حسن البنا يؤيد النظام الدستوري وينوه بالدستور المصري

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
حسن البنا يؤيد النظام الدستوري وينوه بالدستور المصري

محتويات

حسن البنا يؤيد النظام الدستوري وينوه بالدستور المصري

ولكن المهن هنا أن الإمام البنا - رحمه الله - كان يؤيد النظام الدستوري والنيابي بصراحة، ويرحب به، ويراه أقرب الأنظمة إلى الإسلام، ومن المعلوم أن النظام النيابي الدستوري يأخذ برأي الأغلبية، ويتحدث عن الدستور حديث الأنصار لا الخصوم، قال ذلك في رسالة (المؤتمر الخامس) سنة 1936 م ، في رسالة (مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي) سنة 1948 م.

ففي رسالة (المؤتمر الخامس) التي حدد فيها بجلاء موقف الإخوان امن كثير من القضايا الحساسة، الفكرية والسياسية وغيرها حدد موقف الإخوان من (الدستور) ومن (القانون) مفرقا بينهما بوضوح، وهو أن (الدستور) : هو نظام الحكم العام الذي ينظم حدود السلطات، وواجبات الحاكمين، ومدى صلتهم بالمحكومين. أما (القانون) فهو الذي ينظم صلة الأفراد بعضهم ببعض، ويحمي حقوقهم الأدبية والمادية، ويحاسبهم على ما يأتون من أعمال.

ثم بين الموقف من كل منهما قائلا: (الواقع أيها الإخوان : أن الباحث حين ينظر إلى مبادئ الحكم الدستوري التي تتلخص في المحافظة على الحرية الشخصية بكل أنواعها وعلى الشورى واستمداد السلطة من الأمة، وعلى مسئولية الحكام أمام الشعب ومحاسبتهم على ما يعملون من أعمال، وبيان حدود كل من سلطة من السلطات،هذه الأصول كلها يتجلى للباحث أنها تنطبق كل الانطباق على تعاليم الإسلام ونظمه وقواعده في شكل الحكم. ولهذا يعتقد الإخوان المسلمون أن نظام الحكم الدستوري هو أقرب نظم الحكم القائمة في العالم كله إلى الإسلام، وهم ى يعدلون به نظاما آخر.

بقي بعد ذلك أمران:

أولهما: النصوص التي صاغ في قالبها هذه المبادئ.

وثانيهما " طريقة التطبيق التي تفسر بها عمليا هذه النصوص. إن المبدأ السليم القويم قد يوضع في نص مبهم غامض، فيدع مجالا للعبث بسلامة المبدأ في ذاته. وإن النص الظاهر الواضح للمبدأ السليم القويم، قد يطبق وينفذ بطريقة يمليها الهوى، وتوحيها الشهوات، فيذهب هذا التطبيق بكل ما يرجى من فائدة.

وإذا تقرر هذا : فإن من نصوص الدستور المصري ما يراه الإخوان المسلمون غامضا، يدع مجالا واسعا للتأويل والتفسير الذي تمليه الغايات والأهواء، فهي في حاجة إلى وضوح وإلى تحديد وبيان. هذه واحدة، والثانية: هي أن طريقة التنفيذ التي يطبق بها الدستور، ويتوصل بها إلى جني ثمرات الحكم الدستوري في مصر ، طريقة أثبتت التجارب فشلها، وجنة الأمة منها الأضرار لا المنافع، فهي في حاجة شديدة إلى تحوير وإلى تعديل يحقق المقصود ويفي بالغاية...).

وضرب مثلا لذلك بـ ( قانون الانتخاب) وما فيه من ثغرات يجب سدها، وما يعتريه من سوء التطبيق.

قم قال: (لهذا يعمل الإخوان المسلمون جهدهم حتى تحدد النصوص المبهمة في الدستور المصري، وتعدل الطريقة التي ينفذ بها هذا الدستور في البلاد . وأظن أن موقف الإخوان قد وضح بهذا البيان، وردت الأمر إلى نصابها الصحيح)ز س

حسن البنا يبين موقف الإخوان من القانون

ثم قال حسن البنا  : (قدمت أن الدستور شيء والقانون شيء آخر، وقد أبنت موقف الإخوان من الدستور وأبين لحضراتكم الآن موقفهم من القانون.

إن الإسلام لم يجئ خلوا من القوانين ، بل هو قد أوضح كثيرا من أصول التشريع وجزئيات الأحكام، سواء أكانت مادية أم جنائية تجارية أو دولية، والقرآن والأحاديث فياضة بهذه المعاني، وكتب الفقهاء غنية كل الغنى بكل هذه النواحي، وقد اعترف الأجانب أنفسهم بهذه الحقيقة، واقرها مؤتمر لاهاي الدولي أمام ممثلي الأمم من رجال القانون في العالم كله.

فمن غير المفهوم ولا المقول أن يكون القانون في أمة إسلامية متناقضا مع تعاليم دينها وأحكام قرآنها وسنة نبيها، مصطدما كل الاصطدام بما جاء عن الله ورسوله، وقد حذر الله نبيه (صلى الله عليه وسلم) من ذلك من قبل، فقال تبارك وتعالى:" وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون، أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون" (المائدة:49/50) ذلك بعد قوله تعالى:" ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" ... "الظالمون" .. "الفاسقون"(المائدة:44،45،47) فكيف يكون موقف المسلم الذي يؤمن بالله وكلماته إذا سمع هذه الآيات البينات وغيرها من الأحاديث والأحكام، ثم رأى نفسه محكوما بقانون يصطدم معها؟ فإذا طالب بالتعدي قيل له: إن الأجانب لا يرضون بهذا، ولا يوافقون عليه، ثم يقال بعد هذا الحجر والتضييق: إن المصريين مستقلون ، وهم لم يملكوا بعد أن يتمتعوا بحرية الدين، وهي أقدس الحريات .

على أن هذه القوانين الوضعية، كما تصطدم بالدين ونصوصه تصطدم بالدستور الوضعي نفسه، الذي يقرر أن دين الدولة هو الإسلام، فكسف نوفق بين هذين يا أولى الألباب؟

وإذا كان الله ورسوله قد حرم الزنا، وحظر الربا، ومنع الخمور، وحارب الميسر، وجاء القانون يحمي الزانية والزاني، ويلزم بالربا ، ويبيح الخمر، وينظم القمار، فكيف يكون موقف المسلم بينهما؟ أيطيع الله ورسوله ويعصي الحكومة وقانونها، والله خير وأبقى، أم يعصي الله ورسوله ويطيع الحكومة، فيشقى في الآخرة والأولى؟ نريد الجواب على هذا من رفعة رئيس الحكومة ومعالي وزير العدل ومن علمائنا الفضلاء الأجلاء.

أما الإخوان المسلمون فهم لا يوافقون على هذا القانون أبدا، ولا يرضونه بحال، وسيعلمون بكل سبيل على أن يحل مكانه التشريع الإسلامي العادل الفاضل في نواحي القانون).

تأكيد ما قاله في سنة 1936 م بما قاله سنة 1948 م : ثم عاد الإمام البنا – رحمه الله- إلى الموضوع مرة أخرى حين كتب سلسلة من المقالات في جريدة الإخوان اليومية، وجهها إلى رئيس الحكومة باعتباره المسئول الأول... وإلى أعضاء الهيئات النيابية- على اختلافها- باعتبارهم الرعاة الرسميين لنظام الإسلام... وإلى رؤساء الهيئات الشعبية: السياسية والوطنية والاجتماعية، باعتبارهم قادة الفكر، وموجهي الجماهير... وغلى رجال الأزهر الشريف، وإلى كل محب لخير العالم، وسيادة بنى الإنسان، وقد جمعت هذه المقالات بعد لك ونشرت تحت عنوان (مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي).

(يقول علماء الفقه الدستوري : إن النظام النيابي يقوم على مسئولية الحاكم، وسلطة الأمة، واحترام إرادتها، وإنه لا مانع فيه يمنع من وحدة الأمة واجتماع كلمتها، وليست الفرقة والخلاف شرطا فيه، وإن كان بعضهم يقول: إن من دعائم النظام النيابي البرلماني الحزبية، ولكن هذا إذا كان عرفا فليس أصلا في قيام هذا النظام، لأنه يمكن تطبيقه بدون هذه الحزبية، وبدون إخلال بقواعده الأصلية.

وعلى هذا، فليس في قواعد هذا النظام النيابي ما يتنافى مع القواعد التي وضعها الإسلام لنظام الحكم، وهو بهذا الاعتبار ليس بعيدا عن النظام الإسلامي ولا غريبا عنه.

وبهذا الاعتبار يمكن أيضا أن نقول في اطمئنان : إن القواعد الأساسية التي قام عليها الدستور المصري لا تتنافى مع قواعد الإسلام، وليست بعيدة من النظام الإسلامي ولا غريبة عنه، بل إن واضعي الدستور المصري- رغم أنهم وضعوه على أحدث المبادئ والآراء الدستورية وأرقاها- فقد توخوا فيه ألا يصطدم أي نص من نصوصه بالقواعد الإسلامية، فهي إما متمشية معها صراحة، كالنص الذي يقول: (دين الدولة الإسلام) أو قابلة للتفسير الذي يجعلها لا تتنافى معها كالنص الذي يقول : " حرية الاعتقاد مكفولة"). وأكد ما ذكره من قبل: (أن النظام النيابي والدستور المصري في قواعدهما الأساسية لا يتنافيان مع ما وضعه الإسلام في نظام الحكم، ولكنه صرح بأن هناك قصورا في عبارات الدستور، وسوءا في التطبيق، وتقصيرا في حماية القواعد الأساسية التي جاء بها الإسلام، وقام عليها الدستور، أدت جميعا إلى ما نشكو منه، وما وقعنا فيه من اضطراب في كل هذه الحياة النيابية).

وقد فصل بعض التفصيل في بيان ذلك وعلاجه، بما لا حاجة لنا إليه في هذا المقام ، إنما نريد بيان موقفه من النظام الدستوري والنيابي، وهما من مقومات الديمقراطية ، وإن لم يذكر الديمقراطية بصراحة في حديثه.

التباس موضوع الديمقراطية على بعض الإخوان

ومع وضوح موقف الإمام البنا من الدستور والنظام النيابي المنبثق عن الديمقراطية : ظل موضوع الديمقراطية ملتبسا على كثير من الإخوان ، لأن الأستاذ لم يذكر الديمقراطية صراحة. ولكنه نوه بأمور هي من لوازمها، بل من مكوناتها مثل (الدستور) و (النظام النيابي).

بل نقلوا عنه أنه كان يرى أن الشورى معلمة، وليست ملزمة، وهذا ضد الديمقراطية  : فعلى الحاكم أن يستشير أخ هل الحل والعقد، ولكن ليس عليه أن يلتزم برأيهم، أو برأي أكثريتهم.

وقد قال في الأصل الخامس من الأصول العشرين : ( ورأي الإمام- أو نائبه- فيما لا نص فيه، وفيما يحتمل وجوها عدة، وفي المصالح المرسلة، معمول به ما لم يصطدم بقاعدة شرعية، وقد يتغير بحسب الظروف والعرف والعادات، والأصل في العبادات التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وفي العاديات الالتفات إلى الأسرار والحكم والمقاصد).

وقد شرحت هذا الأصل بتفصيل وتوسع في الجزء الرابع من سلسلة (نحو وحدة فكرية للعاملين للإسلام).

وكلام الأستاذ البنا هنا يوحي بأن الأصل العمل برأي الإمام أو الحاكم، وإن كان مخالفا لرأي أهل الشورى أو أهل الحل والعقد، وإن لم يصرح الأستاذ بذلك، وإنما هو مستنبط من كلامه.

وهذا- للسف- رأي كثير من كبار الدعاة مثل : الإمام أبي الأعلى المودودي في باكستان ، والإمام محمد متولي الشعراوي في مصر . وقد رددنا على هذا الرأي في كثير من كتبنا.

(7)

التنديد بالأحزاب والحزبية

والدعامة السابعة من دعائم التربية السياسية عند حسن البنا  : تنبيهه وتأكيده على معارضته للأحزاب المصرية القائمة في ذلك الوقت، وما جرته على البلاد بسبب تفرقها واختلافها وتنافرها، وذلك ثمرة للنظام الحزبي البغيض عنده، هذا مع أنه يقر النظام الدستوري والنيابي ويراه متفقا مع الإسلام، كما وضحنا ذلك من قبل.

ولهذا كان من عناصر الفكر السياسي الأساسية عند الإمام البنا  : تنديده بتعدد الأحزاب المصرية واختلافها، وتهافتها على كرسي الحكم، واستماتتها في الوصول إليه، ولو بالتقرب إلى المستعمر، الذي يحتل البلاد، ويذل العباد.

وكان الأستاذ البنا يرى أن الإسلام لا يقر الحزبية، لسبب واضح عنده، وهو أنها تؤدي إلى تفرقة الأمة- كما هو الواقع المشاهد- وهو يدعو إلى الاتحاد والائتلاف، كما تدل على ذلك آيات القرآن وأحاديث الرسول الكريم.

وبخاصة أن الأحزاب في مصر قد بلغ بها الاختلاف ، والتدابر والتخاصم حدا أمسى ينذر بخطر على الوطن، ولا يستفيد منه إلا المستعمر المتربص. وفي هذا أنشأ شوقي قصيدته المعروفة يقول فيها:

إلام الخلف بينكمو إلام؟

وهذي الضجة الكبرى علام؟

وفيم يكيد بعضكم لبعض

وتبدون العداوة والخصاما؟

كما كان الأستاذ يرى أن النظام الدستوري أو البرلماني – الذي يؤيده ويراه متفقا مع الإسلام- لا يحتاج بالضرورة إلى النظام الحزبي.

ويرى أن الأحزاب في مصر خاصة، لم تختلف على مناهج وبرامج للإصلاح والتغيير، وإنما الخلاف فيما بينها لأسباب شخصية، وأنها نشأت لأهداف وظروف معينة لم تعد قائمة، ومن هنا يرى ضرورة اختفاء هذه الأحزاب من الساحة، أو تتوحد جميعا في حزب أو تكتل واحد، يضم الجميع في رحابه، ويعمل من أجل مصلحة الوطن، حتى أنه طلب من الملك في فترة من الفترات حل هذه الأحزاب جميعا وتخليص البلاد من أوزارها.

وقد كرر الأستاذ البنا هذه المعاني في عدد من رسائله، بعضها قديم، مثل رسالة المؤتمر الخامس سنة 1926م، ورسالته إلى طلبة الإخوان في محرم سنة 1357هـ.

وبعضها جديد، أي في أواخر حياته، كما في كتابه (مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي) التي كانت مقالات في صحيفة الإخوان اليومية ثم جمعت. ونرى قوله في بعض الأحيان أقرب إلى اللين، وأحيانا أقرب إلى الشدة، فمن مواقف اللين قوله في رسالة المؤتمر السادس: ( وأما موقفنا من الأحزاب السياسية، فلسنا نفاضل بينها، ولا ننحاز إلى واحد منها، ولكن نعتقد أنها تتفق جميعا في عدة أمور:

تتفق في أن كثيرا من رجالها قد عملوا على خدمة القضية السياسية المصرية، واشتركوا فعلا في الجهاد في سبيلها، وفي الوصول إلى ما وصلت إليه مصر من ثمرات هذا الجهاد الضئيلة أو الجليلة، فنحن في هذه الناحية لا نبخس هؤلاء الرجال حقهم.

وتتفق كذلك في أن حزبا منها لم يحدد بعد منهاجا دقيقا لما يريد من ضروب الإصلاح، ولم يضع هدفا يرمي إليه، وهي لهذا لا تتفاوت في المناهج والأغراض والغايات.

وتتفق كذلك في أنها جميعا لم تقتنع بعد بوجوب المناداة بالإصلاح الاجتماعي على قواعد الإسلام وتعاليم الإسلام، ولا زال أقطابها جميعا يفهمون الإسلام على أنه ضروب من العبادات والروحانية لا صلة لها بحياة الأمم والشعوب الاجتماعية والدنيوية.

وتتفق بعد ذلك في أنها تعاقبت على الحكم هذا البلد فلم بجديد ، ولم يجد الناس في ظل حكمها ما كانوا يأملون من تقدم مادي أو أدبي، ولقد كان لهذا أثره العملي، فقامت في مصر الحكومات غير الحزبية في أحرج الظروف وأدق المواقف، ومنها الحكومة الحالية.

وإذا فلا خلاف بين الأحزاب المصرية إلا في مظاهرة شكلية، وشئون شخصية، لا يهتم لها الإخوان المسلون، ولهذا فهم ينظرون إلى هذه الأحزاب جميعا نظرة واحدة، ويرفعون دعوتهم- وهي ميراث رسول الله- فوق هذا المستوى الحزبي كله.

ونحن لا نهاجمهم لأننا في حاجة إلى الجهد الذي يبذل في الخصومة والكفاح السلبي، لننفقه في عمل نافع وكفاح إيجابي، وندع حسابهم للزمن، معتقدين أن البقاء للأصلح " فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض" (الرعد: 17).

ومن مواقف الشدة: ما قاله- رحمه الله- في رسالة المؤتمر الخامس: (والإخوان المسلمون يعتقدون أن الأحزاب المصرية جميعا قد وجدت في ظروف خاصة، ولدواع أكثرها شخصي لا مصلحي، وشرح ذلك تعلمونه حضراتكم جميعا.

ويعتقدون كذلك أن هذه الأحزاب لم تحدد برامجها ومناهجها إلى الآن، فكل منها يدعي أنه يعمل لمصلحة الأمة في كل نواحي الإصلاح، ولكن ما تفاصيل هذه الأعمال؟ وما وسائل تحقيقها؟ وما الذي أعد من هذه الوسائل؟ وما العقبات التي ينتظر أن تقف في سبيل التنفيذ؟ وما أعد لتذليلها؟ كل ذلك لا جواب له عند رؤساء الأحزاب وإدارات الأحزاب، فهم قد اتفقوا في هذا الفراغ، كما اتفقوا في أمر آخر هو التهالك على الحكم، وتسخير كل دعاية حزبية وكل وسيلة شريفة في سبيل الوصول إليه، وتجريح كل ما يحول من الخصوم الحزبيين دون الوصول عليه.

ويعتقد الإخوان كذلك أن هذه الحزبية قد أفسدت على الناس كل مرافق حياتهم، وعطلت مصالحهم، وأتلفت أخلاقهم، ومزقت روابطهم، وكلن لها في حياتهم العامة والخاصة أسوأ الأثر.

ويعتقدون كذلك أن النظام النيابي، بل حتى البرلماني، في غنى عن نظام الأحزاب بصورتها الحاضرة في مصر . وإلا لما قامت الحكومات الائتلافية في البلاد الديمقراطية ، فالحجة القائلة ل، النظام البرلماني لا يتصور إلا بوجود الأحزاب حجة واهية، وكثير من البلاد الدستورية البرلمانية تسير على نظام الحزب الواحد، وذلك في الإمكان.

كما يعتقد الإخوان أن هناك فارقا بين حرية الرأي والتفكير والإبانة والإفصاح والشورى والنصيحة- وهو ما يوجبه الإسلام- وبين التعصب للرأي والخروج على الجماعة، والعمل الدائب على توسيع هوة الانقسام في الأمة، وزعزعة سلطان الحكام، وهو ما تستلزمه الحزبية، ويأباه الإسلام، ويحرمه أشد التحريم، والإسلام في كل تشريعاته إنما يدعو إلى الوحدة والتعاون.

هذا مجمل نظرات الإخوان إلى قضية الحزبية والأحزاب في مصر . وهم لهذا قد طلبوا إلى رؤساء الأحزاب منذ عام تقريبا أن يطرحوا هذه الخصومة جانبا، وينضم بعضهم إلى بعض، كما اقترحوا التوسط في هذه القضية على صاحب السمو الأمير محمد على وصاحب السمو الأمير عمر طوسون.. . كما طلبوا من جلالة الملك: حل تلك هذه الأحزاب القائمة، حتى تندمج جميعا في هيئة شعبية واحدة تعمل لصالح الأمة على قواعد الإسلام).

وكان الأستاذ البنا يفرق جيدا بين السياسة والحزبية، ويقول: أما أننا سياسيون ، فنعم، ولا نتحرج من ذلك. وأما إننا حزبيون، فلا.

وفي (مؤتمر طلبة الإخوان ) بين الأستاذ البنا رأيه في مسألة الأحزاب والحزبية، بصراحة ووضوح، ذاكرا أن هذا رأي خاص له، قال- رحمه الله : ( وإن لي في الحزبية السياسية آراء هي لي خاصة ولا أحب أن أفرضها على الناس، فإن ذلك ليس لي ولا لأحد، ولكني كذلك لا أحب أن اكتمها عنهم، وأرى أن واجب النصيحة للأمة- وخصوصا في مثل هذه الظروف- يدعوني إلى المجاهرة بها وعرضها على الناس في وضوح وجلاء، وأحب كذلك أن يفهم جيدا أني حينما أتحدث عن الحزبية السياسية فليس معنى هذا أنني أعرض لحزب دون حزب، أو أرجح أحد الأحزاب على غيره، أو أن انتقص أحدها وأزكي الآخر، ليس ذلك من مهماتي، ولكني سأتناول المبدأ من حيث هو، وسأعرض للنتائج والآثار المترتبة عليه، وأدع لحكم على الأحزاب للتاريخ وللرأي العام والجزاء الحق لله وحده "يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا" (آل عمران: 30).

أعتقد أيها السادة ، أن الحزبية السياسية إن جازت في بعض الظروف وفي بعض البلدان، فهي لا تجوز في كلها، وهلا لا تجوز في مصر أبدا، وخاصة في هذا الوقت الذي نستفتح فيه عهدا جديدا، ونريد أن نبني أمنا بناء قويا يستلزم تعاون الجهود وتوافر القوى، والانتفاع بكل المواهب والاستقرار الكامل والتفرغ التام لنواحي الإصلاح).

ثم بين الأستاذ خطرا آخر للتحزب، وهو: ( أن التدخل الأجنبي في شئون الأمة ليس له من باب إلا التدابر والخلاف، وهذا النظام الحزبي البغيض، وأنه مهما انتصر أحد الفريقين فإن الخصوم بالمرصاد، يلوحون له بخصمه الآخر).

ثم قال بعد ذلك: ( وإذا جاز لبعض الأمم التي استكملت استقلالتها وفرغت من تكوين نفسها أن تختلف وتتحزب في فرعيات الأمور، فإن ذلك لا يجوز في الأمم الناشئة أبدا).

ثم أعاد ما ذكره في أكثر من رسالة وهو : ( أن هذه الأحزاب المصرية الحالية أحزاب مصنوعة أكثر منها حقيقية، وأن العامل في وجودها شخصي أكثر منه وطني ، وأن المهمة والحوادث التي كونت هذه الأحزاب قد انتهت، ويجب أن ينتهي هذا النظام بانتهائها).

ومع إعلان الإمام البنا أن موقفه من الحزبية رأي خاص له لا يفرضه على أحد، فالواقع أن هذا هو الرأي الذي ساد بين الإخوان ، وجرى عليه فقههم وتربيتهم.

حسن البنا يرى أن الإسلام لا يقر الحزبية

ثم قال الإمام : ( وبعد هذا كله أعتقد أيها السادة أن الإسلام وهو دين الوحدة فل كل سيء، وهو دين سلامة الصدور، ونقاء القلوب، والإخاء الصحيح، والتعاون الصادق بين بني الإنسان جميعا فضلا عن الأمة الواحدة والشعب الواحد، لا يقر نظام الحزبية ولا يرضاه ولا يوافق عليه، والقرآن الكريم يقول : " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا" (آل عمران: 103) ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هل أدلكم على أفضل من درجة الصلاة والصيام؟ قالوا: بلى يا رسول الله . قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هل الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين".

وكل ما يستتبعه هذا النظام الحزبي: من تنابز وتقاطع، وتدابر وبغضاء، يمقته الإسلام أشد المقت، ويحذر منه في كثير من الأحاديث والآيات، وتفصيل ذلك يطول، وكل حضراتكم به عليم).

طلب حل الأحزاب المصرية

وقد عاد إلى موضوع الأحزاب، في كتاباته في جريدة (الإخوان المسلمون ) اليومية، عندما تحدث عن مشكلات النظام الإسلامي السياسية والاقتصادية، وعن الدستور والقانون والأحزاب، ثم قال: (ولا أدري إذا كان الأمر كذلك، فلا ندري ما الذي يفرض على هذا الشعب الطيب المجاهد المناضل الكريك: هذه الشيع والطوائف من الناس التي تسمي نفسها الأحزاب السياسية؟

إن الأمر جد خطير، ولقد حاول المصلحون أن يصلوا إلى وحدة ولو مؤقتة لمواجهة هذه الظروف العصيبة التي تجتازها البلاد، فيئسوا وأخفقوا، ولم يعد الأمر يحتمل أنصاف الحلول، ولا مناص بعد الآن من أن تحل هذه الأحزاب جميعا، وتجمع الأمة في حزب واحد يعمل لاستكمال استقلالها وحريتها، ويضع أصول الإصلاح الداخلي العام، ثم ترسم الحوادث بعد ذلك للناس طرائق في التنظيم في ظل الوحدة التي يفرضها الإسلام).اهـ.

وقفة نقد وتحليل

كان هذا هو رأي الإمام البنا وخلاصة فكره في قضية الأحزاب والحزبية، فهو لا يرى التعددية الحزبية، بل يرى النظام الحزبي في أساسه يتعارض مع التعاليم الإسلامية: لأنه يقوم على التفرق والاختلاف، والإسلام يدعو إلى التوحد والائتلاف، ولم يكن عنده مانع من قبول نظام الحزب الواحد.

وأكد ذلك لديه حدة الخلاف والتفرق والخصومة، التي كانت سائدة بين الأحزاب المصرية في ذلك الوقت، وأنها لم تكن خلافا على مبادئ وأفكار، بل على مغانم وأشخاص.

ولهذا دعا بصراحة على حل الأحزاب القائمة كلها، والاستعاضة عنها بتكتل أو اتحاد يضم الجميع، ويعمل لصالح الوطن.

ولو أن نقد الأستاذ – رحمه الله- اقتصر على الأحزاب وزعمائها، ووجوب تبديلها بما هو خير منها، مع الإبقاء على التعدد الحزبي، باعتباره مبدأ لا يستغنى عنه، ما خالفناه فيما ذهب إليه، ولكن الخطر فيما قاله، في دعوته إلى إلغاء النظام الحزبي في ذاته، وإنكاره لتعدد الأحزاب وأنه ضد الإسلام.

وأعتقد أن ما قاله في رسائله كان له تأثيره في رجال ثورة 23 يوليو ، وفي جمال عبد الناصر خاصة، الذين ألغوا الأحزاب، والنظام الحزبي في مصر ، وجمعوا الشعب كله- فيما زعموا- تحت راية (الاتحاد القومي)، ثم (الاتحاد الاشتراكي) فيما بعد، وهو الذي انتهى ب مصر على ديكتاتورية طاغية، حكمت البلد بالحديد والنار، وأخرست صوت كل معارض، وقادت كل من قال : لا ، على السجون والمعتقلات، بل ربما إلى المشانق والمقاصل.

ولم يكن الأستاذ البنا - قطعا- يقصد إلى هذا ، ولكن هذه نتيجة إلغاء التعددية، وانفرد الرأي الواحد أو الحزب الواحد بالحكم والتوجيه والتأثير . وهو اجتهاد منه – صلى الله عليه وسلم- يؤجر عليه، ولكن الأيام أثبتت خطأه، وأن الخير كل الخير في التعددية، وهو الموافق للنظام الكوني كله، فهو يقوم على التعددية في كل سيء ، تعدد الأجناس :" وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" (الحجرات: 13) وتعدد الألسنة، وتعدد الألوان:" ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين" (الروم: 22) وتعدد الأديان:" ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين"(هود: 118) ، أي للاختلاف خلقهم. ولا غرو أن خالفت أستاذي وإمامي حسن البنا - كما خالفت تلاميذ أئمتنا الكبار (أبو يوسف، ومحمد ، وزفر) إمامهم الأعظم- وانتهيت على أن التعدد مشروع.

وكان من أبرز الأدلة التي سقتها من قديم على شرعية التعدد أن سيدنا عليا – رضي الله عنه- أقر وجود جماعة (الخوارج) وهم حزب معارض، له تجمعه، وله قيادته، وأفكاره المعروفة المخالفة لرأي أمير المؤمنين علي وفكره، وقد قاتلوه قبل ذلك، وزعموا أنه حكم الرجال في دين الله، ولا حكم إلا لله.

وحينما جابهوه بقولهم: لا حكم إلا لله، قال كلمته التاريخية البليغة: كلمة حق يراد بها باطل.

ثم قال لهم: لكم علينا ثلاث: ألا نمنعكم مساجد الله تصلون فيها معنا، وأن يكون حقكم في الفئ إذا كانت أيديكم في أيدينا وسيوفكم مع سيوفنا وألا نبدأكم بقتال.

وقد ناديت منذ سنين طويلة بمشروعية تعدد الأحزاب في الدولة الإسلامية، وكتبت في ذلك فتوى، حين سئلت عن الموضوع، وقلت كلمة تناقلها الدعاة والإعلاميون، وهي: أن تعدد الأحزاب في السياسة أشبه بتعدد المذاهب في الفقه. فالأحزاب إنما هي مذاهب في السياسة، والمذاهب إنما هي أحزاب في الفقه.

وكانت هذه الأفكار في المجتمع الإخوان ي- إلا قليلا منهم- في أول الأمر مرفوضة، لما رسخ في أذهانهم من قبل، من جراء التربية السياسية التي توارثوها عن إمامهم البنا رضي الله عنه.

ولكن بمزيد من اللقاءات والحوارات، كتابة ومشافهة وبحكم الواقع وتأثيراته، وما خبره الإخوان أنفسهم من جناية تحكم الحزب الواحد على حياتهم وحريتهم ودعوتهم، استجاب جمهورهم إلى فكرة التعدد، بل اقتنعت القيادة بالفكرة، وأصدر مكتب الإرشاد قرارا تاريخيا في ذلك،يدل على حيوية الجماعة وتحررها من الجمود والتقليد، وأن الحق أحث أن يتبع، وإن خالف رأي مؤسس الجماعة- رحمه الله.

(8)

حماية الأقليات والأجانب

والدعامة الثامنة من دعائم التربية السياسية عند حسن البنا  : التركيز على حسن الصلة بغير المسلمين عموما. ما داموا مسالمين للمسلمين، وعلى المواطنين منهم خصوصا ممن يعيشون في دار الإسلام.

وقد لاحظنا أن حسن البنا تحدث عن الوحدة الوطنية في مصر ، وعن الوحدة القومية بين بلاد العرب بعضها وبعض، وتحدث عن الوحدة الإسلامية بين أوطان المسلمين في المشرق والمغرب. لتكون منها (كتلة إسلامية ) ترد كيد العدو، وتشد أزر الصديق.

وحين كان يتحدث عن الوحدة الوطنية، كان تركيزه الأكبر على أسباب الخلاف التي تفرق الأمة، وتجعلها فرقا وشيعا، يخاصم بعضها بعض، وتكيد بعضها لبعض، وذلك يتمثل في الأحزاب السياسية المتناحرة المتنافرة، المتهافتة على كراسي الحكم، وسلطان الوزارة أو المجلس النيابي، أو مجلس الشيوخ.

وقد يتعرض إلى الجمعيات الدينية وما بينها من خلاف على بعض الأمور التي تتعلق بفرعيات العقيدة، أو جزئيات الشريعة، أو تفصيلات السلوك، وكثيرا ما بين أن الاختلاف في الفروع مطلوب، ولا مفر منه، وأن الإجماع على الأمور الفرعية متعذر، متكئا على قاعدة المنار الذهبية : (نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه).

ولكني لم أجد البنا - رحمه الله- في خلال حديثه عن الوحدة يتحدث عن الوحدة بين المسلمين والأقباط المسيحيين، إذ كانت العلاقة بين الطرفين فيما يبدو طيبة، ولم تثر هذه الفتنة الملعونة- فتنة الطائفة- في ذلك الوقت، بل كانت الوحدة هي النغمة السائدة، وكانت الصلات الحسنة بين المسلمين والمسيحيين بصفة عامة.

وكان الأستاذ البنا على علاقة طيبة بكثير من الأقباط في مصر ، وكثيرا ما زار كنائسهم.

وكان في اللجنة السياسية العليا في المركز العام للإخوان –وخصوصا إبان احتدام القضية الوطنية- اثنان من زعماء الأقباط المرموقين وهما، وهب دوس، ولويس فانوس.

وأذكر أن الأستاذ البنا عندما كان يحضر في المؤتمرات الوطنية الكبرى التي كانت تعقد في عواصم المديريات (المحافظات) في مصر ، لشرح المطالب الوطنية، التي تحددت في جلاء الإنجليز، ووحدة وادي النيل، كان حريصا على أن يصطحب أحد إخوان الأقباط المتخصصين في قضية (قناة السويس ). وكان اسمه 0 على ما أذكر- نصيف ميخائيل.

وحينما حضر إلى مؤتمر طنطا كان معه، وقدمه ليحدثنا عن هذه القضية المهمة، التي لم يكن الناس يتحدثون فيها، وعن حق مصر فيها، وعن تضحياتها التاريخية في حفرها وإنشائها، وعن تلاعب فرنسا وانجلترا بها... إلى آخره.

ولم يكن حرص الأستاذ البنا على اصطحاب هذا الأخ القبطي (نصيف ميخائيل) إلا ليكون رمزا على الوحدة الوطنية، ودليلا على التسامح الإسلامي، وسدا لثغرة يتسلل منها الاستعمار عادة إلى التفرقة بين أبناء البلد الواحد (فرق تسد).

وأذكر من مقالات مجلة (الإخوان المسلمون ) الأسبوعية، مقالة بقلم حسان حتحوت بعنوان (أخي جرجس) تفيض حبا وعطفا على الإخوة الأقباط، وينقل عن حسن البنا ، أنه كان أكثر الناس دعوة إلى الحب ونبذ الكراهية والبغضاء، ومما نقله عن قوله، سنقاتل الناس بالحب.

ولم يهتم الإخوان يوما، وخصوصا في عهد حسن البنا - بأنهم دعاة عصبية طائفية، أو محرضون على فتنة. وهذا سر ما لمسته من عدم كتابة حسن البنا حول موضوع الأقلية القبطية في زمنه.

كل الذي وجدته، ما كتبه عن حماية الإسلام للأقليات عموما، وذلك في رسالة (نحو النور) وهي في الأصل خطاب بعث إليه إلى الملك فاروق ملك مصر و السودان ، وغلى رفعة الرئيس مصطفى النحاس (باشا)- رئيس الحكومة المصرية حينذاك. وإلى عدد من ملوك وحكام بلدان العالم الإسلامي كما بعث إلى عدد من الشخصيات المهمة والمرموقة في الأقطار العربية والإسلامية.

فكان مما جاء في هذه الرسالة تحت عنوان: (الإسلام يحمي الأقليات، ويصون الأجانب):

( يا صاحب...

يظن الناس أن التمسك بالإسلام وجعله أساسا لنظام الحياة، ينافي وجود أقليات غير مسلمة في الأمة المسلمة، وينافي الوحدة بين عناصر الأمة، وهي دعامة قوية من دعائم النهوض في هذا العصر، ولكن الحق غير ذلك تماما، فإن الإسلام- الذي وضعه الحكيم الخبير الذي يعلم ماضي الأمم وحاضرها ومستقبلها- قد احتاط لتلك العقبة وذللها من قبل، فلم يصدر دستوره المقدس الحكيم إلا وقد اشتمل على النص الصريح الذي لا يحتمل لبسا ولا غموضا في حماية الأقليات، وهل يريد الناس أصرح من هذا النص: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين". (الممتحنة:8).

فهذا نص لم يشتمل على الحماية فقط، بل أوصى بالبر والإحسان إليهم.

وأن الإسلام الذي قدس الوحدة الإنسانية العامة في قوله تعالى:" يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" (الحجرات: 13).

ثم قدس الوحدة الدينية العامة كذلك فقضى على التعصب، وفرض على أبنائه الإيمان بالرسالات السماوية جميعا، في قوله" قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون، فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكم الله وهو السميع العليم،صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة" (البقرة: 136- 138).

ثم قدس بعد ذلك الوحدة الدينية الخاصة في غير صلف ولا عدوان، فقال تبارك وتعالى:" إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون" (الحجرات: 10).

هذا الإسلام الذي بني على هذا المزاج المعتدل، والإنصاف البالغ: لا يمكن أن يكون أتباعه سببا في تمزيق وحدة متصلة ، بل العكس، إنه أكسب هذه الوحدة صفة القداسة الدينية بعد أن كانت تستمد قوتها من نص مدني فقط.

وقد حدد الإسلام تحديدا دقيقا من يحق لنا أن نناوئهم ونقاطعهم ولا نتصل بهم، فقال تعالى بعد الآية السابقة:" إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون" (الممتحنة: 9).

وليس في الدنيا منصف واحد يكره أمة من الأمم على أن ترضى بهذا الصنف دخيلا فيها، وفسادا كبيرا بين أبنائها ونقصا لنظام شئونها.

ذلك موقف الإسلام من الأقليات غير المسلمة، واضح لا غموض فيه ولا ظلم معه.

وموقفه من الأجانب موقف سلم ووفق ما استقاموا وأخلصوا، فإن فسدت ضمائرهم وكثرت جرائمهم، فقد حدد القرآن موقفنا منهم بقوله:" يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون، ها أنتم تحبونهم ولا يحبونكم" (آل عمران :118، 119).

وبذلك يكون الإسلام قد عالج هذه النواحي جميعا أدق العلاج، وأنجحه وأصفاه).

موقف الإسلام من العلاقة مع الغرب

كما تعرض الأستاذ البنا إلى علاقة الإسلام بالغرب، وبالدول الغربية، فقال في نفس السياق: ( وقد يظن الناس كذلك أن نظم الإسلام في حياتنا الجديدة تباعد بيننا وبين الدول الغربية، وتعكر صفو العلائق السياسية بيننا وبينها بعد أن كانت صادقتنا بإخلاص وتبودلت الثقة بينها وبيننا، فقد صرح خطباؤها وساستها بأن كل دولة حرة في النظام الذي تسلكه في داخل أرضها، ما دام لا يمس حقوق الآخرين، فعلى ساسة هذه الدول جميعا أن يفهموا أن شرف الإسلام الدولي هو أقدس شرف عرفه التاريخ، وأن القواعد التي وضعها الإسلام الدولي لصيانة هذا الشرف وحفظه أرسخ القواعد وأثبتها.

فالإسلام الذي يقول في المحافظة على التعهدات وأداء الالتزامات: " وأوفوا بالعد إن العهد كان مسئولا" (الإسراء:34)، ويقول " إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم على مدتهم إن الله يحب المتقين" (التوبة : 4)، ويقول : " فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم" (التوبة: 7)، ويقول في إكرام اللاجئين وحسن جوار المستجير : " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه" (التوبة: 6) ، وهذا بالمشركين: فكيف بالكتابيين؟

فالإسلام الذي يضع هذه القواعد ويسلك بأتباعه هذه الأساليب ، يجب أن يعتبره الغربيون ضمانة أخرى، تضمن لهم حقوقهم. نقول: إنه من خير أوربا نفسها أن تسودها النظريات السديدة في معاملات دولها بعضها لبعض، فذلك خير أهم وأبقى).

خاتمة البحث

هذه معالم التربية السياسية عند الإمام البنا ، إنها تربية جديدة تخالف التربية التي كانت تقوم عليها الأحزاب والمنظمات السياسية، إن صح أن كان لديها تربية من نوعه ما. كما تخالف التربية التي كانت سائدة عند الجمعيات الدينية والطرق الصوفية في ذلك الوقت، حيث كان الاتجاه العام في تحريم الاشتغال بالسياسة.

كانت تربية حسن البنا للإخوان تربية إسلامية خالصة، لأنها تستمد مقوماتها مفاهيمها من الإسلام وحده، ومعنى إسلامية التربية عند الإمام حسن البنا - رحمه الله- أنها إسلامية المصدر، وإسلامية الغاية، وهذا ما لا خلاف عليه، وإن كنا قد نخالفه في بعض الجزئيات التي يرى فها رأيا، ونرى رأيا آخر، كما في قضية الحزبية، ووقوفه ضدها، وقضية التجنس بجنسية غير إسلامية، وتشدده في تحريمها.

لكي نكون منصفين

ولابد لكي نقوم آراء الأستاذ البنا تقويما عادلا أن نضعها في إطار زمنها وبيئتها وظروفها، فقد يتشدد الأستاذ في أمور، نحن نتساهل فيها اليوم، بمقتضى التطور العالمي، واقتراب الناس بعضهم من بعض، وحاجة العالم بعضه إلى بعض، وتغير صفة بعض الدول من دول استعمارية ظالمة للمسلمين، على دول حليفة أو شريكة للمسلمين. كما أن الأستاذ في بعض كتبه كان في عنفوان الشباب، بما فيه من حماس للحق، وثرة على الباطل، واندفاع في المواجهة.

مثال ذلك: رأى الأستاذ في التجنس بجنسية أجنبية ، فهو يراه محرما من المحرمات القطعية، بل كبيرة من الكبائر الدينية، بل قد يؤدي بمرتكبه إلى الكفر الصريح، والردة عن الإسلام.

هكذا أجاب حين سأله سائل عن نية الحكومة البريطانية إصدار قانون للجنسية لبعض من يقيمون في أرضها من الأجناس الأخرى. وبطبيعة الحال من يحمل جنسية أي بلد من البلدان، لابد أن يكون مواليا لها، وأن يحترم نظامها، ويطيع أوامرها، وقد يحارب في جيشها من يحاربها أو تحاربه.

ويقول الأستاذ في هذه الإجابة أو هذه الفتوى : ( مجرد تجنس المسلم بأي جنسية أخرى لدولة غير إسلامية كبيرة من الكبائر، توجب مقت الله وشديد عقابه، والدليل على ذلك ما رواه أبو داود عن أنس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ك " من ادعى لغير أبيه أو انتمى لغير مواليه، فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة" والآية الكريمة تشير إلى هذا المعنى، وهي قول الله تبارك وتعالى: " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين" (آل عمران: 28)، فكيف إذا صحبه بعد ذلك واجبات وحقوق تبطل الولاء بين المسلمين، وتمزق روابطهم، وتؤدي إلى أن يكون المؤمن، في صف الكافر أمام أخيه المؤمن، وإن خيرا للمسلم أن يدع هذه الديار وأمثالها إن تعذرت عليه الإقامة فيها إلا بمثل هذه الوسيلة وأرض الله واسعة : " ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة " (النساء : 100) والله أعلم)

وقد كتب الأستاذ مثل هذه الفتوى بعد ثلاث سنوات، في سياق آخر، حين أرادت إيطاليا التي كانت تحتل برقة وطرابلس الغرب وغيرهما من البلاد التي عرفت باسم (ليبيا )، وكانت تريد أن تجنس الطرابلسيين وإخوانهم من أهل ليبيا بالجنسية الإيطالية، رغم أنوفهم، تريد أن تسلبهم جنسيتهم الأصلية، وتمنحهم جنسية المستعمر الغاشم.

ومن الواضح أن السؤال ي هذه الصورة، غير السؤال في الصورة السابقة ولكن الإمام – رحمه الله- أجاب إجابة عامة بتحريم التجنس بأي جنسية أجنبية، فهو يقول بعد الحمد والصلاة على رسول الله .

( فالذي نعلمه من دين الله تبارك وتعالى: أن التجنس بجنسية غير إسلامية لا يجوز في دين الله تبارك وتعالى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : م" من ادعى لغير أبيه أو انتمى لغير مواليه ، فعليه لعنة الله لا يقبل منه صرفا ولا عدلا، والتجنس بجنسية غير إسلامية يدخل تحت الشطر الثاني من الحديث الشريف، فإن رضي المتجنس بالدخول في جنس الكفار، ورأى ذلك أفضل من قوميته الإسلامية... فهو كفر صراح وخروج عن الدين، وإن لم يرض بذلك، ولكنه قله- وهو يستطيع الخلاص منه- فهي كبيرة من أفظع الكبائر).

وفتوى الأستاذ هنا في تحريم التجنس في الحالة المسئول عنها صحيحة بلا ريب، ولكن التعميم في التحريم هو الذي نتوقف فيه، ولا نوافق عليه.

وقد بنى ذلك على أساس قد لا نسلم له، وهو تأويل حديث : أو انتمى إلى غير مواليه"، حيث اعتبر التجنس انتماء إلى غير مواليه، والمراد به في الحديث : انتماء المعتق إلى غير من أعتقه، وهذا يترتب على حقوق في الميراث وغيره.

وقد علق الأستاذ جمعة أمين جامع هذه السلسلة من تراث البنا بقوله في حاشية فتوى التجنس بالجنسية الإنجليزية : ( يجب على القارئ أن يتحضر الظروف التاريخية والسياسية التي زامنت صدور هذه الفتوى، وإلا فالفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والشخص والحال، كما قرر المحققون من علماء الأمة، وفي تلك الفترة كانت إنجلترا والدول الأجنبية تحتل معظم العالم الإسلامي، وكانت تجند من يتجنس بجنسيتها في جيوشها، وتستخدمهم في إحكام قبضتها على تلك الدول، ومحاربة المسلمين فيها وإخضاعهم لسلطانها).

وفي نهاية فتوى الطرابلسيين قال الأستاذ : ( ولقد عرض علينا مثل هذا السؤال بالنسبة لتجنس بعض التونسيين بالجنسية الفرنسية فذكرنا نحوا من هذا، وقد أفتى بنحوه علماء الإسلام، والكفر ملة واحدة من الله على المسلمين بالحرية وقرب يوم الإنقاذ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم).

وهنا علق جامع هذه السلسلة بقوله:

يوضح الشيخ القرضاوي ملابسات هذا الاتجاه في الفتوى فيقول : ( أخذ الجنسية من بلد غير إسلامي يعتبر أحيانا خيانة لله ورسوله وللمؤمنين، وذلك في حالة الحرب بين المسلمين وغيرهم ممن يحاربون الإسلام، ولذا أفتى علماء تونس وقت الاحتلال الفرنسي أن أخذ الجنسية الفرنسية يعد خروجا وردة عن الإسلام، لأن هذا سبيل من سبل المقاومة والاحتلال، وسلاح من أسلحة الجهاد، ولكن في الأوقات العادية فالمسلم الذي يحتاج للسفر إلى بلاد غير إسلامية تعطيه الجنسية قوة ومنعة، فلا يحق للسلطات طرده، ويكون له حق الانتخاب، مما يعطي قوى للمسلمين في هذه البلاد، حيث يخطب المرشحون ودهم ، ولذا فحمل الجنسية ليس في ذاته شرا ولا خيرا، وإنما تأخذ الحكم حسب ما يترتب على أخذ هذه الجنسية من النفع للمسلمين أو الإضرار بهم، مثل أخذ الفلسطينيين خاصة الجنسية الإسرائيلية، فإن هذا يعد اعترافا ضمنيا بدولة إسرائيل، ولكن أخذ الجنسية في دولة من دول الغرب بغرض تقية شوكة المسلمين هناك فلا حرمة في هذا ).

الخلاصة

إن التربية السياسية للأستاذ البنا : كانت تربية إسلامية متوازنة ومتكاملة، وكانت تربية إيجابية واعية، تقوم على الفهم لا التهريج، وعلى العمل لا الكلام، وعلى البنا ء لا الهدم، وعلى الحق لا الهوى، وعلى التضحية وإنكار الذات، لا على المغانم واتباع الشهوات. وكان لهذه التربية الإيجابية ثمارها وفوائدها في الأنفس والحياة.

