خفقة قلب محب للجماعة

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
خفقة قلب محب للجماعة


لا تخرقوا سفينة الدعوة

تقديم

هذه الخواطر كتبت في فترة سابقة شهدت هجمة على الدعوة، رأينا أن من الفائدة إعادة نشرها في هذه الفترة المشابهة، وتقبل الله من كاتبها ، ونفعنا الله جميعا بما جاء فيها ...

يقول الحبيب- صلى الله عليه وسلم-: "مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على مَن فوقهم، فقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقًا، ولم نؤذِ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعًا"..

نتذكرُ هذه المقولةَ وهذا الحديث وعشتُ في ظلال معانيه التربوية والدعوية، وأنا أتابع ما يدور هذه الأيام عبر الإنترنت وعالم التواصل الاجتماعي، وما يتناقل هنا وهناك غمزًا ولمزًا في دعوتنا وقيادتنا وسفينتنا التي تحملنا جميعًا

سفينتنا

يركب على ظهرها الشيخ الوقور بحكمته والشاب المتوقد بحماسته، والأخ السابق بفضله واللاحق بهمته، والقيادة الراشدة والجنود المخلصون، والرجل والمرأة، والأشبال والزهرات، والنشيط والكسلان، والحامل لدعوته والمحمول على أكتافها، والمتيقظ والغفلان، والمؤمن بها والنفعي منها، والمتردد فيها والمتحامل عليها من داخلها، تحملهم جميعًا لوجهة واحدة، وهي سفينة محكومة من ناحية بالموج المضطرب والرياح العواصف والمتمثلة في الابتلاءات والفتن والشبهات المثارة والشهوات المعروضة،

ومحكومة من ناحية أخرى بإدارة الربان وما تُتخذ من قرارات من قبل قادتها الأفاضل، وعليه فهي تتأثر بكل حركة تقع فيها وحولها، فتهتز مرة ذات اليمين وتهتز مرة ذات الشمال، وقد تستقيم على الجادة أحيانًا أو تغيب مؤقتًا أحيانًا أخرى، ولن يكتب لها السلامة والاستواء فوق الموج المضطرب حتى يكون كل شخص فيها على حذر مما يفعل، ويقظة لما يريد،

وأن نعلم جميعًا أن لنا أعداء خارج سفينتنا يتربصون بنا الدوائر، ويسعون جادين لتخريبها وإفسادها، وأسهل وسيلة لتحقيق هدفهم أن يجدوا منا- ركاب السفينة- من يخرق فيها خرقًا يتسرب منه الماء إلى داخلها، فيكون سببًا في إغراقها وإهلاك ركابها.

ولو تذكَّر كل أخٍ بهذه الدعوة أنَّ كل حركةٍ يأتيها تتأثر بها سفينة دعوته سلبًا أم إيجابًا، فتهتز وتترنح أو تثبت وتقوى، لو تذكَّر ذلك لما ترك نفسه تغوص فيما قد يخرق سفينة الدعوة،

لو عايش دعوته لانتبه لنواقض العمل الجماعي "شح مطاع، هوى متبع، دنيا مؤثرة، إعجاب كل ذي رأي برأيه" وتخلص منها، ولعمل حسابًا لكل خطوةٍ يخطوها وكل حركةٍ يتحركها؛ حرصًا على نجاته هو ونجاة كل مَن معه على الطريق ونجاة سفينة دعوته.

وضوح الرؤية

إن الهدفَ العظيمَ الذي نسعى إليه جميعًا، لا بد له من منطلقاتٍ نجتمع عليها نحن ركاب السفينة، قادة وجنودا، شبابًا وشيوخًا، ومن أهم هذه المنطلقات التي يجب أن تكون واضحة:

1- اجتماعنا من أجل تحقيق غاية واحدة "الله غايتنا"، ومن أجل تحقيق هدف واحد "أستاذية العالم"، وكلما كانت الغاية واضحةً وخالصةً من كلِّ شائبة، وكلما كانت أهدافنا واضحةً ومحددةً، كان مدار النجاح والفلاح في طريقنا ومنهجنا.

