حوار شامل مع الشيخ عصام تليمة
حاوره: علاء الدين آل رشي المؤسسة الدينية تحتاج إلى مراجعة و تقييم لمسيرتها وسيرتها وهي تخضع في كثير من مفرداتها للماضوية أو لارتهان المقدس للتاريخي أو تحويل الديني لصالح السياسي ولذا كان هذا الحوار من اجل استعادة جمال الفقه وإنسانية الخطاب.
- ما هي الأولويات الفقهية للمسلم المعاصر اليوم؟
الأولويات الفقهية للمسلم المعاصر اليوم: أن يفهم الفقه بالمعنى الذي فهمه السلف الصالح، وليس بالمعنى الاصطلاحي، هو دراسة الفقه من أول: الطهارة، إلى المواريث، إنما نعني أن يلم بعدة أنواع من الفقه: فقه النص: بأن يفهم معناه، ومغزاه، وحكمته. وفقه النفس: بأن يطهرها من الذنوب والمعاصي، ويسمو بها الحياة البهيمية. وفقه البدن: بأن يمرن جسده على الجهاد في سبيل الله. وفقه الاختلاف: يعرف كيف يختلف مع إخوانه المسلمين ولا يتفرق، بآداب الاختلاف وأخلاقياته التي علمنا إياها علماء الإسلام. وفقه الواقع: بأن يعرف ما يحتاجه واقعه المعيش، في ضوء الموازنة بين المصالح والمفاسد. وفقه السنن الكونية: حيث إن للكون سننا لا تتخلف لا مع المسلم ولا مع الكافر. وفقه الأولويات: أن يعرف ما حقه التقديم، وما حقه التأخير، فليست كل الأعمال في الإسلام لها درجة واحدة، ولا مستوى واحد، فهناك الفرائض والسنن، وهناك الكبائر والصغائر، وهكذا.
الطريقة المتبعة اليوم في تدريس الفقه في المعاهد والكليات الشرعية في تلقين الفقه من خلال المتن، وليس من خلال ربط الفقه بالدليل، فأنا لا أؤيد هذه الطريقة في التدريس
- لكن هذه الاولويات كأنها مغيبة عن واقع المؤسسات الفقهية المعاصرة؟
عفوا أستاذ علاء دعني أتمم جوابي
نعم تفضل
أما عن الأولويات الفقهية بمعنى الفقه الاصطلاحي: فهو أن يفقه الإنسان دينه بصفة عامة، وبصفة خاصة بأن يكيف حياته وعمله وفق الشرع الإسلامي الحنيف، وأن يتعمق في أحكام تخصصه، فإن كان طبيبا فليقرأ ما لابد للطبيب أن يعمله من أحكام. وإن كان منشدا إسلاميا ـ مثلا ـ يعرف أحكام الغناء، واستخدام الآلات الموسيقية والآراء فيها، وهكذا.
طيب أستاذ عصام لكن سير التعليم الفقهي يختلف عما تذكره أنت فطريقة تدريس الفقه في المؤسسات الدينية طريقة تستحق النقد كما يذكر البعض: فقه بلا تفكير، هل تؤيد الطريقة المتبعة اليوم في تدريس الفقه في المعاهد والكليات الشرعية في تلقين الفقه من خلال المتن، وليس من خلال ربط الفقه بالدليل؟ للأسف الطريقة التي تدرس بها المؤسسات الدينية الفقه الإسلامي طريقة ـ في الغالب ـ إلا ما رحم ربي من المعاهد الدينية التي طورت من نفسها ـ بدائية، ولا تتناسب مع العصر الذي نعيشه، من حيث المضمون، ومن حيث الأداء، فمن حيث المضمون: نرى مادة الفقه يعتمد فيها كتاب تراثي، يناقش فيه مسائل لم يعد لها وجود، كقضايا الصرف، وحتى القضايا التي لها بعض الصلة بالواقع كالبيع والشراء والشركات مثلا، نراها لا تتعرض للشركات المعاصرة،
- هل من الممكن أن تذكر لي امثلة لما تقوله حتى نكون أكثر دقة؟
نعم سأوضح ذلك
اشكرك، سيدي تفضل
جزاك الله خيرا يا اخي كتب التراث الفقهي القديمة لا تعرف من الشركات إلا أنواع ثلاثة، شركة الوجوه، وشركة العنان، وشركة المفاوضة، ولكنا الآن نرى أنواعا أخرى من الشركات، غير ما ذكره الفقهاء القدامى في كتبهم، فالواجب علينا أن نجمع في المضمون ما بين القديم الذي يبنى عليه الرأي في الحديث، وما بين ما يستجد من حوادث وشؤون، فالطالب ابن اليوم لا الأمس. هذا من حيث المضمون، أو من حيث المادة التي تقدم، من حيث موضوعاتها، أيضا عبارة الكتب القديمة عبارات فيها وعورة وصعوبة على الطالب، ولذا أفضل أن تكون دراسة هذه الكتب التراثية في مرحلة متأخرة،
