ذكرياتي مع دعوة الإخوان

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
ذكرياتي مع دعوة الإخوان في المنزلة دقهلية

بقلم: الدكتور جابر قميحة

محتويات

توطئة

ليست هذه الكلمات تاريخاً، ولا مذكرات، ولا ذكريات، ولكنها قطوف من كل ذلك بقدر ما تسعف به الذاكرة تلقائياً، وقد يعوزها التسلسل التاريخي، ولكن لا يعوزها الصدق والبعد عن الإسراف والشطط والمغالاة ..

مقدمة الناشر

من الذكريات ما يطويه الزمن، ويسدل عليه ستائر النسيان، ومن الذكريات ما يطوف به الإنسان في فترات متباعدة من حياته، ولكن في صورة شبحية غائمة، ومن الذكريات ما يتغلغل في نفس الإنسان حتى تتشربه روحه، وتغدو هذه الذكريات كأنها عضو حي من أعضائه.

هكذا يقول الأستاذ الدكتور "جابر قميحة"، الشاعر والأديب والداعية، وصاحب القلم المشهر في وجه الفساد والطغيان، المسخر لخدمة الإسلام والدعوة، وهو يصف أنواع الذكريات ليصل إلى أن ذكرياته مع الإخوان المسلمين في مسقط رأسه، ( المنزلة بمحافظة الدقهلية ) هي من النوع الأخير المتجذر في مشاعره، والمتغلغل في روحه التي اهتدت بفطرتها في بواكير عمره إلى الطريق الحق، الطريق الذي خط معالمه رجالات الإخوان، متأسين بالرسول ( صلى الله عليه وسلم )، وواعين بتبعات اختيار طريق الدعوة، والعثرات الوعوائق التي ستقابلهم عليه. وقد أراد د. جابر قميحة أن يقدم هذه الذكريات المحفورة في ذاكرته إلى شباب الدعوة، بل لكل شاب يبحث عن هدف، ويريد أن يهتدي إلى أقوم طريق، وهو يقدمها بقلمه النابض، فيرصدها بذاكرة المؤرخ حيناً، ومنهج المحلل للأحداث والمواقف حيناً آخر، ويصوغها بمشاعر الحنين الدافق إلى أجواء الطفولة التي شهدت الدعوة نقية طاهرة، وعايشت رموزها نبضاً حياً، وحركة دءوبة لخدمة الإسلام والجهاد في سبيله، والدفاع عن قضايا المسلمين، وعلى رأسها القضية الفلسطينية التي أبلى الإخوان المسلمون أحسن بلاء في الذود عنها، وكانوا طليعة المجاهدين والشهداء على أرض الرباط.

إنما كلمات تفيض صدقاً وعشقاً لدعوة الإخوان التي في كنفها كبر الصغار، وعلى مبادئها رحل الكبار، وبقيت هي تزيدها الضربات قوة، وتجدد الطعنات دماءها.

وهي صورة من صور الجهاد اختارها د. جابر قميحة ممتشقاً سلاح القلم الذي يجهر بالحق، ولا يخشى في الله لومة لائم.

النَّاشِر

مقدمة المؤلف

الإنسان هو مجموعة من "الأعمال والمواقف"، ورجل الدعوة - في إيجاز شديد – " هو ذلك الرجل الذي يعيش بماضيه في حاضره لمستقبله ".

وأعني برجل الدعوة وريث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في حمل رسالته، والاضطلاع بها، ونشرها على كل المستويات بما تحمل من مبادئ وقيم تنفع الإنسان في دنياه وأخراه. وميراث النبوة ليس مالاً، ولكنه علم وقيم. فالماضي الحي هو الركيزة والمنطلق، يعيشه المسلم، وخصوصاً الداعية " في حاضره بقيمه: العقدية، والخلقية، والإنسانية، وينطلق منه لصنع مستقبل حي مشري وضيء.

وفي كل أولئك، على المسلم أن يفيد وينفع وينتفع بكل جديد من معطيات الآخرين، حتى لو كانوا من غير المسلمين، فالحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق الناس بها.

ومعروف أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أخذ فكرة " حفر الخنادق " للتحصن من الفرس عن طريق سلمان الفارسي، وعنهم أخذ عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – نظام الدواوين.

ويهب العلمانيون يتهمون الدعاة الرساليين بالتخلف والانغلاق، ويدعون أن الحياة المثلى في الانسلاخ من قيم الماضي، والانفتاح لمعطيات الغرب. إن مثل هذا العلماني الإنكاري – وقد لقبته بأمير العميان – قلت فيه:

يا أمير العميان حسبك زوراً
قد تماديت في هوى التزوير
فلتقل ما تشاء فالحق أبقى
لست في العير أنت أو في النفير
فلقد عشت منكِراً كل حق
وجهولاً متوجاً ... بالغرور
غير أني أقول قولة صدق
لا تبالي بسلطة أو أمير
تعست أمة تراخت فصارت
مركباً هيناً لغرٍّ ... ضرير
يدعي أنه البشير " بطب "
قادر، ناجح، جديد، مثير
فإذا طبه خداع ... وزور
يجعل السهل ألفَ ألفِ عسير
ينكر الأصل والجذور ويبقي
في حماه الملعون كل عقور
وإذا أنكر الجذورَ نباتٌ
مات في لفْحَةِ اللَّظى والهجير

ومن معايشتي لدعوة الإخوان في المنزلة دقهلية – مسقط رأسي – ما يزيد على ستين عاماً، تعلمت الكثير والكثير ... تجارب، وعلوماً ومعارف، وتأثرت بتوجيهات أساتذتنا الأجلاء في هذا الحقل العامر النظيف.

وقلت في نفسي: إن علي واجباً يتلخص في تقديم تجاربي ورؤاي – في منطقة المنزلة – للجيل الجديد من شباب الإخوان. وأنا المؤمن إيماناً وثيقاً بأن الداعية هو ذلك الذي يعيش بماضيه في حاضره لمستقبله.

وهأنذا أقدم صفحات هذه الحياة من جهود الإخوان وجهادهم في منطقة المنزلة دقهلية، مع ملاحظة أن أغلب ما كتبت اعتمدت فيه على الذاكرةن أو ما يسميه بعضهم " الاجترار الذهني "، آملاً في أن يكون ما كتبته في النفع لمن يقرأه وخصوصاً الشباب.

والله ولي التوفيق ....

الدّكتور’ جابر قميحة

الأدبي أو العلمي

من أربعة وسبعين عاماً ولدت في مدينة المنزلة بأقصى شمال دلتا النيل. وفي مجال التعليم كان هناك الكتَّاب لتحفيظ القرآن .. ثم تعلم بعض معالم القراءة والكتابة فيما يسمى " المرحلة الإلزامية أو الأولية ". ثم المرحلة الابتدائية (أربع سنوات)، ثم المرحلة الثانوية ( خمس سنوات ) منها أربع للثقافة العامة، أما السنة الخامسة فهي للتخصص الأدبي أو العلمي.

التحقت بالمرحلة الابتداية في قرابة العاشرة من عمري، في مدينة المنزلة. وفي مجال التعليم كان هناك الكتَّاب لتحفيظ القرآن .. ثم تعلمت بعض معالم القراءة والكتابة فيما يسمى " المرحلة الإلزامية أو الأولية ". ثم المرحلة الابتدائية (أربع سنوات)، ثم المرحلة الثانوية ( خمس سنوات ) منها أربع للثقافة العامة، أما السنة الخامسة فهي للتخصص. وكان بالمدرسة عدد طيب من الأساتذة من الإخوان المسلمين .. منهم عباس عاشور: أستاذ اللغة العربية، وإبراهيم العزبي، أستاذ اللغة الإنجليزية، والمهدي قورة، أستاذ التربية الفنية (الرسم والأشغال) ، وكانت بوادر القضية الفلسطينية تلوح في الآفاق المصرية، وذلك في منتصف الأربعينيات، ويتولى الإخوان المسلمون الدعاية للقضية، وعملية الشحن المعنوي. وقد قاد الإخوان المسلمون مظاهرة في القاهرة بلغت مليونين من المصريين سنة 1947 م وخطب فيها الإمام الشهيد قائلاً: "إن كان ينقصنا السلاح، فسننتزعه من أعدائنا ونلقي بهم في قاع البحار".

وقد استطاع الأستاذ إبراهيم العزبي – أستاذ اللغة الإنجليزية – أن يشدني إلى الإخوان لأكون شبلاً من أشبالهم، مؤمناً إيماناً صادقاً بفكرهم، وذلك لما وجدت فيه من أبوة حانية وحسن معاملة، وتشجيع في المجال العلمي، وسنعرف أن شخصيات ومواقف أخرى اشتركت في العوامل التي شدتني للدعوة، سنعرفها فيما بعد. كانت فلسطين بطوابعها الدينية، وأصالتها التاريخية تهيمن على مشاعرنا من الصغر، وثمة عدد من المواقف مرت بي، والتقيتها في سني الباكرة، منها أن أول ما نظمت من الشعر كان في فلسطين .. والقصيدة طويلة أتذكر منها أبياتاً مطلعها:

فلسطين أمي وحق اليقين
وحق الشهيد غداً تسمعين

وقد نشر القصيدة بعد ذلك الأستاذ (علي الغاياتي) – رحمه الله – في صحيفة منبر الشرق. وتأخذني الحماسة وأنا تلميذ في أواخر المرحلة الابتدائية. وأتحدث إلى أستاذنا (عبد الرحمن جبر) – رئيس منطقة الإخوان في المنزلة بمحافظة الدقهلية، وكان الإخوان قد بدءوا في التطوع للجهاد في فلسطين.

قلت له: أريد أن أتطوع لآداء ضريبة الجهاد، وإنقاذ فلسطين، فقال: لكنك صغير السن .. فأنت لا تتعدى الثالثة عشر من عمرك، قلت: لكني أعلم أن من الأطفال من قاتل في "بدر" مثل: (ابني عفراء).

كان الأستاذ عبد الرحمن يعرف أني وحيد والدي، فابتسم وقال: إن شاء الله قد نحتاجك مستقبلاً، فنطلب منك التطوع والتقدم للجهاد.

قلت: أرجوك .. فاليوم خير من غد .. اسمحوا لي بالتطوع، ولو جعلتم مهمتي أن أقدم للمجاهدين "الشاي والقهوة".

فقال وهو يبتسم: مستحيل: فعندهم أمر بعدم التدخين وشرب الشاي والقهوة. وبت في ليلتها وأنا في بكاء متواصل، وأذكر أن مدرستنا – وكنا في آخر المرحلة الابتدائية – قامت برحلة إلى معالم القاهرة، ومن ضمن هذه المعالم "المتحف الزراعي" تقدم منا أحد "السعاة" المسئولين عن قسم من أقسام المتحف، وقدم إلينا نفسه دون أن نطلب منه ذلك: أخوكم عبد السميع قنديل، من إخوان إمبابة وقد تطوعت للجهاد في فلسطين، وإن شاء الله سيكون اسمي في أول قائمة من قوائم الشهداء .. وحقق الله ما تمنى، وقرأت اسمه في أول قائمة من قوائم شهداء الإخوان في فلسطين. إنه حديث ذو شجون، أوردته عفو الخاطر، من قبيل التذكرة حتى يبقى الارتباط النفسي بيننا وبين فلسطين والمسجد الأقصى، أرضاً وتراثاً حياً لا يموت.

وإنصافاً للحقيقة التاريخية، أعرض على القارئ ما علمته بعد ذلك، وخلاصته أنه اختلف مع شقيقه عبد المنعم اختلافاً شديداً: كل منهما مصر على التطوه للجهاد في سبيل فلسطين، وأبوهما شيخ كبير. وأمام إصرارهما أجاز الأب تطوعهما .. وجاهدا في الله حق جهاده. واستشهد عبد السميع، وعاد عبد المنعم .. بعد تآمر حكامنا، والقبض على الإخوان المجاهدين، وعاش بعدها عبد المنعم سنوات صاحباً ومديراً لمحل "ساعاتي بور سعيد" بميدان الدقي بالجيزة.

وهذه الواقعة – على بساطتها – إنما تدل دلالة صادقة على عمق التمسك بدعوة الإخوان، وصدق الاعتقاد دون توان، أو خلل. ولنبدأ الطريق من أوله بالتعرف – على سبيل الإجمال – على بعض الخطوط التاريخية والواقعية في مدينة المنزلة ( مسقط رأسي).

المنزلة أحد مراكز محافظة الدقهلية الإدارية، وتقع في الشمال الشرقي من مصر، وقد سميت من قبل تنيس وهي كلمة هيروغليفية تعني صناعة الحرير، حيث اشتهرت هذه المدينة قديماً بصناعة الحرير الطبيعي، أما سبب تسميتها بالمنزلة فتذكر بعض المصادر التاريخية أن ذلك يرجع إلى كتاب عمرو بن العاص الذي رد فيه على رسالة القعقاع بن عمرو التميمي، والذي أخبره فيه أنه نزل في هذه المنطقة بعد أن فتح أحد حصون الرومان، فقال له عمرو: بارك الله في منزلتك يا قعقاع، فسميت بالمنزلة.

والمنزلة عبارة عن بيئة تجمع بين سمات الريف والحضر، وبها بحيرة معروفة ومشهورة هي بحيرة المنزلة. وتتميز بحيرة المنزلة بانتشار مجموعة من الجزر، أهمها: جزيرة ابن سلام، وتضم ضريح الصحابي الجليل عبد الله بن سلام، حيث يفد إليها أعداد كبيرة من الزائرين، كما تتميز البحيرة بغناها بالثروة السمكية والطيور المهاجرة إليها من مختلف الأنواع، ويتم الآن دراسة استغلالها سياحياً. وتحمل مدينة المنزلة كل السمات البشرية والثقافية والعمرانية للمراكز الإدارية التابعة لمحافظات الوجه البحري (دلتا مصر).

وللمنزلة تاريخ مجيد في مقاومة صنوف الاستعمار:

وكان لهذه البلدة شأن وخطر لما امتد في أنحائها من أسباب الثورة، ولظهور جماعة من زعماء الأهالي يحرضون الناس على مقاومة الفرنسيين، وقد برز من بينهم في تقارير القواد الفرنسيين اسم "حسن طوبار" شيخ بلدة المنزلة كزعيم للمحرضين وخصم عنيد لا يستهان به، ومدبر لحركات المقاومة في هذه الجهات. وكان "حسن طوبار" زعيماً لإقليم المنزلة الذي سبب متاعب كثيرة للفرنسيين .. كتب ريبو يصف سكان هذه الجهات بقوله: "إن مديرية المنصورة التي كانت مسرحاً للاضرابات، تتصل ببحيرة المنزلة، وهي بحيرة كبيرة تقع بين دمياط وبيلوز القديمة، والجهات المجاورة لهذه البحيرة وكذلك الجزر التي يسكنها قوم أشداء ذوو نخوة، ولهم جلد وصبر، وهم أشد بأساً وقوة من سائر المصريين".

بدأت الحملة تتحرك على البحر الصغير من المنصورة يوم 16 من سبتمبر 1798م بقيادة الجنرال (داماس و وستنج) اللذين أنقذهما الجنرال دوجا، وقد زودهما بالتعليمات التي يجب اتباعها، وفي هذه التعليمات صورة حية لحالة البلاد النفسية ومكانة الشيخ "حسن طوبار".

تحرك الجنرال على رأس الجنود الفرنسيين، وساروا بالبحر الصغير على ظهر السسفن، فأرسوا ليلاً على مقربة من (منية محلة دمنة)، وشعر أهالي المنية باقتراب الحملة فأخلوا بلدتهم، وكذلك كان الوضع في القباب الكبرى، وقد كلف الجنرال داماس مشايخ بعض القرى أن يبلغوا أهالي القريتين أن يعودوا، فإن القوة لن تنالهم بشر إذا دفعوا الضرائب المفروضة عليهم. وهناك افترق القائدان، فرجع الجنرال "وستنج" إلى المنصورة، ومضى داماس إلى المنزلة لإخضاعها ومعه من الجنود أكثر من ثلاث مائة جندي بأسلحتهم وذخيرتهم، غير أن الجنرال "دوجا" وجد أن هذا العدد من الجند ليس في مقدوره القضاء على مقاومة المنزلة؛ مما دفعه إلى أن يطلب المدد من داماس، وبعد محاولات عدة فاشلة فشل الفرنسيون في اقتحام البلدة العنيدة لتظل المنزلة فيما بعد في ذاكرة قادة الحملة الفرنسية، وقد ذُكرت المنزلة في كثير من مذكراتهم مقترنة باسم حسن طوبار هذا المجاهد العظيم.

أثناء العدوان الإسرائيلي على مصر ( سنة 1956م ):

بعد العدوان الإسرائيلي على مصر، ومع امتلاكه سلاح جو رفيع المستوى، أصبحت مدن مصر في مهب قذائف العدو، ولاسيما المدن المتاخمة على شاطئ قناة السويس، ومنها محافظات السويس والإسماعيلية وبور سعيد.

لذلك؛ عمل معظم أهل هذه المحافظات وساكنوها على الهروب منها، واللجوء إلى إحدى المدن القريبة نسبياً من هذه المحافظات، وأن تكون بعيدة وبمنأى عن قذائف العدو.

وكانت مدينة المنزلة هي أنسب هذه المدن لذلك؛ لما عرف عن أهلها من الكرم وسعة الصدر، وقد استقبل أهل المنزلة اللاجئين، أو كما كان يطلق عليهم حين ذاك (المهاجرون) ، وقد عمل أغلب هؤلاء المهاجرين في الأعمال التي تشتهر بها المنزلة، مثل: الزراعة، وصناعة الأدوات الخشبية والأثاث، والصيد، وذلك سهَّل عليهم انخراطهم في مجتمع المنزلة قبل أن تنتهي الحرب ويعود كل منهم إلى الديار.

المنزلة ودعوة الإخوان

كانت مدينة المنزلة من أسرع المدن استجابة للإمام الشهيد، عند بداية نشوء الدعوة، كما كان لشعبة المنزلة نشاط كبير جداً في مقاومة حركة التنصير. وقد كتب الإمام الشهيد عن ذلك في مذكراته مما يطول شرحه لو أردنا أن تتبعه.

كيف كانت بدايتي مع الإخوان :

من الذكريات ما يطويه الزمن، ويسدل عليه ستائر النسيان إلى غير رجعة.

ومن الذكريات ما يطوف بالإنسان في فترات متباعدة من حياته، ولكن في صورة شبحية غائمة، لا تثير في النفس من المشاعر إلا هوامشها الطافية، ومساحاتها السطحية.

ومن الذكريات ما يتغلغل في نفس الإنسان حتى تشربه روحه، وتغدو هذه الذكريات كأنها عضو حي من أعضائه، بل أشدها وأقواها نبضاً وحياة.

أقول هذا بعد ما مضى ما يزيد على ستين عاماً على واقع عظيم لذيذ .. عشته لساعات، وأنا تلميذ بالمرحلة الابتدائية، وذلك في مدينة "المنزلة" – بلدي ومسقط رأسي – وهي تبعد عن القاهرة بقراية مائة وخمسين ميلاً.

أنا رأيتهم .. عايشتهم

كان ذلك في شارع (البحر المردوم) – أوسع شوارع "المنزلة" وأطولها – فبعد صلاة الظهر – في يوم شديد الحرارة – رأيت مسيرة من خمس مائة رجل على الأقل، ما بين شاب في العشرين، وشيخ جاوز الخمسين .. أزياؤهم واحدة: لونها "كاكي"؛ والزي الواحد يتكون من "بنطلون قصير (شورت)، وجورب طويل، وقميص، وطربوش، ومنديل أخضر كبير يلف على العنق، ويرخى قرابة نصفه على منطقة التقاء العنق بالظهر على شكل مثلث، ويتدلى طرفاه على الصدر محبوسين بحابس من الجلد.

عرفت بعد ذلك أن هذا الزي يسمى "زي الجوالة"، وأن هؤلاء جميعاً – من شباب وكهول وشيوخ – اسمهم "جوالة الإخوان المسلمين"، وأنهم جميعاً من أهل المنزلة والقرى التي تحيط بها، وقد جمعت هذه المسيرة الموحدة الزي فلاحين وعمالاً وأطباء ومدرسين ووعاظاً وتجاراً.

ياه !! أنا لم أشهد مثل هذه المسيرة من قبل، لا في الواقع، ولا في الخيال والأحلام .. صدقوني.. رأيتهم يسيرون على دقات طبول منتظمة، تتخللها أصوات وية نفاذة من "النفير" أو "البروجي"، وكان النافخون في هذه "الآلة النحاسية" لا يقلون عن أربعين جوالاً موزعين على ثلاث مجموعات: في المقدمة والوسط والمؤخرة، ومن عجب أن النافخين كانوا ينفخون كل مرة قرابة خمس دقائق دون نشاز، ودون أن يسبق نافخ زميله، أو يتأخر عنه للحظة واحدة على تباعد أماكنهم.

ثم يصدر الأمر من قائد المسيرة الأستاذ ( محمد قاسم صقر ) – رحمه الله – بالتوقف ليهتف كل من في المسيرة وراء حامل المصحف الكبير: "الله أكبر ولله الحمد" ، "الله غايتنا، والقرآن دستورنا، والرسول زعيمنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا".

وفي نهاية الشارع الطويل تطول وقفة المسيرة بأمر القائد لعشر دقائق، ليكون بعد الهتاف السابق نشيد ما زلت أذكر مطلعه وكلماته :

هو الحق يحشد أجنادَهُ
ويعتد للموقفِ الفاصلِ
فصفُّوا الكتائبَ آسادَهُ
ودكوا به دولةَ الباطلِ


سبحان الله ! ما شاء الله ! من علم هؤلاء – الذين أراهم لأول مرة – كل هذه الآداب، الطاعة، والنظام، والإنشاد، والانضباط، وكلهم على قدم المساواة، استجابة، وتنفيذاً مع اختلاف ثقافاتهم، وأنماطهم الفكرية، ومراكزهم الاجتماعية، بل إن كثيرين منهم أميون لا يعرفون القراءة والكتابة ؟

وأراني أربط ربطاً قوياً بين هذه الخاطرة، وحقيقة تاريخية قرأتها بعد ذلك بسنوات، وخلاصتها أن "رستم" – قائد جيوش الفرس – كان إذا سمع تكبير المسلمين للصلاة في خط المواجهة الفارسي، بكى، واستبد به الحزن، وصرخ: "أكل عمر بن الخطاب كبدي" ، أي: قتلني عمر، فيسأله من بحضرته: كيف أكل كبدك وأنت حي بيننا ؟ فيجيب: "لأنه يعلم هؤلاء الأعراب الآداب".