كان من ثمرات هذه التربية ما رأيناه من نتائج وآثار نفسية وفكرية وأخلاقية وعملية، تجلت في عالم الواقع، وعالم الأفكار والمشاعر، ومن ذلك:

أ‌- مطاردة عوامل اليأس والإحباط في الأمة، نظرا للمحن والشدائد التي نزلت بها طوال القرون الماضية، حتى عهد الاستعمار ، وما خلفه من حكومات وطنية لم تحقق آمال شعوبها في الاستقلال الكامل، وتحقيق التنمية المطلوبة، والتقدم المنشود للأمة، وإقامة العدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية، وخروجها من التبعية الفكرية والثقافية والاقتصادية والتشريعية وللأجنبي، وغرس الأمل في قلوبها، بأن الغد لها، وأن النصر آت لا ريب فيه بمقتضى سنن الله تعالى.

ب‌- الطموح إلى الآفاق العالية التي تجلت في أنفس المؤمنين، والإيمان بأهداف كبرى في الحياة، لا يطمح إليها، ولا يفكر فيها إلا أصحاب الهمم الكبيرة، بمثل قول الإمام الشهيد في تحديد مراتب العمل أمام الأخ المسلم:

1- إرشاد المجتمع، بنشر دعوة الخير فيه، ومحاربة الرذائل والمنكرات، وتشجيع الفضائل، والأمر بالمعروف، والمبادرة إلى فعل الخير، وكسب الرأي العام إلى جانب الفكرة الإسلامية، وصبغ مظاهر الحياة العامة بها دائما، وذلك واجب كل أخ على حدته، وواجب الجماعة كهيئة عاملة.

2- وتحرير الوطن بتخليصه من كل سلطان أجنبي غير إسلامي سياسي أو اقتصادي أو روحي.

3- وإصلاح الحكومة حتى تكون إسلامية بحق، وبذلك تؤدي مهمتها كخادم للأمة وأجير عندها وعامل على مصلحتها، والحكومة إسلامية ما كان أعضاؤها مسلمين مؤدين لفرائض الإسلام غير متجاهرين بعصيان، وكانت منفذة لأحكام الإسلام وتعاليمه.

4- إعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية، بتحرير أوطانها، وإحياء مجدها، وتقريب ثقافتها، وجمع كلمتها، حتى يؤدي ذلك كله إلى إعادة الخلافة المفقودة والوحدة المنشودة.

5- وأستاذية العالم بنشر دعوة ألإسلام في ربوعه، " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله" (الأنفال: 39) ، " ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون" (التوبة: 32).

جـ- احتشاد الطاقات النفسية والعملية للأمة، وتفجير مكنوناتها المذخورة، لتحقيق تلك الأهداف العظيمة، من خلال الإيمان برسالة سامية،رسالة ربانية أخلاقية إنسانية عالمية، قدمت من قبل للبشرية حضارة ربطت الأرض بالسماء، ووصلت المخلوق بالخالق، ومزجت المادة بالروح، وجمعت بين الدين والدنيا.

د- وجود الكتلة إسلامية ضخمة، تمتد من المحيط إلى المحيط، تعمل بالإسلام، وتعمل للإسلام، وتجاهد في سبيل الإسلام، فعبرت عن ذاتها، وعاشت لخير غيرها، رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، وبالقرآن منهاجا، تآخت في الله على اختلاف أوطانها، واختلاف ألوانها، واختلاف ألسنتها، ولكن جمع بينها الإيمان، وربط بينها القرآن، فأمست قرة أعين المؤمنين، وغصة في حلوق أعداء الحق، وأنصار الإثم والعدوان.

موجز لرؤيتنا في الإصلاح والتغيير

جمعة أمين

ابتداء لابد أن نعي جيدا أن رسالة الإسلام :

· رسالة تربية قبل أن تكون رسالة تشريع وتنظيم

· ورسالة أخلاق وعقائد قبل أن تكون رسالة قتال وجهاد

· ورسالة قيم ومبادئ قبل أن تكون رسالة اتساع وانتشار

من أين؟

ولذلك كانت أولى خطوات التغيير والإصلاح موجهة إلى القلب والنفس، ومن أجل ذلك كانت وحدة القلوب المؤمنة سابقة على وحدة الصفوف بالتنظيم والتخطيط، ومن هذا التوجيه الرباني علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أين نبدأ، بدأ بالصلاح قبل الإصلاح، صلاح الإنسان، لأنه أداة التغيير، فنحن في حاجة إلى :

1- يقظة الأرواح وحياة القلوب.

2- وصحوة الوجدان والمشاعر.

3- نفوس حية قوية فتية، تتصور مثلا عليا أهدافا سامية لتسمو نحوها.

يقول الإمام البنا  : " إن تكوين الأمم، وتربية الشعوب، وتحقيق الآمال، ومناصرة المبادئ تحتاج إلى الأمة التي تحاول هذا، أو من الفئة التي تدعو إليه على الأقل إلى قوة نفسية عظيمة تتمثل في عدة أمور: إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل، ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له، يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره على هذه الأركان الأولية التي هي من خصوص النفوس وحدها، وعلى هذه القوة الروحية الهائلة تبنى المبادئ وتتربى الأمم الناهضة، وتتكون الشعوب الفتية، وتتجدد الحياة فيمن حرموا الحياة زمنا طويلا.

وكل شعب فقد هذه الصفات الأربع، أو على الأقل فقدها قواده ودعاة افصلاح فيه، فهو شعب عابث مسكين، لا يصل إلى خير، ولا يحقق أملا، وحسبه أن يعيش في جو من الأحلام والظنون والأوهام " إن الظن لا يغني من الحق شيئا " (يونس : 36).

ومن أجل ذلك قذف رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلوب صحابته مشاعر ثلاثة:

(هنا صفحتان مفقودتان ص 180- 181)

4- العلم الغزير (علم الدنيا والدين).

5-الخلق الفاضل القوي المتين والنفس العالية الطموحة.

6- المال والاقتصاد.

7- نظم الفرد والأسرة والأمة والحكومات والعلاقات بين الأمم، والوسيلة لتحقيق ذلك ذات أركان ثلاثة:

أ‌- المنهاج الصحيح.

ب‌- العاملون المؤمنون.

جـ- القيادة الحازمة الموثوق بها.

ومن مميزات هذا المنهج أنه ثابت المنحى، وئيد الخطى، لا تستثيره الأحداث العابرة،ولا تخرج به عن مرسوماته العواطف الثائرة، ولذلك فإن الإمام البنا يقول: " أيها الإخوة، وبخاصة المتحمسون المتعجلون منكن، اسمعوها مني كلمة عالية مدوية، من فوق هذا المنبر في مؤتمركم هذا الجامع، إن طريقكم هذه مرسومة خطواته، موضوعة حدوده، ولست مخالفا هذه الحدود التي اقتنعت بها كل الاقتناع بأنها الطريق للوصول، أجل، قد تكون طريقا طويلة، ولكن ليس هناك غيرها، إنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة، والجد والعمل الدائب، فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرة قبل نضجها، أو يقطف زهرة قبل أوانها، فلست معه في ذلك بحال، وخير له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلى غيرها من الدعوات، ومن صبر معي حتى تثمر البذرة، وتنبت الشجرة، وتصلح الثمرة، ويحين القطاف، فأجره على الله، ولن يفوتنا وإياه أجر المحسنين (إما النصر والسيادة، وإما الشهادة والسعادة)".

التغيير ومنهج التربية

إن عملية التغيير يجب أن تكون ضمن منهج تربوي متكامل، وفي نطاق خطة تتحقق فيها تربية الأفراد تربية شاملة تصل إلى الأهداف المنشودة والآمال المعقودة، وسط قاعدة جماهيرية، آمنت بالفكرة إيمانا يدفعها إلى التضحية من أجل تحقيقها والتفاعل معها لتصبح سدا منيعا في وجه أعداء الإسلام، ولكي نبدأ العمل دون طاقات مهدرة يجب التأكد من :

1- أن المنهاج محكم وسلمي.

2- وأنه لا خلل يخشى في الصف نتيجة لنقص في التربية.

3- وأنه لا تفكك في التنظيم لأداء العمل.

4- ولا غموض في الرؤية.

5- ولا عجز في الإنجاز والإتقان وتحمل المسئولية.

ومما يعوق العمل أو يوقفه أو ينحرف به:

1- الخطأ في التصور المنهاجي للعمل الإسلامي.

2- الخطأ في عدم الاهتمام بتعميق الرابطة الإيمانية بين الأفراد، وتحقق الأخوة.

3- إهدار الوقت وقيمته من الحساب، فلا احترام لميعاد عمل، ولا تفكير في قيد الزمن.

4- عدم شحذ الإرادات بالشورى.

5- عدم الطاعة في تنفيذ التكاليف وعدم الشعور بالمسئولية.

6- عدم وجود الخبرة اللازمة تربوية تقنية أو إدارية، وعدم التعاون المنظم المنسق المنضبط بعد تحديد المفاهيم، يدر بنا أن نشير إلى أمور مهمة ترتبط ارتباطا وثيقا بالفهم في خطوات الإصلاح والتغيير، ألا وهي:

أولا: أن الهدف من تطبيق المنهج النبوي هو إيجاد واقع عملي إسلامي. تطبق فيه أحكام الشريعة نصا روحيا، ولأنه لا يجب علينا أن نطالب الإسلام بإيجاد الحلول العملية لكل مشاكلنا، قبل أن نجد له الواقع الذي نطبق فيه شريعته وأحكامه.

ثانيا: أن العمل لتحقيق الأهداف المرجوة يجب أن يقوم على أساس التخطيط المرحلي، بحيث لا ينتقل العمل من مرحلة إلى أخرى إلا بعد تحقيق أهداف المرحلة السابقة، وأن يتسم العمل في هذه المراحل بالمرونة، لأن طبيعة العمل في هذه المراحل متداخلة ومترابطة، إذ إن تحقيق أهداف أي مرحلة سابقة سيساعد على تحقيق أهداف المرحلة اللاحقة، كما أن تحقيق جميع هذه المراحل سيساعد على تكوين الأسرة المسلمة، وتكوين الأسرة المسلمة سيساعد على تكوين المجتمع المسلم وهكذا.

ثالثا: أن العمل لتحقيق هذه الأهداف يجب أن يقم على أساس العمل الجماعي، الذي يقوم على أساس وجود قيادة شعبية على رأس طليعة مؤمنة تعمل لتحقيق قيادة الرأي العام الإسلامي بطريقة سليمة، تعتمد التربية المتأنية والإقناع بالحجة وكسب النصير، ثم رأي عالم إسلامي تتضح له الكرة ولا يعادي ويقتنع بالآخر، كل ذلك بتنظيم دقيق تقوم به جماعة ، ذلك لأن العمل الفردي أعجز من أن يحقق هذه الأهداف، ولأن دين الإسلام هو دين الجماعة، ولذلك كان الإمام البنا يعتبر مثل هذا العمل الجماعي، واجبا شرعيا لا يمكن التخلي عنه، لأن يد الله مع الجماعة.

علما بأن مشروعنا الإسلامي لا يمكن أن تقوم به جماعة من الجماعات بمفردها، لأنه مشروع أمة فلابد من تضافر جهود الأمة كلها لتحقيق ذلك الهدف الكبير.

فكيف يتحقق التغيير المطلوب؟

لا يتحقق ذلك إلا بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وتربية الفرد تربية إسلامية تشترك فيها جميع أجهزة الدولة ليصاغ الفرد صياغة إسلامية باعتباره أداة التغيير.

ولذلك لابد من العمل الدءوب على أن تسود قيم وكليات وشرائع الإسلام في واقع الأمة- أفرادا ومؤسسات – عن إرادة واختيار ، دون قهر، أو إجبار، أو عنف، أو إكراه، والعمل بكل الوسائل المشروعة على المحافظة عليها من خلال مؤسسات الدولة المدنية لمؤازرة الجهود لتمكين دين الله في الأرض.

خصائص فهمنا

وعلى هذا يمكن التأكيد على بعض الخصائص الإسلامية المميزة لهذا الفهم وهي:

أولا: أن سيادة الإسلام لا تتم إلا بعد أن تسود في المجتمع حقيقة، وليس شعارا وكلاما مرسلا أو مظهرا، كليات وشرائع الإسلام، مبتدئين بتربية الفرد حتى يتغير من داخله أولا.

ثانيا: أن هذه السيادة لدين ا لله بهذا المعنى تكون شاملة لوحدات المجتمع جميعها، أفرادا ومؤسسات، لأن الإسلام ليس دينا للأفراد فحسب، ولكنه دين الجماعة، متمثلا في مؤسسات المجتمع الخاصة والعامة، لذلك لا تتحقق سيادة الإسلام إلا إذا تناولت كلا من الأفراد والمؤسسات.

ثالثا: أن هذه السيادة لدين الله لا تتحقق في الأمة قسرا أو قهرا أو كرها أو جبرا، لأن الأمر هو إقامة دين، وليس الاستيلاء على السلطة، فالأولى إقامة بناء وتربية وإقناع وإيمان، والثانية سطو وقهر واستيلاء وفرض أمر، ومن ثم فإنه يجب أن يتم عن إرادة واختيار، فالأمر ليس استبدال حكومة بحكومة أخرى بقدر ما هو تغيير منه تفكيري وضعي دنيوي للحياة بمنهج آخر رباني والاستبدال لا يعني سيادة المنهج، ولكن في واقع الأمر يصبح هذا الاستبدال تغييرا شكليا، لا جذر له ولا ساق.

رابعا: إن استمرارية المنهج ودوامه لا يمكن أن تتحقق حالة مؤقتة، فلا يتمشى ذلك وخصائص هذا المنهج من حيث، الدوام والكمال والسمو والشمول والعموم، ولذلك ينبغي أن يقوم المنهج على جذور عميقة وعريقة في المجتمع.

خامسا: أن هذه السيادة لدين الله ليست قضية وطنية أو محلية تهم قطرا دون قطر، ولا قضية إقليمية تهم إقليما دون إقليم، ولكنها قضية أمة، وإلا ما أصبح الإسلام دين العالم أجمع كما أراده الله " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" (الأنبياء: 107).

فكرتنا واضحة

وابتداء يجب أن تكون الفكرة واضحة ومفهومة عند المدعوين حتى يصل المطلوب صحصحا سليما، ذلك لأن من الدعاة من لا يرى في الإسلام غير حدود العبادة، فإن أداها أو رأى من يؤيدها اطمأن على ذلك، ورضي به، وحسبه أنه قد وصل إلى لب الإسلام.

فالإسلام عند بعض الجماعات، بل الأفراد ، نوع من العقائد والشعائر التي لا يزداد عليها، فهي الإسلام، وغير ذلك سياسية يجب الابتعاد عنها، ومنهم من يرى الإسلام كأنه دين عقابي ينحصر في الحدود التي يجب أن تقام، ومنهم من يرى الإٍسلام جهادا بالسيف لا يمكن أن يقام إلا بقوة السلاح مستخدما منطق القوة، وليس منطق الحجة، مخالفا منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يتصور أن سبيل المؤسسات الحزبية والمجالس التشريعية ومؤسسات المجتمع المدني ليست وسائل فحسب، بل هي السبيل إلى التغيير والإصلاح، سواء بالمعارك الكلامية داخل هذه المجالس أو حتى سن القوانين، أو التغيير بالإضرابات، أو حتى العصيان المدني الذي يدعى إليه أحيانا، وهو لا يسمن ولا يغني من جوع، بل قد يضر ضررا بالغا، أمام الحكم الاستبدادي بمفرده، وأكبر دليل على ذلك ما هو حادث من حزب الله في لبنان، مع وجود الحرية الكاملة في التغيير هناك، إلا أننا لا نرى بعد أكثر من شهرين ، أي استجابة لمطالب الذين افترشوا الأرض والتحفوا بالسماء، ولا مجيب والحكومة وأعوانها لا يبالون.

فهل تستوي هذه الأساليب وفكر هؤلاء مع من ينادي بمنهج متكامل دعوة وتربية، ويحمل فكرا بصيرا واقعيا يعرفه أهل الإيمان، ويتعايش معه رجال المواقف والدعوات، لأنه روح جديد يسري في قلب هذه الأمة فيحييه بالقرآن ، ونور جديد يشرق فيبدد ظلام المادة بمعرفة الله، وصوت داو يعلو مرددا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يربي الرجال على أن الإسلام نظام شامل ينتظم مظاهر الحياة جميعا، فهو دولة ووطن، أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة، أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون، أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة، أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة لله سبحانه، فكر يعيش بالحب، ويعلن السلام، ويعلي الأخوة، ويحتضن الجميع، مع اختلاف مللهم، ونحلهم، واعتقاداتهم، لأنه رحمة للعالمين، يقدر خطوه، ويبصر طريقه، ويعرف وجهته، ويوضح هدفه، ويحدد صديقه من عدوه، ويتعامل مع نواميس الكون، ويستعين بالله ويثق بنصره.

إن غايتنا تنحصر في تكوين جيل من المؤمنين بتعاليم الإسلام الصحيح يعمل على صبغ الأمة بالصبغة الإسلامية الكاملة في كل مظاهر حياتها " صبغة الله ومن أسن من الله صبغة" (البقرة: 138) ووسيلتنا في ذلك تنحصر في تغيير العرف العام، وتربية أنصار للدعوة على هذه التعاليم، حتى يكونوا قدوة لغيرهم في التمسك بها، والحرص عليها، والنزول على حكمها، فالفرد المسلم عندنا عن أداة التغيير، ومن هنا يجب البدء به دعوة وتربية حتى تظهر قيادة تشد أزرها، ورأي عام ينادي بما تنادي به القيادة، حتى يشعر المجتمع بضرورة وجودها، وهنا تبرز مسئولية المربين ودورهم في إعداد الأدلة وتهيئتها لهذه المرحلة الحاسمة.

ولذلك لم ينهج الرسول صلى الله عليه وسلم في سبيل الدعوة إلى الحق في أي وقت سوى منهج الحجة الواضحة والحكمة في الإقناع، وأمرع سبحانه بعدم الاستجابة إلى إيذاء معارضيه له ولغوهم في القول، واستكبارهم وعنجهيتهم في سياق الرفض.

فدين الحق يحتفظ للإنسان، حين الإيمان به، بالحرية والمشيئة والاعتبار الإنساني، وترك له أن يكون رقيب نفسه، والله له كل شيء " إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين" (النمر: 91) فهو صلى الله عليه وسلم يذكر دون أن يكره أو يلزم أحدا بها، حتى لا يحرج أحدا في قبولها أو رفضها، ذلك لأن الإكراه في ذاته لا يتفق وكرامة الإنسان، ولا مع حريته الفردية، وإلا أين هذه الحرية في دعوة تقول:" ما أريكم إلا ما أ{ى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد" (غافر: 29) فالإسلام كرسالة من الله إلى الناس جميعا حريص كل الحرص على أن يوفر للفرد الكرامة والإنسانية التي تتمثل في الحرية الفردية، والمؤمنون من أجل ذلك – سواء في القيمة والاعتبار- يسعى بذمتهم أدناهم.

فلا يليق في شأن الداعي إلى ا لله أن يكون مكرها على الدعوة، ولا ملزما إياها في أية صورة من صور الإلزام والإكراه: " وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا، وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا" (الإسراء: 105، 106).

فالقرآن ليس بحاجة إلى إكراه في قبوله، لأن الحق والصدق لازمة في إنزاله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي وحيه إليه، وفي موضوعه ومهمته البشارة والنذارة، وهذا هو تكرين الإنسان في الاختيار ، لا غلظة في التعامل ولا خشونة في الأسلوب، ولا فظاظة في الدعوة، " وقولوا للناس حسنا" (البقرة: 83).

إنه الداعي إلى إنشاء دولة تقيم الحق، وتخفض الباطل، وتمنع الظلم، وتجمع الإنسانية، وتنشر التعاون بين الناس. وتمحو كل الفوارق التي تجعل بعض بني الإنسان يتحكمون في الآخرين، وتمنع الفساد في الأرض.

ولا يتحقق ذلك إلا بأن يربي الداعي فيهم روح العزة والكرامة، وينشئ منهم قوة ترفع الحق، خذا كله لا يتحقق بعنف وإكراه ، ولكن بقلب يحب الإنصاف، والرحمة والمؤاخاة والرفق، وكل ذلك يتطلب تربية معاناة، لأن قيام هذه الدولة المسلمة تطبيق عملي للفضيلة والعدالة والمساواة، ويكون ذلك حجة في الأرض على الذين يدعون أن قيام دولة فاضلة على مبادئ الأخلاق من الأحلام والمنى، بينما هو عمل ثبت تحقيقه، وقامت في الوجود أعلامه.

فليست القوة وسيلة لنشر الفكرة الإسلامية، لأن الدعوة الحقة إنما تخاطب الأرواح، وتناجي القلوب، وتطرق مغاليق النفوس، ومحال أن تثبت بالعصا، أو أن تصل إليها على شبا الأسنة والرماح والسهام، ولكن الوسيلة في انتشار كل دعوة وثباتها معروفة معلومة لكل من له إلمام بتاريخ الجماعات، وخلاصة ذلك جملتان: إيمان وعمل، ومحبة وأخوة.

وللسائل أن يسأل: ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في غرس دعوته في نفوس الرعيل الأول من أصحابه، هل هناك أكثر من أنه دعاهم إلى الإيمان والعمل، ثم جمع قلوبهم على الحب والإخاء، فاجتمعت قوة العقيدة إلى قوة الحق وصارت جماعتهم هي الجماعة النموذجية التي لابد أن تظهر كلمتها وتنتصر دعوتها، وإن ناوأها أهل الأرض جميعا، وماذا فعل الدعاة من قبل ومن بعد أكثر من هذا؟ ينادون بالفكرة ويوضحونها، ويدعون الناس إليها فيؤمنون بها ويعملون لتحقيقها، يجتمعون عليها، ويزدادون عددا فتزداد الفكرة بهم ظهورا وانتشارا حتى تبلغ مداها، وتبتلع سواها، وتلك سنن الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.

ولذلك ما كانت دعوتن بدعا من الدعوات، فهي صدى الدعوة الأولى، نادى بها الإمام البنا (رضوان الله عليه)، دوت في قلوب المؤمنين وترددت على ألسنتهم، ثم حاول أتباعها أن يقذفوا بها إيمانا في قلوب الأمة المسلمة ليظهر عملا في تصرفاتهم، لتجتمع قلوبها عليه، فإذا فعلوا ذلك أيدهم الله ونصرهم وهداهم سواء السبيل، وهكذا يتربى الرأي العام على منهج الإسلام.

ولقد أجاب الإمام البنا (رضوان الله عليه) على تساؤلات الناس في زمانه عن موقف الإخوان من القوة والثورة والحكم، فبين أن هذه المفاهيم ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان فوضح الموقف من القوة والثورة. س

مفهوم خاطئ

يسري مفهوم خاطئ مفاده أن الحركة الإسلامية تعد للجهاد من غير حدود، وفي كل مكان، بل يقولون: إن الحركة الإسلامية تتخذ من الديمقراطية وسيلة لتحقيق أغراضها، حتى إذا ما تمكنت ووصلت إلى الحكم فإنها سوف تعمل على إقصاء الآخر، وهذا ليس صحيحا، فالإسلام يفتح القلوب والعقول ويدعو الناس بالإقناع قبل الدخول فيه، وأكثر الأمم التي دانت للإسلام، لم يحدث فيها قتال، فالحركة لا تفكر في هذا إلا في ظروف استثنائية وأماكن محدودة، لا يكون أمامها خيار.

لأن شعارنا " الجهاد سبيلنا" ليس جهادا بغير ضوابط في كل اتجاه، فالجهاد أولا المقصود منه ضد الاستعمار الأجنبي، كما يحدث اليوم في فلسطين أو العراق ، أو حين يحال بين المسلمين ودينهم، ويحكم ذلك كله قواعد شرعية وضوابط فقهية لا ارتجال فيها ولا حماس، بل أمورا حاكمة تضبط المسير.

وموقفنا من بني وطننا: النصيحة الخالصة والتربية الصالحة، وهذا موقف مبدئي استراتيجي، وليس تكتيكيا حركيا كما يفتري أعداء الإسلام، لأننا نصدر في كل أعمالنا عن أحكام الشريعة الإسلامية، والحكم الشرعي يفرض علينا النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم، وكما أنه يفرض علينا أن ننصر إخواننا المغلوبين على أمرهم إذا استنصرونا فلا نتردد، وتحكمنا ضوابط الشرع.

ولقد أوضح الإمام البنا هذه القضية فقال: " يتساءل كثير من الناس، عل في عزم الإخوان المسلمين أن يستخدموا القوة في تحقيق أغراضهم والوصول إلى غايتهم؟ وهل يفكر الإخوان المسلمون في إعداد ثورة عامة على النظام السياسي أو النظام الاجتماعي في مصر ؟ ولا أريد أن أدع هؤلاء المتسائلين في حيرة، بل إني أنتهز هذه الفرصة فأكشف اللثام عن الجواب السافر لهذا، في وضوح وفي جلاء، فليسمع من يشاء.

أما القوة فشعار الإسلام في كل نظمه وتشريعاته، فالقرآن الكريم ينادي في وضوح وجلاء "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون ب عدو الله وعدوكم"(الأنفال: 60)، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "المؤمن القوي خير وأحب من الله من المؤمن الضعيف، بل إن القوة شعار الإسلام حتى في الدعاء وهو مظهر الخشوع والمسكنة،واسمع ما كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم في خاصة نفسه، ويعلمه أصحابه، ويناجي به ربه:" اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر ا لرجال"، ألا ترى في هذه الأدعية أنه قد استعاذ بالله من كل مظهر من مظاهر الضعف، ضعف الجيب بالدين والقهر، فماذا تريد من إنسان يتبع هذا الدين، إلا أن يكون قويا في كل شيء؟ فالإخوان المسلمون لابد أن يكونوا أقوياء، ولابد أن يعملوا في قوة.

ولكن الإخوان المسلمين أعمق فكرا وأبعد نظرا من أن تستهويهم سطحية الأعمال والفكر، فلا يغوصوا إلى أعماقها ولا يزنوا نتائجها، وما يقصد منها وما يراد بها، فهم يعلمون أن درجة من درجات القوة قوة العقيدة والإيمان، ويلي ذلك قوة الوحدة والارتباط، ثم بعدهما قوة الساعد والسلاح ، ولا يصح أن توصف جماعة بالقوة حتى تتوفر لها هذه المعاني جميعا، وأنها إذا استخدمت قوة الساعد والسلاح ضد أعداء الأمة، خاصة المستعمرين منهم، وهي مفككة الأوصال، مضطربة النظام، أو ضعيفة العقيدة، خامدة الإيمان فسيكون مصيرها الفناء والهلاك.

هذه نظرة، ونظرة أخرى: هل أوصى الإسلام- والقوة شعاره- باستخدام القوة في كل الظروف والأحوال، أم حدد لذلك حدودا، واشترط شروطا، ووجه القوة توجيها محدودا؟

ونظرة ثالثة: هل تكون القوة أول علاج، أم أن آخر الدواء الكي؟ وهل من الواجب أن يوازن الإنسان بين نتائج استخدام القوة النافعة ونتائجها الضارة، وما يحيط بهذا الاستخدام من ظروف، أم من واجبه أن يستخدم القوة، وليكن بعد ذلك ما يكون؟ هذه نظرات يلقيها الإخوان المسلمون على أسلوب استخدام القوة فنظرتهم إلى القوة مقيدة بمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتزمون به ويعملون له.

الخلاصة

لئن كان الذين ينادون بالحكم بما أنزل الله بالقوة والاستيلاء على السلطة لم يصيبوا منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الذين يظنون أن تطبيق الشريعة مجرد تغيير قوانين بقوانين، وخاصة قوانين العقوبات والحدود، مخطئون أيضل، لأنهم يظنون أن تطبيق الشريعة الإسلامية هي في جلد شارب الخمر، وقطع يد السارق، ورجم الزاني أو جلده، وفير ذلك من الحدود، وهذا في الفهم عظيم.

فنحن نريد بتطبيق الشريعة الإسلامية.. استئناف حياة إسلامية متكاملة، حياة توجهها عقيدة الإسلام وتحكمها شريعة الإسلام، وتضبطها أخلاق الإسلام، وتسودها قيمه وآدابه، حياة مصبوغة بالقيم الإسلامية لحما ودما وروحا، هذا ما نريده، أن نحيا بالإسلام، ونحيا للإسلام، فالأمر لا يتطلب مجرد تغيير قوانين، بل تغيير حياتنا تغييرا اجتماعيا وفكريا ونفسيا، وسلوكيا وأخلاقيا، ونحاول أن نعيش مسلمين صادقين ليس مجرد تغيير قوانين على الورق، فقد يحدث هذا ولا تتغير الحياة، ولا يتغير المجتمع، ولذلك لابد من عمل قبل هذا كله، وهو أن يعمل المربون على تغيير نفسية الشعب إلى نفسية إسلامية، فالتغيير النفسي هو أساس كل إصلاح، كما قال المولى تبارك وتعالى:" إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم". (الرعد: 11).

وليس كما يقول الماركسيون: إن تغير الاقتصاد، أو تغير علاقات الإنتاج يؤدي إلى تغيير التاريخ، بينما نحن نقول: غير نفسك يتغير التاريخ، وتتغير الحياة بتغيير النفس، وتتغير الأنفس بالإيمان والتزكية، والتربية الإسلامية السليمة. " ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها" (الشمس: 7-10).

الفكر التربوي عند الإمام حسن البنا

د. عبد الرحمن عبد الرحمن النقيب

مقدمة:

لا أظن أن أحدا من أبناء مصر والعالم العربي والإسلامي يستحق أن يلقب بجدارة بمربي الأمة للقرن العشرين أكثر من الإمام الشيخ حسن البنا (رحمه الله)، يستحق ذلك بجدارة إذا استدعينا بسرعة ما منحه الله من سمات شخصية تؤهله لذلك، وما أحاطه الله به من ظروف أسرية ووطنية وعربية وإسلامية تدفعه إلى ذلك دفعا، وما قدمته لأمته من جهد تربوي على مستوى الفكر والتطبيق في فترة زمنية محدودة لم تتجاوز الربع قرن، والتي تمثلت في الفترة التي أسست فيها حركة الإخوان في الإسماعيلية في مارس عام 1982 م الموافق ذي القعدة عام 1347هـ ، وحتى اغتيال الإمام الشيخ حسن البنا رحمه الله في 12/ 2/ 1928م، لقد قام الإمام الشيخ حسن البنا (رحمه الله) خلال تلك الفترة القصيرة بجهد تربوي مكثف لتربية الأجيال في مصر والعالم العربي والإسلامي، لا يستطيع أن يقوم به إلا من منحه الله تلك القدرات والطاقات الهائلة التي منحها الله لهذا المربي العظيم، الذي أراد أن يربي الأسرة المسلمة، والدولة المسلمة، والأمة المسلمة. لقد سهر معظم ليله واستثمر كل نهاره من أجل تحقيق تلك الغاية: تربية الأمة تربية إسلامية قرآنية شاملة، وظل يعمل بدون كلل، من أجل تحقيق تلك الغاية حتى آخر نفس من أنفاسه، جزاه الله خير الجزاء عما قدمه لوطنه وأمته وعالمه الإسلامي.

البيئة المحيطة بتكوين مربي الأمة

لعلنا ونحن ندرس البيئة المحيطة بتكوين مربي الأمة نؤكد هنا على أهمية اختيار المعلم من أكثر العناصر كفاءة، وأكثرها إيمانا بالله والأمة، وأن أقصر طريق للإصلاح التربوي لن يكون باستيراد نظم التعليم من هنا أو هناك بقدر ما يكون بحسن اختيار المعلم وحسن إعداده لوظيفته ورسالته، ولقد منح الله الإمام الشيخ حسن البنا كل مؤهلات المعلم الكفء وأحاطه بالجو العائلي والتعليمي الذي ينمي تلك القدرات الكامنة فيه.

فوالده هو الشيخ أحمد عبد الرحمن- خطيب مسجد المحمودية- الحافظ للقرآن الكريم، والعالم بالحديث الشريف، وله فيه مؤلفات كبيرة، والذي وجهه لحفظ القرآن، ومداومة القراءة في مكتبه، كما شجعه على حفظ المتون، حيث حفظ بعضها وهو في المرحلة الإعدادية، كما وجهه لحرفة إصلاح الساعات، حيث تعلم منها الدقة والتنظيم والصبر، ولعله لمس عن قرب منزلة الخطيب العالم لدى الناس ممثلة في والده (رحمه الله) فتاقت نفسه لشئ من ذلك، ووقر ذلك في قلبه.

ويشاء لله أن يذهب إلى مدرسة الرشاد الدينية فيلتقي بأستاذه الشيخ محمد زهران، وقد كان كفيفا، محبا للعلم فيستعين بالفتى في قراءة ما يحتج من مسائل علمية، وكثيرا ما كان المعلم يصطحب معه بعض جلسائه من أهل العلم لمناقشة تلك المسائل في حضور الفتى وهو يسمع، فوقر في نفسه حب العلم واحترام العلماء، يضاف إلى ذلك أن الشيخ محمد زهران كان يكلف تلاميذه بحفظ حديث نبوي كل يوم خميس، ويحافظ الفتى على ذلك، فتكونت له ثروة علمية كانت سببا من أسباب تقدمه على زملائه في مدرسة المعلمين التي التحق بها فيما بعد.

ويذهب إلى مدرسة المعلمين ليلتقي بأستاذه عبد الفتاح أبي علام الذي يلمس في الفتى جدا والتزاما ليس لدى كثير من الطلاب، فيشجعه على المزيد من طاعة الله، ويوصيه بالدراسة العميقة، وإطالة النظر في أسرار التشريع الإسلامي وتاريخه، وتاريخ المذاهب والفرق والطوائف، وينضم إلى الطريقة الحصافية ليرشف من مناهلها الروحية من أذكار وأورد وعبادات وأحوال الصالحين، حتى ليكاد أن يذوب ذوبانا في تلك الأجواء الروحية، وينعزل عن الدنيا والقلق: لينشغل بالآخرة والخالق سبحانه وتعالى.

وكأنما تلك الفترة التي حبب إليه فيها الاعتزال الزهد والتصوف ضرورية لتكوين هذا البعد الروحي من شخصية "معلم الأمة، ذلك أن المعلم المسلم لا يمكن أن يكون معلما ناجحا إلا بتلك العلاقة الخاصة القوية التي تربطه بالله، والتي تجعل لحياته وعمله معنى ومغزى أرقي من صنوف الجزاء المادي والدنيوى، وهل كان بالإمكان أن يكون حسن البنا –معلم الأمة- بدون هذا البعد الروحي الخاص في تكوين المعلم الداعية؟ إلا أن الأستاذ فرحات سليم- مدرسه بالمعلمين- سرعان ما يعيد الفتى إلى مساره الصحيح من ضرورة ترجمة تلك العلاقة الخاصة بالله إلى جد واجتهاد وإكمال للدراسة بدار العلوم، ومواصلة مسيرة العلم والتعليم والدعوة. وما أن يضرب الأستاذ على ذلك الوتر الحساس، حتى يستعيد الفتى كل طاقته الكامنة وينطلق من جديد إلى حياة العلم والتعليم والدعوة.

وقبل أن نمضي من مسيرة معلم الأمة في دار العلوم، التي كانت بحق اسما على مسمى بما عمرت له من طلاب وعلماء ، وفي القاهرة – قاهرة الغزاة على مر العصور- التي احتوت قلعة العلم الديني الإسلامي "الأزهر" المعمور بعلمائه وشيوخه الأجلاء، وما كان لذلك كله من أثر على تكوين "معلم الأمة" علميا ووطنيا وإسلامي، لا يفوتنا أن نلفت النظر إلى بعد مهم في تكوين ذلك الداعية المعلم، ألا وهو بعد التربية العملية على الإسلام منذ طفولة هذا "الفتى المعلم"، ذلك أن التربية على الإسلام لا تكون تربية صحيحة، إلا إذا تحول العلم بافسلام إلى عمل يؤثر على سلوك وحياة أصحابه، وهذا ما وعاه و مارس ه حسن البنا منذ طفولته، فنراه وهو بالمدرسة الإعدادية يرأس مجلس إدارة جمعية الأخلاق الأدبية تحت رعاية وتوجيه الأستاذ محمد أفندي عبد الخالق- مدرس الحساب والرياضة بالمدرسة- كما يشترك في تكوين جمعية منع المحرمات، وجمعية الحصافية الخيرية، وهي في مدرسة المعلمين ليكون ذلك كله تدريبا عمليا له على حسن الإدارة والتنظيم، وتشكيل الجماعات الإسلامية الجامعة بين القول والعمل.

وبانتقاله إلى القاهرة والتحاقه بدار العلوم يكون قد انتقل بالفعل إلى عاصمة البلاد التي تموج بجميع تيارات العلم، وحركات التبشير ودعوات مقاومة الاحتلال، وتتيح له العاصمة ودار العلوم معا أن يلتقي بكبار علماء الأزهر ومفكري الأمة في عصره، فيلتقي ويجالس محب الدين الخطيب في مكتبة السلفية، ومحمد الخضر حسين، وأحمد تيمور، والشيخ الغمراوي، وكان يحضر مجالس رشيد رضا فيسمع منه ومن جلسائه، وكان يغشى منزل محمد فريد وجدي- كثيرا للاستفادة ، وكان من عشاق دائرة المعارف.

وما أن انتهى الفتى من دراسته بدار العلوم، إلا ويكون قد تأهل بالفعل ليكون معلما للغة القرآن بالمعنى التخصصي، ولفقه القرآن بالمعنى العام يدل على ذلك ما كتبه في آخر العام الدراسي بكلية دار العلوم لأستاذه أحمد يوسف نجاتي موضوع تعبير بعنوان "اشرح أعظم آمالك بعد إتمام دراستك، وبين الوسائل التي تعدها لتحقيقها ، فنجده يقول : إن أعظم آمالي بعد إتمام حياتي الدراسية أملان:

خاص: وهو إسعاد أسرتي وقرابتي والوفاء لذلك الصدي المحبوب ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وإلى أكبر حد تسمح به حالتي ويقدرني الله عليه.

وعام: وهو أن أكون مرشدا معلما إذا قضيت في تعليم الأبناء سحابه النهار، ومعظم العام قضيت ليلي في تعليم الآباء هدف دينهم، ومنابع سعادتهم، تارة بالخطابة والمحاورة، وأخرى بالتأليف والكتابة، وثالثة بالتجول والسياحة، وقد أعددت لتحقيق الأول: معرفة بالجميل وتقديرا للإحسان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.

والتحقيق الثاني:

أ‌- من الوسائل الخلقية: الثبات والتضحية، وهما ألزم للمصلح من ظله، وسر نجاحه وما تخلق بهما مصلح فأخفق إخفاقا يزري به أو يشينه.

ب‌- ومن الوسائل العلمية: درسا طويلا سأحاول أنتشهد لي به الأوراق الرسمية، وتعرفا بالذين يعتنقون هذا المبدأ ، ويعطفون على أهله، وجسما تعود الخشونة على ضآلته، وألف المشقة على نحافته، ونفسا بعتها لله صفقة رابحة وتجارة بمشيئته منجية، راجيا منه قبولها، سائلا إتمامها ولكليهما عرفانا بالواجب، وعونا من الله سبحانه وتعالى اقرءوه في قوله: " إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم". (محمد:7).

ذلك عهد بيني وبين ربي أسجله على نفسي، واشهد عليه أستاذي في وحدة لا يؤثر فيها إلا الضمير، وليل لا يطلع عليه إلا اللطيف الخبير،" ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما" (الفتح:10).

وبذلك يكون حسن البنا قد حدد بالضبط في تلك المرحلة المبكرة من حياته رسالته في الحياة أن يكون معلما داعيا ومرشدا بكل ما يملك من إمكانات، وما يقدر على تنظيمه من طاقات مادية وبشرية من ثقة كاملة بالله ونصره لمن صدق وأخلص العمل.

حسن البنا المعلم والمربي

سوف أركز حديثي عن حسن البنا المعلم والمربي تاركا لغيري سائر جوانبه الأخرى، ليس فقط لأن هذا مجال تخصصي، بل لإدراكي العميق بأن هذا المجال هو من أهم مجالات التجديد في حركة الإخوان المسلمين ، لأنها أكثر الحركات تركيزا على الجانب التربوي في حياة الأمة، فمع نشأة الجماعة بالإسماعيلية في مارس 1982 م كان أول عمل لها هو إقامة "مدرسة التهذيب للإخوان المسلمين" في حجرة متواضعة بالإسماعيلية ، وتحدد منهج التربية في هذه المدرسة على النحو التالي:

- تصحيح تلاوة القرآن الكريم وفق أحكام التجويد.

- حفظ بعض سور من القرآن الكريم.

- حفظ بعض أحاديث من السنة النبوية الشريفة.

- تصحيح العقائد والعبادات والتعرف على أسرار التشريع.

- معرفة آداب الإسلام العامة.

- دراسة التاريخ الإسلامي وسيرة السلف الصالح.

- تدريب القادرين على الخطابة والدعوة تدريبا عمليا بحفظ ما يمكن من :النظم والنثر، ومادة الدعوة، ثم تكليفهم بالتدريس والمحاضرة في هذا المحيط الصغير أولا، ثم في أوسع منه مستقبلا.

ثم أقيم مسجد الإخوان ودارهم بالإسماعيلية استكمالا لهذا الجانب التربوي من حياة الجماعة الوليدة، حيث تقام الصلوات وتعقد الدروس والمحاضرات بجوار خطب الجمعة والأنشطة المختلفة في المناسبات والأعياد – ولم تكتف الجماعة الوليدة بذلك، بل أنشأت معهد حراء الإسلامي متعدد الشعب، إذ يشمل المعهد ثلاثة شعب، شعبة يتمشى منهاجها مع منهاج المدارس الأولية، تجهز التلميذ للأزهر والمعاهد الأزهرية، وشعبة تتمشى مع المدارس الأولية أول النهار ومع المدارس الصناعية آخر النهار، يتوجه الطلاب في الفترة المسائية إلى ورش ومصانع أهلية كان يديرها الإخوان المسلمون لمزيد من التعليم والتدريب الصناعي، وشعبة ثالثة تتمشى مع منهاج المدارس الأميرية الابتدائية- الإعدادية حاليا- للتجهيز الثانوي، ورغم أن هذا المعهد كان يأخذ بالمناهج الحكومية في الغالب، إلا أنه أضاف إلى ذلك الروح الإسلامي في الإدارة والأنشطة والمناخ المدرسي العام، مما ضاعف الإقبال عليه، وشجع ذلك على إنشاء مدرسة "أمهات المؤمنين" التي سارت على نفس المنوال، وأدت رسالتها حتى تسلمتها بعد ذلك وزارة المعارف، وقد أدى إنشاء مدرسة "أمهات المؤمنين" فيما بعد إلى إنشاء قسم خاص للأخوات المسلمات يتألف من نساء الإخوان المسلمين وقريباتهن، ووضعت لهن لائحة خاصة في أبريل 1933م تنظم طرائق السير ووسائل نشر الدعوة بين السيدات المسلمات ، وبذلك دخلت المرأة المسلمة أبواب العمل الإسلامي من أوسع أبوابه وأكثرها عطاء وبركة.

وكما اهتم حسن البنا في تربية أتباعه بالجوانب العلمية والدينية الإسلامية، فقد اهتم أيضا بالتربية الرياضية انبثاقا من فكرة الإعداد للجهاد المفروض على الأمة حتى تحرر أراضيها السليبة، فأنشئت فرقة الرحلات للإخوان المسلمين على غرار النظام الكشفي، ثم امتازت عليه بروحها الإسلامية الوثابة، والتي تطورت فيما بعد ليكون من بين أفرادها أفراد الخاص المكلف بحماية الجماعة ومقاومة المحتل البريطاني وحركة استيطان العدو الصهيوني، وهكذا كانت جماعة الإخوان المسلمين بالإسماعيلية تنمو رويدا رويدا، ويكون لها مرشدها القائد، ومسجدها الجامع، ومدارسها للبنين و البنا ت وفرقها الرياضية والكشفية.

وامتدت طموحات حسن البنا التربوية من الإسماعيلية إلى جميع القرى والمدن المصرية، كان يتمنى أن تكون بكل قرية ومدينة شعبة للإخوان المسلمين، بما تعنيه الشعبة من مؤسسات تربوية عديدة بدءا من الأسرة الإخوان ية المكنة من خمسة إلى عشرة أفراد لهم نقيب ولها برامجها التربوية والثقافية، من خلال اللقاءات الدورية انتهاء بالنظام الخاص، وعلى رأسه المرشد العام حسن البنا ، وله أيضا برامجه التربوية والثقافية والعسكرية، والذي يقرأ مذكرات الدعوة والداعية ل حسن البنا لا يملك إلا أن يعجب ويقدر هذا الجهد الشاق الذي بذله المربي حسن البنا لافتتاح تلك المؤسسات التربوية أو الشعب الإخوان ية في كثير من قرى ومدن مصر .

لقد كان دائم التنقل والترحال لافتتاح تلك المؤسسات التربوية ومتابعة نشاطها، حتى أنه ليذهب إلى مكانين مختلفين بالقطار في اليوم الواحد ليفتح شعبة جديدة هنا، ويتابع أو يلقي محاضرة في شعبة هناك، وهو جهد ضخم لا يمكن أن يقوم به إلا شخص مؤمن بهدفه، مثابر على أداء رسالته.

كان حسن البنا يتوجه بدعوته التربوية العامة إلى جمهوره من الإخوان المسلمين على اختلاف درجاتهم، وأقل تلك الدرجات هي درجة الأخ المساعد أو المحب الذي يعلن استعداده للالتزام الإسلامي، ويتعهد بتسديد الاشتراك الشهري المقرر بجوار التزامه بالطاعة والكف عن المحرمات، وحضور الاجتماعات الأسبوعية والسنوية، أما الأخ العامل فهو مرتبة أعلى يحصل عليها الأخ بعد أن يحقق المتطلبات التربوية التالية:

- دراسة شرح عقيدة الإخوان المسلمين .

- حضور مجالس القرآن الكريم الأسبوعية.

- الاشتراك في صندوق الحج.

- الاشتراك في لجنة الزكاة.

- الانضمام إلى فرقة الرحلات ما دامت سنه تسمح بذلك.

- الالتزام بالتحدث باللغة العربية الفصحى بقدر ما يستطيع.

- التزام منزله بمبادئ الإخوان المسلمين .

- العمل على تثقيف نفسه، والاجتهاد في حفظ أربعين حديثا نبويا.

- قبول مناصفات الإخوان التأديبية.

أما مرتبة الأخ المجاهد فهي مستوى رفيع من التربية والالتزام الإسلامي، لا يمنحها إلا مكتب الإرشاد لمن تبث أنه أدى متطلبات الأخ العامل يضاف إلى ذلك:

- تحري السنة المطهرة ما استطاع إلى ذلك سبيلا في الأقوال والأفعال والأموال.

- قيام الليل، وأداء صلاة الجماعة إلا لعذر قاهر.

- العزوف عن مظاهر المتع الفانية، والبعد عن كل ما هو غير إسلامي في العبادات وفي المعاملات.

- الاشتراك المالي في مكتب الإرشاد وصندوق الدعوة، والوصية بجزء من تركته لجماعة الإخوان المسلمين

- أن يأمر بالمعروف، وأن ينهى عن المنكر ما دام أهلا لتحمل هذه الأمانة.

