د عبد الحليم البر - يكتب رسائل السماء
كفر الشيخ اون لاين | خاص
حينما نري ثبات الرئيس وثبات قادة الإخوان وابتساماتهم الجميلة التي تكسر قلب كل متكبر جبار ,وتلحق به الهزيمة النفسية من داخله , وحينما نقرأ أن إخواننا في سجن العقرب رفعوا شعار : في العقرب .. إلي الله أقرب ... ثم تأتيهم البشريات من الله في صورة رؤي صالحة يرونها , كمن رأي الدكتور صلاح سلطان يأتيهم بهدايا من الله , كل واحد له هديته مكتوب عليها : هدية من الله .... بشارة بقرب مجيئ السلطان الصالح الذي يسعد الله به البلاد والعباد إن شاء الله ,
وكمن رأي رسول الله – صلي الله عليه وسلم – يفتح لهم أبواب الزنازين ليخرجوا .... وغير ذلك مما يبشر الله به عباده المؤمنين الصابرين الثابتين القابضين علي الجمر في هذه الظروف العصيبة التي يعيشونها .
وغير ذلك من بشريات يستخف بها الذين لا يوقنون , بينما هي تدفع المؤمنين بها إلي مزيد من الثبات والصبر والثقة في موعود الله عز وجل بالعزة والنصر والتمكين ,
قرأت ذلك فذكرت ما حكاه أحد أساتذتنا الكبار الكرام وما حدث لهم في السجن الحربي , وما كان الله يرسله إليهم من بشريات تحققت لهم ورأوها رأي العين , ................................. يحكي فيقول :
(1) - كانوا يأتون لنا في السجن الحربي ببعض العلماء لعمل غسيل مخ للإخوان كما يظنون , وكان من هؤلاء العلماء الكبار :
الشيخ عبدالرحمن بيصار وكيل الأزهر وقتها ,
والشيخ عبداللطيف السبكي إمام المذهب الحنبلي وعضو هيئة كبار العلماء ,
والشيخ محمد بن فتح الله بدران أستاذ الحديث بكلية أصول الدين ,
والدكتور أحمد شلبي أستاذ التاريخ بكلية دار العلوم ,
وبعد أكثر من ثلاثة أشهر من المحاضرات المستمرة , والتي تعاقب عليها هذه الصفوة من العلماء , قرروا عمل يوم للإمتحان ,
ولك أن تختار :
- إما أن تنحاز إلي النظام ومنحه التأييد والمباركة وتقديسه كذلك ...
- وإما أن تنحاز إلي الله عز وجل وإلي دينه ودعوته ....
والوعيد بأن من ينحاز إلي دعوته سيبقي في السجن أبد الآبدين ولن يخرج منه أبدا ... وأن من ينحاز إلي النظام سيفرج عنه فورا .... وكانت علينا لحظات عصيبة ,
وبينما نحن في طابور الطعام ( وهو طابور طويل نخرج إليه بالخطوة السريعة , وإذا وقفنا فيكون الأمر : محلك سر بالخطوة السريعة أيضا .. فلا راحة لنا أبدا حتي في هذا الطابور ) ,
وكل منا يمسك بالأروانة ليأخذ فيها ما يسمي باليمك , وهي أكلة لا تعرف ماهيتها إلي الآن .