وأعود لخاطرتي، وأقول: بمثل هذه "الآداب" استطاع أصحاب هذه "المسيرة الإسلامية" أن يأكلوا أكباد اليهود في فلسطين أواخر الأربعينيات، ويأكلوا أكباد الإنجليز في خط قناة السويس أوائل الخمسينيات.

وأعود إلى "المسيرة الإخوانية" في مدينتي "المنزلة" وأراني – أنا ابن العاشرة – أكاد أطير من الفرح .. إنهم يسيرون، وخطواتي الضيقة لا تتمكن من مسايرة خطواتهم الواسعة إلا بشيء من الجري بين الفينة والفينة، وكأنني أخشى أن يتخطوا مجال رؤيتي، فيقفز قلبي من بين جنبي، ويواصل المسيرة المنتظمة معهم، ويحثني أن أُغَذِّ السير، حتى أدركهم، ويسكن صدري من جديد .. ومع فرحي الغامر، كان شيء من الحزن يخامرني؛ مخافة أن ينتهي العرض الحلو الجليل.

ياه !! ليته يستمر ساعات .. بل أياماً متواصلة .. إن تيار الشعور المتدفق في نفسي لم تستطع ولن تستطيع اللغة أن تعبر عنه بكماله، إنها حقيقة أؤكدها بصدق وأمانة، وأستحضرها، وأنا أقرأ فيما بعد قول أبي تمام في حديثه عن فتح عمورية على يد المعتصم:

فتح الفتوح تعالى أن يحيط به
نظم من الشعر أو نثر من الخُطَبِ

فمن المواقف والمشاعر ما يكون له من الأبعاد والدلالات والإشعاعات والظلال ما تعجز اللغة – أية لغة – عن الإحاطة بكل أقطاره.

  • ولكن ما شأن هذا "العرض" أو هذه المسيرة ؟ ولماذا خرجت ظهر هذا اليوم بالذات ؟
  • وأسأل "عم مسعد" الخضراتي صديق والدي، فيأتيني جوابه:

- دول رجالة الشيخ حسن البنا؛ لأنه سيحضر الليلة، ويخطب في الصوان (السرادق) الكبير .. راجل فصيح قوي .. سمعته مرة في بور سعيد و .. و ..".

- حسن البنا ! حسن البنا ! إنه اسم لم أسمع به من قبل.

ورأيت المرشد الجليل

وبعد صلاة العشاء كنت أنا ووالدي نأخذ مكانينا في السرادق الكبير، أما "جوالة" الظهيرة، فقد انتشروا داخل السرادق، وخارجه لإقرار النظام. وبعد نصف ساعة ارتج المكان بالهتاف: "الله أكبر ولله الحمد". الله أكبر ولله الحمد. لقد حضر المرشد. رأيته وعلى فمه ابتسامة عريضة، وهو يشق طريقه إلى المنصة بين صفين من الجوالة على هيئة "كردون" وهم متشابكو الأيدي، واستطاعوا بصعوبة بالغة أن يمنعوا – بظهورهم – تدفق الجمهور المتدافع من الجانبين لمصافحة المرشد العظيم.

وعلى مدى ثلاث ساعات، كان الناس يستمعون إليه كأن على رؤوسهم الطير، لقد سمعته يقدم لوناً جديداً من الكلام .. كلاماً يختلف تماماً عما نسمعه في خطب الجمعة، واحتفالات المولد النبوي، ومن المشهور عن بلدي (المنزلة) أنها بلد الصيد والبحارة (نقل الركاب والبضائع بالسفن الشراعية في بحيرة المنزلة) انطلق حسن البنا في حديثه فشبه الأمة بسفينة: جسمها الشعب وشراعها الإيمان ودفتها الحكومة، وقد تعوزني الدقة في هذا التجزيء التشبيهي .. ولكن الذي أذكره – وقد مضى أكثر من ستين عاماً على ما سمعت – أن السفينة كانت مشبهاً به، وأنه – رحمه الله – دخل نفوس الناس من الدقائق الأولى، وهو يشرح مقولته مكثراً من الاستشهاد بالقرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، ووقائع من السيرة النبوية وحياة السلف الصالح.

كنت – على صغر سني – أفهم، بل أعيش كل كلمة يقوله الرجل العظيم، ولكن الأهم من ذلك، هو إحساسي القوي – وأنا مأخوذ بما يقول – بأنه يوجه نظراته وكلماته إلي دون غيري. وأخفيت هذا الخاطر عن والدي إلى أن سمعته يقول لأحد جيراننا في اليوم التالي: "لقد شدني الشيخ – الله يكرمه – كنت أشعر أنه يخصني بنظراته وبهذا الكلام الجميل ....". وسمعت الكلام نفسه يقوله الرجل لأبي: بل كان ينظر إلي أنا .. لا لأحد آخر. فآمنت بأن الرجل قد بلغ مقاماً من "البلاغة الإيمانية" لا يرقى إلى مثلها إلا الأقلين على مدار التاريخ الإنساني كله.

والبلاغة اللغوية تتمثل في الأسلوب الراقي، فيقال: "رجل بليغ" أي: حقق مقتضيات البلاغة، وقد عرفها بعضهم بأنها "صياغة المعاني الجليلة بعبارات صحيحة، فصيحة الألفاظ، تمتاز بقوة التأثير في النفس، مراعية حال المخاطبين والمناسبة التي قيلت فيها". وقد تستعمل "الفصاحة" كمرادف لها. وإن عرفها بعضهم "بأن تكون كل لفظة في الكلام مبينة المعنى، مفهومة، عذبة، سلسة، متماشية مع القواعد الصرفية.

وهناك آليات لتحقيق هذه البلاغة، منها الصور البيانية من تشبيه واستعارة وكناية .. إلخ. وهذه الآليات حسية، ومعاييرها محددة معروفة.

أما البلاغة الإيمانية، فصفة نفسية روحية تعني القدرة الفائقة للمتكلم على التأثير.

ومن الصعب جداً تعريفها تعريفاً محدداً. وإن أمكن التعرف إليها وعليها بصورة مقاربة للواقع: فهي صفة نفسية روحية تعني القدرة الفائقة للمتكلم على التأثير في المستمعين "وَصْلات" لاسلكية غير مرئية. وهذه البلاغة تحقق أهدافها تلقائياً في صورة بريئة من الافتعال والتعسف.

وقالت مشاعري إنها الذكرى التي لا تنسى، وكانت – وما زالت – مغروسة في القلب، دافقة في الدم .. ذكرى أول مرة، وآخر مرة .. رأيت فيها الإمام العظيم حسن البنا. وكان من بداياتي الشعرية، أو المتشاعرة، ما عكسته هذه الذكرى من كلمات سجلتها بعد استشهاده بعامين، وأنا طالب في المرحلة الثانوية إلى أحد تلاميذه يخطب، وفي نبراته وطريقته بعض من سمات الإمام الشهيد .. وأنقل – دون تعديل – هذه الكلمات التي سجلتها في أوراقي سنة 1951 م:

رأيته ..
أمامَه من القلوبِ ألفُ ألفٍ تَسمعُ
رأيتهُ كأنما يُلَحِّن الضياءَ والشفقْ
ويرسلُ النشيدَ من نياطِ قلبه الكبيرْ
ترتيلةً من الذهبْ
قل يا إمامُ قل
وحينما سمعته يقولْ
"الله غاية الغايات يا صحاب"
رأيتُ فجر النور في الأفقْ
وألفَ ألفِ محرابٍ يُسَبِّحُ
وكلُّ عين في الضياء تَسْبَحُ
والأرضُ – يا لَلأرضِ – أصبحت سماءْ
والليلُ فجراً مائجاً بأقدسِ الأسماءْ
وبحرُ سر الله .. لا يُحَدْ
الحي، والقيومُ، والجبارُ
والسميعُ، والعليمُ، والغفورُ، والأحدْ
.........
قل يا إمامَنا حسنْ
فكل ما تقوله حسنْ
"زعيمنا محمدٌ .. له الولاءْ
وغيرُه في عصرنا ادعاءْ
وحبُّه فريضة مؤكدةْ
صلى عليه الله والملائكةْ".
وعندها .. رأيتُه .. محمداً
ورايةُ " العُقابِ " تَمْخُرُ
وتحتها جنودُه – إذ يرحفونَ
نحو بدرْ
وكلهم يفديه بالعيون والقلوب والولدْ
وكلهم أسدْ
يقينه بالله لا يحده أمدْ
رأيتُهم في زحفِهم وكرِّهم
والكافرين في انكسارِهم وفَرِّهم
وعندها رأيتُها " العُقابَ "
في ازدهائها العظيمِ تبتسمْ
"قد جاء نصرُ الله فاسجدوا
وهللوا .. وكبروه .. واحمدوا" .
.........
قل يا إمامنا حسنْ
فكل ما تقوله حسنْ
وإنك البَنَّاءُ في السراء والمحنْ
" الموت في سبيل اللهِ
أسمى الأمنياتِ والمننْ
قد خاب قوم طلقوا الجهاد والجِلادَ
واستجابوا للوَهَـنْ" .
ونلتَ يا إمامَنا العظيمَ ما اشتهيتْ
إلى السماءِ سيدي قد ارتقيتْ
إلى جوارِ الله سيدي .. علَوْتْ


سائح يطلب الحقيقة

إنها كلمات قد يعوزها – في ميزان النظر الحاضرة والتقييم الآني:

غير قليل من الفن، ولكن يكفيني أنني أطلقتها بعفوية ومصداقية، ووفاء وحب وتقدير لرجل قال عنه – أحد ألد أعدائه: إنه لو عاش لتغير وجه المنطقة، وربما وجه التاريخ. فهو لم يكن رجلاً ممن تصنعه الأحداث، ولكنه رجل ممن يصنعون الأحداث، ويربون تلاميذهم على الإيمان، والصبر، والثبات، والدقرة على المواجهة، والإيثار. وعاش الإمام – كما صور نفسه بأمانة دون إسراف حين سأله صحفي: من أنت؟ "أنا سائح يطلب الحقيقة، وإنسان يبحث عن مدلول الإنسانية بين الناس، ومواطن ينشد لوطنه الكرامة، والحرية، والاستقرار، والحياة الطبيعية في ظل الإسلام الحنيف. أنا متجرد أدرك سر وجوده فنادى ﴿ قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ﴾ ( الأنعام: 162 – 163).

وانتصرت ( الله أكبر ولله الحمد )

لذلك كان أعداؤه صادقين .. صادقين مع أنفسهم ومع شياطينهم، حين رأوا أن الميدان يجب أن يخلو من هذا الرجل؛ حتى تستمر مسيرة الضلال الصهيونية والصليبية والإباحية.

وسقط الرجل – آسف – بل علا الرجل شهيداً في سبيل الله، ولكن مسيرة الحق – التي رأيت مثلها في طفولتي – صارت مسيرات تظللها راية "إياك نعبد وإياك نستعين" مسيرة ومسيرات انطلقت من "هنا" إلى "هناك" لتحقق لا فتحاً واحداً، ولكن فتوحات لا تحصى .. ووضع جنود حسن البنا أقدامهم بثبات وإيمان في كل قارات المعمورة ينشرون "الرسالة العظمى" التي انفتحت لها ملايين القلوب، وانتقلت "الله أكبر ولله الحمد" تهز أقطار أوروبا وأمريكا، وصدق الله وعده، فهو القائل: ﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ﴾ (النور: 55).

عوامل الجذب والتحبيب

ومما حببني في دعوة الإخوان وشعبتها في المنزلة غير رؤيتي للإمام الشهيد، وامتلاء نفسي بكلمات الأستاذ (إبراهيم العزبي) – أستاذ اللغة الإنجليزية بالمدرسة الابتدائية – وهو من قرية "ميت سلسيل" مركز المنزلة. كان نحيل الجسم، متوقد الذكاء، وكان يدرس لنا اللغة الإنجليزية ونحن في الصف الثالث الابتدائي، (إذ كانت الإنجليزية تدرس لنا ابتداءً من الصف الأول) كان يدرس لنا الإنجليزية بطريقة تربوية محببة، وكنت موضع تقديره، فلم يكن يخاطبني ويناديني إلا بـ "الأخ جابر"، وفي الفسح كنت أقصده في مكتبه، فيزودني بكلمات طيبات من مبادئ العوة، وخلق الإخوان. كان نحيفاً، ولكنك إذا تحدثت إليه شعرت بأنك تتحدث إلى واحد من أقوى الأقوياء، وأبطل الأبطال.

ومن أساتذتنا في المرحلة الابتدائية الأساتذة: رأفت الخريبي، وشمس الدين المحلاوي، والمهدي عبد الرازق قورة، وطه الغوابي.

وفي المدرسة كنت واحداً في فريق تنس الطاولة "البنج بونج"، وأذكر ممن كان معي في الفريق التلاميذ: إبراهيم محمد شلباية، ونسيم السعيد الشبيني، الشهير بالأسمر، ورأفت زكي البحيري (من "أبو المطامير" وأبوه كان طبيب مستشفى المنزلة الأميري). ويشرف على الفريق مدرس من الإخوان وهو الأستاذ المهدي قورة .

كنت أحب اللعبة حباً شديداً، ومما شدني إلى شعبة الإخوان وجود منضدة "تنس طاولة"، فكنت أزاول اللعبة في الشعبة بعد انتهاء الدارسة، وغالباً ما كانت مبارياتي مع العامل الأخ محمد حسن عساسة.

ومما شدني كذلك إلى شعبة الإخوان، مكتبة كانت تلبي هوايتي في القراءة. وكنت – من صغري – بحمد الله "مريضاً" بحب القراءة. وقد شجع فيَّ هذه الصفة الأستاذ (عبد الرحمن جبر) صاحب المدرسة الخديوية الابتدائية ومديرها، ورئيس منطقة الإخوان بالمنزلة، وكان يمدني – هو وابنه محمد – بكتب مكتبة مدرسته على سبيل الإعارة.

وكان للأخ عبد الحميد الزهرة، دور كبير في حبي للدعوة وشعبة المنزلة، كان شخصية متكاملة خلقاً، وسلوكاً، والتزاماً، وكنت أصحبه في زيارته لشعب القرى التابعة للمنزلة.

يعلّم إخوانها واجبات الأخ الجوال، و "مارشات" الموسيقى التي تنظم مسيرات الجوالة، وقد علمني الأخ عبد الحميد "مارش البحارة" الذي ما زلت أذكره حتى الآن.

ونعتبر – نحن طلاب المرحلة الابتداية، والمرحلة الثانوية – الجيل الثاني في قسم الطلبة – أما الجيل الأول فيتمثل في طلاب الأزهر والجامعات، وهم بالطبع يكبروننا سناً، ومنهم الإخوة: أحمد عبد العظيم السودة، وخليل أحمد حال، وشلبي أبو رزق، وتوفيق العبد، وإبراهيم حسن الشبلي، وعبد العزيز أحمد حال، وعبد الحليم الخريبي، وسيد أحمد البواب (الشهير بخليفة).

أما مجلس الإدارة وكبار الإخوان في الشعبة، فإنني أذكر منهم: الأساتذة عبد الرحمن جبر، صاحب المدرسة الخديوية الابتدائية الحرة، وكان رئيس منطقة الإخوان (التي تضم شعبة المنزلة وشعب القرى التابعة لها) كالبصراط، والجمالية، والعزيزة، وميت خضير، والجديدة، والفروسات، ومنهم الشيخ كامل الخريبي "والد أسامة شاعر الإخوان بالمنزلة" ، ومحمد قاسم صقر، وتوفيق عبد الرازق قورة ( الشهير بحامد)، وحامد سيد أحمد منيسي، وفهمي الخياط، والدكتور يوسف باشة، والطبيب بيطري عبده حمزة فراج، وأحمد سليمان زين الدين، وأغلبهم خطباء ودعاة متميزون، ومنهم تعلمت الخطابة ارتجالاً قبل التحاقي بالمرحلة الثانوية.

ومن أنشطتنا – نحن الطلاب في هذه المرحلة وأوائل المرحلة الثانوية – إجراء مباريات في كرة القدم مع فرق الإخوان، بالقرى والبلاد الأخرى، منها منية النصر، والدراكسة (مركز دكرنس دقهلية). ومن نجومنا في هذه المباريات الحسيني حسن النجار (حارس المرمى)، وأحمد صالح العلمي، وطاهر عباس عنين، ومحمد علي حسان.

وفي هذه الرحلات الرياضية – زيادة على الفوائد المباشرة – فوائد دعوية ومعنوية، منها توثيق عرى المحبة والأخوة بيننا وبين إخوان البلاد الأخرى.

ومن طرائف هذه الفترة، أننا شكلنا مجموعة أطلق عليها فرقة "فرسان الحمير"، وهي من ثمانية طلاب، كانت توم أسبوعياً بزيارة شعبة من شعب الإخوان في القرى المجاورة؛ للتعارف وتبادل المعرفة والرأي في مبادئ الدعوة، وجهود الإخوان، والجديد من الأحداث، وتوثيق رابطة الأخوة بيننا.

واستخدام الحمير للوصول إلى هذه الشعب كان هو الحل الوحيد؛ لأن الطرق الموصلة إليها أغلبها لا يتسع للسيارات. كما أن "الحمير" متوافرة لـ "فرسانها"؛ لأن آباء الفرسان كانوا تجاراً فلكل منهم، لا أقول: حمار واحد، ولكن عدد منها لزوم التجارة وانتقالات التعامل مع القرى المجاورة.

ومن الطرائف، أنني كنت أوثر – من حمير الوالد والأسرة – حماراً طويل القامة، عريض الظهر، وكان رئيس منطقة الإخوان الأستاذ "عبد الرحمن جبر" يميسه الأتوبيس، والسبب أنه وثلاثة من أعضاء مجلس الإدارة احتاجوا حميراً، لزيارة بعض الشعب في القرى المجاورة، لتفقد أحوالها، فأعرناهم من حمرنا. وخصصت أستاذنا بحمارنا (العالي)، ولكنه لم يستطع ركوبه إلا بمساعدة اثنين من الإخوان، فضحك، وقال: "الله .. أنتم مركبني الدور الثاني ليه ؟ جرى إيه يا جابر أنا كنت عايز حمار تقوم تجيب لي أتوبيس!" .

وكان يلذ لنا السير على الأقدام طويلاً. ولكننا لا ننسى – ونحن طلاب في المرحلة الثانوية – رجلتنا سيراً على الأقدام من المنزلة إلى المنصورة (قرابة ثمانين ميلاً). ولم نسترح إلا قرابة نصف ساعة في شعبة الإخوان (بميت عاصم مركز دكرنس)، ثم واصلنا السير إلى شعبة الإخوان بالمنصورة (وكانت تقع في حي ميت حدر)، وكان لقاء طيب في جلسة روحانية إيمانية مع الداعية الإسلامي الأستاذ محمد العدوي – رحمه الله – ولنا عودة بتفصيلات في صفحات قادمات، إن شاء الله.

وأختم هذه الحلقة بحديث صير عن الأستاذ (عباس عاشور) المدرس بالمدرسة الابتدائية، لقد كان عاشقاً للتمثيل تأليفاً، وإخراجاً، وشكل فريقاً للتمثيل بالمدرسة كنت واحداً من أعضائه، وكذلك نسيم أحمد حال (الدكتور نسيم حالياً) والسيد زكي الموجي (رحمه الله)، وحظيت المسرحية واسمها: ( الصياد المحسود ) بشهرة كبيرة جداً على مستوى المنزلة والقرى المجاورة لها.

وفي العطلة الصيفية، أقامت شعبة العصافرة (مركز المنزلة) حفلاً تمثيلياً كبيراً، كانت ضمن فقراته الأساسية مسرحية "الصياد المحسود". وقد أديناها أداءً فائقاً حاز إعجاب الحاضرين، حتى إن الأخ الفلاح الرفاعي حرات أطلق طلقة من بندقية الخرطوش المرخصة، وأخذ يهتف من فرط إعجابه وحماسته: الله أكبر ولله الحمد ... الله غايتنا والرسول زعيمنا ... والقرآن دستورنا .. إلخ.

لقد كانت سنوات المرحلة الابتدائية الأربع هي فترة الجذب، والتحبيب، والتأسيس، والإعداد، فحلت دعوة الإخوان، وشعبة الإخوان في السويداء من قلبي، وبلغ حبي للإخوان أنني طبعت بطاقات شخصية "كروت" كتب فيها: جابر المتولي قميحة طالب ومن الإخوان المسلمين، وأفدت كثيراً من المعارف العامة، والمعارف الإسلامية، وتزودت بطاقة نفسية طيبة جداً، وجرأة في الخطابة ومواجهة الجماهير.

ومن ثم، جاء انطلاقي بعد ذلك في مجالات الدعوة وغيرها امتداداً طبيعياً لهذه المرحلة، جاء بحمد الله على نحو أوفى، داعية، وكاتباً، وشاعراً.

من جهود إخوان المنزلة

الأمر بالمعروف والتصدي للمنكر :

يقول أبو حامد الغزالي: "إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوى بساطه، وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد" .

وقد أخذ إخوان المنزلة أنفسهم بأداء هذه المهمة بقدر ما يستطيعون، ومن مظاهر ذلك:

أ- التصدي لحركة التنصير :

التي أرادت أن تتخذ من المنزلة وكراً، مستغلة فقر الطبقة الدنيا معيناً ونصيراً، وقد كسر إخوان المنزلة شوكة هذه الحركة، بل قصموها وقضوا عليها.

وقد كتب الإمام الشهيد عن هذه الجهود في مذكرات الدعوة والداعية.

وأنقل فيما يأتي ما سجله الإمام الشهيد عن هذا الموضوع في " مذكرات الدعوة والداعية "، (ص 196 – 204) وقد بدأت الأحداث سنة 1350 هـ.

