سيناء والسودان
بقلم / الإمام حسن البنا
لا ندرى إلى متى يظل الساسة فى مصر على جهل تام بالحقائق القريبة، بل القريبة جدا التى يجب أن تكون أول المقررات التى تدرس للطلبة فى المدارس؟
وما ندرى إلى متى نظل مخدوعين بالتعاليم الاستعمارية التى شوهت الحقائق بين أيدينا، وتعمدت إخفاء الكنوز الدفينة المنثورة فى كل مكان من هذا الوطن الغنى القوى العزيز؟
ولا زلنا نذكر السورة الطويلة العريضة التى حفظناها -ونحن طلاب- من كتاب المستر هنرى مارون عن مصر والسودان من أن مصر بلد زراعى، ولا يمكن أن تقوم فيه الصناعات لعدم ملاءمة جوها، ولخلوها من الخامات اللازمة والمواد الأولية الضرورية للنهوض الصناعى إلى آخر هذه الأقصوصة التى كذبها الواقع أوضح تكذيب.
أكتب هذا بمناسبة ما ورد فى بيان صدقى باشا على لسان أحد الساسة المصريين عن التعبير عن سينا المباركة بلفظ برية سيناء، ووصفها بعد ذلك بأنها أرض قاحلة ليس فيها ماء ولا نبات إلا أربعة بلاد جعلت للتموين وقت اللزوم.
وقد أثار هذا المعنى فى نفسى سلسلة من المحاولات التى قام بها المستعمرون منذ احتلوا هذه الأرض؛ ليركزوا هذا المعنى الخاطئ فى أدمغة السياسيين المصريين، وفى أبناء سينا أنفسهم، فأخذوا يقللون من قيمتها وأهميتها، ويضعون لها نظاما خاصا فى التعليم والتموين والحكم والإدارة، ويحكمها إلى العام الماضى فقط محافظ إنجليزى يعتبر نفسه مطلق التصرف فى كل مقدراتها، ويجعلون الجمرك فى القنطرة لا فى رفح إيذانا بأن ما وراء ذلك ليس من مصر حتى صار من العبارات المألوفة عند أهل سينا وعند مجاوريهم من المصريين أن يقال هذا من الجزيرة، وهذا من وادى النيل كأنهما إقليمان منفصلان.
مرت بنفسى هذه الخواطر جميعا فأحببت أن أنبه الساسة الكبار والساسة الصغار وأبناء هذا الشعب إلى الخطر الداهم العظيم الذى تخفيه هذه الأفكار الخاطئة، ولا أدرى كيف نقع فى هذا الخطأ الفظيع مع أن القرآن الكريم نبهنا إليه و لفت أنظارنا إلى ما فى هذه البقاع من خير وبركة وخصب ونماء؟ وأنها إنما أجدبت لانصرافنا عنها وإهمالنا إياها فذلك قوله تعالى: ﴿وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلآََكِلِيِن﴾[المؤمنون: 20]
إن سيناء المصرية تبلغ ثلاثة عشر مليونا من الأفدنة أى ضعف مساحة الأرض المنزرعة فى مصر، وقد كشفت البحوث الفنية فى هذه المساحات الواسعة أنواعا من المعادن والكنوز فوق ما كان يتصور الناس، واكتشف فيها البترول حديثا، ويذهب الخبراء فى هذا الفن إلى أنه فى الإمكان أن يستنبط من سيناء من البترول أكثر مما يستنبط من آبار العراق الغالية النفيسة، وأرض سيناء فى غاية الخصوبة وهى عظيمة القابلية للزراعة، وفى الإمكان استنباط الماء منها بالطرق الارتوازية وإنشاء بيارات يانعة على نحو بيارات فلسطين تنبت أجود الفواكه وأطيب الثمرات، وقد تنبه اليهود إلى هذا المعنى ووضعوه فى برنامجهم الإنشائى وهم يعملون على تحقيقه إذا سنحت لهم الفرص، ولن تسنح بإذن الله.