- عفوا ماذا تعني في مرحلة متأخرة؟
يعني في المرحلة الجامعية مثلا، ويدرس كتب تراثي مختصر وواضح العبارة وقريب من العصر الحديث، كتمهيد لهذه الدراسة. وأن يقدم بطريقة معاصرة، ويشتمل على هوامش توضح الغامض، وتبوب الكتاب تبويبا عصريا يتناسب مع عقلية أبناء القرن الحادي والعشرين. والكلام على مضمون الكتب التراثية يطول الكلام فيه، فهناك قضايا مذكورة في الكتب القديمة من كتب الفقه، لا أرى إلا أنها خرجت في فترة الركود والجمود، وهي تدعو للسخرية،
إذا كان التناقض في الرؤى مقصود به تعدد وجهات النظر فلا شيء في ذلك، ما دام الرأي قد خرج من إنسان ثقة في دينه وعلمه، ولم يخرج الرأي منه بناء على هوى، أو أمر من سلطان غاشم
- هل ثمة مثال؟
كأن تقرأ مثلا في بعض هذه الكتب في شروط الإمامة للصلاة، أن يصلي بهم أفقههم وأعلمهم بكتاب الله، فأسنهم، إلى آخر الشروط، يقول المؤلف بعد ذلك: فإن استووا في الشروط، ينظر أيهم أجمل امرأة!!! يعني أصبح المرجح من تزوج بامرأة أجمل من الأخرى، ومن سيحكم بجمال المرأتين أيها أعلى جمالا؟! وكيف يكون ذلك؟ والنماذج من ذلك كثيرة. هذا من حيث المضمون، أما من حيث الأداء، فللأسف الطريقة التي يشرح بها الفقه في كثير من المعاهد الشرعية والدينية، طريقة بعيدة كل البعد عن ربط الفقه بالحياة
- ماذا تعني بهذا هل الخلل في المنهج والرؤية أم في شخصية المعلم نفسه؟
كثير من هؤلاء المدرسين أو المعلمين درس الفقه من كتبه القديمة، ولم يأخذ أدنى قسط من وسائل توصيل المعلومة للطالب، ولا دورة في كيف يؤدي الدرس جيدا، وكيف ينوع من وسائل الشرح، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان ينوع في وسائله التعليمية، من ضرب المثل، إلى الخط على الأرض، إلى غير ذلك من الوسائل، وكذلك نرى معلمي المواد الأخرى كالفيزياء والرياضيات، ينوعون، وتعطى لهم الدورات التدريبية والتعليمية لأداء رسالتهم، فالأولى بذلك من يقومون بتدريس المواد الشرعية. كما يعتمد كثير ممن يقوم بشرح هذه المواد ـ للأسف ـ على التلقين لا على إعمال عقل طالب العلم، في حين إننا نرى أن علماءنا الذين وضعوا هذه العلوم الشرعية كانوا أذكياء، ويعملون عقولهم في المسائل، ولذا تراهم يتخيلون كثيرا من المسائل، بل رأينا (الخوارزمي) مكتشف علم الجبر، اكتشف هذا العلم ليعينه على حل مسائل (المواريث) وهذا يدل على قمة ذكائه، ومن يتدبر حياة الإمام أبي حنيفة رحمه الله في مناظراته ومحاوراته يلمح الذكاء المتوقد، بينما نرى معلمي المواد الشرعية يصنعون من تلامذتهم حفاظا لا فاهمين، ولا ينمون عندهم ملكة التفكير، والتأمل والتعمق، والنقاش الحر، فالفقه بمجموعه كله دليل على الحوار العلمي، فالأئمة الأربعة بمدارسهم دلالة واضحة على النقاش الحر والبناء، ولذا خرج منها هذا الكم الهائل من الفكر والفقه. وأحب أن أقول: إن تعبير (فقه بلا تفكير) لا يجوز أن نطلقه بعموم، فليس كل كتب الفقه هكذا، وليس كل من يعلمون الفقه كذلك، نعم السائد للأسف هو هذا التوجه، فأمتنا أمة تقدم الحفظ على الفهم، آلاف الجوائز لحفظ القرآن الكريم، ولا نجد جائزة واحدة لمن يفهم القرآن ويتدبره، وجوائز لمن يحفظ السنة، ولا توجد جائزة لمن يبدع في فهم السنة، وهكذا. ولكن بدأ الآن يغلب طابع الفهم على الحفظ، فلا شك أن الأمة التي امتلأ كتابها ـ القرآن الكريم ـ بقوله تعالى: (لقوم يفقهون) (يعقلون) (يتدبرون) (لأولي النهى) (لأولي الألباب) إلى آخر ما ورد في القرآن من خطاب العقل واستثارته. والسنة التي يلتزمون بها هي سنة فهم: يقول صلى الله عليه وسلم: (فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه).