كتب الإمام الشهيد:

لقد أبلى الإخوان المسلمون أحسن البلاء في حركة التبشير التي نجم قرنها في هذا العهد،

وفيما يلي ما كتبته جماعة الإخوان بهذا الخصوص:

لا ندري أمن حسن الحظ، أم من سوئه أن كان بجوار مراكز جمعيات الإخوان المسلمين في القطر المصري مراكز التبشير؟! ففي المحمودية، وفي المنزلة دقهلية، وفي الإسماعيلية، وفي بور سعيد، وفي أبي صوير، وفي القاهرة – مراكز نشيطة للتبشير، ودوائر نشيطة لجمعية الإخوان المسلمين كذلك، وكان طبيعياً أن يحدث الاحتكاك بين الهيئتين، باعتبار أن إحداهما تدافع عن الإسلام، والثانية تعتدي عليه، إلا أن حضرات القائمين بالشئون الإدراية في جمعيات الإخوان المسلمين اعتصموا بالحلم، واستمسكوا بالحمة، وناضلوا بالتي هي أحسن، والتزموا دائماً موقف المدافع لا المهاجم، واعتمدوا في خطتهم على دعامتين صامدتين، أولاهما: إفهام الشعب ما يستهدف له من الخطر بالاتصال بالإرساليات التبشيرية، وثانيتهما: الوسائل العملية من جنس وسائل المبشرين، وقد نجحت هذه الخطة، والحمدلله، نجاحاً باهراً، وتمكنت الجمعية من القيام بواجبها، لا نقول: كل الواجب، ولكنه المستطاع وجهد المقل، ونسأل الله المعونة على استيفاء هذا النقص. وإننا بمناسبة الحركة التبشيرية القائمة، ننقل إلى حضرات القراء بعض الحوادث التي صادفتها الجمعية، والخطط التي سلكتها، نرمي بذلك إلى غرضين: أولهما بيان خطة قد تكون ناجحة، فتعمل بها الهيئات التي تريد خدمة الإسلام، وثانيهما تبشير الأمة بمدى ما وصلت إليه الجمعية من نجاح وتوفيق في حركتها السلمية ضد التبشير.

بين المنزلة دقهلية وبور سعيد

">تقرير المنزلة عن حادث إنقاذ الجمعية فتاة حاولت مدرسة "السلام" بها تنصيرها، المرفوع إلى مكتب الإرشاد العام، بتاريخ: 18 من شوال 1351 هـ، أي منذ أربعة شهور:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وعلى من معك من الإخوان المسلمين وبعد،

حررت لسيادتكم الخطاب رقم (1) واعداً بموافاتكم بما يستجد، وهاكم تقريراً عما حدث خلال هذه المدة، في الرابع والعشرين من رمضان، ورد على فضيلة الأستاذ نائب الدائرة كتاب من (الحسيني محمد الويشي) أحد الإخوان المنتسبين في هذا التاريخ والذي انضم إلى الجمعية مساء اليوم التالي، يشرح فيه شروع مدرسة "السلام البروتستانتية" بالمنزلة في تنصير إحدى بنات العائلات الفقيرة، ولولا فضل الله علينا، وعلى تلك العائلة المنكوبة في مرض عائلها، وقلة حيلة زوجه لأي من أنواع الكسب لنفذ غرض جمعية التبشير، بل بؤرة الفساد في الابنة القاصر بأسلوب نهاية في الخسة والدناءة، وهو عطفهم الزائد، وبرهم المستمر للعائلة البائسة متظاهرين في ذلك بنصرة الإنسانية، والإنسانية براء من أعمالهم التي يستفيد منها الشيطان.

بناءً على هذا الخطاب دعي الإخوان إلى جلسة مستعجلة، فحضر من تمكنا من دعوته، واختير نفر قليل، وتشكلت في الحال لجنة يرأسها فضيلة النائب، وتوجهت إلى منزل العائلة، وحاولوا إقناعها فلم يفلحوا لشدة ما أصابهم من تغاضي المسلمين عن حالهم؟ لكن بعد مجهودات غير قليلة بعون الله وتوفيقه، تم الاتفاق مع والدي الفتاة على سحبها من المدرسة، وفعلاً توجه السيد أفندي نديم في يوم 25 رمضان مع والدها، وأفهما رئيسة المدرسة ما هو مطلوب، ورضخت للأمر الواقع الذي لم تعد له العدة. وأنقذت الفتاة، وقمنا بجمع المال لها.

وقد اعتزمنا بعون الله بقرار الجمعية التي تجتمع من يوم ورود الخطاب إلى الآن يومياً للبحث في محاربة المدرسة، حتى تنزح من البلد غير مأسوف عليها، وضمن ما تقرر فتح مشغل باسم الجمعية لتلك الابنة، حيث إنها حازت شهادة الدراسة الابتدائية، واشتغلت معلمة في أول يناير بالمدرسة التبشيرية نفسها، وإغراء لأبويها أشاعت رئيسةا لمبشرات أنها قررت جنيهين للفتاة مرتباً شهرياً يدفع لأهلها، بينما هي داخل المدرسة لا تكلف أبويها شيئاً من نفقات معيشتها، كل ذلك إغراء دنيء وتعمية على أهل الفتاة المسكينة التي لا تعرف ما ينتظرها من خطر تنحدر فيه من سيء إلى أسوأ بتنشئتها تلك النشأة التي قطعت حيب اتصالها بأهلها بوجودها في تلك المدرسة المشئومة، حتى أصبحت لا تسمع إلا بأذنهم، ولا ترى إلا بعينهم.

نهجت إدائة المدرسة هذا النهج مع الفتاة وأهلها توطئة لإتمام الجريمة النكراء، فعلم الإخوان بالدور السابق ذكره، وقاموا بما أسلفنا، واستخلصنا الفتاة وأهلها من التهلكة، بإذن الله الرحمن الرحيم، وفتحنا المشغل بعونه تعالى في يوم السبت التاسع من شوال بعد الإعلان عنه تحت اسم "مشغل جمعية الإخوان المسلمين"، فحضر من التلميذات في ذلك اليوم سبعون واحدة، وأخذ العدد في الارتفاع حت بلغ ما يزيد على المئة تلميذة، بينهن من دخلت مجاناً، ومنهن من تدفع ثلاثة قروش شهرياً، وقليل منهن يدفعن عن الشهر الواحد أربعة قروش أو خمسة. كل ذلك تدعيم للمشغل الذي نحوطه جميعاً بقلوبنا.

وأملنا وطيد في النجاح بقوة الله، وجهاد أستاذنا الجليل الشيخ "مصطفى محمد الحديدي الطير" – نائب الإخوان. وما قمنا بفتح المشغل بهذه السرعة، وفي أول قيام الشعبة المباركة بفضل الله ورضاكم إلا حباً في إنقاذها وأهلها من الهاوية.

ونزف إليكم الآن بكل الاغتباط أن المتعلمات – وبينهن وفيقة – يصلين الخمس في أوقاتها، ويوالي فضيلة نائبنا تلقينهن أصول الدين القويم الحنيف في نهاية كل يوم بعد انتهاء الحصص.

عمر السيد غانم

كاتم السر بالمنزلة


الإخوان والتبشير

وقد علمت دائرة المنزلة من الآنسة ( أفكار منصور ) المنقذة بوجود فتاة أخرى على وشك التنصير، مهربة من بور سعيد إلى مدرسة السلام بالمنزلة. فأرسلت إلى حضرة نائب الإخوان المسلمين ببور سعيد، وإلى مكتب الإرشاد بالخطاب الآتي بتاريخ 3 من شوال سنة 1351 هـ:

حضرة الأخ الفاضل نائب جمعية الإخوان ببور سعيد:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وعلى من معكم، وكل عام وحضرتكم وجميع الإخوان وآلهم وأحبابهم في يمن وسعادة وبعد،

قامت جمعية التبشير في القطر المصري في السنين الأخيرة بحركات عنيفة ضد الإسلام، وما دل ذلك على أكثر من اليأس الذي استولى عليها من طول ما أمضت من وقت عظيم، وما بذلت من عناء جسيم، وما حزمت من حمر النعم دون جدوى، حيال ذلك الدين القويم المتين المحفوظ من صاحبه، جلت قدرته، غير أن استقامة المسلمين في بث تعاليم الإسلام وآدابه أطمعت أخيراً هذه الجمعيات فينا؛ نظراً لما وصلت إليه حالتنا الأخلاقية، وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت.

قامت مدرسة السلام البروتستانتية التبشيرية بالمنزلة بتنصير فتاة. وبفضل الله علينا أنقذناها، وشرعنا في عمل مدرسة ومشغل للبنات تعلمهن الديانة، وما تحتاج إليه الفتاة في منزل زوجها المسلم، وكيف تخرج رجالاً مسلمين وبنات مسلمات، وما ذلك إلا لمناهضة المدرسة، ولكون الفتاة التي أريد تنصيرها من عائلة فقيرة، وليس لها عائل، وبدلاً من أن تكون عالة على الجمعية، فيكون الكسب مضاعفاً للجمعية.

وقد علمنا بوجود فتاة أخرى اسمها (أفكار)، ابنة زوجة "الريس حسين"، بمنشية البلح، بحي العرب، قسم خمسة بهذه المدرسة بالمنزلة، ولم ينقلوها إلى المدرسة إلا لكي يخفوا تنصيرها عن أهلها، وهم في غفلة، والفتاة طائشة، وعليه، نرجوكم بالقيام بحركة لإخراج هذه الفتاة، وانتشالها من بؤرة الفساد هذه، والله يتولى جزائكم، وهو نعم المولى ونعم النصير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

عمر السيد غانم

كاتم السر بالمنزلة

ولم تكتف دائرة المنزلة المباركة بذلك، بل بحثت عن التلميذات البور سعيديات المهربات إلى المنزلة، حتى اهتدت إلى خمسة منهن، فكتبت إلى مكتب الإرشاد العالم بذلك، ليصلها بدائرة بور سعيد حتى تقوم بواجبها في عملية الإنقاذ. وهذا هو نص الخطاب:

حضرة صاحب الفضيلة، أستاذنا ومرشدنا الكبير:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ومن معكم من الإخوان المسلمين وبعـد،

فقد سبق ذكر أننا كتبنا للأخ نائب جمعية الإخوان ببور سعيد عن القيام بما يؤدي إلى إنقاذ الفتاة ( أفكـار منصور ) الموجودة بمدرسة جمعية التبشير البروتستانتي (السلام) بالمنزلة، وقد تحرينا عن التلميذات البور سعيديات: أفكار منصور، سنها 13 سنة، أمها متزوجة من الأسطى "حسين علي" بمنشية البلح بقسم ثاني، بحي العرب، وناظلة أحمد الخولي، سنها 14 سنة (كان والدها صياداً، وهو الآن مريض) ، وسيدة عبده الريان، سنها 13 سنة (يتيمة بدون عائلة)، وعطيات محمد زقزوق، سنها 7 سنوات، لا تعرف أمها إلا بعلامة وجهها. ذلك بيان بأسماء التلميذات البور سعيديات الموجودات بمدرسة المنزلة، وأنا حيال ذلك نلتمس من فضيلتكم التنبيه على الإخوان ببور سعيد وجميع الجهات التي بها فروع للجمعية المباركة، والتي يوجد بها مدارس كهذه؛ كي يتخذ كل ما في الوسع؛ لإنقاذ الفتيات المسلمات، حيث إن ذلك يجعلنا جميعاً نضع أيدينا على موضع الداءن فينفع الدواء، بإذن الله، وبهذه الوسيلة – إن شاء الله – سيكون القضاء المبرم على هذه المدارس (بؤر الفساد).

وتفضلوا ختاماً بقبول فائق الاحترام، وأشواق جميع من عندنا من الإخوان المسلمين. خصوصاً نائبنا فضيلة الأستاذ "مصطفى محمد الحديدي الطير" ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

عمر السيد غانم

كاتم السر بالمنزلة

وقد قام المكتب بهذه المهمة، فكتب إلى بور سعيد، وإلى فروع الجمعية، وأوفد فضيلة المرشد العام إلى بور سعيد مرات بهذا الخصوص، وقد اهتمت دائرة بور سعيد بهذا الأمر اهتماماً عظيماً ، واهتم معها كذلك الأهلون الكرامن حتى كان عن هذه الهمة كشف الستار عن الحوادث المريعة التي ذكرتها الجرائد، وتذكرها كل يوم، ويسرنا أن نعلن أن الحكومة قد تسلمت (نظلة الخولي ، وعطيات زقزوق) المشار إليهما في خطاب المنزلة، والحقيقة أنهما وغيرهما كانا في مخبأ بالمنزلة، ونرجو أن يتحرى سعادة المحافظ الهمام عن بقية الفتيات حتى ينقذهن.

سكرتير مكتب الإرشاد العام

إنشاء لجان فرعية لجمعيات الإخوان لتحذير الشعب من الوقوع في خداع المبشرين.

علمنا أن من بين مقررات مجلس الشورى العام للإخوان تكوين لجان فرعية في كل دوائر الجمعية للعمل على تحذير الشعب من الوقوع في حبائل المبشرين بالطرق السلمية المشروعة، وإنا لنرجو التوفيق التام لهذه اللجان في مهمتها المقدسة.

صورة العريضة التي رفعها مجلس الشورى العام إلى جلالة الملك فؤاد:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،

إلى سدة صاحب الجلالة الملكية حامي حمى الدين، ونصير الإسلام والمسلمين، مليك مصر المفدى، يتقدم أعضاء مجلس الشورى العام للإخوان المسلمين المجتمعون بمدينة الإسماعيلية بتاريخ: 22 من صفر سنة 1352 هـ، والممثلون لخمسة عشر فرعاً من فروع جمعية الإخوان المسلمين برفع أصدق آيات الولاء والإخلاص للعرش المفدى، ولجلالة المليك وسمو ولي عهده المحبوب، ويلجئون إلى جلالتكم راجين حماية شعبكم المخلص الأمين من عدوان المبشرين الصارخ على عقائده وأبنائه وفلذات كبده بتكفيرهم، وتشريدهم، وإخفائهم، وتزويجهم من غير أبناء دينهم، الأمر الذي حظره الإسلام، وحرَّمه، وتوعد فاعليه أشد الوعيد، وقد جعلكم الله – تبارك وتعالى – حماة دينه، والقائمية بحراسة شريعته، والذائدين عن حياض سنة نبيه، والحريصين على آدابه وشعائره، والحامين من المعتدين عليه والناشرين تعاليمه، والمعتنين بكتاب الله – تبارك وتعالى – أجزل العناية، وإن مصر زعيمة الشرق، ورعية الملك المسلم العادل لا تقبل أن تكون يوماً من الأيام مباءة تبشير، أو موطن تكفيرن تستمد ذلك من غيرة مليكها وقوة إيمانها.

ولهذا لجأنا إلى سدتكم العلية، راجين أن يصدر أمر جلالتكم الكريم إلى حكومتكم الموفقة بالضرب على أيدي هذه الفئة، وإنقاذ الأمة من شرهان والوصول إلى هذه الغاية بكل وسيلة ممكنة، ونعتقد أن من الوسائل الناجحة:

1) فرض الرقابة الشديدة على هذه المدارس والمعاهد، والدور التبشيرية، والطلبة والطالبات فيها؛ إذا ثبت اشتغالها بالتبشير.

2) سحب الرخض من أي مستشفى أو مدرسة يثبت أنها تشتغل بالتبشير.

3) إبعاد كل من يثبت للحكومة أنه يعمل على إفساد العقائد، وإخفاء البنين والبنات.

4) الامتناع عن معونة هذه الجمعيات بتاتاً بالأرض أو المال.

5) الاتصال بحضرات الوزراء المفوضين في مصر والخارج؛ حتى يساعدوا الحكومة في تنفيذ خطة الحزم، حفظاً للأمن، ومراعاة لحسن العلائق.

وإننا إن أدلينا بهذه الآراء، فنحن نعتقد أن حزم جلالة الملك المفدى وصائب رأيه السديد، وغيرته الدينية، المعروفة .. كل أولئك كفيل برأب الصدع، وإسعاد الأمة، وإنقاذ الشعب من أيدي المعتدين وإليكم يا صحابة الجلالة، أصدق آيات الولاء والإجلال من المخلصين لعرشكم المفدى.

حسن البنا (مرشد الإخوان المسلمين) ، ومحمد أسعد الحكيم (سكرتير مكتب الإرشاد) ، وعبد الرحمن الساعاتي (نائب القاهرة) ، وأحمد السكري (نائب المحمودية) ، وحامد عسكرية (نائب شبرا خيت) ، ومصطفى الطير (نائب المنزلة) ، وعفيفي الشافعي (نائب الأربعين بالسويس) ، وعبد الفتاح فايد (نائب شبلنجة القليوبية) ، ومحمد فرغلي عبد الله سليم (نائب أبو صوير) ، وطه كراوية (سكرتير الأربعين) ، وسليمان عويضة (عضو الأربعين) ، وحافظ عبد الحميد (مراقب الإسماعيلية).

وقد رفعت مثل هذه الصورة إلى حضرات أصحاب المعالي: رئيس الوزراء بالنيابة، ووزير الداخلية، ووزير المعارف، ووزير الأوقاف، ورئيس مجلس النواب، ورئيس مجلس الشيوخ.

فشعبة المنزلة كانت صاحبة السبق في فضح حركات التبشير، والتصدي لها، وملاحقتها، والتحذير منها.

ب- سلاح القُلة السحرية :

وعلى الرغم من مرور أكثر من خمسة وستين عاماً على واقعة القلة فإن أهل المنزلة ما زالوا يتناقلونها لطرافتها. وخلاصة ما حدث: أن مجموعة من الموظفين الفاسدين اتخذوا من قاعة واسعة – في الدور الأرضي – بين مساكن المواطنين وكراً يجاهرون في بالسكر والعربدة طيلة الليل. ونبههم الإخوان إلى خطورة ما يفعلون؛ ولأنهم كانوا من أصحاب النفوذ استهانوا بتوجيهات الإخوان .. وأخذوا بعدون لليلة السُكر الكبرى ليلة شم النسيم، فلجأ الإخوان إلى سلاح القُلة، فما هو هذا السلاح ؟ إنها قلة كبيرة من الفخار ملأها منفذوا العملية بقاذورات سائلة وجامدة، وسدوا فوهتها بقطعة من الخيش، وحملها الأخ "طه أبو موسى" – رحمه الله – وهو بطل من أبطال رفع الأثقال، ويصحبه الأخ "عبد الحميد الزهرة" الذي يصغره سناً.

يقول الأخ عبد الحميد: تسللنا إلى الموقع قبل منتصف الليل، ولم تكن الشوارع مضاءة في تلك الأيام، وكان اعتماد الناس في الإضاءة على "الجاز" والكلوبات، فالبلد لم يكن قد عرف الكهرباء بعد.

يقول عبد الحميد: كانت القاعة غاصة بالفسقة الذين أصابتهم الخمر بهستيريا الصراخ والهذيان. وقف طه وأنا خلفه، وصوب على "الكلوب" الرئيس، وبأقصى قوته وجه القُلة إليه، فحطمته وتحطمت، وتناثرت عبوتها على السكارى، وملابسهم، فدفعهم الذعر والمفاجأة إلى الاندفاع إلى الخارج لا يلوون على شيء.

يقول الأخ عبد الحميد: وكان لابد أن نجري، ولكني رأيت طه مبرزاً عضلاته، معداً قبضته، فنبهته إلى ضرورة مغادرة الشارع بأقصى سرعة، فلما ابتعدنا في أمان سألت طه عن سر وقفته هذه فقال: والله لقد شعرت بأن الله قد منحني قوة عشرين رجلاً، ولو تصدى لي واحد من هؤلاء الفسقة لما غادرته إلا قتيلاً.

ومن أطرف ما حدث بعد ذلك أن كل واحد من "الضحايا" قصد دكان "تنظيف ومكوى"، فرفض صاحب المحل – عم أحمد أبو عسل زين الدين- وابناه خالد والسعيد – وكانا يقومان بإدارة المحل – رفضوا التعامل مع هذه الملابس الغارقة في النجاسة والخبث. ولم يعرف هؤلاء أن الأخوين من خيرة شباب الإخوان، وكانا من المشتركين في التخطيط لهجوم "القُلة".

واعتقد الإخوان أن طه أبو موسى، وعبد الحميد الزهرة نجحا في مهمتهما دون أن يعرفهما أحد، ولكن المفاجأة كانت في القبض على طه أبو موسى، والتحقيق معه بناء على بلاغ من جماعة الفساق بتهمة انتهاك حرمة المساكن ليلاً، والتخريب، والاعتداء على الآمنين.

وكانت قضية برَّأ فيها القاضي الأخ طه لعدم توافر الأدلة. ومن طرائف الصدف أن طفلة صغيرة هي التي دلت مجمع الفساق على "طه أبو موسى" لا بشخصه، ولكن بوصفه بأنه "راجل له ست صوابع في كل يد". وهذا صحيح؛ لأن طه هو الوحيد في المنزلة كلها المولود بست أصابع في كل كف، والإصبع الزائدة ملتصقة بالخنصر، وهي أصغر منه.

ج- محاربة الشذوذ الجنسي :

علمنا أن شخصاً وسيماً في قرابة الخامسة والعشرين من عمره، مصاباً بالشذوذ الجنسي، كان يحضر في الليل إلى المنزلة من قريته التي تبعد عنا قرابة عشرين كيلو متراً، ويغري الشباب المراهق، وخصوصا الطلاب ليلوطوا به. وشاع أمره في المنزلة، فوضعنا خطة لإنهاء فجوره .. راقبناه، وهو يغادر "الأتوبيس" في محطة المنزلة، حيث كان في استقباله الطالب الفاسق ( ع.ع ) .. ثم انضم إليهما – تظاهراً – الأخ عبد العليم العبيدي، متظاهراً بأنه مثل ( ع.ع ) يريد أن يحثث متعته الحرام، وسار الثلاثة، ونحن نتبعهم من بعيد إلى أن دخلوا فصلاً تحت الإنشاء في المدرسة الثانوية ( ولم يكن لها سور آنذاك ). فلما بدأ العمل التحضيري لعملية اللواط، وعندما همّ ( ع.ع ) بالتعامل معها وجَّه عبد العليم لكماته للثنائي. هرب ( ع.ع )، ومع أول صرخة استغاثة أسرعنا لمعاونة الأخ عبد العليم، وضربنا "مريض الشذوذ" ضرباً لو وزع على كتيبة عسكرية لكفاها، وكانت المجموعة كلها من طلاب الإخوان بالمرحلة الثانوية، وهم بالتحديد: الرفاعي شبارة، طاهر عنين، أحمد العلمي، زيادة على كاتب هذه السطور.

وزحف (مريض الشذوذ)، وهو مثخن بالجراح، متورم الوجه، متهتك الملابس إلى الطريق الزراعي، فالتقطته "سيارة نقل" إلى قريته.

وشاع خبر هذه العملية في المنزلة كلها ... وترتب عليها نتيجتان:

الأولى: عدم حضور هذا الشاب إلى المنزلة مرة أخرى.

والثانية: إقلاع الشواذ عن نشاطهم خوفاً من فتوات الإخوان المسلمين، كما يقولون.

د- مولد القعقاع بن عمرو التميمي:

وهو الصحابي المجاهد الجليل، ويقال: إنه مدفون بمدينة المنزلة، وله مسجد ضخم باسمه فيها. من عشرات السنين رأيت أول احتفال بمولده، وكان احتفالاً ضخماً، ضم عشرات من السرادقات، واتسع لعدد كبير من المنشدين، وقصده آلاف من بلاد الدقهلية وقرى المنزلة، وكان صورة مصغرة من مولد "السيد البدوي".