2- ركوبنا سفينة الدعوة يستوجب منا الالتزام بشروط وعهود والتزامات السفينة التي لا بد منها لضمان سيرها وتضافر الجهود في الاتجاه الصحيح، وقد حدد لنا إمامنا الشهيد الأركان الأساسية التي يجب أن يلتزم بها كل مَن سلك سبيل الدعوة وركب سفينتها.

3- دوافعنا للعمل والحركة هي التعاون على البر والتقوى، لا الأهواء أو الاستجابة لوساوس الشيطان أو الحرص على الزعامات، وأن الارتباط في سفينة الدعوة بالمبادئ لا بالأشخاص، فلا تمحور في دعوتنا حول أشخاصٍ مهما كانوا.

4- الشورى ركيزة العمل التي تستقيم بها سفينة الدعوة ومَن عليها، ولا تنازل عنها أبدًا، وأن مجريات الأمور كلها في هذه السفينة تسير وفق المبدأ القرآني ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ (الشورى: من الآية 38).

5- الحرية التي يستوي فيها الراعي والرعية والحاكم والمحكوم، والقائد والجندي، فلا يملك أحد أن يحد من حرية الفرد والأسرة والجماعة أو يوقفها، إلا تعدي صاحبها الحد المشروع وإلحاق الضرر بنفسه أو بغيره من عباد الله، فما دامت تصرفات المسلم محاطة بسياج شرع الله، غير معتدٍ بها صاحبُها على حقوق الله وحقوق عباده، فلا يجوز لأحد سلب حرية آخر.

6- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبذل النصيحة، هو القاعدة العظيمة التي تحفظ لسفينة الدعوة ضرورات حياتها ومكملاتها، وتحفظ ثباتها على المبادئ، وتمنع انحرافها عن الجادة.

بداية الخرق

حكمة جليلة قالها الفاروق عمر: "تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام مَن لم يعرف الجاهلية"؛ ولذلك فحين ينفلت الإخوة بلا ضابط، فلا تحكمهم ضوابط السفينة، ولا يحكمهم المربون في الدعوة،

وحين تصبح مهمة التوجيه مفقودة، وتأخذ الموجة مداها، وتصبح الأمور كلها بالصوت العالي، وقد تغري النصيحة البعض، فيلغون في دماءِ أصحابِ الفضل والسبق والقيادة والريادة، حينذاك تتحقق السنة الماضية، وتصبح السفينة مليئةً بالخروق، ومعرضةً للغرق؛ ولذلك فقد لا تقوى معاول الأعداء مجتمعة أن تنال من الحركة ما بقيت محصنة من داخلها، في الوقت الذي قد تجهز عليها فتنة داخلية فتجعلها هباء منثورًا؛ وذلك ناتج عن ضعف التقوى والورع في النفوس، والذي هو مدخل شيطاني إلى الترخص واستصغار الذنوب والتساهل مع النفس مما يؤدى إلى ارتكاب الموبقات والكبائر تحت شعارات ومبررات براقة كلها في الحقيقة من تلبيس إبليس، وهذا ما أشار إليه الصحابي الجليل حين قال: "إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات"،

ومن هنا فإن احتراف النقد وامتهان الغيبة والنميمة وتتبع العورات وتطاول الألسن على القيادة والجماعة، وشيوع ذلك وانتشاره بين الصف واستساغته بحجة تصحيح الأوضاع وبنيِّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل ذلك يعد من أكبر وسائل خرق السفينة ، ويعد أيضًا من عوامل الفتن التي تشق الصف وتنقض الغزل وتأتى على بنيان الجماعة. وقديمًا قالها عبد الله بن سبأ حينما كتب إلى أعوانه قائلاً: "انهضوا في هذا الأمر، فحركوه وابدءوا بالطعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس وادعوهم إلى هذا الأمر"،

فهو داء عضال ابتُليت به الأمةُ الإسلاميةُ على امتدادِ تاريخها، وكان من نتيجته في كل حين، إحباط النفوس وتصدع الصفوف وفقدان الثقة وانكشاف الضعف أمام العدو، وهكذا كانت بداية الفتنة في تاريخ الإسلام، الطعن على الأمراء وإظهار ذلك في ثوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا ما يجب التعامل معه بحذر، وهذا فقه مَن أدرك مداخل الفتنة وأبواب الشيطان.