( فالأمم العظيمة لا تهنأ بالراحة التي تصبو إليها وقد يسعد بها غيرها ( وأخو الشقاوة بالجهالة ينعم ) , وذلك لأن مهارة العيش غير معرفة الحياة ) . وكان أمامي بالمصادفة في ذلك الطابور الشيخ عبدالقوي بدر وهو من عمال غزل المحلة , وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب , ومع ذلك كان يحفظنا القرآن ويعلمنا التجويد مع أميته هذه ,
وفي هذا الطابور العصيب والأذهان كلها مشغولة بالإمتحان , فهو بعد أيام قليلة ( وفيه المفاصلة والإنحياز , إما إلي النظام فيكون الإفراج والخروج , وإما إلي الدعوة وما بعدها من عذابات النتائج ) ,
في هذا الجو المشحون إذا بالشيخ عبدالقوي بدر مشغول بقراءة ورده اليومي من القرآن الكريم (وهو عامل بسيط ترك خلفه أسرة تتضور جوعا ,
وكانوا يقولون لهم :
إن زوجاتكم تبيع فجلا علي قارعة الطريق , فلا أحد يصرف عليهن , ولا يجدن طعاما ... نوع من الإيذاء النفسي لهؤلاء البسطاء ) , وهو مع ذلك منشغل بورده ,
وإذا بي أسمعه يقرأ في أواخر سورة الزخرف قوله تعالي :
- (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) . أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)) – الزخرف -
فلا أنسي وقعها علي نفسي في تلك اللحظات العصيبة , وكأنها رسالة من السماء تأتيك لتربط علي قلبك , وتهدئ من روعك , وتطمئن نفسك بألا تخف , فالأمر بيد الله التي تعمل , ولكنها تعمل بطريقتها الخاصة (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) – الأنعام 112-
............................
(2) - ونحن ننطلق إلي المحاضرة الأخيرة والفاصلة , وقد ازدحمت الصفوف علي بوابة السجن الحربي ونحن خارجون إلي مدرج المحاضرات تحت الخوف والفزع والسياط والكلاب , حفاة عراة إلا ما يكاد يستر العورة , حليقي الرءوس ( حوالي 2000أخ ) دخلنا القاعة والشيوخ علي المنصة , وإذا بالأخ ............ يُسَمِّع بعض الآيات من سورة البقرة علي أخيه فوقف عند آية ونسيها ,
فذكره أخوه بها وقال له :
(قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) – البقرة 136- فكانت رسالة أخري من السماء , يعني تذهبوا وتقولوا : آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا.......
يعني تلزموا دعوتكم وما أكرمكم الله به , وما زلت أذكرها كأنها الساعة . وكان ذلك يوم 3 يونيو 1967 , وحددوا يوم 5 يونيو للإمتحان مع الشيخ محمد بن فتح الله بدران ( وما زلنا في انتظاره إلي اليوم ) , و عادت القافلة تنتظر صبيحة يوم 5 يونيو , ننتظر أن يفتحوا لنا البوابات للخروج للإمتحان , فلم يفتحوا , وبعد ذلك سمعنا طلقات النيران والرصاص والهلع والفزع (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) – الأنعام 112- .
وكانت النكسة والهزيمة النكراء , ولم تمر أيام قلائل يوم 9 , 10 يونيو حتي كان الجميع معنا في نفس السجن والزنازين , بداية من شمس بدران وحمزة البسيوني وغيرهم من المجموعة التي كانت تتوعدنا وتتهددنا وتعذبنا وتشتمنا وتلعننا ,
.........................
فهي رسائل قرآنية من السماء لا يدركها ولا يستشعرها إلا الذين يعانون , فالقرآن الكريم لا يستطيع أن يدركه ( بمعني ما فيه من الدلالات والإيحاءات وليس الألفاظ والتراكيب ) من يعش خالي البال من مكابدة الجهد من أجل استئناف حياة حقيقية في ظلاله ,
أما من يعاني فتصبح للآيات عنده درس وإيقاع في النفس لا ينساها أبدا , لأنه سمعها وهو يكابد الجهد من أجل استئناف حياة حقيقية في ظلاله , والقرآن لا يكشف كنوزه , ولا يمنح أسراره , ولا يشيع عطره إلا في تلك الأجواء , وحينئذ يكون هدي ونورا .
..........................
حكمة :
الآلام العظيمة هي التي تصنع الأمم العظيمة , والعظمة من المزايا الإنسانية , والمزايا الإنسانية هي واجبات وأعباء , وليست متعا وأزياء , من قام بالنهوض بها وضعت في وجهه العراقيل , ولاقي العنت , وواجه صنوف الأذي .