- تلبية دعوة المكتب متى وجهت إليه في أي وقت وفي أي مكان.

- حمل المصحف دائما ليذكره بواجباته.

- الاستعداد لقضاء مدة التربية الخاصة بمكتب الإرشاد.

والمتأمل في تلك المستويات الإخوان ية يدرك أنها مستويات تربوية بالدرجة الأولى تتعلق بمدى ما وصل إليه الأخ الإخوان ي من معرفة وتربية والتزام بمبادئ الإخوان ودعوتهم، وهي مستويات مفتوحة للجميع يستطيع كل أخ أن يجتازها جميعا، حتى يصل على درجة الأخ المجاهد، بل لعل محور نشاط البنا كان يتركز في الارتقاء بمستوى أكبر عدد من الإخوان ، حتى يصلوا إلى تلك المرتبة، مرتبة الأخ المجاهد، لأنهم كانوا في نظره هم أمل الأمة في تحرير الأوطان السليبة وإقامة الخلافة الرشيدة.

وحتى يكون تلك الأساسات الخراسانية المتينة التي يقوم على أكتافها بنيان الجماعة كون ثماني فرق للدعوة والإرشاد، وكانت هذه الفرق الثماني لا تزيد كا فرقة عن 50 دارسا، بشرط أن يكون الدارس في مستوى الدراسة الثانوية على الأقل، وأن يتفرغ للدراسة مدة خمسة عشر يوما، وكان البنا بنفسه هو الذي يلقي الدروس في تلك الفرق بالقاهرة، وبعد ذلك ي مارس ون النشاط الدعوي، وحتى يضمن تفرغ هؤلاء الدارسين للدراسة فإنها كانت تعقد خلال أشهر الصيف من يوليو إلى آخر سبتمبر كل عام. ويمكن أن يطلق على هؤلاء "دعاة الضرورة" لأنهم لم يكونوا قطعا على المستوى المطلوب لتربية الجيل المنشود، وإعداد الأساسات الخراسانية البشرية المطلوبة لقيام دعوة الإخوان بواجباتها الوطنية والإسلامية.

وللمزيد من الارتفاع بمستوى الإخوان الثقافي، وإعداد كوادر من الدعاة يحملون رسالة الإخوان إلى جميع أفراد الجماعة قدم حسن البنا في مارس 1940م المنهاج الثقافي للإخوان، والذي يقوم على اختيار أربع مواد دراسية كحد أدنى حسب حاجة العضو، وحاجة منطقة الدعوة وميدان العمل، ومن بين المواد الدراسية التالية:

- القرآن وعلومه وتفسيره.

- السنة وعلومها وما يتعلق بها.

- العقائد والمذاهب الفكرية.

- الفقه وأصوله وتاريخ التشريع ورجاله.

- الفلسفة وعلم النفس والأخلاق والتربية.

- علوم الاجتماع والخدمة الاجتماعية، مع دراسة تطبيقية على مصر خاصة.

- السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي العام.

- فن الخطابة عمليا وعلميا.

وقد اشتمل المنهج على قائمة مراجع كبيرة نسبيا تضم 138 مرجع، والمطلوب من كل فرد مشترك في البرنامج أن يقرأ قدر ما يستطيع منها، بشرط أن يستوعب الملخص الوارد في مقدمة كل مادة. وكانت الدراسة تعتمد على التعلم الذاتي من خلال القراءة التي حددتها لجنة المنهاج، بالإضافة على محاضرات البنا العامة التي كانت تطبع وتوزع على الدارسين وغيرهم في نقاط من المنهج، وكان حق الدراسة مباحا لجميع الإخوان المرشحين من شعبهم، والذين توافق لجنة المنهاج على قبولهم، بشط أن يعاهد المتقدم للدراسة على أن يكون داعية من دعاة الإخوان في حدود عمله وظروفه. ولقد كانت مكتبة المركز العام مفتوحة للدارسين للقراءة لإعداد بحث في كل مادة من المواد الأربع المختارة بجوار الاستماع لدروس المرشد، وللذين لا يحضرون حق التقدم للامتحان اعتمادا على جهدهم الذاتي في القراءة وإعداد البحوث المطلوبة.

ومما يدل على اهتمام حسن البنا بهذا البرنامج الثقافي أنه كان رئيس لجان الامتحان، وكان يختار بنفسه الممتحنين في كل مادة، وكان يطلب من كل دارس أن يعد بحثا في كل مادة من المواد الأربع التي اختارها، يسجل فيها خلاصة دراسته، وتناقشه فيه لجنة الامتحان، بهدف معرفة مقدرته على الاستنتاج والتحليل والمقارنة، وفي القرآن والحديث يكون الامتحان –بجانب البحث- بطريقة الاستظهار الشفهي، وإذا نجح الدارس أخذ درجة علمية (ممتاز- جيد جدا- جيد – متوسط) أو تعيد اللجنة إليه بحثه ليتقدم في موعد آخر، والذين يجازون في الامتحان يعتبرون من الدعاة المعتمدين لدى الإخوان ، ومن حقهم م مارس ة الدعوة في شعب ا لإخوان.

ولا شك أن هذا البرنامج الثقافي إنما يمثل نقلة تربوية للارتفاع بمستوى الدعاة داخل جماعة الإخوان ، ومن ثم داخل صفوف الإخوان ، مما يعجل بإعدادهم ليصلوا إلى مراتب أكثر فاعلية في صفوف الإخوان ، خاصة مرتبتي الأخ العامل ، والأخ المجاهد.

وبجوار هذا الجهد التربوي المنظم استعان حسن البنا بجميع الوسائل التربوية الإعلامية والصحفية التي يمكن أن تفيد في نشر الدعوة، وضم الأعضاء الجدد، والارتفاع بالمستوى الثقافي والتربوي للأعضاء المنتسبين على اختلاف درجاتهم، وكان من وسائله في ذلك ما يلي:

1- المحاضرات والدروس في المساجد والشعب والندوات الخاصة ودرس الثلاثاء.

2- المساهمة في إحياء الذكريات الإسلامية.

3- تركيز الدعوة في الجامعات والمدارس، وإنشاء قسم الطلاب والانتفاع بجهود الأزهر الشريف: علمائه وطلابه.

4- إصدار عدد من الوسائل والمنشورات.

5- إصدار رسالة المرشد العام.

6- إصدار مجلة الإخوان المسلمين والنذير ثم الدعوة

7- تنظيم مؤتمرات دورية.

لقد بث حسن البنا ، من خلال تلك الأنشطة التربوية المتعددة أفكار الجماعة روحا سارية بين أفرادها، وأعطى كل وقته وجهده لهذا العمل التربوي الخلاق.

وكأنما أحس حسن البنا في أواخر حياته أن جهده التربوي العام لم يحقق له ما أراد من تربية أجيال التغيير الإسلامي المنشود بالكم والكيف المطلوب، فاتجه إلى الاهتمام بالتعليم النظامي، وشكل لجنة للتربية بالمركز العام رأسها عبد الحميد مطر، وكان من مهمتها إنشاء مدارس (من رياض الأطفال حتى الثانوي) للبينين و البنا ت، بهدف تنشئة جيل جديد يحرص على دينه وينفذ تعاليم ربه، وينهض بالأمة النهضة المرجوة، ورغم انتشار المدارس الخاصة والأجنبية في مصر خلال تلك الفترة فإن الدارس يعجب لعدم نجاح الإخوان في إنشاء العديد من الإسلامية بالكم والكيف الذي يتناسب مع حجم دعوتهم.

وعندما وضعت وزارة المعارف في 21/ 6/ 1946 م برنامجا لمكافحة الأمية أرسل محمد حسن العشماوي إلى المركز العام للإخوان يطلب منهم التعاون لتنفيذه بأن يعمد كل مركز من مراكز الجماعة في القرى والحواضر فيهيئ نفسه ليكون مركزا من مراكز محو الأمية ونشر الثقافية الشعبية، واستجاب الإخوان لذلك، ودعم الوزير الجماعة بكافة المساعدات التي مكنتهم من تغطية جميع نفقات المشروع. ويعجب الدارس مرة أخرى لعدم استمرار الإخوان في هذا المشروع حتى بدون دعم الوزارة لما له من آثار تربوية في حياة الوطن والأمة.

وإذا كانت الجماعة في حياة مرشدها لم تستطع أن تقدم نظاما تعليما بديلا للنظام التعليم السائد، وما زالت غير قادرة على ذلك حتى الآن لأسباب ينبغي دراستها وتحليلها وعرض نتائجها على الجمهور، ومثقفي الأمة حتى يعرفوا أسباب أزمة الأمة التعليمية الحالية والمستقبلية، فإنه يكفي ما قدمه الإمام الشيخ حسن البنا من جهود تربوية على المستوى النظامي وغير النظامي ليكون بحث مربي الأمة للقرن العشرين، ويكفي أن نذكر هنا أن دعوة حسن البنا لم تكن ل مصر وحدها، بل كانت لجميع العالم العربي والإسلامي فكرا وتطبيقا، وأن دعوة حسن البنا قد نجحت في تربية الأمة على المشاركة في الأعمال الوطنية والقومية والإسلامية، ونورت الأذهان بحقيقة ما يحاك للأمة من مكايد في الداخل والخارج، وأحيت روح الكفاح بين الشعوب المسلمة، وربت أجيالا مستعدة للتضحية في سبيل الدفاع عن الدين والأمة.

كذلك يحسب للإمام حسن البنا أنه ربى أتباعه تربية اقتصادية تقوم على زيادة الإنتاج وعدالة التوزيع والاعتماد الاقتصادي على النفس، وكان من أبرز معالم تلك التربية الاقتصادية ما يلي:

- أن يزاول العضو عملا اقتصاديا مهما كان غنيا ، وأن يقدم على العمل الحر مهما كان ضئيلا.

- أن يخدم العضو الثروة الإسلامية بتشجيع المصنوعات الوطنية فلا يقع قرش في يد أجنبية غير إسلامية، ولا يلبس ولا يأكل إلا من صنع وطنه.

- أن يدخر جزءا من دخله مهما قل، ولا يتورط في الكماليات أبدا.

- ومنذ عام 1945م دعا الإخوان المسلمون إلى مقاطعة البضائع والمحلات الإنجليزية تماما، وتأسست عدة شركات اقتصادية لنفس الهدف من أهمها:

1- شركة المعاملات الإسلامية (أنشأت مصنعا للنحاس، وآخر للبلاط والأسمنت).

2- الشركة العربية للمناجم والمحاجر (لإنتاج الأسمنت والبلاط وأجهزة الطبخ الغازية).

3- شركة الإعلانات العربية.

4- شركة الإخوان المسلمين للغزل والنسيج بشبرا الخيمة.

5- شركة التجارة وأشغال الهندسة (لإنتاج مود البنا ء، وتدريب العمال في حرف: السباكة والكهرباء والنجارة).

6- شركة التوكيلات التجارية بالسويس .

7- شركة التجارة بالمحلة " لإنتاج المنسوجات والأدوات المنزلية وأدوات المكاتب والأدوات المدرسية والكهربائية".

الفلاح المصري: نموذج التربية الإمام الشيخ حسن البنا

لعل أكبر تقدير للجهد التربوي الذي بذله الإمام الشيخ حسن البنا يتمثل في ذلك الفلاح المصري النموذج لتلك التربية، والذي أقدمه هنا من أرض الواقع وواقع الخبرة الشخصية، إنه المرحوم سعد شوشة من السنبلاوين- دقهلية، ذلك الفلاح الذي كان لا يحمل شهادة دراسية، ولكنه من خلال شعبة الإخوان بالسنبلاوين وبرامجها الثقافية كان (رحمه الله) شعلة من النشاط، حتى أنه اتخذ من "عريش" له في وسط أرضه مكانا للقاء الشباب الجامعي والثانوي المتعطش للمعرفة، ومن خلاله قرأت معظم كتابات الإخوان ، ودارت معه حوارات وطنية وإسلامية، واستمعنا إلى أشعاره الرائعة التي نقلتنا إلى أجواء، رفيعة سامية، فكان (رحمه الله) خير نموذج لتربية فلاح مصري ، بدون شهادات دراسية على موائد الإخوان ، كنت في أول سنواتي بالجامعة، وكنت محبا للقراءة، فإذا بهذا الفلاح الإخوان ي يمدني بالكثير من الأدبيات الإخوان ية، وأدخل معه ومعي غيري أحيانا من الشباب مناقشات حول علاقة الثورة ب الإخوان وضرورة المقاومة الشعبية للعدو الصهيوني- المقاومة الشعبية، وليست الحروب النظامية- فلا يفل الحديد إلا الحديد، وكأني استدعي الآن "حزب اله" وما فعله بإسرائيل : فأتذكر مقولات هذا الفلاح الأصيل، أو يلقي علينا أجزاء من ديوان شعره المنشور، وهو شعر إسلامي ووطني وعاطفي، وحدث أن اعتقل هذا الفلاح الأصيل لمدى لا أتذكرها الآن، وكان من الطبيعي أن أزوره في منزله بعد الإفراج عنه لأهنئه من ناحية، ولأتجاذب معه أطراف الأحاديث من ناحية أخرى، ولكنه يرسل إلي رسالة شفوية مع والدي يطلب منه عدم زيارتي الآن: لأن المنزل مراقب، وقد ينالني السوء إذا ذهبت إلى زيارته، ويموت سعد شوشة (رحمه الله) ويقام له سرادق ضخم بالسنبلاوين اتخذ منه الإخوان مناسبة لتكريمه من ناحية، ولعرض أهم مبادئ الإخوان ورسالتهم من ناحية أخرى، تحدث فيه عدد من كبار الإخوان ، واستمتعت بهذا التأبين وفاء لهذا الفلاح العظيم واستفادة بما سمعت، وهكذا استفدت من سعد شوشة حيا وميتا.

وما زلت أذكره من حين إلى حين (رحمه الله) قائلا: إذا كانت تلك آثار تربية هذا الفلاح، فماذا عن آثار تربية غيره من المثقفين والدارسين؟ رحم الله الإمام حسن البنا ، وجزاه الله خير الجزاء على كل ما قدم لوطنه وأمته.

حاجة الأمة على مربي القرن الحادي والعشرين

إذا كان الإمام الشيخ حسن البنا هو مربي الأمة للقرن العشرين بجدارة، فإن الأمة تتطلع اليوم في ظروفها الجديدة على مرب يرتفع على مستوى الإمام في حسن إدراكه لظروف عصره وواجباته تجاه تلك الظروف ، إن أمتنا اليوم تواجه مشروع الشرق الأوسط الكبير بكل تداعياته السياسية والاقتصادية والتربوية والثقافية ، مما يفرض علينا أن نكون قادرين على مواجهة ذلك المشروع، أو لن نكون. لقد كان الإمام حسن البنا يردد في ظروف عصره مقولته: ولو أراد الله والتقت قوة الأزهر العلمية بقوة الطرق الروحية بقوة الجماعة الإسلامية العملية لكانت أمة لا نظير لها: توجه ولا تتوجه، وتقود ولا تقاد، وتؤثر في غيرها ولا يؤثر شيء فيها، وترشد هذا المجتمع الضال إلى سواء السبيل. وفي ظني واعتقادي أن تلك الثلاثية: الأزهر والطرق الصوفية والجماعة الإسلامية العملية لابد أن يضاف إليها بعد رابع، وهو المؤسسات العلمية والتكنولوجية القادرة على المشاركة بأعلى درجات الفعالية والمهارة والكفاءة في التواصل مع العلم وإنجازاته التكنولوجية ومعارفه الفنية المتطورة، بحيث نكون قادرين بالفعل على مواجهة مشروع الشرق الأوسط الكبير وكل من وراءه من قوى الإرهاب العالمي الشيطاني المنظم والقادر . هذا وبالله التوفيق.

المراجع والمصادر:

1- أحمد أنس لحجاجي: الإمام، مكتبة وهبة، القاهرة 1954م.

2- أحمد أنس الحجاجي: روح وريحان- من حياة داع وداعية، مكتبة وهبة، سنة 1946 م.

3- إسحاق موسى الحسيني : الإخوان المسلمون كبرى الحركات الإسلامية في العالم العربي، بيروت، سنة 1955م.

4- حسن البنا  : مذكرات الدعوة والداعية، دار الشهاب، القاهرة بدون تاريخ.

5- حسن البنا  : مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا ، دار الكتاب السلفية، القاهرة بدون تاريخ

6- جابر رزق: الإمام الشهيد حسن البنا بأقلام تلامذته ومعاصريه، دار الوفاء للطباعة والنشر، المنصورة، 1985م.

7- رءوف شلبي: الشيخ حسن البنا ومدرسة الإخوان المسلمين ، دار الأنصار، القاهرة، 1978م.

8- زكريا سليمان بيومي: الإخوان المسلمون والجماعات الإسلامية في الحياة السياسية المصرية 1928- 1948 ، مكتبة وهبة، القاهرة ، 1979.

9- عبد الرحمن النقيب: التربية الإسلامية ، رسالة وسيرة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1990م.

10- عبد الرحمن النقيب: التربية الإسلامية المعاصرة في مواجهة النظام العالمي الجديد، دار الفكر العربي 1997م، " منظور إسلامي لتربية الطفل في ظل بدايات الألفية الثالثة" من بحوث مؤتمر الطفل والطفولة في مطلع الألفية الثالثة 25- 26 من أبريل 2006م، جامعة المنيا .

11- عثمان عبد المعز رسلان :التربية السياسية عند جماعة الإخوان ا لمسلمين في الفترة من 1928- 1954م دراسة تحليلية تقويمية، دار النشر والتوزيع الإسلامية 1990م.

12- محمد شوقي زكي: الإخوان المسلمون والمجتمع المصري، دار الأنصار، القاهرة، 1980م.

من ملامح الفكر السياسي لدى الإمام حسن البنا

عدنان أبو عامر

مقدمة

يمكن القول: إن الفكر السياسي الإسلامي شهد تحولات فكرية وسياسية جذرية خلال العقود الخمسة الأخيرة، فيما يتعلق بزيادة الاهتمام بمواضيع الدولة والديمقراطية ، ونظام الحكم من جهة، وعلاقتها جميعا بالإسلام من جهة أخرى.

وليس سرا أن جميع هذه التحولات والتقاربات التي حصلت داخل الساحة الإسلامية، كان للإمام حسن البنا الدور الأكبر في وضع البذور الأولى منذ أكثر من ثمانين عاما، فانطلاقا من الفهم العميق الذي أبداه البنا للدين الإسلامي وصلاحيته لكل زمان ومكان، حاول بصورة ذكية وفذة الاقتراب من قضايا أكثر التصاقا بمتطلبات وحاجات المجتمعات العربية والإسلامية.

لقد كان المشروع السياسي للإمام البنا أحد أهم تجليات الفكر الإصلاحي الشامل له، في ظل قناعة وجدت في فكره، واستقاها من صحيح الفقه والتراث الإسلاميين، اللذين أخذ عنهما فكره ومشروعاته وهي أنه لا دين بدو سياسة، ولا سياسة بدون دين.

وفي مرحلة لاحقة لحياة البنا ، استلهم المفكرون والمنظرون السياسيون للحركات الإسلامية العديد من أفكاره السياسية والإصلاحية، وخاصة في ظل تفاقم أزمة الدولة القطرية في العالم العربي على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وفشل ما بات يعرف بمشروع الحداثة العربي، وحالة التبعية والتخلف التي عانى منها المجتمع العربي، فقد كان لابد من مشروع سياسي بديل، والذي تمثل جزء كبير منه في الصحوة الإسلامية كرد فعل على تلك الأزمات.

لقد شكل الفكر السياسي للإمام البنا منعطفا مهما وتاريخيا في وضع اللبنات الأولى للفكر السياسي الإسلامي الحديث والمعاصر، ورغم أن الحركات الإسلامية تعددت اجتهاداتها حول أكثر المفاهيم السياسية إثارة للقلق في الفكر السياسي، إلا أنها بقيت مدينة لفكر الإمام.

وهكذا بعد مرور ما يزيد على نصف قرن من التفاعل والتعامل مع المنهجية الدعوية التي وضعها وأسسها البنا ، والتي تعتبر تجديدا في العمل السياسي الإسلامي، فكرا وتنظيما، ومنهجية وسلوكا، وبعد تجارب كثيرة على المستوى القطري والإقليمي والدولي للحركات الإسلامية، وبعد متغيرات في طبيعة العصر وخصائصه وثقافاته وتحدياته، وبعد بروز مدارس ومنهجيات إسلامية متعددة على ساحة العمل الإسلامي، وبعد تنامي الصحوة الإسلامية، يتجلى الدور الحقيقي الذي لعبه الفكر السياسي للإمام.

وتأتي هذه الدراسة (من ملامح الفكر السياسي لدى لإمام حسن البنا ) في ظل إحياء مثوية الإمام لتناول أبرز المفاهيم السياسية التي انشغل بها الإمام لإيصالها إلى المشتغلين بالفكر السياسي، داخل وخارج الساحة الإسلامية، محاولا توضيح موقف الإسلام من هذه القضايا الإشكالية، وخاصة من قضايا: الدولة، والديمقراطية والتغيير.

تتلخص مهمة الدراسة في هذا الموضوع الشائك في الإجابة ع الأسئلة التالية:

- ما مفهوم الدولة الإسلامية لدى الإمام البنا ؟

- ما أبرز مقومات هذه الدولة ومواصفاتها ووظائفها؟

- ما موقف الإمام من قضية الديمقراطية كنظام للحكم، ومقارنتها مع الإسلام؟

- ما أثر فكر البنا على معاصري ومن خلفوه في الساحة السياسية الإسلامية؟

- كيف نظر البنا على المنهج التغييري؟ وماذا عن أدواته الاجتماعية والسياسية؟

كما تأتي الدراسة لتحقيق عدد من الأهداف، أهمها:

- تحديد مفهوم ومقاصد الدولة ا لإسلامية عند الإمام البنا .

- الكشف عن أبرز وظائف ومواصفات الدولة الإسلامية المتمثلة في فكر الإمام.

- بيان أهم المعايير التي اتخذها الإمام عند إبداء موقفه من الديمقراطية .

- توضيح أثر فكره على معاصريه ومن خلفوه في الساحة الفكرية والسياسية الإسلامية.

- إظهار تعريفه لمفهوم التغيير والمراحل التي ينبغي المرور بها بعيدا عن حرق المراحل.

وتكتسب الدراسة أهميتها من خلال:

- كونها محاولة للكشف عن مواقف الرجل المؤسس لأكبر جماعة إسلامية في العصر الحديث، تتمتع بحضور كبير وتأثير بالغ، من قضايا تمج بها الساحة الإسلامية، وخاصة في ظل وصول بعض الحركات الإسلامية للحكم.

إمكانية أن يستفيد منها المشتغلون في الساحة السياسية والفكرية المعنية بتغيير واقعها نحو الأفضل، من خلال الإطلال على أبرز المواقف من قضايا الساعة لديهم.

منهج الدراسة:

استخدمت الدراسة المنهج الوصفي التحليلي: حيث تم الوقوف على ابرز المفاهيم والمبادئ السياسية التي اتخذ منها الإمام البنا موقفا واضحا، فضلا عن إفراد الدراسة لحيز واضح ومقصود لأثر مواقف البنا على من خلفه في قيادة الساحة السياسية الإسلامية، سياسيين كانوا أو مفكرين لما لذلك من دور في توضيح أبرز التحديات التي طرأت على تلك المواقف مع عدم خروجها على الأصول الأساسية لمواقف الإمام.

محتويات الدراسة:

ستتناول الدراسة بشيء من التعمق، الموقف الفكري والسياسي الذي أظهره وأعلنه، وما نستطيع اقتباسه وتفسيره للبنا حول القضايا التالية:

1- عوامل نشأة الفكر السياسي لدى البنا .

2- مفهومه عن الدولة الإسلامية.

3- موقفه من قضية الديمقراطية .

4- منهجه وأدواته في عملية التغيير.

في الختام، آمل أن تكون الدراسة قد خرجت في أبهى حلة، وأفضل مضمون، فإن تمكنت من ذلك فهو توفيق الله أولا، ورضا الوالدين ثانيا، وإن شابها بعض من عدم الوضوح، وصعوبة الوصول إلى المعلومة وتوصيلها، فهو طبع البشر في النقص وعدم الكمال.

أولا: عوامل نشأة الفكر السياسي لدى البنا

وصل الفكر السياسي الإسلامي في العصر الحديث إلى نقطة تحول تاريخية مفصلية بالحدث الكبير، المتمثل في إلغاء الخلافة العثمانية عام 1924 م، الأمر الذي مثل واحدا من أهم الأحداث الحاسمة في تاريخ المنطقة العربية والإسلامية.

لقد شكل إلغاء الخلافة حدثا فج به المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، بالرغم من أن كثيرين منهم تكبدوا كثيرا من المعاناة في أواخر عهد الدولة العثمانية، بسبب استشراء الفساد، وانتشار المظالم، فرغم كل ذلك كانت الخلافة الإسلامية تراثا تنظيميا، ارتبط بمشاعر المسلمين لقرون طويلة، وكانت رمزا لوحدتهم، ودرعا لدينهم وكيانهم الدولي.

وقد سبب إلغاء الخلافة صدمة كبيرة لدى جمهور المفكرين الإسلاميين، وبقيت آثارها إلى عقود متأخرة،وربما ما قيل في إسقاطها ما ذكره المفكر الإسلامي "على شريعتي" الذي اعتبر أن معركة الخلافة العثمانية مع الغرب، هي معركة مصير الإسلام والعالم، وإن ما اعتبره هزيمة الإسلام هي التي فتحت الطريق أمام سيطرة النظام الرأسمالي الذي عم العالم عن طريق العنف والقهر، والذي لا نزال نعاني شروره وقمعه، وهو يعتبر تلك المعركة أهم حدث في التاريخ الإسلامي خلال القرون الأخيرة، والفرصة الأخيرة لإعادة بناء حضارة إسلامية.

وبالتوازي مع الصدمة التي ألمت بالمسلمين عموما، والمفكرين منهم خصوصا، فقد خلف زوال الخلافة تحديات كبيرة أمام الحركة الإسلامية الناشئة التي أسسها الإمام حسن البنا في مصر ، وأسماها "الإخوان المسلمون " بحيث أصبح لزاما عليه أن يواجه أوضاعا متعددة:

1- فهو لم يعد يواجه التعصب المذهبي والبدع والخرافات فقط.

2- ولم يعد يواجه أخطار الاحتلال العسكري الغربي لأراضي العرب والمسلمين فقط.

3- ولم يعد يواجه التبشير الذي تقوم به بعثات مسيحية أوربية وأمريكية فقط.

4- ولم يعد يواجه أفكار الفلسفات المادية واللادينية فقط.

5- وإنما أضحى لزاما عليه أن يواجه بالإضافة إلى كل ما تقدم، نزعة التغريب في العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

ولمواجهة هذه التحديات ، فقد برز عدد من المفكرين والإصلاحيين في الوسط الإسلامي، ومنهم: حسن البنا ( 1906- 1949) ، أبو الأعلى المودودي (1903- 1979)، مالك بن نبي ( 1905- 1973) ، وهؤلاء جمعتهم صدمة إلغاء الخلافة، وبدوا متحمسين لإعادتها إلى حيز الوجود، وإن لم يكن مرة واحدة، فعلى الأقل باتباع طريقة الخطوة خطوة، وهو المنهج الذي سارت عليه الجماعة التي أسسها البنا .

ولعل أبرز المظاهر التي جاءت كرد فعل على إسقاط الخلافة، إعلان البنا أن إعادة الخلافة فرض عين على كل مسلم ومسلمة، حيث وجه رسالة إلى رؤساء وملوك الدول الإسلامية في حزيران 1947 طالبهم فيها بتحمل مسئولياتهم، والقيام بمهمة خدمة الأمة، وهي المهمة التي قال: إنها تنقسم إلى شقين:

1- تخليص الأمة من القيود السياسية، حتى تنال حريتها، ويرجع إليها ما فقدت من استقلالها وسيادتها.

2- بناء الأمة من جديد، لتسلك طريقها بين الأمم، وتنافس غيرها في درجات الكمال الاجتماعي.

ثم ما لبت أن مثل حسن البنا تيارا قويا يناضل في مواجهة الفصل بين الدين والدولة، ويدعو للربط بينهما، فيقول في رسائله: " إن الإخوان المسلمين يعتقدون أن الخلافة من الوحدة الإسلامية، ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام، وإنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير في أمرها والاهتمام بشأنها، والخليفة مناط كثير من الأحكام في دين الله، والأحاديث الواردة في وجوب نصب الإمام، وبيان حكم الإمامة، وتفصيل ما يتعلق بها، لا يدع مجالا للشك في أن واجب المسلمين أن يهتموا بالتفكير في أمر خلافتهم منذ حورت عن مناهجها ، وهم مع هذا يعتقدون أن الأمر يحتاج إلى كثير من التمهيدات التي لابد منها، وأن الخطوة المباشرة لإعادة الخلافة لابد أن تسبقها خطوات.

لم تكن ملامح الفكر السياسي للإمام البنا متمثلة في وصاياه وتوجيهاته فقط، ولكن كانت حركة وموقفا أساسهما شمول الإسلام، ففي حين أرسى جمال الدين الأفغاني فكرة الإسلام المجاهد، وأضاف محمد عبده فكرة التجديد في الفقه والتفسير، وربط محمد رشيد رضا بين التجديد والسلفية والتعامل مع السياسات الوطنية، جاء حسن البنا ليضيف على ذلك كله شمولية الإسلام، والترابط الوثيق بين العقيدة والشريعة والسياسة، وبين الفكر والتنظيم الحركي، ومزج بين أفكار فقه الأزهر، ووجدانيات الصوفية، ووطنيات الأحزاب الوطنية، وهذه هي الأسس العامة التي كونت هيكل الفكر السياسي لدي البنا وجماعته من بعده.

لقد لعبت التحولات التاريخية والسياسية والاجتماعية التي حلت ب مصر ، وباقي البلاد العربية والإسلامية دورا بالغ الأهمية في وضع اللبنات الأولى للفكر السياسي لدى حسن البنا ، مما دفعه إلى صياغة مفاهيمه التي يغلب عليها الطابع الإشكالي بصورة متفتحة بعيدة عن الانغلاق المطبق والتشدد فير المبرر، كالديمقراطية ونظام الحكم، ومفهوم الدولة الإسلامية، ومنهج التغيير وآلياته، وما يدخل ضمن هذه المفاهيم الحديثة نسبيا من تجليات كالتعددية السياسية، والفصل بين السلطات، وتداول السلطة السلمي، والحق في الاقتراع، والترشيح، والانتخابات البرلمانية.

وقد جاءت جملة من التغييرات السياسية والتاريخية في تلك المرحلة لتكون الدافع والحافز للعديد من المفكرين والمنظرين ،وعلى رأسهم البنا ليكونوا أكثر حراكا، ولديهم اتجاه سياسي أكثر وضوحا في التغيير، وإثارة التوجه لبحث أصول الدولة في الدين الإسلامي، وما يتعلق بها من أنظمة سياسية وإدارية وعلاقات لمواطنيها بين بعضهم البعض، وعلاقة هذه الدولة بنظيراتها على سطح الأرض، كيف لا وقد أصبح البنا يعرف فيما بعد بصاحب الشعار الشهير، دين ودولة، وكيف لا وهو مهتما بها، غيورا عليها، والقائل: " إن هذا التحديد والتجريد أمر لا يقره الإسلام، وإن على كل جمعية إسلامية أن تضع على رأس برنامجها الاهتمام بشئون أمتها السياسية، وإلا كانت هي نفسها بحاجة إلى أن تفهم معنى الإسلام.

ويمكن فهم أهم ملامح الفكر السياسي لدى البنا بالنظر إلى موقفه من النظام السياسي الإسلامي، فقد رأى منذ بداية نشر أفكاره وتأسيس جماعته، أن م مارس ة السلطة في الدولة الإسلامية يمكن إيجازها في :

(1) التأكيد على مفهوم وحدة السلطة، وعدم انقسامها إلى سلطة مدنية وأخرى دينية، إيمانا منه بأن سلطة الحكم في الدولة الإسلامية بعيدة كل البعد عن مفهوم السلطة الدينية (الثيوقراطية) التي عرفتها أوربا في العصور الوسطى.

(2) قبول صيغة الحكم الدستوري النيابي، باعتباره أقرب نظم الحكم القائمة في العالم كله إلى الإسلام، ورأى أن تلك الصيغة تضمن تحقيق المبادئ الثلاثة التي يقوم عليها نظام الحكم الإسلامي وهي:

أ‌- مسئولية الحاكم: فالحاكم مسئول أمام الله، وأمام الشعب والناس، "وهو أجير لهم وعامل لديهم"، وقد بنى البنا فلسفته الخاصة في هذا المقام على أساس كلام الرسول (عليه السلام) كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" وقال : إن أبا بكر الصديق وضع أساس العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكومين بقوله عندما تولى الحكم:" أيها الناس، كنت أحترف لعيالي فأكتسب قوتهم، فأنا الآن أحترف لكم، فافرضوا لي من بيت مالك".

ب‌- وحدة الأمة: والمبدأ في هذا الإطار هو القائم على أساس الأخوة في الله والدين، لأن الأخوة التي جمع الإسلام عليها القلوب، أصل من أصول الإيمان لا يتم إلا بها ولا يتحقق إلا بوجودها، وعلى العكس يكون الأثر السيئ متى تفرقت الأمة، ومن هنا ظهرت أهمية الطاعة لأولى الأمر ووحدة قراره شرط الالتزام بطاعة الله.

جـ- احترام إرادة الأمة: وهذا المبدأ هو الأكثر تسييسا فيما طرحه البنا من أركان الدولة الإسلامية، وهو مبدأ اجتمعت عليه كافة أنظمة الحكم في العصر الحالي، باعتبار أن الشعب هو مصدر السلطات كلها، وفي القرآن والسنة وميراث الخلفاء العديد من القواعد التي حددت هذه المسئولية.

(3) الإقرار بضرورة وجود معارضة سياسية في ظل النظام الإسلامي، وخلاصة رأيه تتمثل في رفض أن يكون الوصول إلى السلطة هدفا من أهداف المعارضة في النظام الإسلامي، إلا في حالة واحدة فقط، وهي أن تفقد السلطة القائمة شرعيتها بعدم التزامها بالحكم بما أنزل الله، واعتبر أن أهم وظيفة للمعارضة هي إسداء النصح والمشورة لمن بيدهم مقاليد الأمور، بحيث ينالون التأييد إن أحسنوا، وينتقدون إن أساءوا

ولعل ا لبنا استمد هذه الصيغة السياسية الفذة من التاريخ الإسلامي الناصع، حيث استقبل علماء الإسلام في العصور السابقة الأفكار المخالفة لأفكارهم وآرائهم بصدور رحبة، وكانوا يواجهون أفكار الآخرين بثقة عالية بالنفس، ويستفيدون من محاسنها، ويدعون مساوئها تتلاشى في حركة النظام الفكري والقيمي الإسلامي، وبذلك استطاعوا أن يزيدوا من استحكام البنية الفكرية للمجتمع الإسلامي.

(4) السعي لإقامة نظام الخلافة الإسلامية تدريجيا، باعتباره هدفا نهائيا لتنظيم الحياة السياسية، حيث رأى البنا أنه لابد من أن تتم خطوات كثيرة قبل الوصول لهذا الهدف ومنها:

أ‌- قيام حكومات إسلامية في الأقطار الإسلامية المختلفة.

ب‌- حصول التعاون والتنسيق الكامل بينها.

جـ- توثيق التعاون بالمعاهدات والأحلاف.

د- تكوين عصبة أمم إسلامية.

هـ- ثم تكون الخطوة الأخيرة باجتماع المسلمين على خليفة لهم جميعا.

لقد تمثل الإنجاز الأكبر للبنا في مجال الفكر السياسي، في وصل وجدان الأمة بالمدلول السياسي لرسالة الدين الإسلامي، من خلال مفاهيم وشعارات أطلقها، وحرص على إشاعتها، وتثقيف الناس عليها، وأولهم أبناء الإخوان المسلمين .

ثانيا: مفهوم الدولة الإسلامية

تنطلق فكرة الدولة الإسلامية من مفهوم أن الإسلام دين متكامل، فهو ليس نظاما تعبديا فقط، وإنما هو نظام اقتصادي وتربوي وسياسي واجتماعي، وبالتالي فإن الحق الذي جاء به الإسلام لابد له من قوة تحميه، وهي الدولة.

وعند وفاة النبي (عليه السلام) كان أول ما شغل أصحابه أن يختاروا خليفة يقوم بمهام القيادة ورعاية شئون الأمة، حتى أنهم قدموا ذلك على دفنه، فبادروا على مبايعة أبي بكر، وتسليم النظر في أمورهم إليه، وكذا في كل عصر بعد ذلك، وبهذا الاجتماع التاريخي ابتداء من الصحابة والتابعين استدل العلماء على وجوب نصب الإمام الذي هو رمز الدولة الإسلامية وعنوانها.

انشغل المفكرون الإسلاميون في الحقبة التاريخية التي عاشها البنا في محاولات لإعادة تعريف مفهوم الدولة الإسلامية، ولا غرابة في ذلك في فترة شهدت إلغاء الخلافة العثمانية، مما وضع المسلمين أمام تحديات سياسية وفكرية على حد سواء، ومن هنا جاء البحث عن ا لبديل، وإعادة صياغة التعريف.

وفي هذا الإطار انشغل البنا في كثير من أدبياته بالحديث عن قضية الدولة والسياسة في الإسلام، مع محاولة نزع الشوائب الموجودة في العمل السياسي في العصر الحديث، من تدليس وغش وتحالفات شيطانية مكنت الأجنبي في مصر من البقاء لعقود طويلة بالتحالف مع حكم ملكي فاسد، مع تقديم نموذج مخالف لما يمكن أن نسميه بـ "العمل السياسي الأخلاقي" أو " أخلاقيات العمل السياسي" بعيدا عن الحزبية والطائفية.

وبهذا النموذج الأخلاقي للسياسة سعى البنا لتأسيس النموذج الأخلاقي والمثالي للدولة، من جهة تركيبها، ووظائفها، ومهامها، ومهام أجهزتها، وسلطاتها المختلفة، وكيفية تعاملها مع مجموعة من القضايا الإشكالية التي لم ينجح عبر التاريخ في التعامل معها سوى الحكم الإسلامي، وفشلت الأنظمة الأخرى العلمانية والدينية والعرقية، والمواطنة والديمقراطية ، حيث استلهم البنا في هذا الإطار العديد من النماذج التي حفل بها التاريخ الإسلامي، من تراث عصر النبوة، وعصور الخلافات الراشدة الأربعة، وغيرها من النماذج التي صنعت المجد الإسلامي القديم، بالإضافة على الصبغة الحديثة التي صبغ البنا مشروعه من خلال مستجدات الواقع الإسلامي ومتطلباته، بما لا يتعارض مع الصول.

يرجع البنا مفهوم الدولة الإسلامية إلى الإسلام ذاته، حيث يعتبر تصور الدولة ركنا من أركان فهم الإسلام، ومن ذلك قوله: الإسلام عبادة وقيادة، ودين ودولة، روحانية وعمل، صلاة وجهاد، طاعة وحكم، مصحف وسيف، لا ينفك واحد من هذين عن الآخر، منطلقا في ذلك من القاعدة الفقهية السياسية القائلة: الإسلام دين إصلاح اجتماعي متكامل وشامل، وذروة سنامه دولة تقوم عليه والخلافة منهج دائم.

أكثر من ذلك، فقد رأى البنا أن العامل الجغرافي، والإمكانيات، والموارد الطبيعية والمادية، وعدد السكان، ومستوى النمو الاقتصادي والصناعي، ودرجة التطور الفني والتكنولوجي، ودرجة الاستعداد العسكري، فضلا عن الاعتبارات المتعلقة بكفاءة الأجهزة السياسية والدبلوماسية والدعائية، كل ذلك مؤثرات لا يمكن إغفالها في رسم أية علاقة تقوم بها الدولة الإسلامية.

ثم يفسر البنا معنى عبارته الشهيرة (الإسلام دين ودولة): أن الإسلام شريعة ربانية جاءت بتعاليم إنسانية وأحكام اجتماعية، وكلت حمايتها ونشرها والإشراف على تنفيذها بين المؤمنين بها، وتبليغها للذين لم يؤمنوا بها على الدولة.

لقد تأثر مشروع الدولة الإسلامية لدى البنا بمجموعة من العوامل التي جعلته يظهر على الشكل الذي جاء عليه ، وهي:

1- الظروف التي كانت قائمة في ذلك الوقت على مستوى عموم الأمة العربية والإسلامية، من تخلف حضاري وعلمي واقتصادي وعسكري.. إلخ.

2- وقوع أجزاء كبيرة من العالم العربي والإسلامي تحت نير الاستعمار الغربي المباشر، حيث كانت القوى الأوربية تسيطر على أجزاء شاسعة من البلدان العربية والإسلامية بقوة السلاح والسياسة، وتستنزف خيراتها وثرواتها، وتوجهها في سبيل تحقيق المصالح الغربية على مختلف المستويات السياسية والأمنية والعسكرية.

3- إلغاء دولة الخلافة الإسلامية عام 1924 م مما مثل صيحة تحذير قوية للمسلمين بأن آخر حصون وحدة الأمة ممثلا في الخلافة قد تهدم، بما يفرض على كل مسلم مخلص أن يسعى للبحث عن اتجاه جديد للنهضة الإسلامية، يتجاوز هذه الانتكاسة الكبرى، ومن ثم نشأ مشروع الدولة الإسلامية لدى البنا كبديل لانهيار دولة الخلافة الإسلامية.

4- غياب تطبيق الشريعة الإسلامية، وبالتالي غاب المشروع الأممي الإسلامي في الداخل والخارج ، وبات واضحا أن غياب الدولة القوية القادرة على فرض النموذج الإسلامي الأصيل يعتبر واحدا من أهم أسباب هذه الحالة.

كانت هذه العوامل على المستوى الأممي الشامل.

أما على المستوى الداخلي في مصر فإن حالة الدولة المصرية في ذلك الحين، رغم الاستقلال الشكلي الذي نالته في ذلك الحين بموجب دستور 23 من فبراير 1922م، في تراجع مطرد، حيث مات أو نفي غالبية رموز الحركة الوطنية، وبالتالي ماتت أو نفيت مشروعات الاستقلال والتحرر الوطني.

من هنا ومع غياب المشروع الوطني كان من اللازم طبقا لطبائع الأشياء ظهور دعوة مثل دعوة الإخوان المسلمين ممثلة في مؤسسها حسن البنا ، تتبنى هذا المشروع في سياقاته المختلفة، سواء على المستوى القطري الخاص ب مصر ، أو القومي العربي أو الأممي الإسلامي.

كذلك فإن حالة الفساد السياسي التي كانت قائمة في مصر في ذلك الوقت، سواء على مستوى القصر أو الأحزاب السياسية التي كانت أكثر القوى قابلية للاستقطاب، سواء من القصر الملكي، أو من جانب الاستعمار البريطاني الذي كان جاثما على أنفاس البلد في ذلك الوقت، سواء بوسائل الإغراء السياسي أو المادي، مع انحرافها بعيدا عن رسالتها الأصلية في مجال العمل الوطني، كل ذلك دعا البنا لأن يضع مشروع الدولة الإسلامية بقيمها وضوابطها في العمل السياسي نصب عينيه.

من جهة أخرى، فقد كان مشروع الدولة الإسلامية لدى البنا في ذلك الوقت بعيد النظر في أنه قدر الشكل العام للدولة في العالم العربي والإسلامي في مرحلة ما بعد خروج الاستعمار بما في ذلك متطلبات البنا ء والنهضة في هذه المرحلة ، ورأى أن دولة إسلامية قائمة على الشريعة، وذات مواصفات محددة في مرجعيات الدين الإسلامي الأصيلة، في مجال العمل الوطني، كل ذلك دعا البنا لأن يضع مشروع الدولة الإسلامية بقيمها وروابطها في العمل السياسي نصب عينيه.

من جهة أخرى، فقد كان مشروع الدولة الإسلامية لدى البنا في ذلك الوقت بعيد النظر في أنه قدر الشكل العام للدولة في العالم العربي والإسلامي في مرحلة ما بعد خروج الاستعمار، بما في ذلك متطلبات البنا ء والنهضة في هذه المرحلة ورأى أن دولة إسلامية قائمة على الشريعة، وذات مواصفات محددة في مرجعيات الدين الإسلامي الأصلية، وهي القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، والتراث السياسي الأصيل لدولة الخلافة الإسلامية الراشدة، ستكون هي الحل الأكثر فاعلية لمشكلات الأمة على مستوياتها القطرية الصغيرة، أو القومية والأممية الكبرى والعامة.

1- مبادئ التصور النظامي للدولة الإسلامية

يرى الإمام أن الدولة الإسلامية تقوم على ثلاثة مبادئ أساسية يتشكل في مجموعها محور وجودها السياسي، وهذه المبادئ هي:

- العدل في الإسلام أساس الأحكام.

- الحرية فلا يتصور الإسلام أبدا دولته تحت حكم غيرها، أو أرضه تحت سلطان أجنبي.

- الجهاد : الذي هو أصل من الأصول التي تقوم عليها الدولة الإسلامية، حيث يقول: لن تقوم دولة بغير كفاح، ولن تصان حرية بغير سلاح.

إن موضوعية الدولة الإسلامية في فكر البنا شكلت تقدما في نظرته، ومن ثم قراءته للوقائع السياسية المستجدة على الصعيد المصري والعربي، فقد أخذها عمن سبقوه بعد تعديل جوهري تحولت بفعله من خلافة ممتنعة وطوباوية، على دولة إسلامية ممكنة وواقعية، لكنه إذ رأي فيها داء الشرع والواجب، لم يتعام عن السياسة والممكن، بل طفق يبحث لهذه الدولة عما يسوغ له أمرها في مجتمع غزته الحداثة السياسية والثقافية بعد غزو الاستعمار له.

من جهة أخرى، فإن هذا التوصيف للدولة الإسلامية، يجعل علاقاتها الداخلية والخارجية لها أهداف محددة، منها: حماية السيادة الإقليمية ، دعم الأمن القومية، تنمية مقدرات الدولة من القوة، إثراء الاقتصاد، ومن أهدافها أيضا: الدفاع عن أيديولوجية الدولة، والعمل على نشرها في الخارج، فضلا عن أهدافها الثقافية المتنوعة.

2- خصائص الدولة الإسلامية

يمكن استخلاص ثلاث خصائص أساسية للدولة المنشودة كان البنا يعبر عنها بعبارات متعددة في مناسبات مختلفة، وهي:

أنها دولة دعوة: حيث قال : إن الدعوة أساس الدولة، والدولة حارس الدعوة، وهما معا قوام الحياة الإنسانية الصحيحة المستقيمة.

أنها دولة عالمية، وللعالمية في ذهن البنا ثلاثة أبعاد:

أ‌- نتصل بوظيفة من وظائف الدولة الإسلامية، وهي: نشر الدعوة وتنظيم عملية الجهاد.

ب‌- تتعلق بقضية الهوية: حيث يصبح مفهوم الأخوة الإسلامية محورا رئيسا لتوحيد البشرية.

ج‌- ترتبط بغاية الدولة، وهي التمكين لتحقيق مثالية الإسلام السياسية ليسعد العالم بتعاليمه.

أنها دولة محكومة بسلطان الشريعة، ويوضح ذلك بالشكل التالي:

أ‌- أن تصبح الدولة في خدمة رسالة الإسلام وليس العكس، كما حدث في أوربا الوسطى.

ب‌- لم يقصد بهذا أن يصبح لعلماء الإسلام سلطة خاصة بهم تكون فوق سلطة الدولة.