مظاهر الخرق

تتعدد الصور التي يمكن أن تُسهم في خرقِ السفينة سواء قصد الفاعل ذلك أم لم يقصد، ومن هذه المظاهر وتلك الصور:

- مَن يخالف قرارًا صدر من دعوته بعد مشورةٍ تنظيمية، ويُجاهر بخلافه في وسائل الإعلام، فقد خرق سفينة الدعوة.

- مَن سمحت له نفسه أن يتطاول على أساتذته في الدعوة دون مراعاة وداد لحظة سابقة، فقد خرق سفينة الدعوة.

- مَن يتجاوز كل القنوات الشرعية والتنظيمية للنصيحة وإبداء الرأي ويعرضها على الملأ، فقد خرق سفينة الدعوة.

- مَن لم تجد إلا عالم الانترنت لتكتب رسالتها إلى والدها المرشد، وتركت كل قنواتها الشرعية والتنظيمية، فقد خرقت سفينة الدعوة.

- مَن لا يجد إلا رسائل الطعن في جماعته عبر المدونات فينقلها إلى الصحافة بدون وعي، فقد خرق سفينة الدعوة.

- مَن لم تجد إلا عالم التواصل الاجتماعي لتنفس عمَّا في نفسها تجاه دعوتها، فقد خرقت سفينة الدعوة.

- مَن يستجب لشبهات الآخرين ضد قادة دعوته ويجاريهم في أطروحاتهم دون تبين وجه الحق، فقد خرق سفينة الدعوة

- مَن حرَّكته دوافعه الشخصية لا همومه الدعوية وانتقص من دعوته وقيادته، فقد خرق سفينة الدعوة.

- مَن شغلته رغباته الذاتية عن أهداف سفينته الدعوية، فقد خرق سفينة الدعوة.

- مَن عبَّر عن رأيه بصورةٍ جارحةٍ وبغير التزامٍ بأدب النصيحة وفي كل باب مفتوح له، فقد خرق سفينة الدعوة.

- مَن احتضن تجمعًا عامًّا عبر قنوات غير تنظيمية لفرض رأي مغاير لسياسة دعوته وقادته، فقد خرق سفينة الدعوة.

- مَن تناجَى دون قيادته وأحدث في دعوته جيوبًا هنا وهناك، فقد خرق سفينة الدعوة.

- مَن طعن في آليةِ اتخاذ القرار في دعوته، وطعن في قياداته وشكك في مصداقيتها، متهمًا إياها بالقعود والتخاذل، واصفًا إياها بالترددِ في سياساتها، أو أنها صاحبة صفقات رخيصة، فقد خرق سفينة الدعوة.

وفاعلو هذا الخرق- عن قصدٍ أو غير قصد- لا يتقون الله في أعراضِ إخوانهم وقيادتهم ودعوتهم، فقد خاضوا بلا تحفظٍ في التعبير أو أدبٍ في الخلاف أو موضوعية في النقد أو تخيرٍ للأطر التنظيمية التي يجب أن تطرح فيها آراؤهم،

وقد تناسى هؤلاء الأوامر الإلهية ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ (البقرة: من الآية 83)، و﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا﴾ (الأحزاب: من الآية 70)،

وقول الحبيب- صلى الله عليه وسلم- وتحذيره "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ به ما بلغت فيكتب الله بها سخطه إلى يوم القيامة" ونسوا أيضًا الحكمة القائلة "ليس كل ما يُعرف يقال، وليس كل ما يُقال جاء وقته، وليس كل ما جاء وقته حضر رجاله".

وفيكم سماعون لهم

قد يُصيب الله الدعوةَ بأن يُوجد بين أفرادها الصائد في الماء العكر، ومَن يتصيد الأخطاء والعثرات والزلات والسقطات- إن وُجدت- في أقوالِ وأفعالِ قادة الدعوة، وخطورة هذا الصنف ليس في أشخاصهم المريضة ولكن في أثرهم على أصحابِ النيات الحسنة في الصفِّ كما قال تعالى: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)﴾ (التوبة).

