حين يهرول المفاوض الفلسطيني نحو الفخ الأميركي الإسرائيلي
2008-08-31
بقلم : معتصم حمادة
القول بأن تقريراً من الإدارة الأميركية الحالية سيلزم الإدارة القادمة باستئناف المفاوضات من النقطة التي وصلت إليه.. هو قول يدحضه تنصل إدارة بوش من تعهداتها والتزاماتها، وانتهاكات حكومات إسرائيل للاتفاقات الموقع عليها مع الفريق الفلسطيني.
مرة أخرى تأتينا وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس، لتدفع ـ كما تقول ـ بالعملية التفاوضية إلى الأمام، علما أنها التقت منذ أيام، في واشنطن، طرفي العملية التفاوضية، أحمد قريع وتسيبي ليفني.
الزيارة، تأتي بعد أن اعترف رئيس وزراء إسرائيل إيهود أولمرت باستحالة الوصول مع نهاية العام الحالي إلى اتفاق دائم مع الفلسطينيين. وبعد أن أخذ الرئيس بوش يتمنع عن الحديث أو الإشارة إلى «رؤية الدولتين» التي وعدنا بتحقيقها في نهاية العام 2005، ثم أجل ذلك إلى نهاية العام الحالي.
فماذا جاءت رايس تفعل إذن، وأين أصبحت العملية التفاوضية منذ أن استؤنفت في أنابوليس. وماذا حققت حتى الآن. وما هي الاستحقاقات التي تنتظرها، مع رحيل أولمرت وبوش.
إن أول ما يلفت النظر، أنه في الوقت الذي أبرزت فيه وسائل الإعلام العربية تصريحات رايس، تنتقد فها الاستيطان باعتباره لا يوفر مناخا مساعدا للمفاوضات حرصت الصحف الإسرائيلية (27/8/2008) على التأكيد أن هم رايس كان الإطلاع من أولمرت، وليفني، وشاؤول موفاز على الآليات المعتمدة لاختيار خلف لأولمرت. وأوضحت هذه الصحف أن اهتمام رايس، انصب على التأكد من سلاسة انتقال منصب رئيس كاديما، ورئيس الحكومة إلى من سوف يرث أولمرت، ودون خضات قد تعطل العملية التفاوضية. وكان واضحا أن الصحف الإسرائيلية أرادت أن تقول، بشكل أو بآخر، أن هم رايس انصب هذه المرة على رعاية الوضع الإسرائيلي الداخلي أكثر مما انصب على رعاية العملية التفاوضية والدفع بها إلى الأمام.
كذلك نقلت الصحف الإسرائيلية أن مستشار ليفني، تل بيكر، و«نظيره» الفلسطيني صائب عريقات، عرضا على رايس أنهما حققا «تقدما معينا في إيضاح نقاط الخلاف والاتفاق بينهما في مسائل الحدود واللاجئين والأمن» وأنهما اتفقوا على ضرورة مواصلة المفاوضات بغض النظر عن تطور الأوضاع داخل إسرائيل.
وكنا في عدد سابق من هذه المجلة (راجع العدد 1199 (2273) تاريخ 10ـ 16/8/2008) قد كشفنا النقاب عن مشروعين تتداولهما واشنطن مع كل من تل أبيب ورام الله بعد أن اعترفت صراحة أن اتفاق الحل الدائم لن يولد مع نهاية العام الحالي.
- ينص المشروع الأول أن يوقع الطرفان اتفاقات بشأن القضايا التي تم الاتفاق عليها وهي الأمن، والحدود، واللاجئون (في قضية الحدود تندرج مسألة المستوطنات). وتم الكشف لاحقا أن أولمرت طور هذه الفكرة لصالح إسرائيل فدعا إلى توقيع اتفاق «رف» يسجل فيه الطرفان ما توصلا إليه، على أن لا يتم التنفيذ إلا بعد أن «يستعيد الرئيس عباس السيطرة على قطاع غزة»، مع تأكيد حق إسرائيل في توسيع الاستيطان في المستوطنات التي يقر الاتفاق ضمها إلى الدولة العبرية. أي ما هو لصالح الإسرائيليين يتم العمل على تنفيذه فورا. وما هو لصالح الفلسطينيين يؤجل إلى أن ينجح عباس في «استعادة السيطرة على قطاع غزة» (وليس إلى أن تنجح الحالة الفلسطينية في استعادة وحدتها الداخلية) (راجع تفاصيل اتفاق «الرف» في العدد 1200 (2274) تاريخ 17 ـ 23/8/2008 من هذه المجلة).