- لكن طريقة تدريس الفقه تختلف تماما عما تذكره؟
هذا صحيح فالطريقة المتبعة اليوم في تدريس الفقه في المعاهد والكليات الشرعية في تلقين الفقه من خلال المتن، وليس من خلال ربط الفقه بالدليل، فأنا لا أؤيد هذه الطريقة في التدريس، بل إني نقدت في أحد كتبي اعتماد كثير من الفقهاء المعاصرين وغيرهم في اعتماد المصطلحات الفقهية التي لم يقم عليها دليل، ونظل نتمسك بها، وهي لا تدل إلى على التشدد،
- مثل أي المصطلحات؟
كثيرا ما نرى في مصطلحات فقهائنا: العورة المغلظة والعورة المخففة، والنجاسة المغلظة والنجاسة المخففة، وكل هذه المصطلحات وأمثالها وهذا التقسيم لم يقم عليها دليل شرعي، وذكرت كلاما للإمام الشوكاني يؤيد هذا التوجه، حيث يقول رحمه الله في كتابه (السيل الجرار): (الوصف لبعض النجاسات بالتغليظ ولبعضها بالتخفيف هو مجرد اصطلاح لا يرجع إلى دليل؛ والواجب اتباع الدليل في إزالة عين النجاسة: فما ورد فيه الغسل حتى لا يبقى منه لون ولا ريح ولا طعم كان ذلك هو تطهيره، وما ورد فيه الصب أوالرش أو الحَتُّ أو المسح على الأرض أو مجرد المشي في أرض طاهرة كان ذلك هو تطهيره. وقد ثبت في السنة: أن النعل الذي يصيبه القذر يطهر بالمسح وهو من المغلظة اصطلاحا، وكذلك ورد في الثوب إذا أصابه القذر عند المشي على أرض قذرة أنه يطهره المرور على أرض طاهرة. والحاصل أن الشارع الذي عرفنا كيفية تطير النجاسات هو الذي عرفنا كون هذه العين نجسة أو متنجسة والواجب علينا اتباع قوله وامتثال أمره وطرح الشكوك الشيطانية والتوهمات الفاسدة، فإن ذلك مع كونه مخالفة للشريعة السمحة السهلة هو أيضا غلو في الدين وقد ورد النهي عنه وهو أيضا إفراط، ودين الله إنما يؤخذ عن الله ورسوله. فليكن هذا منك على ذكر فإنه يخلصك من أمور شديدة وقعت في كتب الفروع).
- ما هو المقترح لفك الارتباط الموهوم بين التدين والرؤى الفقهية التي لا تستحضر البعد الزمني والمكاني؟
المقترح لفك هذا الارتباط الموهوم، يكون باتباع فقه الكتاب والسنة، بما فيه من شمول وعموم ويسر، وربط للبعد الزمني والمكاني، فالإسلام دين صالح لكل زمان ومكان، ومن علامات صلاحه: أنه يراعي الزمان والمكان والشخص، فنحن نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الإجابة لسؤال واحد بأكثر من صيغة، يُسأل صلى الله عليه وسلم النصيحة من أحد أصحابه، فيقول له صلى الله عليه وسلم: "لا تغضب" ويسأله آخر، فيقول صلى الله عليه وسلم: "قل: آمنت بالله، ثم استقم" وهكذا، والسبب في ذلك: أنه راعى طبيعة الشخص الأول، فرآه يكثر من الغضب، فنصحه بما يناسبه، وراعى طبيعة الشخص الثاني فنصحه بما يتوافق مع طبيعته. ولذا اشتهر في تراثنا الأصولي قاعدة: الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والحال والنيات والأشخاص، ودلل عليها الإمام ابن القيم في كتابه (إعلام الموقعين عن رب العالمين) بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة، وواقع العلماء، حتى إنه ذكر من ذلك موقفا لشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية، أنه رأى جنود التتار وقد أسلموا وكان في إسلامهم ضعف، وكانوا يقتلون الناس ويعتدون عليهم، ويشربون الخمر، فمر على جماعة منهم يشربون الخمر، فأراد بعض مرافقي الإمام ابن تيمية أن يزجرهم وينهاهم عن شرب الخمر، فقال لهم شيخ الإسلام: دعوهم، إنهم بشربهم الخمر يمتنعون عن قتل الناس، وحقن الدماء مقدم، على النهي عن شرب الخمر. وهذا يدل على فقه الرجل الذي استحضر فيه الزمان والمكان والشخص. فبالتعمق في الكتاب والسنة، والنظر السديد لفتاوى أئمتنا القدامى، يزول هذا التوهم.
