سعادة السفير محمد هارون المجددي
المستشار عبد الله العقيل
معرفتي بوالده:
عرفتُ سعادة الشيخ محمد صادق المجددي سفير أفغانستان الأسبق بمصر وهو والد الأخ هارون، من خلال ما قرأته في صحف الإخوان المسلمين التي كانت تنشر أخبار نشاطه الإسلامي ولقاءاته مع الإمام الشهيد حسن البنا سنة 1946م، وزعماء العالم الإسلامي الذين يقصدون المركز العام للإخوان المسلمين في الحلمية الجديدة، حيث يستمعون لمحاضرات الإمام الشهيد ودرس الثلاثاء.
ثم يجتمعون بقسم الاتصال بالعالم الإسلامي لدراسة قضايا البلاد الإسلامية وعلاج مشكلات المسلمين والتصدي للمستعمرين الذين يحتلون البلاد الإسلامية وينهبون خيراتها ويسرقون ثرواتها، ويسخِّرون أبناءها لخدمة مصالحهم، كما كان الشيخ المجددي يقيم ندوة أسبوعية في منزله بالقاهرة يستقبل فيها الزعماء والقادة والطلاب واللاجئين السياسيين إلى مصر من مختلف أنحاء العالم الإسلامي.
معرفتي به:
ولما ذهبتُ إلى مصر للدراسة الجامعية سنة 1949م سعدتُ بالاتصال المباشر بالأخ محمد هارون المجددي ابن السفير الأفغاني، فقد كان شعلة من النشاط والحيوية والعمل الدؤوب مع الإخوان المسلمين للنهوض بالشعوب الإسلامية لتأخذ مكانها اللائق بها في ظل الإسلام وتحت راية التوحيد، وكان متأثراً بوالده من حيث الالتزام بالإسلام كنظام شامل لأمور الدين والدنيا والاهتمام بأمور المسلمين في كل مكان والعمل في حقل الدعوة الإسلامية دون كلل أو ملل، لأنه نشأ في عائلة متدينة عريقة معظم أفرادها من العلماء وطلبة العلم، فكان عمه «نور المشايخ» من كبار علماء أفغانستان ومن أهل الحل والعقد الذين يرجع إليهم الناس في مهمات الأمور ومدلهمات الخطوب.
مولده ونشأته:
كانت ولادته عام 1343هـ 1925م في «كابـل» ثم سـافر مع والده الـذي عُيِّن سفيراً بمصر والتحق بكلية (دار العـلوم) بالقاهرة وتخرَّج فيها وعيِّن بوظيـفة (قائم بأعمال السفارة) وعاش وسط رجال السلك الدبلوماسي معتزاً بدينه، ملتزماً بأحكامه، مطبقـاً لتعاليمه، وثيـق الصلة برجال الدعوة الإسـلامية وخاصة (الإخوان المسلمين) الذين التقى مرشدَهم الإمام الشهيد حسن البنا وتأثر به وأعجب بطريقته في الدعوة إلى الله وفهمه للإسلام كما جاء في كتـاب الله وسُنَّة رسـوله (صلى الله عليه وسلم) كما أعجب بمناهج وبرامج الحركة الإسـلامية من الأسر والكتائب والجوالة والمعسكرات التي تصوغ الفرد وفق منهج الإسلام.
أصدقاؤه:
وكان من أصدقائه المقربين من الإخوان المسلمين الأستاذ عبد الحفيظ الصيفي، والأستاذ صالح أبو رقيق، والأستاذ محمد المسماري، والأستاذ منير دلة، والأستاذ حسن العشماوي، والأستاذ فريد عبد الخالق، وعن طريق هؤلاء تعرَّف إلى جمال عبد الناصر، الذي استغل هذه المعرفة ولم يقدِّرها حق قدرها، بل غدر وفجر فيمن وقفوا إلى جانبه، وقلب لهم ظهر المجن بعد أن استولى على السلطة وتفرَّد بها.
وذلك أن عبد الناصر استعان بالأخ محمد هارون المجددي لينقل الأسلحة بسيارته الدبلوماسية واستعان بالأخ حسن العشماوي لإخفائها في مزرعة والده بالقليوبية، فكان ما كان من المكر والخديعة والبهتان والافتراء من الطاغية وزبانيته عليهم من الله ما يستحقون.
