دروس للدعاة
محتويات
بيعة الصحابة للنبي صلي الله عليه وسلم
كانت بيعة الصحابة للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم هي الأساس في تشكيل هوية المؤمن؛ عضواً منتمياً لجماعة المؤمنين،عاملاً لنصرة النبي ودعوته،مجاهداً لتبليغ رسالته من خلال الجماعة التي ينتمي إليها.
وكانت البيعة على أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله،وأن ينصر دين الله،ويصبر ويصابر في مواجهة الفتن التي يتعرَّض لها المؤمنون في أنفسهم وأموالهم؛ليزيده ذلك ولاء لله ورسوله وجماعة المؤمنين.
وقد ذكر القرآنُ الكريم سنةَ الله في امتحان أهل الإيمان بقوله: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ.وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2-3].
وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يأتونه ما بين مشجوج ومفقوءة عينه ومعتدى عليه بالضرب والإيذاء،ويشكون إليه ويسألونه الدعاء؛ فيبين لهم سنة الله في أهل الإيمان من أصحاب الأنبياء السابقين، وأنهم كانوا تُحفَر لهم الأخاديد فيُحرقون بها: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ.النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ.إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ .وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ.وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاّ أَنْ يُؤْمِنُوا بالله الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 4-8].
وكانوا يُنشَرون بالمناشير، ويُقَطَّعون، ويُحرقون.. وما يثنيهم ذلك عن دينهم.
فعرفوا سنة الله أن الإسلام لا ينتصر إلا بالرجال وبالمؤمنين الخلص الذين يصدقون الله في مواجهة الباطل؛لا يضعفون،ولا يذلُّون،ولا يبدِّلون.
البيعة وفتنة الرتب والرواتب وإغراءات السلطة
نبَّهت سورة النحل المؤمنين للوفاء بعهد الله في مواجهة أهل الباطل الذين يفتنون الناس بمظاهر قوتهم المادية،وما أوتوا من أسباب السلطان المادي وضخامة هذا السلطان بالمقارنة مع ضعف إمكانات أهل الإيمان وحاجتهم وفقرهم،وهذا ما صوره القرآن الكريم بقوله: {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} [النحل:92].
ولنقف مع الآيات ودلالتها في الوفاء بالعهد والبيعة في قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ.وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ.وَلَوْ شَاءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ الله وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ الله ثَمَنًا قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ الله هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ الله بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 91-97].
وقفات عند هذه الآيات
- {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم} عهد الله: هي البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} [الفتح:10].
- {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها}: تحذير للمسلمين أن ينقضوا عهد البيعة بعد توكيدها وتوثيقها باسم الله وقد جعلوا الله كفيلا وشاهداً ورقيباً عليهم؛لأن الكفيل مراع لحال المكفول به مهيمن عليه.
- {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً}: توجيه للمحافظة على مكاسب الدعوة وإنجازاتها،وتحذير لأهل الدعوة والبيعة أن تشتريهم قوة الباطل وإغراء أهله،فينقضوا بيعتهم،ويهدموا ما بنوه،ويضعوا تاريخهم في الدعوة بمنصب أو رتبة أو لكسب مادي،وبدل أن يكونوا قدوة حسنة لإخوانهم -في الصبر والثبات والطاعة والوفاء لبيعتهم ودعوتهم- يكونون قدوة سيئة،أشبه بهذه المرأة الخرقاء التي كانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر،ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن أنكاثاً: أي أنقاضاً مَحْلُولَةَ الفَتْل.
- {تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة}: فيذكرهم بأيمانهم التي وثَّقوا بها بيعتهم،وكيف جعلوها {دخلاً} أي مفسدة لا يراعونها،ويضعفون الصف والجماعة بفساد قلوبهم وحرصهم على الدنيا ونقضهم لبيعتهم.
- {أن تكون أمة هي أربى من أمة}: وتوجه الآية الكريمة للسبب الذي ضعفوا به،وهو أنهم فتنوا بضخامة الباطل وما يملكه من أسباب الإغراء،ومنها: الوزارة،والمنصب،والامتيازات،والتقاعد،وغيرها مما يُشترى به أصحاب النفوس الضعيفة.وهذا ما أجمله القرآن بقوله: {أن تكون أمة هي أربى من أمة} أي بسبب أن تكون جماعة الكافرين والظالمين هي أزيد عدداً وأوفر مالاً من جماعة المؤمنين،فيسعون لهذا المال يجمعونه،ولهذا السلطان يحتمون به ويطلبون مكاسبه وهباته وامتيازاته في التجارة والنيابة، ومؤسسات الدولة وسلطاتها.