ج‌- لا يمكن أن تكون الدولة الإسلامية ثيوقراطية بالمعنى الأوربي، لسبب بسيط هو أن طبيعة الدين في أوربا وهيمنة رجاله على الدولة والعلم، لا تنطبق على الإسلام.

وهنا ينبغي توضيح العالمية التي قصدها البنا كأحد خصائص الدولة الإسلامية، حيث يمكننا تحديد الإطار العام لمرحلة العالمية الإسلامية على النحو التالي:

أ‌- أن يصبح للدولة الإسلامية مكان بين الدول كقوة فاعلة ومهمة في العالم، مرهوبة الجانب، تسمع إذا قالت، وتستشار إذا غابت.

ب‌- أن يكون للدولة منهج ودعوة ترمي لنشرها بين العالمين، لا سيما في ظل حالة القطب الواحد التي تعيشها السياسة الدولية.

ج‌- أن يعترف العالم بالكيان الإسلامي، وهذا ما حصل في رسائل النبي عليه السلام إلى الرؤساء والملوك.

وهذه العالمية تدفعنا لتقرير قاعدة فقهية سياسية مفادها أن الإسلام عالمي الفكرة، إنساني النزعة في الوقت ذاته، وهذا ما اعتقده البنا وعمل به انطلاقا منه.

3- وظائف الدولة الإسلامية

رأى البنا أن الوظائف الأساسية المناطة بطبيعة الدولة الإسلامية، في حال قيامها ، القيام بـ:

- بناء نظام سياسي يجسد عمليا قيم ومبادئ المثالية الإسلامية.

- تحقيق العدالة باعتبارها القيمة العليا في النظام السياسي الإسلامي.

- نشر الدعوة والجهاد، بحيث لا ينفك أحدهما عن الآخر.

لقد نظر البنا إلى الدولة الإسلامية وهو يبشر بها ويدعو لإقامتها، على أنها دولة مرنة متعددة الأطياف ، لا دولة دينية ، دولة مبادئ، ودولة الحقوق والحريات، وهي دولة هداية لا جباية، دولة دستورية مدنية عالمية.

وحين ركز البنا على مصطلح دولة الحريات، فذلك لتقديره أن دولة الكبت والقمع والانغلاق مآلها إلى الزوال، وهو يعني بالأساس الحريات باختلاف أنواعها، الحريات الدينية، السياسية، حرية العمل والمال، وحرية الرأي.

ومع ذلك فإن هناك قواعد وضوابط لهذه الحريات، تحول بينها وبين أن تتحول الدولة على فوضى عارمة باسم الحريات، ومن هذه الضوابط.

أ‌- أن لا تؤدي إلى التفلت من القيم والمثل الأخلاقية الدينية.

ب‌- أن لا تؤدي إلى الإخلال بالنظام العام للمجتمع والدولة.

ج‌- أن لا تؤدي إلى العصيان المسلح والتكتل الهدام.

إن ما قصده البنا من دولة الحريات أن تكون الأمة هي مصدر السلطات، وصاحبة السيادة العليا في شئون الحكم، سواء عن طريق اختيارها الحاكم ومراقبته ومحاسبته، أو في عزله

ولذلك فقد حدد اللبنات الأولى للدولة الإسلامية القوية، وقال : إنها النسق أو النظام القرآني، الذي من بين أركانه هذه:

1- العبادات المختلفة: الصلاة والذكر والتوبة والصيام والزكاة..إلخ.

2- الأخلاقيات العامة: كالعفة والتحذير من الترف، والأمر بالمعروف، وبذل النصيحة، والنهي عن المنكر، ومقاطعة مواطنه وفاعليه، وحسن المعاملة، وكمال التخلق بالأخلاق الفاضلة.

3- التكافل بالإنفاق في سبيل الله والصدقة، وصولا على مستوى التضامن الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم بالرعاية والطاعة معا.

4- بناء شخصية المسلم عبر الكسب والعمل وتحريم السؤال، والتزود بالعلم والمعرفة لكل مسلم ومسلمة في فنون الحياة المختلفة، كل فيما يليق به، والحرص على سلامة البدن والمحافظة على الحواس، والحج والسياحة والرحلة، واكتساب المعرفة عبر النظر في ملكوت الله.

5- الجهاد وحماية حدود ومصالح الدولة كفريضة توجب القتال في سبيل الله، وتجهيز المقاتلين، ورعاية أهليهم ومصالحهم من بعدهم.

وهنا لا ينبغي لأحد أن يتوهم أن هذه القاعدة تتعارض مع شعار الإسلام هو السلام، ولهذا فإن للحرب والجهاد قواعد منضبطة في منظومة الفقه السياسي الإسلامي، اعتنقها البنا وأتباعه من بعده، ومنها:

أ‌- لا حرب بدون دعوة وإنذار لرءوس القوم، ومع ذلك رسائل النبي عليه السلام للملوك والرؤساء التي دعاهم فيها إلى الإسلام.

ب‌- الأصل في العلاقة مع المجتمع الدولي هو السلم والجوار، ما دامت لغة التفاهم هي السائدة.

ج- يعد الاعتداء على المسلمين سببا من أسباب القتال والجهاد، وفي ذلك يقول الدكتور مصطفى السباعي – أحد رفاق البنا وأتباعه: الجهاد في الإسلام مشروع لفرضين: دفع العدوان على حرية الأمة في وطنها ودينها، واستنقاذ الضعفاء المضطهدين من سلطة الظالمين.

لقد آمن البنا إيمانا حقيقيا راسخا بأن الباعث على القتال والجهاد والحرب ليس الكفر ومخالفة الدين، وإنما هو العدوان، وإذا ما حدث على المسلمين عدوان، فعلى الدولة الإسلامية أن تقوم برده.

واستكمالا لهذا الموقف من وظائف الدولة الإسلامية ، لم تكن منهجية البنا داخل جماعته سجينة قمقم الأطر التنظيمية ، وقوالبها وهيكلياتها مع وجودها واعتمادها، ولم يكن وجود هذه الأطر عائقا دون الانفتاح على من هم خارجها، أو حائلا دون التعاون والتنسيق معها ضمن قاعدته الذهبية: نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه.

نعم، لم يحنط البنا أعضاء التنظيم، ولم يحظر عليهم الانخراط في المجتمع الأهلي ومؤسساته، بل العكس كان الصحيح، كان يعدهم ليكونوا الروح التي تسري في الأمة لتحييها بالإسلام، وهكذا عرفت بنية الحركة بعد نشأتها أقساما تعني بالقضايا الاجتماعية والإغاثية، والعلاقات الخارجية، والاتصال بالعالم الإسلامي وحكامه وشعوبه.

كان الشهيد البنا يعتبر التنظيم وسيلة لا غاية، كما هي الدولة، وآلية لأهداف عليا، وليس بديلا عنها أو ملغيا لها، فإن كان الإسلام منهجا عالميا، فإنه يفرض أن يكون أتباعه والعاملون له أفرادا ومؤسسات وحركات، على جانب كبير من الانفتاح على جميع فئات المجتمع، وإذا كان الدور الأساس للإسلاميين معالجة البشرية من أمراضها وعللها، ومساعدتها على حل مشاكلها، فإن ذلك يقتضي الانطلاق لا الانغلاق، وإذا كان دور الدولة الإسلامية أن تكون شاهدة على الناس بالحق، فإن هذه الشهود يحتاج إلى الحضور لا الغياب.

لقد أدرك البنا كل هذه المعاني والوظائف للدولة الإسلامية المنشودة، فكان الحركة التي لا تهدأ، والشعلة المتقدة المضيئة، والانفتاح الذي لا ينغلق، والرائحة الزكية التي تنشر طيبها في كل مكان، فلا تقوقع ولا تعليب، ولا غياب عن كعترك الصراع، وإنما اندفاع وتدافع، وتحفز وتقدم، وتضحية وعطاء، ضمن دائرة سنة التدافع الإلهية.

4- عوامل قوة وتحلل الدولة الإسلامية

يقدم البنا قراءة تاريخية واستشرافية عن العوامل المنطقية والطبيعية لقوة وتحلل أي دولة في هذا العالم، فضلا عن أن تكون دولة إسلامية، ففي رسالته " بين الأمس واليوم" حدد مجموعة من الأطر التي على أساسها بنى مشروعه الجديد للنهضة الإسلامية ، ممثلة في الدولة الشاملة التي تنطلق من عناصر القوة التي حددها القرآن الكريم، وأبرزتها السنة النبوية، حيث تكلمت هذه الأطر أولا عن الدولة الإسلامية الأولى في أصولها النقية، وثانيا عن عوامل ضعفها وأسباب سقوطها، ودراسة عوامل القوة والضعف هذه ، بحيث يحاول العاملون لإحياء هذه الدولة تعظيم عوامل القوة، وتلافي نقاط الضعف التي أدت إلى سقوط دولة الخلافة.

ومن ضمن عناصر قوة الدولة كما حددها البنا :

أ‌- وحدة القيادة السياسية

ب‌- اتباع النظام الاجتماعي القرآني.

ج‌- اللامركزية في الحكم: بيت المال، والجيش، وإدارة شئون الولايات.. إلخ.

د‌- الابتعاد عن سيطرة السلطات الدينية على العمل السياسي والجانب الروحي من حياة البشر، طبها مع ضرورة الالتزام الإيماني.

هـ- الابتكار الحضاري الذاتي، بجانب النقل والتطوير عن الحضارات الأخرى.

أما عن عوامل التحلل والتراجع في الدولة ، فيذكرها البنا على النحو التالي:

أ‌- الخلافات السياسية والعصبية المذهبية، وتنازع الرئاسة والجاه.

ب‌- الانصراف عن الدين كعقائد وأعمال، على ألفاظ ومصطلحات ميتة لا روح فيها ولا حياة.

جـ- الانغماس في ألوان الترف والنعيم، والإقبال على المتعة والشهوات.

د- إهمال العلوم العملية، والمعارف الكونية، وصرف الأوقات، وتضييع الجهود في نظريات عقيمة وعلوم خيالية سقيمة.

هـ- غرور الحكام بسلطانهم والانخداع بقوتهم، وإهمال النظر في التطور الاجتماعي للأمم من غيرهم.

هذه العوامل التي قدمها البنا تصلح لأن تكون محاذير مشعلة الأضواء أمام كل من يتحمل مسئولية الملمين ورعاية دولتهم، ذلك أن ما أصاب الدولة الإسلامية في أبهى عصورها من تراجع وتحلل. هو ذاته الذي يصيب الدول العربية والإسلامية اليوم في عصر التكنولوجيا والعولمة، ولكن آثارها كانت كارثية على الدول ورعاياها العرب والمسلمين.

ثالثا: الموقف من الديمقراطية

ارتبط الحكم في الخبرة الغربية بعدة مصطلحات أهمها: الديمقراطية المرتكزة على حكم الشعب للشعب بالشعب بالأكثرية : والثيوقراطية أي الحكومة الدينية التي يعلن فيها الحاكم أنه ظل الله في أرضه، ومع انحياز الغرب للأول، وذم الثاني وإسقاطه على الإسلام، تأتي هذه المعالجة لفهم الديمقراطية وموقف البنا منها، وأي علاقة تربطها بالإسلام، تشابها أم تنافرا.

لقد كثر الجدل في العقود الأخيرة بين المفكرين الإسلاميين وغيرهم، بل وداخل الساحة الفكرية الإسلامية ذاتها حول مفهوم وتحديد معنى الديمقراطية ، ولعبت متغيرات عديدة دورا بارز الأهمية في تأجيج هذا الجدل.

ورغم أن الجدل الدائر في الأوساط الإسلامية حول طبيعة الديمقراطية ومدى اقترابها أو ابتعادها عن الإسلام، إلا أنها تكشف عن تحول في الرؤية السياسية والنظرة الفكرية عند الإسلاميين، مرتبطة بالتأكيد بمراجعة وإعادة قراءة للمفاهيم، والرؤيا الإسلامية في إطار إسلامي.

لن تستطيع تقديم موقف واضح للبنا حول الديمقراطية دون الرجوع ولو قليلا لمن سبقه من آراء العلماء والمفكرين، فقد شغلت قضية الديمقراطية المفكرين السياسيين الإسلاميين في العالم العربي منذ فجر النهضة العربية المعاصرة، وتغير مفهومها وتعدل منذ ذلك الوقت، تحت تأثير مجموعة مختلفة من التطورات الاجتماعية والسياسية والفكرية، ولعل أول من اثار حوارا حول الفكرة الديمقراطية في العالم العربي هو الشيخ رفاعة الطهطاوي، الملقب بـ "ابو الديمقراطية المصرية" حيث ركز كتاباته على كيل المديح للنظام الديمقراطي الذي نشأ في فرنسا، ووصف مشاعره تجاه انتفاض الأمة الفرنسية للدفاع عن الديمقراطية ، مبديا حرصه على إثبات أن النظام الديمقراطي الذي شهده في فرنسا ينسجم انسجاما تاما مع تعاليم الدين الإسلامي ومبادئه.

أما جمال الدين الأفغاني فقد توصل بعد تقص دقيق لأسباب انحطاط المسلمين إلى أن مرجعها هو غياب العدل والشورى، ولذلك رفع لواء المطالبة بأن يعاد للشعب حق م مارس ة دوره السياسي والاجتماعي عبر المشاركة في الحكم من خلال الشورى والانتخابات.

وقد سار على نهجه تلميذه محمد عبده ، الذي رأى أن أهم تحد يواجه الأمة الإسلامية هو نظرتها للعلاقة بين الإسلام والعصر، وفي محاولة للتوفيق بين المبادئ الإسلامية وبعض الأفكار الغربية اقترح أن يكون مصطلح المصلحة عند المسلمين يقابل المنفعة عند الغربيين، والشورى تقابل الديمقراطية ، والإجماع يقابل رأي الأغلبية.

ولدى معالجته إشكالية السلطة، أكد عبده أنه لا يوجد حكم ديني ثيوقراطي في الإسلام، معتبرا أن مناصب الحاكم والقاضي والمفتي مناصب مدنية دينية، داعيا على إعادة إحياء الاجتهاد للتعامل مع الأولويات والمسائل الطارئة والمستجدة على الفكر الإسلامي.

أما محمد رشيد رضا فرأى أن سبب تخلف الأمة يكمن في أن المسلمين فقدوا حقيقة دينهم، وذلك مما شجعه الحكام الفاسدون، لأن الإسلام الحقيقي يقوم على أمرين: الإقرار بوحدانية الله، والشورى في شئون الدولة، معتبرا أن الحكام المستبدين حاولوا حمل المسلمين على نسيان الأمر الثاني بتشجيعهم على التخلي عن الأمر الأول، مؤكدا أن أعظم درس يمكن أن يستفيده أهل الشرق من الأوربيين هو معرفة ما يجب أن تكون عليه الحكومة.

وهكذا حاول مفكرو القرن التاسع عشر الذين تأثروا بلا شك بفكر وم مارس ة الديمقراطية الأوربية، إثبات وجود تشابه بين الديمقراطية والشورى، وسعوا في مواجهة أزمة الحكم الخانقة والفساد والسلوك المستبد للحكام إلى تبرير اقتباس جوانب من النموذج الغربي اعتقدوا بتوافقها مع الإسلام، وقدرتها على إخراج المجتمعات العربية من أزمتها السياسية الخانقة.

مع تلك الحصيلة الفكرية والسياسية والتاريخية جاء موقف البنا من الديمقراطية ، منطلقا من اعتقاده الراسخ بأن الإسلام مبدئيا لم يقف موقفا سلبيا تجاه الإنجازات الإنسانية، وتجاه ما يمكن أن يحققه الإسلام من إضافات مفيدة لحياة البشر، والحقيقة عموما ليس لها مصدر واحد، كما أن هذه الحقيقة يمكن أن تكون ثمرة السعي الإنساني الجاد، سواء أكان هذا السعي منطلقا من منهج إسلامي أم من مناهج أخرى قد تكون مغايرة.

وإذا كانت الديمقراطية بهذا المعنى إنجازا إنسانيا، فلم يمانع البنا من الأخذ بأسبابها، إن لم نقل: إن الإسلام يدعو إلى الأخذ الجدي بمعطيات النظام الديمقراطي، لأن ذلك يتصل اتصالا وثيقا بما دعا إليه الإسلام على مستوى الشورى.

وإن لم يكن البنا قد أفرد مساحة واسعة من أحاديثه ورسائله للحديث عن الديمقراطية بصورة واضحة، فإننا نستطيع الاقتباس مما أورده وهو يتحدث عن احترام إرادة الأمة حين قال: " من حق الأمة أن تراقب الحاكم أدق مراقبة، وأن تشير عليه بما ترى فيه الخير، وعليه هو أن يشاورها وأن يحترم إرادتها، وأن يأخذ بالصالح من آرائها".

ويواصل: "النظام الإسلامي في هذا لا يعنيه الأشكال ولا الأسماء متى تحققت هذه القواعد الأساسية التي لا يكون الحاكم صالحا بدونها، ومتى طبقت تطبيقا يحفظ التوازن بينها ولا يجعل بعضها يطغى على بعض.

لم يعتقد البنا أن الديمقراطية كنظام حكم تتنافى مع الإسلام، وهي كونها أسلوبا بشريا تنتقد بكثرة لما فيها من نقاط الضعف الكثيرة، بيد أنها أمام منافساتها والخطر المحدق بالمجتمع البشري من الطرف الآخر، وبملاحظة دواعي الواقعية ورعاية المصالح، وفهمنا العام للإسلام، وإذا لم نكن متحجرين ومتعصبين وكنا نعيش في زماننا، ونعي أن الفكر قد تطور وتحول، وأنه لا يمكن حبس الأفكار في سجن من حديد، فإننا لن نجد إذ ذاك طريقا سوى الديمقراطية .

وإذا جاء موقف البنا من الديمقراطية منسجما مع جملة من مواقف معاصريه الذين كان الحراك السياسي والفكري لديهم أكثر وضوحا في التغيير، والرغبة بالحكم، وتسلم مقاليد الأمور من جهة، فإنه جاء إلهاما للعديد من المفكرين الذين أتوا خلفه، ممن نظروا إلى الديمقراطية بالرغم من التمايز بين كتاباتهم، كمجموعة من الإجراءات التي تشتمل على عناصر يمكن الاستعانة والأخذ بها من جهة أخرى.

أثر موقف البنا من الديمقراطية

الفهم المتقدم الذي طرحه البنا عن الديمقراطية جعل القاعدة العريضة من مفكري التيار الإسلامي الحديث والمعاصر يتبنون رأيه ويشرحون أسسه تارة، ويقدمون تفسيرات أكثر حداثة من جهة أخرى، ولهل جهود هؤلاء تركزت في محاولات للبحث عن أصول الديمقراطية في التراث الإسلامي، خاصة الكتاب والسنة، وهي محاولات جمعت الكثير من المفكرين والمنظرين الإسلاميين ممن اقتنعوا بمواقف البنا من الديمقراطية والحكم.

لقد شكل موقف البنا من الديمقراطية ، وإن لم يكن بالوضوح الذي أعلنه خلفه من المفكرين والمنظرين، إلهاما لهم كما سبقت الإشارة، بحيث تلخص موقفهم في أن الديمقراطية لا تتعدى كونها وسيلة بل لعلها أنجع وسيلة سياسية اخترعها البشر حتى الآن لإثبات حق الناس في أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، مبدين اعتقادهم بأن من واجب المسلمين الأخذ بها، لأنها وسيلة من وسائل تداول السلطة يقرها الإسلام، ولا تثريب على المسلمين في الأخذ بها.

1- د. يوسف القرضاوي :

على رأس هؤلاء المفكرين الذين قدموا موثقا إسلاميا راقيا من الديمقراطية ، مستمدا بالأساس من موقف البنا ، كان د. يوسف القرضاوي الذي أكد أن من يتأمل جوهر الديمقراطية يجد أنها من صميم الإسلام، فهو ينكر أن يؤم الناس في الصلاة من يكرهونه، ولا يرضون عنه، وفي الحديث : " ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رءوسهم شبرا، وأولهم رجل أم قوما وهم له كارهون" وإذا كان هذا في الصلاة ، فكيف في أمور الحياة والسياسة؟

ويؤكد القرضاوي أن الإسلام سبق الديمقراطية بتقرير القواعد التي يقوم عليها جوهرها، ولكنه ترك التفصيلات لاجتهاد المسلمين وفق أصول دينهم، ومصالح دنياهم وتطور حياتهم بحسب الزمان والمكان ، وتجدد أحوال الناس.

2- راشد الغنوشي:

فيما أجاد المفكر المعاصر رشاد الغنوشي حين نظر على الديمقراطية بهذا المنطق: ماذا في قيم الإسلام إذا فقهت ما يتناقض مع الديمقراطية إذا أحسن فهمها؟ طبعا مع إدراكه الشديد أن الأشكال المحققة للحكم الإسلامي متنوعة بالضرورة بتنوع أحوال الناس ومستوى تطورهم. فالديمقراطية لا تعدو عن كونها جهازا للتعبير عن إرادة الشعب في شكل قرار ، حق إصداره للأغلبية مع الاحتفاظ للأقلية بحث المعارضة، إنها جهاز يعطينا أدوات لتحقيق التداول على السلطة دون إراقة للدماء ، ويكون هناك جهاز لسن السياسات العامة، وتوزيع السلطة على نجو يجنبها الاحتكار والانفراد، ويتيح المعارضة السلمية لها.

ويذهب الغنوشي أبعد من ذلك، حين يؤكد أن النظام الديمقراطي على ما هو في الغرب يبقى في غياب النظام الإسلامي أفضل الأنظمة التي تمخض عنها تطور الفكر البشري، ويبني إطارا صالحا لضمان حرية الشعوب في تقدير مصيرها، واختيار نوع النظام السياسي الذي تريد أن تعيش في ظله، بحيث لا ينبغي الاتكاء على عيوب هذا النظام لرفضه، مقررا بأن حرية منقوصة خير من الاستبداد.

2- فهمي هويدي:

من جهة أخرى، فإن مفكرا أبدى إعجابه غير مرة بأفكار الإمام حسن البنا مثل فهمي هويدي ، يعلن أن الإسلام يظلم مرتين: مرة عندما يقارن بالديمقراطية ، ومرة عندما يقال بأنه ضد الديمقراطية ، حيث أن المقارنة بين الاثنين خاطئة، كما أن ادعاء التنافي خطيئة، كيف ذلك؟

المقارنة متعذرة من الناحية المنهجية بين الإسلام والديمقراطية ، فالإسلام دين ورسالة تتضمن مبادئ تنظيم عبادات الناس وأخلاقهم ومعاملاتهم، فيما الديمقراطية نظام للحكم، وآلية للمشاركة، وعنوان محمل بالعديد من القيم الإيجابية.

في المقابل مخطئ من يظن أن قائمة ستقوم للمسلمين بغير الإسلام، أو أن يستقيم لهم حال بغير الديمقراطية ، إذ بغير الإسلام تزهق روح الأمة، وبغير الديمقراطية التي نرى فيها مقابلا للشورى السياسية يحبط عملها.

بسبب ذلك يرى أن الجمع بين الاثنين، الإسلام والديمقراطية ، هو من قبيل المعلوم بالضرورة من أمور الدنيا.

3- د. حسن الترابي:

في المقابل، نرى مفكرا سياسيا مرموقا كالدكتور حسن الترابي خاض تجربة الحكم الإسلامي عدة سنوات، يقدم فهما فلسفيا أكثر مما قدمه البنا ومعاصروه ومن أتى بعده، حيث يركز في استعراضه للديمقراطية حول أصل المفهوم، وإمكانية نقله على البيئة العربية الإسلامية، ومحاولته الفكرية لتبيان شمولية الشورى ومقابل محدودية الديمقراطية .

ويعقد الترابي مقارنة بين مضمون الشورى والديمقراطية ، فهو لا يرى اختلافا كبيرا في المعنى والمقصد وهو حكم الشعب، ويرى أن الإسلام طبق جوهر الديمقراطية حين اشترط بيعة ولي الأمر، وحين قال بالإجماع بالأمور الفقهية.

4- مالك بن نبي:

حاول المفكر الإسلامي المعاصر مالك بن نبي الإجابة عن سؤال : هل في الإسلام ديمقراطية؟ مشيرا إلى أن تعريف مفهومي الإسلام والديمقراطية بالطريقة التقليدية قد يؤدي إلى استنتاج عدم وجود علاقة بينهما من حيث التاريخ والجغرافيا، منبها في ذات الوقت إلى أن تفكيك المصطلح في معزل عن محموله التاريخي، وإعادة تعريف الديمقراطية في أبسط أشكالها تحريرا من القيود اللغوية والأيديولوجية قد يوصل على استنتاج مختلف.

ورأى أنه ينبغي النظر إلى الديمقراطية من ثلاث زوايا:

1- الديمقراطية كشعور نحو الآخر.

2- الديمقراطية كمجموعة من الشروط الاجتماعية والسياسية اللازمة لتكوين وتنمية هذا الشعور في الفرد.

ورغم انتقاده للنموذج العلماني من الديمقراطية وإبرازه لما فيه من سلبيات، إلا أنه سعى للتأكيد على أن الإسلام بمعارضته الاستبداد وتحريره للإنسان، فإنه ينمي الشعور الديمقراطي، ولذلك فإن بالإمكان التوصل إلى نظام ديمقراطي إسلامي يجمع محاسن الديمقراطية ويتجنب مثالب العلمانية.

ورأى مالك بن نبي أن الجواب عن سؤال: هل توجد ديمقراطية في الإسلام؟ لا يتعلق ضرورة بنص فقهي مستنبط من القرآن والسنة، بل يتعلق بجوهر الإسلام الذي لا يسوغ أن يعتبر مجرد دستور يعلن سيادة شعب معين، ويصرح بحقوق وحريات هذا الشعب. بل ينبغي أن يعتبر مشروعا ديمقراطيا تفرزه الم مارس ة، وترى من خلاله موقع الإنسان المسلم من المجتمع الذي يكون محيطه، بينما يسير في الطريق نحو تحقيق القيم والمثل الديمقراطية

ويخلص مالك بن نبي إلى أن في الإسلام ديمقراطية، لا في الزمن الذي تحجرت فيه التقاليد الإسلامية وفقدت فيه إشعاعها، كما هو شأنها اليوم بصورة عامة، ولكن في زمن تخلقها ونموها في المجتمع.

الاتفاق والتناقض بين الإسلام والديمقراطية

أ‌- أوجه التعارض:

مع كل ما تقدم من آراء للبنا وأتباعه من إعجاب بمفهوم الديمقراطية كم مارس ة عملية، فإنه من الضرورة استعراض بعض الأوجه الاستدراكية التي أوضحها البنا ومن فسروا مواقفه السياسية عند إبداء عدم معارضته للديمقراطية ومنها:

1- المراد بكلمة شعب أو أمة في الديمقراطية الحديثة، هو ذلك الشعب المحصور في حدود جغرافية يعيش في إقليم واحد، وتجمع بين أفراده روابط الدم والجنس واللغة والعادات المشتركة، أما الأمة في نظر الإسلام- كما رسخها البنا - فالرابط بينها هو الوحدة في العقيدة، أي الفكرة والوجدان، وبالتالي فنظرة افسلام إنسانية، وفقه عالمي.

2- تتمثل أهداف الديمقراطية الحديثة في أغراض دنيوية ومادية، ترمي لتحقيق سعادة أمة أو شعب بعينه، فيما أغراض النظام الإسلامي- كما يراها البنا - تشمل مثل هذه الأغراض في الدنيا، وتعطيها ما يجب لها من أهمية ، ولكن تجمع إلى جانبه أغراضا روحية، هي الأولى والأساس.

3- إن سلطة الأمة في الديمقراطية الغربية مطلقة، لكنه في الإسلام مقيدة بالشريعة لما فيه مصلحة الأمة على المدى البعيد.

4- الديمقراطية بالمفهوم الغربي تمارس في سياق لا ديني، فيما الحكم الشعبي في الإسلام لا مجال إليه، وهو منقطع عن معاني الشريعة والإيمان، لأن الإسلام دين توحيدي لا يفرق بين سياسة ودين، أو حياة عامة وخاصة.

5- الديمقراطيات الغربية الحديثة تعمل على توظيف الثراء المادي لتأكيد سلطة حزب أو فرد أو جماعة، مما يجعل هذه الديمقراطية خاصة بفئة تستثمر مصالحها دون أن تكثرت فعلا بمشاركة القرار مع شعوبها، علما بأنها من حق جموع المواطنين أن ي مارس وها ويستفيدوا من الهوامش التي تمنح لهم بفعل تطبيقها.

6- جاء موقف البنا من الديمقراطية والمبادئ والقيم التي قامت عليها، كالحرية، والكرامة، ورعاية حقوق الإنسان، على أنها حقوق، وهي عندنا – نحن المسلمين- فرائض، فما يعتبر في الديمقراطية حقا يعتبر في الإسلام فرضا، وثمة فرق بين الأمرين، لأن الحق يجوز للإنسان أن يتنازل عنه، فإذا رأى المرء خطأ قال: من حقي أن أقومه أو أتركه، أما في الإسلام فإنه فرض على المسلم أن يقوم الخطأ ، بأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

ب‌- أوجه الالتقاء:

مع ذلك فلم يتحرج البنا – كما فسر موقفه من الديمقراطية - من إلقاء الضوء على بعض أوجه الشبه والالتقاء بين الإسلام والديمقراطية ، ومنها:

1- إن كان يراد بالديمقراطية حكم الشعب بواسطة الشعب من أجل الشعب، فهذا المعنى متمثل في الدولة الإسلامية، باستثناء أن الشعب ينبغي أن يفهم في الإسلام على نحو شامل بعيدا عن الجزئيات المتناثرة.

2- وإن كان يراد بالديمقراطية ما صار يقرن بها، من وجود مبادئ سياسية أو اجتماعية معينة كالمساواة أمام القانون، وحرية الفكر والعقيدة، وتحقيق العدالة الاجتماعية فلا شك أن كل تلك المبادئ متحققة ومكفولة في الإسلام، غير أنه ينبغي أن يلاحظ أن نظرة الإسلام لهذا الحقوق من حيث المنشأ الطبيعي قد تختلف.

3- من أفضل ما يقال عن موقف البنا من الديمقراطية أنه نظر على الإسلام وفقهه السياسي على أنه يدور مع المحتوى، ولا يجمد مع المصطلح، فالإسلام أسس النظم الأساسية، أما آليات التطبيق، فهي مما يجتهد به الإنسان إلا أن يكون ثمة نص، فلا اجتهاد مع مورد النص، والديمقراطية وسيلة لتحقيق العدالة، ولا مانع من تأطير الجديد ولكنها خير موجود حتى يتوافر المفقود.

4- هناك من يفهم الديمقراطية على أنها حكم الشعب، بينما الإسلام حكم الله، أي أن الديمقراطية ضد حكم الله، هذا غير صحصح ، فالذين يقولون بالديمقراطية لا يعارضون بالضرورة حكم الله، وإنما يعارضون بها حكم الفرد المطلق، أي أن المعادلة هي حكم الشعب ضد حكم الفرد المتسلط، وليس حكم الشعب في مواجهة حكم الله.

اعتقد البنا كتابة وم مارس ة، أن المسلمين لا يريدون أن يحكم الأمة فرد متسلط، يفرض عليها إرادته، ويقودها رغم أنفها، ولذلك فإن المطالبة بالديمقراطية في مجتمع مسلم يعني أن ينص الدستور على أن دين الدولة هو الإسلام، وأن الإسلام هو المصدر الأساسي للحكم، أو المصدر الوحيد للقوانين بمعنى ضرورة عدم أخذ تجربة الغرب الديمقراطية بخيرها وشرها، وحلوها ومرها، بل أن تكون مقيدة بالأصول الإسلامية القطعية.

رابعا: منهج البنا في عملية التغيير

التجربة التاريخية التي صنعها الإمام البنا ، منحته صفة رجل التغيير الأول في العمل السياسي الإسلامي الحديث والمعاصر، وبالتالي استحق لقب المجدد، الأمر الذي يجعل قضية التغيير محورا أساسيا في قراءة المفاهيم السياسية التي وضعها لمريديه من بعده، كما يأتي الحديث في هذا المحور لمحاولة الكشف عن تجربة غنية في مجال التغيير، لدى حركة الإخوان المسلمين التي أسسها البنا .

كما يمكن أن يستفيد من الكتابة في هذا المحور الدعاة المسلمون، والقيادات الفكرية والسياسية المعنية بتغيير واقعها نحو الأفضل، وخاصة في ظل خوض عدد من الحركات الإسلامية للانتخابات البرلمانية تحت شعار (التغيير والإصلاح).

ويمكن أن يتركز الحديث في هذا المحور بالإجابة عن عدد من الأسئلة، فما هو مفهوم التغيير عند البنا ؟ وما مقاصده؟ وما أبرز مقومات رجل التغيير لديه؟ وما أهم الوسائل التي اعتمدها في منهجه التغييري؟ وما أبرز المبادئ التي انطلق منها في منهجه التغييري؟

يؤكد التقرير أن البنا اعتمد في عملية التغيير على المنهج المرحلي والتدرج في الخطوات، وعدم اللجوء إلى القفز فوق الاعتبارات الواقعية والسنن الكونية، والصول الشرعية، وفق المعايير التالية:

أ‌- فعملية التغيير لا تعتمد أسلوب الانقلاب العسكري للوصول إلى الحكم، ولا تلجأ لفرض المشروع الإسلامي بقوة الحديد والنار، لأن من يقدم على ذلك عادة ما يستدرج الساحة الإسلامية إلى فتن عمياء، ويتسبب في مفاسد كبيرة وخطيرة.

ب‌- ولا تعتمد أسلوب الثورة الشعبية التي تجر إلى حروب أهلية، وصراعات داخلية من شأنها إجهاض المشروع الإسلامي، وتشويه صورته المشرقة البهية.

جـ- وفي ذات الوقت، لا تكتفي بالوعظ والإرشاد دونما تفكير ببلوغ الحكم ومواقع القرار، ولاستئناف الحياة الإسلامية وتطبيق الشريعة الفراء.

لقد اعتمدت منهجية البنا القاعدة الربانية في التغيير، والتي تحقق البعد الحقيقي والمضمون الجوهري لرسالة الإسلام، والمبنية على الآية القرآنية:" إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" (الرعد: 1).

وفي ضوء هذه القاعدة حرص البنا على إنضاج الخطوات، وعدم الاستعجال ، وإحراق المراحل بدعوى الوصول إلى السلطة، وذريعة امتلاك القرار، فهو يعتبر أن من قطف ثمرة قبل أوانها عوقب بحرمانها، وأن السلطة وسيلة لإقامة شرع الله وليست غاية بذاتها، أو بديلا عن شرع الله، وأن بلوغ السلطة قبل امتلاك القدرة على أسلمتها، أو تسخيرها في أسلمة الواقع، والخروج من مشكلاته المختلفة من شأنه إجهاض المشروع الإسلامي، والإساءة إلى الإسلام وتشويه صورته، والحكم عليه بالفشل.

لقد أثبتت التجارب التاريخية لعدد من الحركات الإسلامية صدقية ما ذهب إليه البنا وحذر منه، فقد أسفرت كل محاولات الاستعجال ومشاريع القفز، عن إجهاض المشروع، أو إفراغه من محتواه، ولم تحقق الجدوى المطلوبة.

آمن البنا بوجوب التغيير وخطط له، ودعا إليه، ولكنه رأى أن هذا التغيير لابد وأن يمر أولا بمرحلة يتحقق فيها تكوين جيل مسلم، قادر على تحمل تبعات التغيير من قبل ومن بعد، وهذا ما قصده بتحقق الفرد المسلم، فالأسرة المسلمة، ثم الوصول إلى المجتمع المسلم.

كان يؤكد على أهمية (النوع) في عملية التصدي للواقع السيئ المراد تغييره، ويشترط فيمن يرشح لهذه المهمة صفات محددة لا تساهل فيها ولا مناص منها، وقد بدا ذلك جليا من خلال تصويره لهذه الطليعة النوعية، حيث يقول مخاطبا الجيل الأول من أبناء الإخوان المسلمين :

" إنكم روج جديد يسري في قلب هذه الأمة فيحييه بالقرآن، ونور جديد يشرق فيبدد ظلام المادة بمعرفة الله، وصوت داو يعلو مرددا دعوة الرسول.

بل إنه يشترط للقيام بعملية التغيير شروطا محدودة وواضحة، تتمثل في قيام كيان حركي على مستوى عال من الأهلية الإيمانية والفكرية والخلقية والبدنية،حيث يقول: " وفي الوقت الذي يكون منكم ثلاثمائة كتيبه، قد جهزت كل كتيبة نفسها:

- روحيا بالإيمان والعقيدة.

- وفكريا بالعلم والثقافة.

- وجسميا بالتدريب والرياضة.

في هذا الوقت طالبوني بأن أخوض بكم لجاج البحر، وأقتحم بكم عنان السماء ، وأغزو بكم كل جبار عنيد، فإني فاعل إن شاء الله"

مفهوم التغيير ومواصفاته عند البنا

المنجز التغييري للإمام البنا ، أقر به الخصوم قبل المحبين، حيث تخطت تجلياته وتأثيراته الحالة المصرية والحدود الإقليمية إلى أجواء الفضاء العالمي، فقد أحرز نجاحا ملحوظا في بناء حركة الإخوان المسلمين ، ثم أعد العدة بعد ذلك للنهوض من جديد لصالح قضيته وشعبه، فانتصر على حالة الضعف ونهض من جديد.

وينطلق مفهوم التغيير ومواصفاته لدى البنا من عدة منطلقات أساسية:

1- واقع الأمة الذي يحتاج لعملية التغيير، مؤكدا على أن ضعف الأمة وتراجعها أضاع الأخلاق والأوطان والكرامة، بسبب ابتعادها عن منهاج الله واختيارها طريقا ، بل طرقا أخرى، بحيث لحقت بها الهزائم، ونزلت فوقها المصائب، وتملك قرارها أحط الخلائق، وهكذا ما من خلاص لها إلا بالعودة إلى منهاج الله الذي اثبت نجاحه على مدى العصور والأزمان، وبدونه ستظل على حالها، ما لم يتسلم الراية نفر من هذه الأمة يلتزم بالإسلام منهجا وسلوكا، حركة وتنظيما ثقافة وجهادا.

2- هذا الفهم لعملية التغيير ينسجم مع سنة الله في الإنسان، فهو صانع التغيير في الحياة، وإبراز دوره في العملية التغييرية بدرجة كافية إدا من الضرورات الملحة، ذلك أن المنهجية الإسلامية في التغيير جعلت الإنسان مدار الحركة الحضارية، وأوكلت إليه فعل البنا ء والتغيير لتحقيق الخلافة على الأرض، وإدارة الصراع فوقها من خلال عقله المدرك، وشعوره وطاقاته التي زوده الله بها.

3- انطلق فهم التغيير لدى البنا أيضا بالنظر إلى أن الاحتلال الأجنبي على مصر وباقي بلاد العرب والمسلمين هو أساس الفساد في المجتمعات العربية والإسلامية، ولذلك أولى اهتماما بالغا بإصلاح العادات والتقاليد وأنماط السلوك المنحرف في المجتمع، ف البنا سعى من خلال برنامجه العملي على إحداث تغيير في مواقع الناس، ومنظومة القيم والعادات والتقاليد والمفاهيم التي يدينون بها، بحيث تصبح إسلامية متوافقة مع تعاليم الإسلام وأحكامه المستمدة من الكتاب والسنة.

4- ينسجم هذا التوجه عند البنا مع طبيعة التغيير الإسلامي، فهو ليس مجرد تغيير في جانب من جوانب الحياة الإنسانية، وإنما هو تغيير شامل وكامل لا يمكن تحقيقه بطرق مصطنعة مرتجلة ولا بمغامرات عسكرية خاطفة، بلا لابد لذلك من عوامل ومقومات يتحقق بها تغيير الأسس الفكرية والنفسية والتنظيمية التي يقوم عليها بناء المجتمع.

وهكذا فإن تلك المنطلقات الأساسية والجذرية للعملية التغييرية، بحاجة لمواصفات ليست سهلة على الإطلاق ويمكن استعراضها على النحو التالي:

1- هذا النهج الموغل في إعداد طليعة التغيير إعدادا متميزا ليس بالطريق السهل أو الميسور؟ إذ تكتنفه الصعاب على كل صعيد، وقد تدخله الظروف المختلفة في دوامة من التآكل، مما جعله نهج الخاصة، بل خاصة الخاصة، حيث لا يطيقه عامة الناس، ولا يصبر عليه إلا ذو حظ عظيم.

2- هذا النهج ثابت المنحى، وئيد الخطى، لا تستثيره الأحداث العابرة، ولا تخرج به عن مرسوماته العواطف الثائرة، وهذه الصفة، وإن كانت إيجابية في كثير من الأحيان، إلا أنها قد تكون معيقة في أحيان أخرى، حيث يتوجب التفاعل مع الحدث، وتجاوز الروتين، وتخطي ما هو مرسوم، من أجل اقتناص فرصة، واغتنام سانحة، وبخاصة حين تكون الظروف المحيطة المحلية والإقليمية والدولية، تمر بحالة من المتغيرات، كالحالة التي يعيشها العالم اليوم.

3- لقناعة البنا بهذا النهج نسمعه يخاطب شباب الإخوان في المؤتمر الخامس فيقولك" أيها الإخوة، وبخاصة المتحمسون المتعجلون منكم: اسمعوها مني كلمة عالية داوية من فوق هذا المنبر، في مؤتمركم هذا الجامع، إن طريقكم هذا مرسومة خطواته، موضوعة حدوده، ولست مخالفا هذه الحدود التي اقتنعت كل الاقتناع بأنها أسلك طريق للوصول ، أجل قد تكون طريقا طويلة، ولكن ليس هناك غيرها، إنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة، والجد والعمل الدائب، فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرة قبل نضجها، أو يقطف زهرة قبل أوانها، فلست معه في ذلك بحال، وخير له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلى غيرها من الدعوات، ومن صبر معي حتى تثمر البذرة وتنبت الشجرة، وتصلح الثمرة ويحين القطاف، فأجره على الله، ولن يفوتنا وإياه أجر المحسنين: إما النصر والسيادة ، وإما الشهادة والسعادة".

مقومات رجل التغيير لدى البنا

تعد القيادة فنا صعبا لارتباطها بالقدرات الشخصية من جانب، ولكونها متعلقة بقضية التغيير من جانب آخر، ومن هنا كان لابد من توافر جملة من المقومات لدى قائد التغيير، ومن خلال الاطلاع على الأدبيات الخاصة بهذا القضية، وفي ضوء ما تواتر من محاضرات ومفاهيم خاصة ب البنا حول مقومات رجل التغيير، يمكننا تحدديها على النحو التالي:

أ‌- امتلاك روح المبادرة والإقدام،فمن مقومات القيادة المؤثرة والفاعلة، امتلاك القدرة على المبادرة في الفكر والعمل.

ب‌- الحزم وعدم التردد، فالقائد الذي لا يتحلى بهذه الصفة، لا يستطيع قيادة العملية التغييرية، أو ضبط الأمور ووضعها في نصابها.

ج‌- حسن التخاطب والاتصال مع الآخرين، حيث تعد عملية الاتصال إحدى العناصر الأساسية في نجاح عملية التغيير، فوجود نظام اتصال سليم وفعال يسهل على الأفراد القيام بتحليل المواقف والمشكلات، كما يسهل وضع حل مناسب لها.

د- القدرة على الإقناع، ذلك أن من مقومات قائد التغيير، القدرة على إقناع الآخرين بأفكاره وكسب تأييدهم لها، مما يسهل بعد ذلك عملية توجيههم نحو الأهداف المحددة في العملية التغييرية، وقد امتلك البنا هذه القدرة، وكان لديه قوة في المنطق ودرجة عالية من الهيبة والوقار وسمعة الصدر، مما جعله قادرا على إقناع من حوله دون حاجة إلى جدال طويل أو كلام كثير.

هـ- سرعة البديهة والتصرف بحكمة، فقد اتصف البنا بسرعة البديهة والحكمة في التعامل مع القضايا المتنوعة، وكان يوجه إخوانه إلى التصرف السليم بما يتناسب مع الموقف الذي هم بصدده، بحيث انعكست هذه السمة على أدائه في مواجهة الصعوبات وعلاج المشكلات العديدة، وكان إذا ما عرضت عليه مشكلة، يتمالك أعصابهن ويستمع على حيثياتها بهدوء، ويقلب الأمور في ذهنه، ومن ثم يقترح العلاج المناسب لها.

و- المرونة الفكرية وسعة الأفق، ذلك أن إحداث عملية تغيير في واقع الناس، يتطلب قيادة لديها سعة أفق ومرونة في التفكير، وقد امتاز البنا كقائد تغييري بهذه الصفات، فضلا عن القدرة على طرح البدائل، فما لا يأتي بطريقة ما يعالجه بأخرى، حتى يحقق الهدف المنشود.

مبادئ التغيير لدى البنا

هناك جملة من المبادئ التي انطلق منها البنا وهو ي مارس عملية التغيير، ويصنع واقعا جديدا في المجتمع، ويمكن إجمال أبرزها على النحو الآتي:

أ‌- الأخذ بمبدأ التخطيط في العمل:

أدرك البنا منذ زمن بعيد أن مجرد امتلاك القيم والقناعات بضرورة تغيير الواقع السلبي، دون توفر خطط يتولد عنها برامج، لا يؤدي إلى التغيير المنشود، وقد أصبح التخطيط في حياة الشعوب علما ممتدا تنمو قواعده مع نمو تلك الشعوب الغارقة في ظلمها وعدوانها، والمسلمون غافلون عن ذلك كثيرا، ويغلب عليهم الارتجال وردود الأفعال الآنية، بحيث يخرجون من نكبة ليدخلوا في غيرها.

وتيقن البنا جيدا أنه حينما يخاطب الناس بقيم، وبما يجب أن يكون، يمكن أن يحقق شيئا من التوثب الروحي، والتوقان للترقي والحنين إلى مجتمع خير، لكن ذلك لا يلبث أن ينتهي وينحسر إذا لم يتم وضع الخطط والبرامج.

ب‌- التدرج في تغيير الواقع:

التدرج سنة من سنن الله في الكون، وينبغي على العاملين في الحقل السياسي الإسلامي أن يراعوا هذه السنة وهو ينطلقون نحو تغيير واقعهم، لا سيما في هذا العصر الذي ضرب الشر جذوره في أعماق الأمة، وقد جاء سيد قطب ليقدم وصفا تحليليا لما ذهب إليه البنا في رأيه في التدرج بقوله : " إن أيسر ما في المنهج الرباني أنه، وهو يضع في حسابه البلوغ إلى القمة، لا يتعسف الطريق ولا يتعجل الخطى، فهو يسير هينا لينا مع الفطرة يوجهها من هنا ويزودها من هناك، ويقومها حتى لا تميل، ولكنه لا يكسرها ولا يحطمها ولا يجهدها. بل يصبر عليها صبر العارف البصير الواثق من الغاية البعيدة، فالذي لا يتم في الجولة الأولى يتم في الجولة الثانية، وكما تنبت الشجرة الباسقة وتضرب جذورها في أعماق التربة، وتتطاول فروعها وتتشابك، كذلك ينبت هذا المنهج في النفس والحياة، ويمتد في بطء، وعلى هوادة وفي ثقة وطمأنينة، ثم يكون ما يريد الله أن يكون.