وفي أحد السرادقات، وقف منشد اسمه "أبو فَرْقلَة" يتغنى بمدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكلمات خرافية، وأثناء الإنشاد كان يتقصع، ويرقص رقصات داعرة، ولم يستجب لبعض الإخوان الذين نبهوه أن حركاته ورقصاته لا تتفق مع كرامة النبي – صلى الله عليه وسلم – ووقاره، ولا مع ذكرى الصحابي الجليل، فما كان من الدكتور بيطري "عبده حمزة فراج" – عضو مجلس إدارة الشعبة – إلا أن اختار رابة عشرة من قسم الطلبة، وكنا أيامها في المرحلة الثانوية، وقادنا إلى منصة "أبو فَرْقلَة"، مخترقاً بنا آلاف المشاهدين والسامعينن وصاح بصوت رهيب "انزل يا ابن..." انزل وإلا..." لقد أسأت إلى الإسلام، والنبي – صلى الله عليه وسلم – فولى الرجل هارباً، وعاد في اليوم التالي لينشد في مدح النبي – صلى الله عليه وسلم – بكلمات عاقلة متزنة، دون رقص وتقصع.

كان في شعبة المنزلة منهجان في التصدي للمنكر:

الأول: منهج الأستاذ محمد قاسم صقر: قائد الجوالة، وهو الرجل الثاني بعد رئيس المنطقة الأستاذ عبد الرحمن جبر، وهو يرى أن المنكر – وخصوصاً إذا لم يكن ضارياً – يجب أن يعالج في هدوء وحكمة واتزان. وقد حقق نجاحاً في كثير من الأحيان.

والثاني: منهج القوة والحسم: وهو منهج الأخ طبيب بيطري عبده فراج حمزة مسئول الطب البيطري في مركز المنزلة.

وكان ذا بسطة في الجسم، وقوة خارقة، فهو يرى أن الشر يجب أن يضرب ابتداءً بقوة وحسم، وخصوصاً إذا كان أصحابه ممن أخذتهم العزة بالإثم، فإقناعهم صعب جداً، أو مستحيل.

فبالقوة استطاع أن يؤدب "أبو فَرْقلَة" في مولد القعقاع بن عمرو التميمي، وأشهر من ذلك يتلخص في الواقعة الآتية:

الجمالية قرية كبيرة تابعة لمركز المنزلة على بعد خمسة أميال، وسوقها الأسبوعية كانت يوم الثلاثاء، وأشهر جزار فيها اسمه "م.ج" وكان يلقب كذلك بـ "فتوة الجمالية"، وقد رأيته مرة واحدة، وكأني أنظر إليه الساعة: "آدمي ضخم الرأي" يلتقي رأسه بجسده بعنق قصر غليظ، وهو عريض المنكبين، متوسط القامة "مدكوك" الجسد كأنه خلق من "كاوتشوك" شديد.

ذهب الأخ طبيب بيطري عبده حمزة إلى الجمالية يوم سوقها "للتفتيش" وفحص اللحم المعروض في دكاكين الجزارين، وكان نهاية مطافه "دكان محمد الجزار"، واكتشف الدكتور عبده أن اللحم المعروض غير صالح للاستعمال البشري، فأمر رجاله بمصادرة اللحم، واتخاذ الإجراءات القانونية ضد محمد الجزار، الذي هب يصرخ في استهانة: سيب اللحمة مكانها، وإلا هخلي أهلك يخدوا عزال. ورفع الساطور مهدداً. وتحول أخونا الطبيب إلى أسد كاسر، وأخذ يضرب الجزار ضرباً متلاحقاً، وكلما سقط الجزار على الأرض أنهضه الدكتور عبده إلى أن صار "دمه حميمه، ووجهه شوارع"، (كما قال أحد المشاهدين). ولم يكتف بهذا، بل حمله على يديه ورفعه إلى أعلى كالذي يحمل "طاولة عيش" وسار به في الشارع الرئيس بالجمالية، والناس لا يصدقون عيونهم. وبذلك قضى على أسطورة الجزار، وبعدها استقام ولم يعد إلى الغش.

وقد يسألني القارئ: أي المنهجين أصح؟ وأنا أقول: إن الموازنة المطلقة خاطئة. فلكل واقعة ظروفها وملابساتها، والمهم اختيار أنسب التصرفات تجاهها. وقد يكون بين المنهجين تكامل، فيسلك الداعية المنهجين في موقف واحد تجاه ظاهرة واحدة.

النشاط الاجتماعي:

هذا عن التصدي للمنكر أما النشاط الاجتماعي لإخوان المنزلة فإن التاريخ يحفظه بكل فخر. وأستعرض في السطور الآتية صوراً من هذا النشاط:

في سنة 1947 م أصيبت مصر بكارثة تتمثل في مرض "الكوليرا"، وسرت عدوى هذه الآفة إلى كل بلد في مصر، وفتكت بالآلاف، عن طريق "البلح"، وإن الإنجليز الذين كانوا يسيطرون على هذه المناطق ولهم معسكرات فيها، قاموا بتلقيح البلح بجرثومة الكوليرا حتى تشغل مصر عن قضية فلسطين، وعن مقاومة الاستعمار الإنجليزي في مصر.

وكان لنا – نحن الإخوان وخصوصاً قسم الطلاب – جهود تمثلت فيما يأتي:

1) توعية أهل المنلة بخطورة هذه الآفة، والحرص على النظافة واستخدام المطهرات .. وقد رأيت بعض البقالين – من شدة الحذر – يضعون في مقدمة محلاتهم أواني فيها مواد مطهرة، ويطلبون من الزبائن، وضع العملة الفضية - ثمن ما يشترون – في هذه الأواني – لتطهر من العدوى المحتملة، وقل الاختلاطن والمصافحة بالأيدي من شدة الحذر.

2) توزعنا مجموعات على مداخل المنزلة كل يوم أحد، وهو يوم سوق المنزلة، إذ يقصدها الفلاحون من القرى المجاورة لبيع بضاعتهم في سوق البلد، فكنا نعدم ما يحملون من بلح؛ لأنه كان مظنة حمل العدوى ونقلها.

3) اتخذ المسئولون شعبة الإخوان مركزاً لتطعيم الناس بالمصل الواقي من الكوليرا، وقد استغرقت هذه العملية أكثر من أسبوع.

الأنشطة الرياضية:

1) قيامنا بعدة مباريات في كرة القدم مع الشعب الأخرى، مثل شعبة المطريةن وشعبة الدراكسة، وشعبة منية النصر.

2) كان في شعبة المنزل أقوى فريق في الدقهلية لرفع الأثقال كان على رأسه الأخ طه أبو موسى (بطل عملية القُلة).

الرحلات والمعسكرات:

كانت من أهم الأنشطة الرياضية، والتربوية والدعوية، وقد أشرت من قبل إلى رحلة استغرقت يوماً واحداً إلى المنصورة سيراً على الأقدام. أما أهم الرحلات فكانت إلى "الدهرة" ، وهي شبه جزيرة بين بحيرة المنزلة، والبحر الأبيض المتوسط، بعرض قرابة ميل.

وبها قرية بيوتها كلها تقع على البحيرة، وسكانها جميعاً من الصيادين، وكنا نقيم معسكراً تربوياً كل عام لمدة عشرة أيام، ولا نحمل من المنزلة إلا الخبز، والأرز، والجبن. أما السمك فكان هو الضيف الدائم في كل وجبة، ونحصل عليه بإحدى الطريقتين الآتيتين أو هما معاً:

الطريقة الأولى: الصيد الذاتي "بالعس" إذ ينزل جماعة منا إلى البحيرة بعد صلاة الفجر إلى عمق لا يتجاوز متراً، وعلى ظهر كل واحد مقطف صغير، ثم نقوم "بعس السمك" الذي يرقد في جحوره أي مد الأيدي إلى قاع الحجر، والإمساك بالسمك الذي كان غالباً من البلطي ووضعه في المقطف، وبالممارسة تعلمنا أن الجحر إذا كان دافئاً يكون في عمقه سمك، وإلا فهو جحر خال. كما كنا نتفادى الإمساك بالكابوريا؛ لأن سلاحها هو العض الذي قد يدمي أصابعنا.

ونغادر البحيرة، ونجمع حصيلة صيدنا، ونكلف بيتاًَ من بيوت القرية بعملية الشَّيِّ.

الطريقة الثانية: الحصول على السمك بالشراء: إذ كان يحلو لنا أحياناً أن نتجه بعد صلاة الفجر إلى شاطئ البحر الأبيض لنرى الصيادين، كل مجموعة أو (مآية) كما يطلقون عليها من عشرين صياداً يقومون بمد الغزل على هيئة نصف دائرة مفتوحة ناحية الشاطئ، وكل صياد يمسك بجزء من الغزل يضمه إلى ما أمسك به بقية إخونه، ويضيق نصف الحلقة شيئاً فشيئاً إلى أن يتجمع الغزل كله بعضه إلى بعضه الآخر جامعاً ما حجزه من السمك.. (مع ملاحظة أن الصيادين يمسكون الغزل من أعلاه، أما أسافله فتنتهي بقطع من الرصاص تجعل الغزل – بثقلها – مدلى إلى ماء البحر دائماً).

وتتجدد العملية عدة مرات إلى أن تجمع كل مآية حصيلة مرضية يشتريها تجار بور سعيد الواقفون بسيارات الجيب. ونقوم نحن بشراء بعض ما يصيدون. وبناءً على ما شاهدت أطرح الملاحظات الآتية:

1) كان أغلب الصيد من سمك البوري، وكان الصيادون لا يجمعون إلا السمك "العِفِر" أي الكبير، أما السمك "الدِّوِر" أي الصغير، فيعيدونه إلى البحر مرة أخرى.

2) كان أعدى أعداء الغزل والشبك "أبو جلامبو" أي الكابوريا، إذ إنه يمزق خيوط الغزل بأسنانه الحادة. كما أنه مغرم بنهش سمك البوري من موضع التقاء الرأس بالبطن.

3) بعد أن يبيع الصيادون حصيلة صيدهم للتجار المنتظرين يعودون إلى قريتهم الواقعة مباشرة على بحيرة المنزلة، وينشرون غزلهم، ويصلحون ما انقطع من خيوطه استعداداً ليوم جديد.

ونعود نحن إلى معسكرنا بما اشتريناه ليشوي في أحد بيوت القرية.

نستكمل حديثنا عن رحلتنا إلى (الدهرة) ومعسكرنا فيها وأذكر ممن كان معنا في رحلة الدهرة: (عبد الحميد الزهرة، أحمد صالح العلمي، الحسنين فشير، محمد علي حسان، محمد هاشم حسان، علي علي حال، الشيخ حسين الضويني).

من الفوائد التي عادت علينا من هذه الرحلـة:

1) فوائد بدنية وصحية، وتجديد النشاط والحيوية، وبهذه الطاقات المتجددة يستطيع الداعية أن يؤدي رسالته في عزيمة قوية، وتقدم مطرد.

2) التطبيق العملي المتواصل لبرامج الأسر، والكتائب، ومراجعة ما سبقت دراسته.

3) التدريب على الصبر، وقوة التحمل، والاعتماد على النفس.

4) اكتساب مزيد من المعرفة لأخلاق الصيادين، وطبيعة عملهم، ونجاحنا في عملية الصيد اليدوي للسمك بطريقة "العس"، أي إمساك السمك مباشرة باليد من جحوره التي اتخذها مرقداً له في قاع البحيرة، وهو لا يبعد عن أيدينا في العمق أكثر من متر.

رحلة منعت مذبحــة:

شعبة "دقهلة" من الشعب المرموقة في مركز دمياط، وبين المنزلة وبينها قرابة أربعين ميلاً، وبناء على اتفاق مع مسؤولي الشعبة، قمنا بقضاء يوم مع إخوانها، وجعلنا الدراجات وسيلة الرحلة هذه المرة. وتوجهنا بقرابة خمسين دراجة إلى شعبة "دقهلة". رحب بنا إخوانها، وخصوصاً الأستاذ "محمود جحيش" – رئيس الشعبة.

وبعد صلاة المغرب مباشرة، وقف الأستاذ "محمود جحيش"، وقال:

إن إخوانكم في شعبة "السِّرْو" – وهي تبعد عن دقهلة بضعة كيلو مترات - يحتفلون الليلة بالمولد النبوي الشريف، وقد علمنا أن آل المليجي – أقارب إبراهيم عبد الهادي – وأتباعهم من بلطجية الزرقا – القرية المجاورة، وهي قلعة السعديين، وعبد الهادي – رئيس الوزراء بعد مقتل النقراشي – قد دبروا خطة لإفساد الحفل، والاعتداء على إخوان السرو.

ثم قال: والإعلان عن حضوركم الحفل قد يعني في مفهومهم أنكم جئتم مدداً لإخوان السرو، فيلقي في قلوب أعدائهم الرعب.

وكلمة السر – يا إخوان – هي "الله" .. ووصلنا إلى السرو .. وقبل دخولنا السرادق، أعلن مذيع الحفل في الميكروفون بصوت جهوري: والآن: وصل إخوان المنزلة، ودخلنا السرادق يتقدمنا الأخ فريد حسن الجميعي، بقامته المديدة، ووجهه المتجهم.

طرائــف:

وثمة عدة طرائف جديرة بالتسجيل، ألخصها فيما يأتي:

1) قال الأستاذ "محمود جحيش" قبيل توجهنا إلى حفل الإخوة في السرو: أيها الإخوان، إن كلمة السر هي "الله، فقال الأخ أحمد العلمي بظرفه وظله الخفيف: يا أستاذنا الفاضل، افرض أن واحداً من الإخوان – لا يعلم كلمة السر – "نزل فيّ ضرب"، وأنا أصرخ "الله .. اللـ ااه" ألا يمكن أن يعتقد أنني أستلذ ضربه لي فيواصل ضرب، ويقول في نفسه: "إدي له" استجابة لرغبته؟

2) كنا قرابة خمسين من إخوان المنزلة ما بين عامل وطالب. تركنا الدراجات خارج السرادق في حراسة عامل الصيانة، وتعمدنا أن ندخل السرادق موزعين على صفين منتظمين يتقدمهما الأخ فريد الجميعي الذي أعطاه الله بسطة في الجسم، طولاً وعرضاً وقوة، وقد وضع على رأسه "عصابة" كالقراصنة، وكان يرتدي قميصاً وبنطلوناً، وفوقهما جلباب بلدي، وكان فريد متجهم الوجه يقلب عينيه يميناً ويساراً كأنه يبحث عن ضحية بين البلطجية.

كل ذلك ومذيع المنصة يكرر بصوته القوي: "والآن وصل إخوان المنزلة .. مرحباً يا إخوان المنزلة .. إخوان السرو يرحبون بإخوان المنزلة. وتعلو الهتافات: "الله أكبر ولله الحمد".

والمنزلة كانت آنذاك أشهر بلد في الدقهلية مشاغبة، وخصوصاً في مواجهة الحكومة.

3) بعد انتهاء الحفل بسلام أطلقنا على فريد لقب "القرصان الإسلامي"؛ لأن هيئة وجهه والعصابة على رأسه تذكرنا بقراصنة السفن.

4) سألت الأخ فريد بعد انتهاء الحفل بسلام عن سر ارتدائه الجلباب فوق القميص، والبنطلون، فأجاب قائلاً: لقد وضعت تحت الحزام قطعة من الخشب طولها قرابة عشرين سم، وعرضها قرابة 10 سم، وبالصدفة جاءت جلستي على المقعد المجاور لمقعد أحد البلطجية أعداء الإخوان، وتحسس جانبي الأيسر فاصطدمت يده بالشيء الجامد، فسألني في اضطراب: الله!! مسدس ده، ولا مدفع "ستن"؟ (والمدفع ستن كان أخف وأصغر مدفع رشاش في ذلك الوقت). فقلت له: "معايا الاتنين".

فانسحب الرجل .. وهمس في آذان مجموعة معه، فتسللوا بعيداً عن السرادق، واحداً واحداً .. وختم فريد أو (القرصان الإسلامي) كلامه بقوله: عنـدها تذكرت قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "نصرت بالرعب مسيرة شهر".

في المجال الرياضي والاجتماعي

وما ذكرناه سابقاً يمثل الرحلات والمعسكرات التي قمنا بها – نحن إخوان المنزلة – دون مشاركة إخوان من الشعب الأخرى. وابتداءً أقول: كان هناك رحلات "تبادل الزيارات"، والرحلة لا تستغرق أكثر من يومين غالباً، ويكون للرحلة برنامج، أهم ما فيه حفلات السمر.

وما زلت أذكر حفلة السمر الذي أقمناه مساءً لإخوان بور سعيد في ساحة المدرسة الخديوية بالمنزلة، (وهي المدرسة الابتدائية التي يملكها الأستاذ عبد الرحمن جبر رئيس منطقة الإخوان بالمنزلة) ، وما زالت ترن في أذني أغنية الجوال البور سعيدي رجاء مكاوي، ومطلعها:

يا رب بارك في الإخوان
يا رب بارك في الإخوان
وانصــــر مرشدنـا
قائـــد دعوتنــــا
يا رب بارك يا رب بارك
في الإخوان بارك يا ربي

وكان هذا المطلع هو اللازمة التي يرددها بعده الكورس .. وكان "رجاء" نديَّ الصوت، جميل النبرات.

كما قمنا – نحن إخوان المنزلة – بأكثر من زيارة إلى شعب بور سعيد (وكان في بور سعيد عدة شُعب).

وكان لأهل المنزلة نشاط تجاري مع بور سعيد، وكانوا يطلقون عليها آنذاك "البُلْط" وأعتقد أن الكلمة تسهيل لكلمة "بورت" PORT ، أي ميناء، وأشهر أنواع السمك "البلطي" نسبة إلى "البُلْط". ومن المحلات التجارية لبعض أهل المنزلة في بور سعيد "دكان بيع الأواني النحاسية" للأخ المنزلاوي: حلمي حمود، ومحل من هذا النوع يملكه الحاج إبراهيم القرآني أو (القيرواني)، ولوكاندة "مسعد عنين"، وهو من العزيزة – إحدى قرى مركز المنزلة – هذا، غير مئات من العمال في الميناء، والخدمات العامة.

ولا يفوتني أن أذكر في هذا السياق أن الإنجليز كان لهم وجودهم العسكري، وثقلهم المدني في بور سعيد؛ ولذلك شاءوا أن تقسم المدينة إلى حيين رئيسيين: حي العرب، وحي الإفرنج.

وكان الحي الأول نموذجاً سيئاً للقذارة والإهمال، وخصوصاً المنطقة الواقعة مباشرة على بحيرة المنزلة.

واسمها منطقة "المناخ"، حيث راجت تربية الخنازير وتجارتها وكنا نصل إلى بور سعيد "باللنش" أي السفينة البخارية، وقبل الوصول إلى الشاطئ بقرابة ميلين يحس الراكب برائحة منتنة شديدة، هي رائحة الخنازير ومخلفاتها. هذا عن حي العرب، أما عي الإفرنج، أو الحي الإفرنجي، فيسكنه آلاف من الأجانب، وخصوصاً اليونانيين، وكان العامة يسمونهم بـ "الجريج"، وربما كانت تحريفاً لكلمة "GREEK" .

وقد رأيت الوضع نفسه في مدينة الإسماعيلية: حي العرب، وحي الإفرنج، وللأسف امتدت هذه التسمية إلى المحلات، والدكاكين، ومراكز البيع، فمحل البقالة المنظم النظيف تطلق عليه "بقالة إفرنجي" ، حتى لو كان في حي العرب، أو في المدن والقرى الأخرى. ومع أن الفرنجة أيام الحروب الصليبية – كما يقول "ديورانت" وغيره من عدول كتاب الغرب – لم يعرفوا أمور النظافة ونظام الحمامات، واستعمال الماء إلا من المسلمين، وكان بعض القسس يغوصون بأجسامهم في مياه المجاري، والمراحيض تقرباً إلى إلههم.

وفي واحدة من مواعظ أحد القسس نرى إدانته وحملته الشديدة على المسيحيين؛ لأنهم أصبحوا "يقلدون الكفار" – أي المسلمين – باستعمال الماء".

قد يكون – فيما ذكرته نوع من الاستطراد – ولكني أرى أن المسلم يجب أن يعرف هذه الحقائق؛ حتى يزداد إيماناً بعظمة دينه، الذي جعل الماء أصل المخلوقات ﴿ أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون ﴾ (الأنبياء: 30)، وجعل النظافة من الإيمان.

الرحلات والمعسكرات المشتركة:

وأقصد بها ما لم يستقل به إخوان المنزلة، بل كانوا يشاركون فيه إخواناً من الشعب الأخرى، وأذكر من هذه الرحلات الرحلة التي قادها وأشرف عليها الداعية الإسلامي الشيخ: سيد نادرين، وهو من "البجلات" مركز دكرنس دقهلية .. والرحلة كانت إلى بور سعيد، واشترك فيها إخوان من المنزلة، ومنية النصر، والدراكسة، وقرى أخرى.

معسكر جمصــة:

وهو معسكر صيفي، اشترك فيه إخوان من شعب المدن والقرى بالدقهلية، وجمصة قرية على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وكانت تبعد عن الشاطي قرابة كيلو متر. فأقام الإخوان معسكرهم على الشاطئ مباشرة، وهو مكون من خيام وعشش من البوص. ولم يكن على الشاطئ أي مبنى من المباني التي نراها الآن. وهذا يعني أن الإخوان بمعسكرهم هذا يعدون رواداً في غزو هذا الشاطئ. وألخص في النقاط الآتية واقع هذا المعسكر، وأبعاده ووقائعه:

1) كان قائد هذا المعسكر والمشرف عليه هو الأستاذ صلاح الشربيني – أستاذ المواد العلمية بالمعهد الديني بالمنصورة – وهو داعية متمكن، ذو أسلوب هادئ مقنع، يجمع بين قوة العارضة، وصدق العاطفة، (ولنا حديث مفصل عن الأخ صلاح في إحدى الحلقات القادمة إن شاء الله)، وأشهد أن الأخ صلاح كان يدير المعسكر بدقة باركها الله.

2) كان المعسكر على أفواج كل فوج من ستين أخاً، وأذكر أن المدة التي كان يقضيها الفوج عشرة أيام، يستغرقها برنامج تربوي وروحى، ورياضي، ومعرفي. ولكن الأخ صلاح كلفنا ذات يوم بالصوم – لا عن الطعام والشراب – ولكن عن الكلام فعلى كل أخ ألا يتكلم من الفجر إلى المغرب إلا بلغة الإشارات. ومن ينس وينطق كلمة، أو جملة، فعليه أن يدفع لصندوق المعسكر قرشاً عن كل كلمة.