وعن هؤلاء حدثنا الإمام البنا فقال: "وإن كان فيكم مريض القلب معلول الغاية مستور المطامع مجروح الماضي، فأخرجوه من بينكم فإنه حاجزٌ للرحمةِ حائل دون التوفيق".

ريادة لا قداسة

سفينة الدعوة محفوظة بحفظ الله لها، ومن هذا الحفظ يقيض الله لها مَن يقودها إلى بر الأمان، وهي قيادة تتمتع بالريادة لا القداسة، فلا نرى في دعوتنا أن القيادة ومَن تولوا أمرنا أشخاصٌ لهم قداسة أو لهم عصمة من الوقوع في الخطأ، أو أنهم فوق مستوى المساءلة أو المحاسبة أو تقديم النصح،

ولا يوجد في دعوتنا حملة المباخر ممن يضفون مسحةً من القداسة على قياداتهم،

ولا يوجد من رجالات دعوتنا وقادتنا من يستطيع احتكار الصواب، فقد قالها المؤسس رحمه الله: "وكل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم"، ولا أحد من قادة سفينتنا يحرص على أن يكون الاستسلام التام هو سمت الأتباع،

ولم تطلب قيادتنا أن تكون الإمعية والتقليد السلبي للآخرين، والنفسيات القطيعية التي تكثر من المدح والتملق للقيادة هي الروح السائدة بيننا،

ولم تطلب قيادتنا منا الولاء العاطفي الساذج، ولكنه الواجب الشرعي الذي يلزمنا بالتمحور حول قيادة تضبط سلوكيات الأفراد،

وتلك هي قاعدة أبي حنيفة حينما قيل له في مسجد كذا حلقة يتناظرون في الفقه، فقال: ألهمْ رأس؟

فقالوا: لا،

فقال: لا يفقهونَ أبدًا".

إذًا فإن الاحتكام إلى مرجعٍ مُرجِّح، والاستنجاد بمنْ يفهم موازين الشرع وفقه الواقع وبواطن الأمور، فريضة شرعية وضرورة بشرية تسير بها أمور الدعوة وتقضي بها مصالح الناس، ولله در القائل واصفًا نجاح قومه، فقال "نحنُ ألفٌ، وفينا واحدٌ حازم، ونحنُ نشاورهُ ونطيعهُ، فصرنا ألفَ حازم"..

تلك هي قيادة الدعوة، سمو في قناعة، وإقدام في وعي، واقتحام في ريث، كأنها تملك ما هنالك وبيدهاِ زمام الأمور كلها.

ولذلك فإن السفينةَ لا يمكن أن تُوحِّد قلوب أصحابها عواطف وأقوال هامشية، بقدر ما تتوحد على قلبِ رجلٍ واحد، تسمع له وتطيع، فيتحقق وصف الحبيب "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم"،

وهذا لا يمنع من أن نتحلى مع قيادتنا بما صرَّح به الإمام أحمد "لا نزالُ بخيرٍ ما كان في الناس مَن يُنكر علينا"،

تلك هي قيادة السفينة كما نفهم ونعتقد ونتصور.

علمتنا الدعوة

علمتنا الدعوة إن كان لقيادتنا علينا حق السمع والطاعة، فإنَّ لنا عليهم حق النصح والوعظ والإرشاد وحق المشورة، ولكن بآدابِ النصيحة التي تربينا عليها،

فقد علمتنا الدعوة أن النصيحة ومراجعة القيادة مما يقوي الجماعة ولا يضعفها، ويمدها بطاقاتٍ من الحيوية والتجدد تزيد في فعاليتها, وينفي عنها الخبث والعجز وكل ما يمثل عبئًا وثقلاً وقيدًا عن التطور والعطاء،

وعلمتنا الدعوة بأن نؤدي النصيحة على أكمل وجه وأن نقبلها على أي وجه،

وعلمتنا الدعوة أن مَن وعظ أخاه سرًّا فقد نصحه وزانه، ومن وعظ أخاه علانيةً فقد فضحه وشانه، كما قال الشافعي- رحمه الله-،