- شيخنا عصام;: هناك تناقض ملحوظ وتضارب في الرؤى الاجتهادية ما بين أقصى اليمين وأقصى الشمال، هل من طريقة لإحياء الفهم المتعدد للنص الديني دون إقصاء للرؤى الأخرى؟
إذا كان التناقض في الرؤى مقصود به تعدد وجهات النظر فلا شيء في ذلك، ما دام الرأي قد خرج من إنسان ثقة في دينه وعلمه، ولم يخرج الرأي منه بناء على هوى، أو أمر من سلطان غاشم، الاعتراض على الاجتهاد الذي يخرج من غير أهله، وفي غير موضعه، يعني من غير أهل التخصص، أو الحاذقين في فهم الشريعة ونصوصها، وفي غير موضعه، في القضايا التي لا يجوز فيها الاجتهاد.
- طيب ما هي الطريقة التي تقترحها طريقة بديلة؟
الطريقة التي نقترحها لإحياء الفهم المتعدد للنص، فهو أن نفهم طبيعة هذا الدين، فطبيعته وطبيعة نصوصه، تدل على أنه دين يحتمل في كثير من قضاياه الرأي المتعدد، والمساحة التي لا يوجد فيها إلا رأي واحد، هي مساحة قليلة جدا سماها علماؤنا (الإجماع) أو (المعلوم من الدين بالضرورة) لتمثل ثوابت الأمة، أما غيرها فهي عنوان على تقدم الأمة في فهم دينها، وقد عرفنا في تراثنا الفقهي من الصحابة: شدائد ابن عمر، ورخص ابن عباس، وشواذ ابن مسعود، ومع ذلك وقر بعضهم بعضا، ولم نر إساءة من أحدهم للآخر، ولم نر إقصاء لرأي الآخر.. ولذا لم نر مشكلة في وجود المذاهب الأربعة المعروفة، وغيرها من المذاهب التي لم يعد لها تلامذة الآن، ومع ذلك كانت للإسلام خلافة ودولة، وقف أحد خلفائها يوما يقول للسحابة: شرقي أو غربي فحيثما ذهب فسوف يأتيني خراجك، وقبول الرؤى الأخرى يتوقف على مدى نهوض الأمة الحضاري، ففي عصور التخلف تقصى الآراء الأخرى، وفي عصور الازدهار والتحضر نرى الآراء المتعددة، والمذاهب والمدارس المتعددة. ورحم الله الإمام مالك رحمه الله الذي طلب منه أحد الخلفاء أن يوطأ للناس موطأ، فكتب الموطأ، وأراد أن يحمل الناس عليه، فأبى الإمام مالك، رغم أنها فرصة لنشر فكره، ولكنه أبى أن يكون نشر الفكر على حساب إلغاء الرأي الآخر. إن آفة فرعون التي أنكرها القرآن (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) من الخطأ البين أن نتبناها باسم الدين، وأن نجعل على أقوالنا وآرائنا هالة من التقديس ما أنزل الله بها من سلطان، فلا قداسة لرأي ولا لشخص في الإسلام، بل يظل العلماء أشخاصا لهم توقيرهم، ولهم أن يخالفوا في أقوالهم، وكذلك الآراء. ولا بد أن نفرق بين أمر هام تقع فيه أمتنا وطلبة العلم، وهو: أنهم يظنون أنك عندما تنقد رأيا وتخالفه، أن معنى ذلك: أنك تكره صاحب القول، أو الشخص المخالَف، وهذا خطأ، فلا بد أن نفرق بين العواطف والعقلية العلمية، فرق بين أن أحب فلانا، وبين أن أختلف معه في وجهة النظر، أو في رؤيتي لأمر ما، هل كان الحباب بن المنذر يكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لا يوقره ـ حاشاه ـ عندما سأله: أهذا منزل أنزلكه الله، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ وذلك في غزوة بدر، قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فأشار عليه بخلاف ما أشار. ومع ذلك قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم مشورته ورأيه. وغيره من القضايا.