ج- تقدير دور المرأة وإشراكها في التغيير:

النساء شقائق الرجال، وإذا ما تم إعدادهن سيكن أداة تغيير، قادرات على أداء دورهن بفعالية، وحمل الأمانة التي كلفن بها مع الرجال، وقد أكد البنا على أن للمرأة دورا لا يمكن الاستغناء عنه، كما أن غيابه يشكل نقصا فادحا في مجال إصلاح المجتمع وبنائه، فهو يؤمن بأن هنالك جوانب عديدة في الحياة لا يمكن أن يغطيها سوى المرأة، وهذه النظرة الثاقبة الواعية، نابعة من أصالة المنهج الإسلامي الذي تمسك به، والمستمد من القرآن والسنة.

اعتبرت المرأة في نظر البنا عنصرا أساسا في التغيير وإدارة الصراع، فهي مدرسة تبني الأجيال بعلمها وأخلاقها وإيمانها، وخاضت على مر التاريخ معارك وجاهدت، ولم تزل تقاوم الاحتلال، رغم قلة الإمكانات، وهي التي ربت أبناءها على حب الجهاد والتضحية وعشق الشهادة.

د- التزام أسلوب الحوار والتشاور مع الآخرين:

آمن البنا بأن هناك وجهات نظر مختلفة لدى الناس، فكان الأخ والخصم يجدان عنده مساحة من التفاهم والاحترام، والاستعداد للنظر فيما عند الآخرين، وبناء عليه استخدم أسلوب الحوار المفتوح مع ا لخصوم والإخوة على حد سواء، وكان مثالا للالتزام بأدب الحوار والاختلاف، فلا يستخدم إلا الألفاظ المهذبة، ويقيم حواره على الأدلة والبراهين ، ويأخذ بكل مقومات الحوار العلمي المثمر بعيدا عن الانفعال والانتصار للنفس، لأنه معني بالدرجة الأولى بكسب القلوب، وشدها إلى دعوته، وهذا ما كان يوصي به إخوانه بصورة مستمرة.

لقد فتح البنا أبواب حركته لتكون جامعة وناظمة لكل الأطياف الإسلامية، واتجه إلى الانفتاح على كل القوى والحركات الوطنية على قاعدة التحاور والشراكة، ومع استخدامه لأسلوب الحوار العملي في دعوته، حرص على استشارة الآخرين في كثير من القضايا، حتى لو كانوا أقل منه علما وسنا، فقد يجعل الله الحق والصواب على لسان أحدهم، ولم يكن البنا – كما كتب عنه- يتقيد برأيه أو يتعصب لفكرته، بل ينزل عند رأي الجماعة بعد التشاور معهم، حتى وإن خالفوه في الرأي.

هـ- التجديد والتطوير في البرامج والوسائل:

من القواعد المقررة أن الإسلام دين لكل زمان ومكان، وأن حاجات الناس تختلف باختلاف ظروف العصر الذي نعيشه، وهذا يقتضي أن تتطور النظم وتتجدد الوسائل، لتناسب هذه الظروف المتغيرة، والإسلام إذ يشجع على استحداث الجديد، يشترط فيه أن يكون حسنا نافعا حتى يثاب عليه الإنسان.

البنا  من جهته كان ذا عقلية متفتحة يواكب كل جديد، ويحرص على التجديد والتطوير في برامج ووسائل العمل وأساليبه، فكان الأكثر حضورا ومساهمة في تطوير مجالات العمل الإسلامي، مما أحدث نهضة إسلامية كبيرة في ظل تكاثر منابر الدعوة، وتدافع الناس نحو الإسلام، ومن الملحوظ أن  البنا  شجع عملية التجديد والتطوير عبر برنامجه التغييري في مجالات الدعوة، ومن جميع جوانب العمل، لا سيما فيما عرف عنه من ضخ للكوادر الشابة في عروق الجماعة ومؤسساتها التنظيمية، مما أدى إلى سريان دماء جديدة في هياكلها الإدارية.
البنا  بين التغيير والإصلاح

تنبه البنا في تهيئته للمنهج التغييري على الفرق الكامن بين المنهجين: الإصلاحي والتغييري:

فالمنهج الإصلاحي يسعى لإصلاح الواقع، وتجميله، وتحسينه، وترميمه دون اللجوء على تغيير جذري فيه، فهو يدعو لإشاعة الحرية، وصيانة الديمقراطية ، وتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية ويطالب بإصلاح المناهج التعليمية والبرامج الإعلامية... إلخ، على قاعدة :" إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله)(هود: 88).

أما المنهج التغييري ، فهو يستهدف تغيير الواقع بصورة جذرية، والتغيير الجذري يبدأ من خلال تسخير كل وسائل الإصلاح المتاحة لبلوغ المقاصد، ويرفض أنصاف الحلول، ويأبى الترقيع، وله مدرستان:

1- الأولى: تعتمد التغير الجذري بدون مقدمات، وترفض الإسهام في أي عمل إصلاحي تحت سقف الواقع السيئ القائم، فلا مشاركة في نقابات ، أو بلديات، أو برلمانات، أو حكومات أو غيرها.

2- الثانية: تنشد التغيير الجذري ، وتعمل عل تسخير كل الوسائل الإصلاحية المتاحة لبلوغ مرحلة التغيير، لا تقفز في الهواء لتحقيق التغيير، ولا تسير إليه بدون أسباب ومقومات،وفي كل ذلك لا تركن للواقع ناسية مهمتها التغييرية الأصيلة. وفي الوقت الذي تنبه، البنا إلى أن من أعظم المخاطر التي تكتنف العمل السياسي الإسلامي أن لا يعرف العاملون منهجية عملهم، فيتخبطون خبطا عشوائيا، ويسيئون وهم يحسنون صنعا ، فكم من حركات بدأت قويمة وانتهت سقيمة، فإن هنالك حاجة لفهم المنهج الإسلامي الذي سار عليه الرجل، وما السبيل الذي اختاره لتطبيق أفكاره ، التغيير أم ألإصلاح؟

انطلق البنا من حقيقة أن الإسلام منهج تغييري في مراميه وأهدافه البعيدة الاستراتيجية، ومنهج إصلاحي في خطواته المرحلية، وبين هذا وذاك، فالإسلام ليس منهجا توقيعيا لواقع الحياة، ويرفض أنصاف الحلول، معتقدا أن المضمون العقائدي للإسلام لا يقبل المرحلية، فلا تساهل في شهادة أن لا إله إلا الله والمضمون التشريعي يمكن أن يتحقق تطبيقه حسب الاستطاعة، ومن خلال منهجية مرحلية تهدف بالنتيجة لتطبيق شرع الله وبلوغ التغيير الكلي.

في ذات الوقت، لم يكن البنا حديا في الاختيار بين المنهجين، ولم يفصل بينهما بصورة قسرية، بمعنى أنه رأى أن الحركة الإسلامية يمكنها، بل يجب عليها أن تجمع بين المنهجين: الإصلاحية والتغييرية، ذلك أن كل مقومات الإصلاح وخطواته، يجب أن تخدم المشروع التغييري فالمطالبة بالحرية والعدالة والمساواة ليست بديلا عن شرع الله، والديمقراطية ليست بديلا عن نظام الشورى، ودولة الإنسان ليست بديلا عن دولة الإسلام، وحلف الفضول ليس بديلا عن الحكم الإسلامي، والجماعة الإسلامية ليست بديلا عن الدولة الإسلامية، وهكذا.

لقد ذكر البنا أكثر من مرة أن خصائص الدعوة التدرج في الخطوات وحدد مراحل التغيير التي يجب أن تمر بها كل دعوة بثلاث:

1- مرحلة الدعاية والتعريف والتبشير بالفكرة، وإيصالها إلى الجماهير من طبقات الشعب.

2- ثم مرحلة التكوين، وتخير الأنصار، وإعداد الجنود، وتعبئة الصفوف من بين هؤلاء المدعوين.

3- ثم بعد ذلك كله تأتي مرحلة التنفيذ والعمل والإنتاج.

وجاء تفصيل هذه المرحلة على مراحل أساسية هي:

المرحلة الأولى: دعوة العامة

أهدفها:

تربية الأمة، وتنبيه الشعب، وتغيير العرف العام، وتزكية النفوس، وتطهير الأرواح، وإذاعة مبادئ الحق والجهاد والعمل والفضيلة بين الناس.

وسائلها:

1- إقامة الدروس، والمحاضرات والخطب، والمقالات، والوفود، والرحلات، والمجامع، والزيارات، وغيرها. وهذه من وسائل التعريف.

2- استخلاص العناصر الصالحة لحمل أعباء الجهاد، وضم بعضها إلى بعض، وهي عملية التكوين، ومن وسائلها: الأسر، والكتائب، وفرق الكشافة، والجوالة، والرياضة، وغيرها.

3- القيام بأعمال البر والخدمة العامة من بناء المساجد وعمارتها، وفتح المدارس والمكاتب، والإشراف عليها، وإنشاء الأندية ، والإصلاح بين الناس في القرى والبلدان، والتوسط بين الأغنياء الغافلين والفقراء المعوزين بتنظيم الإحسان، وجمع الصدقات لتوزع في المواسم والأعياد، وإنشاء المؤسسات، والقيام بسائر الخدمات الاجتماعية، وهي من وسائل التنفيذ بمفهومه العام، وتعتبر جزءا من عملية التعريف ذاتها.

المرحلة الثانية: دعوة الخاصة

هدفها:

إيصال الدعوة إلى المسئولين، من قادة البلاد، وزعمائها، ووزرائها، وحكامها، وشيوخها، ونوابها، وأحزابها، ودعوتهم إلى مناهج الجماعة ووضع برنامجها بين أيديهم، ومطالبتهم بأن يسيروا في طريق الإسلام في جرأة لا تردد معها، وفي وضوح لا لبس فيه، ومن غير مواربة أو مداورة، فإن أجابوا الدعوة وسلكوا السبيل إلى الغاية آزرناهم، وإن لجئوا إلى المواربة كنا حربا على كل زعيم أو رئيس حزب أو هيئة لا تعمل على نصرة الإسلام ولا تسير في الطريق لاستعادة حكم الإسلام ومجده.

ومن أمثلة النشاط: تأليف لجان دستورية وقانونية لدراسة النظم القائمة ، والموازنة بينها وبين النظم الإسلامية، وبيان نواحي الخلاف معها.

المرحلة الثالثة: إقامة الدولة

وهي مرحلة لم تنتقل إليها الجماعة في عهد البنا بشكل كامل، وإن كان من إرهاصاتها محاولتا ترشيحه لمجلس النواب عامي1942و 1944، أما دخول حرب فلسطين ، فرغم كونه مؤشرا واضحا، إلا أن اغتياله عقب الحرب لم يترك فرصة أمامه لتحديد خطوات هذه المرحلة، ومهما يكن الأمر، فإننا نستطيع أن نستخلص من رسائله هدف هذه المرحلة المتمثل في تحرير الوطن من كل سلطان أجنبي غير إسلامي ، سياسي أو اقتصادي أو روحي، وإصلاح الحكومة حتى تكون إسلامية بحق، عن طريق النصح والإرشاد، فإن أبت فالخلع والإبعاد.

المرحلة الرابعة: إعادة خلافة

وهي مرحلة وضع البنا خطواتها بشكل نظري فبين أنه عندما تقوم الحكومات الإسلامية في مختلف بلدان العالم الإسلامي، لابد من حصول تعاون ثقافي واجتماعي واقتصادي بين الإسلامية كلها،يلي ذلك تكوين الأحلاف والمعاهدات وعقد المجامع والمؤتمرات بين هذه البلاد، ثم تكوين عصبة الأمم الإسلامية، وبالتالي وقوع الاختيار على الإمام الذي هو واسطة العقد، ومجتمع الشمل، ومهوى الأفئدة.

وهكذا كانت منهجية البنا التغييرية متوافقة بشكل كامل مع طبيعة الإسلام ومنهجه، بحيث أن منهجيته رفضت اعتماد الثورة والانقلاب طريقا لتحقيق التغيير الإسلامي، فهذه المنهجية لا تلجأ لاستخدام القوة إلا ضمن شروط وضوابط محددة وصارمة.

نتائج الدراسة

توصلت الدراسة إلى جملة من النتائج، يمكن إجمالها فيما يلي:

1- يمكن فهم أهم ملامح الفكر السياسي لدى البنا ، بالنظر إلى موقفه من النظام السياسي الإسلامي، فقد رأى منذ بداية نشر أفكاره وتأسيس جماعته، أن م مارس ة السلطة في الدولة الإسلامية يمك إيجازها في التأكيد على مفهوم وحدة السلطة، وعدم انقسامها إلى سلطة مدنية وأخرى دينية، إيمانا منه بأن سلطة الحكم في الدولة الإسلامية بعيدة كل البعد عن مفهوم السلطة الدينية (الثيوقراطية) التي عرفتها أوربا في العصور الوسطى من جهة، ومن جهة أخرى قبول صيغة الحكم الدستور ي النيابي باعتباره أقرب نظم الحكم القائمة في العالم كله إلى الإسلام.

2- في مفهومه عن الدولة الإسلامية أرجع الإمام حسن البنا هذا المفهوم إلى الإسلام ذاته: حيث يعتبر تصور الدولة ركنا من أركان فهم الإسلام، ومن ذلك قوله: إن الإسلام عبادة وقيادة، دين ودولة، روحانية وعمل، صلاة وجهاد، طاعة وحكم، مصحف وسيف، لا ينفك واحد من هذين عن الآخر ، منطلقا في ذلك من القاعدة الفقهية السياسية القائلة: الإسلام دين إصلاح اجتماعي متكامل وشامل ، وذروة سنامه دولة تقوم عليه، والخلافة منهج دائم.

3- تجلى موقف البنا من الديمقراطية ، في نظرته الشاملة إلى الإسلام وفقهه السياسي على أنه يدور مع المحتوى، ولا يجمد مع المصطلح، فالإسلام أسس النظم الأساسية، أما آليات التطبيق، كالديمقراطية مثلا، فهي مما يجتهد به الإنسان ، إلا أن يكون ثمة نص، فلا اجتهاد مع النص، وطالما أن الديمقراطية وسيلة لتحقيق العدالة، فلا مانع من تأطيرها، وهي بالتالي خير موجودة حتى يتوافر المفقود.

4- اتصف منهج البنا في التغيير بالشمول والتكامل، وبدا ذلك واضحا من خلال برنامجه العملي المتوازن من حيث الوسائل والأنشطة سواء في مجال التغيير السلمي أو التغيير بالقوة، حيث انطلق منهج البنا في التغيير من خطة مدروسة محددة المعالم متكاملة العناصر وفق مراحل متدرجة، التزم بها هو نفسه، وألزم إخوانه بها ، وسار في منهجه التغييري في اتجاهين يكمل بعضهما الآخر.حيث اهتم بإصلاح واقع الناس عموما، وتعديل أنماط سلوكهم وقيمهم الفاسدة، واستبدال قيم الإسلام بها، كما ركز على التربية و البنا ء لعناصر الحركة الموكل إليهم مهام تغيير الواقع بكل أبعاده.

الفكر الاقتصادي عند الإمام الشهيد حسن البنا

بقلم أ. د. عبد الحميد الغزالي

تمهيد

انطلاقا من كون الإسلام دينا ونظام حياة شاملا وكاملا، واستنادا إلى أن هذا الدين الخاتم جاء لإخراج البشرية من ظلمات الجاهلية إلى نور الحق وضياء الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، وتأسيسا على حقيقة أن غاية هذا الدين تتمثل في عبادة الخالق- تبارك وتعالى- عبادة تشمل إعمار الأرض لتحقيق سعادة الإنسان في الدارين، قدم الإمام البنا فكرا اقتصاديا إسلاميا متكاملا، وتطبيقا عمليا لهذا الفكر على أرض الواقع.

فحدد عناصر المشكلة الاقتصادية على مستويات:الفرد والجماعة والقطر والأمة والعالم، وأوضح أسباب تخلف الأمة، وحصرها في بعدها عن الشرع الحنيف- تعاليما واضحا وفطريا لمعالجة المشكلة ونهضة الأمة من خلال (تربية) الإنسان ومن أجل الإنسان، ثم انتقل إلى تحديد الإطار التنفيذي لتحقيق النهضة من خلال عرض لأساسيات النظام الاقتصادي الإسلامي، من حيث أهدافه وسياساته وعناصره وخصائصه المميزة.

ثم ناقش أهم القضايا الاقتصادية التي يتعين إعطاؤها أولوية في المعالجة مثل: قضية الفقر، والبطالة، والتضخم السعري، والتفاوت الشديد في توزيع الدخل والثروة، وضعف القطاعات الإنتاجية، والسيطرة الأجنبية، والكسب الخبيث والفساد الاقتصادي، والتبعية الاقتصادية، ثم عرض من خلال رسائله ومقالاته للكثير من المفاهيم الاقتصادية شديدة الأهمية في التأثير في الأداء الاقتصادي- سلبا أو إيجابا- مثل: الربا والأسعار والادخار والبطالة والصناعات الصغيرة والصناعات المنزلية، وأخيرا، قدمت الجماعة في عهده تطبيقات مهمة لهذا الفكر في الأنشطة الاقتصادية المختلفة، فأقامت، بمساهمة متواضعة منه، مشروعات في أنشطة التعدين والمحاجر، والصناعة، والنقل، والتمويل الإسلامي، والصحة والتعليم، والطباعة والنشر والإعلام.

وأخيرا، تركز جوهر الفكر الاقتصادي للإمام في ضرورة العودة إلى هويتنا الاقتصادية، بنبذ التبعية وتوكيد الاستقلال الاقتصادي، وبناء الإنسان كعصب لعملية النهضة، وتحرير السياسات الاقتصادية (النقدية والمالية) من الربا، وتفعيل فريضة الزكاة، والعمل على الاستغلال الأكفأ والأشمل للموارد الاقتصادية المتاحة، وإحداث تعاون اقتصادي فاعل بين أقطار الأمة، كل لك كعناصر رئيسة في مشروع النهضة.

وعليه، تتكون هذه الورقة عن الفكر الاقتصادي عند الإمام الشهيد من المحاور الرئيسة التالية:

المحور الأول: تقديم حول أساسيات مشروع النهضة.

المحور الثاني: أساسيات النظام الاقتصادي الإسلامي.

المحور الثالث: قضايا اقتصادية رئيسة.

المحور الرابع: تطبيقات في التجربة المصرية.

خاتمة: تقويم عام.

وسوف من هذه المحاور على حدة، على الترتيب.

المحور الأول: تقديم حول أساسيات مشروع النهضة

أصبح من الضروري علي كل العاملين في حقل العمل الدعوي بعامة، والاقتصاد الإسلامي بخاصة، والمتطلعين إلى المساهمة الفاعلة في بناء وتنفيذ المشروع النهضوي، والحاملين لهموم أمتهم، والساعين لاستئناف الحياة الإسلامية الحقة، أن يتعرفوا على الأسس التي بنى عليها الإمام البنا تصوره لمشروع النهضة، ويتتبعوا المسار الذي انتهجه في وضع الأسس الفكرية للدعوة المعاصرة لهذا المشروع، ويعلموا طريقه في التحرك والانطلاق نحو تحقيق شروط هذا المشروع، ويعملوا في النهاية، استمرارا لجهاد الإمام الشهيد، على وضع المشروع موضع التنفيذ، بنقله من عالم الفكر إلى أرض الواقع.

ويمكن إجمال المراحل التي مرت بها منهجية الإمام البنا لمشروع النهضة فيما يلي:

- التفكير في التحديات التي تواجه الأمة: فلقد أحس الإمام بالتحدي الخارجي القوي الذي يواجه الأمة، والوضع الداخلي المتردي فيها، فدفعه ذلك إلى تفكير عميق واستجاب مكافئة في البحث عن إجابات للخروج من المأزق، واكتشاف الدواء والعلاج، فحالة الأمة، كما يقول الإمام، دعت إلى الانكباب على استعراضها من مختلف جوانبها، وتحليل عللها، والبحث عن حلول لها (رسالة المؤتمر الخامس).

- دراسة التاريخ والواقع: فتاريخ البشرية هو المحطة الثانية للباحثين في موضوع النهضة قديما وحديثا، وهكذا تحركت الفكرة عند الإمام وقادته إلى البحث في كنوز التاريخ البشري، فاهتم بدراسة التاريخ دراسة عميقة (رسالة إلى أي شئ ندعو الناس).

- استخلاص الدروس: فلقد قرأ الإمام التاريخ بعيني قائد يبحث عما يعنيه على إنجاز مشروعه، فدرس بدقة الأطوار التي مرت بها الأمة، من طور ميلاد الدعوة بمرجعية محددة وأصول فكرية وعملية للتغيير الشامل شديدة الوضوح، وطور قيام الدولة الإسلامية على سس أسس أأسس النظام القرآني، وطور تحلل كيان الدولة الإسلامية، وطور التدافع السياسي، الذي أدى إلى تمزيق الدولة الإسلامية (العثمانية) باسم الاحتلال والاستعمار والانتداب والمصالح، ثم كفاح الأقطار الإسلامية لهذا الغزو الاستعماري، ونيل بعضها للاستقلال، ثم أخيرا طور التدافع الاجتماعي والاقتصادي، الذي أدى إلى الثورة الصناعية في أوربا نتيجة النهضة العلمية الحديثة، وإلى غزو بلاد الإسلام ونقل الحياة المادية إليها وفرض السيطرة الاقتصادية عليها، ثم أخيرا طور اليقظة والإنقاذ، وهنا أكد الإمام على ضرورة العودة إلى الحق والالتجاء إلى النور بالتمسك بكتاب الله الكريم، وسنة رسوله (صلى اله عليه وسلم).

- كيفية التعامل مع هذه الدروس: للتوصل إلى مشروع النهضة، أكد الإمام ضرورة التعامل المنهجي السليم مع السنن الإلهية في الأفراد والمجتمعات والأمم، أو ما نعبر عنه بـ "فقه السنن" ومن هنا ولد مشروع النهضة عند الإمام، فمن دراسة حال الأمة وتاريخهاـ وتاريخ الأمم الناهضة من حولنا، ومن خلال استقراء القوانين واستخراج الدروس قامت حركة النهضة المعاصرة، فالتحدي المتمثل في التخلف ولد ضرورة الاستجابة في فكرة مشروع النهضة كمخرج وحيد من هذا التخلف.

وعليه، عرض الإمام تحليلا وصفيا لمظاهر أزمة (تخلف) الأمة في عدة أعراض، أو أمراض، متمثلة في :

- الاستعمار والفرقة.

- الربا وسيطرة الشركات الأجنبية.

- هدم العقيدة وتحطيم المثل العليا.

- الإباحة في العادات والأخلاق والتحلل من الفضائل، والتغريب.

- القوانين الوضعية وفوضى التشريع.

- فوضى، بل تخريب التعليم والتربية.

- اليأس والشح والخنوثة والجبن.

- الإعجاب بالخصم وتقليده (فيما لا ينفع) . (رسالة دعوتنا).

ومن ثم ، تتشكل أهم محاور مشروع النهضة في معالجة الملفات التالية:

- ملف الاستعمار.

- ملف الاستغلال الاقتصادي والاحتكارات الأجنبية.

- ملف فساد الحالة الاجتماعية.

- ملف تخريب التعليم.

- ملف فساد التشريع.

- ملف تردي الحالة النفسية.

ولقد تجسدت هذه الملفات في عرض إحصائي (كمي) رصين من التجربة المصرية، وذلك في قول الإمام:

" فاكروا أيها الإخوان أن أكثر من (60%) من السكان يعيشون معيشة الحيوان، وأن مصر بها أكثر من (320) شركة أجنبية تحتكر كل المرافق العامة وكل المنافع المهمة في جميع أنحاء البلاد، وأن أكثر من (90%) من الشعب مهدد بضعف البنية وفقد الحواس ومختلف العلل والأمراض، وأن مصر لا زالت إلى الآن جاهلة، لم يصل عدد المتعلمين فيها إلى الخمس بما في ذلك أكثر من مائة ألف شخص لا يتجاوز تعليمهم برامج مدارس الإلزام، وأن الجرائم تتضاعف.."(رسالة بين الأمس واليوم).

وبعد الدراسة العميقة للتاريخ، والدراسة الفاحصة للواقع ، والتعرف على مواطن الداء، كان لابد من العمل على مواجهة هذا الواقع، والعمل على إنقاذ الأمة مما هي فيه، ووصف الدواء المناسب لها، وفي ذلك، يقول الإمام:" كذلك شاءت ظروفنا أن نواجه كل ذلك، وأن نعمل عل إنقاذ الأمة من الخطر المحدق بها من كل ناحية، إن الأمة التي تحيط بها ظروف كظروفنا وتنهض لمهمة كمهمتنا، وتواجه واجبات كتلك التي نواجهها لا ينفعها أن تتسلى بالمسكنات أو تتعلل بالآمال والأماني، وإنما عليها أن تعد نفسها لكفاح طويل عنيف وصراع قوي شديد بين الحق والباطل ، وبين النافع والضار، وبين صاحب الحق وغاصبه، وسالك الطريق وناكبه، وبين المخلصين الغيورين والأدعياء المزيفين، وإن عليها أن تعلم أن الجهاد من الجهد، والجهد هو التعب والعناء، وليس مع الجهد راحة حتى يضع النضال أوزاره" (رسالة هل نحن قوم عمليون؟).

ثم استطرد الإمام في تحليله الكمي حول بعض نتائج التخلف الاقتصادي والاجتماعي في مصر (وكان ذلك عام ذ941م) بالقول :"إليكم أيها الإخوان بعض الأرقام التي تنطلق بما يهددنا من أخطار ماحقة ساحقة، إن لم يتداركنا الله فيها برحمته، فسيكون لها أفدح النتائج وأفظع الآثار:

1- الفلاحون في مصر يبلغون ثمانية ملايين، والأرض المنزرعة نحو ستة ملايين من الأفدنة، وعلى هذا الاعتبار يخص الفرد الواحد نحو ثلثي فدان، فإذا لاحظنا إلى جانب هذا أن الأرض المصرية تفقد خواصها لضعف المصارف وكثرة الإجهاد، وأنها لهذا السبب تأخذ من السماد الصناعي في هذه الأرض يجعل من هذا العدد أربعة ملايين لا يملكون شيئا، ومليونين لا يزيد ملكهم عن نصف فدان، ومعظم الباقي لا يزيد ملكه عن خمسة أفدنة ، علمنا مبلغ الفقر الذي يعانيه الفلاحون المصريون ودرجة انحطاط مستوى المعيشة بينهم درجة ترعب وتخيف".

ثم يدلل على هذا الوضع المخيف والمشين في الوقت نفسه بالقول" إن أربعة ملايين من المصريين لا يحصل أحدهم عل ثمانين قرشا في الشهر إلا بشق النفس، فإذا فرضنا أن له زوجة وثلاثة ولاد، أولاد، أولاد، وهو متوسط ما يكون عليه الحال في الريف المصري، بل في الأسرة المصرية عامة، كان متوسط ما خص الفرد في العام جنيهين، (أو 192 قرشا تحديدا) وهو أقل بكثير مما يعيش به الحمار. فإن الحمار يتكلف على صاحبه (140 قرشا خمس فدان برسيم و 30 قرشا حملا ونصف من التبن، و150 قرشا أردب فول، و20 قرشا ربأأربعة قراريط عفش ذرة، ومجموعها 340قرشا) وهو ضعف ما يعيش به الفرد من هؤلاء الآدميين في مصر ، وبذلك يكون أربعة ملايين مصري يعيشون أقل من عيشة الحيوان، ثم إذا نظرت إلى طبقة الملاك وجدتهم مكبلين بالديون، أذلاء للمحاكم والبنوك، إن البنك العقاري وحده يحوز من الرهون قريبا من نصف مليون فدان، ويبلغ دينه على الملاك المصريين (17) مليونا من الجنيهات إلى أكتوبر 1936 م، وهذا بنك واحد. وقد بلغ ثمن ما نزعت ملكيته للديون من الأرض والمنازل في سنة 1939م (346,256 جنيها) فعلى أي شيء تدل هذه الأرقام؟".

ثم ينتقل لوصف حالة الأيدي العاملة، فيقول:

2- "العمال في مصر (5,718,127) أي نحو ستة ملايين عامل، يشكو التعطل منهم ( 511,119) أي أكثر من نصف مليون لا يجدون شيئا، وهناك الجيوش من حملة الشهادات العاطلين، فكيف يشعر إنسان هذه الحالة بكرامته الإنسانية، أو يعرف العاطفة القومية والوطنية، وهو في بلد لا يستطيع أن يجد فيه القوت استعاذ لنبي صلى الله عليه وسلم من الفقر، وقديما قيل: يكاد الفقر أن يكون كفرا، فضلا عن أن المشتغلين من العمال مهددون باستغلال أصحاب رأس المال وضعف الأجور والإرهاق في العمل، ولم تصدر الحكومات التشريع الكافي لحماية هؤلاء البائسين. وقد ضاعفت حالة الحرب القائمة هذا العدد من المتعطلين، وزادت العاملين بؤسا على بؤسهم".

وينتقل الإمام إلى مناقشة الاحتكار في الاقتصاد المصري فيقول:

3-"شركات الاحتكار في مصر قد وضعت يدها على مرافق الحياة والمنافع العامة، فالنور والمياه والملح والنقل ونحوها كلها في يد هذه الشركات (الأجنبية) التي لا ترقب في مصري إلا ولا ذمة، والتي تحقق أفحش الأرباح، وتضمن حتى باستخدام المصريين في أعمالها، ولقد بلغت أرباح شركة المياه بالقاهرة منذ تأسست في 27 من مايو سنة 1865م إلى سنة 1933م عشرين مليونا من الجنيهات، وقد بلغ التفريط والتهاون بالحكومة المصرية أن باعت حصتها من أرباح الشركة في عهد وزارة رياض باشا بمبلغ (20) ألفا من الجنيهات، مع أن حصيلتها في صافي الربح من تاريخ البيع وهو 10 من يوليو سنة 1899م إلى سنة 1934م فقط، ميلونان ونصف مليون من الجنيهات" ويؤكد ثانية " أن في مصر 320 شركة أجنبية تستغل جميع مرافق الحياة، وقد بلغت أرباحها في سنة 1938م الماضية (7,637,482) جنيها، كلها من دم المصريين الذين لا يجد ، إن عدد الشركات المصرية إلى سنة 1938م بلغ إحدى عشرة شركة فقط مقابل ثلاثمائة وعشرين شركة أجنبية".ثم ينتقل أخيرا إلى الأحوال الصحية لل مصريين فيقول:

4-" لقد استقبلت العيادات الحكومية سنة 1934م (7,421,383) مريضا منهم مليون بالبلهارسيا، وأكثر من نصف مليون بالبلهارسيا، وأكثر من نصف مليون بالإنكلستوما، ومليون ونصف بالرمد، وفي مصر (90%) مرضى بالرمد والطفيليات، وفيها (55،575) من فاقدي البصر، ويكشف لنا الكشف الطبي في المدارس والمعاهد والجامعات ، ومنها الكلية الحربية- حقائق عجيبة عن ضعف بنية الطلاب، وهم زهرة شباب الأمة.وكل ذلك في أمة علمها نبيها أن تسأل الله أن يعافيها في أبدانها وفي سمعها وفي بصرها " (رسالة المؤتمر السادس).

الأمل في إمكانية النهضة: وفي هذا، يشدد الإمام بثقة المسلم وعزة المؤمن قائلا:" .. إن مهمتنا سيادة الدنيا وإرشاد الإنسانية كلها إلى نظم الإسلام الصالحة وتعاليمه التي لا يمكن بغيرها أن يسعد الناس..".(رسالة الإسلام إلى أي شيء ندعو الناس).

ويضيف لتوكيد هذه الحقيقة قائلا:" إن العالم كله حائر مضطرب وكل ما فيه من النظم قد عجز عن علاجه، ولا دواء له إلا الإسلام، فتقدموا باسم الله لإنقاذه ، فالجميع في انتظار المنقذ، ولن يكون المنقذ إلا رسالة الإسلام التي تحملون مشعلها وتبشرون بها" (رسالة إلى الشباب).

ويوضح الإمام بجلاء عهد الانتقال من حالة الضعف والركود في حياة الأمم إلى حالة القوة والنهوض بقوله:" إن أخطر العهود في حياة الأمم وأولاها بتدقيق النظر عهد الانتقال من حال إلى حال، إذ توضع مناهج العهد الجديد وترسم خططه وقواعده التي يراد تنشئة الأمة عليها والتزامها إياها، فإذا كانت هذه الخطط والقواعد والمناهج واضحة صالحة قويمة، فبشر هذه الأمة بحياة طويلة مديدة، وأعمال جليلة مجيدة، وبشر قادتها إلى هذا الفوز، وأدلتها في هذا الخير، بعظيم الأجر وخلود الذكر، وإنصاف التاريخ، وحسن الأحدوثة" (رسالة نحو النور).

وأخيرا ، يقرر الإمام إمكانية النهضة وطريقها القويم، فيقول: " دعوت قومي إلى أن يختاروا، أو بعبارة أصح وأوضح، إل أن يبروا بعهدهم مع الله ومع أنفسهم، فيقيموا دعائم حياتنا الاجتماعية في كل مظاهرها على قواعد الإسلام الحنيف، وبذلك يسلم مجتمعنا من هذا القلق والاضطراب والبلبلة التي شملت كل شيء، والتي وقفت بنا عن كل تقدم، والتي حالت بيننا وبين أن نتعرف الطريق السوي إلى علاج أية قضية من قضايانا الكثيرة المعلقة في الداخل والخارج. وقلت: إنه لا سبيل إلى النجاة إلا هذا الاتجاه عقيدة وعملا بكل ما نستطيع من حزم وسرعة" (رسالة مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي).

دلالات نجاح مشروع النهضة: يقدم الإمام دلالات أربعا لنهوض الأمة كما يلي:

- الدلالة الاجتماعية: وفي هذه الدلالة يقول الإمام: " يقول علماء الاجتماع: إن حقائق اليوم الغد هي أحلام الأمس، وأحلام اليوم حقائق الغد، وتلك نظرة يؤيدها الواقع ويعززها الدليل والبرهان، بل هي محور تقدم الإنسانية وتدرجها مدارج الكمال..." (رسالة إلى أي شيء ندعو الناس).

- الدلالة التاريخية: وفي هذه الدلالة يقول الإمام:" إن نهضات الأمم جميعها إنما بدأت على حال من الضعف يخيل الناظر إليها أن وصولها إلى ما تبتغي ضرب من المحال ،ومع هذا الخيال، فقد حدثنا التاريخ أن الصبر والثبات والحكمة والأناة وصلت بهذه النهضات الضعيفة النشأة القليلة الوسائل إلى ذروة ما يرجو القائمون بها من توفيق ونجاح" (رسالة إلى أي شيء ندعو الناس).

- الدلالة المنطقية: وفي هذه الدلالة يقول الإمام:" وثم نظرتان سلبيتان تحدثان النتيجة بعينها، وتوجهان قلب الغيور إلى العمل توجيها قويا صحيحا:

أولاهما: إن هذه الطريق مهما طالت فليس هناك غيرها في بناء النهضات بناء صحيحا، وقد أثبتت التجربة صحة هذه النظرية.

وثانيتهما: أن العامل يعمل لأداء الواجب أولا، ثم للأجر الأخروي ثانيا، ثم للإفادة ثالثا. وهو إن عمل فقد أدى الواجب، وفاز بثواب الله، ما في شك، متى توافرت شروطه، وبقيت الإفادة وأمرها إلى الله.

فقد تأتي فرصة لم تكن في حسابه تجعل عمله يأتي بأبرك الثمرات، على حين أنه إذا قعد عن العمل فقد لزمه إثم التقصير، وضاع منه أجر الجهاد، وحرم الإفادة قطعا، فأي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا؟". (رسالة إلى أي شيء ندعو الناس).

- الدلالة الدينية، وفي النصوص والبشائر والتطمينات الربانية ما يقطع شك المشككيين في إمكانية النهضة، وحديث الإمام في مثل هذه الشواهد كثير. والمثال على هذه الشواهد قصة سيدنا موصى عليه السلام حيث تدرج الصراع بين الحق والباطل من مرحلة الضعف فمرحلة الزعامة، فمرحلة التدافع ، فمرحلة الإيمان والتحدي ، ثم أخيرا مرحلة النصر والتمكين.

- قوانين النهضة: ومن خلال دراسة الإمام للتاريخ واستيعابه للواقع واستشرافه للمستقبل، بالإضافة إلى ثقافته الشرعية والإنسانية الشاملة، أمكنه استخلاص مجموعة من القوانين والدروس التاريخية والاجتماعية، التي تعمل وفق السنن الإلهية في الأفراد والجماعات والأمم. ومن ثم تحدث وفقا لها عملية النهضة، وهذه القوانين هي:

1-الفكرة المركزية: يقول الإمام عن هذا القانون: " يعتقد الإخوان المسلمون أن الله- تبارك وتعالى- حين أنزل القرآن وأمر عباده أن يتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم ورضي لهم الإسلام دينا، وضع في هذا الدين القويم كل الأصول اللازمة لحياة الأمم ونهضتها وإسعادها، وذلك مصداق قول الله – تبارك وتعالى " الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم" (الأعراف : 157).

2-القوة الدافعة: وعن هذا القانون يشدد الإمام فيقول:" وينظر الناس في الدعوات إلى مظاهرها العملية وألوانها الشكلية، ويهملون كثيرا النظر إلى الدوافع النفسية والإلهامات الروحية التي هي في الحقيقة مدد الدعوات وغذاؤها، عليها يتوقف انتصارها ونماؤها.. إن من وراء المظاهر جميعا في كل دعوة روحا دافعة، وقو باطنة تسيرها وتهيمن عليها وتدفع إليها، ومحال أن تنهض أمة بغير هذه اليقظة الحقيقية في النفوس والأرواح والمشاعر:"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" (الرعد: 11).

" نحن نريد نفوسا حية قوية فتية، وقلوبا جديدة خفاقة، ومشاعر غيورة ملتهبة متأججة، وأرواحا طموحة متطلعة متوثبة، تتخيل مثلا عليا، وأهدافا سامية لتسمو نحوها وتتطلع إليها ثم تصل إليها، ولابد من أن تحصر هذه العواطف والمشاعر، ولابد من أن تركز حتى تصبح عقيدة لا تقبل جدلا ولا تحتمل شكا ولا ريبا.." (رسالة دعوتنا في طور جديد).

ويستطرد الإمام مؤكدا أن رسولنا صلى الله عليه وسلم حدد ".. مشاعر ثلاثة تأسست عليها خطوات الدعوة، وقامت عليها عملية النهضة، وهي: الإيمان بعظمة الرسالة، " فتوكل على الله إنك على الحق المبين" (النمل: 79) والاعتزاز باعتناقها " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس من أهم قوانين النهضة المستدامة. (رسالة دعوتنا في طور جديد).

3-التغيير الذاتي: وعن هذا القانون يقرر الإمام أن " هذا هو قانون الله – تبارك وتعالى- وسنته في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " (الرعد: 11) وهو أيضا القانون الذي عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف الذي رواه أبو داود: (يوشك الأمم أن تتداعى عليكم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: أو من قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء، كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، :وليقذفن في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟

فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت). أو لست تراه صلى الله عليه وسلم قد بين أن سبب ضعف الأمم وذلة الشعوب وهن نفوسها وضعف قلوبها وخلاء أفئدتها من الأخلاق الفاضلة وصفات الرجولة الصحيحة..." (رسالة إلى أي شيء ندعو الناس).

4-أركان الانطلاق: ويحدد الإمام مستلزمات مشروع النهضة، فيقول:" إن تكوين الأمم وتربية الشعوب وتحقيق الآمال ومناصرة المبادئ تحتاج من الأمة التي تحاول هذا، أو من الفئة التي تدعو إليه على الأقل، إلى قوة نفسية عظيمة تتمثل في عدة أمور: إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل، ومعرفة بالمبدأ والإيمان به وتقدير له يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه، والخديعة بغيره. على هذه الأركان الأولية، التي هي من خصوص النفوس وحدها، وعل هذه القوة الروحية الهائلة تبنى المبادئ، وتتربى الأمم الناهضة وتتكون الشعوب الفتية ، وتتجدد الحياة فيمن حرموا الحياة زمنا طويلا. (رسالة إلى أي شيء ندعو الناس).

5-مقومات النجاح: وعن هذا القانون، يركن الإمام بحق على العمود الفقري لإحداث النهضة، وهم الشباب، فيؤكد على الخصائص الأربع اللصيقة بالشباب، والكفيلة بإحداث النهضة، فيقول:" إنما تنجح الفكرة إذا قوي الإيمان بها، وتوفر الإخلاص في سبيلها، وازدادت الحماسة لها، ووجد الاستعداد الذي يحمل على التضحية من أجلها والعمل على تحقيقها ، وتكاد تكون هذه الأركان الأربعة: (الإيمان والإخلاص والحماسة والتضحية) من خصائص الشباب، ومن هنا، كان الشباب قديما وحديثا في كل أمة عماد نهضتها. وفي كل نهضة سر قوتها، وفي كل حامل رايتها "إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى" (الكهف: 13) (رسالة إلى الشباب).

6-إعداد الرجال: ويقول الإمام عن هذا القانون:" إنها (أي الأمم الناهضة) في مسيس الحاجة إلى بناء النفوس وتشييد الأخلاق وطبع أبنائها على خلق الرجولة الصحيحة حتى يصمدوا لما يقف في طريقهم من عقبا ت ويتغلبوا على ما يعترضهم من مصاعب". ويستطرد الإمام قائلا:" إن الرجل سر حياة الأمم ونهضتها، وإن تاريخ الأمم جميعا إنما هو تاريخ من ظهر بها من الرجال النابغين، الأقوياء النفوس والإرادات، وإن قوة الأمم أو ضعفها، إنما تقاس بخصوبتها في إنتاج الرجال الذين تتوافر فيهم شرائط الرجولة الصحيحة" (رسالة هل نحن قوم عمليون؟).

7-متطلبات النهضة: وعن هذا القانون يوضح الإمام قائلا:" أنت إذا راجعت النهضات في الأمم المختلفة شرقية وغربية، قديما وحديثا، رأيت أن القائمين بكل نهضة موفقة نجحت وأثمرت كان لهم منها محدد عليه يعملون، وهدف محدد إليه يقصدون، وضعه الداعون إلى النهوض وعملوا على تحقيقه ما امتد بهم الأجل وأمكنهم العمل، حتى إذا حيل بينهم وبينه وانتهت بهم تلك الفترة القصيرة فترة الحياة في هذه الدنيا، خلفهم من قومهم غيرهم يعملون على منهاجهم، ويبدءون من حيث انتهى أولئك، لا يقطعون ما وصلوا، ولا يهدمون ما بنوا، ولا ينقضون ما أسسوا وشيدوا، ولا يخربون ما عمروا، فإما زادوا على أسلافهم تحسينا أو مكنوا نتائجه تمكينا، وإما تبعوهم على آثارهم فزادوا البنا ء طبقة، وساروا بالأمة شوطا إلى الغاية حيث يصلون بها إلى ما تبتغي، أو ينصرفون راشدين ويخلفهم غيرهم، وهكذا دواليك حتى تتحقق الآمال وتصدق الأحلام ويتم النهوض ويثمر الجهد وتصل الأمة إلى ما إليه قصدت وله عملت " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره" (الزلزلة: 7) . (رسالة هل نحن قوم عمليون؟).

8-مقياس العمل النهضوي : حدد الإمام مقياسا جيدا يستدل به على نتيجة الجهاد والعمل المبذول لتحقيق النهضة بقوله:" إن الغاية الأخيرة والنتيجة الكاملة، لا تتحقق إلا بعد : عموم الدعاية (الرأي العام) وكثرة الأنصار (شبكة العلاقات) ، ومتانة التكوين (بناء المؤسسات)" (رسالة المؤتمر الخامس).

9-التدافع الإنساني: وعن هذا القانون يقرر الإمام:" لقد شاءت لنا الظروف أن ننشأ في هذا الجيل الذي تتزاحم الأمم فيه بالمناكب، وتتنازع البقاء أشد التنازع، وتكون الغلبة دائما للقوي السابق وشاءت لنا الظروف كذلك أن نواجه نتاج أغاليط الماضي ونتجرع مرارتها، وأن يكون علينا رأب الصدع وجبر الكسر وإنقاذ أنفسنا وأبنائنا، واسترداد عزتنا ومجدنا، وإحياء حضارتنا وتعاليم ديننا، كذلك لنا ظروفنا أن نواجه كل ذلك، وأن نعمل على إنقاذ الأمة من الخطر المحدق بها من كل ناحية..." " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض" (البقرة: 351)." ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته" (الشورى: 24) وعليه، إذا قررت الأمة أن تنهض، فلا خيار أمامها إلا أن تحشد طاقاتها في المواجهة" (رسالة هل نحن قوم عمليون؟).

10- الاستشراف والفرصة: وعن هذا القانون يقول الإمام:" إن الزمان سيتمخض عن كثير من الحوادث الجسام، وإن الفرص ستسنح للأعمال العظيمة، وإن العالم ينتظر دعوتكم، دعوة الهداية والفوز والسلام، لتخلصه مما هو فيه من آلام، وإن الدور عليكم في قيادة الأمم وسيادة الشعوب، وتلك الأيام نداولها بين الناس ، وترجون من الله ما لا يرجون، فاستعدوا واعملوا.." (رسالة المؤتمر الخامس).

11-التداول والاستبدال الحضاري، وعن هذا القانون يقول الإمام:" اعلم وتعلم أن مثل الأمم في قوتها وضعفها ، وشبابها وشيخوختها، وصحتها وسقمها مثل الأفراد سواء بسواء، وعلاجها إنما يكون بأمور ثلاثة: معرفة موطن الداء، والصبر على آلام العلاج، والطبيب الذي يتولى العلاج. وهذا مصداق لقول الله في سورة آل عمران "قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين، هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين،ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين، هذا بيان للناس وهدي وموعظة للمتقين، ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين، وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منك شهداء والله لا 141) (رسالة دعوتنا).

12-دعائم النهضة: وعن هذا القانون يقول الإمام: "ليس في الدنيا نظام يمد الأمة الناهضة بما تحتاج إليه من نظم وقواعد وعواطف ومشاعر، كما يمد الإسلام بذلك كله أمته الناهضة. ولقد امتلأ القرآن الكريم بتصوير هذه الناحية الخاصة، وضرب الأمثال فيها بالإجمال تارة، وبالتفصيل تارة أخرى، وعالج هذه النواحي علاجا دقيقا واضحا، لا تأخذ به أمة حتى تصل إلى ما تريد ، فالإسلام كفيل بإمداد الأمة الناهضة، وفقا لعرض الإمام لمشروع النهضة، بالدعائم أو عناصر القوة التالية : (الأمل الواسع الفسيح، الاعتزاز بالقومية والتاريخ المجيد، القوة والاستعداد والجندية، العلم الغزير عن الدين والدنيا، الخلق الفاضل القوي المتين والنفس العالية الطموح، تنظيم شئون المال والاقتصاد، نظم نهضوية للفرد والأسرة والشعب والأمة والحكومة والعلاقات بين الأمم" (رسالة نحو النور)، ولقد وضع الإمام البنا ثلاثية الخلق الفاضل والعلم الغزير والقوة السانحة في قلب هذه السباعية كمحرك أساسي لعملية النهضة، وشدد الإمام على حقيقة جلية في مشروع النهضة، وهي أن مرجعية المشروع الكلية هي الإسلام بك بكتابه الخالد وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

المحور الثاني: أساسيات النظام الاقتصادي الإسلامي

انبثاقا من مشروع النهضة وتفصيلا له، وتحديدا وتوضيحا لجانبه الاقتصادي أولى الإمام البنا اهتماما خاصا بالنظام الاقتصادي الإسلامي كمخرج حقيقي ومعالجة جادة للمشكلة الاقتصادية التي تعاني منها الأمة بعامة، و مصر بخاصة. وفي هذا تشدد الجماعة، استنادا على كتابات الإمام، على أن من المعلوم أن المال هو عصب الحياة، وأن الاقتصاد ركن أساسي من أركان الدولة، ومن الصعوبة بمكان أن يقوم الاقتصاد بدوره الفعال في النهضة والتنمية الشاملة في ظل نظريات ونظم اقتصادية غربية عن المجتمع وهويته وثقافته. وعليه، لابد من برنامج ينطلق من مبادئ الإسلام وقيمه، ويعبئ طاقات الشعب الروحية وقواه الاجتماعية ، ويتبنى سياسات اقتصادية جادة وجريئة تعتمد الواقعية، وتحقق التوازن بين الإنتاج والاستهلاك، وبين الاستثمار والادخار وبين الصادرات والواردات، وتأخذ في الحسبان مرحلة التطور الاجتماعي والاقتصادي والإمكانات المتاحة للمجتمع من أجل التغيير المنشود وتحقيق السلام الاجتماعي والحياة الطيبة الكريمة والاستقرار السياسي. ( الإخوان وقضايا معاصرة).

وهنا، يشدد الإمام البنا بعد أن عدد النظم الاقتصادية المعروفة من رأسمالية واشتراكية، على ضرورة بالنظام الإسلامي قائلا: " وأعتقد أنه لا خير لنا في واحد من هذه النظم جميعا، فلكل منها عيوبه الفاحشة، كما له حسناته البادية. وهي نظم نبتت في غير أرضنا لأوضاع غير أوضاعنا، ومجتمعات فيها غير ما في مجتمعنا، فضلا عن أن بين أيدينا النظام الكامل الذي يؤدي إلى الإصلاح الشامل في توجيهات الإسلام الحنيف، وما وضع للاقتصاد من قواعد كلية أساسية لو علمناها وطبقناها تطبيقا سليما، لانحلت مشكلاتنا، ولظفرنا بكل ما في هذه النظم من حسنات وتجنبننا كل ما فيها من سيئات، وعرفنا كيف يرتفع مستوى المعيشة وتستريح الطبقات، ووجدنا أقرب الطرق إلى الحياة الطيبة ". (رسالة مشكلاتنا الداخلية في ضوء النظام الإسلامي: النظام الاقتصادي).

ثم يستطرد الإمام قائلا: إن من الخير كل الخير ل مصر أن " تركز حياتها الاقتصادية على قواعد الإسلام وتوجيهاته العليا، وتستمد منه وتعتمد عليه، وبذلك تسلم من كل ما يصحب (النظم الوضعية) من أخطاء، وما يلصق بها من عيوب، وتنحل مشكلاتنا الاقتصادية من أقصر طريق" (رسالة مشكلاتنا الداخلية في ضوء النظام الإسلامي: النظام الاقتصادي).

واستنادا إلى كتابات الإمام ، وتأسيسا على أصول ديننا العظيم، تتمثل غاية النظام الاقتصادي الإسلامي في عبادة بالمعنى الواسع، الذي يتضمن كل تصرفات الفرد، وعلى رأسها فرض تعمير الأرض، تحقيقا لطيب الحياة وتوفيرا لتمام الكفاية لكل فرد يعيش في المجتمع المسلم. وفي ذلك يقول الأصوليون:" إن البنا ء على المقاصد الأصلية يصير تصرفات المكلف كلها عبادات سواء كانت من قبيل العبادات أو العادات.

ومن ثم، يقوم النظام على قاعدة أن الأصل في المعاملات "الحل" أخذا بالأسباب وتعميرا للأرض، وعلى الجمع في توازن دقيق وتزاوج فطري بين الروح والمادة، والفرد والجماعة، والعبادات والمعاملات، مؤكدا على تكامل هذه الثنائيات لا تنافرها، في عدالة واعتدال،ودون إفراط أو تفريط، ومحددا أدوار العمل ومسئوليات القطاعات الوظيفية والإنتاجية، وواضعا الضوابط الحاكمة للأداء، والمعايير العادلة لتوزيع الناتج، لمنع كل الم مارس ات الخاطئة، الممكن حدوثها إنسانيا، واتي تعوق مسيرة المجتمع نحو حياة أفضل.

وعلى ذلك، يقوم النظام من خلال رقابة ذاتية متيقظة على التنفيذ في كافة المستويات، ووفقا لإجراءات محددة للتوجيه والمتابعة والتقويم والمساءلة والثواب والعقاب ، بتصحيح آني لما يقع من انحرافات، ومن ثم، يعالج النظام عمليا وباستمرار صور الانحرافات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، مؤكدا التحريم الصريح والقاطع: للقهر والاستبداد، والظلم والاستغلال، والربا والغرر، والرشوة والمحسوبية، والاحتكار والاكتناز، والتطفيف والبخس، والإسراف والتقتير، والغش والتدليس، والتزوير والتزييف، إلى آخر صور القهر السياسي والتخريب الاجتماعي والفساد الاقتصادي، ومن ثم، يقوم هذا النظام على أخلاقيات الإسلام كمتغير داخلي في آليته ومحرك أساس لفعاليته.

ولتحقيق غايته في عبادة الله وتعمير الأرض، ولإنجاز مقاصده التفصيلية والمتمثلة في حفظ فطري تعميري للدين والنفس والعقل والمال والنسل، جعل النظام العمل جزءا أساسيا من العبادة، والتكافل الاجتماعي من خلال الزكاة والصدقات التطوعية والنفقات المفروضة ركنا أصيلا من بنيانه، والمشاركة الشعبية من خلال الشورى أداة رئيسة لحياة سياسية سليمة لتسيير الاقتصاد والمجتمع وينطلق النظام من حقيقة إيمانية، وهي أن الإنسان خليفة الله- سبحانه وتعالى في الأرض: ملكية، وتثميرا، وتعميرا، وتكافلا، وشورى، وتربية، وإخاء، وقدوة.

ويتم النشاط الاقتصادي، وفقا لهذا النظام، من خلال السوق الإسلامية، التي تقوم على أساس آليات "المنافسة التعاونية" من حرية اقتصادية مقيدة، تحكم إنتاج الطيبات، ومن خلال قوى العرض والطلب وميكانيكية الأثمان، ووفقا للمعارضات المالية العادلة القائمة على صيغ التمويل والاستثمار الإسلامي، وعلى أساس نظام أولويات واضح ومحدد، يبدأ بالضروريات فالحاجيات فالتحسينات وفي ظل ملكية "متعددة" تشمل الملكية العامة، وملكية القطاع العام، والملكية الخاصة (جوهر موضوع الملكية في الإسلام) ومن خلال دور محدد للدولة على أساس الولايات السلطانية، وبصفة خاصة ولايات: الحكم والقضاء والمال والحسبة، وعن طريق أنظمة القطائع والحمى والتحجير والإحياء والوقف.

استنادا على فلسفة النظام، وفي ضوء هذا الإطار الجامع له، قدم الإمام البنا عددا من العناصر المهمة للنظام الاقتصادي، اعتبرها بحق أصولا أو قواعد لهذا النظام، نجملها فيما يلي:

1- المال الصالح : فأكد الإمام أن "المال الصالح هو قوام الحياة" واستطرد قائلا: إن الإسلام امتدح المال الصالح، وأوجب الحرص عليه وحسن تدبيره وتثميره، وأشاد بمنزلة الغنى الشاكر الذي يستخدم ماله في نفع الناس ومرضاة الله، وليس في الإسلام هذا المعنى الذي يدفع الناس إلى الفقر والفاقة من فهم الزهد على غير معناه.. وما ورد في ذم الدنيا والمال والغنى والثروة إنما يراد به ما يدعو إلى الطغيان والفتنة والإسراف، ويستعان به على الإثم والمعصية والفجور وكفران النعمة، وفي الحديث:" نعم المال الصالح للرجل الصالح" وفي الآية الكريمة:" ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما" (النساء: 5) وفي ذلك إشارة إلى أن الأموال قوام الأعمال".

2- العمل على كل قادر: وفي إيجاب العمل والكسب على كل قادر، يقرر الإمام أن " في الإسلام الحث على العمل والكسب، واعتبار الكسب واجبا على كل قادر عليه، والثناء كل الثناء على العمال المحترفين، وتحريم السؤال. وإعلان أن من أفضل العبادة العمل، وأن العمل من سنة الأنبياء، وأن أفضل الكسب ما كان من عمل اليد، والزراية على أهل البطالة، والذين هم عالة على المجتمع مهما كان سبب تبطلهم، ولو كان الانقطاع لعبادة الله، فإن الإسلام لا يعرف هذا الضرب من التبطل، والتوكل على الله إنما هو بالأخذ بالأسباب، وأيضا بالنتائج ، فمن فقد أحدهما فليس بمتوكل والرزق المقدور مقرون بالسعي الدائب، والله – تبارك وتعالى- يقول:" وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون" (التوبة: 105) ، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أكل أحد طعاما قط خير من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده".

3- الكشف عن الثروات الطبيعية والاستفادة منها: وفي هذا الأصل يقول الإمام بوجوب الكشف عن منابع الثروة ومصادر الخير، والحث على العناية بها ووجوب استغلالها، " وأن كل ما في هذا الكون العجيب مسخر للإنسان ليستفيد منه وينتفع به "ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة" (لقمان:0 2).

4- تحريم الكسب الخبيث : وفي هذا الأصل يقول الإمام : " من تعاليم الإسلام، تحريم موارد الكسب الخبيثة، وتحديد الخبث في الكسب بأنه ما كان بغير مقابل من عمل،: كالربا والقمار، واليانصيب ونحوها، أو كان بغير حق: كالنصب والسرقة والغش ونحوها، أو كان عوضا لما يضر، كثمن الخمر والخنزير والمخدر ونحوها. فكل هذه موارد للكسب لا يبيحها الإسلام ولا يعترف بها" "ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث" (الأعراف: 157).

5- التقريب بين الطبقات: وفصل الإمام هذا الأصل بالقول : " تقريب الشقة بين مختلف الطبقات ، تقريبا يقضي على الثراء الفاحش والفقر المدقع، ويستطرد قائلا:" عمل الإسلام على التقريب بين الطبقات بتحريم الكنز ومظاهر الترف على الأغنياء ، ووصف الطريق العملي لذلك، وأكثر من الحث على الإنفاق في وجوه الخير والترغيب في ذلك، وذم البخل والرياء والمن والأذى. وتقرير طريق التعاون والقرض الحسن ابتغاء مرضاة الله –تبارك وتعالى- ورجاء ما عنده " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" (المائدة: 2).

6- حرمة المال عليه. ولقد احترم الملكيات: وفي هذا الأصل يقول الإمام:" وقرر الإسلام حرمة المال، واحترام الملكية الخاصة ما دامت لا تتعارض مع المصلحة العامة " كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله"

7- تنظيم المعاملات المالية في حدود مصلحة الأفراد والمجتمع، واحترام العقود والالتزامات ، والدقة في شئون النقد والتعامل به، حتى أفردت له أبواب في الفقه الإسلامي تحرم التلاعب فيه، ولعل هنا موضعا من مواضع الحكمة في تحريم استخدام الذهب والفضة باعتبارهما الرصيد العالي للنقد". وهنا يشير الإمام إلى تفرقة دقيقة بين استعمال المعدنين كسلعة وهو محرم، واستعمالهما الاستعمال الثاني، ومن ثم تستقيم المعاملات، ويحدث الاستقرار في النشاط الاقتصادي.

8- الضمان الاجتماعي: ويشير الإمام إلى أن هذا الأصل حق لكل مواطن ، وتأمين راحته ومعيشته كائنا من كان، ما دام مؤديا لواجبه، أو عاجزا عن يتكفف الناس، فزجره، واستفسر عما حمله على السؤال، فلما تحقق من عجزه، رجع على نفسه بالملائمة، وقال له: " ما أنصفناك يا هذا، أخذنا منك الجزية قويا، وأهملناك ضعيفا، افرضوا له من بيت المال ما يكفيه، مع إشاعة روح الحب والتعاطف بين الناس جميعا".

9- مسئولية الدولة: ولتأكيد مسئولية الدولة في حماية النظام الاقتصادي، يقرر الإمام أن الإسلام " أعلن مسئولية الدولة عن حماية هذا النظام، وعن حسن التصرف في المال العام، تأخذه بحقه وتصرفه بحقه، وتعدل في جبايته،ولقد قال عمر ما معناه:" إن هذا المال مال الله، وأنتم عباده، ولقد قال عمر ما معناه:" إن هذا المال مال الله، وأنتم عباده، وليصلن الراعي بأقصى الأرض قسمه من هذا المال، وإنه ليرعى في غنمه ، ومن غل غل في النار".

10- حظر استغلال النفوذ.. من أين لك هذا؟ وفي هذا الأصل يقول الإمام: " كما حظر الإسلام استخدام السلطة والنفوذ، ولعن الراشي والمرتشي، وحرم الهدية على الحكام والأمراء، وكان عمر يقاسم عماله ما يزيد عن ثرواتهم، ويقول لأحدهم:" من ين لك هذا؟ إنكم تجمعون النار وتورثون العار، وليس للوالي من مال الأمة إلا ما يكفيه".

وفي نهاية عرض هذه القواعد أو الأصول، والتي تشمل حفظ المال الصالح والعمل على تنميته وتثميره، وصيانة الملكية الخاصة، وحق العمل والكسب الطيب، وتحريم موارد الكسب الخبيث، والكشف عن الموارد الطبيعية والاستفادة منها، وتنظيم المعاملات المالية ( التمويل الإسلامي، والبنوك والشركات وشئون النقد) والضمان الاجتماعي والتقريب بين الطبقات والحد من تفاوت الدخول والثروات، وقواعد مالية الدولة ومسئوليتها عن النشاط الاقتصادي، ختم الإمام عرضه الفني الدقيق بقوله:" تلك هي روح النظام على أنها تفصيل يستغرق مجلدات ضخاما- وهي مبسوطة بوضوح في كتب الفقه- ولو اهتدينا بهديها، وسرنا على ضوئها لوجدنا في ذلك الخير الكثير".( رسالة مشكلاتنا الداخلية في ضوء النظام الإسلامي: النظام الاقتصادي).

المحور الثالث: قضايا اقتصادية رئيسة

وبعد تحديد واضح لأصول النظام الاقتصادي الإسلامي، " والتي تنتج مع التطبيق الصحيح وضعا اقتصاديا سليما" يختلف جذريا عن الوضع الاقتصادي المتخلف الذي يعيش تحت وطأته الإنسان المصري، وبعد أن صبر الشعب المصري صبرا طويلا على هذه الحياة الجافية القاسية، وهذا الحرمان العجيب الذي لا يصبر عليه آدمي إلا بمعجزة من معجزات الإيمان... لابد من علاج حاسم وسريع، ولن نجده.. إلا في طب الإسلام الحنيف وعلاجه" أي في النظام الاقتصادي الإسلامي. وتطبيقا لهذا النظام، واسترشادا بأصوله، عدد وناقش الإمام البنا عددا من السياسات والإجراءات والقضايا الرئيسة في المجال الاقتصادي للخروج من المعيشة "الضنك" التي نحياها، لعل من أهمها ما يلي:

1- استقلال النقد والسياسة النقدية: إذا كان الاقتصاد هو عصب الحياة ، فالنقود هي عصب الاقتصاد المعاصر، ففي ظل الاقتصاد النقدي، تلعب التيارات النقدية الدور الرئيس في إدارة عجلة الإنتاج الحقيقي، وتحدد الاستخدام الأشمل والأكفأ للموارد الإنتاجية، تحقيقا للتنمية المستدامة، فبعد التخلي عن قاعدة الذهب، أي النقود الذهبية، في أواخر الثلث الأول من القرن الماضي(تحديدا عام 1931م) وصلت الاقتصادات المعاصرة إلى مرحلة النقود الورقية الإلزامية، أي الملزمة في إبراء الذمم والوفاء بالالتزامات بقوة القانون، والتي تحتاج إلى إدارة (وطنية) رشيدة لضبط العرض الكلي لها (أي النقود) بما يتفق ومصالح واحتياجات النشاط الاقتصادي وتنميته المستمرة خلال الزمن.

ولضبط عملية إصدار هذه "النقود المدارة" قصرت العملية على بنك وحيد، سمي ببنك الإصدار، ثم بالبنك المركزي فيما بعد، وفرض المشروع على هذا البنك غطاء نقديا للنقود المصدرة، جزئيا من الذهب وباقي الغطاء من أوراق مالية مختلفة، وذلك لكي لا يسرف البنك- في عملية الإصدار – من نفسه أو تحت ضغط من الحكومة- فيعرض النشاط الاقتصادي إلى زيادة غير مبررة في الطلب الكلي النقدي، ومن ثم إلى التضخم المفرط، أي الارتفاع الجامح في الأسعار، وعليه، يقوم البنك المركزي بإدارة العرض الكلي للنقود بما يتفق ومستوى النشاط الاقتصادي، وهذا هو ما يسميه النقديون عملية رسم وتنفيذ السياسة النقدية.

بعد هذا التقديم، يتضح مدى الفهم العميق والدقيق لدى الإمام البنا للأدبيات الاقتصادية والإنمائية بعامة، وللمشكلة الاقتصادية المصرية وكيفية معالجتها بخاصة، إذ أفرد الإمام البند الأول في القضايا لاقتصادية المرتبطة بعملية تنمية الاقتصاد المصري وفقا لأصول النظام الاقتصادي الإسلامي لقضية استقلال النقد.

وفي ذلك يقول الإمام: إن تحقيق التنمية الجادة والمستدامة " يوجب استقلال نقدنا ، واعتماده على رصيد ثابت من مواردنا ومن ذهبنا ، لا على أذونات الخزانة البريطانية ودار الغرب البريطانية والبنك الأهلي البريطاني – وإن كان مقره مصر " ثم يستطرد ط مستشهدا بالآية الكريمة:" ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما" (النساء:5) ويقم مثالا على هذا السفه بالقول:" ولم يحدث في تاريخ الدول الراقية فيما نعلم أن (بنكا) يستغل قرارا من وزير هذا الاستغلال الشائن، كما فعل ذلك البنك الأهلي بقرار وزير المالية... فيصدر بمقتضاه من الأوراق ه(النقدية) ما يشاء".

وفي النهاية ، كما يقرر الإمام:" أنتج ضعف الرقابة على النقد، والاستهانة بأمره استهانة بلغت حد الاستهتار، هذه المآسي التي نصطلي بنارها من التضخم الذي استتبع غلاء المعيشة، وصعوبة الاستيراد والتصدير، (مشكلاتنا الداخلية في ضوء النظام الإسلامي) فكان بحق من أوائل من نادوا باستقلال النقد بتمصير البنك الأهلي، وأن يكون لمصر مطبعتها لإصدار النقود الورقية، ودارها لسك النقود المعدنية ومن ثم تحكمها في العرض الكلي للنقود، ورسمها وتنفيذها لسياسة نقدية مستقلة لترشيد الأداء الاقتصادي والعمل على تنميته.

2- إلغاء الربا: وفي هذه القضية يقول الإمام: " يوجب علينا الإسلام أن نحارب الربا ونحرمه، ونقضي على كل تعامل على أساسه" (رسالة مشكلاتنا الداخلية في ضوء النظام الإسلامي) ومن ثم، يتم تنظيم المعاملات الاقتصادية بعامة، والعمل المصرفي بخاصة، تنظيما يؤدي إلى هذه الغاية، "فالربا حرام.. حرام.. حرام، وأولى الناس بتحريمه أمم الإسلام ودول الإسلام" (رسالة مشكلاتنا الداخلية في ضوء النظام الإسلامي).

وفي بحث فقهي واقتصادي عميق ورصين للإمام البنا ، تحت عنوان " أنواع الربا وأحكامه" نشر بمجلة النذير، العدد (14) عام 1358هـ ، 1939م أوضح الإمام حرمة الربا، والأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وأقوال الفقهاء، وحدد الصور المختلفة للربا، وكيفية معالجة هذا الداء، وذلك عن طريق ال مصر فية الإسلامية حيث يقول:" إن المهيمن على السوق الاقتصادية في نظامنا الحديث هو: المصارف المالية، وهي التي تعتمد أكثر ما تعتمد على الفوائد إيداعا وإقراضا، وفي وسع هذه المصارف أن توظف ودائع العملاء في الأسهم ، فتستفيد وتفيد، وتربح لنفسها ولعملائها، وتقاسمهم الربح، وتفيد السوق الاقتصادية فائدة جمة" ثم يستطرد في تعداد صور توظيف الأموال إسلاميا بالقول:" وتستطيع المصارف أن تجد من أبواب الإيراد وخدمة الاقتصاد ما لا يقع تحت حصر لتوظيف الأموال في التجارة والصناعة والعمولة والوساطة في بيع المحاصيل وبيع العملة الأجنبية وصرف الشيكات، وتأجير الخزن، وحفظ الودائع وغيرها. وهذا من حيث إفادة نفسها وعملائها".

وبالنسبة لتمويل المحتاجين للمال من منتجين وتجار وحتى مستهلكين يقرر تجعله من صلب الشركة أو من باب العوض، أو نحو ذلك، وبهذا تستغني تمام الاستغناء عن الفائدة"

وهذا – بحق- هو جوهر المصرفية الإسلامية الحديثة، والتي تقوم على نظام المشاركة في الربح والخسارة أي الاستثمار المخاطر، بديلا حلالا عن المداينة بفائدة ربوية، وذلك وفقا لأساليب وصيغ الاستثمار الإسلامي القائمة على عقود الشركة وعقود البيوع وعقود الإجارة. ومن ثم ، يعد الإمام من أوائل من كتبوا عن المصرفية الإسلامية، بهذا التحديد والتفصيل والوضوح.

3- تنظيم الضرائب: وفي هذه القضية يقول الإمام: إن الإسلام يوجب تنظيم الضرائب الاجتماعية على أساس تصاعدي بحسب رأس المال ، لا بحسب الأرباح فقط، ويجب استعمال حصيلة الضرائب لأغراض الدولة العامة ولرفع مستوى المعيشة ولخدمة مصالح الشعب خاصة طبقة الفقراء، ولعل المثال الواضح على ذلك فريضة الزكاة، إذ فرضت على "رأس المال لا على الربح وحده" وذلك " لحكم جليلة منها: محاربة الكنز وحبس الأموال عن التداول الذي يستفيد من ورائه كل الذي يقع في أيديهم هذا المال المتداول". وأكد على الأثر الاجتماعي الإيجابي للزكاة بقوله:" وإنما جعل الإسلام مصارف الزكاة اجتماعية بحتة لتكون سببا في جبر النقص والتصور الذي لا تستطيع المشاعر الإنسانية والعواطف الطيبة أن تجبره، فيطهر بذلك المجتمع ويزكو، وتصفو النفوس وتسمو "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها" (التوبة: 103).

وتشبيها بالزكاة، يرى الإمام لإصلاح النظام الضريبي وفقا لفكر الإمام، على أساس تصاعدي على رأسي المال والأرباح، من كونها أداة رئيسة في عملية التنمية المستدامة، من حيث الجباية والإنفاق، فتستخدم في توجيه الموارد إلى الأنشطة الاقتصادية وفقا لنظام الأولويات الإسلامية (الضرورات ، فالحاجيات، فالتحسينات) وتعمل على إعادة توزيع الدخل والثروة بهدف الفوارق بين الطبقات ومعالجة مشكلة الفقر، ومحاربة الإنفاق المفرط أو البذخي.

4- تمصير الشركات: أكد الإمام بالنسبة لهذه القضية ضرورة إحلال رءوس الأموال الوطنية محل رءوس الأموال الأجنبية، كلما أمكن ذلك، حماية للثروة الوطنية وحماية للشعب من عسف الشركات المحتكرة، وإنهاء السيطرة الأجنبية على المرافق العامة والثروات المعدنية. وفي ذلك يقول الإمام: إن أصول النظام الاقتصادي الإسلامي الذي يتعين الأخذ به للخروج من أزمة التخلف التي نعيشها :" توجب .. الاهتمام الكامل بتمصير الشركات، وإحلال رءوس الأموال الوطنية محل رءوس الأموال الأجنبية، كلما أمكن ذلك ، وتخليص المرافق العامة –وهي أهم شيء للأمة- من يد غير أبنائها.

فلا يصح بحال أن تكون الأرض و البنا ء والنقل والماء والنور والمواصلات الداخلية والنقل الخارجي، وحتى الملح والصودا... في يد شركات أجنبية تبلغ رءوس أموالها وأرباحها الملايين من الجنيهات، لا يصيب الجمهور الوطني، ولا العامل الوطني منها إلا البؤس والشقاء والحرمان" (رسالة مشكلاتنا الداخلية في ضوء النظام الإسلامي).

وهذه دعوة صريحة إلى الاستقلال الاقتصادي لدعم الاستقلال السياسي، وصرخة مدوية لوقف الاستغلال البشع والنهب المنظم لإمكانات وثروات البلاد من قبل الأجانب، فالتمصير في فكر الإمام كان يشكل عنصرا مهما في قيام لنهضة الاقتصادية والتنمية المستدامة.

5- تنمية القطاعات السلعية: فبعد أن حدد الإمام البنا المتطلبات الضرورية لتوفير المناخ المناسب لتطبيق النظام الاقتصادي الإسلامي تحقيقا للنهضة وإحداثا للتنمية المستدامة من إصلاحات نقدية وضريبية وتمويلية وتمصير للفعاليات الإنتاجية القائمة، انتقل إلى محل النهضة الاقتصادية المستمرة ومناط تحقيقها والمتمثل في تنمية القطاعات السلعية، فأكد على استغلال منابع الثروة الطبيعية استغلالا سريعا ومنتجا، وفي ذلك يقول: إن هذا الاستغلال :.." أمر يوجبه الإسلام الذي لفت أنظارنا كتابه إلى آثار رحمة الله في الوجود، وما أودع في الكون من خيرات في الأرض وفي السماء، وأفاض في أحكام الركاز، وحث على طلب الخير أينما كان – في الماء عندنا ثروات، وفي الصحراوات ثروات، وفي كل مكان ثروات لا ينقصها إلا فكر يتجه، وعزيمة تدفع، ويد تعمل، وخذ بعد ذلك من الخير ما تشاء" (رسالة مشكلاتنا الداخلية في ضوء النظام الإسلامي).

ثم انتقل إلى القطاع الزراعي، واعتبر أن الإصلاح إعادة النظر في نظام الملكيات الزراعية، فتختصر الملكيات الكبيرة، ونعوض أصحابها بما هو أجدى عليهم وعلى المجتمع، ونشجع الملكيات الصغيرة، حتى يشعر الفقراء المعدمون بأنهم قد أصبح لهم في هذا الوطن ما يعنيهم أمره، ويهمهم شأنه... وأن نوزع أملاك الحكومة حالا على هؤلاء الصغار كذلك حتى يكبروا... مما ينعكس إيجابيا على إنتاجية هذا القطاع، كذلك أشار إلى تنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر بصورة عادلة فلا يستغل أحدهما الآخر، وإلى إيجاد نظام للتمويل الراعي على أساس إسلامي بديلا عن الإقراض الربوي، مما يؤثر إيجابيا أيضا على الإنتاجية الزراعية.

ثم اعتبر - بحق- أن تنمية القطاع الصناعي، بما في ذلك التصنيع الزراعي، عصب عملية التنمية المستدامة، استنادا إلى فرض الكفاية، وفي إطار الأولويات الإسلامي، وفي حدود الاستطاعة البشرية والإمكان المادي والمعرفة الفتية والتكنولوجية، ومن خلال التدريب المستمر للأيدي العاملة لرفع مهاراتهم وزيادة إنتاجياتهم، فبدأ بالبحث على استكمال المشروعات تحت التنفيذ، والمشروعات "المهملة" التي لم تر النور أصلا، ثم شدد على ضرورة التصنيع في شتى المجالات، من الصناعات الثقيلة والحربية إلى الصناعات الاستهلاكية الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، وحتى الحرفية والمنزلية –حتى تشيع في المجتمع الروح الصناعية والعقلية الابتكارية.

وفي ذلك يقول الإمام بضرورة "العناية بالمشروعات الوطنية الطبري المهملة التي طال عليها الأمد، وقعد بها التراخي والكسل أو أحبطتها الخصومة الحزبية أو طمرتها المنافع الشخصية، أو قضت عليها الألاعيب السياسية والرشوة الحرام، كل هذا يجب أن تتوجه إليه الهمم من جديد "إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملا أن يتقنه" ثم يقابل ذلك بتجربة طلعت حرب: فيقول: " كم كنا نحتاج ونعرى، لو لم يلهم الله طلعت حرب- عليه الرضوان- أن يتقدم بمشروعات (المحلة): هناك مشروعات كثيرة درست وبحثت ، ثم وضعت على الرف وطال عليها الأمد قبل الحرب، ولا موجب لهذا الإهمال، والضرورة قاسية والحاجة ملحة، والأمر لا يحتمل التأخير".

ثم يشدد على أهمية استراتيجية التصنيع من أجل التنمية ، فيقول:" والتحول إلى الصناعة فورا من روح الإسلام الذي يقول نبيه صلى الله عليه وسلم : " إن الله يحب المؤمن المحترف، من أمسى كالا من عمل يده، أمسى مغفورا له" والذي أثنى كتابه على داود وسليمان بهذا التقدم الصناعي. وذكر لنا من دقائق الرقي فيه ما أعجز البشر" ثم يقول: " حرام على الأمة التي تقرأ في كتابها:" وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس" (الحديد: 25) ، ثم تهمل ما عندها من هذا المعدن هذا الإهمال، وهو من أجود الأنواع، ويكفي العالم مائتي عام كما قدر الخبراء..." ثم ينتقل أخيرا إلى الصناعات الصغيرة والمنزلية، فيقول:" توجب علينا روح الإسلام تشجيع الصناعات اليدوية المنزلية، وهذا هو باب الإسعاف السريع لهذه العائلات المنكوبة، وباب التحول إلى الروح الصناعي والوضع الصناعي..." (رسالة مشكلاتنا...).

ثم يختتم هذا العرض لأهم مكونات النظام الاقتصادي الإسلامي وأصوله وأشد قضايا مشروع النهضة الاقتصادية والتنمية المستدامة إلحاحا وأهمية وأولوية، بالتأكيد الواضح على العمق الاستراتيجي العربي والإسلامي، وعلى جدوى التعاون الاقتصادي العربي والإسلامي في تحقيق هذا المشروع بالقول:" لقد أتاح الله لنا من أسباب اليسر الاقتصادي، والنجاح المادي ما لم يتحه لغيرنا من الأمم والشعوب، فهذه الرابطة الوثيقة من اللغة والعقيدة والمصلحة والتاريخ بيننا وبين أمم العروبة والإسلام، وهي بحمد الله أغنى بلاد الله في أرضه، وأخصبها تربة، وأعدلها جوا، وأكثرها خيرات، وأثراها بالمواد الأولية وبالخامات من كل شيء، هذه الرابطة، تمهد لنا- لو أحسنا الانتفاع بها- سبل الاكتفاء الذاتي والاستقلال الاقتصادي، وتنقذنا من هذا التحكم الغربي في التصدير والاستيراد وما إليهما..."، و " لا يكلفنا الأمر أكثر من أن نعزم ونقدم، ونقوي الصلة، ونحكم الرابطة، ونشيع روح الوحدة والتعاون بيننا وبين أمم العروبة وشعوب الإسلام".

ولقد وجه الإمام ذلك النداء، أو تلك الأمنية إلى رئيس الحكومة المصرية، لاقتناعه بحق أن المدخل الرئيس لأي إصلاح أو تغيير نهضوي هو الإصلاح السياسي، والإصلاح السياسي لا يتأتى إلا بصلاح الحكومة، ولذلك جاء تأكيده في صدر رسالة "مشكلاتنا الداخلية في ضوء النظام الإسلامي. النظام الاقتصادي" على هذا المعنى شديد الوضوح لديه، إذ يقول : لأن النظام النيابي الحديث الذي اخترناه لأنفسنا لم يطبق تطبيقا صحيحا، " اضطربت كل الأمور تبعا لذلك، فإن هذا الأمر أصل وكل ما عداه تبع له" ألا " وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" الحكومة ولا شك قلب الإصلاح الاجتماعي كله، فإذا فسدت أوضاعها فسد الأمر كله، وإذا صلحت صلح الأمر كله" ولذلك، ختم الإمام رسالته بالقول:" فيا دولة رئيس الحكومة، ويا رؤساء الهيئات والجماعات ويا من يعنيهم أمر الطمأنينة والسلام في هذا الوطن: تداركوا الأمر بحزم... وعودوا إلى نظام الإسلام".

المحور الرابع: تطبيقات في التجربة المصرية

كان الإمام البنا يدرك تماما أن مشروع النهضة والنظام الاقتصادي وقضاياه التشغيلية المرتبطة بالتجربة المصرية يربطها جميعا قاسم مشترك، وهو أنها " إسلامية بحتة" في غاياتها ووسائلها، وفي أسسها ومنطلقاتها، تستند إلى صحيح الإسلام كما طبقه الرعيل الأول ، ومصبوبة في قالب يلائم العصر ويواكب التطور، لعلاج مشكلات الحياة جميعا، وبالذات المادية منها، بواقعية الإسلام ووسطيته، على أساس متين من الكتاب والسنة.

واستنادا إلى هذا الفهم الإبداعي والسلفية المستنيرة، طبق الإمام مشروعه النهضوي للمساهمة في تنمية الاقتصاد المصري في حدود استطاعة "الجماعة" وإمكانات أعضائها المادية المحدودة، فبدأ بتربية الفرد على أساس عقدي متين ورجولة صحيحة، لاعتقاده بحق أن الإنسان وفقا لهذا المنهج الرباني، هو أهم وأسمى ما في هذا الوجود، ومن ثم هو الوسيلة الرئيسة لتحقيق النهضة وإحداث عملية التنمية المستدامة" اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب" (هود: 61) وهو أي الإنسان في الوقت ذاته غاية النهضة والتنمية، لكي يستطيع باستمرار القيام بتبعية "العبادة" لله، والتي تشمل " جميع " أعمال الإنسان، وعلى رأسها "تعمير" الأرض، وفقا لشرع الله، وعليه تتصف عملية التنمية، وفقا لهذا المنهج، بالاستمرارية المستمدة من استمرارية الإنسان في عبادة الخالق- تبارك وتعالى، " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " (الذاريات: 56) ، " قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له" (الأنعام : 162، 163).

وعلى هذا الأساس، كلف الإمام الأخ العامل... " بأن يدخر من ماله جزءا، مهما كان يسيرا، وبحسب ظروفه المالية" حتى يتعود على الادخار مهما قل دخله احتياطا للطوارئ. (رسالة التعاليم)، كما أمره بأن " يزاول عملا اقتصاديا مهما كان غنيا، وأن يقدم على العمل الحر مهما كان ضئيلا، وأن يزج بنفسه فيه مهما كانت مواهبه العلمية، وألا يحرص على الوظيفة الحكومية، وأن يعتبرها "أضيق" أبواب الرزق، ولا يرفضها إذا أتيحت له" و "أن يخدم الثروة الإسلامية العامة بتشجيع المصنوعات والمنشآت الاقتصادية الإسلامية، وأن يحرص على القرش فلا يقع في يد غير إسلامية مهما كانت الأحوال، ولا يلبس ولا يأكل إلا من صنع "وطنك الإسلامي" (رسالة التعاليم)، وكان الإمام يحث الإخوان على العمل الحر وإقامة مشروعات، بجانب الوظيفة، حتى يكون الأخ على صلة مستمرة بالمجتمع، مما وفر بالفعل اكتفاء شبه ذاتي من الحرفيين الإخوان في كل التخصصات. وفي إطار خطوات الإصلاح العملي، ركز الإمام على "تشجيع المشروعات الاقتصادية والإكثار منها، وتشغيل العاطلين من الوطنيين فيها، واستخلاص ما في أيدي الأجانب منها" (رسالة نحو النور).

ولكن الإمام كان يحب، في مرحلة تكوين الإخوة العاملين، أن يبتعد عن الشبهات، وليس هناك شبهة أكثر من شبهة جمع المال الذي لا يرى أثره عاجلا، ولذلك عندما شمر بعض الإخوان عن سواعدهم للنزول في الميدان الاقتصادي لمنافسة المال اليهود ي والأجنبي، لم يوافق الإمام إلا بمراعاة أمرين:

الأول: عدم الخلط بين النشاط الدعوي والنشاط الاقتصادي، لا في الشكل ولا في الموضوع، بمعنى ألا تكون هناك شركة تجارية أو مشروع اقتصادي يحمل لافتة أو شعار الإخوان المسلمين ، صحيح المال ضروري للدعوة والدعوة محتاجة للمال ولكن الدعوة شيء في نظمها وطبيعتها، والمال شيء آخر في نظمه وطبيعة دولابه.

الثاني: ألا تكون له صلة بهذه الأعمال لا من قريب ولا من بعيد صيانة لشخصه ووقته ومجهوده.

وفي ضوء هذه المبادئ، وعلى أساس هذه الشروط، شجع الإمام الطبقات الشعبية على الادخار دعما للاقتصاد الوطني، وقدم النموذج الحي للاستثمار الإسلامي بعيدا عن شبهة كبيرة " الربا" فأقامت الجماعة في عهده، بجانب المدارس والمستوصفات والمستشفيات والمزارع والمشروعات الزراعية والمشروعات العقارية، وشركات مواد البنا ء، وشركات للنقل والمواصلات، وشركات لتجارة الجملة والتجزئة في المواد الغذائية والخردوات والملابس الجاهزة وغيرها، أقامت وبمساهمة متواضعة منه، العديد من المشروعات الاقتصادية، تراوحت بين أنشطة التعدين والمحاجر، فالغزل والنسيج فالتمويل الإسلامي، إلى الطباعة والنشر والإعلام. وكانت معظم هذه الشركات في شكل شركات مساهمة، موزعة أسهمها على مجموعة كبيرة من "صغار" المساهمين الكثير منهم من العمال الذين يعملون في هذه الشركات، وكانت تصل حصة المساهم في بعض الشركات مبلغ عشرة قروش، وفي البعض الآخر مبلغ خمسة وعشين قرشا فقط في الشهر، مما عود الفقراء على الإدخال وساعد على تكوين رأس مال صناعي شعبي.

ومن أهم هذه الشركات، الشركات التالية:

1- شركة المعاملات الإسلامية: وهي شركة مساهمة، الغرض منها تأسيس وإدارة مشروعات اقتصادية في شتى المجالات، على أساس التمويل الإسلامي، وكان رأس مال الشركة عند تأسيسها (4000) جنيه مصري سنة 1939م، مقسمة إلى الأسهم، قسمة كل سهم أربعة جنيهات مصرية، ونص نظامها الأساسي على أن الغرض منها هو " أن تتعاطى لحسابها أو لحساب الغير جميع عمليات استغلال المال بالطرق الحلال التي تجيزها الشريعة الإسلامية الغراء، سواء أكان ذلك الاستغلال بطريق الإنتاج أم كان بطريق المبادلات التجارية من بيع وشراء وإيجار واستئجار أو أخذ تعهدات ومقاولات، أو أي عملية استغلالية خالية من الربا أو شبهة الربا حسب نصوص الشركة بمركز جمعية الإخوان المسلمين العامة ب مصر عشرة قروش شهريا مدة أربعين شهرا كاملة بدون انقطاع، ويجوز دفع قيمة السهم دفعة واحدة أو دفعات في مدة أقل من ذلك".

وعلى هذا الأساس، قامت الشركة بإنشاء محل لتجارة التجزئة في المواد الغذائية والخردوات والأحذية والملابس الجاهزة والأقمشة بأنواعها، ودخلت في الاستغلال الزراعي والتسويق الزراعي، وأقامت مشروعات لمواد البنا (الجير، والطوب الأحمر، وبلاط الأسمنت، والموزايكو) وأنشأت مصنعا للنحاس ينتج وابورات الغاز، وقطع غيارها المختلفة، وأقامت مشروعا لنقل البضائع بالسيارات، ورشة ميكانيكية ، ومدرسة لتعليم إصلاح السيارات، وامتلكت وكالة عامة لسيارات أمريكية (بروك واي) ومحلات لبيع وشراء وتصليح السيارات بجميع ماركاتها، ثم افتتحت الشركة- بعد تأسيسها- نظام ودائع الاستثمار، حيث تقبل الودائع من عملائها لاستثمارها، بحيث لا تقل مدة الاستثمار عن سنة من تاريخ الإيداع، ولكل أربعة جنيهات مودعة ثلاثة أرباع ربح سهم من أسهم الشركة، إذا تحقق الربح، وفي حالة الخسارة- لا قدر الله- تتحمل الوديعة ثلاثة أرباع الخسارة، أي قامت الشركة بنشاط شركة توظيف أموال إسلامية.

ونتيجة لهذا النشاط الاقتصادي المتنوع، وعلى أساس هذا التطور الكبير في نشاط الشركة، ووفقا لنظامها الأساسي الذي يجيز زيادة رأس المال زيد رأس مال الشركة في سنة 1945م من أربعة آلاف جنيه إلى عشرين ألف جنيه، ثم زيد ثانية في فبراير سنة 1946 م على خمسين ألف جنيه مصري.

2- الشركة العربية للمناجم والمحاجر: كان النشاط التعديني والتحجيري حكرا على الشركات الأجنبية حتى عام 1946 م، والتي وصل عددها إلى خمس وخمسين شركة، وكانت مصر تستورد الرخام من إيطاليا وبلجيكا، وللمساهمة في تمصير هذا النشاط، قامت عدة بعثات من الإخوان العلماء والكيميائيين والمهندسين وخباء التعدين والجيولوجيين تجوب الصحراء، فاكتشفت كنوزا من الرخام الممتاز متعدد الألوان يفوق ما كنا نستورده شكلا وجودة، بجانب ما اكتشفوه من معادن وأحجار، ومن هنا نشأت فكرة إنشاء شركة للمناجم والمحاجر، وفعلا، تأسست في عام 1947م الشركة العربية للمناجم والمحاجر، برأس مال قدره ستين ألف جنيه مصري، على ألا يسهم في الشركة غير المصريين أو العرب من الأقطار الشقيقة، وفي عام 1948 م، ووفقا للنظام الأساسي لشركة المعاملات الإسلامية، والنظام الأساسي للشركة العربية للمناجم والمحاجر، اللذين ينصان على أن لكل مشركة الحق في " أن تشترك بأي وجه من الوجوه في أي عمل يساعد على تأدية أغراضها، وأن تندمج أو تشترك في أي هيئة تقوم بعمل يشبه عملها ومبدأ متفق مع مبدئها" وتم دمج الشركتين توحيدا للجهود، وللارتباط الوثيق بين ما تقوم به الشركتان، وأصبحت الشركة الموحدة تمتلك أسطولا من سيارات النقل، وتوكيلا عاما لسيارات أمريكية، ومصنعا كبيرا للبلاط والأسمنت بجميع أنواعه، والذي يستهلك كميات كبيرة من كسر الرخام. هذا بالإضافة إلى ما لدى الشركة الجديدة من مصنع النحاس، وورشة ميكانيكية، وعمل مصر في إسلامي.

3- شركة الغزل والنسيج: قام الإخوان بتأسيس شركة للغزل والنسيج بشبرا الخيمة عام 1948 م، برأس مال مرخص قدره ثمانية آلاف جنيه مصري، وكان رأس المال المدفوع فعلا ستة آلاف وخمسمائة جنيه، وبلغ عدد المساهمين في الشركة خمسمائة وخمسين مساهما، معظمهم من عمال الشركة نفسها، والذين كانوا يسهمون بمبلغ خمسة وعشرين قرشا شهريا من قيمة كل سهم( والذي قيمته أربعة جنيهات) ولقد بدأت الشركة أعمالها بعد التأسيس مباشرة، وكانت تنتج البفتة والدمور، والأقمشة الحريرية والجبردين، وتبيعها بأسعار أقل من أسعار مثيلاتها في السوق، وحققت أرباحا بلغت في العشرة شهور الأولى من عملها ألفا مستواهم المعيشي والمهاري، ومساهمة منها في معالجة مشكلة البطالة، قررت الشركة خفض ساعات العمل إلى ثماني ساعات، وزيادة أجر العامل بنسبة (20%) وزيادة التشغيل إلى ثلاث ورديات ليتيسر لغيرهم من العمال العاطلين أن يجدوا عملا، ومع ذلك، قامت الحراسة أثناء فترة الحل بتصفية الشركة وبيعها نهائيا.

4- شركة الإخوان للصحافة وشركة المطبعة الإسلامية: في صراع المبادئ وتدافع الأفكار تلعب الصحافة والطباعة دورا رئيسا، كما تعدان عنصرا أساسيا في نشر الدعوة ودعم التربية الإسلامية من خلال الجريدة والكتاب، وغير ذلك من وسائل الدعاية الحديثة، وعلى ذلك تم تأسيس " شركة الإخوان للطباعة" برأس مال قدره سبعون ألف جنيه مصري، و " شركة الإخوان للصحافة" برأس مال قدره خمسون ألف جنيه، وبدأت فعلا شركة الإخوان للصحافة نشاطها بصدور العدد الأول من جريدة " الإخوان المسلمون " اليومية في 5 من مايو 1946 م، وتأخرت شركة الطباعة في القيام بنشاطها بسبب تأخر استيراد ماكينات الطباعة من الخارج، حتى صدر أمر الحل فتوقفت أعمال الشركة.

5- شركة التجارة والأشغال الهندسية: تأسست هذه الشركة بالإسكندرية برأس مال قدره أربعة عشر ألف جنيه مصري، وانصب عملها على إنشاء المباني، وإنتاج مواد البنا ء، وتدريب العمال على حرف السباكة والكهرباء والنجارة، بالإضافة على التجارة في هذه المجالات.

6- شركة التوكيلات التجارية: تأسست هذه الشركة في السويس ، وتخصصت في أعمال التجارة والنقل والإعلان، وتوسعت أعمالها حتى غطت فروعها معظم المحافظات المصرية.

7- شركة الإعلانات العربية: تأسست عام 1947م واشتغلت بالدعاية والإعلان والإخراج، وكانت أعمالها تشمل النشر بالصحف، والدعاية بالسينما، وعمل الرسوم الفنية، وأغلفة الكتب والمجلات، وتصميم لافتات وواجهات المحلات.

هذا، بالإضافة إلى العديد من الشركات التي كانت تعمل في مجالات التجارة بالتجزئة والسلع الاستهلاكية في معظم أنحاء القطر، وشركات أخرى أقل حجما في مجالات مثل شركة الهلال للسياحة، ومصانع حبال القطن والدبارة، وأصناف العتادة الأخرى برشيد، وشركة بيع المنتجات الصناعية بالمحلة الكبرى، والشركة التعاونية بأبي كبير بالشرقية، بجانب شركات إخوانية صغيرة "كثيرة" منتشرة في أنحاء القطر يصعب حصرها.

ولقد توقفت هذه النهضة الاقتصادية الإخوان ية في بدايتها، والتي كانت تبشر بكل خير على مسيرة الاقتصاد الوطني، نتيجة أمر حل الجماعة، ولقد قدرت قيمة هذه الأصول الاقتصادية التي أهدرت بالتصفية أو المصادرة في ذلك الوقت (عام 1948 م) بنحو ستين مليون جنيه مصري بأسعار الأربعينات من القرن الماضي. وقد تصل هذه القيمة إلى ما يربو على البليون جنيه بأسعار السوق الحالية، وهكذا صدقت نبوءة الإمام بأنه إذا فسد قلب الإصلاح الاجتماعي، أي الحكومة أو النظام، فسد الأمر كله، ولله الأمر من قبل ومن بعد وحسبنا سبحانه وتعالى ونعم الوكيل.

خاتمة: تقويم عام

وبعد، هذا قليل.. هامشي عام حول فكر اقتصادي إسلامي للإمام البنا .. عميق ومهم، حاولت تقديمه بشكل متماسك بداية من أساسيات مشروع النهضة، كما يراه الإمام، من منظور اقتصادي، ثم خصائص وأصول النظام الاقتصادي الإسلامي، كإطار لإحداث النهضة الاقتصادية والتنمية المستدامة، وفقا لفكر الإمام، وانتهاء بالقضايا الاقتصادية التشغيلية، والتطبيقات العملية في التجربة المصرية، كما اعتقدها- بحق- وتمناها الإمام، للخروج من ظلام التخلف وإسار التبعية إلى نور النهضة الاقتصادية، والتنمية المستدامة، والاستقلال الحقيقي في مصر ، بل في الأمة العربية والإسلامية، على أساس متين من الكتاب والسنة، فلم يكن أمام الإمام إلا يقارن، لا ثالث لهما: طريق الهدى، وطريق الضلال، طريق الحق وطريق الباطل، ولم تكن المحصلة إلا نتيجتين ، لا ثالثة لهما: السعادة في الدارين و الشقاء والعذاب فيهما، المعيشة الطيبة أو المعيشة الضنك، وصدق الحق- تبارك وتعالى إذ يقول " فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض ذكري فإن له معيشة ضنكا" (طه: 124)، وصدق رسولنا صلى الله عليه وسلم إذ يقول:" تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا، كتاب الله وسنتي" (الحديث)، ومن ثم ، لا نهضة حقيقية، ولا تنمية جادة مستدامة، إلا بتطبيق شرع الله واتباع صحيح الإسلام

لقد حاولت جاهدا أن أتخفف من عاطفتي تجاه جماعتي ومؤسسها، وأن أتحلى بقدر من العلمية والموضوعية في عرضي لفكر الإمام الاقتصادي، تقييما لهذا الفكر، وتقويما لمدركاته ومفاهيمه ومصطلحاته فلم أجد سوى نور الإسلام وفطرة الرسالة وحكمة الشرع، تحكم هذا الفكر وتؤطره، في بساطة عرض، وجزالة لفظ، وعمق تحليل، ودقة وصحة نتائج. وقلت في بداية فحصي، لقد دخل الإمام في فرع من فروع المعرفة، وهو الاقتصاد ، شديد التخصص وشديد التعقيد، وبالذات جانب التنمية منه، وهو أي الإمام ، ليس من أهله. فلعلي: نتيجة لذلك، أجد ما أرده وأصححه. وبعد قراءة نقدية فاحصة، لم أجد سوى حرفية فنية في التناول، ومهنية متخصصة في التحليل، وعمق وشمول مناسبين في المعالجة، واستخداما صحيحا لأصح المصطلحات وأحدثها. وحتى لا أتهم بالعمومية أو العاطفة أو التحيز، أقدم إشارات ولمحات تفصيلية، دليلا على ما أقول، وفي عرضي المختصر لهذا الفكر في الصفحات السابقة الكثير والكثير من الأدلة.

- الاقتصاد السياسي: أعاد فكر الإمام المعرفة الاقتصادية إلى مدرسة الاقتصاد السياسي، كأحدث المدارس المعاصرة، بديلا عن مدرسة علم الاقتصاد، بتأكيده على التزاوج والتفاعل بين السياسي والاقتصادي، خاصة فيما يتصل بقيتي النهضة والتنمية.

- المدخل السياسي: شدد الإمام على حقيقة أن المدخل الرئيسي أو "الأم" لأي إصلاح أو تغيير في المجتمع الإنساني لابد أن يكون سياسيا، فإذا "فسد قلب الإصلاح الاجتماعي، وهو الحكومة، فسد الأمر كله".

- بناء الإنسان: بسط الإمام وضوح شديد أساس المنهج الإسلامي في النهضة والتنمية، وهو الإنسان، فالإنسان عصب أو جوهر هذه العملية، وهو وسيلتها وغايتها في الوقت نفسه، ولقد فشلت الاستراتيجيات الإنمائية المادية من استراتيجيات النمو المتوازن والنمو غير المتوازن، والدفعة القوية، والجهد الأدنى الحساس، والحاجات الأساسية، والاعتماد الجماعي على الذات... إلخ. لأنها أهملت شرط نجاحها، وهو توفير بيئة صحية مناسبة من الحرية والعدالة للإنسان، لكي يتعامل مع المادة لإحداث النهضة والتنمية،. ومن هنا، كان تشديد الإمام على تربية الفرد "لإنتاج الرجال الذين تتوافر فيهم شرائط الرجولة الصحيحة" على أساس العقيدة السليمة.

- تكامل المنهج: عرض الإمام مشروعه النهضوي بشكل متكامل بدأه بالإسلام دينا ونظام حياة شاملا، وانتهاه بتفصيل دقيق لجانبه الاقتصادي، مؤكدا على دراسة التاريخ والواقع لاستخلاص الدروس، وحصر التحديات، وتحديد كيفية التعامل معها، تشغيليا من خلال التطبيق.

- البعد الكمي: وحتى لا يكون العرض مفرقا في عموميات التنظير، خاصة في توصيف الواقع، حدد الإمام محاور مشروع النهضة في معالجة أمراض الواقع من سيطرة أجنبية وفساد اجتماعي، وظلم اقتصادي، من خلال عرض إحصائي دقيق ورصين من التجربة المصرية.

- حداثة المصطلحات: يحس القارئ لتراث الإمام الفكري بعامة، ولفكره الاقتصادي بخاصة، أنه يقرأ عملا كتبه مؤلفه اليوم، لمعالجة مشكلات وقضايا اليوم، ويتبين له أن الإمام قد استخدم وبدقة أحدث المصطلحات لمتداولة في هذا الفرع المتخصص من فروع المعرفة الإنسانية، مثل: التخلف والتنمية، والادخار والاستثمار، والاحتكار والاكتناز، وعرض النقود والعمل المصرفي، والفائدة والربا، وقوة العمل والبطالة، إلى آخر هذه المصطلحات المستخدمة في أدبيات الاقتصاد والتنمية.

- استقلال النقد: تكلم الإمام في هذا الأصل من أصول النظام الاقتصادي الإسلامي، بل من أصول أي نظام اقتصادي حديث، بدقة فنية متخصصة، باسطا ضرورة سيطرة الدولة على عملية، "إصدار" نقودها، وفق ضوابط محددة من "الغطاء النقدي" حتى يمكنها التحكم في العرض الكلي للنقود بما يتفق واحتياجات النشاط الاقتصادي منعا للتضخم أو الانكماش، كما أشار إلى الحكمة من تحريم استعمال الذهب والفضة باعتبارهما، الرصيد العالمي للنقد، ضمانا للاستقرار الاقتصادي.

- المصرفية الإسلامية: وفي بحثه الفقهي والاقتصادي العميق والرصين عن "أنواع الربا وأحكامه" لم يقدم الإمام فقط عرضا فقهيا مستفيضا ومنضبطا للموضوع، وإنما قدم عرضا واضحا وجليا لجوهر ال مصر فية الإسلامية، والتي تقوم على نظام المشاركة في الربح والخسارة بديلا عن نظام الإقراض والاقتراض بفائدة ربوية، ون ثم كان الإمام من أوائل إن لم يكن أول من كتبوا عن ال مصر فية الإسلامية الحديثة.

- التمصير والخصخصة: عالج الإمام بوضوح كمي الآثار السلبية لسيطرة الاحتكارات الأجنبية على الاقتصاد المصري، بتشجيع الاستثمارات الوطنية في شتى الأنشطة الاقتصادية، والإقبال على المنتجات الوطنية، وأشار على التبديد الواضح للموارد الوطنية في حالة بيع بعض الأصول لجهة أجنبية، خاصة إذا تم البيع بسعر أقل بكثير من قيمتها الحقيقية، وضرب مثالا على بيع الحكومة حصتها في أرباح شركة مياه القاهرة للشريك الأجنبي.

- معالجة البطالة: كان الإمام مدركا تماما للآثار المدمرة لمشكلة البطالة، خاصة بين الشباب، وبعد تحليلها كميا ، حدد طرقا عملية للمعالجة من خلال الإصلاح الزراعي لتمليك من لا أرض له، ومن خلال التصنيع، وبالذات الصناعات الصغيرة والحرفية والمنزلية ، وشدد وشجع على العمل الحر، بعيدا إن أمكن عن الوظيفة الحكومية.

- استراتيجية التصنيع: مع التأكيد على ضرورة الاستغلال الأشمل والأكفأ للموارد الطبيعية، اعتبر الإمام أن المدخل الصحيح لذلك من خلال حركة تصنيع متكاملة، تبدأ من أن يعمل الفرد على تعلم مهنة أو حرفة لإشاعة التفكير الصناعي، وتربية العقلية الصناعية، مرورا بالصناعات المنزلية، فالصغيرة والمتوسطة وانتهاء بالمشروعات الصناعية الكبيرة تحت التنفيذ أو التي درست وثبتت جدواها، ولكنها أهملت لأسباب بعيدة تماما عن المصلحة الوطنية، وقدم الإمام مثالا عمليا في حث الأخ العامل على امتهان حرفة، كما شجع مشروعات الإخوان الصناعية، واشترك في بعضها اشتراكا رمزيا.

- التعاون العربي الإسلامي: أمام التحديات الداخلية في كل قطر عربي وإسلامي، وأمام تكتلات الآخر، ومعالجة لهذه التحديات، وتطبيقا لمشروع النهضة والتنمية المستدامة شدد الإمام على ضرورة الأخذ بشكل من أشكال التعاون الاقتصادي بين مصر وبعدها العربي والإسلامي، ف مصر ليست غنية فقط بمواردها المختلفة، وإنما هي غنية أكثر بموارد وإمكانات الأمة العربية والإسلامية، ومن هنا تأتي عملية التكامل الاقتصادي التنموي بين أقطار الأمة العربية والإسلامية.

وبعد... هذه إشارات عابرة ولمحات هامشية لبعض ما قدمه الإمام البنا من فكر اقتصادي رصين، فرحم الله إمامنا، ونفعنا بفكره الاقتصادي السليم، وحرصه على التطبيق، وتشديده على أننا "قوم عمليون" فجزاه الله خيرا عما قدمه ل مصر ولأمته العربية والإسلامية، بل والبشرية جمعاء وإني لأكاد أسمعه يردد نداءه إلى حكام أمتنا:" تداركوا الأمر بحزم.. وعودوا إلى نظام الإسلام، ألا وقد بلغت.. اللهم فاشهد.." وصدق الحق تبارك وتعالى إذ يقول:" وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" (الأنعام: 153)

والله أكبر ولله الحمد

بعض المراجع الأساسية :

1- رسائل الإمام الشهيد حسن البنا (مؤسسة الرسالة، بيروت) مذكرات الدعوة والداعية.

2- المبارك ، محمد: نظام الإسلام الاقتصادي (دار الفكر بيروت 1972م).

3- المودودي ، أبو الأعلى، أسس الاقتصاد بين الإسلام والنظم المعاصرة(مطبعة الأمان، بيرو 1971م).

4- العسال ، أحمد ، النظام الاقتصادي في الإسلام (مكتبة وهبة، القاهرة، 1977م).

5- عبد الحليم ، محمود، الإخوان المسلمون - أحداث صنعت التاريخ، ثلاثة أجزاء (دار الدعوة، الإسكندرية 2004م).

6- عبد الحميد، محسن، المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري( كتاب الأمة، المحاكم الشرعية والشئون الدينية، قطر، 1984م).

7- زكى، محمد شوقي، الإخوان المسلمون والمجتمع المصري.

8- شلبي، رءوف ، الشيخ حسن البنا ومدرسته (دار الأنصار، القاهرة، 1977م).

9- القرضاوي، يوسف، الإخوان المسلمون 70 عاما في الدعوة والتربية والجهاد، (مكتبة وهبة، القاهرة، 1999م).

10- يوسف ، يوسف إبراهيم، استراتيجية وتكنيك التنمية الاقتصادية في الإسلام، (الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية، القاهرة، 1981م).

11- الغزالي ، عبد الحميد، حول أساسيات المشروع الإسلامي لنهضة الأمة، قراءة في فكر الإمام الشهيد حسن البنا ، (دار النشر والتوزيع الإسلامية، القاهرة،1999م).

- الإنسان أساس المنهج الإسلامي في التنمية الاقتصادية، (مركز الاقتصاد الإسلامي ، القاهرة، 1996م) طبعة ثانية.

- الأرباح والفوائد المصرفية بين التحليل الاقتصادي والحكم الشرعي، (مركز الاقتصاد الإسلامي، القاهرة، 1990م).

- أساسيات المصرفية الإسلامية، (دار النشر والتوزيع الإسلامية، القاهرة، 2003م).

- أساسيات النقود والبنوك والمصرفية الإسلامية (القاهرة، 2006م).

12- عبد العزيز جمعة أمين ، سلسلة " من تراث الإمام البنا " الكتاب الرابع، الفقه والفتوى، (دار الدعوة ، الإسكندرية، 2005م).

13- جريدة "الإخوان المسلمون " اليومية والأسبوعية ، أعداد مختلفة (1939- 1948 م).

بين الإمام أبي الأعلى المودودي والإمام الشهيد حسن البنا (رحمهما ا لله تعالى)

بمناسبة الذكرى المئوية لولادة الإمام الشهيد حسن البنا (رحمه الله تعالى)

البروفيسور أليف الدين الترابي

يقول الشيخ عمر التلمساني (رحمه الله تعالى)- المرشد العام الثالث لجماعة الإخوان المسلمين - مقارنا بين الإمام أبي الأعلى المودودي (رحمه الله تعالى) والإمام الشهيد حسن البنا (رحمه الله تعالى) : "إنهما بحق إماما الجيل الظاهران المتفردان- إنهما استمدا كل معلومتهما ومناهجهما وأساليبهما ووسائلهما في الدعوة إلى الله من القرآن الكريم وسنة الرسول (عليه الصلاة والسلام) دون أخذ من هذا الفيلسوف، أو استمداد من ذلك الكتاب، فجاءت مدرستاهما بعيدتين كل البعد عما قد يعيب الدعوة الإسلامية بأي فهم أو فكر لا صلة له بالإسلام.

نظرة عابرة على عصر الإمام المودودي والإمام الشهيد حسن البنا (رحمهما الله تعالى)

ولد الإمام أبو الأعلى المودودي (رحمه الله تعالى) في عام 1903م وقام في بداية عمل الدعوة عام 1933م بإصدار مجلة "ترجمان القرآن" الشهرية، ثم قام بتأسيس الجماعة الإسلامية في عام 1941م، واستمر يواصل مهمة الدعوة على وفاته في عام 1979م. أما الإمام الشهيد حسن البنا (رحمه الله تعالى) فكانت ولادته في عام 1906م، وقام ببداية مهمة الدعوة بتأسيس جماعة الإخوان المسلمين في عام 1982 م، واستمر يواصل مهمة الدعوة حتى استشهاده في عام 1948 م.

من هنا فإن عصر الإمام الشهيد حسن البنا والإمام المودودي (رحمهما الله تعالى) يمتد من بداية القرن العشرين على نهاية ذلك القرن.

ولا شك في أن هذه الفترة تعتبر من أخطر المراحل في تاريخ الأمة الإسلامية، حيث إن هذه الأمة التي قد بعثها الله برسالة خالدة للبشرية (الإسلام)، والتي استمرت تقود البشرية على الخير والسعادة قرون وقرون وفقا لقول الله – سبحانه وتعالى:" كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر" (آل عمران: 110) قد وقعت تحت سيطرة الدول الاستعمارية الغربية نتيجة للانحطاط الذي أصباها لفصل الدين عن الدولة من ناحية، ولعدم اهتمامها بالجهاد والاجتهاد من ناحية أخرى. كما أنه ونتيجة لذلك الانحطاط والاضمحلال للعالم الإسلامي، فإن معظم الدول الإسلامية من شرق المعمورة على غربها، ومن شمالها إلى جنوبها قد احتلتها هذه الدولة الاستعمارية أو تلك، مباشرة أو غير مباشرة.

وجدير بالذكر أن هذه الدول الاستعمارية قامت بالمخططات الهدامة الحضارية ضد الدول الإسلامية، وذلك للقضاء على صلة المجتمعات الإسلامية بدينها وحضارتها وتاريخها وتراثها وقيمها الأخلاقية وشريعتها الربانية، مستبدلة بها الفلسفات المادية الجاهلية والحضارة المادية اللادينية والقيم الأخلاقية المادية والقوانين الوضعية الحديثة، وكان تجاوب الأمة الإسلامية مع هذا الغزو الاستعماري بصورتين مختلفتين:

أولاهما : التجاوب الانفعالي.

وثانيتهما: التجاوب الجمودي.

فأما التجاوب الانفعالي، فقد أدى على الاستسلام والخضوع الكامل لكل ما جاء من الغرب سواء كان صحيحا أو غير صحيح، وسواء كان غثا أو ثمينا.

وأما التجاوب الجمودي، فكان يهدف إلى رفض كل ما جاء من الغرب سوء كان صحيحا أو غير صحيح من ناحية، والحفاظ على ما بقي من التراث الإسلامي من الغارة الاستعمارية من الناحية الثانية، وهذا ما أدى إلى ابتعاد هذه الطبقة عن قيادة المجتمعات الإسلامية، وسيطرة المثقفين الجدد على زعامة الشعوب الإسلامية في البلاد الإسلامية المختلفة.

جملة القول أن سيطرة الدول الاستعمارية السياسية والحضارية على العالم الإسلامي قد تمت في أواخر الربع الأول للقرن العشرين الميلادي ، غذ تمكن الاستعمار من القضاء على الخلافة الإسلامية التي كانت رمزا لوحدة الأمة الإسلامية ، هذا من ناحية، ومن الناحية الثانية قام الاستعمار ببث النعرات الجاهلية للقوميات اللسانية والجغرافية والعرقية لتمزيق العالم الإسلامي على دويلات صغيرة. فنتيجة لذلك قد أصبح العالم الإسلامي لقمة سائغة لغارة الدول الاستعمارية، ووقع تحت سيطرة هذه الدول من شرق المعمورة إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها.

يقول الإمام الشهيد حسن البنا (رحمه الله تعالى) متحدثا عن هذه الغارة الاستعمارية ضد العالم الإسلامي:

" وقد عمل الأوربيون جاهدين على أن تغمر موجة هذه الحياة المادية بمظاهرها الفاسدة وجراثيمها القاتلة جميع البلاد الإسلامية التي امتدت أيديهم إليها، وأوقعها سوء الطالع تحت سلطانهم، مع حرصهم الشديد على أن يحتجزوا دون هذه الأمم عناصر الصلاح والقوة من العلوم والمعارف والصناعات والنظم النافعة. وقد أحكموا خطة هذا الغزو الاجتماعي إحكاما شديدا، واستعانوا بدهائهم السياسي وسلطانهم العسكري، حتى تم لهم ما أرادوا".

ونجه هذا الغزو الاجتماعي المنظم العنيف أعظم النجاح، فهو غزو محبب على النفوس، لاصق بالقلوب، طويل العمر، قوي الأثر، ولذلك فهو أخطر من الغزو السياسي والعسكري بأضعاف الأضعاف.

والشاهد أن هذه الأوضاع هي التي كانت سائدة في العالم الإسلامي حينما شاء الله- سبحانه وتعالى- أن تقوم الدعوة الإسلامية لإحياء التصور الصحيح للإسلام، وإقامة الحكم الإسلامي، وإنقاذ المسلمين من العبودية الفكرية للحضارة الغربية. فظهرت الدعوة الإسلامية في نفس الوقت في بلدين مختلفين، إذ تأسست جماعة الإخوان المسلمين في مصر عام 1928م، وكان في نفس الوقت ذاته أن شاء الله – سبحانه وتعالى- أن يقرر الإمام أبو الأعلى المودودي في شبه قارة جنوب آسيا أن يترك مجال الصحافة للاستعداد للعمل في مجال الدعوة، فيقول الإمام المودودي عن استعداده لهذه المهمة:

" من عام 1928م إلى عام 1933م أفرغت العديد من خزانات الكتب والمراجع في ذهني استعدادا للمهمة الجديدة، مهمة الدعوة إلى الإسلام في عصر مليء بالأفكار والتيارات يفرض على الداعية أن يتزود بزاد علمي شامل، وأن يحظى بعصا من البرهان ، يتوكأ عليها ويهش بها على غنمه، ويحقق بها مآرب أخرى".

مبادئ الدعوة لدى الإمام الشهيد حسن البنا (رحمه الله تعالى) والإمام أبي الأعلى المودودي (رحمه الله تعالى)

إن الإمام أبا الأعلى المودودي (رحمه الله تعالى) لم يتعرف على الإمام الشهيد حسن البنا ( رحمه الله تعالى)، ولا على دعوته إلا بعد استشهاده، ولكن رغم ذلك هناك تشابه كبير في أصول دعوتيهما ومنهجيهما وأسلوبيهما، وذلك لأن- كما يقول الشيخ عمر التلمساني(رحمه الله تعالى) – المرشد العام الثالث لجماعة الإخوان المسلمين مقارنا بين الإمامين:

" إنهما استمدا كل معلوماتيهما ومنهاجهما وأساليبهما في الدعوة إلى الله من القرآن الكريم وسنة الرسول (عليه الصلاة والسلام) دون أخذ من هذا الفيلسوف، أو استمداد من ذلك الكتاب، فجاءت مدرستاهما بعيدتين كل البعد عما قد يعيب الدعوة بأي فهم أو فكر لا صلة له بالإسلام".

لا شك في أن السبب الأول والرئيس للتشابه الكبير بين دعوة الإمام المودودي (رحمه الله تعالى) والإمام الشهيد حسن البنا (رحمه الله تعالى) ، كما ذكر الشيخ عمر التلمساني (رحمه الله تعالى) ، يعود على حقيقة أن المصدر الذي استمد منه كلا الإمامين دعوتيهما هو نفس المصدر (القرآن الكريم وسنة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم).

والسبب الثاني لذلك التشابه هو التشابه في الأوضاع التي قام فيها الإمامين بواجب الدعوة الإسلامية، وذلك لأن الأمة الإسلامية في تلك الأيام- كما ذكرنا آنفا- كانت تمر بمرحلة من اشد المراحل لتأريخها نتيجة للغزو السياسي والحضاري للدول الاستعمارية الغربية. حيث إن هذه الدول الاستعمارية قد قامت بالمخططات للقاء على صلة المجتمعات الإسلامية بدينها وحضارتها وثقافتها وتأريخها وقيمها الأخلاقية وشريعتها الربانية، مستبدلة بها الفلسفات المادية الحديثة والقيم الأخلاقية المادية والثقافة الإفرنجية اللادينية والقوانين الوضعية الجاهلية، ولكن أكثر هذه المخططات تأثيرا وأشدها خطورة مؤامرة القضاء على عقيدة المسلمين لكون الإسلام منهجا كاملا للحياة، دينا ودولة، وذلك لأن هذه المؤامرة قد أدت على إبعاد الإسلام من كافة دوائر الحياة الاجتماعية.

والخلاصة أن هذه الأوضاع هي التي كان العالم الإسلامي يعيشها في تلك الأيام من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه، وفي هذه الأوضاع قام الإمامان بالدعوة إلى الإسلام من جديد: الإمام الشهيد حسن البنا (رحمه الله) في مصر ، التي تعتبر مركزا ثقافيا في العالم الإسلامي، والإمام المودودي في جنوب قارة آسيا، التي كانت تحتل مكانة خاصة في العالم الإسلامي في تلك الأيام لوجود أكبر تجمع للمسلمين فيها.

من هنا كان من الطبيعي أن يقوما بالاهتمام بمقاومة هذه المخططات الهدامة فكيا وعلميا وعمليا، إضافة إلى الدعوة للعودة إلى الإسلام من جديد وإبراز الإسلام كمنهج شامل للحياة، وهذا ما يتبين من مبادئ دعوتيهما.

مبادئ دعوتي الإمام الشهيد حسن البنا والإمام المودودي (رحمهما الله تعالى):

المبدأ الأول : العودة إلى الإسلام من جديد:

حيث إن كليهما على يقين بأن سعادة البشرية بصفة عامة وسعادة الأمة الإسلامية بصفة خاصة تقوم على مبدأ العودة إلى الإسلام من جديد، وذلك لأن الإسلام هو دين أرسله الله – سبحانه وتعالى- الذي هو خالق الإنسان والكون معا، فيقول الله سبحانه وتعالى:" إن الدين عند الله الإسلام" (آل عمران:19)، ويقول:" ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه.." (آل عمران: 85)، فكان من هذا المنطلق أن الله – سبحانه وتعالى- قد بعث الأمة الإسلامية حتى تقوم بقيادة الركب البشري وفقا لذلك الدين (الإسلام) حيث يقول الله- سبحانه وتعالى:" وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " (البقرة: 143)، انطلاقا من هذه التعليمات الربانية استمرت الأمة الإسلامية في قيادة البشرية إلى الخير والسعادة لقرون طويلة، ولا شك في أن هذه الفترة من التاريخ تعتبر من أجل الأدوار في تاريخ البشرية، ولكن كان من سوء حظ البشرية بصفة عامة، وسوء حظ الأمة الإسلامية بصفة خاصة أن نحي الإسلام عن قيادة البشرية، وذلك لأن تنحية الإسلام قد أدى على سيطرة الحضارة الغربية على أنحاء المعمورة. وحدث خلال هذه الغارة أن سيطرت الدول الاستعمارية الغربية على معظم الدول الإسلامية حتى لم تبق هناك دولة إسلامية إلا وقد سيطرت عليها هذه الدولة الاستعمارية أو تلك، وبعد هذه السيطرة على معظم الدول الإسلامية قامت هذه الدول الاستعمارية بالغارة الحضارية الشاملة ضد هذه الدول الإسلامية التي كانت تستهدف القضاء على صلة المسلمين بدينهم وحضارتهم وتاريخهم وتراثهم وقيمهم الأخلاقية وشريعتهم، كما قام الاستعمار بالمؤامرة للقضاء على الخلافة الإسلامية التي كانت رمزا لوحدة الأمة الإسلامية. وما هو أكثر من ذلك أن الاستعمار قام ببث النعرات للقوميات الجاهلية لتمزيق العالم الإسلامي إلى دويلات صغيرة.

جملة القول أنه نتيجة للغارة الاستعمارية السياسية والحضارية: فإن انحطاط الأمة الإسلامية قد بلغ ذروته.

هذا من ناحية ، ومن ناحية ثانية تعرضت البشرية للحرب العالمية الأولى خلال الفترة ما بين عام 1914م، وعام 1919م، كما تعرضت للحرب العالمية الثانية ما بين 1939م، وعام 1945م، وهكذا فإن دائرة هذه النكبة لم تكن تشمل الأمة الإسلامية فحسب، بل كانت تشمل كافة البشرية، كما أن المعمورة نتيجة لذلك قد امتلأت فسادا وظلما وجورا ، فصدق الله – سبحانه وتعالى- حيث قال:" ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس " (الروم: 41).

كانت هذه هي الأوضاع التي شاء الله- سبحانه وتعالى- فيها أن يقوم الإمام الشهيد حسن البنا والإمام المودودي (رحمهما الله تعالى) بالدعوة للعودة إلى الإسلام من جديد، وذلك لإنقاذ البشرية ، ولا سيما الأمة لإسلامية من هذه النكبة.

فكان لتحقيق ذلك الهدف أن قام الإمام الشهيد حسن البنا (رحمه الله) بإنشاء جماعة الإخوان المسلمين في مصر في عام 1928م لتقوم بالدعوة للعودة على الإسلام من جديد.

المبدأ الثاني: الإسلام دين ودولة:

لا شك في أن الغارة السياسية والحضارية الغربية أدت إلى تأثير كبير في حياة الأمة الإسلامية فكريا وعمليان على حد سواء، ولكن أكثر هذه التأثيرات خطورة كان فقدان ثقة المسلمين بكون الإسلام دينا ودولة، بل إن ذلك كان في الحقيقة من أكبر التحديات التي كانت الأمة الإسلامية تواجهها في تلك الأيام لهذه الغارة الاستعمارية السياسية والحضارية، من أجل ذلك فإن دعوة كلا الإمامين قامت بالتركيز على إعادة هذه الثقة. فكان من هذا المنطلق أن قال الإمام الشهيد حسن البنا بكل صراحة:

"الإسلام عبادة وقيادة، ودين ودولة، وروحانية وعمل، وصلاة وجهاد، وطاعة وحكم، ومصحف وسيف، ولا ينفك واحد من هذين عن الآخر، وإن الله ينزع بالسلطان ما لا ينزع بالقرآن".

كما كان من هذا المنطلق أن قررت جماعة الإخوان المسلمين أن تختار شعارها كالآتي:

" الله غايتنا، ومحمد صلى الله عليه وسلم قدوتنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا والموت في سبيل الله أسمى أمانينا.

وهكذا، فإن الإمام أبا الأعلى المودودي أيضا بذل ما في وسعه لإعادة ثقة المسلمين بكون الإسلام منهجا شاملا للحياة، دينا ودولة، فيقول الدستور الأساسي للجماعة الإسلامية:

" إن غاية الجماعة الإسلامية وهدف جميع جهودها هو إقامة دين الله. أو إقامة النظام الإسلامي ليرجع إلى الحياة الفردية والحياة الجماعية، إلى الصلاة والصيام والحج، والزكاة والاقتصاد والاجتماع والمدنية والسياسة".

يقول الشيخ أبو الحسن الندوي (رحمه الله تعالى) في دور الإمام المودودي في ذلك الصدد:

" من مآثره الخالدة أنه حارب "مركب النقص" في نفوس الشباب الإسلامي، فيما يتصل بالعقائد والأخلاق ونظام الحياة الإسلامي، وكان لكتاباته فضل كبير في إعادة الثقة إلى نفوس هؤلاء بصلاحية الإسلام لمسايرة وهكذا كان بفضل الله-سبحانه وتعالى- أن كلا الإمامين تمكن من إعادة ثقة الجيل المثقف الجديد بكون الإسلام دينا ودولة.

المبدأ الثالث : الوسطية والاعتدال:

فكما ذكرنا أن رد الفعل على الغارة الحضارية الغربية في العالم الإسلامي كان يقوم على الغلو في اتجاهين مختلفين: إما الخضوع الكامل للحضارة الغربية، وقبول كل ما جاءت به هذه الحضارة، سواء كان صحيحا أو غير صحيح، أو رفض كل ما يأتي من الغرب، سواء كان صحيحا أو غير صحيح، ولكن على العكس من ذلك، فإن كلا الإمامين قام بالدعوة إلى الوسطية والاعتدال ، وذلك بقبول ما هو صحيح، ورفض ما هو غير صحيح، وذك استنادا إلى قوله (عليه السلام): " خذ ما صفا، ودع ما كدا" أو كما قال عليه السلام.

إن هذا المبدأ الحكيم ينبثق من قول الله – سبحانه وتعالى- " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا" (البقرة " 143).، حيث إن هذه الآية الكريمة تدل على أن الأمة الإسلامية هي أمة الوسط في منهجها وأسلوبها.

وجدير بالذكر أن دائرة هذه الوسيطة والاعتدال ليست محدودة في مجال خاص، بل تشمل كافة المجالات فمثلا في المجال الفكري والحضاري، يرفض هذا المبدأ للوسطية والاعتدال الخضوع الأعمى للحارة الغربية، كما يرفض الجمود الفكري الذي يقوم بجحود كل ما يأتي من الغرب، سواء كان صحيحا أو باطلا، بل على العكس: فإن هذا المبدأ ينص على قبول ما هو صحيح في هذه الحضارة، ورفض ما هو غير صحيح فيها. وهكذا في المجال المذهبي، إذا صح ذلك التعبير فإن هذا المبدأ يرفض تكفير المسلين بناء على الخلافات المذهبية، وكذلك يرفض تكفير المسلمين لارتكابهم النواهي والكبائر ما داموا يشهدون بشهادتين : (لا إله إلا الله محمد رسول الله) هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، فإن هذا المبدأ يرفض التطرف والحزبية تحت أي اسم أو أي شكل.

المبدأ الرابع: الاعتماد على المنهج السلمي لإصلاح الحكم:

وذلك بالقيام بما يلزم لنشر الدعوة الإسلامية وتوعية الشعب وتحريك الرأي العام الشعبي خلال الانتخابات، ولا شك في أن الهدف الأساسي لدعوة الإمام الشهيد حسن البنا ودعوة الإمام المودودي (رحمهما الله تعالى) هو إصلاح الحكم، وذلك بإقامة الحكومة الإسلامية، ولكن كليهما يرفض استخدام القوة والعنف لتحقيق لك الهدف، فيقول الإمام الشهيد حسن البنا (رحمه الله تعالى):

" يتساءل كثير من الناس، هل في عزم الإخوان المسلمين أن يستخدموا القوة في تحقيق أهدافهم والوصول على غايتهم، وهل يفكر الإخوان المسلمون في إعداد ثورة عامة على النظام السياسي أو النظام الاجتماعي في مصر ، أما الثورة فلا يفكر الإخوان المسلمون فيها" (رسالة المؤتمر الخامس).

ثم يقول:" أيها الإخوان إن قيل لكم: هل أنتم دعاة ثورة ؟ فقولوا: نحن دعاة حق وسلام، نعتقده ونعتز به (رسالة بين الأمس واليوم).

"والإمام المودودي (رحمه الله) يصر أيضا على المنهج السلمي لإصلاح الحكم، ويرفض استخدام القوة والعنف، أو الأساليب السرية، أو غير الشرعية في ذلك الصدد، فيقول دستور الجماعة:" لا يقوم كفاحها للوصول على غايتها على النشاط السري على غرار الحركات السرية في العالم، بل إنها تعمل كل ما تعمل علنا في وضح النهار وبأسلوب سلمي".

المبدأ الخامس: القدوة قبل الكلمة:

والمراد منه أن الداعية يجسد الدعوة في شخصه قبل أن يقدمها على غيره، وأن تكون حياته نموذجا حيا للدعوة، فيقول الإمام الشهيد حسن البنا (رحمه الله تعالى):

" إن الخطب والأقوال والمكاتبات والدروس والمحاضرات، وتشخيص الداء ووصف الدواء كل ذلك وحده لا يجدي نفعا، ولا يحقق غاية، ولا يصل بالداعين على هدف من الأهداف، ولكن للدعوات وسائل لابد من الأخذ بها والعمل لها. والوسائل العامة للدعوات لا تتغير ولا تتبدل، ولا تعدو هذه الأمور الثلاثة:

1- الإيمان العميق.

2- التكوين الدقيق.

3- العمل المتواصل.

وتلك هي وسائلكم العامة، أيها الإخوان ، فآمنوا بفكرتكم وتجمعوا حولها، واعملوا لها واثبتوا عليها".

ويقول الأستاذ حسن الهضيبي - المرشد العام الثاني لجماعة الإخوان المسلمين - مفسرا لما قاله الإمام الشهيد حسن البنا (رحمه الله) " أقيموا دولة القرآن في قلوبكم تقم في أرضكم".

ويقول الإمام المودودي (رحمه الله تعالى): " لا تنقص الأمة الإسلامية كلمات عن الإسلام متلألئة، وأحاديث في الخلق ممتعة، وحكايات عن أبطال الإسلام تأخذ بالألباب والجنان، وإنما تنقصها النماذج الحية للمثل العليا، ينقصها رجال جسدوا في حياتهم تلك الكلمات، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه، وتنقصها جماعات تصدق أعمالها دعاويها، فلا ينطبق عليها قول الله (عز وجل) " لم تقولون ما لا تفعلون) (الصف: 2).

المبدأ السادس: الاهتمام بنقد الجاهلية في كافة أشكالها:

وذلك لما كانت الأمة الإسلامية في ذلك الوقت تتعرض لأبشع أنواع الغارات الحضارية الجاهلية التي كانت تستهدف القضاء على الحضارة الإسلامية بكل أشكالها. من هنا كان من الضروري أن يقوم الإمامان بالاهتمام الخاص بإبراز الفرق بين الإسلام والجاهلية، وذلك بنقد الحضارة الجاهلية الغربية بكل أشكالها.

يقول الإمام الشهيد حسن البنا (رحمه الله تعالى) في رسالة " دعوتنا في طور جديد" : " إن مدنية الغرب التي زهت بجمالها العلمي حينا من الدهر، وأخضعت العالم كله بنتائج هذا العلم لدوله وأممه، تقلس الآن وتنتحر فهذه أصول السياسة الغربية تقوضها الديكتاتوريات، وأصولها الاقتصادية تجتحها الأزمات، وأصولها الاجتماعية تقضي عليها المبادئ الشاذة والثورات المندلعة في كل مكان.

الإمام المودودي (رحمه الله) أيضا كان يقوم بنقد الجاهلية القديمة والحديثة بكل أشكالها، وذلك لما كان يحتله هذا الأمر من أهمية ومكانة لمواصلة الدعوة في عصر ملئ بالتحديات، فيقول الشيخ خليل أحمد الحامدي- المساعد الخاص للإمام المودودي (رحمه الله تعالى):

" أخذ الإمام المودودي (رحمه الله تعالى) كل شكل من أشكال الجاهلية، القديمة إلى الجاهلية الحديثة، وتناوله بحثا ونقدا، ووضح مؤثرات الجاهلية التي وجدت سبيلها إلى المجتمعات الإسلامية في القديم، أو التي تغلغلت في العصر الحاضر، وشرح بالنقد والفحص عيوب الجاهليات ومضارها الخلقية والاجتماعية، وانتقد الجمود والتقليد، وانتقد أدعياء الاجتهاد المطلق، انتقد المنكرين لحجية الحديث من جانب، والمتساهلين فيها من جانب آخر، وانتقد التحرر من الدين، كما انتقد الذين يجعلون الدين لعبة لأهوائهم، وكان يقصد من كل ذلك أن يزيل عن الأذهان التعقيدات الفكرية والمتاعب في الوصول على الصراط المستقيم من بين الآيات والضلالات الفكرية".

المبدأ السابع: الشمولية:

وذلك لأن الإسلام هو دين شامل، لا يخص مجالا خاصا في الحياة، بل يشمل كافة المجالات: الفردية والجماعية، بما فيها العبادة والسياسة، والاقتصاد، وما إلى ذلك من المجالات الأخرى الحياتية، فيقول الله – سبحانه وتعالى:" يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة" (البقرة: 208)، ويقول سبحانه وتعالى:" أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا" (البقرة: 85)، ولكن الغارة الحضارية الاستعمارية التي كانت تتعرض لها ا لأمة الإسلامية قد أدت إلى القضاء على ذلك التصور الصحيح للإسلام مستبدلة به التصور الغربي للدين الذي يقول بأن دائرة الدين قاصرة على الحياة الفردية فحسب، وأما الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية فليست للإسلام أية علاقة بها. من هنا رأى الإمامان أنه من الضروري أن يقوما بإحياء التصور الصحيح للإسلام كدين يشمل كافة مجالات الحياة: الفردية والجماعية.

فيقول الإمام الشهيد حسن البنا (رحمه الله تعالى) : " نحن نعتقد أن أحكام الإسلام وتعاليمه شاملة تنظم شئون الناس في الدنيا والآخرة، وأن الذين يظنون أن هذه التعاليم تتناول الناحية العبادية و الروحية دون غيرهما من النواحي مخطئون في هذا الظن، والإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف".

الإمام المودودي أيضا اهتم اهتماما خاصا بتقديم الإسلام كمنهج شامل للحياة، وشرح نظام الحياة في الإسلام بأسلوب عقلي، بما في ذلك عقيدة الإسلام ونظرته للإنسان والكون، ومبادئ الإسلام الأساسية التي تنظم الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وكل ذلك بأسلوب عقلي وعصري حتى يؤمن بها الإنسان العصري المثقف.

وما هو أكثر من ذلك أن الإمام المودودي (رحمه الله تعالى) جعل إقامة الإسلام كدين شامل هدفا رئيسا وأساسيا لدعوته، فيقول دستور الجماعة:" إن غاية الجماعة الإسلامية هي إقامة دين الله، أو إقامة النظام الإسلامي، وليس المراد من إقامة الدين إقامة جزء خاص منه، بل إقامة دين الله كاملا، سواء فيما يجع إلى الحياة الفردية أو الحياة الجماعية، أو إلى الصلاة والصيام والحج والزكاة، أو على الاقتصاد والاجتماع والمدنية والسياسية.

المبدأ الثامن: الدعوة العالمية:

وذلك لأن الله -سبحانه وتعالى- الذي خلق الإنسان والكون هو رب العالمين، وهو الذي بعث رسوله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين:" وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" (الأنبياء: 107)، وجعل الإسلام دينا للنوع الإنساني " إن الدين عند الله الإسلام" (آل عمران: 19)، وهو الذي جعل الأمة الإسلامية خير أمة تقوم بالدعوة على هذا الدين: " كنتم خير امة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله" ( آل عمران: 110).

فكان من هذا المنطلق أن دائرة دعوتي الإمام الشهيد حسن البنا ، والإمام المودودي (رحمهما الله) لم تكن محدودة ببلد خاص، بل كانت دعوتاهما موجهتين إلى البشرية كافة، وأنحاء المعمورة، فهما في الحقيقة دعوتنا عالميتان.

يقول الإمام المودودي (رحمه الله تعالى):

" لأن الإسلام هو دين عالمي. من أجل ذلك فإن دائرة دعوتنا ليست محدودة ببلد خاص ، بل تشمل البشرية كافة فهي دعوة عالمية، وهكذا فإن دائرتها ليست محدودة في مشاكل بلد خاص، بل مشاكل البشرية كافي هي مشاكلنا، ونحن نقدم حلها من الكتاب والسنة. وهو حل فيه سعادة لكل إنسان" ، من أجل ذلك نحن على يقين بأن هذه الدعوة لم يقبلها المسلمون فحسب، بل يقبلها السعداء من غير المسلمين أيضا".

ويقول الإمام الشهيد حسن البنا (رحمه الله تعالى): " إن الإخوان يريدون الخير للعالم كله فهم ينادون بالوحدة العالمية، لأن هذا هو مرمى الإسلام وهدفه، ومعنى قول الله تعالى:" وما أرسلناك إلا رحمة للعالمية" (الأنبياء: 107).

المبدأ التاسع: القضاء على ثنائية الحياة:

وذلك لأن الغارة الحضارية الغربية قد أدت إلى انقسام الأمة الإسلامية إلى طبقتين مختلفتين:

أولا- طبقة المثقفين الجدد التي بادرت إلى قبول كل ما جاءت به الحضارة الغربية، سواء كان صحيحا أو غير صحيح.

فنتيجة لذلك انقسمت الأمة الإسلامية إلى طبقتين مختلفتين، بل متخاصمتين، كل واحدة منهما تسكن في واد والأخرى في واد آخر، حيث إن طبقة المثقفين الجدد هي التي قد استلمت قيادة الشعوب الإسلامية في البلاد الإسلامية ، بينما ابتعدت طبقة العلماء والمشايخ عن القيادة، فكان من متطلبات العمل الإسلامي في المجتمعات الإسلامية أن يتم القضاء على هذه الثنائية الحياتية، وذلك بالتنسيق بين هاتين الطبقتين.

من أجل ذلك قرر الإمام الشهيد حسن البنا والإمام المودودي (رحمهما الله) أن يهتما اهتماما خاصا بعمل الدعوة بين هاتين الطبقتين، وذلك للتنسيق بينهما: حتى يتم القضاء على هذه الثنائية الحياتية، ونتيجة لذلك نرى أن كلتا الجماعتين: جماعة الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية تضمان في صفوفهما عددا غير قليل من كلتا الطبقيتين، كما نرى أن هناك تنسيقا تاما بين الطبقتين في صفوف جماعة الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية. وجدير بالذكر أن هذا التنسيق بين هاتين الطبقتين لا يوجد إلا في صفوف جماعة الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية. فمثلا: نحن نرى أن الجماعات الدينية لا تقبل في صفوفها إلا العلماء والمشايخ، والأحزاب السياسية لا تقبل في صفوفها إلا المثقفين.

المبدأ العاشر: البعد عن التعصب في خلافات المذاهب الفقهية والحزبية:

لا يخفى على أحد أن التعصب في خلافات المذاهب الفقهية قد أدى على انقسام الأمة الإسلامية إلى العديد من الجماعات والأحزاب ، بل ما هو أكثر أسفا وألما أن هذا التعصب قد أدى إلى إيجاد الصراع العنيف بين المنتمين إلى هذه المذاهب الفقهية، الأمر الذي أدى إلى القضاء على وحدة الأمة الإسلامية.

ومن هنا قرر الإمام الشهيد حسن البنا (رحمه الله تعالى): " إن الإخوان يرون أن الاختلاف في الفرعيات أمر طبيعي، لابد منه، إذ أن أصول الإسلام آيات وأحاديث وأعمال تختلف في فهمها وتصورها العقول والأفهام، وليس العجيب في الخلاف، ولكن في التعصب للرأي.

ثم يقول: إن الإخوان يرفضون التعصب الحزبي الذي يدعو إلى التنافر والتنافس على المغانم والمواقع. (رسالة المؤتمر الخامس).

والإمام المودودي (رحمه الله تعالى) كان أيضا يجتنب الخلافات الفقهية اجتنابا كاملا، بل ما هو أكثر من ذلك الإمام المودودي (رحمه الله تعالى) كان يرى أن التعصب بين المذاهب الفقهية هو أكثر خطورة على الإسلام والمسلمين من الغارات الأجنبية. من هنا كان دائما يهتم اهتماما بالغا بالتقارب بين ا لمذاهب الفقهية المختلفة، وأسلوبه في تفسيره للقرآن الكريم (تفهيم القرآن) خير شاهد على ذلك، فنحن نرى أنه خلال تفسيره لآيات الأحكام لم يكن (رحمه الله) يصر على رأي خاص بناء على مذهبه الفقهي، بل كان يقارن بين المذاهب الفقهية المختلفة في ضوء الكتاب والسنة ، ثم يرجح الأقرب من الكتاب والسنة، فمثلا: نرى الإمام المودودي (رحمه الله تعالى) يرجح مذهب الإمام أبي حنيفة (رحمه الله تعالى) في بعض الآراء الفقهية، ويرجح ذهب الإمام الشافعي (رحمه الله تعالى)، أو مذهب الإمام مالك (رحمه الله تعالى)، أو مذهب الإمام أحمد بن حنبل (رحمه الله تعالى) في الآراء الفقهية الأخرى.

البنا بين قضايا الوطن وقضايا الأمة

- البنا وقضايا العالم الإسلامي

المستشار/ عبد الله العقيل

- الإمام حسن البنا والقضية الفلسطينية

أ.د. محسن صالح

- أمثلة من التربية الحضارية عند الإمام البنا

أ. د. سيد دسوقي حسن

- حسن البنا والعلاقة غير الطائفية مع الأقباط

د. محمد مور

- المرأة في أدبيات الإمام حسن البنا

د. مكارم الديري

- الشباب في فكر الإمام الشهيد حسن البنا

د. رشاد بيومي

- الإمام الشهيد حسن البنا والتقريب بين المذاهب الإسلامية

د. حسان عبد الله حسان

البنا وقضايا العالم الإسلامي

المستشار عبد الله العقيل

إن من نعم الله علي أن تداركتني رحمة الله (عز وجل)، فكان ارتباطي بدعوة الإخوان المسلمين في مرحلة مبكرة من عمري، حيث كنت طالبا في المدرسة المتوسطة بالبصرة عام 1945م، وكنت وإخواني الطلاب نلتقي بمكتبة الإخوان المسلمين ، ونعكف على قراءة رسائل الإمام الشهيد، وكتب أنور الجندي، وأحمد أنس الحجاجي، ومحمد لبيب البوهي، وصابر عبد إبراهيم وغيرهم، كما كنا نقبل بشغف على قراءة مجلة الإخوان المسلمين الأسبوعية ، ثم من بعدها عام 1946 م الجريدة اليومية للإخوان، ولاحظنا اهتمام الإمام حسن البنا بقضايا العالم الإسلامي، ومشكلات المسلمين في كل مكان، والعمل على تحرير الوطن الإسلامي من كل سلطان أجنبي.