وعلمتنا الدعوة أن تكون النصيحةَ في المجالس المغلقة حتى لا تُسوق وتتحول إلى فتنةٍ قاتلة، وخاصةً حينما يستغل المغرضون أصحاب النوايا الحسنة منا في طعن جماعتهم، فالنصيحة الخاطئة لا يصح معها ادعاء الإصلاح ولا تبررها النية الحسنة، ولله در القائل: "إذا طلبت الأجمل فاستر ولا تُخبر وتخلَّق بخلقِ الكرام"،

وعلمتنا الدعوة أن ذكر مساوئ الرجل على الملأ عونًا على دمه، كما قال أبو معبد رحمه الله،

وعلمتنا الدعوة أن الطعن في أصحاب الفضل والسبق من أكبر أبواب الفتنة،

وعلمتنا الدعوة أن من شروط النصيحة أن يُقصد بالنصيحة وجه الله تعالى، وأن تكون برفق ولين، وأن لا يُقصد بها التشهير، وأن تكون سرًّا، وأن يختار لها الوقت المناسب، وألا تكون على سبيل الإلزام،

وعلمتنا الدعوة أننا تحكمنا قيم أصيلة في دعوتنا، مثل الحب في الله، وحسن الظن، والشورى، وتوقير الكبير، والرحمة بالصغير، ومعرفة حق القائد والعالم والسابق، وتقدير اللاحق، وحفظ سلامة الصدور، وأن نجتمع على الصواب خير من أن نتفرق على الأصوب، والدفع بالتي هي أحسن، وغيرها،

وعلمتنا الدعوة حرية إبداء الرأي، والإدلاء بالدلو، والاستفهام في كثير من المواقف، والاعتراض والرفض في بعضها في سياج من الأدب وحسن الخلق، دون تسفيه أو تعدٍّ، وبذل الجهد في إقناع القيادة برأينا، وحشد الدلائل على ذلك، وهذا بالطبع يحتاج هذا إلى جهدٍ جهيد، وصبر جميل، واستحضار للنيات الصالحة، والتخلص من حظ النفس، والاستعانة بالدعاء، واحتساب الأجر عند الله عز وجل، وعدم نسيان القواعد المرعية والآداب الشرعية التي تحكم كل ذلك،

وعلمتنا الدعوة أنه لا مجالَ بيننا للصائد في الماء العكر.

يقول ابن عباس- رضي الله عنه-: "لا تكَلَّمن فيما لا يعنيك حتى تجد له موضعًا، ولا تُمار سفيهًا ولا حليمًا فإنَّ الحليمَ يغلبك، والسفيه يزدريك"،

ويقول ابن مسعود- رضي الله عنه- يقول: "إنَّ للقلوب شهوةً وإقبالاً، وفترةً وإدبارًا، فخذوها عند شهوتها وإقبالها، وذروها

عند فترتها وإدبارها"،

ويقول سفيان الثوري رحمه الله: "إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه"،

ويقول الإمام أحمد رضي الله عنه: "لا إنكارَ على مَن اجتهد فيما يسوغ فيه خلاف في الفروع"،

ويقول الإمام السبكي: "الصواب عندنا أن مَن تثبت إمامته وعدالته، وكثُر مادحوه ومزكوه، وندر جارحوه، وكانت هناك قرينة دالة على سببِ جرحه، من تعصبٍ مذهبي أو غيره، فإنا لا نلتفت إلى الجرحِ فيه، ونعمل فيه بالعدالة، وإلا لو فتحنا هذا الباب أو أخذنا تقديم الجرح على إطلاقه، لما سلم لنا أحد من الأئمة".

يقول الإمام ابن تيمية: "فإن الأمرَ والنهي وإن كان متضمنًا لتحصيل مصلحة، ودفع مفسدة، فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح، أو يحصل من المفاسد أكثر، لم يكن مأمورًا به، بل يكون محرمًا إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد، هو بميزان الشريعة".