لا بد للعالم والفقيه المسلم أن يكون مستقلا في كل أموره، وبخاصة الأمور الحياتية من حيث الراتب، وعدم تأثير السلطة عليه، حتى يخرج رأيه معبرا عن الأمة، منطلقا من كتاب الله وسنة رسوله، ومن ثوابت الدين، بلا ارتباط بالسلطة منعا وإعطاء.
- تحول الدين في بعض البلدان إلى يد تقبل، ويد تأخذ، كيف نستعيد استقلالية رجل الدين والفقه؟
لا بد للعالم والفقيه المسلم أن يكون مستقلا في كل أموره، وبخاصة الأمور الحياتية من حيث الراتب، وعدم تأثير السلطة عليه، حتى يخرج رأيه معبرا عن الأمة، منطلقا من كتاب الله وسنة رسوله، ومن ثوابت الدين، بلا ارتباط بالسلطة منعا وإعطاء، ولذا نلاحظ زهد كثير من الناس في علماء السلطة، أو من لهم ارتباط بالسلطة، حتى شاع بين الناس مصطلح: علماء السلطة، ودعاة الشرطة. والناظر لتاريخ الفقهاء والعلماء المستقلين بالرأي، والمعلنين بالحق مهما كان، وأينما كان، نراهم كانوا أصحاب مهن بجانب طلبهم للعلم، فأبو حنيفة رضي الله عنه كان تاجرا، ومع تجارته كان إماما في الفقه، والليث بن سعد كان تاجرا كذلك، ومع ذلك فهو إمام في الفقه، وكثيرا ما تقرأ في أسماء العلماء مثل هذا الأسماء: النجار، الحداد، البزاز، وغيرهم، وهذا يدل على صناعتهم، أي أنهم كانوا يجعلون مصدر رزقهم بعيدا عن العلم والسلطان حتى لا يكون مال السلطان سيفا مسلطا على رقبته، وحائلا يمنعه من قول الحق، ولذا رأينا قوة وشدة رأي الحسن البصري، وشكوى الخلفاء الأمويين منه قائلين: ما بال هذا الرجل شديدا علينا، وليس كغيره ممن يطرق باب السلطان للارتزاق؟ فقيل: استغنى عن دنيانا واحتجنا نحن إلى دينه!! ورأينا ذلك في علمائنا المعاصرين عندما كان لعلماء المسلمين أوقافهم الخاصة بهم، ليس للسلطان عليها قوة، فرأينا من علماء الأزهر من مد رجله والملك يمر، فلما أراد الملك أن يغريه، وأرسل إليه رسولا بمال له، رد العالم الأزهري قائلا: ارجع وقل للملك: إن من يمد رجليه لا يمد يديه. والشيء الذي يعيد استقلالية عالم الدين، هو عودة الأوقاف الإسلامية، بحيث يكون دخل العالم ومعيشته من أوقاف المسلمين، وليس من مال السلطان، يمنع ويعطي حسبما يشاء، فللأسف في بلادنا العربية والإسلامية في ظل الحكم الشمولي القائم على الظلم والديكتاتورية، صودرت أوقاف المسلمين، بينما ردت أوقاف المسيحيين، وحوفظ عليها، أما أوقاف المسلمين فصودرت ولم ترد، وذلك حتى يهيمن على علماء الدين، ولا تكون لهم استقلالية، كذلك ألا يعتمد العالم على راتب الدولة، بل عليه أن يحاول قدر استطاعته أن يكون له مصدر رزق بعيدا عن راتب الحكومة قدر استطاعته، لا أن يتخرج طالب العلم من الجامعة، ويجلس في بيته ينتظر أن يعين في وظيفة حكومية، ويقنع ويخنع لهذه الوظيفة ويظل يتدرج إلى أن يصل إلى منصب معين من مناصب الدين، ويظل رهين عمله ووظيفته وراتبه، ورحم الله الحسن البصري الذي مر عليه إنسان وكان مع الحسن مال يعده، فقال له الرجل: حتى أنت؟ يعني حتى أنت تهتم بالتجارة وجمع المال، فقال الحسن البصري: إليك عني، فلولا هذه (أي ماله) لتمندلوا بنا! أي لجعلونا مناديل في يدهم يلعبون بها أينما شاؤوا. وقبل ذلك كله: أن يعلم أن رزقه ليس بيد السلطان، ولا بيد الوزير الذي يعمل في وزارته، إن الأرزاق والآجال بيد الله وحده، وكيف ونحن نعلم الناس قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك».