سـلام النعام
بقلم / د. محمود غزلان
يقال: إن النعام حينما يشعر بالخطر فإنه يدفن رأسه في الرمال، حتى لا يرى مصدر الخطر، وبالتالي يُوفِّر لنفسه طمأنينة كاذبة لا يفيق منها إلا وقد دهمها الخطر قتلاً أو أسرًا أو إصابةً.
ويبدو أن حالنا الآن كعرب أشبه ما يكون بذلك النعام، فالخطر الصهيوني يهددنا جميعًا مَن وقَّعوا معه اتفاقات سلام ومَن لم يُوقِّعوا، ومع ذلك نتجاهله، وكأننا لا نرى ولا نسمع، وبالتالي لا نتكلم أملاً في أن نعيش حياةً ولو كانت ذليلة.
فمنذ أيام وبمناسبة مرور ثلاثين عامًا على معاهدة السلام المصرية الصهيونية أجرى (المعهد الصهيوني للديمقراطية) استطلاعًا للرأي العام الصهيوني عن إعادة احتلال شبه جزيرة سيناء، وكانت النتيجة كما يلي: 33% منهم يروْن ضرورة إعادة احتلالها بالكامل، و19% يروْن إعادة احتلال معظمها، و29% يروْن إعادة احتلال جزء منها، و8% يؤيدون احتلال جزء صغير، و11% لا يؤيدون احتلال أي جزءٍ منها.
وتصورت أن الدنيا في مصر ستقوم ولن تقعد، وأن الصحف جميعها والقومية على رأسها ستجعله المانشيت الرئيسي لها، ووسائل الإعلام الأخرى ستضعه الخبر الأول في نشراتها، بل إن سياسةَ الدول كلها ستتغير لاستشعارها الخطر الداهم- ليس من السياسيين الصهاينة فحسب، بل من عموم الشعب الصهيوني، ويؤكد ذلك تصويته للأحزاب المتطرفة التي شكَّلت الحكومة الأخيرة الحالية- وأن سياسة الدولة سترفع القهر والإرهاب عن الشعب، وستسعى لتحقيق العدل والمساواة والحرية، وستحافظ على الكرامة الإنسانية وحقوق المواطن، وستحترم الإرادة الشعبية أملاً في الحصول على الشرعية، ثم تعمل على تحقيق التضامن العربي وتوظيف قدرات الشعب والأمة في تحرير الإرادة والتصدي للمخاطر، ولكن شيئًا من هذا لم يحدث، ومر الأمر وكأنه لا يعنينا وكأنه يتعلق بجزيرة فوكلاند أو الدول الإسكندنافية، وظلَّ كل شيء على حاله في حالة نعامية مثالية، وكأننا نحتاج حتى نفيق أن نرى جنود الصهاينة على البرِّ الشرقي للقناة، أو يجوسون بيننا خلال المدن والقرى والنجوع.
أيها السادة!.. إن المشروع الصهيوني لم يصل إلى مداه، وكل جيل يحقق منه مرحلة، وإن اتفاقيات السلام ما هي إلا محطات للهدنة، ويوم يشعرون بأن الظروف تسمح لهم بمزيدٍ من الوسع، فلن تردعهم الأوراق أو القرارات، ولا حتى المواقف السياسية الرافضة، ما دامت قوتهم تستطيع وأمريكا تؤيدهم، فما أكثر قرارات الأمم المتحدة التي داسوها بالأقدام، وليس أدل على ذلك أنها دولة بلا حدود حتى الآن، بل إن ما جاء في اعترافات الجاسوس المصري عصام العطار الذي جنَّده الموساد الصهيوني، والذي جند بدوره 20 مواطنّا عربيًّا في كندا من أن المسئولين الصهاينة احتفلوا به في المعبد اليهودي في تورنتو في كندا قائلين له: "كل القيادات الإسرائيلية تمنحك السلام، وتشكرك على تعاونك لإقامة دولة إسرائيل من النيل للفرات" صحيفة (المصري اليوم)- الجمعة 16/2/2007م، يقطع بأن المشروع قائمٌ والعمل له يتم بلا كللٍ؛ رغم اتفاقات السلام مع مصر والأردن ومباحثات السلام مع السلطة الفلسطينية، والحديث عن السلام الذي يملأ الآفاق.
كما جاء في كتاب (المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل)- الجزء الأول- للأستاذ هيكل صـ223 ما نصه:
"3- وكانت إسرائيل قد وضعت خطوطها وراحت ترسم حدودها على نطاقات متعددة ومتوسعة:
- حدود للدولة: تتمدد باستمرار مع مدى ما تصل إليه قوة جيشها (وهو تعبير بن جوريون).
