنا بأيدينا .
وربما لم نكن لنفقه لهذا الداء الباطني معناه الاجتماعي لولا أن الفئة اليهودية في الجزائر قد لقنتنا درسا فقد رأينا كيف أن اليهود أثناء الحرب الماضية كانوا يعيشون ساعات شديدة من الاضطهاد فقد كانت الدوائر الحكومية تحكمهم بقوانين قاسية تنغص عليهم حياتهم في كل ميدان .
كان أبناؤهم ينبذون من دور التعليم وتجارتهم تعرقل بمختلف القوانين وكانوا في هذه الحقبة على وشك أن تصيبهم العوامل التقليدية التي قللت من قيمتنا نحن المسلمين غير أنه سرعان ما قام اليهود برد الفعل .
فتكونت مدرسة سرية في كل بيت من بيوتهم يدرس فيها أساتذة متطوعون فيهم المهندس والطبيب والمحامي يتطوعون بلا ثمن ( وبلا رخصة ) وقد عمروا معابدهم أكثر من ذي قبل في حين أن أعمالهم التجارية قد استرسلت في نشاطها أحسن وأقوي من الماضي بفضل تعاضدهم في الضراء على مبدأ ( الجميع للفرد والفرد للجميع )
وهكذا أتيح لليهود أن يجتازوا ساعات الخطر ساعين منتصرين رغم ما كانوا يعانون من معوقات خارجية سلطت على حياتهم في كل جزئياتها.
ونقد كان نجاحهم منطقيا فإن أنفسهم لم تكن معلولة من باطنها ولم يكن من معوق داخلي يمسكهم عن التقدم ويحط من قيمة أنفسهم بأنفسهم .
وإننا لنجد في نجاحهم المثل لانتصار الفرد على البيئة مهما كانت ظروف حياته وإن لنا ذي ذلك درسا يعلمنا كيف يتعلم الأطفال بلا مدارس مفتوحة وكيف تنشط حياة قوم تحت الضغط والمراقبة وهكذا يؤدي القيام بالواجبات إلى كسب الحقوق إن القضية عندنا منوطة أولا بتخلصنا مما يستغله الاستعمار في أنفسنا من استعداد لخدمته من حيث نشعر أولا نشعر وما دام له سلطة خفية على توجيه الطاقة الاجتماعية عندنا وتبديدها وتشتيتها على أيدينا فلا رجاء في استقلال ولا أمل في حرية مهما كانت الأوضاع السياسية وقد قال أحد المصلحين أخرجوا المستعمر من أنفسكم يخرج من أرضكم "
إن الاستعمار لا ينصرف في طاقتنا الاجتماعية إلا لأنه درس أوضاعنا النفسية دراسية عميقة وأدرك منها موطن الضعف فسخرنا لما يريد كصواريخ موجهة يصيب بها من يشاء فنحن لا نتصور إلى أى حد يحتال لكي يجعل منا أبواقا يتحدث فيها وأقلاما يكتب بها , إنه يسخرنا وأقلامنا لأغراضه يسخرنا له بعمله وجهلنا .
والحق أننا لم ندرس بعد الاستعمار دراسة علمية كما درسنا هو حتي أصبح يتصرف في بعض مواقفنا الوطنية وحتي الدينية من حيث نشعر أو لا نشعر .إننا أمام قصة خطيرة وجديرة بدراسة خاصة ولسوف ندرسها يوما ما إن شاء الله .
مشكلة التكيف
إن الحياة الاجتماعية تخضع لقانون ( رد الفعل ) كما تخضع له الميكانيكا وبما أن الاستعمار في نوعه هو " فعل " المدنية الحاضرة تسلطت به على الشعوب المستعمرة فلا غرابة إذن أن يكون لذلك الفعل في تلك الشعوب " رد"
وإننا اليوم لنري هذا " الرد باديا في صور مختلفة من حياة العالم الإسلامي وحري بنا أن نطلق على ذلك " الرد" الإسم الاصطلاحي الذي يعطينا له مدلولا أوضح.
فمن المعلوم أن علم ( البيولوجي) وعلم الاجتماع يعرفان هذا " الرد " بأنه ( اتجاه الفرد ونزوعه إلى التكيف مع الوسط الذي يعيش فيه ) ونعلم أيضا أن من قوانين التكيف " غريزة التشبه والاقتداء ".
وبالفعل فإن أشكالا جديدة من السلوك بدأتنا نراها في الجزائر مثلا وهي ليست من عاداتنا وهي موجودة في سائر بلاد العروبة والإسلام .
فمن تلك الأشكال : تلك الأوضاع المثيرة التي تتخذها الفتاة الكي تلفت إليها الأنظار وتخفق لها القلوب وذلك الشاب ذو الشعر الطويل الذي يتحاشي النطق بالراء فينطقها ( غينا ) ولو أننا حللنا حياة مجتمعنا لوجدنا فيه ألوانا جديدة تدلا جملتها على نزعات متباينة واستعدادات فردية متنافرة في مجتمع فقد توازنه القديم ويبحث الآن عن توازن جديد .