نشاط والده:
كانت دار السفير المجددي والد الأخ هارون ملتقى العلماء والقادة ورجال الفكر وزعماء حركات التحرير للبلاد الإسلامية أمثال الأمير عبد الكريم الخطابي من المغرب، وإدريس السنوسي من ليبيا، والفضيل الورتلاني من الجزائر، كما كان شيخ الأزهر محمد مصطفى المراغي صديقاً حميماً لوالده، وكانت هيئة كبار العلماء في ذلك الوقت هي التي تنتخب شيخ الأزهر ولا يعينه حاكم مصر، ولا تأثير لجنسيته أو قوميته في هذا الانتخاب، لأن الدين والخلق وسعة العلم والأهلية هي المقياس في الاختيار، حتى جاء حكم الدكتاتور عبد الناصر فجعل ذلك بالتعيين لأصحاب الولاء لسلطته والمؤيدين لتصرفاته.
أخلاقه وخدماته:
إن الأخ الداعية هارون المجددي، كان مثال المسلم الصادق والمجاهد العامل بصمت، الذي يحب أن يُرى أثره ولا يُعرف شخصه، لأنه يبتغي بعمله وجهاده وجه الله عز وجل، فقد تعلّم في مدرسة الإخوان المسلمين وأدرك معنى هتافهم «الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا»، وكم من خدمات قدّمها لطلبة البعوث الإسلامية الذين يدرسون بمصر وهم من جميع أنحاء العالم الإسلامي، لأنهم إخوان العقيدة، ورابطة العقيدة أقوى الروابط على الإطلاق، وأخوة الإسلام تسمو على ما عداها من روابط الجنس والنسب.
اعتقاله وسجنه:
تعرّض الأخ هارون المجددي إلى السجن سنة 1954م وبقي في السجن الحربي فترة من الزمن، معتقلاً دون محاكمة وأجريت له عملية في المرارة وهو رهن الاعتقال، ثم تدخّل بعض أصدقائه السياسيين من خارج مصر، أمثال الملك محمد الخامس من المغرب، والزعيم محمد خيضر من الجزائر، فأُخرج من السجن الحربي ونُفي من مصر، رغم أن زوجته مصرية وأولاده من مواليد مصر وأخته الكبرى متزوجة من مصري هو الدكتور شفيق الخشن، الذي كان عميداً لكلية الزراعة في الإسكندرية، ثم وكيلاً لمجلس الشعب الذي يرأسه أنور السادات في ذلك الوقت، ومن هذا الموقع وبحكم الصلة بين أخته وزوجة عبد الناصر، سُمح له بالعودة إلى مصر على أن يجدد إذن العودة سنوياً، ثم حين أصدر عبد الناصر أوامر الاعتقال من موسكو سنة 1965م التي تنص على اعتقال كل من سبق اعتقاله، فكانت الموجة المحمومة التي شملت اعتقال أكثر من خمسة وستين ألفاً من الدعاة المسلمين والعلماء العاملين، وبخاصة الإخوان المسلمون، فكان منهم الأخ هارون وكان التحقيق شديداً معه في المعتقل، لسؤاله عن علاقته بصديقه الحميم (المهدي بن بركة) الزعيم المغربي المعروف الذي اغتيل في فرنسا في الوقت الذي كان فيه الأخ هارون بالسجن، وحتى الآن لم يعرف من قتل المهدي بن بركة وإن كان الاتهام يشير إلى السلطات المغربية.
ثم تدخلت أخته مرة أخرى لدى زوجة عبد الناصر فأخرج من السجن ونُفي خارج مصر، فذهب إلى ألمانيا ومنها إلى ليبيا، ورغم أن الملك إدريس السنوسي كان صديقاً حميماً لوالده ولم يكن يجد مكاناً يؤنسه عندما كان لاجئاً في مصر إلا منزل آل المجددي وديوانيته، إلا أنه لم يلجأ إليه في ليبيا بل قضى عاماً كاملاً مع إخوانه ورفاقه السابقين في المعتقل، عاش وإياهم في بيت متواضع بطرابلس الغرب ـ ليبيا.
مواقفه ووفاؤه:
يحدثني رفيقه الذي كان معه في السجن وفي ليبيا فيقول: «إنني كنت أرى فيه مثلاً للخلق والوفاء، ومن هذا الوفاء الذي ترك أثراً في نفسي لا ينسى، أنه في الشهر الأول من عودته إلى مصر، بإذن يتجدد سنوياً، اصطحبني معه في سيارته حوالي ست ساعات، نسير في طرق زراعية غير معبدة، يبحث في (الدلنجات) وهي آخر المناطق الزراعية في (أبو المطامير) بالبحيرة ليرى أطفال صديقه المحكوم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة، والذي كان من مؤسسي الجامعة العربية مع عزام باشا، ذلكم هو الأخ المجاهد صالح أبو رقيق وحين رآهم قبّلهم وضمهم إلى صدره، وذرف الدموع ولم يتمالك نفسه أمام هؤلاء الأطفال الذين يحبهم كأبنائه وفلذات كبده، ثم عدنا سريعاً، ولم تزد الزيارة على خمس دقائق خوفاً من أعين الرقباء والجواسيس وحين تغير الملك في أفغانستان عيَّن سفيراً جديداً بدل المجددي وعامل هذا السفير آل المجددي معاملة غير كريمة وقاطعهم، وشاء الله أن يمرض السفير الجديد فما كان من الأخ هارون إلاّ أن يعوده في المستشفى ويرسل له باقات الورد مقرونة بالدعاء له بالشفاء فتأثر السفير من هذا النبل في الأخلاق، واعتذر عمّا بدر منه وزار الأخ هارون في منزله بعد خروجه من المستشفى مباشرة.
وكان الأخ هارون يملك مزرعة في (أبو حمص) بالبحيرة فاستولى عليها الإصلاح الزراعي، فلم يقطع عادته السنوية في الذهاب إلى المزرعة وتوزيع الملابس والأرز والدقيق والزيت وبعض المال على الفقراء من الفلاحين.
وأفلس صديق له كان تاجراً أفغانياً في ألمانيا فأرسل إلى هارون يطلب عونه، فلم يرد طلبه رغم أن هارون نفسه في ضائقة مالية بعد مصادرة مزرعته فكلف صديقاً أن يعينه بكفالته ولم يف التاجر الأفغاني بالسداد فاضطر هارون لوفاء الدين عنه باعتباره كفيلاً له» انتهى.
أقوال الندوي عن والده:
ويتحدث الشيخ أبو الحسن الندوي عن والد الأخ هارون فيقول في كتابه القيم (مذكرات سائح في الشرق العربي):
«وفي يوم 11/6/1370هـ 19/3/1951م خرجنا لزيارة سعادة الشيخ محمد صادق المجددي سفير أفغانستان بمصر وجلسنا معه مجلساً طويلاً، وصلينا خلفه المغرب وتعرفنا إلى نجليه هارون وأخيه وسررنا بهذه الزيارة، فسعادته لا يمثل الحكومة الأفغانية فحسب، بل يمثل ذلك البيت العظيم الذي له منة على كل مسلم في الهند، وتربطنا به روابط دينية وصلات روحية قديمة.
وقد شرَّفنا فيما بعد بزيارته لنا في محلنا المتواضع وجلس معنا ووعدنا بالتشريف مرة أخرى، فأكبرنا منه هذا التواضع والإكرام، ولا غرو فإنه سليل مجدِّدنا العظيم الشيخ أحمد الفاروقي.
وحين زرنا القدس يوم 26 رمضان سنة 1370هـ وصلينا العشاء والتراويح في المسجد الأقصى سمعنا بأن الشيخ المجددي معتكف في بعض حجرات المسجد ـ فقد كان من عادته ذلك كل عام في القدس فدخلنا عليه وسلمنا ورجعنا إلى محلنا، وفي يوم 27 رمضان دعانا سعادته إلى العشاء وطلب منا الإقامة معه، فاعتبرنا هذا من تيسير الله سبحانه وتعالى، وأقمنا معه في راحة وسعة.
وفي يوم 30 رمضان رأينا الهلال وتعشينا مع السيد المجددي، وجاء كثيرون من وجهاء المدينة وكبار الموظفين يسلمون عليه ويهنئونه، وانتهزت الفرصة فألقيت كلمة بمناسبة العيد» انتهى.
إن الأخ الكريم والداعية المجاهد محمد هارون المجددي كان من النوادر في حسن خلقه وتواضعه ونجدته ومروءته وإخلاصه ووفائه وقد أحبه كل من عرفه رغم موقعه الدبلوماسي فإن الدعوة كانت هي كل شيء في حياته يقدّمها على ما سواها ويفتديها بروحه وأهله وماله.
وقد انقطعت الصلة به بعد تخرجي فلم أسعد بلقائه، ولكن أخباره وجهاده داخل مصر وخارجها كانت تصلنا عن طريق الخلصاء من الإخوان.