- وحدود للأمن: تتسع بعد ذلك أكثر لتشمل التصدي لأي خطر يهدد أمنها مستقبلاً؛ سواء كان ذلك الخطر قريبًا من حدودها القائمة أو بعيدًا عنها.
- وحدود للمصلحة: تتطلع إلى موارد البترول، ومصادر المياه، وأسواق التجارة، وخطوط المواصلات، وحرية الانتقال والسفر.. إلى آخره..".
ولقد سمعنا على نفس الوتيرة تصريحات وزيرة الخارجية السابقة (ليفني) التي تدعو فيها عرب الداخل إلى مغادرة الدولة الصهيونية قائلةً: "إن أمانيهم القومية لن تتحقق داخل إسرائيل وعليهم أن يبحثوا عنها خارجها".
كما أن تصريحات وزير الخارجية الجديد ليبرمان الذي كان يعمل حارسًا لأحد الملاهي الليلية (بلطجي) قبل ذلك، والتي يرفض فيها حل الدولتين، وكانوا من قبل قد رفضوا حل الدولة الواحدة إلا أن تكون دولةً يهوديةً عنصريةً، تخلو من الأغيار (العرب)، وهذا ما يؤكد عزمهم على الترانفسير (التهجير) إذا ما قدروا عليه، كما أن مفاوضات السلام المزعوم بينهم وبين السلطة الفلسطينية، والتي طالت لخمسة عشرة عامًا، وهي تراوح مكانها وتُوهم الناس بقدوم السلام في الوقت الذي تقضم فيه الأرض، وتوسع المستعمرات، وتبني الجدار، وتجلب اليهود المهاجرين من أنحاء الأرض، وتؤكد استمرار المشروع وعدم التخلي عنه.
ولو نظرنا إلى حصيلة اتفاقية السلام مع مصر لوجدنا أنها قزمت مصر وحصرت دورها عن المنطقة، ونزعت سلاح سيناء، وأجبرتها على المشاركة في حصار أهلنا في غزة، بل والضغط عليهم للقبول بالاعتراف بدولة الصهاينة باعتبار أن ذلك هو الضمان الشرعي لبقائها، فمن الممكن للطرف الأقوى أن يفرض على طرفٍ أضعف منه أمرًا واقعًا يريده، لكن ذلك لا يحقق له شرعيته، وإنما تستقر الشرعية حين يقوم الضعيف اعترافه بالأمر الواقع؛ حتى وإن كان مفروضًا عليه، ولا ننسى التهديد بتدمير السد العالي بقنبلة نووية كما جاء على لسان ليبرمان وزير الخارجية الحالي وإهانته لرئيس الجمهورية المصري، وأو نشر الجواسيس ثم الضغط للإفراج عنهم، وللأسف الشديد يفلحون في كل مرةٍ لإطلاق سراحهم، بينما شرفاؤنا ومخلصونا في غياهيب السجون بتهم هي من صميم الوطنية، ومع ذلك لا يُفرج عنهم، إضافةً إلى قتل جنودنا على الحدود بمنتهى الاستخفاف.
وعلى المستوى العربي يضرب جيشها في كل مكان دون رادعٍ، ففي سنتين ونصف شنت حربين كبيرتين على لبنان وغزة دمَّرت واستخدمت أسلحةً محرمةً دوليًّا، وارتكبت جرائم حرب وإن كانت لم تحقق أهدافها في كلتا الحربين بفضل الله وصمود المجاهدين من حزب الله وحماس والجهاد وفصائل المقاومة الفلسطينية.
كما شنَّت أخيرًا عدوانًا أثيمًا على شرق السودان على بعد آلاف الكيلو مترات مما يمثل خطرًا كبيرًا على الأمن القومي المصري والعربي، ومع ذلك نتمسك بسلام النعام، ونُصِر على عرض مبادرة السلام العربية منذ سبع سنوات في الوقت الذي قابلتها دولة الصهاينة بمنتهى الاحتقار والازدراء منذ صدورها وحتى الآن.
أيها العرب! إن المشروع الأمريكي للشرق الأوسط قد انهزم في لبنان والعراق وفلسطين، ولا يزال موحولاً في أفغانستان والمشروع الصهيوني قد فشل في لبنان وغزة، ويمكن التصدي له وهزيمته إذا أخرجنا رؤوسنا من الرمال، وتحلينا بعزيمة الرجال، وحاربنا الفساد والاستبداد، واصطلحنا مع الله أولاً ثم مع شعوبنا فنوحد صفنا، ثم أزلنا الخصومات والعداوات من بيننا كأمة، واستخدمنا عناصر القوة المتاحة لنا لاستعادة حقوقنا، وفرض إرادتنا، وتحرير قرارنا، واسترجاع دورنا، والانتصار لحضارتنا.
المصدر : نافذة مصر