- {إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون}:أي إنما يختبركم ربكم بما يملك أهل الباطل من إغراءات المال والقوة والسلطة.قال العلماء:إنما يختبركم بكونهم أربى لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وما عقدتم على أنفسكم ووكدتم من أيمان البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم،أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم وقوتهم، وقلة المؤمنين،وفقرهم وضعفهم،{وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون}: ينذرهم ربهم ويحذرهم من مخالفة ملة الإسلام بنقض بيعتهم وإيثارهم الدنيا على الآخرة.
- {ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتهم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم}: في هذه الآية كرر النهي عن اتخاذ الأيمان دخلاً بينهم،ليُذكِّر الدعاة بالبيعة والأيمان التي أقسموها،تأكيداً عليهم،وإظهاراً لعظيم ما يرتكب هؤلاء المفارقون للجماعة طمعاً في الدنيا أوخوفاً على دنياهم.{فتزل قدم بعد ثبوتها} أي فتزل أقدامكم عن محجة الإسلام بعد ثبوتها عليها.{وتذوقوا السوء} في الدنيا بصدودكم عن سبيل الله وخروجكم من الدين،أو بصدكم غيركم؛لأنهم لو نقضوا أيمان البيعة وارتدوا، لاتخذوا نقضها سنة لغيرهم يستنُّون بها،وهؤلاء الناقضون للبيعة المفارقون للجماعة ينتظرهم العذاب العظيم في الآخرة.
- {ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}: وهذا توجيه آخر للدعاة:ألا يغتروا بأعراض الدنيا ومكاسبها التي يغريهم بها أهل الباطل والله يبين لهم {ما عندكم} من أعراض الدنيا ينفد {وما عند الله} من خزائن رحمته {باق} لا ينفد {ولنجزين الذين صبروا} على أذى المشركين ومشاق الإسلام وإغراءات أهل الباطل ووسائلهم بالترغيب والترهيب {أحسن ما كانوا يعملون} يضاعف لهم الجزاء ويعطيهم ثواب أعمالهم بأحسنها وأكثرها ثواباً يوم القيامة.
ثم بين هذا الثواب بقوله: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}.
وفي هذه الآية نجد عظيم الثواب حين نقارن بين حياة المؤمن المحافظ على بيعته ودعوته الذي يعيش في ظلال الحياة الطيبة التي تصاحب العمل الدعوي مع إخوانه في مواجهتهم لأهل الباطل وتناصرهم في الله وما أكرمهم الله به في صلاتهم وقيامهم وعبادتهم وصدقاتهم وتزاورهم وتراحمهم وبذلهم وعطائهم وحسن تربيتهم وإعدادهم لإخوانهم.
هذه الحياة الطيبة التي عاشها النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه رضوان الله عليهم،وعاشها التابعون بإحسان، وعاشها الإمام حسن البنا وعبدالقادر عودة وسيد قطب وإخوانهم، وعاشها أحمد ياسين وإخوانه وهم يواجهون الطواغيت ويستعلون على دنياهم التي انتفخوا بها، واستكبروا بسلطانها {فأتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة} ذلك أن المؤمن مع العمل الصالح موسراً كان أو معسراً يعيش عيشاً طيباً، إن كان موسراً فحياته طيبة بشكره لربه،وإن كان معسراً فمعه ما يطيب عيشه وهو القناعة،والرضا بقسمة الله،والمشاركة في العمل الدعوي المتصل بالعمل لإقامة دولة الإسلام،وإحباط عمل العدو وكيده الذي يسعى لتهويد الأرض والمقدسات،وتغريب المجتمع الإسلامي،وهدم مؤسساته الدعوية،وتفريغها من العلماء الدعاة،ونشر الفساد السياسي والأخلاقي والمالي بين المسلمين.
فالعمل الدعوي المجاهد المقاوم لمخططات أعداء الإسلام هوالحياة الطيبة التي أكرم الله بها أهل الدعوة والبيعة،فهم المرابطون على ثغور الإسلام المجاهدون والمقاومون،العارفون ببركة البيعة وأثرها المبارك في إعطاء (التنظيم) قوته وحركته وتجدده وحياته،فحياتهم الطيبة من حياة الدعوة وقوتها وانتصاراتها ومقاومتها.. وليستشعر الدعاة أن حياتهم الطيبة بالدعوة والعمل لها، وأن حياة الدعوة وقوتها وتجددها بقدر ما يبذلون ويقدمون.
قال ابن عباس:الحياة الطيبة:الرزق الحلال،وعن الحسن:القناعة،وعن قتادة:يعني في الجنة.
وقيل: هي حلاوة الطاعة والتوفيق في قلبه.
نسأل الله أن يكرمنا بالثبات على دينه والوفاء بالبيعة حتى نلقاه وهو راض عنا.
المصدر
- مقال:دروس للدعاة موقع الفرقان