ولا شك أن في ذلك تدريباً على الصبر، والتحكم في الإرادة. والحقيقة أنني لا أدري إن كان لهذا النوع من الصوم أصل شرعي، أم لا، وإن جاء في القرآن الكريم: ﴿ قل رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشي والإبكار ﴾ (آل عمران: 41). وذلك أنه حينما بشر ذكريا بأن الله سيرزقه بغلام سأل الله أن يجعل له علامة على أن زوجته حامل، فأخبره الله سبحانه وتعالى أن علامة ذلك إذا قضي عليه أن يكون محبوس اللسان، فلا يعبر إلا بالإشارة، وهو حكم إلهي يعجز أي إنسان عن مخالفته.

ونحمد الله أن الأخ صلاح لم يفرض غرامة على الضحك .. لأن كثيراً من الإشارات التي يعبر بها كانت غالباً ما تثير الضحك. مثال ذلك، في التعبير عن حضور الأخ "سيد أبو حلاوة" بالإشارة إلى الأمام بكف مضمومة الأصابع، وذلك يعني الحضور إلى المعسكر. ثم يضم سبابة الكف اليمنى إلا سبابة الكف اليسرى، وذلك يعني "الأخ"، أما السيد فيعبر عنها برفع اليد إلى أعلى؛ "لأن السيادة علو وارتقاء". وأبو يعبر عنها ببرم الشاربين، وأخيراً يعبر عن كلمة "حلاوة" بوضع أطراف أصابع الكف اليمنى مضمومة على الشفتين وتقبيلها، يتلو ذلك المضغ "على الفاضي"، فهذا يعني "حلاوة"، والإشارات مجتمعة تعني تعبيراً عن جملة "حضر الأخ السيد أبو حلاوة".

ولا شك أن فك أو فهم هذه الرموز الإشارية يحتاج إلى عبقرية من نوع خاص. وربما كان الصم البكم أقدر على فهم هذه الإشارات من الأسوياء.

ولعل أمتع ساعة وأصفاها تلك التي نؤدي فيها صلاة الفجر جماعة على شاطئ البحر مباشرة، حيث يفتح الإمام قلوبنا بعبير القرآن في ركعتي الفجر، ويسري إلى هدير البحر، فكأني بكل كلمة قرآنية قد تحولت إلى منارة، فإذا بالبحر على مدّ البصر ثوب محلي بقطع براقة من الماس، ويتحول هديره إلى ترتيلة ملائكية شفيفة، فنعيش – نحن المصلين – في عالم علوي تعجز الكلمات عن وصفه؛ مما يذكرني ببيت أبي تمام:

فتح الفتوح تعالى أن يحيط به
نظم من الشعر أو نثر من الخطبِ

وازداد إيماني ويقيني بقوله تعالى: ﴿ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً ﴾ (الإسراء: 78).

أقم الصلاة أي: صلاة الظهر لزوال الشمس عن كبد السماء، وميلها عن وسط السماء إلى جهة الغرب، وكذلك صلاة العصر، ثم أقم صلاة المغرب والعشاء عند مجئ ظلمة الليل، ثم أقم صلاة الفجر (الصبح) فإن صلاة الفجر وما فيها من قرآنٍ تشهدها ملائكة الليل، وملائكة النهار.

ومما كلفنا به الأخ صلاح كذلك أن يكتب كل واحد منا يومياته .. أي يكتب كل يوم صفحة تتسع لتسجيل وقائق المعسكر، وخواطره، ومدى انتفاعه ببرامجه. يكتب ذلك بلا قيود، ودون أن يطلع عليه أحد، ولكن إذا سجل مآخذاً أو مقترحات فليطرحها للمناقشة.

ثم كانت المأسـاة:

بعد صلاة الظهر، وقبل العصر بقاربة ساعة نزلنا إلى البحر بجوار الشاطئ، فلم يكن فينا من يتقن السباحة إتقاناً يسمح له أن يبتعد كثيراً عن الشاطي، ثم توجهنا جميعاً إلى المعسكر لأداء صلاة العصر، وتناول الغداء. وبعد الصلاة .. جلسنا كالعادة في مجموعات لتناول الغداء .. وسأل أحد الإخوة بصوت مسموع .. يا أخ صلاح: أين الأخ عبد السلام فرحات؟ هل كلفته بالنزول إلى القرية لشراء شيء؟

- أبداً ..

ووجه السؤال إلى جميع الإخوة، فأجابوا بالنفي.

وأشهد أن الأخ عبد السلام كان معنا في البحر بمايوه أزرق، وأخذ يتقاذف الكرة كالآخرين، ثم انشغل كل منا بنفسه، وهو يغادر الماء – وأخذنا ننادي على امتداد الشاطئ – عبد السلام .. يا عبد السلام. ولا مجيب.

أمر الأخ صلاح بفحض حقيبة ملابسه، فوجِدت كل الملابس الداخلية والخارجية كما هي، ما عدا "المايوه"، وتبادلنا نظرات صامتة منكسرة، فليس من المعقول أن يترك عبد السلام المعسكر مختاراً، وهو بالمايوه، ومع ذلك أمرنا الأخ صلاح أن ننتشر بحثاً عنه، ونزل أغلبنا إلى القرية بحثاً عنه دون جدوى.

وعدنا إلى المعسكر، ونحن في ذهول .. ثم فوجئنا بأحد الصيادين يقول: فيه واحد شاب .. يظهر كان غرقان ألقى البحر جثته على الشاطئ .. على بعد خمسة كيلو من هنا .. أعتقد أنه واحد منكم. وكانت صدمة عاتية.

- شكله إيه..؟ لابس إيه؟

- أبيضاني ... ولابس مايوه أزرق، الحقوا الجثة .. خدوها قبل الليل؛ لأن المنطقة فيها كلاب متوحشة.

وأمرنا الأخ صلاح بأن يغادر كل منا المعسكر إلى بلده .. بأقصى سرعة .. وأبقى معه خمسة من معاونيه – حتى تنحصر المسئولية في هذا العدد القليل.

وعدنا إلى بلادنا يعتصرنا الحزن، ترى ماذا حدث بعد ذلك؟

بعد يومين علمنا أن الأب قابل الفجيعة بجلد وصبر، وقال: أحتسب ابني شهيداً عند الله .. وإنا بقضائه وقدره لمؤمنون.

ودفن عبد السلام في جنازة مهيبة ضمت الآلاف من أهل المنصورة – رحمه الله – وعلمت من أحد الإخووة الخمسة الذين وقفوا مع الأخ صلاح .. أن آخر يومية كتبها عبد السلام كانت في الحديث إلى البحر ومناجاته. ومما كتبه:

- أيها البحر .. عظيم كريم أنت .. فمنك نأخذ اللآلئ .. ومنك نأكل اللحم الطري، وفيك قال تعالى: ﴿ ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً ﴾ (سورة الإسراء: 70).

ولكنك أيها البحر جبار عنيف .. فإذا ما غضبت ابتلعت من السفن والناس ما تشاء، وتحولت أمواجك إلى موت زؤام ﴿ أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نور فما له من نور ﴾ (سورة النور: 40).

وكأنما كنت يا عبد السلام تنظر إلى الغيب القريب من ستر رقيق .. يرحمك الله.

المنزلة في غمار الجاهلية والدم

في منتصف الأربعينيات تقريباً – ولم أكن قد تجاوزت العاشرة من عمري – رأيت في شارع المحطة مظاهرة من بضع مئات من أهل المنزلة، كانوا يحملون نعشاً رمزياً، ويصرخون في في هتاف متهكم: (أبو كرش جماص عايز ينزل الوزارة .. أبو كرش جماص عايز ينزل الوزارة). "عبد العال يا عبد العال .. أنت العال .. أنت العال.."

لم أفهم شيئاً مما سمعت ومما شاهدت، وبعد ذلك أدركت أن عباس عصفور المحامي (وهو من المطرية دقهلية) رشح نفسه لمجلس النواب ضد عبد العال شلباية، وهو من أعيان المنزلة. و "الجماص" هو القواقع البيضاء الصغيرة المتخلفة من "أم الخلول" وبعض حيوانات البحيرة الصغيرة .. وأبو كرش "جماص" أي الذي ملأ بطنه بأكل الجماص، وذلك – كما قلت – من باب السخرية، كما أن أهل المطرية يسخرون من أهل المنزلة بوصفهم بأنهم "بتوع الكسبة والليمون"، وهي استعمالات لا تجري إلا على ألسنة العوام. وطبعاً لابد أن تكون هناك مظاهرات مضادة قامت في المطرية.

وكنا نتمنى ألا تخرج المظاهرة عن حدود اللياقة والخلق، ولكنها الحماسة والتعصب الإقليمي، وتبقى الدلالة المستساغة لهذه المظاهرة هي وحدة صف المتظاهرين، بصرف النظر عن الأحياء التي ينتسبون إليها في المنزلة.

ثم ظهر الانقسام والتعصب المنكود:

إذ أصبحت المنزلة قسمين أو حيين كبيرين (ويطلق على الحي اسم حارة). فالحارة الأولى هي حارة المعصرة، والثانية هي حارة الطوابرة أو النجارين، وسميت حارة المعصرة بهذا الاسم؛ لوجود معصرة ضخمة لاستخراج زيت السمسم، وبعد عصره يبقى الكسب الذي يشتريه رقاق الحال، كإدام مع الخبز، وكان أهل المطرية يسخرون من أهل المنزلة "بتوع الكسبة والليمون"ح لأن الكسب أساساً طعام للحيوانات.

أم الثانية، فربما رجع ذلك إلى أهم عائلة .. وهي عائلة طوبار ذات التاريخ المجيد في التصدي للفرنسيين، ويرجع أيضاً إلى الحرفة الغالبة على سكانها، وهي النجارة، وبالنظر إلى الانتخابات نرى أن حارة المعصرة كانت صاحبة الحظ الأوفى في النواب، ويتمثل ذلك في آل شلباية، الذين تقدموا لمجس النواب بالشخصيات الآتية (بالترتيب التاريخي):

1) عبد العال شلباية.

2) أحمد عبد العال شلباية.

3) السعيد شلباية.

4) عرفات شلباية.

5) أحمد محمد شلباية (نائب المنزلة الحالي عن الحزب الوطني).

أما حارة النجارين، أو الطوابرة، فلم يرشح منها إلا واحد هو أبو السعود المرسي السودة سنة 1944 م، في مواجهة أحمد عبد العال شلباية، الذي وفق وانتخب نائباً.

وبدأ الصدام الدامي المر بين الحارتين .. واستخدم الفريقان كل أنواع الأسلحة، ابتداءً من الحجارة، وانتهاء بالبنادق والمدافع الرشاشة، وسقط عدد من القتلى، أذكر منهم: عثمان القيعي (قفاص)، وشخصاً من عائلة عرابي (نجار)، وثالثاً من عائلة عبد الحي (تاجر طيور متجول). عدا عدد كبير من الجرحى .. زيادة على نهب البيوت والمحلات، وسادت الفوضى، وقامت حملة من ثلاثة آلاف من رجال الأمن، على رأسهم الضابط الجبار "عباس عسكر"، وعجز هذا "الفيلق" عن القضاء على الفوضى، وانسحب عباس عسكر الجبار بفيالقه بعد إخفاقهم الذريع، ليحل محلهم كتائب الهجانة التي يراهاً أغلب أهل المنزلة لأول مرة .. لقد زرعت الرعب في قلوب الناس، فلزموا بيوتهم من المغرب؛ لأن الهجانة لا يتكلمون إلا بالكرابيج السودانية.

وأذكر في هذا السياق واقعة طريفة، وهي أن "حسن دُغْمش السقَّاء" كان يحمل قربة ماء على ظهره لتوصيلها إلى أحد البيوت، فأوقفوه، وصرخوا في وجهه: "أنت سارق خروفة؟" وظلوا يعملون فيه كرابيجهم إلى أن سقط مغشياً عليه بين الموت والحياة.

وبعد الهدوء النسبي غادر الهجانة المنزلة، ولكن ظلت "عصبية" الحارة كما هي (معصرة ... وطوابرة)، مع ملاحظة أن هذا التقسيم معتمد على موقع السكن، وليس وراءه عقيدة أو مذهبية.

وأصبح "شَكَل الحارتين" يؤرخ به: فيقال: حدث ذلك قبل "شَكَل" الحارتين، أو بعد شَكَل الحارتين بسنة (والشَكَل كلمة عامية تعني الصدام الدامي).

كل ذلك يحدث والإخوان على الحياد، لا يميلون إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، كما أن الإخوان كان منهم المعصراوي (ساكن حارة المعصرة)، ومنهم الطوابري (ساكن حارة طوابرة)، وكلهم بحمد الله ألف الله بين قلوبهم، وجعلهم بنعمته إخواناً.

كما أن شعبة الإخوان انتقلت من حي إلى حي، بشكل طبيعي بلا حساسية، فعقيدة الإسلام أقوى من كل تعصب إقليمي.

الإخوان والعصبية الإقليمية

استطاع الإخوان باستعمال وسائل مباشرة وغير مباشرة، أن يخففوا – إلى أقصى حد من هذه العصبية، حتى إننا نستطيع أن نقول: إنها اختفت تماماً في وقتنا الحاضر. ومن هذه الوسائل:

1) حرض الإخوان على أن يكونوا قدوة حسنة للناس في المحبة والتآلف والتعاون، مع إيمانهم لا بإقليمية النسب، بل بإسلامية الرابطة، على حد قول الشاعر:

أبي الإسلام لا أب لي سواه
إذا افتخروا بقيس أو تميمِ

2) كما كان الإخوان أخرض الناس على مصلحة أهل المنزلة، وحمايتهم من كل سوء، كما رأينا فيما أدوه من خدمات عندما هاجم وباء الكوليرا مدن مصر وقراها. وأهل المنزلة لا ينسون موقفهم من الهجمة التنصيرية الصليبية البشعة.

3) وعاش إخوان المنزلة مثالاً طيباً للتسامح، ومقابلة إساءات الآخرين بصدور رحبة، ولا أنسى موقفاً لهم يدل على هذه السمة، كان في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، وخلاصته أن الإخوان ساروا في عرض للجوالة، وقد كانوا يومها من بضع مئات، فلما وصل الجوالة إلى ساحة "سوق السلاموني" – في حارة المعصرة – ظهر قرابة ثلاثين شاباً، يحملون العصي والنبابيت، وأخذوا يقذفون الجوالة بالطماطم، والبيض الفاسد، فأمر الأستاذ "محمد قاسم صقر" العرض بالوقوف مكانه (وكان هؤلاء ينتسبون لحزب الوفد الذي كان ضد الإخوان على طول الخط)، وانضم الأستاذ قاسم إلى المظاهرة التي كانت بقيادة "منصور حمزة فراج" – أحد فتوات حارة المعصرة – وأخذ يهتف معهم "عدو الوفد عدو الدين .. عدو الوفد عدو الدين". وبذلك "حرق ورقتهم"، وصمتوا، وانسحبوا، وقد كست حمرة الخجل وجوههم، ثم انضم عشرات منهم بعد ذلك إلى الإخوان، وأصبحوا من خيرة الأعضاء العاملين.

4) ودأب دعاة الإخوان وخطباؤهم في المساجد والندوات والمحاضرات على توجيه الناس إلى التسامح، والأخوة، والتعاون، والبعد عن العصبيةا لجاهلية. إلى أن انتزعوا من قلوب الناس هذا التعصب الإقليمي "للمعصرة والطوابرة".

5) واتسعت قاعدة الإخوان في المنزلة، وانتشرت دعوة الإخوان بين الطلاب والمثقفين بخاصة، وأصبح للإخوان شعبية تصغر أمامها شعبية أي حزب آخر.

6) وبعد ان كانت الهتافات "أبو كرش جماص عايز ينزل الوزارة"، و "شلباية بيه، والسودة بيه"، حل البديل الحميد الذي كانت مصر تهتف به: "الله أكبر ولله الحمد". "الإسلام هو الحل، شرع الله عز وجل. الإسلام هو الحل، ما في غيره ينفع حل".

وقد سعدت حينما رأيت أطفالاً صغاراً لم يتجاوزوا الثامنة من عمرهم، وقد رفع كثير منهم قطعاً صغيرة من الأغصان، وهم يهتفون بعفوية وحماسة: "الإسلام هو الحل" ، "الإسلام هو الحل".

إنه الجيل الجديد، يصنعه الله على عينه؛ ليتلقى الراية، ويكمل المسيرة .. مسيرة الحق، والنصر، والنور.

مع الجهاد من أجل فلسطين ومصر والعروبة

"الجهاد سبيلنا" .. إنه شعار ومبدأ أخذ الإخوان أنفسهم به من بداية دعوتهم، جهاد بالكلمة، وجهاد بالتوعية، وجهاد بالمال، وجهاد بالنفس، وقدموا الشهداء في خط القناة، وهم يحاربون الإنجليز، وقدموا العشرات من الشهداء، وهم يحاربون الصهاينة في فلسطين. بل كان اهتمامهم بالقضية الفلسطينية وتوعية الناس بها، وجمع المال من أجلها.

في الثلاثينيات كتب (مصطفى صادق الرافعي) مقالاً بعنوان: "قصة الأيدي المتوضئة" ، عبَّر فيه بدقة وبفن أصيل عن مشهد من مشاهد جهد الشباب المسلم في جمع المال من أجل فلسطين في يوم من أيام الجمعة بأحد المساجد .. ومما جاء فيه: ".... ولما قضيت الصلاة ماج الناس؛ إذ انبعث فيهم جماعة من الشبان يصيحون بهم يستوقفونهم ليخطبوهم؛ ثم قام أحدهم فخطب، فذكر فلسطين، وما نزل بها، وتغير أحوال أهلها، ونكبتهم، وجهادهم، واختلال أمرهم، ثم استنجد واستعان، ودعا الموسر الومخف إلى البذل والتبرع، وإقراض الله تعالى، وتقدم أصحابه بصناديق مختومة، فطافوا بها على الناس يجمعون فيها القليل من دراهم في الحال دراهم أصحابها وضمائرهم ... وأنصت الشيوخ جميعاً إلى خطب الشبان، وكانت أصوات هؤلاء جافية صلبة، حتى كأنها صخب معركة لا فن خطابة، وعلى قدر ضعف المعنى في كلامهم قوي الصوت؛ فهم يصرخون، كما يصرخ المستغيث في صيحات هاربة بين السماء والأرض...".

وكان الإخوان قد كونوا لجنة لمساعدة فلسطين برياسة المرشد العام في 25 من صفر 1355 هـ. ولا يتسع المقام لبسط الحديث عن هذه اللجنة. غير أن أهم ما قام به الإخوان هو القيام بالجهاد العملي سنة 1947 م بإرسال كتائبهم لقتال الصهاينة في فلسطين، وتطوع من المنزلة الأخ عبد الحميد الزهرة، ومن المطرية دقهلية الأخ محمد جادو السويركي.

وبالنسبة للقضية المصرية والاستعمار الإنجليزي، كانت المظاهرات الإخوانية هي الأعلى صوتاً، والأقوى نبراً. وكان الإخوان يؤيدون كل كبير، أو وزير، أو رئيس وزارة يطالب بجلاء الإنجليز عن مصر، بصرف النظر عن هويته الحزبية .. وكان أنبل المواقف موقف للإمام الشهيد يتلخص فيما يأتي:

"في يوليو سنة 1947 م، سافر (محمود فهمي النقراشي باشا) – رئيس الحكومة المصرية – إلى أمريكا ليلقي خطاباً في مجلس الأمن دفاعاً عن قضية مصر الوطنية، ولكن (مصطفى النحاس باشا) – زعيم الوفد – بعث، للأسف، ببرقية إلى مجلس الأمن يندد فيها بالنقراشي وحكومته، ويتهمه بالدكتاتورية، وانعدام الديموقراطية، وعدم شرعية هذه الحكومة؛ لأنها لا تمثل الشعب المصري. وكانت هذه سقطة مخزية للنحاس لا يقره عليها عاقل؛ لأن النقراشي ذهب مطالباً باستقلال مصر، وجلاء الوات البريطانية عنها. فما كان من الإمام إلا أن أرسل البرقية الآتية:

إلى جناب رئيس مجلس الأمن، وسكرتير هيئة الأمم المتحدة: يستنكر شعب وادي النيل البرقية التي بعث بها إلى المجلس وإلى هيئة الأمم المتحدة رئيس حزب الوفد المصري، ويراها مناورة حزبية لا كأثر للحرص على الاعتبارات القومية فيها، وسواء كانت حكومة مصر ديموقراطية أم ديكتاتورية، فإن الشعب المصري يعلن على الملأ أمام هيئة الأمم المتحدة أن ذلك أمر يعنيه وحده، وأنه لا يسمح لأية دولة أجنبية بالتدخل، فله وحده الحق في أن يختار نوع الحكم الذي يريده، طبقاً لميثاق الأطلنطي، ومبادئ هيئة الأمم، وله وحده الحق في أن يعرض على حكومته ما يريد، وأن يؤاخذها على كل تقصير يراه.

كما يعلن كذلك أن حقوقه الثابتة عن مصر وسودانه، والحرص الكامل على استقلاله أمر لا يقبل جدالاً ولا مساومة، وأن الوحدة الدائمة بين شماله وجنوبه حقيقة واقعة، وضرورة لا محيص عنها، ولا يحول بينها وبين الظهور على حقيقتها وروعتها إلا هذه الإدارة الثنائية التي فرضتها بريطانيا عليه بالإكراه، والتي طلبت الحكومة المصرية في عريضة دعواها إلغاءها، وأشارت إلى بطلان المعاهدة التي سجلتها بريطانيا، والتي لم يرض عنها الشعب المصري، ولم يسلم بها يوماً من الأيام.

وأنتهز هذه الفرصة، فأؤكد لأعضاء المجلس والهيئة: أن شعب وادي النيل عظيم الأمل في يقظة الضمير العالمي، وأنه لن يستقر سلام في الشرق، ولن تهدأ ثائرة شعوب العروبة وأمم الإسلام؛ حتى ينال وادي حقه كاملاً، وليس إرضاء مجموعة من البشر قوامها أربع مئة مليون بالشيء الذي يستهين به الحريصون على الأمن والسلام".

وفي أثناء ذلك قامت شعب الإخوان في كل أنحاء مصر تطالب بالجلاء، وسقوط الإنجليز .. وقمنا نحن في المنزلة بعدد من المظاهرات كان من أقواها المظاهرة التي اندلعت بعد سماعنا لخطاب النقراشي في المنظمة الدولية، وكانت بقيادة الأخ (أحمد سليمان زين الدين) – رحمه الله.

ثم كانت المظاهرة الجامعة في مدينة المنصورة بعد صلاة الجمعة .. وحضرها إخوان من كل الشعب، فمن المنزلة: عبد الحميد الزهرة، ومحمد حسن عساسة، وكاتب هذه السطور (ولم أكن قد تجاوزت الثالثة عشرة من عمري آنذاك). ومن المطرية دقهلية الحاج عبده البسيوني – رئيس الشعبة، والأخ فهمي الخضيري، والأخ محمود إبراهيم الجميعي، والأخ محمود جادو السويركي، (وقد جمعنا أتوبيس واحد متجه إلى المنصورة). المظاهرة ضمت آلافاً من المتظاهرين حضروا – كما ذكرت – من شعب مختلفة، وكانت بقيادة الشيخ مصطفى العالم – رحمه الله – وكأني أراه هذه اللحظة، وهو يهتف: "الحرية .. الحرية .. يا أعداء الإنسانية، يسقط مجلس اللصوصية" (يقصد مجلس الأمن والمنظمات الدولية).

ثم كان الجهاد المسلح ضد الإنجليز في خط القناة أواخر الأربعينيات، وأوائل الخمسينيات، فعن طريق المنزلة يجتمع الإخوان الفدائيون في شعبة المطرية .. ومنها في السفن الشراعية إلى مواقع الإنجليز في بور سعيد وأطرافها. ولعل أضخم وأهم عملية قاموا بها هي نسف القطار الإنجليزي الذي كان يحمل شحنة شخمة من الأسلحة والذخائر قيمت بعشرات الملايين من الجنيهات، عدا الضحايا من الجنود الإنجليز. وعادت المجموعة بكاملها سالمة إلى شعبة المطرية، وأذكر منهم الإخوة: علي صديق، ويوسف علي يوسف، وفؤاد هويدي، وهو من شخصيات العائلة المشهورة التي ينتسب إليها الأستاذ فهمي هويدي الكاتب والصحفي المعروف.

ومن قبيل استيفاء الحديث، أذكر أنني كنت طالباً في مدرسة أحمد ماهر الثانوية بالمطرية في الصف الرابع (الثقافة، وبعده يكون التخصص في الصف الخامس)، وكنت أسكن في حجرتين في الدور العلوي من منزل والد الأخ زميلي في المدرسة "عبد الرحمن عرنوس".

وأذكر أن الحاج عبده بسيوني – رئيس الشعبة – كان شعلة نشاط في خدمة الإخوة الفدائيين.

وأذكر أن الأخ علي صديق كان مغرماً بسماع "لهجة المطرية" الأصيلة من الأخ الزميل محمد عبد الرازق الغوابي.

وكان الإخوان الفدائيون بعد كل عملية – وكلها ناجحة بعون الله – يعودون إلى شعبة المطرية، وهم نشاط دفاق، كأنهم ولدوا من جديد ﴿ وما إذ رميت ولكن الله رمى وليبلى المؤمنين منه بلاء حسناً إن الله سميع عليم ﴾ (سورة الأنفال: 17).

في مدرسة طلخا الثانوية

وقبل الحديث عن الشخصيات الإخوانية هناك واقعة مهمة في حياتنا، أسجل خلاصتها في السطور الآتية:

كان أمل والدي أن يراني طبيباً، ولكن حبي للأدب واللغة العربية دفعني للالتحاق بشعبة "أدبي"، والدراسة بها تكون بعد الانتهاء من السنوات الأربع الأولى من المرحلة الثانوية التي تنتهي بالحصول على شهادة "الثقافة العامة" ، ثم يبدأ التخصص في الصف الخامس: إما علمي، وإما أدبي، والمدرستان اللتان تنقلت بينهما في السنوات الأربع – وهما: مدرستا المنزلة، وأحمد ماهر بالمطرية دقهلية – توقفتا عند الصف الرابع، فحاولنا الالتحاق بمدرسة الملك الكامل الثانوية بالمنصورة، أو مدرسة المنصورة الثانوية، ولكن كان الجواب: لا أماكن.

كنا أربعة طلاب من إخوان المنزلة: أحمد عبد العزيز الخريبي، وأحمد صالح العلمي، والسيد زكي الموجي – رحمهما الله – وكاتب هذه السطور.

وجاء فرج الله على يد الدكتور (محمد خميس حميدة) – رئيس مكتب إداري المنصورة – الذي يرأس كل مناطق الإخوان في الدقهلية، وقبلنا والحمد لله بمدرسة طلخا الثانوية بمساعدة صديقه المسيحي "عزيز بقطر" – وكيل المدرسة.

كنا فصلنا ملاصقاً لحجرة الناظر، وبقدر ما كان "عزيز بقطر" شحيماً لحيماً، كان الناظر نحيفاً نحيلاً، وكأنه "صورة طبق الأصل" من الممثل "محمد كمال المصري" الشهير بـ "شرفنطح".

وأمام الفصول فناء واسع أتقن تبليطه، وبعد قبولنا بثلاثة أيام فوجئنا بمظاهرة من قرابة مئة طالب، يهتفون: "لا رجعية ولا إخوان، ولا تجارة بالأديان"، وغادرنا فصلنا .. ورأينا الناظر أمام المظاهرة مباشرة في صمت تام، وكان "هتيف المظاهرة" الطالب "القهوجي" ، وهو بطل مشهور من أبطال المصارعة، ووقف طلاب الإخوان – وأغلبهم من القرى التابعة لطلخا – لا يحركون ساكناً ، مما جعل المتظاهرين يسرفون في هتافات أقبح وأشد.

وأذكر من طلاب الإخوان آنذاك: عادل غنيم، ابن قرية (نشا)، وعبد الغني غنيم، وشقيقه حسن من نبروه، وعبد الحليم فصادة من بيلا. وهناك اثنان مهمان جداً كانا غائبين هذا اليوم هما الطالبان: أحمد شحاتة، والسيد الدمناوي، من شربين.

ووجدتني مندفعاً إلى الرجل الثاني في المظاهرة، "واسمه البارودي"، وأخذت "أعمل" لكماتي في فكيه يمنة ويسرة في سرعة برقية، أعجزته عن الرد أو الدفاع عن نفسه.

كل ذلك كان بمرأى من الناظر الذي لم يكن يبعد عنا أكثر من مترين .. وأخذ البارودي يستصرخ الناظر "شايف يا بيه" ؟! إميحة "أي قميحة" كسر ضبتي يا بيه.

أما بطلهم القهوجي، فأخذ يسب الدين بتشنج: "دين الإخوان واللي جابوا الإخوان". فوجدتني في عفوية وحماسة، ودون تفكير أدفعه إلى الفصل المجاور لفصلنا، وأغلقه من الداخل. وبدأت أفيق إلى نفسي، وهو ينظر إليّ نظرات تقطر بالشرر، وشعرت كأنني قط دخل باختياره قفص حياون كاسرن كيف أقدم على هذه المخاطرة غير المحسوبة. ووجدتني أتذكر قول المتنبي:

وإذا لم يكن من الموتِ بدٌّ
فمن العار أن تموتَ جباناً

ورددت بيني وبين نفسي، المثل عامي: "يا طابتْ يا الاتنين عُور" ، ورأيتني أرفع "دكة" من الدكك التي يجلس عليها الطلاب، "والدكة يجلس عليها ثلاثة طلاب" ، وأقذف بها – في قوة وشدة – تجاه القهوجي، فتفاداها، وصرخ في رعب:

"يا بويا"، وقفز من النافذة التي ترتفع عن الأرض قرابة مترين ونصف، وأنا لا أصدق عيني.

وانفضت المظاهرة مهزومة منكوسة، وجلسنا – نحن طلاب المنزلة الأربعة – في مقصف المدرسة (البوفية) – وهو يقع في الدور تحت الأرضي، نشرب الشاي، ونستريح بعض الوقت من عناء المعركة.

ثم هممنا بمغادرة المدرسة، وبدأنا نهبط من الدور الأرضي الذي يرتفع عن الأرض قرابة مترين ونصف، وبعضهم يعتبره الدور الأول. وكنا نسكن في الطابق الأول من منزل مسعود، قبالة المدرسة مباشرة، وفي الدور الأرضي ورشة حدادة كبيرة).

نظرنا إلى سور المدرسة فوجدناه قد زرع من الخارج بعشرات من البلطجية، وهم يلوحون لنا بالسيوف، والسنج، وعيدان الحديد مهددين.

ماذا حدث؟ علمنا فيما بعد أن الطالب البارودي هو وإخوته، استنفروا البلطجية لضرب – أو لقتل – بتوع المنزلة بعد "العلقة" الساخنة التي خرج بها من المعرك. وآل البارودي من أثرياء طلخا، ويملكون عدداً من سيارات النقل والأجرة، ولهم من الأتباع والعمال كثيرون.

  • مــاذا نفعـــل؟
اقترح الأخ أحمد العلمي أن نخاطر ونشق طريقنا بسرعة مفاجئة إلى الخارج، وخصوصاً أن ما بين بوابة المدرسة ومسكننا لا يزيد على عشرين متراً، ولكننا استبعدنا هذا الرأي؛

1) لأننا غير مسلحين، ولا حتى بعصى.

2) ولأن الجاني من هؤلاء لن تثبت عليه أي تهمة، فالتهمة ستسجل ضد مجهول.

واقترح الأخ أحمد عبد العزيز أن نبلغ ناظر المدرسة ليستعين بالشرطة لتفريق هؤلاء البلطجية، وتمكيننا من الوصول إلى مسكننا بسلام.

واستحسنا هذا الرأي على ما فيه من شبهة ضعف واستسلام، وخصوصاً أن الناظر قد رأى بعينيه وقائع المعركة من أولها إلى آخرها، ودخلنا حجرة الناظر، وأنا أتقدم الإخوة الثلاثة، ورفع الناظر عينيه، وترك القلم الذي كان يكتب به، وهو يغلي من الغضب، وبادرنا قائلاً بالحرف الواحد "هه .. هه .. حلو .. حلو قوي!! ونا اللي كنت بحسبكم أولاد ناس .. طلعتم أولاد ستين...".

وغضضت النظر والسمع هن هذا السب الفاحش، وقلت:

- شوف يا بيه .. على سور المدرسة من الخارج قرابة ميت بلطجي، يترصدون لنا، ويهددونا بالسيوف، وأسياخ الحديد.

- يعني إيه.

- يعني إحنا الأربعة لو ضربناهم مش مسؤولين.

وانتظرنا أن يفهم الرجل أننا قلة قليلة، وهم كثرة كثيرة، ولكنه انتفض واقفاً. وقال في صوت صارخ:

- اسمع يا واد أنت وهو، والله لو اعتديتم عليهم لحوديكم في ستين داهية.

وتركنا حجرة الناظر، ونحن في اضطراب وحيرة .. وأعدنا النظر إلى البلطجية المسلحين، فوجدناهم قد ازدادوا عدداً ..

- بس .. وجدتها؟

قلتها/ وكأني عثرت على كنز ..

- الحل في محمود الهواري.

و (محمود الهواري) من قرية الكفر الجديد مركز المنزلة، وهو طالب في مدرسة المنصورة الثانوية، ويلقبونه بفتوة الإخوان.

- ولكن كيف نستدعيه ..

- سيبوني أتصرف، ونزلنا إلى حيث غرفة التليفون (في الدور تحت الأرض). وتحدثت إلى سكرتير مدرسة المنصورة الثانوية – وهو ممن يتعاطفون مع الإخوان – فمكنني من أنأتحدث إلى محمود. وشرحت له ما نتعرف له من خطر .. وكيف أننا – نحن الأربعة – محاصرون داخل المدرسة.

- ولا يهمك .. بعد نصف ساعة سترى بعينك.

وتعلقت – عيوننا – نحن الأربعة بسور المدرسة المغطى من الخارج بالبلطجية المسلحين. وبعد نصف ساعة رأينا ما يشبه معركة حقيقية: زحاماً ينفض، وصرخات تعلون وغباراً يثور حتى يكاد يستر ما يحدث، فذكرني بقول بشار بن برد:

كأن مثارَ النقع فوق رءوسِنا
وأسيافَنا ليل تهاوَى كواكبُهْ

وتقدم إلينا الأخ محمود الهواري، يتبعه ثلاثة من طلاب المنصورة الثانوية، وهم يشرعون كرابيج لا يزيد طول الواحد منها على نصف متر .. وكنت أعتقد أن "محمود" قد حضر ومعه عشرون من الإخوة على الأقل .. فإذا بهم اربعة ..

وطلب منا محمود أن نغادر المدرسة معهم ..

- والبلطجية، يا محمود؟

- ضربناهم .. شرّحناهم .. لم يعد لهم أي أثر .. بل إن بعضهم – من شدة الفزه، وهول المفاجأة – رمى سلاحه، وولى هارباً.

وصدق الله – سبحانه وتعالى – إذ قال: ﴿ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ﴾ (البقرة: 229).

وما حدث يحمل في طياته دروساً وتوجيهات، من أهمها:

1) أن الأخ المسلم يجب أن يغضب لدعوته، ويدفع عنها ما يوجه إليها من مفتريات وتشويه.

2) أن الأخ المسلم يجب ألا يستصغر نفسه أمام الأحداث، بل يجب أن يعتبر نفسه أكبر منها، وأقوى من أعدائه؛ لأنه يستمد قوته وعزته من الله – سبحانه وتعالى: ﴿ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون ﴾ (المنافقون: 8) وهو القائل: ﴿ ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ﴾ (آل عمران: 139).

3) أن الأخ المسلم يجب أن يأخذ بكل الوسائل المشروعة لتحقيق نصرة دينه، وأمته، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها.

4) أن الأخ المسلم مهما اشتد به الكرب، وتعرض للكوارث والنكبات، يجب ألا يتسرب إلى نفسه اليأس، بل يجب أن يكون واثقاً من رحمة الله تعالى، قال تعالى: ﴿ ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون﴾ (الحجر: 56).

5) المسلم أخو المسلم، والمسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، كذلك كان التعاون من أهم سمات المسلم ﴿ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب ﴾ (المائدة: 2)، وعلى المسلم أن ينهض لنصرة أخيه المسلم إذا استنجد به، وإلا كان آثماً مقصراً في حق دينه. يقول تعالى: ﴿ وإن استنصروكم في الدين فعليم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير ﴾ (الأنفال: 72).

شخصيات في رحاب الدعوة

وفي الصفحات التالية، أتناول بالحديث الموجز بعض شخصيات الإخوان، وثمة اعتبارات أقدمها بين يدي هذا الحديث، وتتلخص فيما يأتي:

1) أغلب هذه الشخصيات من مدينة المنزلة (المدينة).

2) اختيار الشخصيات لم يعتمد دائماً على أهميتها، وفاعليتها، وما قدمته للدعوة من جلائل الأعمال، بل قد يعتمد على اعتبارات أخرى منها المواقف الطريفة التي تشد النظر.

ونبدأ بالمنصورة، ففيها عدد منا لدعاة ذوي التأثير القوي، والقدرة على التعبير والإقناع، ومن هؤلاء الأساتذة: محمد العدوي، وعلي فودة نيل، ومحمود حجر، ومن أهم هؤلاء:

صلاح الشربيني:

من كفر الجنينة، مركز المنصورة، كان يعمل مدرساً للمواد العلمية في المعهد الديني بالمنصورة. كان خفيف الوزن، ذكياً، حاضر البديهة، قديراً على الحركة والتصرلإ، وكان محدثاً بارعاً، قوي الإقناع، يجمع بين الفكر والعاطفة في مزج فائق.

ما جالسناه إلا وشدنا إلى حديثه بصوته الخفيض الهادئ، وكان في إقناعه يستعين بأمثلة من الواقع المعيش، وما وضع حلاً لمشكلة إلا وكان هو أنجح الحلول وأوفاها، وكان يتميز بسماحة الداعية ومرونته.

كنا ذات يوم في بيته (وكان الخميس الأول من أحد الشهور) ، فسأل أحد الطلبة زميله:

  • ما الذي ستغنيه أم كلثوم الليلة ؟

فغضب أحد الإخوة، وقال: عيب يا أخي، أم كلثوم إيه .. وبتاع إيه؟

فاعترض الأستاذ صلاح، وقال:

- لا يا أخي، سيبه يسمع أم كلثوم، يا أخ اسمع أم كلثوم. لكن بجانب ذلك اسمع الشيخ رفعت، وكان واسع الصدر، وعنده لكل نقد أو سؤال جوابه الشافي، ومن أمثلة ذلك:

- أنني وجدت منه اهتماماً خاصاً بعلية القوم، وذوي الغنى والحيثيات لجذبهم للدعوة، وكان يعطي اهتماماً كبيراً لسعد الشناوي، وهو من أغنى أغنياء المنصورة؛ فقلت له:

يا أخ صلاح: إن الله – سبحانه وتعالى – يلوم نبيه قائلاً: ﴿ عبس وتولى * أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى * أو يذكر فتنفعه الذكرى ﴾ (عبس: 1_4) ويقول: ﴿ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه .... ﴾ (الكهف: 28).

فكان جوابه: هذا صحيح، ولكن الله في عشرات من الآيات تحدث عن المحسنين، وعن الجهاد بالنفس والمال .. ولا يقدر على ذلك إلا الأغنياء، فالدعوة قامت على أكتاف أمثال أبي ذر، وابن مسعود، وبلال ابن رباح، وكثير من المجاهيل الذين لم يذكرهم التاريخ، وكذلك على أكتاف أثرياء، مثل: عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، الذي جهز من ماله الخاص جيشاً كاملاً هو جيش العسرة.

ومن طبيعة المجتمع الإسلامي أنه كان يعيش على التكامل، فقد ضم القائد الفذ كخالد بن الوليد، وحافظ القرآن كابن مسعود، والإداري البارع كعمر بن الخطاب، وعالم الأنساب كأبي بكر، وراوي الحديث كأبي هريرة .. تخصصات متعددة تكاملت< فصنعت نسيج المجتمع الإسلامي، ولو خلا المجتمع من القادة العسكريين العباقرة لفسد المجتمع.

وهناك واقعة تدل على الحكمة وبراعة التصرف خلاصتها:

أننا كنا جلوساً في شعبة "ميت حدر" بالمنصورة، وكان للإخوان سيارة برمائية في شكل قارب، ركنها الأخ صلاح خارج الشعبة. وأخذ بعض الأطفال يعبثون "بكلاكس" السيارة، فإذا خرجنا إليهم ولوا هاربين .. كانوا قرابة سنة ما بين العاشرة والثانية عشرة، ويظهر عليهم أثر الفاقة والتشرد، وأخذوا يعيدون الكرة: ضرب الكلاكس بصوته المزعج .. نخرج إليهم يولون هاربين.

ولم ينفع تهديدنا لهم .. كل ذلك والأخ صلاح، داخل الشعبة، مع مجموعة من طلاب الأقاليم. سألنا: إيه الحكاية .. فأخبرناه بما يحدث.

والحـــل ؟

- مفيش فايدة .. لابد أن يجلس واحد منا في السيارة.

- تعالوا معي وانظروا كيف سأحلها لكم.

- وخرجنا مع صلاح .. وأشار إلى أكبر الأولاد سناً، وأرثهم هيئة، وكان هو الذي يقود الأولاد في عدوانهم.

- تعالى ، متخافشي . أنا شايف أنك أجدع ولد في الأولاد .. لذلك ستكون العربية تحت مسؤوليتك أنت.

وأجلسه الأخ صلاح في السيارة. وعدنا إلى الشعبة. ولم نعد نسمع للكلاكس صوتاً.

- شفتم إزاي حلتها لكم في دقيقة.

- لكن يا أخ صلاح، كيف نستعين بولد قذر مثل هذا؟

ابتسم وقال: أما سمعتم الحكمة الخالدة: "إن الله ينصر هذا الدين بالرجل الفاجر".

وكان كريماً كرماً حاتمياً، وأذكر في هذا السياق، أننا كنا نتدرب تدريباً عسكرياً شاقاً في معسكر على ضفة النيل في طلخا .. للتوجه بعد ذلك لضرب الإنجليز في القناة. كنا قرابة ثمانين أخاً من شعب الدقهلية، وختمنا التدريب بعملية بالذخيرة الحية، استغرقت ساعة كاملة .. كانت الساعة الواحدة صباحاً. وأصر الأخ صلاح على أن نتناول طعام الإفطار عنده في "كفر الجنينة" التي تبعد عن طلخا بقرابة سبعة أميال، وسيراً على الأقدام وصلنا مع مطلع الشمس. واستيقظت القرية لإكرام ضيوف الأخ صلاح: القشدة، والعسل، والبيض، والجبن، والخبز الساخن، كل ذلك بكميات كبيرة .. لقد كانت أمتع وجبة تناولناها في حياتنا.

وقد أخبرني أحد الإخوة ممن كانوا ألصق اتصالاً بصلاح، أنه أراد أراد أن يتنازل عن كل الأرض الزراعية التي يملكها لصالح فلسطين والقضية الفلسطينية، ولكن الإمام الشهيد رفض هذا العرض.

فلما ظهرت بوادر المحنة بعد قيام الميمونة سنة 1952 م، هاجر إلى السعودية، وهناك تزوج، وأنجب، ولقي ربه في أطهر بقعة – يرحمه الله.

محمود إبراهيم الجميعـي:

هو علم من أعلام الإخوان في مطالرية دقهلية، وهو داعية بسلوكه وخلقه، قبل أن يكون داعية بالمواعظ والكلمات، كان يعمل تاجراً في الأدوات المنزلية، وله دكان قبالة دكان البقالة الكبير الذي يملكه والده، فقد كان من أكبر تجار المطرية.

كنا قرابة ثمانية طلاب من إخوان المنزلة في مدرسة أحمد ماهر بالمطرية وبعد انتهاء اليوم الدراسي من كل خميس نذهب إلى دكان الأخ محمود، ونمكث ساعة في لقاء إيماني مثمر، وكان هادئ الصوت، كان حديثه همساً ولكن إذا جالسته تحس أنه قد ملأ قلبك بحلاوة الإيمان، ونور اليقين.

كما أنه يؤكد مقولاته بواقع من الحياة رآها وعاشها، مثال وهو يتحدث عن قوله – تعالى – على لسان إبراهيم عليه السلام: ﴿ وإذا مرضت فهو يشفين ﴾ (الشعراء: 80) قال: عرضت أبي على طبيب مشهور في القاهرة، وبعد فحصه، وكتابة تذكرة الدواء (الروشتة) قال الطبيب: والدك لازم يغير جو .. خذه لحديقة الحيوان .. امش معه في شوارع القاهرة.

قال الأخ محمود: وكان يوم الثلاثاء، فصحبته إلى المركز العام ليحضر حديث الثلاثاء. وكانت أول مرة يستمع فيها للإمام الشهيد.