زيارته لنا بالكويت:
وقد أكرمني الله بزيارته للكويت حيث زارني في داري وشرفت به ندوة الجمعة الأسبوعية وكان ذلك بداية الجهاد الأفغاني، وقد حدثنا حديث العالم البصير الملمّ بالأمور الأفغانية دقيقها وجليلها والأطراف الصادقة المخلصة المجاهدة بصدق والعناصر التي تؤثر العاجل على الآجل، وكان له من عمق التجربة وفقه الواقع وما تعلمه في مدرسة الإمام الشهيد حسن البنا من الإيمان العميق والتكوين الدقيق والعمل المتواصل وإخلاص النية لله وصدق التوجه له وطلب مرضاته، الأثر الطيب المبارك.
توجيهاته ونصائحه:
كتب إلى زوج ابنته الذي يعيش في الغرب رسالة سنة 1985م يهنئه فيها بالمولود الحفيد، فقال: «... مرحباً ألف مرحب بعضو الأُسرة الذي أنعم الله عليكم وعلى الأسرة به، أنبته الله نباتاً حسناً، ورزقه حياة طيبة مباركة في خدمة الإسلام العظيم، ومثله العليا، ومبادئه السامية، فعبء جيله سيكون عبئاً ثقيلاً، ذلك أن جيلنا قد حيل بينه وبين أن يحيا مسلماً له حقوقه الإسلامية والإنسانية، وله عزته الإيمانية وحريته البشرية، تلك الحرية التي قامت وتقوم عليها الحياة الآمنة المستقرة، وهكذا فالميراث ثقيل، أما نحن فلم يبق من حياتنا إلا قدر ضئيل، ولقد فقدت خلال شهرين أخوين كنا على صلة مستمرة معهما، وكان كل منا يفرغ همومه لدى الآخر، هما المرحومان: محمد المسماري وعبد الحفيظ الصيفي، وقد فارقاني خطفاً وتركا في حياتي فراغاً كبيراً، وتركا في قلبي أثراً دفيناً، تغمدهما الله بواسع رحمته ورضوانه، وأحسن جزاءهما وأسكنهما فسيح جناته.
أما ما يحدث على أرض الإسلام الغالية أفغانستان، وما يحدث بين المرتزقة وما يرتكبه الخونة العملاء المرتدون داخلها في ظل قوة معادية غادرة، وما يحدث في بيشاور من تفريط في حق أفغانستان فالذي أتصوّره أن الأوضاع في تدهور، لأن المراقبين للأحداث عن فهم يدركون أن المتاجرين يعلو صوتهم، وأن المجاهدين المؤمنين تضعف شوكتهم، وأن الشعب المسكين يزداد آلاماً وخراباً، وأن نزيف الدماء، يزداد على مر الأيام، وأن موقف المسلمين يزداد سكوناً ودعوات وأقوالاً.
إن الفرق بين جيلكم وبيني، أني نشأتُ وترعرتُ ووصلت مرحلة الشيخوخة في عالم المحن، ولكني لمست رعاية الله جل شأنه الكبيرة العظيمة في كل خطوة من خطوات حياتي، بالرغم من أنني غريق الذنوب والآثام، والحمد لله الذي يزيدني إيماناً بالرغم من الحياة التي تبدو قلقة منطقياً، لكني بفضل الله أزداد إيماناً ويقيناً أن الله عز وجل شأنه لن يحرمني من رعايته فضلاً وكرماً ولطفاً وإحساناً.
إننا أبناء أفغانستان منذ سنين عديدة في محنة قاسية تزداد قسوة على مر الأيام، فنحن نُذبح، وديارنا تُدمّر، ويهلك فينا الحرث والنسل، والمسلمون بل المنتمون إلى الإسلام في يسر ورخاء، يمرحون ويضحكون» انتهى.
لقد كان الأخ هارون نموذج المسلم الذي يسخِّر كل طاقاته وإمكاناته لخدمة دينه وعقيدته وقد وجد في الإخوان المسلمين ضالته فكان ارتباطه بالدعوة التي بقي وفياً لها حتى لقي ربه عام 1405هـ 1985م.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل ما قدَّم في ميزان حسناته وأن يتغمدنا الله وإياه بواسع رحمته وأن يدخلنا معه فسيح جنته ويحشرنا وإياه وسائر إخواننا المجاهدين الأبرار، مع النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.
المصدر
- مقال: سعادة السفير محمد هارون المجددي موقع عبدالله العقيل