رجل المرحلة وفقيه العصر
المستشار عبد الله العقيل
عرفت الأخ الكريم، والخل الوفي، الأستاذ الدكتور يوسف عبد الله القرضاوي، فترة الدراسة بمصر، حيث كان يدرس بكلية أصول الدين، وكنت أدرس بكلية الشريعة مع إخوة كرام، منهم: الأخ أحمد العسال، والأخ محمد الدمرداش، والأخ محمد السيد الصفطاوي، والأخ أحمد حمد، والأخ محمد الديب..
وغيرهم من الأحباب الكرام في الكليات الأزهرية، مثل: الأخ مصباح عبده، ومحمد السيد الوكيل، ومحمد بكري، ومناع القطان..
وكان القرضاوي يسبقني بسنتين دراسيتين، نظرًا لتفوقه وذكائه؛ كما كان زعيم الطلبة الأزهريين وخطيبهم وشاعرهم، وكانت كلماته تأخذ بمجامع القلوب، وتثير حماس الجماهير التي تحمله على الأعناق، وهو يشدو بشعره، أو يهدر بخطبه التي تتصدى للطغاة وأعداء الدين ودعاة الهدم والتخريب وأذناب الاستعمار وعملائه، وكان موفقًا غاية التوفيق في الأسلوب الذي يسلكه؛ حيث يجمع الصفوف، ويوحد الجهود، ويسلك أنجح الطرق لتقويم العوج وإصلاح الخطأ والمطالبة بالحق وعرض الفكرة والمجادلة بالحجة والبرهان، ملتزمًا منهج الإسلام وقيم الإسلام وأخلاق الإسلام.
ولقد سعدت بمرافقته في أكثر من جولة بالمحافظات والمدن والقرى المصرية وشاركت معه في بعض الحفلات والمناسبات الإسلامية الدعوية، ولكن شتان بين الثرى والثريا، فالبون شاسع والفرق كبير، فرغم الزمالة الدراسية إلا أنني كنت أشعر نحوه بأنني تلميذ أتعلم منه، وأنهل من هذا الفيض الغامر والنهر المتدفق بالسلسبيل العذب، فضلاً عن عطائه الثري من المؤلفات التي بدأها بمسرحية شعرية عن زليخا امرأة العزيز، وكتاب "قطوف دانية من الكتاب والسنة" أثناء الدراسة، ثم انهمر الغيث بهذه المؤلفات العلمية القيمة بعد التخرج، والتي بلغت الآن أكثر من سبعين مؤلفًا فاق فيها الكثير من جهابذة العلماء المعاصرين، واجتاحت العالم الإسلامي كله، وترجمت إلى معظم اللغات الحية، وطبع منها آلاف النسخ عدة مرات حتى لم يبق مؤلف من مؤلفاته إلا تكررت طباعته، وبعضها طبع قرابة الثلاثين طبعة، وأقبل عليها شباب العالم الإسلامي وجماهير الأمة وطلبة العلوم وأصحاب التخصصات، ينهلون من مواردها العذبة، ويتزودون منها العلم النافع، والفقه الأصيل والفكر المتفتح، حتى صار القرضاوي بمؤلفاته ودروسه، ومحاضراته وفتاواه، وخطبه ومناظراته، مدرسة علمية قائمة بذاتها، ومرجعًا فقهيًا؛ لأنه تعمق في فقه الكتاب والسنة، وجمع خلاصة فقه السابقين، واستوعب أدلتهم ومذاهبهم، وعرف مشكلات العصر، وتعامل مع الواقع بروح الفقيه الباحث عن الحق، الذي ينشد الخير للناس، ويقربهم إلى الدين متبعًا منهج الرسول (صلى الله عليه وسلم) في التيسير والتبشير، مستندًا إلى قوة الدليل في الترجيح بين الآراء والمذاهب والأقوال، فكان بحق فقيه العصر وعالم الأمة ورجل المرحلة، وليس هذا مبالغة أو مجاملة، ولكنه حقيقة واقعة يعرفها ذوو الفضل وأهل العلم، ويدركها كل من عرفه عن قرب، أو قرأ مؤلفاته بإنصاف وتدبر.
لقد عايش القرضاوي مشكلات المسلمين المعاصرة، وأسهم إسهامًا كبيرًا في علاج المعضلات والمشكلات المستعصية في كل جوانب الحياة الإسلامية المعاصرة: السياسية والفقهية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية والدعوية والعقدية والسلوكية والعلمية، ولم يدع مجالاً من المجالات إلا وكانت له فيه صولات وجولات، وكان عالي الهمة، صادق العزيمة، واسع الصدر، رفيقًا بالمخالف، حليمًا مع الجاهل، متواضعًا مع العامة، حكيمًا في أسلوبه، عزيز النفس، لا يكل ولا يمل، بل يجاهد ويجالد، وينافح ويكافح دون أن تلين له قناة، أو تضعف له همة، رغم العقبات والعراقيل والسدود والقيود والسجون والزنازين.
ويعتبر القرضاوي من أبرز المناظرين وأقوى المحاورين الذين يتصدرون الندوات والمناظرات، ويقدمون آراءهم وتصوراتهم الإسلامية معززة بالدليل والبرهان والحجة والبيان، ويفحمون خصومهم، ويبطلون دعاواهم، ويكشفون أباطيلهم، ويفندون مقولاتهم، فلا يملك المنصفون من الخصوم إلا التسليم له والنزول عند رأيه لقوة حجته وحضور بديهته وحسن عرضه وسعة علمه ورجاحة عقله وأدبه وتواضعه. فلا تطاول ولا ادعاء، ولا غرور ولا استعلاء، ولا تكبر ولا جفاء، بل خلق كريم وأدب جم استقاه من هدي الكتاب والسنة ومنهج الصالحين من سلف الأمة.
إن الشيخ القرضاوي رائد الصحوة الإسلامية المعاصرة بحق؛ فهو من مؤسسيها بعلمه الشرعي وفقهه الدعوي ونشاطه الحركي وتنظيره الاقتصادي وحواره الفكري ومنهجه التربوي وعمله الخيري، وكيف لا يكون رائد الصحوة ومرشدها، وهو الذي يتحرك بالإسلام وللإسلام في كل مكان، وتشهد له المؤتمرات الإسلامية التي يحضرها والمجامع الفقهية التي يشارك فيها والبنوك الإسلامية التي يفتي لها والجامعات التي يحاضر في طلابها وطالباتها والمساجد التي يخطب في روادها، ويؤم مصليها، ويدرّس في حلقاتها، والمشاريع الخيرية التي يساهم في إقامة منشآتها ومؤسساتها.
وصفوة القول أن الشيخ القرضاوي عالم مجتهد، وداعية مصلح، وخطيب مفوه، وشاعر مفلق، بل هو مجدد العصر ونابغته، وله الفضل بعد الله في هذا البعث الإسلامي والصحوة الإسلامية والتيار الإسلامي الذي يعم العالم خيره.
نسأل الله له السداد والتوفيق، وأن يجزيه عن الإسلام وأهله خير ما يجزي عباده الصالحين، كما نسأله تعالى أن يجمعنا به في مستقر رحمته إخوانًا على سررٍ متقابلين كما جمعنا في هذه الدنيا إخوة متعاونين متحابين، والله الموفق لكل خير.
جزاه الله كل خير.. والحمد لله رب العالمين
- نشرت في كتاب القرضاوي بمناسبة بلوغه الستين.
[1] - الأمين المساعد السابق لرابطة العالم الإسلامي، (المملكة العربية السعودية)
المصدر
- مقال: رجل المرحلة وفقيه العصر موقع عبدالله العقيل