وبعدها دار بيننا الحوار الآتي:

- إن شاء الله غداً، سأصحبك إلى حديثة الحيوان، بعدها إلى الأهرام.

- لا يا ابني .. خلاص أنا الوقتي كويس جدّاً .. الشيخ حسن البنا شبعني، والحمد لله.

وكنا – نحن طلبة المنزلة – حريصين كل الحرص على حضور جلسة الخميس، ففي كل جلسة نشعر بأنا شحنا بشحنة إيمانية جديدة.

لقد مضى أكثر من نصف قرن على هذه الجلسات، ومع ذلك ما زال في حافظتي الكثير من كلماته كأني أسمعها هذه الساعة، ومنها:

- يا إخوان، نحن بالدعوة كل شيء ، ومن غير الدعوة لا شيء.

- حتى نؤمن بقيمة جماعة الإخوان؛ علينا ألا نبحث عما قدمه الإخوان للمجتمع المصري، فهو يمكن حصره وعده، ولكن علينا أن نتصور مصر "بلا إخوان" ... في هذه الحال ستكون مصر "مكشوفة" من غير حصن، ستكون مرعى لجماعات التبشير والإلحاد، والإباحية.

- الذين يكرهوننا تجدهم في أعماقهم يقدروننا، وقد سعدت بالأمس عندما سمعت واحداً من عامة الناس يقول لصاحبه: "لقد تعاملت مع فلان وزملائه في الشركة، فوجدتهم متعاونين متحابين زي الإخوان المسلمين.

- علينا أن نتعلم التواضع من الإمام حسن البنا؛ إذا زار إحدى شعب البلاد النائية، عرض عليه كل واحد من أعيان البلد أن يبيت في منزله، فيرد الدعوة في أدب، ويؤثر أن يبيت في الشعبة كأحد الإخوان.

وكان في تعامله مع الآخرين يصدق عليه حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: "رحم الله عبداً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى" ، فما رأيته جادل بائعاً في السعر الذي يطلبه، ولا يخاطب البائع إلا بـ "يا عمي". بل إن بعضهم – كباعة الفاكهة، والسمك، والطيور – كان يخفض له السعر بعد أن يحدده، ويعلنه به، وذلك لذوقه وإنسانيته، كما سمعت من أحد باعة الفاكهة.

وفي سنة 1965 م، حكم عليه ظلماً بالسجن عشر سنوات بتهمة الاشتراك مع مجموعة لقلب نظام الحكم، وقضى مدة الحكم صابراً، شاكراً، مستسلماً لقضاء الله. يرحمه الله.

الـرفاعـي شبــارة:

كان طالباً معنا في مدرسة المنزلة الثانوية، واكتفى بهذه المرحلة، فلم يلتحق بالجامعة، وامتهن تجارة الأخشاب فيما بعد، ووفقه الله في هذه التجارة إلى أن لقي ربه من سنوات.

كان الرفاعي طُلَعَة .. يقرأ كثيراً، وكان خطيباً جيداً، وكان الدعاة الكبار، كالشيخ "كامل الخريبي" ، يحرصون أحياناً على أن نصحبهم – أنا والرفاعي - في زيارتهم لشعب الأقاليم إذا ما احتفلت بالمناسبات الإسلامية، كالمولد النبوي الشريف، والإسراء والمعراج، وذكرى غزوة بدر، وطبعاً كنا نراعي أن تكون كلماتنا موجزة، كتمهيد وتوطئة لحديث الداعية الكبير، كما كان الرفاعي يشترك معنا في قيادة المظاهرات الوطنية بالمنزلة.

وكانا لرفاعي جريئاً، ذكياً، حاضر البديهة .. وأذكر في هذا السياق واقعة، خلاصتها: أننا كنا – بعد العشاء من يوم جمعة – في اجتماع أسرة، وذلك في حجرة من الدور الأرضي من منزل "آل شبارة" ، وكان للحجرة نافذتان على الشارع مباشرة، وكل منهما مصنوعة من الخشب بلا عيدان حديدية.

وترتفع عن الأرض قرابة متر ونصف، وبينما كنا مستغرقين في شرح قوله تعالى: ﴿ أُذِنَ للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ﴾ (الحج: 39) هب الرفاعي فجأة واقفاً، وأشار بأن نلتزم الصمت، وغادرنا لدقيقة واحدة، وجاء وفي يده حنفية قديمة .. وجعل الحنفية في يده على شكل مسدس، وفتح النافذة فجأة وصاح في غضب:

- أفرغ المسدس الوقتي في رأسك يا ابن (...)"

وجاء الرد في صوت مرتعش:

- "ابعد سلاحك يا رفاعي .. أنا زي والدك".

- "اخرس .. والدي يتجسس على الناس يا ابن ...؟

- أعمل إيه يا رفاعي ؟ دا أكل عيش .. على كل حال .. أنا لن أكرر ذلك أبداً.

وانصرف الرجل، وأغلق الرفاعي النافذة .. وأخذنا نضحك، وهو يعرض علينا المسدس .. أقصد الحنفية القديمة.

وخلاصة ما حدث أن رجل المباحث "عبد العزيز" طلب منه رؤساؤه أن يكتب تقريراً عن نشاط قسم الطلبة بشعبة المنزلة، فألصق أذنه في النافذة الخشبية طمعاً في أن يلتقط كلمات يكتبها في تقريره، فأذهلته المفاجأة، ومن شدة رعبه اعتقد أن "الحنفية القديمة" مسدس. والواقعة – كما هو واضح – تدل على جرأة الرفاعي من الناحية، كما تدل على سرعة بديهته من ناحية أخرى.

وعاش الرفاعي طيلة حياته صريحاً جريئاً في الحق، وجرأته قد تبلغ حد الإسراف والمغالاة أحياناً، ومن العجب أن أوضع أنا موضع المسئولية عن بعض تصرفاته الحادة، من أن الحاج مختار شبارة "والد الرفاعي" أقام أمام بيته سرادقاً احتفالاً بذكرى ميلاد الرسول (صلى الله عليه وسلم) حضره كثير من أهل المنزلة، وخصوصاً الشباب.

وبعد مضي قرابة ساعة تمتع الحضور فيها بالاستماع إلى القرآن الكريم، والتواشيح، وكيف كان النبي (صلى الله عليه وسلم) عادلاً مع أصحابه، وكذلك أصحاب الديانات الأخرى، وبصوت عالٍ وحماسة فائقة واصل الرفاعي كلامه – بغير المتوقع – "... ولكننا في وقتنا الحاضر مجد الظلم والفساد والفجور، نرى كل ذلك متمثلاً في ملكنا الفاجر الفاسد فاروق ابن نازلي شر خلق الله" .

فنهض الحاضرون جميعاً – ما عدا بعض شباب الإخوان – وغادروا السرادق على عجل خوفاً من أن يراهم رجال المباحث في السرادق، ويتعرضوا للمسئولية، ثم جاءني الحاج مختار متغير الوجه، وبادرني قائلاً:

- كده برضه يا جابر ؟ أنت عاوز تودي الواد وتودينا في داهية؟ فأقسمت بأغلظ الأيمان أنني لا أعلم أن الرفاعي سيتكلم، ومن ثم .. ومن باب أولى لا أعلم ماذا سيقول.

أما الموقف الثاني، فخلاصته: أن مدرساً أول بالمنزلة الإعدادية (وهو من بلد غير المنزلة) هذا المدرس تعوّد في المساء أن يجلس أمام مسكنه، أو يمشي في الشارع الذي يقع فيه مسكنه يعاكس الفتيات والنساء.

كلَّمه أحد جيرانه أن كيف عن أعمال المراهقين هذه، فنهره، وقال:

- أنا أحر أعمل اللي أنا عايزه.

- لكن اللي بتعمله دة غلط.

- غلط .. صح ما لكش دعوة .. يا متخلف.

- بس أنا خايف عليك من أهل الحتة.

- لا .. متخافش .. الراجل فيهم يتعرض لي.

شكاه بعض جيرانه لناظر مدرسته، فلم يهتم، ولم يأخذ الشكوى مأخذ الجد.

علم الرفاعي بما حدث، فترصد للرجل ذات مساء، ووجه إلى وجهه دفعات من اللكمات غيرت معالم وجهه تماماً، وظهر كأنه يضع على وجهه قناعاً كالذي يضعه جنود العصور الوسطى.

وبعدها طلب الرجل نله من المنزلة، فحققت مديرية التربية والتعليم بعد أسبوعين من طلبه، ولكن أغرب ما في هذه المأساة أن الرجل وجه الاتهام إليّ، مدعياً أنني الذي ضربته بنفسي دن الاستعانة بغيري.

  • سأله المحقق وكيف عرفت أنه هو، مع أن الدنيا كانت ظلاماً؟

- عرفته من طوله يا بيه.

- لكن الطوال كثير، مش هو بس اللي طويل.

وعلى مدى ساعتين، كان التحقيق معي، وحفظت القضية لعدم توافر الأدلة.

قلت للأخ رفاعي ضاحكاً: ... مبسوط يا عم؟ تشتم الملك، وتُلْقَى المسئولية عليَّ! ، وتضرب الرجل .. والقصاص يكون مني أنا .. وتمثلت بقول الشاعر الجاهلي:

لم أكن من جُناتها علم اللـ
ـهُ، وإني بحَرِّها اليوم صالي

رحمك الله يا رفاعي، وحشرك مع النبيين والصديقين، والشهداء، وحسن أولئك رفيقاً.

الشيـخ سيـد الضوينـي

حافظ القرآن وقارئه .. كنا نقدمه ليستهل بصوته الجميل اجتماعاتنا .. فلاح أصيل .. وإن شئت فقل: إنه خبير زراعي .. في التربة .. والري .. وأنسب المحاصيل وأنواع التقاوي .. استفتاه أحدهم في ثلاثة أفدنو ينوي شراءها ، فكان جوابه:

- خلي بالك الأرض "مالحة" شوية، يعني لازم تزرعها أول زرعة "مشيط"، وثاني زرعة "برسيم" ، وعلل الشيخ سيد ذلك بأن المشيط يمتص أملاح الأرض .. والبرسيم بعد ذلك يكمل المهمة .. يعني بيغسل التربة، ويطريها. وهي معلومة أسمعها لأول مرة.

والشيخ سيد خبير كذلك بأعمال "المعجنة" وأسرارها. والمعجنة حفرة مربعة بطول عشرة أمتار. أما العمق، فقرابة متر ونصف، وينقل لهذه الحفرة تربة نظيفة خالية من الشوائب. ويوضع معها نسبة من التبن، وينزل أحدهم إلى الحفرة ليقوم بعجن هذا الخليط .. ولابد أن يراعي النسبة المطلوبة من التربة، والتبن، والماء.

وبعد ذلك تفرغ الحفرة من محتوياتها في قوالب، كل قالب في حجم "الطوبة الحمراء"، وتعرض في الشمس حتى تجف، وترص لتصنع ما يسمى بـ "القمينة" ، ويوقد عليها من عينين فيها، فينضج "الطوب اللبن" – أي الطيني – بعد عدة ساعات ليتحول إلى "طوب أحمر" معد للبناء.

إنها معلومة قدمها لنا الشيخ سيد "خبير الأرض". والشيخ سيد يملك كنزاً من الحكايات والأحداث الواقعية الطريفة جدا ، لذلك كنا نحب الجلوس إليه.

ومن الوقائع الطريفة التي قصها علينا أن الشاب "فلان" صعد إلى أحد سطوح المنازل، ومعه "قفة" ليسرق بعض الدجاج .. فصاح الدجاج، مما أيقظ أهل البيت، وأمسكوا بـ "حرامي الفراخ" وسلموه للشرطة .. وأشار أحدهم على ضابط الشرطة باستدعاء والده لتأديبه؛ لأنه معروف بصلاحه وتقواه.

وحضر الأب، وحكى الضابط ما حدث، فنهض الأب كالوحش الكاسر، يريد أن يفتك بابنه .. ومنعه الضابط بعد جهد جهيد . وهدأ من روعه.

ووجه الأب كلامه لابنه بعد ذلك:

- كدة يا ابن (..) تفضحنا في البلد. لما أنت عايز تسرق فراخ بالليل من غير ما تكاكي رش على الفراخ شوية ميه.

فذهل الضابط، وكل من في حجرته.

  • سألت الشيخ سيد : ما معنى هذا ؟

- معناه أن الأب "حرامي فراخ" أصيل، واعتراضه – لا على جريمة ابنه – ولكن على الطريقة الخطأ. والدجاج إذا رششته بالماء ليلاً .. لا يصيح أبداً .. خبرة !!!

ويتحدث عن "رياض فطير" لص المنزلة المشهور ... وهو يُرْجَع إليه عند كل سرقة لرد المسروق، مع أخذ "الحلوان" أي المقابل، سواء أكان هو السارق، أم غيره. وسمعنا من الشيخ سيد الواقعة الآتية:

واستدعى عم السيد حرامي المنزلة "رياض فطير" ، ووعده بمبلغ كبير إذا أحضر المسروقات، قال رياض: يا عم سيد، أنا شخصياً لم أقم بهذه العملية .. لأنها عملية عيالي .. واللي عملها معندوش شرف. أنا الحمد لله يا عم سيد حرامي شريف. حرامي راجل. حرامي نظيف .. أسرق بكسر الأبواب أو فتحها، لا عن طريق ثُغرة في السقف أو في الحيطان.

والشيخ سيد مع أنه يكبرنا بقرابة عشر سنين، كان حريصاً على أن يشاركنا في كل رحلاتنا، وزياراتنا الدعوية لشعَب الأقاليم.

وكنا نتيمن به، ونحب الجلوس والاستماع إليه، يرحمه الله.

عبد الحميد الزهرة

بدأ حياته عاملاً نقاشاً، ثم وسع الله عليه رزقه؛ فأصبح مقاولاً، يحبه الناس، ويقدرونه لتقواه وأمانته في العمل. وكان عبد الحميد ممن حببني في الدعوة والشعبة، ومن تقديره لي أنه كان يعاملني كرجل لا كشبل من أشبال الإخوان، فكنت أصحبه في رحلات الجوالة، وأشترك في عروضها التي يقدمها في القرى المجاورة.

وقد ذكرت في حلقة سابقة أن الإخوان قاموا بمظاهرة ضخمة في المنصورة في يوم جمعة سنة 1947م، حضرها إخوان من كل شعب الدقهلية، فمن المنزلة حضر عبد الحميد زهرة، ومحمد حسن عساسة، وكاتب هذه السطور.

قامت المظاهرة لتأييد محمود فهمي النقراشي – رئيس الوزراء – وهو يعرض القضية المصرية أمام مجلس الأمن، بعد أن خذله الناس باشا – كما ذكرت – في فصل سابق. وكان قائد المظاهرة الشيخ مصطفى العالم – رحمه الله.

وبعد أن انتهينا من المظاهرة – وكان اليوم حاراً جداً – قلت لأمير الركب:

- أعتقد أنك ستغدينا اليوم عند الحاج محمود. (ومطعمه مشهور متخصص في تقديم طواجن اللحم) .

فقال عبد الحميد :

- يا جابر .. أنت عارف أن الشعبة هي التي تتحمل كل نفقات السفرية، واحنا علينا أن نشيل الدعوة .. مش الدعوة هي اللي تشيلنا.

  • يعني إيه ؟

- يعني حترسى على الفول المدمس، والطعمية.

وكان درساً تلقيته من الأخ عبد الحميد في عبارته العفوية الرائعة "إحنا علينا أن نشيل الدعوة .. مش الدعوة هي اللي تشيلنا".

وتطوع عبد الحميد للجهاد في فلسطين ضمن كتائب الإخوان، وأصيبت قدمه برصاصة، وعاد إلى مصر، ثم المنزلة. وحكى – على استحياء وبمصداقية كاملة – ما قام به، وسبب إصابته.

وبهذه المناسبة؛ أذكر موقف (فتحي . ط)، وهو عضو في أحد الأحزاب. تطوع من أجل فلسطين – أو هكذا قال – وغاب عن المنزلة قرابة شهرين، ثم عاد بغترة وعقال، وأخذ يروي قصة الملاحم التي قام بها في فلسطين، وعدد اليهود الذين لقوا مصرعهم على يديه.

سأله واحد من أهل المنزلة:

  • فلماذا عدت، يا فتحي، ولم يتمسك بك الجيش، أو كتائب المتطوعين؟

- أنا راجع هربان .. لأن هناك فلسطينية .. ملكة جمال .. من أسرة كبيرة جداً أحبتني، وتعقلت بي، وحرص أبوها وأسرتها على أن أتزوجها، ولكني بصراحة لم أجد في نفسي استعداداً لأن أبقى في فلسطين مع زوجتي هذه، أو أصحبها إلى مصر .. ظروفي لا تسمح، هذا هو السر في أني تركت فلسطين، وعدت مرة أخرى.

  • سأله أحدهم: إيه هي أنواع السلاح اللي أنت ادربت عليها يا فتحي؟

- أسلحة كثيرة، أنا حقول إيه ولا إيه، كان هناك أسلحة أشكال وألوان، المهم موش السلاح، ولكن المهم الإيد اللي بتشيل السلاح، وأنا والحمد لله شهد لي بالقوة اللي مفيش زيها.

وكان الناس من أهل المنزلة يستدعون فتحي للتسلية والتمتع بالاستماع لمثل هذه الحكايات الخرافية التي يقصها. وهذا النموذج من البشر يوضح الفرق الشاسع بين متطوع الإخوان عبد الحميد الزهرة، وأمثال "فتحي. ط". إن الفرق بينهما هو الفرق بين السماء والأرض. وأعتذر للأخ عبد الحميد عن هذه الموازنة. وهذا يذكرني بقول الشاعر:

ألم ترَ أن السيفَ ينقص قدرُهُ
إذا قيل: إن السيف أمضى من العصا؟

إن في رحاب الدعوة الإخوانية عشرات، بل مئات يستحقون أن أكتب عنهم، لكن المساحة المتاحة لا تسمح بأكثر مما كتبت، فلنتركهم لصفحات التاري الذي سجل، ويسجل أسماءهم بحروف من نور.

ولكن هذا لا يمنع من أن أذكر – على سبيل الإشارة – أسماء بعض الشخصيات الأخرى في المنزلة، وبعض قرى المنطقة، وقد عاصرتهم، وأنا طالب في المرحلة الابتدائية، وبعض سنوات المرحلة الثانوية.

فمـن المنزلـــة:

الأخ أحمد سليمان زين الدين: سكرتير شعبة المنزلة، وكان يعمل صائغاً، وعاش شعلة من النشاط والذكاء وحضور البديهة.

أحمد الغندور: كان له دكان صغير على محطة المنزلة يبيع فيه بعض الأطعمة الشعبية الخفيفة كساندويتشات (الفول والطعمية)، واشتهر بأنه أفضل من ينفخ في البروجي في استعراضات الجوالة.

وجيه الزرقاني: كان داعية هادئ الطبع، ذا خلق رفيع، وكان كثير المصاحبة للأستاذ عبد الرحمن جبر – رئيس المنطقة.

عزت الكوش، مختار البنان، وعبده حيدر .. أفراد مميزون من الجوالة. والأخيران اشتهرا بالقوة الجسدية والشجاعة الفائقة.

محمد عبد العزيز سعيد: جوال متميز يعمل في المجل البلدي، وكان بطلاً من أبطال رفع الأثقال.

ومن قرية (العزيـزة): (وبينها وبين المنزلة قرابة ثلاثة أميال)، أتذكر:

1) محمد مسعد. وكانت ميم (مِسعد) تنطق بالكسر.

2) الحاج أحمد الليثي (تاجر جبن).

وهو رئيس شعبة العزيزة، وله ولدان: محمد وأحمد في سن يقارب سني، والأول كان أكثر توفيقاً من الثاني في دراسته وسلوكه.

وكان عند الشيخ أحمد – رحمه الله – مكتبة صغيرة، أذكر أنني استعرت منها بعض الكتب، وخصوصاً، مثل: الشاعر والفضيلة، وماجدولين.

ومن ميت سليسل: الشيخ عبد الرحمن القداح.

ومن ميت مرجا: الشيخ أحمد المدني.

ومن البصراط: الشيخ محمود عبده، وشقيقه محمد.

ومن الكفر الجديد: الحاج طاهر الهواري، وابنه محمود.

ومن العصافرة: إبراهيم سالم، وأشقاؤه: محمد، وأبو السعود، ورأفت.

ومن الضهير: إبراهيم الشيخ، وشقيقاه: حسن، ومأمون.

ومن النسايمة: محمد مصطفى المزين.

ومن المطرية: محمد جادو السويركي، وهو من المجاهدين الذين سبقوا إلى الجهاد في فلسطين. ومحمد سيد الأزهري: خريج الأزهر، وكان شاباً خفيف الجسم، ذا خلق رفيع، وخطيباً بليغاً، متدفق البيان، قوي الإلقاء، وقد تعلمت منه الكثير، وتأثرت بطريقته في الخطابة.

والحاج عبده البسيوني، وهو رئيس الشعبة، وكان له مواقف عظيمة جداً في استقبال المتطوعين الذين ينْفذون من بحيرة المنزلة لضرب الإنجليز، وأذكر من هؤلاء الإخوة: علي صديق، ويوسف علي يوسف، فؤاد هويدي. وكان الحاج عبده البسيوني يقوم بإيوائهم، والإشراف على مبيتهم، وإطعامهم، وتسهيل أمورهم في النفوذ بالسفن الشراعية إلى الجانب الآخر من بحيرة المنزلة، لضرب القوات الإنجليزية.

ومن أشهر عملياتهم عملية نسف القطار الإنجليزي الذي كان محملاً بالسلاح والذخيرة والجنود الإنجليز.

كنت في هذه الفترة طالباً في مدرسة أحمد ماهر الثانوية بالمطرية" ، ومن طلبة الإخوان زملائي في المدرسة:

إبراهيم الريس، وشقيقه عبد الكريم، وعبد الرحمن المرسي، وسيد حجاب (شاعر العامية فيما بعد)، ومحمد عبد الرازق الغوابي، وسيد الجيار، والسيد الريس (الذي صار طبيباً وممثلاً فيما بعد). وكان من أساتذتنا آنذاك: الثلاثة الأشقاء من آل النجدي: محمد (أستاذ اللغة العربية) ، وعليّ (أستاذ المواد الاجتماعية) ، ورفعت (أستاذ الإنجليزية). أما ناظر المدرسة، فهو عمهم الأستاذ علي النجدي، وكان من الأساتذة العظام من خارج المطرية: الأستاذ فياض (أستاذ الإنجليزية)، والأستاذ عبد الجواد جامع (أستاذ اللغة العربية).

وأنبه القارئ إلى أنني أعتمد على الذاكرة في اجترار الأسماء. وإن أعوذ بالله من الخطأ والنسيان.