- وينص المشروع الثاني (في حال لم يتم الاتفاق على المشروع الأول) على كتابة محضر يتولاه الأميركيون، يرصدون فيه ما تم الاتفاق بشأنه بين الطرفين، باعتباره صار منجزا ـ تفاوضيا ـ ولا حاجة للعودة إلى التفاوض بشأنه. كذلك يرصد نقاط الخلاف، المتوجب على الطرفين مواصلة المفاوضات بشأنها. يرفع هذا المحضر ـ التقرير، من إدارة بوش الحالية، إلى الإدارة الأميركية الجديدة، بذريعة ضمان استئنافها رعاية العملية التفاوضية، من النقطة التي وصلت إليها، وليس من نقطة الصفر.
وكما جاء في البلاغ السياسي الصادر عن المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في 16/8/2008 (راجع النص الكامل للبلاغ في العدد 1200 (2247) تاريخ 17 ـ 23/8/2008 من هذه المجلة). فإن المشروع الأول من شأنه أن يعيد العملية التفاوضية إلى مشروع شارون الداعي إلى حل قضايا الحل الدائم على مراحل زمنية متباعدة، لا يتم الانتقال إلى المرحلة الجديدة إلا بعد التأكد من نجاح تطبيق المرحلة السابقة، وفقا لمعايير إسرائيلية. وهو حل أدنى بكثير حتى من حل الدولة الفلسطينية ذات الحدود المؤقتة المرفوضة وطنيا.
أما المشروع الثاني فمن شأنه أن يقيد الجانب الفلسطيني بنتائج جزئية للعملية التفاوضية، هي المتعلقة بالحدود والأمن واللاجئين، والتي قدم فيها المفاوض الفلسطيني، كما بات معروفا، تنازلات خطيرة. أما القضايا الأخرى، (وهي ثلاث) فمن الواضح أنها تصطدم بتعنت إسرائيلي ولا يعرف أحد متى سوف يتم التوصل إلى اتفاق بشأنها. وهكذا يتقيد المفاوض الفلسطيني باتفاقات جزئية، جرى التوصل إليها في ظل حالة ضعف فلسطيني فاقع، وفي ظل حالة عربية غير متضامنة فيما بينها. وأن مثل هذه الاتفاق من شأنه أن يقطع الطريق على أية استفادة فلسطينية من أية متغيرات إيجابية قد تقع في المستقبل.
الجديد في الأمر الآن، أن الاقتراح الثاني (تقرير تصوغه إدارة بوش وترفعه إلى الإدارة الأميركية الجديدة) لم يعد مجرد اقتراح أميركي بل تحول إلى مطلب فلسطيني طالب به الرئيس عباس في مباحثاته مع وزيرة الخارجية الأميركية. وتقول مصادر الوفد الفلسطيني المفاوض أن مثل هذا التقرير من شأنه أن يقيد الإدارة الأميركية القادمة، وأن يقيد الحكومة الإسرائيلية القادمة، حتى يستأنفا العملية التفاوضية من نقطة الصفر. وواضح تماما أن مثل هذا الرأي لا يشكل سوى ذريعة وحجة واهية لا تصمد أمام الوقائع العنيدة وأمام التجارب المرة، مع الأميركيين، كما مع الإسرائيليين.
فالأميركيون نكثوا بالوعد الذي قطعوه على أنفسهم بقيام دولة فلسطينية نهاية العام 2005، عملا بخطة خارطة الطريق التي قدموها على أنها السبيل إلى السلام في المنطقة. ثم نكثوا بالوعد بقيام دولة فلسطينية نهاية العام 2008. كذلك نكثوا بوعودهم إلى الفريق الفلسطيني المفاوض بضرورة أن يقر أنابوليس ضرورة الوصول إلى حل دائم مع نهاية العام الحالي. ويبقى السؤال: إذا كانت الإدارة الحالية نكثت بما تعهدت به هي نفسها، فمن يضمن إذن أن تلتزم الإدارة القادمة ما تتعهد به الإدارة الحالية. ومن يضمن بالتالي أن تواصل الإدارة القادمة المفاوضات من النقطة التي وصلت إلها.