قواعد حاكمة

وتبقى سفينة الدعوة وهي في مدلهمات الحياة، بحاجة إلى قواعد تحكم سيرها وسط العواصف والأعاصير، وهي قواعد شرعية وحركية يجب أن يتلزم بها الجميع حتى تمضي القافلة نحو غايتها غير عابئة بما يردده المغرضون والعابثون:

1- التبين والتثبت من أي كلامٍ نسمعه ونستقبله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)﴾ (الحجرات)، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يتثبت فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب"، والتزام هذه القاعدة يجنبنا (حدوث الظن الذي لا يغني من الحق شيئًا، وظلم الآخرين، وتصديق الإشاعة، وانتشار الشبهة وتعاظمها، والتشكيك في سلامة التوجه، واختيار الطريق، والتشكيك في سلامة المنهج والتلقي، والتشكيك في سلامة الممارسة الدعوية من قبل القيادة، وعدم الثقة فيها).

2- الخطأ من سنة البشر، فلا عصمةَ لأحد غير رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، يقول الخطيب البغدادي عن سعيد بن المسيب "ليس من شريف ولا عالم ولا ذي جاه غير الأنبياء إلا وفيه عيب، إلا أن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، فمتى كان فضله أكبر من نقصه وُهِبَ نقصه لفضله"، فالخطأ واقع لا محالةَ من البشر كافة، وهذا الخطأ يتلافى وبخاصة في حق القائد، وقد يثاب القائد إذا اجتهد فأخطأ "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد وأخطأ فله أجر"،

والتزام هذه القاعدة يجنبنا (فقدان التوازن المطلوب بين الخطأ والصواب، فقدان الثقة بين المتعاملين، وعدم احتمال الأخطاء، فقدان القدوة والأسوة في الصف، أخذ الناس بالخطأ دون النظر إلى نياتهم، شيوع المشاجرات والنزاع والجدال، ترك الطريق عند رؤية الأخطاء).

3- سد الذريعة واجب، فدرء المفاسد مقدم على جلب المنافع، ويتمثل ذلك في غض الطرف عن بعض الزلات، والسكوت عن بعض العيوب، والتجاوز عن بعض الهفوات، وعدم تقريرها وتقريعها، فمن فن الدعوة أن نُبقي على الصلات، وأن نتجنب الإساءة فهي خلق لا يليق بالداعية، والامتناع عن الإساءة للأكابر، وينتج عن عدم التعامل بهذه القاعدة، فقدان روح الرحمة والعطف، وهي أساسيات التربية الدعوي، فقدان التقييم الدعوي المتوازن، تحويل المدعو إلى عدو محارب، حمل المدعو على الإساءة للدعوة والدعاة، وتأصيل الحقد لديه.

4- عدم تتبع عورات الناس وبخاصة قادة الدعوة وأصحاب السبق، يقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: "مَن تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه في عقر داره"، ويقول ابن تيمية- رحمه الله- "وليس لأحدٍ أن يتتبع زلات العلماء"، وصاحب الدعوة كالمؤمن ستار للعيوب، لا كالمنافق فضَّاح للعيوب متتبع له، فالتشهير خلق رديء، والانشغال بالدعوة عاصم لصاحبه من هذا التتبع،

والتزام هذه القاعدة يجنبنا (الانشغال بتتبع النقص، عدم الاهتمام بما هو أولى، حمل الألفاظ ما لا تحتمل حتى يظهر العيب، إيغار الصدور وتحول النصح إلى عداوة، تبادل وتراشق العيوب، فقدان تقديم القدوات للناس لحدوث التشويه، وقوع فضيحة المتتبع لا محالة وسقوطه عن أعين المقتدين به، مخالفته الشرعية أثرها عكسي عليه).