موقع منزلاوي في حوار مع الدكتور جابر قميحة

أجرى موقع منزلاوي حواراً مع المفكر والأديب الإسلامي الكبير ابن المنزلة الدكتور "جابر قميحة" ، والدكتور جابر من مواليد مدينة "المنزلة" سنة 1934م، حاصل على دكتوراه في الأدب العربي الحديث من جامعة القاهرة، وماجستير الأدب العربي الحديث من جامعة الكويت، ودبلوم الشريعة الإسلامية من جامعة القاهرة، وليسانس الحقوق، وليسانس دار العلوم التربوي من جامعة القاهرة.

عمل بالتدريس في كلية الألسن بجامعة عين شمس، وجامعة ( YALE ) بالولايات المتحدة، والجامعة الإسلامية بإسلام آباد، وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن بالمملكة العربية السعودية.

شارك في العديد من المؤتمرات العالمية في الولايات المتحدة وإسلام آباد وتركيا والرياض والمغرب.

والدكتور جابر شاعر مفوه، وأديب متمكن، وكاتب من طراز خاص، له مساهماته المتعددة في أكثر من ميدان كالبحوث والدراسات والقصص والروايات والشعر والمسرحيات والمقالات. وتنتشر كتاباته في العديد من وسائل الإعلام المقروءة من جرائد ومجلات، كما صدر له عشرات الكتب والبحوث، وترجم بعضها للغات أجنبية عديدة، كما أن له مشاركات وحضوراً في عدد من الفضائيات، كقنوات: اقرأ، والناس، والرافدين.

التحق بالإخوان المسلمين المسلمين منذ طفولته، وعاصر الإمام الشهيد حسن البنا:

- أهلاً بك، دكتور جابر، في بلدتك المنزلة.

- أهلاً بكم.

- لكي يصل المرء إلى بيت الدكتور جابر بالمنزلة؛ يسير في شوارع ضيقة ويمر على سوق للحدادين، ويصل إلى حي شعبي ليجد به بيت الدكتور جابر، لماذا لم تنتقل لحي آخر يتناسب ومكانة الدكتور جابر ؟

- إنني نشأت في هذا البيت، وبيتنا القديم كان مكان هذا المنزل الذي بني سنة موت سعد زغلول 1927م، كما يقول والدي، وقد احتفظنا بنفس الأرضية؛ لأننا كما يقول الشاعر:

نقِّل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأولِ

فنحن أبقينا على الأصل، وغيرنا البناء، فالمهم الإبقاء على الجذور، وما زلت في هذه الحارة القديمة التي تسمى حارة قميحة، وكلها من الأسرة، فهي تمتلئ بالأعمام، وأولاد الأعمام، وكثير من الأسرة.

  • رحلة الدكتور جابر قميحة التعليمية التي بدأت من الطفولة، حتى وصلت إلى العديد من الشهادات من أكثر من جامعة، هل لك أن تعطينا نبذة عنها ؟
مراحل التعليم كانت بداية من الكُـتاب، ثم بعدها التحقنا بالمدرسة الإلزامية، وكانت 3 سنوات، واجتزنا مسابقة انعقدت كي ندخل المدرسة الابتدائية الأميرية، وكانت أربع سنوات، ثم بعدها جاءت المرحلة الثانوية، وكانت خمس سنوات، وحصلنا على شهادة الثقافة العامة، ثم التخصص في السنة الخامسة، ثم حصلنا على الشهادة التوجيهية التي تعادل الثانوية العامة الآن.
وأذكر أنه كان يدرس لنا اللغة الفرنسية دكتور اسمه "واصف"، وبعد أن تخرجت وحصلت على الدكتوراه، وعملت مدرساً بكلية الألسن بجامعة عين شمس وجدت الدكتور وكيلاً للكلية، فقلت له: أهلاً بأستاذي، فقال لي: لا لم أعد أستاذك، ولكننا الآن زملاء.
وهناك حلقة لا أنساها من حياتي في تلك الفترة، حيث كان الإخوان يرغبون لي أن ألتحق بالكلية الحربية؛ لكي يغذوا الكلية بالشباب الذي يعطي لله حقه وللوطن، وأنا كنت حريصاً على أن ألتحق بكلية دار العلوم؛ انطلاقاً من عاطفة حبي للإمام حسن البنا، ولكن الأستاذ عبد الرحمن جبر – رئيس منطقة الإخوان بالمنزلة – ظل يرغبني في أن ألتحق بالكلية الحربية، فاستجبت، وأخذت خطاباً من أحد الإخوة الكبار موجه إلى البكباشي "أبو المكارم عبد الحي"، وكانت كلمته مسموعة، وهو الذي حاصر قصر عابدين مع عبد المنعم رءوف أيام قيام ثورة 1952 م، وكان لهما دور كبير في الثورة، ورغم ذلك كنت أدعو الله أن أرسب في امتحان القبول للكلية الحربية؛ لأنني كنت أريد أن أوفق بين طاعتي لأوامر الأستاذ جبر ورغبتي في الالتحاق بدار العلوم، وظهرت نتائج قبول الكلية، وكان الذي ينجح حتى الكشف الطبي هو الذي يجري عليه كشف الهيئة (كان يسمى كشف التوصية) ، وأنا كان معي خطاب التوصية إلى البكباشي أبو المكارم عبد الحي. ومع أنني نجحت في الكشف الطبي ... ارتكبت ذنباً – أدعو الله أن يغفره ليه – وهو أنني أمسكت بخطاب التوصية ومزقته. ولا أحد يعلم بذلك، وعندما سُئلت كذبت الكذبة الوحيدة في حياتي، وقلت لأهلي وكبار الإخوان بالمنزلة: إنني رسبت في الكشف الطبي.
ثم التحقت بدار العلوم بعد اختبارات صعبة جداً، وكان ترتيبي الأول في اختبارات الالتحاق بمجموع 96 %. وتخرجت في الكلية عام 1957م، وقطعت مشوار الحياة من مدرس ثانوي إلى الحصول على الماجستير، ثم الدكتوراه، كما حصلت على ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة، وحصلت على دبلومة عالية في الشريعة الإسلامية والقانون، وكدت أسجل للدكتوراه في موضوع "نظرية التعسف في استعمال الحق بين الشريعة والقانون".
وبعد ذلك عملت موجهاً للغة العربية، ثم مدرساً بكلية الألسن بجامعة عين شمس بالقاهرة. ومنها انطلقت للتدريس في الجامعات الخارجية لمدة خمس سنوات: في جامعة إسلام أباد العالمية في باكستان، وكان ذلك في الثمانينيات ثم في جامعة (يل – YALE ) – بمدينة نيوهافن – بولاية "كنـكـتـكـت" بالولايات المتحدة الأمريكية. ودرست كذلك في المملكة العربية السعودية من عام 1991 إلى 1997م في جامهة الملك فهد بالظهران.
  • حفل مشوارك العلمي أيضاً بالمشاركة في العديد من المؤتمرات العالمية ؟
أنا حضرت مؤتمرات في المغرب: كمؤتمرات الأدب الإسلامي العالمي في الدار البيضاء وأغادير. ومؤتمر إسلامبول بتركيا، وألهمني هذا المؤتمر مطولتي الشعرية "حديث عصري إلى أبي أيوب الأنصاري"، (ومعروف أن الصحابي الجليل مدفون هناك). وحضرت مؤتمر: ظاهرة ضعف اللغة العربية، بالرياض, وحضرت مؤتمر ( ISLAM TODAY ) في إسلام أباد, وحضرت مؤتمر (القدوة الحسنة) في مدينة "سبرنج فيلد"، بولاية ألينوي، بالولايات المتحدة الأمريكية. وقد فوجئت فيه بحضور ما يزيد على عشرة آلاف من الإخوان المسلمين.
  • إخوان مسلمين في أمريـكا ؟
نعم، وكل هذا بفضل الله، وهذا يجعلنا نقول: إن دعوة الإسلام ما زالت بخير، وإن هذه الجماعة بقوة الله وعزيمة الأخوّة الصادقة تحولت من جمعية إلى جماعة إلى تيار. فنحن الآن نعيش في عصر تيار الإخوان، أي أنه تيار لا يُمسك، ينطلق مثل الهواء الذي لا تستطيع أن تقول له: قف.
  • ذكرت أن الإخوان كانوا جمعية، ثم جماعة، ثم تيار .. ما الفرق؟
في الواقع إن الإخوان كجمعية كانوا يركزون على الأساسيات، كما كان العهد الملكي في السيرة النبوية: التركيز على التوحيد وأصول العقيدة. أما عن الإخوان كجماعة، فقد زاد انتشارهم، وزادت درجة التفصيل والتفهيم، كأنها العهد المدني للإخوان، كما كان الوضع أيام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فعندما دخل المدينة كون الدولة. ومكونات الدولة – كما هو معروف – أربعة: الأرض – الشعب – الحكومة – الدستور.
وأما عن الإخوان كتيار، فيعني أنهم غير قابلين للحظر أو الحل ... أصبح هذا الكيان منتشراً في كل أنحاء العالم ... أكثر من سبعين دولة فيها وجود للإخوان المسلمين، حتى قدر بعض الخبراء عددهم بمئة مليون. نعم أصبح هذا الكيان كالهواء، هل تستطيع أن تسمك بالهواء وتأمره بالوقوف؟! .. فالإخوان الآن هكذا .. وكنت أشبه الإخوان بمجموعة من السهام المحفوظة في كنانة، فجاء عبد الناصر، وضي على الإخوان في مصر، فانطلقت السهام تغزو القلوب والعقول في كل مكان في العالم، فانقلبت المحنة التي أنزلها الطاغية بهم إلى منحة ومنة وخير وانتصار للحق ورجاله.
  • كيف تعرفت على إخوان المنزلة ؟
فوجئت في يوم، وأنا طفل صغير بعرض جوالة لم أر مثله، وكان بالمئات، وكنت فرحاً جداً بالمنظر، وأرغب ألا ينتهي، فسألت عن هذا العرض، فقالوا: هؤلاء رجال الشيخ حسن، وكان يومها هناك زيارة له، وتكلم البنا، وكنا كالمسحورين، وكان لحديثه أثر بالغ في نفسي، ومن هنا بدأت الانضمام لشعبة المنزلة، وصرت من أشبال الإخوان، وفي الثانوية كان لنا جهد ثري في المؤتمرات والمظاهرات والخطب، وأذكر وأنا في سن السادسة عشرة كنت متأثراً بشخصية الإمام الشهيد، وكتبت قصدة عنه عندما استشهد، وهي مسجلة في كتابي "الإمام الشهيد حسن البنا بين السهام السوداء وعطاء الرسائل".
  • تعرفت على الإخوان قبل عام 1947 م، وبعدها بعام ونصف بدأت تشتد التضييقات والاعتقالات على الإخوان، هل تتذكر أحداث هذه الفترة بالمنزلة ؟
أذكر عندما شمعوا مقر شعبة المنزلة، وكانت في الدور الأرضي من بيت "أبو سلامة" ، استطعنا أن نقفز إلى الداخل من النافذة، ونخرج كافة محتويات المقر، ثم وضعناها في مكان بعيد عن بيوتنا. واعتقل الأستاذ "محمد قاسم صقر" الذي كان وقتها مسؤول الإخوان وسكرتير عام المنطقة، وكانت المنطقة تشمل: المنزلة، والعزيزة، والأحمدية، والمطرية، وميت سلسيل. الاعتقالات لم يكن لها مقياس واحد في التعامل مع الشباب والمسئولين. الشيخ أحمد صقر لم يعتقل، عبد الحميد الزهرة لم يعتقل لخطأ في اسمه، نحن الطلاب لم يعتقل منا أحد.
من لحظة الاعتقالات لم يعد هناك عمل في شكله الرسمي بعد غلق الشعب والمناطق، وأصبح الإخوان يزاولون عملهم الدعوي بطريقة مستترة .. ولا أقول سرية.
  • هل تذكر لك مواقف إخوانية، خلال السنوات التي تلت حل الجماعة؟
في فبراير 1954م، عندما أقالوا محمد نجيب، كان الإخوان وغيرهم ينظمون مظاهرة تأييد لنجيب، وكنت بالجامعة وقتها، وخطب عبد الصبور شاهين خطبة بالجامعة، وذهبنا بعدها لقصر عابدين، ووصلنا لكوبري قصر النيل، وكنت في الصف الأول أنا وحلمي حنفي، وكنا نهتف: إسلامية، قرآنية، لا شرقية ولا غربية، وفجأة رأيت على يميني أمين عميش، وعن يساري أحمد عامر الزيني، وبعد دقيقة واحدة غابا عن نظري. فلما وصلنا إلى نهاية كوبري قصر النيل أمام فندق سميراميس، وجدنا ترسانة عسكرية تنتظرنا، ومعهم أسلحة موجهة إلينا، وفجأة وجدت الضابط يصدر الأمر بالضرب، فهربنا إلى فندق سميراميس، ثم خرجنا منه، وعدنا إلى الكوبري من الخلف لنجد بركة دماء تملأ المكان الذي كنت أقف فيه.
الحاج عبد الحميد الزهرة كان أهم وأبرز شخصية عمالية غير جامعية في الإخوان المنزلة، وكانت لديه قوة إيمانية وبدنية، كان يذهب إلى شعب الإخوان، ويعلمهم نصب الخيام، وكيفية التعامل مع نظام الجوالة، وموسيقى العروض الكشفية بطريقة عملية، كان كسباً للدعوة يعمل لها طوال عمره، كان ماهراً في كل شيء، وأنا حينما أراه أقبل يده وأناديه بأستاذي؛ لأن الأستاذ هو الذي يعلم بغض النظر عن المؤهل، وأنا تعلمت منه الكثير.
  • اشتهر عنك في كتاباتك الدقة في المعلومة والإحصاء، وسهولة استرجاع المعلومات، فما السر في ذلك؟
من أكثر من 40 سنة، وأنا أكتب يومياتي باليوم والساعة والتاريخ، وعندما أكتب كتاباً أو مقالة أستطيع استرجاع المعلومة بسهولة.
  • كم تقرأ يومياً؟
أنـا – والحمد لله – مريض بالقراءة، وكل مصاريفي – من الصغر – كانت في شراء الكتب، وكانت والدتي تتعجب من كم الكتب، وتسألني: هل قرأتها؟ فأجيبها بنعم، فتطلب مني أن أبيعها لعم محمد أبو السيد- وكان أشهر بقال في المنزلة – لاستعمالها في شكل قراطيس للبيع فيها للزباين.
وكنت أقرأ في اليوم 15 ساعة أثناء فترة الاعداد للماجستير، واليوم قراءتي بين 7 ساعات و9 ساعات يوميا. وأحياناً أحكم على نفسي بالقراءة طوال اليوم، وأجور على ساعات نومي، ومن عجب أن والدي كان يجبرني على عدم القراءة إشفاقاً عليَّ، وعلى عينيَّ من الكم الذي أقرؤه، وخصوصاً في المساء؛ فالمنزلة – آنذاك – لم تكن تعرف الكهرباء، وكان اعتمادنا في الإضاءة على لمبات الجاز. وحالياً عندي مكتبة كبيرة تشغل نصف الشقة التي نعيش فيها. وزوجتي تسميها "وكالة الكتب" ، تشبيهاً لهـا بـ "وكالة البلح"؛ لكثرة الكتب وتنوعها. وأحمد الله إذ أرسم لها في عقلي خريطة متكاملة تجعلني أعرف مكان كتاب فيها، ويسهل عليَّ جـداً إخراجه من مكانه في لحظات.
  • وهل لك نظام معين تتبعه في قراءتك؟
طريقتي في القراءة رأسية وأفقية معاً، الطريقة الأفقية أن أقرأ في المال والسياسة والأدب والنحو .. وغير ذلك، والطريقة الرأسية أن أبدأ بموضوع، ولا أتركه حتى أنهيه، مثل "أبو العلاء المعري" ظللت أقرأ عنه سنة كاملة متواصلة، فقرأت كل ما أبدع وكل ما كُتب عنه.
  • هل تستخدم الإنترنت في القراءة، أم أنه يمثل لك مشكلة؟
نعم أستخدمه في القراءة، وفي حفظ كثير من إنتاجي، ولكن اعتمادي هنا يعد اعتماداً جزئياً.
  • مَنْ مِنَ الكتاب المعاصرين تحب أن تقرأ لهم؟
طبعاً الإمام حسن البنا، والشهيد سيد قطب، والعالم الجليل محمد الغزالي، والعالم الجليل الدكتور يوسف القرضاوي.
  • ما أبرز الكتب التي تأثرت بها، وشكلت مكونـاً لفكر الدكتور جابر .. وغيرت من مسار حياته الفكرية؟
طبعاً ، أهمها كلها تراث الإمام الشهيد حسن البنا، وتراث سيد قطب، وما يكتبه الإخوان في المدرسة الإخوانية.
  • بماذا تنصح الشباب؟
أنصح الشباب بالتزام الخط الرباني، والتقوى والصلاح، ومراعاة الله في السر والعلن.

ثم أقول لكل شاب : اقرأ ... اقرأ ... اقرأ ، القراءة زاد ، ولا تقطع نفسك عن الحبل السري للثقافة، فاقرأ في كل شيء.

  • بماذا تنصح من يرغب في أن يقوي لسانه لغة وبلاغة؟
أنصحه بالاعتماد على القرآن الكريم، فهو يمثل أرقى مـا في الدنيا والآخرة من بيان. وكان أحمد شوقي يقول:

إن كلمة في شعري لا أستطيع أن أردها إلى أصل قرآني، لا أعتبرها من اللغة العربية.

  • هل من عوامل كانت تشجعك على القراءة منذ الصغر؟ وهل للأسرة دور في ذلك؟
هو حب ذاتي، خلقه الله في دمي، فقد كنت، والحمد لله، مريضاً بالقراءة، وليس للأسرة أثر في ذلك، بل كان والدي – إشفاقاً على صحتي – ينهاني عن الإكثار من القراءة.
  • ما هي آخر إصدارات الدكتور جابر؟ وهل من كتب تحت التجهيز؟
هما كتابان خرجا إلى الوجود: الملامح الفنية والجمالية في أدبيات الإمام الشهيد، والثاني: هو التاريخ الأدبي لجماعة الإخوان المسلمين من سنة 1928 م إلى 1948 م. وإن شاء الله في الطريق "مواليد أخرى"، فادعوا لنا بالصحة والتوفيق.
  • في أحيان كثيرة نجد كتابات الدكتور جابر لاذعة وشديدة الهجوم، حينما يتعرض لشخصية ينتقدها .. ما تعليقك؟
إنني حينما أكتب لا أنتصر لنفسي، ولكنني أنتصر للحق، وهناك نوع من الكتّـاب في الواقع لا يصلح معهم الأسلوب اللطيف، مثل ما قال العقاد: "ولقد ضبطت فلانـاً وفلانـاً، وهما متلبسان بالكتابة" ، وأعتقد أن هذا اللون من الكتابة هو الذي يصلح للذين يتعمدون قلب الحقائق، ويستخفون بعقول الناس.
  • ما ذكرياتك لصلاة العيد وخطبته بالمنزلة أمام خمسة آلاف مصل؟
في الواقع كان قيامي بصلاتي عيد الفطر وعيد الأضحى، يشعرني بأنني ولدت من جديد، حينما أرى وجوه الشباب الإخواني، وشيوخ المنزلة يستمعون إلى الكلمات التي أقولها، وكأن على رءوسهم الطير، وأدعو الله أن يمكنني ذات يوم من إعادة ما سبق.
  • اذكر لنا نبذة عن حالتك الصحية ?
لا أملك إلا أن أشكر الله في كل حال، وأن أصبر؛ فالصبر ضياء، وأسألكم أن تدعوا لي في صلاتكم، لا حباً وحرصاً على الحياة، ولكن حتى أتمكن من إكمال رسالتي الإسلامية، وفي الذهن مشروع لست أدري إن كان العمر سيتسع له أم لا، وهو إصداء مجلد ضخم بعنوان "ملحمة المصحف والسيفين" ... أنظم فيه تاريخ الدعوة من فجرها إلى أيامنا الحاضرة، ويكون ذلك شعراً، هذا أمل أدعو الله أن أحققه، وإذا لم أحققه فأدعو الله أن يقوم بهذا العمل أحد الإخوة. والحمد لله أن سعدت بوجود شعراء ودعاة شباب في المنزلة، وأتذكر أنني قلت: الآن أموت مستريحاً؛ إذ رأيت هؤلاء الدعة الشباب الذين سيفوقوننا في المستقبل – إن شاء الله.

نشكرك د جابر على هذا الحوار ...

أشكركم .. وتحياتي إلى أبنائي وإخواني في منطقة المنزلة بصفة خاصة، وإلى كل من تلقاه من الإخوة الأحبة في أي مكان.

خاتمـــــة

وبعد هذه المسيرة أحب أن أؤكد أنني حرصت في كتابتها على الالتزام بصفتينك الأولى البساطة والعفوية، فبدت كأنها حديث من وحي ساعته يلقى في جماعة في سهولة وتدفق. والثانية: المصداقية .. والكلمات تصوير مباشر للواقع بلا تزويق أو إسراف ومغالاة.

ثم علينا أن نلاحظ – دون مبالغة – أن هذه الصفحات جاءت جامعة شاملة لعطاء المسيرة الإخوانية في المنزلة دقهلية في الماضي .. فأبانت عن كل ألوان النشاط، وخصوصاً النشاط الاجتماعي والتربوي. ولا ننسى في هذا المقام الهدف العلمي أو العرفاني لهذه الصفحات، فقد أبانت الكثير من المواقف، ورسمت صور كثير من الشخصيات في المنطة، وخصوصاً من يعيشون في منطقة الظل.

وأتمنى أن تكتب كل مناطق الإخوان تاريخ الدعوة فيها في كتب مستلة. فكتاب عن تاريخ الدعوة في بور سعيد، وآخر عن تاريخ الدعوة في ميت غمر، وثالث عن تاريخ الدعومة في دمنهور .. وهكذا، فتصنع هذه الكتب "تورايخ خاصة" لهذه المناطق، وتعتبر وثائق ومراجع لها قيمتها العلمية للقراء والدعاة والباحثين.

وفي النهاية، أحب أن أحيي شباب الإخوان في المنزلة، فقـد استمعت لبعضهم، فرأيت فيهم دعاة على مستوى رفيع – قلت: إنكم أيها الإخوة تذكرونني بشبابي، وإذا فارقت حياتي أفارقها وأنا مطمئن. بعد أن رأيت فيكم دعاة يؤدون الأمانة، ويبلغون الرسالة على وجه مشرف كريم.

والحمـــد لله رب العالميــــن