رجال ومواقف
أ.د/ رشاد محمد البيومي
- عضو مكتب الإرشاد
- الرجل: هو اللواء مصطفى كامل عطية أبو دومة.
- بلده: قرية أم دومة بصعيد مصر.
- عمله أثناء الحدث: كان برتبة النقيب- وكيلاً لسجن أسيوط 1957- 1958م.
لا نستطيع الحكم على أمرٍ ما إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار الظروف التي أحاطت به، كما لا يمكن تقويم أداء أبطال الحدث إلا إذا كنا مدركين لطبيعة وظروف الجو المحيط بهم، والذي وقع فيه الحدث.
وتتجلى البطولات وتبرز من خلالها عظمة النفوس الأبية عالية المرامي عندما ندرك مدى ما بذلته النفوس وما تحملته فى سبيل أداء دورها المنشود.
كان ذلك في أواخر العقد السادس من القرن الماضي؛ تلك الفترة المعتمة المفعمة بالسواد الحالك، فالكل يشك فيمن حوله ولا يملك الفرد أن يثق في نفسه أو ولده أو أبيه، فالجدران تسمع والكل جاد في كتابة التقارير الأمنية تقربًا وتزلفًا؛ حتى إن إحدى المذيعات الشهيرات (والتي تولَّت إدارة البث الإعلامي) أبلغت عن زوجها (ضابط الجيش) فتم اعتقاله وأُعدم.
وكان لعبد الناصر صولاته وجولاته ومؤامراته في العالم العربي.. فقد كان يدبر مؤامرة ضد الملك (حسين بن طلال) ملك الأردن، وكان للأخ المجاهد كامل الشريف دوره في إحباط هذا المخطط.
ولم يجد عبد الناصر ما ينفث فيه جام غضبه وينتقم لفشل مؤامرته إلا الإخوان في السجون، وكانت أولى محطات الانتقام في طرة؛ حيث استشهد فيها 21 من الإخوان وجرح 28 فأمر بمواصلة الحملة في سجن أسيوط وسجن الواحات.
وتشكَّلت الحملة الأولى من العميد (عبد المنعم موسى) لسجن أسيوط، والثانية بقيادة اللواء (همت) ومساعدة الصول لاشين.
أما الكتيبة الثانية فما أن وصلت الواحات حتى أُصيب (اللواء همت) بدوسنتاريا حادة أفقدته صوابه، ولم يجد مَن يعالجه إلا أطباء الإخوان، وصرف الله بذلك عن إخوان الواحات ما دُبِّر لهم.
أما كتيبة الشر الأولى فقد وصلت إلى سجن أسيوط، وكنا دائمًا نكلف أحد الإخوة (الذين تطل زنازينهم على حوش السجن) لملاحظة إذا كان هناك حملات تفتيش حتى نستطيع مداراة ما يمكن إخفاؤه عن أعين حملات التفتيش، وفي هذا اليوم أشار الأخ معلنًا بأن هناك حملةً كبرى.
وفجأة فتح باب العنبر (عرفنا هذا من صرير الباب) وتلا ذلك صوت الأقدام على السلالم الحديدية، وتوقفت الأقدام في الدور الثاني (مكان الإخوان) وتتابعت حتى توقفت أمام الزنزانة التي أُقيم فيها وفتح الباب ودخل النقيب (مصطفى أبو دومة) وكيل السجن آنذاك وأغلق الباب بظهره، وبنبرة حاسمة جادة طلب مني أن أبلغ الإخوان أن يحذروا من أي احتكاكٍ أو إعطاء أي فرصة للمواجهة، وخرجتُ مهرولاً وتم التنبيه على الإخوة وعدتُ إلى الزنزانة، وتم إغلاقها وانصرف.
لم تمض لحظات إلا وقوات السجن بكاملها وعلى رأسها العميد (عبد المنعم موسى) والمأمور تهاجم دور الإخوان؛ حيث يتم إخراج الإخوة من الزنزانة، وتتم الحلاقة (زيرو) وتجمع جميع المتعلقات باستثناء فرش وبطانية وغيار واحد، وتؤخذ المتعلقات لتلقى في المحرقة المعدة في حوش السجن وتم سرقة كل ما خف حمله وغلا ثمنه، لم نكن ندري سببًا لما حدث، فقد تبع ذلك منع المراسلات والزيارات؛ ولكن ما لفت النظر أن النقيب (مصطفى) كان الذى تولى (نوبتجية) فتح السجن وإغلاقه لمدة أسبوعين متتاليين، وكان يحضر كل يوم صباحًا إلى عنبر الإخوان وينتحى على كرسي جانبًا حتى يحين وقت إغلاق السجن فينصرف، وقد يعود في بعض الأحيان ليلاً، ولم نعرف حقيقةَ ما حدث إلا بعد أن هدأت الأحوال نسبيًّا.
لقد عرفنا تلك الصورة المأساوية التي إن دلَّت على شيء فإنما تدل على فُجر الخصومة الذي يصل إلى هذا الحدِّ من التدني والخسة؛ فقد وصل العميد (موسى) إلى السجن واجتمع بالمأمور وطلب منه قوة السجن كاملةً بالسلاح داخل حوش السجن (مع أن هذا منافٍ تمامًا للائحة السجون التي تُحرِّم دخول السلاح إلى داخل السجن).
واصطف الجنود حاملي أسلحتهم ووقف منهم سيادة العميد خطيبًا محرضًا لهم عليكم بالضرب في المليان في الإخوان، وصمت الجميع.. لكن صوتًا قويًّا ثابتًا واثقًا في الله دوَّى في المكان وخرج من النقيب مصطفى محذرًا أنا الذي سأقتل مَن يتعرض لهؤلاء العُزَّل.. ما ذنب هؤلاء؟.. وذهل الجميع وحاول العميد والمأمور إثناءه عن ذلك دون جدوى.. وكان مصطفى يستمد قوته أولاً من إيمانه بالله.. وثانيًا من قوة أسرته وأصالتها في الصعيد (عائلة أبو دومة)، ويعلم الجنود بهذا فإنهم كانوا بقدرِ حبهم وتقديرهم لمصطفى يخشونه ويخشون عائلته بسطوتها وجبروتها.
انسحب الجميع.. وظلَّ مصطفى يحرسنا مع رعاية الله 15 يومًا.. ونجَّى الله الإخوان من شرِّ هذا المخطط.
ومن المواقف التي لا تُنسى لهذا الرجل أنه رفض التصويت بنعم في أول استفتاءٍ لعبد الناصر رغم توسلات رئيس لجنة الانتخابات خوفًا على نفسه.
لقد أُعفيَ مصطفى من منصبه وأُحيل إلى التقاعد، ثم أُعيد إلى سلك الشرطة برتبة اللواء حتى أنهى مدة خدمته نموذجًا للشرف والأمانة والقوة في الحق.