فمن واجب الحكومة إذن أن تعرف لسيناء قدرها وبركتها ولا تدعها فريسة فى يد الشركات الأجنبية واللصوص والسراق من اليهود، وأن تسرع بمشروع نقل الجمرك من القنطرة إلى رفح، وأن تقيم هناك منطقة صناعية على الحدود. فلعل هذا من أصلح المواطن للصناعة، ويرى بعض المفكرين العقلاء أن من الواجب إنشاء جامعة مصرية عربية بجوار العريش تضم من شاء من المصريين، ومن وفد من فلسطين وسورية والعراق ولبنان وشرق الأردن وغيرها من سائر أوطان العروبة والإسلام، ويرون فى هذه البقعة أفضل مكان للتربية البدنية والروحية والعقلية على السواء.
وحرام بعد اليوم أن تظن الحكومة أو يتخيل أحد من الشعب أن سيناء برية قاحلة لا نبات فيها ولا ماء فهى فلذة كبد هذا الوطن ومجاله الحيوى ومصدر الخير والبركة والثراء، ونرجو أن يكون ذلك كله بأيدينا لا بأيدى غيرنا.
ولقد امتد إهمالنا لهذا الوطن العزيز، وانصرافنا عن دراسة الحقائق عن طبيعته ووضعيته إلى الجزء الجنوبى منه (السودان) بعد الجزء الشرقى (سيناء) فسمعنا دولة رئيس الحكومة فى بيانه يعرض للسودان فى موضعين، ويمر به فيهما مرورا خاطفا، ولكن يضم تحته كثيرا من المعانى التى تحتاج إلى تفكير، فيقول فى الموضع الأول فى صدد المحالفة والمعاهدة وإنها للحصول على جلاء عاجل: "ولتسوية مسألة السودان على قواعد الشرف والكرامة مع ضمان مصالح إخواننا السودانيين".
وهنا نرى أن صدقى باشا مازال يسترسل مع النغمة الإنجليزية التى تفرق بين مصر والسودان، وتجعل منهما شعبين مختلفين ووطنين متباينين لكل منهما مصالحه الخاصة به، وذلك فهم عريق فى الخطأ ومصر والسودان وطن واحد وشعب واحد ومصالح السودانيين هى مصالح المصريين تماما، وإذا كان السودانيون يرون أن نقوم فى بلدهم حكومة سودانية داخلية تحت التاج المصرى فليس ذلك منهم إلا مراعاة لبعض الأوضاع الخاصة فى السودان، كما تبيح الحكومة المصرية للقبائل العربية فى مصر أن يكون لها مشايخ منها لهم وضعيتهم الخاصة وتقاليدهم الخاصة ولا يقال: إن لهم بذلك مصالح تختلف عن مصالح الوطن العامة.
ويقول فى الموضع الثانى: "ومصر الحريصة على كرامتها واستقلالها وحقوقها فى النيل تعلم هى الأخرى مبلغ الفائدة لها من مصادقة دولة عظمى كبريطانيا". وهذا كلام يحتاج إلى تفكير حقا، فماذا يقصد دولة الباشا بحرص مصر على حقوقها فى النيل؟!
إن مصر لا تحرص على وحدة الوادى لمجرد حصولها على ما تحتاج إليه من هذا الماء، كما لا تحرص على الإسكندرية مثلا لأنها ميناؤها على البحر، فهذا التفكير المادى البحت بعيد عن الشعور المصرى، وإن أراد الإنجليز دائما أن يصوروا الأمر بهذه الصورة، وجاراهم فى ذلك رئيس الحكومة، ووقع فى هذا الفخ كثير من الساسة المصريين، ولكن مصر حريصة على السودان لأنه جزء من حدود هذا الوطن، ولأن أبناءه مواطنون حقيقيون بدمهم ولغتهم وعقيدتهم وشعورهم وآلامهم وآمالهم وأنسابهم وألقابهم، وعلى الساسة المصريين أن يدركوا هذه الحقيقة ويؤمنوا بها مهما جهلها أو تجاهلها الساسة البريطانيون.
كم نتمنى أن نستقل ونتحرر فى أفكارنا ومشاعرنا لنتحرر بحق فى أوطاننا وتصرفاتنا ﴿وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾[الحج: 41].
المصدر : جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (137)، السنة الأولى، 18 ذو القعدة سنة 1365هـ/13أكتوبر 1946م