ولقد غرس هذا التطور في حياتنا عددا من المتناقضات في أشياء مضحكة أحيانا ومبكية أخري . فأب كريم ينتحر أثر موبقة ارتكبتها ابنته التي كانت تتعلم فلم تعرف كيف تتشبه بالفتاة الأوروبية المتعلمة .
نعم إن مجتمعنا قد فقد توازنه القديم وهو لا يزال يتذبذب ولا يعرف له قرارا حتي اليوم وإننا لنشاهد عدم الاستقرار هذا في أنفسنا وفي تصوراتنا للأشياء حين تختلف باختلاف الناظرين إليها .
فهناك نظرة ذلك الشاب الذي يتغذي بثقافة ضيقة قانعة بضيقها فهو يري أن سعادة البشر قد ابتدأت مع القرن التاسع عشر بانتشار ما يسمي بالأفكار التحررية .
وهناك من يشك في كل شئ ويري المدنية معركة اقتصادية وأن تخليص الشعب لن يتأتي إلا بحيلة اقتصادية يحتالها المحتكرون أو بكارثة مالية في السوق السوداء .
ومنا من ينظر النظرة المملوءة بالحقد المطالبة بالرياء فهو يري المدنية في الأعراس الانتخابية والمظاهرات العمومية وهو يظن أن خطبة يهتف لها تقلب النظام العالمي .
وهناك نظرة الشاب ( السلفي ) المملوءة بذكريات الماضي فهو يظن أنه يغير نظام المجتمع بتطهير لغته وتطبيق النحو والصرف .
وهناك النظرة المخدرة يري صاحبها أن المثل الأعلي المدينة يبرق في قعر كأسه ويلمع في جو الخمارة .
ومنا من يري نجاة الشعوب في تحرير النساء , ويظن أنه ملك بيديه المدنية إذا ما فاز بامرأة عصرية.
وهناك المقتنع بحاله الذي لا يري شيئا ولا يفهم شيئا ولا يبحث عن شئ فهو قانع بدفع ضريبته من غير أن يتساءل عن موجبها الاجتماعي .
وإن في هذه الوجهات يعودا اختلاف الملابس وتباين الأذواق وتنافر الآراء وتباعد الأفراد وأحيانا اصطدام الجهود فإننا حتي في علاقاتنا الودية والعائلية نعيش في وسط كأنه متألف من أجناس متعددة ومتأثر بثقافات مختلفة إذا قد انزلقنا في المتناقضات بسبب تفكيرنا الذي لم يتناول الموضوع بأكمله وإنما أجزاء منه .
ولو أننا درسنا الحضارة بالنظرة الشاملة الخالية من الشهوات المبرأة من الأوهام لما وجدنا ألوانا متباينة ولا أشياء متناقضة ولا مظاهر متباعدة ولا شك في أن عقائدنا السياسية تدين لتلك القيم الفاسدة للمدينة تلك العقائد التي تمثلت عندنا اليوم في أسطورة ( الشئ الوحيد ) و( الرجل الوحيد) الذي ينقذنا .
وحيث لم يتيسر لنا عام 1936 أن نضع آمالنا في ( شئ واحد) فقد وضعناها في ( الرجل الوحيد ) الذي بيده سعادة الشعب ورخاؤه ..
وإن هذه العقيدة الوثنية التي تقدس الأشخاص ل زالت منتشرة في بلاد الإسلام لم نتخلص منها وإن كنا قد فعلنا شيئا فربما كان ذلك في استبدالنا وثنا بوثن فلعلنا اليوم قد استبدلنا ( الرجل الوحيد ) ( بالشئ الوحيد) .
فالتاجر الذي تنجح تجارته بحزم بلا تردد بان النجاة في الاقتصاد ...
وآخرون يرون الشئ الوحيد في البيان وتزويق الكلام ..
وهكذا ننتقل من وهم لنتخبط في وهم ولا ندري كم من السنين سوف نقضيها لندرك عجز ( الأشياء الوحيدة ) عن حل المشكلة .. التي هي مشكلة الحضارة أولا وقبل كل شئ .
إن من الواجب ألا توقفنا أخطاؤنا عن السير حثيثا نحو الحضارة الأصيلة توقفنا خشية السخرية أو الكوارث فإن الحياة تدعونا أن نسير دائما إلى الأمام وإنما لا يجوز لنا أن يظل سيرنا نحو الحضارة فوضويا يستغله الرجل الوحيد , أو يضلله الشئ الوحيد بل فليكن سيرنا علميا عقليا, حتي نري أن الحضارة ليست أجزاء مبعثرة ملفقة ولا مظاهر خلابة وليست الشئ الوحيد بل هي جوهر ينتظم جميع أشيائها وأفكارها وروحها ومظاهرها بل هي جوهر ينتظم جميع أشيائها وأفكارها وروحها ومظاهرها وقطب يتجه نحو تاريخ الإنسانية .
وإن قضيتنا منوطة بذلك التركيب الذي من شأنه إزالة المتناقضات والمفارقات المنتشرة في مجتمعنا اليوم وذلك بتخطيط ثقافة شاملة يحملها الإني والفقير والجاهل والعالم حتي يتم للأنفس استقرارها وانسجامها مع مجتمعها ذلك المجتمع الذي سوف يكون قد استوي على توازنه الجديد.