5- إسداء النصيحة والتوجيه والنقد يجب أن يكون وفق الأساليب الشرعية، وقدر الطاقة، فلا يحمل الناس على ما لا يقدرون عليه، ولا يقصد به التوبيخ، ولا يُراد به الانتقام لنفسه، وأن يكون ذلك وفق قواعد الأدب التربوي في الحوار والنقد، من أدب الخطاب والتكلم، وأدب الاستماع والإنصات،

وأن يكون النقد من الأكفاء له، مع وجود القدرة وتوفر المعلومة شرط لنجاح النقد، وتوفر فرصة قبول النقد والنظر فيه، وأن تكون النصيحة في أوساطها، وبين العقول التي تقدرها، والهدف منها الإصلاح، وتحسين الأداء، وأن تكون في قنواتها وطرائقها، وخاصةً نقد العلماء والمسئولين؛ لأنهم يمثلون القدوة،

وأن يتوخى الناصح والناقد أجمل العبارات، وأسهل العبارات وأرق الكلمات، والتزام هذه القاعدة يجنبنا (تحكيم الأذواق والعادات ونسيان الميزان الشرعي، استعجال الثمرة، والتكليف بما لا يُطاق، عدم مراعاة النفوس، وأسر القلوب، والسيطرة على العقول، حدوث ردة الفعل المعاكسة بسبب القول غير الحسن، انتشار الغوغائية والفوضى والصراخ والجدال المنهي عنه، عـدم الرجوع إلى قواعد الاستدلال بالقرآن والسنة، إشاعة الأعراض، وانتشار النقد وممارسته ممن لا يجيده أو يقدره).

6- شكر الله على نعمة معرفة الطريق مثل نعمة الهداية للإسلام، و قال ابن تيمية رحمه الله "على المتعلم أن يعرف حرمة أستاذه، ويشكر إحسانه إليه، فإنَّ مَن لا يشكر الناسَ لا يشكر الله، ولا يجحد حقَّه، ولا ينكر معروفه"،

ويتحقق ذلك بوجود الإدراكِ الكامل للأهداف والوسائل، بعدم المغالاة وتحميل الألفاظ أو المواقف ما لا تحتمل، وعدم تبني الفقه الأعوج، وبوجود العدل والإنصاف وعدم بخس الناس أشياءهم،

والتزام هذه القاعدة يجنبنا (الانشغال عن العمل بتصيد الأخطاء، البحث عن المشاغبين والضعفاء، وتشكيل شللية منهم والأنس إليهم وبهم، عدم جمع قلوب الناس على الدعاة والدعوة، وتفريق المسلمين عنهم، شق الصف بإظهار التذمر، ومحاولة زرعه في الآخرين، عدم تقدير العطاء والبذل والتضحية، ومعرفة حرمة من يستحق الحرمة من الدعاة والعلماء والموجهين، فقدان العدل، وبخس الناس أشياءهم ومواقعهم بدون وجه حق.

وفي الختام إلى الأحباب جميعًا، شركائنا في سفينة الدعوة، في أعلاها أو أسفلها، نقولها بكل صدقٍ وحب، صونوا سفينة دعوتكم باتفاقكم على منهجها الذي يضمن لكم النجاة، والتفافكم حول قيادتكم الراشدة، واعتصامكم بحبل الله المتين، وأخوتكم الصادقة وتقوية الإيمان والعمل الصالح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوقوف صفًّا واحدًا ضد مَن يريد إغراق هذه السفينة، واللجوء إلى الله وطلب العزة منه وحده،

ولا تكونوا عونًا للظالمين على قيادتكم، ولا مطايا للعلمانيين لخرق سفينتكم، ولا أظافر للضالين تنهش لحوم قيادتكم،

ولا عبيدًا للمنافقين، ولا خدمًا لعلماء السوء ضد جماعتكم،

وتذكروا قوله تعالى ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ﴾ (القصص: من الآية 50)

وتذكروا قول الحبيب: "إياكم والفتن فإنَّ وقع اللسان فيها مثل وقع السيف"،

واتركوا- هدانا الله وإياكم- تلك الغفلة السادرة، والخطوات اللاهية، والانصياع الأعمى إلى كل ناعقٍ، فما هو من سبيل المؤمنين، ولا طريق الفالحين، وأقبلوا على الله وعلى دعوته بقلبٍ سليم، والله معكم ولن يتركم أعمالكم.

والله أكبر ولله الحمد