مثال آخر: لا تكف الإدارة الحالية عن الإدعاء أنها لا تضغط على أي من الطرفين، ولا تساند أيا من الطرفين، وأنها لا تكتفي فقط بالعمل على توفير الأجواء الإيجابية لتشجيع الطرفين على السير قدما في العملية بالتفاوضية: ترى هل تشكل رسالة بوش إلى شارون في 14/4/2004، عاملا لدفع العملية التفاوضية إلى الأمام، وهي التي تعترف مسبقا بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل، وتعترف بـ«حق» إسرائيل في ضم المستوطنات وأجزاء أخرى من الضفة الفلسطينية، وتؤيد إسرائيل في رفضها الاعتراف بحق اللاجئين في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم.
أما عن الجانب الإسرائيلي والتزامه بما يوقعه ويتعهد به، فإن الحديث يطول كثيرا. ولائحة التجاوزات الإسرائيلية، والتراجعات الإسرائيلية عن اتفاقات موقعة مع الفريق الفلسطيني المفاوض لائحة طويلة تبدأ بتطبيقات اتفاق أوسلو، نفسه، وتمر بتطبيقات خارطة الطريق، وتنتهي بالالتزام بالسقف السياسي لمؤتمر أنابوليس. وهي كلها اتفاقات وخطط ومشاريع قدم فيها الفريق المفاوض الفلسطيني تنازلات، لصالح الجانب الإسرائيلي، وبالتالي إذا كان الفريق الإسرائيلي قد أخل بما وقع عليه هو نفسه، فمن يضمن أنه سوف يلتزم بمحضر ترفعه إدارة بوش إلى الإدارة اللاحقة، خاصة إذا ما شهدت إسرائيل تغييرا وزاريا، وحل الليكود محل كاديما ـ العمل، وتجربة العام 2006، حين انهزم بيريس في مواجهة نتنياهو مازالت ماثلة للعيان.
من الواضح أن الجانبين الإسرائيلي والأميركي ، وهما يدركان صعوبة، بل استحالة الوصول إلى حل دائم مع نهاية العام الحالي، يرغبان معا، في منع لحظة الضعف الفلسطيني أن تفلت من بين أيديهم، لذلك يدفعان باتجاه تقييد الفريق الفلسطيني بالنتائج الجزئية.
ومن الواضح أيضا أن الفريق الفلسطيني المفاوض، ينتابه تخوف من المتغيرات الإسرائيلية في استبعاد أولمرت، ومجيء موفاز أو ليفني، كما ينتابه تخوف من الإدارة القادمة، التي يمكن أن تنشغل عن الوضع الفلسطيني بالأوضاع في العراق وفي أفغانستان (وربما في جورجيا الآن). لذلك تراه يطالب هو نفسه بالاقتراح الثاني الذي كانت قد قدمته رايس إلى كل من قريع وليفني في واشنطن. وتخوفات الفريق المفاوض من جمود العملية التفاوضية تنبئ منذ الآن أن الفريق المفاوض قد ربط مصيره بالعملية التفاوضية، ورهن مستقبله السياسي بنتائجها العملية، لذلك تراه يحاول أن يضمن تواصلها حتى لا ينعكس الجمود التفاوضي سلبا على موقعه السياسي ونفوذه في الخارطة الفلسطينية الداخلية.
إن جوهر المسألة أن الفريق المفاوض قد دخل العملية التفاوضية وفق أسس مختلة وبموجب آليات غير منضبطة وبلا سقف زمني محدد. يقطف ثمارها المرة. الأمر الذي يتطلب من الفريق المفاوض أن يعود إلى الهيئات المقررة، أي اللجنة التنفيذية، وأن يأخذ بالموقف الوطني الجماعي، حتى لا يخطو مع نهاية العام الحالي خطوات جديدة لن تنتج إلا المزيد من الخسائر والمزيد من الضرر.