وكانت جرائد الإخوان ومجلاتهم وكتبهم ونشراتهم ودعاتهم تجوب أنحاء الوطن العربي والإسلامي، وينشرون فكر الإخوان المسلمين ، المستقى من الكتاب والسنة، وما أجمع عليه سلف الأمة ، فقد أوفد الإمام البنا في الثلاثينيات الأستاذ عبد العزيز أحمد، واسعد راجح الحكيم، وعبد الرحمن البنا ، وعبد المعز عبد الستار إلى فلسطين، وأوفد حسين كمال الدين ومحمد عبد الحميد أحمد، ومحمود يوسف إلى العراق ، وعبد العزيز جلال وعبد الحميد فودة إلى الكويت والبحرين، وأحمد زكي إلى اليمن وغيرهم إلى الأردن وسوريا ولبنان وغيرها.

وقد أصدر الإخوان كتاب (النار والدمار في فلسطين) بالتعاون مع الحاج أمين الحسيني وإخوانه الفلسطينيين، كما أصدروا (المغرب الجريح) بالتعاون مع الشخصيات المغربية الوطنية.

وكانت المجلات والجرائد الإخوان ية تفرد الصفحات الكاملة عن قضايا العالم الإسلامي ومشكلات المسلمين، وتم فتح فرع للإخوان المسلمين في مدينة (جيبوتي) في الصومال عام 1933م، ورد في مجلة الإخوان المسلمين بتاريخ 22 من صفر عام 1352هـ الموافق 24/ 6/ 1932م.

كما كانت دور الإخوان والمركز العام للإخوان المسلمين، وبخاصة قسم الطلاب، وقسم الاتصال بالعالم الإسلامي، وقسم البعوث الإسلامية، وقسم نشر الدعوة وغيرها تستقبل العشرات، بل المئات من أبناء العالم الإسلامي من الشخصيات الوطنية والطلاب الوافدين، وكان الإمام الشهيد يقدم هؤلاء الزعماء والقادة والدعاة ليشرحوا قضايا بلدانهم في أحاديث الثلاثاء بالمركز العام للإخوان المسلمين، ونشر ذلك في صحف الإخوان ، وتقديم المذكرات، وجمع التبرعات والمعونات اللازمة لهم. وكان شباب الإخوان وطلابهم في الأزهر يحتضنون طلاب البعوث الإسلامية، ويقدمون لهم كل العون في الدراسة والسكن، وكل ما يحتاجون إليه للنجاح في مهمتهم الدراسية والدعوية، وقد حظيت وإخواني من العراق وسوريا ودول الخليج بكل الرعاية والاهتمام منهم.

ولعلي أورد بعض الأسماء لبعض الشخصيات الإسلامية التي ارتبطت ب الإخوان المسلمين ، وتعاونت معهم في نشر الإسلام، وخدمة قضايا المسلمين، وتحرير أوطانهم من دنس الاستعمار.

ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر: سماحة الحاج محمد أمين الحسيني الفلسطيني، و الأمير عبد الكريم الخطابي المغربي، والسيد محمد صادق المجدوي الأفغاني، والأستاذ محيي الدين القليبي التونسي، والأستاذ الفضيل الورتلاني الجزائري، والأستاذ تقي الدين الهلالي المغربي، والأستاذ علال الفاسي المغربي، والسيد عبد العليم الصديقي الهندي، والقاضي محمد محمود الزبيري اليمني، والحاج عبد العزيز على المطوع الكويت ي، والشيخ صبري عابدين الفلسطيني، والشيخ مشهور الضامن النابلسي، والشيخ مصطفى السباعي، والشيخ محمد الحامد، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة، والأستاذ عمر بهاء الأميري، وكلهم من سوريا، والشيخ محمد محمود الصواف من العراق ، والأستاذ عبد الرحمن على الجودر من البحرين، والأستاذ صادق عبد الماجد من السودان وغيرهم كثيرون جدا، لا يتسع المجال لذكرهم، ولا تحيط الذاكرة بأسمائهم، وقد تركوا آثارهم في بلدانهم خير شاهد على عالمية فكرة الإخوان المسلمين ، التي تجعل رابطة الدين فوق رابطة الدم، والأخوة الإيمانية فوق أخوة النسب، ورابطة العشيرة، وهذا هو الإسلام الحق، كما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هذه الجهود المباركة في الاهتمام بالمسلمين في أنحاء العالم، فتحت عيني على هذا الخير المتدفق والعمل المبارك، الذي يضطلع به الإخوان المسلمون ، وعلى رأسهم المرشد العام للإخوان المسلمين الإمام الشهيد حسن البنا ، وهذا فضلا عن الاتصال المبكر بالجهاد الإسلامي في فلسطين من عام 1935م، حيث اتصل الإمام الشهيد بالشهيد عز الدين القسام، ثم بالمفتي محمد أمين الحسيني.

وقد توالى افتتاح مراكز للإخوان المسلمين في : سوريا، ولبنان، وفلسطين، والعرق، و السودان ، واليمن، والكويت ـ والأردن ، والمغرب،وتونس، وليبيا ، والبحرين، وموريتانيا، وغيرها من بلدان العالم العربي والإسلامي. فضلا عن البلدان الأخرى، حتى تجاوز عدد مراكز جماعة الإخوان المسلمين في العالم السبعين والحمد لله.

إن خطب الإمام البنا ومحاضراته ورسائله ، ومطبوعات الإخوان وصحفهم ومجلاتهم، لا تخلو من قضايا العالم الإسلامي ومشكلات المسلمين، والتعريف بهم، والدعوة إلى نصرتهم، بل إن حركة الإخوان المسلمين - كبرى الحركات الإسلامية في هذا العصر- هي حركة إسلامية عالمية تستمد عالميتها من عالمية الإسلام.

ولقد شارك الإخوان المسلمون في الجهاد في فلسطين منذ الثلاثينيات، ثم اندفعوا بكثافة وفي كتائب متلاحقة، بعد قرار التقسيم عام 1947م ، وكانت لهم صلات وجولات، شهد بها العالم كله، وسطروا بدماء شهدائهم ملامح البطولة ، مع إخوانهم المجاهدين في فلسطين، حيث دوت أخبار انتصاراتهم على اليهود وأعوانهم، في جميع أنحاء العالم، ولولا الخيانات من بعض الأنظمة الحاكمة والعملاء المأجورين، والتواطؤ الدولي من أمريكا ودول الغرب، لكان للوضع في فلسطين شأن آخر، والأمل في الله ثم في المجاهدين اليوم كبير لإعادة الكرة، وتحقيق النصر بإذن الله.

ولقد دفع الإخوان المسلمون ثمن تضحياتهم الكثير من الشهداء على يد أنظمة الحكم العميلة، وفي مقدمة الشهداء: حسن البنا ، ثم محمد فرغلي، ويوسف طلعت، وعبد القادر عودة، وإبراهيم الطيب، وسيد قطب، ومحمد يوسف هواش، وعبد الفتاح إسماعيل، وغيرهم من الشهداء الأبرار في الميادين والسجون.

ومن الجدير بالذكر، أنني كنت أستعد للسفر على مصر بعد الثانوية الشرعية للدراسة بكلية الشريعة بالأزهر أوائل عام 1949م، وكنت أتحدث مع أخي ورفيق دربي في الدعوة الأخ عبد العزيز سعد الربيعة، وأمني نفسي بلقاء الإمام حسن البنا ، وإذا بالأخبار تفاجئنا باستشهاده على يد عملاء الطاغية فاروق ، فكان وقع الخبر كالصاعقة ، هزت كياني وأصابتني بحزن شديد، لا يعلم مداه إلا الله، وكان للوالدة (رحمها الله) الدور ا لكبير، في تثبيتي ومواساتي، وتحملي للصدمة، والصبر على قضاء الله ، وبث الأمل في أن الإمام الشهيد ترك وراءه رجالا يحملون الراية، ويسيرون بالدعوة في كل مكان.

وحين قدمت للدراسة ب مصر أواسط عام 1949م وجدت أن الدعوة بخير، وأن إخوان البنا وتلامذته كانوا ملء السمع والبصر، وعلى قدر المسئولية.

ولم يكن جهد الإمام البنا محصورا بالقطر المصري، الذي لم يترك قرية من قراه إلا وزارها ونشر الخير في ربوعها، وأشاع الحب والأخوة بين أفرادها.

بل إن العالم الإسلامي وجمع كلمة المسلمين، ونشر الدعوة في أوساطهم، والاهتمام بأبناء العالم الإسلامي، والاتصال بهم، ودعوتهم على منهج الإخوان المسلمين كن في أولوياته.

ومن هنا رأينا هذا الخير المتدفق يخرج من أرض الكنانة، ويعم العالم العربي والإسلامي من خلال الدعاة الذين رباهم الإمام البنا .

ولقد بارك الله للإمام البنا في عمره- رغم قصره- بحيث قام بتربية أجيال من الشباب المؤمن، والدعاة العاملين، والرجال المجاهدين.

وكانت عنايته بالفرد المسلم والأسرة المسلمة، والمجتمع المسلم واضحة المعالم، نراها في كتاباته، ونلمسها في برامج الإخوان العملية من السر، والكتائب، والرحلات، والمخيمات، وغيرها.

والحق يقال : إن الإمام البنا كان الداعية العالمي النزعة، والذي تشغله أحوال المسلمين أينما كانوا وحيثما وجدوا، فكان وإخوانه وتلامذته خير مثل لدعوة الإخوان المسلمين ، وصورة مشرقة مضيئة للشخصية الإسلامية.

وإن العالم العربي والإسلامي، مدين للإمام البنا بهذه الحركة الإسلامية المباركة التي عمت أرجاء العالم رغم كل العقبات والمعوقات، وما زال المسلمون يؤملون فيها الخير الكثير.

وها قد لاحت تباشير الخير في أكثر من قطر، وعلى أكثر من صعيد، فالتيار الإسلامي الملتزم بدعوة الحق والقوة والحرية يشق طريقه بحمد الله، ويسير في خطوات ثابتة فيما يرضي الله (عز وجل) ويحقق النصر والسيادة للمسلمين.

وإن الحرب الضروس المعلنة على الإسلام وأهله في أنحاء العالم من قوى الكفر والإلحاد والاستكبار العلمي الصليبي والصهيوني، تلك القوى الغاشمة التي تستهدف الإسلام كدين، والمسلمين كأمة لن تحقق أهدافها- بإذن الله- فقد عرفت الأمة طريقها، وأعدت نفسها لحمل التبعة وأداء الأمانة، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، والحمد لله رب العالمين.

والله أكبر ولله الحمد

الإمام حسن البنا والقضية الفلسطينية

بقلم د. محسن محمد صالح

مقدمة

منذ نحو أربعين عاما تقود حركة فتح ساحة العمل الوطني الفلسطيني، وقبل نحو عشرين عاما أخذت حركة حماس تقاسمها النفوذ على هذه الساحة، وإذا ما علمنا أن الحركتين كلتيهما قد خرجتا من رحم الإخوان المسلمين ( مع إدراكنا أن فتح اتجهت منذ مرحلة مبكرة اتجاها علمانيا)، فلعلنا ندرك إلى أي مدى كان تأثير الإمام حسن البنا وفكره في العمل للقضية الفلسطينية.

لقد حقق الإمام البنا ومدرسته ثلاثة نجاحات متميزة قلما تتحقق لشخص من الشخصيات أو حركة من الحركات:

الأول: نجح البنا في تقديم خطاب إسلامي يتسم- على جانب كونه شاملا وناضجا- بأنه بسيط سهل الفهم ، وهو ما جعل الخطاب الإسلامي ينطلق من اسر الفئات المثقفة والنخبوية (التي ميزت خطابات الأفغاني وعبده ورشيد رضا...) إلى الفئات الشعبية، وإلى جميع طبقات المجتمع، والتي أخذت تتبناه وتترجمه في سلوكها وحياتها اليومية، وم مارس اتها الاجتماعية، ومواقفها السياسية.

الثاني: نجح البنا وحركته في تجاوز الخصوصية الإقليمية التي كانت عادة ما تطبع حركات التجديد والإحياء الإسلامية التي سبقته أو عاصرته، كالوهابية في الجزيرة العربية، والمهدية في السودان ، والسنوسية في المغرب العربي، والنورسية في تركيا، وماشومي في إندونسيا، والجماعة الإسلامية في القارة الهندية.

ونجح البنا في بناء حركة تتجاوز الإطار الجغرافي المصري، ويتوزع أفرادها على معظم بلدان العالم الإسلامي، وتجمعات المسلمين في المهجر، بل وحققت نجاحات كبرى لتصبح أقوى التيارات الشعبية في عدد من البلدان، وفلسطين هي أحد هذه النماذج.

الثالث: نجح البنا في تقديم حركة قابلة للحياة والتجدد والاستمرار عبر الأجيال، ولا تزال هذه الحركة تتمتع بالقوة والحيوية واتساع الانتشار (بعد أكثر من 57 عاما على استشهاده)، على الرغم من كثرة الصعاب التي واجهتها، وعلى الرغم من محاولات سحقها وإضعافها وحرفها عن مسارها.

وعلى ذلك، فإننا عندما ندرس موقف الإمام من القضية الفلسطينية، لا نقوم بمجرد نفض الغبار في ملفات التاريخ عن سيرة مفكر أو مجاهد، وإنما نتعامل مع رجل نجح في صناعة الأحداث في عهده، ولا يزال فكره ومدرسته وحركته تشارك في صناعة تاريخ المنطقة المعاصر حتى بعد وفاته بأجيال، ولذلك، لا غرو أن حركة حماس (الذراع المجاهد للإخوان المسلمين الفلسطينيين)، التي فازت في الانتخابات التشريعية الفلسطينية بأغلبية كبيرة في كانون الثاني/ يناير 2006، كانت تطلق على أحد صواريخها( التي استخدمتها في انتفاضة الأقصى) اسم " البنا " وتهدي انتصاراتها السياسية والعسكرية إلى الإمام البنا ورجال مدرسته.

وقلما تجتمع لحركة تلك النجاحات الثلاثة في الجمع بين البعد الاجتماعي الطبقي والبعد المكاني الجغرافي والبعد الزماني، خصوصا إذا ما كانت تسير عكس تيارات الحكم والسلطان وتتعرض للملاحقة والمطاردة.

رؤية الإمام البنا للقضية الفلسطينية

أمة واحدة... وطن واحد... هم واحد:

أراد الشيخ حسن البنا من تأسيس جماعة الإخوان المسلمين إحياء معاني الإسلام الصحيحة في النفوس، والالتزام بتعاليمه عقيدة وسلوكا ومنهج حياة، وبناء الفرد المسلم والبين المسلم والمجتمع المسلم والدولة المسلمة، وتخليص البلاد الإسلامية من الاستعمار بكافة أشكاله، وإقامة الخلافة الإسلامية الواحدة على بلاد المسلمين، وسيادة العالم.

وقدم البنا طرحا شاملا للإسلام يغطي جوانب الحياة المختلفة: الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، وغيرها، وهو ما جعل هذه الحركة متفاعلة مع الواقع ومع هموم المسلمين وقضاياهم.

كما عبر شعرا: "الجهاد سبيلنا"، و"الموت في سبيل الله أسمى أمانينا" عن رغبة في تحقيق جاهزية نفسية عالية لدى الأفراد في الدفاع عن أرض المسلمين وحمايتها وتحريرها.

وقد عد الإمام البنا الوطن الإسلامي وطنا واحدا وأمة الإسلام أمة واحدة، وكان من الطبيعي – بماء على هذا الفهم- أن يهتم الإخوان المسلمون بقضايا المسلمين المختلفة، فيذكر الشيخ حسن البنا " أن كل أرض يقال فيها: لا إله إلا الله محمد رسول الله هي جزء من وطننا، له حرمته وقداسته، والإخلاص له والجهاد في سبيل خيره" ، ولأن فلسطين كانت أسخن القضايا الإسلامية الحساسة في ذلك الوقت- وما تزال- فقد أولاها الإخوان المسلمون دائما "المقام الأوفى في عنايتهم واهتمامهم".

وقد رأى الإمام البنا أن الوطنية والعروبة والإسلام هي دوائر متكاملة غير متعارضة، وأن الشخص يسعه أن يعمل بكل إخلاص لمصلحة وطنه، ويعمل في الوقت نفسه لعالمه العربي ولعالمه الإسلامي.

وحسب البنا : فإن المسلمين هم " أشد الناس إخلاصا لأوطانهم، ولكن الفارق بين المسلمين وبين غيرهم من دعاة الوطنية المجردة أن أساس وطنية المسلمين العقيدة الإسلامية، فهم يعملون لوطن مثل مصر ، ويجاهدون في سبيله ويفنون أنفسهم في هذا الجهاد، لأن مصر من أرض الإسلام وزعيمة أممه.

كما أنهم لا يقفون بهذا الشعور عند حدودها، بل يشركون معها فيه كل أرض إسلامية وكل وطن إسلامي، وحسبك من وطنية الإخوان المسلمين أنهم يعتقدون عقيدة جازمة لازمة أن التفريط في أي شبر أرض يقطنه مسلم جريمة لا تغتفر حتى يعيدوه، أو يهلكوا دون إعادته، ولا نجاة لهم من الله إلا بهذا.

فلسطين.. المكانة والمسئولية:

وعلى ذلك فإن اهتمام الإمام البنا بقضية فلسطين جاء في السياق الطبيعي لفهمه الإسلامي، وفي صميم برنامج عمله، بل ومحك لاختبار مصداقية وجدية فكره ودعوته، ولذلك يؤكد البنا أن " فلسطين وطن لكل مسلم باعتبارها من أرض الإسلام، وباعتبارها مهد الأنبياء، وباعتبارها مقر المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله".

ويرى البنا أن " قضية فلسطين هي قضية كل مسلم"، ولفلسطين في تصور البنا مكانة خاصة، فهي حسب قوله " تحتل في نفوسنا موضعا روحيا قدسيا فوق المعنى الوطني المجرد، إذ تهب علينا منها نسمات بيت المقدس المباركة، وبركات النبيين والصديقين، ومهد السيد المسيح عليه السلام، وفي كل ذلك ما ينعش النفوس ويغذي الأرواح".

وفلسطين في فهم الإخوان " أرض وقف إسلامي على جميع أجيال المسلمين في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم على يوم القيامة، لا يجوز لأحد كائنا من كان أن يفرط أو يتناول، ولو عن جزء صغير جدا منها. ولذلك فهي ليست ملكا للفلسطينيين أو العرب فحسب، بل هي ملك للمسلمين جميعا، فعلى المسلمين في كل مكان أن يساهموا عمليا في تقييم المال والدم للدفاع عنها".

وفلسطين " قطعة من الجسد الإسلامي العام، ولبنة قيمة من بنيان الكيان الإسلامي".

ويربط طرح الإخوان بشكل محكم بين الإسلام وفلسطين، وهو طرح لا يقرر فقط المكانة الدينية لفلسطين أو الترابط العاطفي والتاريخي معها، ولكنه يعمل لتحمل مسئولية العمل والجهاد، ويعد التخاذل عن نصرتها تخاذلا عن نصرة الإسلام نفسه، ولذلك – حسن الإخوان - فإن القول:" مالي ولفلسطين في هذه الظروف معناه مالي وللإسلام، فهي ليست قضية وطن جغرافي بعينه، وإنما هي قضية الإسلام الذي ندين به، فما فلسطين إلا قطعة مصابة من الجسد الإسلامي العام، ولبنة مزعزعة من لبنات بنيانه، فكل قطعة لا تتألم لألم فلسطين ليست من هذا الجسد، وكل لبنة لا تختل" لاختلال فلسين ليست من هذا البنيان".

ويتكرر هذا الربط المحكم في موضع آخر عندما ينص الإخوان على القول:" وما الشعب الفلسطيني إلا أخ لنا، فمن قعد عن فلسطين فقد قعد عن الله ورسوله، وظاهر على الإسلام، ومن أعانها وبذل لها وأمدها، فقد انتصر لله ورسوله ودافع عن الإسلام.

مشروع النهضة ومشروع التحرير:

ولذلك رأى البنا وجوب الجهاد لتحرير فلسين ونصرة أهلها، وذكر في رسالة بعثها على السفير البريطاني في القاهرة " أن الإخوان سيبذلون أرواحهم وأموالهم في سبيل بقاء كل شبر من فلسطين إسلاميا عربيا حتى يرث الله الأرض ومن عليها".

وقال في رسالة بعثها إلى رئيس وزراء مصر محمد محمود : " إن الإنجليز واليهود لن يفهموا إلا لغة واحدة، وهي لغة الثورة والقوة والدم".

عبر فكر الإمام البنا عن حالة نضج مبكرة ومتقدمة في جدلية العلاقة بين مشروع النهضة الإسلامية وبين تحرير فلسطين، فقد رأى البنا أن حل قضية فلسطين سيكون بتلازم خطى الوحدة والجهاد، فالمشروعان بالنسبة له يمكن أن يسيرا جنبا على جنب، بحيث يسند بعضها بعضا، ويكمل أحدهما الآخر، إذ إن تحرير فلسطين يستدعي العمل على نهضة الأمة لتستكمل عناصر قوتها ووحدتها، وبالتالي تكون مؤهلة للاستجابة لتحدي التحرير وهزيمة المشروع الصهيوني.

وكذلك فإن الجهاد في فلسطين ومقاومة العدو يمثلان بحد ذاتهما عنصرا مهما في عملية استنهاض الأمة، وتقديم النماذج، وبث معاني الجهاد والعزة والكرامة، وكشف أعداء الأمة، وفي توحيدها تجاه التحديات الكبرى.

ويظهر أن البنا رأى في الخطين خطين متوازيين، يمكن أن يعملا جنبا إلى جنب ـ فلا يشترط توقف الجهاد بانتظار الوحدة، أو إقامة الخلافة، ولا يتوقف العمل لتحقيق الوحدة بحجة الانشغال بمشروع الجهاد أو التحرير، وهو الخط الفكري الذي تطرحه حماس، إذن ، فليس ثمة تعارض بين المشروعين، ولا ينبغي تعطيل مشروع لانتظار إنجاز الآخر.

ولذلك نجد في أدبيات الإخوان التي يعود بعضها إلى سنة 1936 م أن العمل لقضية فلسطين لن تقف بركته عند تحقيق الوحدة العربية، بل إنها ستحقق أيضا الوحدة الإسلامية.

ورأى البنا أن قضية فلسطين وثورتها كان لها أثر كبير طيب على بلدان المسلمين، فعندما قامت الثورة الكبرى في فلسطين سنة 1936 م أعادت الجهاد على الواقع مرة أخرى، وقام الفلسطينيون " يحسنون من جديد صناعة الموت".

وسرى هذا التيار من نفس الفئة المجاهدة القليلة في جوار الحرم المقدس على شباب الإسلام والعرب.

وخاطب البنا أهل فلسطين: " أيها الفلسطينيون، لو لم يكن من نتائج ثورتكم إلا أن كشفتم غشاوات الذلة، وحجب الاستسلام عن النفوس الإسلامية، وأرشدتم شعوب الإسلام إلى ما في صناعة الموت من لذة وجمال وروعة وربح لكنتم الفائزين".

ويربط البنا بين عدم القدرة على تحرير فلسطين، وبين ضعف المسلمين وتخلفهم عن دينهم، وبمعنى آخر فإن عملية التحرير مرتبطة بعملية استنهاض الأمة، فيذكر أن " قضية فلسطين لم تحل، ليس لأن المسلمين لا يقدرون ، بل لأنهم لا يريدون،وهم لا يريدون لأنهم لا يشعرون، وذلك لأنهم مسلمون أدعياء".

وبتعبير آخر نشر في جريدة الإخوان سنة 1937" لا قيام للباطل إلا في غفلة الحق، وإن أشد ما يمكن لأعدائكم في دياركم قعودكم عن نصرة إخوانكم".

وفي سعيه لتشجيع التواصل بين المسلمين والدفع باتجاه مشروع الوحدة، اتصل البنا بعدد من القيادات العربية والإسلامية للحصول على دعمهم، لعقد مؤتمر لنصرة فلسطين، وكتب البنا في 4 من تشين الأول/ أكتوبر 1937 في النذير : إنه لا يكفي الاستماع لمطالب الفلسطينيين الشجاعة بتقرير المصير وتحقيق الوعود، وإنما يجب عقد اجتماع للقادة للاعتراف بحقوق المجاهدين، وبهذا المؤتمر نتجه نحو الوحدة والتقدم.

أيها المسلمون لا تضيعوا دقيقة دون التحضير للتحرير، ولتكونوا قادرين بعد ذلك على اختيار ميدان المعركة بدل أن تساقوا كالخراف.

كما أدرك حسن البنا و الإخوان خطورة المشروع الصهيوني على نهضة مصر ، والعالم العربي، والنهضة الإسلامية بشكل عام، حيث إن وجود الكيان الصهيوني سيعطل مشروع الوحدة، ويمثل خطرا أساسيا واقتصاديا وعسكريا واجتماعيا على المنطقة، ويتحدث الإمام البنا بوضوح حول هذه المسائل فيقول:

" نريد أن نؤمن حدودنا الشرقية بحل قضية فلسطين حلا يحقق وجهة النظر العربية أبضا، ويحول دون تغلب اليهود على مرافق هذه البلاد.

إن مصر والعالم العربي والإسلامي كله يفتدون فلسطين، فأما مصر فلأنها حدها الشرقي المتاخم، وأما بلاد العرب فلأن فلسطين قلبها الخافق وواسطة عقدها، ومركز وحدتها، وهي ضنينة بهذه الوحدة أن تتمزق مهما كانت الظروف، ومهما كلفها ذلك من تضحيات.

وأما العالم الإسلامي فلأن فلسطين أولى القبلتين، وثاني الحرمين، ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذه الحقيقة يجب أن تضعها الدول المتحدة نصب عينيها، فصداقة المسلمين والعرب في كفة، ومطامع اليهود في فلسطين في الكفة الأخرى.

نحن نطالب بهذا، لأنه تأمين لحدودنا ومصلحة مباشرة لنا، ونطالب به كذلك لأنه حق أمتين عربيتين في الشرق والغرب، هم منا ونحن منهم، ولن يفرق بيننا شيء".

لذلك حذر الإمام البنا المصريين منذ سنة 1938 بأن عدم مساندة الثورة في فلسطين يعني أنهم " سيضطرون إلى أن يدفعوا عن أنفسهم في غائلة الخطر اليهود ي الصهيوني، بعد أن ترسخ أقدامه قيد خطوات من الحدود المصرية، وحينئذ لا تنفع الجهود، ويصدق علينا المثل السابق (أكلت يوم أكل الثور الأبيض).

ولا تخلو أدبيات الإخوان المسلمين المنشورة في الثلاثينيات والأربعينيات (والتي هي انعكاس لفكر البنا ) من إشارات إلى الأهمية الاستراتيجية لفلسطين، واعتبارها نقطة الاتصال بين البلاد العربية وآسيا وأفريقيا، وإلى أن قيام دولة لليهود في فلسطين يعني أن تكون تلك الدولة قاعدة للاستعمار الغربي، وسلاحا مسموما لطعن البلاد العربية.

كما أنها تنذر البلاد العربية بالتمزق والتفرق، وتهددها من ناحية الوجود والكيان.

كما تحدث الإمام البنا عن الخطر الاقتصادي الصهيوني، وما ينتج عن محاولات اليهود تصريف منتجاتهم في البلاد العربية، مما سيؤدي إلى "خراب اقتصادي واضطراب مالي".

وبالإضافة إلى ذلك فقد رأى الإخوان المسلمون / البنا أن إقامة الدولة الصهيونية سينتج عنها أيضا خطر اجتماعي يهدد البلاد العربية بالانحلال لأن الصهيونية ستعمل على نشر الإلحاد والإباحية.

الموقف من اليهود :

على الرغم من أن الكثير من أدبيات الإسلاميين لم تكن تفرق (إلى سنوات قريبة) بشكل واضح بين معاداة، و محاربة اليهود لكونهم يهودا، وبين معاداة ومقاتلة اليهود المعتدين في فلسطين، إلا أن الإمام البنا ومنذ مرحلة مبكرة جدا قدم تصورا واضحا، يفرق بين اليهود بكونهم أهل كتاب تجري عليهم الأحكام العامة، ولهم حقوقهم المعروفة في الفقه الإسلامي، وبين اليهود الصهاينة المعتدين الذين تجب محاربتهم لقيامهم باغتصاب أرض المسلمين وحقوقهم، أي أن قتالهم لا يكون لمجرد كونهم يهودا، وإنما ينحصر بقتال من قام منهم بالاعتداء على حرمات المسلمين ولذلك قال الإمام البنا أمام لجنة التحقيق البريطانية- الأمريكية في 5 آذار/ مارس 1946 :" إن خصومتنا لليهود ليست دينية، والإسلام شريعة إنسانية قبل أن يكون شريعة قومية، ونحن حين نعارض بكل قوة الهجرة اليهود ية، نعارضها لأنها تنطوي على خطر سياسي اقتصادي، وحقنا في أن تكون فلسطين عربية".

ورفض البنا الظلم الذي تعرض له اليهود في أوربا ، لكنه رفض أن يتحقق إنصافهم عبر ظلم أهل فلسطين والعرب، وقال البنا : " لا شك أننا نتألم لمحنة اليهود تألما شديدا، ولكن ليس معنى هذا أن ينصفوا بظلم العرب، وأن ترفع عنهم بهلاك غيرهم والعدوان عليه، وفي الأرض مندوحة وفي الأوطان متسع".

الموقف من الاحتلال البريطاني لفلسطين:

رفض الإمام البنا وعد بلفور، ورأى أن بريطانيا نكثت عهودها للعرب بالحرية والاستقلال (مراسلات الحسين- مكماهون) ، والتي خاضوا على أساسها الحرب ضد العثمانيين في الحرب العالمية الأولى.

كما رفض البنا مشروع تقسيم فلسطين، الذي أوصت به لجنة بيل سنة 1937م، وعد أن معنى هذا المشروع هو " القضاء على حقوق العرب كلها، ولن يخطر ببال عربي واحد أن يفكر فيه فضلا عن أن يقبله".

وقال البنا : إن فلسطين " دين على انجلترا للمسلمين لا تهدأ ثائرتهم حتى توفيهم فيه حقهم، وإننا ننتهز هذه الفرصة، فنذكرها بأن حقوق العرب لا يمكن أن تنتقص".

وعبر البنا عن سخطه على السياسات القمعية البريطانية، ومصادرتها للحريات، وإرهاب الآمنين، ونفي الزعماء، التي مارس تها في أثناء الثورة الفلسطينية الكبرى، وطالب بإطلاق سراح السجناء، وإعادة الزعماء المنفيين، وإرجاع الحقوق إلى المجلس الإسلامي الأعلى، وأعلن تضامنه مع الحاج أمين الحسيني- زعيم فلسطين- وطالب بالسماح له بالعودة، كما حذر الوفود الإسلامية إلى مؤتمر لندن (شباط / فبراير – آذار/ مارس 1939م) من المكر والخداع البريطاني.

البنا  في مقال له في النذير في 6 من كانوا الأول/ ديسمبر 1938م، ذكر أن المشكلة الحقيقية ليست مع اليهود  الذين جاءوا إلى فلسطين، والذين اعتبرهم مجرد سفاكي دماء ومغتصبين قدموا تحت ظلال الرماح والخداع، وأكد أن المشكلة الحقيقية هي بين العرب- مالكي الأرض في فلسطين- وبين البريطانيين الذين سيطروا على البلد، ووضعوها تحت هذه الظروف.

ويعكس هذا الفهم النتيجة نفسها التي وصل إليها العرب في فلسطين إثر ثورة البراق (آب/ أغسطس 1929م) وفي مطلع الثلاثينيات من أن بريطانيا هي " أصل الداء وسبب كل بلاء، حيث أخذت معارضتهم وثوراتهم تتركز ضد البريطانيين.

وطالب البنا الحكومة المصرية بالضغط على بريطانيا للإفراج عن المعتقلين، والاعتراف بحقوق الفلسطينيين كاملة غير منقوصة.

وفي مذكرات الدعوة والداعية نصان لرسالتين رفعهما الإمام البنا إلى رئيس الوزراء المصري على ماهر بهذا المعنى سنة 1939م.

الإمام البنا تبنى طرح الحركة الوطنية الفلسطينية فيما يتعلق بمطالب الشعب الفلسطيني من بريطانيا وبحل قضية فلسطين ، فقد طالب بريطانيا بوقف الهجرة اليهود ية وقفا تاما، وبإطلاق السجناء، وإعادة المبعدين وتعويض المتضررين، وباعتراف بريطانيا باستقلال فلسطين استقلالا تاما عربيا مسلمة، ويمكن أن يكون ذلك بناء على اتفاق يضمن حقوق العرب، ويعامل فيه اليهود معاملة الأقليات.

الجهود العملية لنصرة فلسطين

عندما تحرك الإخوان في مصر لنصرة فلسطين،لم يكن هناك اهتمام مصري شعبي أو رسمي ذي بال بالقضية الفلسطينية، ما عدا نشاط بعض الرموز والجمعيات الإسلامية مثل عبد الحميد سعيد- زعيم جمعيات الشبان المسلمين، ومحمد رشيد رضا- صاحب المنار الذي كان أستاذا للحاج أمين الحسيني، ومحمد على علوبة.

وقد لاحظ البنا أنه عندما " ثار الشعب الفلسطيني، كانت الهيئات السياسية والأحزاب في مصر منصرفة كل الانصراف عن مناصرة فلسطين مناصرة جدية، بحكم النعرة الوطنية الخاصة التي لم تكن قد تطورت إلى ذلك الشعور الدفاق بحق العروبة والإسلام، ولم يكن المتحرك لفلسطين، أو نحوها من الأقطار الشقيقة في ذلك العهد إلا الهيئات الإسلامية.

ومن هنا تقدم الإخوان المسلمون إلى مناصرة فلسطين الثائرة المجاهدة بكل ما فيها من قوة، ووقفوا على ذلك جهودهم ماديا وأدبيا..."

وكان من نماذج السلوك الرسمي السلبي المصري أن رئيس وزراء مصر محمد محمود عندما سئل عن سياسته حول قضية فلسطين، أجاب في خبر جريدة الأهرام في 20 من حزيران/ يونيو 1938م أنه رئيس وزراء مصر وليس فلسطين.

وكان من المفارقات أنه بينما كانت الثورة مشتعلة على أشدها في فلسطين 1936 - 1938، كان لا يزال القنصل المصري في القدس يدعو الزعماء الصهاينة على حفلات الاستقبال في الذكرى السنوية لميلاد الملك، وفي ذكرى اعتلائه العرش.

في سنة 1927 أرسل الإمام البنا رسالة دعم وتأييد إلى الحاج أمين الحسيني- مفتي فلسطين ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى- فيها، تعكس هذه المبادرة اهتمام البنا المبكر بقضية فلسطين وارتباطه النفسي بها، وهو لا يزال في الحادية والعشرين من عمره، وفي سنة تخرجه في دار العلوم وقبل أن يبدأ حياته العملية.

كما أنه من جهة ثانية أرسل هذه الرسالة قبل نحو عام على تأسيسه الإخوان المسلمين ، وهو ما يؤكد أن اهتمامه بفلسطين بعد ذلك من خلال عمل الجماعة لم يكن مجرد برنامج من برامجها، أو أداة لكسب الشعبية والرأي العام، وإنما كان اهتماما أصيلا صادقا.

ومن ناحية ثالثة، فإن هذه الرسالة أرسلت في ظرف لم تكن تشهد فيه فلسطين في تلك الفترة أيا من الأحداث الجسام أو الثورات، ولا حتى الحراك السياسي، مما يدل على أن الرسالة لم تكن انفعالا بحدث بقدر ما كانت انشغالا بالهم الفلسطيني نفسه.

وعندما انعقد المؤتمر الإسلامي العام في القدس في كانون الأول/ ديسمبر 1931، وحضره مندوبون من 22 بلدا، أرسل البنا رسالة تحية وتقدير للمؤتمرين باسم الإخوان المسلمين .

ولا تنحصر أهمية الرسالة في كونها تحمل دلالات الوعي، والتفاعل المبكر لجماعة الإخوان مع قضية فلسطين، وإنما في مضمون الرسالة الذي تجاوز المشاعر والمواقف إلى الاقتراحات العملية الممكنة التنفيذ، والتي تحمل دلالات مهمة على انغماس حقيقي بالقضية .

وكان أحد الاقتراحات إنشاء صندوق إسلامي أو شركة لشراء الأراضي الفلسطينية ، لحفظها وقطع الطريق على شرائها من قبل اليهود .

وكان من الطريف أن البنا قدم باسم الإخوان تبرعا بقيمة خمسة جنيهات مصرية كبديل لعمل الصندوق، مع الاعتذار عن ضآلة المبلغ الذي تم تقديمه لإعطاء الفكرة أهميتها وبعدها العملي.

واقترح البنا إنشاء لجان للدفاع عن الأماكن المقدسة في كل بلدان العالم الإسلامي، كما اقترح توحيد وتحديث الثقافة الإسلامية، وإنشاء جامعة فلسطينية تجمع بين العلوم الشرعية والعلوم المعاصرة، وإصدار جريدة إسلامية يومية، واقترح إنشاء مركز إعلامي إسلامي.

ولم ينس اقتراح استعادة السيطرة على خط الحجاز الحديدي، واستكماله، لما له من أهمية في ربط المسلمين ببعضهم، وقد أبدى الحاج أمين الحسيني اهتمام بالرسالة، وفي رده على البنا ذكر أن اللجنة التنفيذية للمؤتمر ستعطي الاقتراحات الاهتمام اللازم.

وقد لاحظنا أن المؤتمر تبنى في قراراته تأسيس شركة لإنقاذ الأراضي في فلسطين،والمطالبة بتسليم خط السكة الحديدية الحجازية، وإنشاء جامعة باسم جامعة المسجد الأقصى، والتعهد بالدفاع عن إسلامية البرق.

وهذا يعني أن عددا من اقتراحات الإمام البنا قد تم اعتمادها، غير أنه من المحتمل أن بعض هذه الاقتراحات قد توافق مع اقتراحات مشابهة قدمها المشاركون في المؤتمر.

وعندما حدثت انتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر 1933 في فلسطين، والتي راح ضحيتها في القدس ويافا 35 شهيدا و255 جريحا، والتي أصيب فيها زعيم فلسطين موسى كاظم الحسيني، طالب الإمام البنا - في مقال نشر في جريدة "الإخوان المسلمون " في 21 تشرين الأول/ أكتوبر 1933 – بإيقاف الهجرة اليهود ية، وتنفيذ بريطانيا لوعودها للعرب بحكم أنفسهم، ودعا العالم الإسلامي للضغط بكل ما يملك من وسائل وتقديم الدعم والتبرعات لفلسطين.

ومن الملاحظ أن جماعة الإخوان أخذت تستخدم المناسبات الإسلامية، وخصوصا الاحتفالات بالإسراء والمعراج للدعاية لقضية فلسطين في سنة 1933 ، والسنوات التي تلتها.

وقبل الثورة الكبرى في فلسطين بنحو عام، دعا الإمام البنا في أثناء انعقاد المؤتمر الشورى الثالث للجماعة في آذار/ مارس 1935 إلى جمع التبرعات لفلسطين.

اندلعت الثورة الكبرى في فلسطين في منتصف نيسان/ أبريل 1936 ، واستمرت مرحلتها الأولى حتى تشرين الأول/ أكتوبر 1936 ، ثم ما لبثت أن انفجرت مرحلتها الثانية في أواخر أيلول/ سبتمبر 1937، واستمرت حتى أواخر سنة 1939.

وفي 16 من أيار/ مايو 1936 ترأس البنا اجتماعا للإخوان ، وقال: إنه يخشى أنه إذا ما كانوا بطيئين في مساعدة الفلسطينيين ، فإن مقاومتهم لن تحقق أهدافها، وبالتالي" فسنتحمل المسئولية أمام الله والتاريخ".

ولذلك قرر المجتمعون إنشاء اللجنة في دعم قضية فلسطين بمختلف الوسائل، وفي نهاية مايو / أيار 1936 شاركت اللجنة في تشكيل اللجنة العليا لمساعدة ضحايا فلسطين، حيث دعت جمعية الشبان المسلمين في القاهرة المنظمات الإسلامية والأفراد لتشكيل هذه اللجنة، وقد مثل الإخوان في هذه اللجنة كل من حسن البنا وحامد عبد الرحمن.

وقد نشط الإخوان المسلمون في الدعاية الإعلامية لقضية فلسكين في مصر نشاطا كبيرا، ودعوا إلى مشروع " قرش فلسطين" لدعم أهل فلسطين وثورتهم، وطبعوا المنشورات التي تهاجم الإنجليز وسياستهم في فلسطين، وركزوا في مجلتهم (النذير) على خدمة قضية فلسطين وإبرازها إعلاميا، واستفادوا من منابر المساجد للدعوة للقضية، وأرسلوا الطلاب في الصيف إلى أنحاء القطر المصري للدعوة للفكر الإسلامي، وإلى مساعدة فلسكين، كما دعوا على مقاطعة المحلات اليهود ية في مصر ، ووزعوا كتاب "النار والدمار في فلسطين" (الذي أصدرته اللجنة العربية العليا) بشكل واسع في مصر ، فكان له أثر إعلامي عظيم، وقد اعتقل البنا لفترة وجيزة بسبب توزيع الكتاب.

ودعا البنا وإخوانه إلى القنوت في الصلاة من أجل فلسكين، وجاء في تعميم لمكتب الإرشاد العام أن نازلة فلسطين من اشد النوازل بالمسلمين جميعا، وأعظمها وقعا على قلوبهم، وأشدها نيلا من إخوانهم وأوطانهم ونفوسهم.

ولهذا اقترح مكتب الإرشاد أن يقنت المسلمون في الركعة الأخيرة من كل صلاة بعد الركوع، قنوتا يدعون فيه بنصرة أهل فلسكين، وخذلان أعدائهم ومناوئيهم، بالصيغة التالية مثر: اللهم غياث المستغيثين، ونصير المستضعفين انصر إخواننا أهل فلسطين. اللهم فرج كربتهم، وأيد قضيتهم، واخذل أعداءهم، واشدد الوطأة على من ناوأهم، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف، وارفع مقتك وغضبك عنا يا رب العالمين، وصل اللهم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.

كما أرسلوا الرسائل والبرقيات إلى المسئولين في الدولة، وأصحاب النفوذ للتدخل لمساعدة فلسطين والعمل الجاد على حل قضيتها.

وعندما انعقد المؤتمر العربي لنصرة قضية فلسين في " بلودان" في 10 من أيلول / سبتمبر 1937 أبرق حسن البنا باسم الإخوان المسلمين في مصر إلى المؤتمر برقية يعلم فيها استعداد جماعة الإخوان المسلمين للدفاع عن فلسطين بدمائهم وأموالهم؟

وعندما انعقد المؤتمر البرلماني للبلاد العربية والإسلامية في 7 من تشرين الأول/ أكتوبر 1937 أولاه الإخوان عناية خاصة، وحرصوا على توفير سبل نجاحه رغم أنهم لم يشاركوا في أعماله، حيث لا يملكون أعضاء برلمانيين.

وأقام الإخوان حفل استقبال للوفود في مركزهم الرئيسي في القاهرة، حيث ألقى البنا كلمة فيهم، وأرسلت فروع الإخوان 13 برقية تدعم المؤتمر، وتطالب بإصدار قرارات بحل القضية الفلسطينية بناء على مطالب العرب.

ونظم " الإخوان " وجمعية الشبان المسلمين مظاهرة كبرى في مصر في حزيران/ يونيو 1938 لنصرة فلسطين، وقد اصطدمت بالشرطة، مما أدى إلى اعتقال (34) من المتظاهرين، كما نظموا مظاهرة كبرى بمناسبة وعد بلفور في تشرين الثاني/ نوفمبر 1938، شملت جميع أرجاء مصر ، فكانت تنبيها قويا للشعب المصري على أهمية قضية فلسطين.

كما رحب البنا بالقادة الفلسطينيين الذين أنهت السلطات البريطانية إبعادهم إلى سيشل (أبعدوا من تشرين الأول/ أكتوبر 1937 على كانون الأول/ ديسمبر 1938)، وسمحت لهم بالعودة إلى مصر ، وأقام لهم مكتب الإرشاد حفل استقبال في 11 من كانون الثاني/ يناير 1939.

وقد أصبح من الواضح أن مركز الإخوان المسلمين صار ملتقى ومزار القيادات الفلسطينية القادمة إلى القاهرة.

وعندما عقد الإخوان مؤتمرهم الخامس في 2 من شباط/ فبراير 1939 قرر المؤتمر إرسال تحياته للحاج أمين الحسيني وللمجاهدين ولأعضاء اللجنة العربية العليا.

كما تقرر إرسال برقيات للحاج أمين والوفد المصري إلى مؤتمر لندن، ولوزير الخارجية البريطاني تدعم مطالب العرب في فلسطين.

ويبدو أن الإخوان المسلمين المصريين قد شاركوا بشكل محدود في الثورة اكبرى في فلسطين ( 1936 - 1939) فيذكر كامل الشريف أن عددا من شباب الإخوان قد استطاعوا التسلل إلى فلسكين، والاشتراك مع المجاهدين في جهادهم، خاصة في مناطق الشمال، (حيث جماعة القسام)، كما يبدو أن المفتي (الحاج أمين) قد شهد بصحة هذا الكلام.

وفي مقابلة للباحث مع الدكتور عصام الشربيني يذكر أن الدكتور إبراهيم أبو النجا- عضو مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان سابقا- أخبره أن الإخوان في مصر قد احتفلوا بذهاب بعض الإخوان إلى فلسطين للجهاد في الثورة الفلسطينية الكبرى( 1936 - 1939) ، كما أن في حديث محمود عبد الحليم عن قضية أحمد رفعت ما يشير على اتصال الإخوان بمجاهدي فلسطين والتنسيق معهم، وعلى هذا فنحن لا نستبعد مشاركة الإخوان بشكل فردي في الثورة الكبرى.

ويذكر الإخوان المسلمون عادة أن أهم أسباب إنشاء الإمام البنا النظام الخاص داخل جماعة الإخوان هو مشاركة أعضائه في الجهاد لتحرير فلسين من الانتداب البريطاني، وإفشال المخطط اليهود ي في بناء الوطن القومي على أرضها، وقد كان أعضاء هذا النظام- الذي أنشئ في مطلع الأربعينيات- يختارون من خلاصة الإخوان ، وينضمون في عضويته في سرية تامة، ويتم تربيتهم على معاني الجهاد، ويخضعون لتدريبات بدنية شاقة والتدريب على السلاح.

نشأة حركة الإخوان في فلسطين

في سنة 1935 ظهر توجه الإمام البنا لنشر دعوة الإخوان خارج مصر ، وكان ذلك أحد قرارات المؤتمر الشورى الثالث للجماعة في آذار / مارس 1935، وكانت فلسكين هي أول بلد مرشح لتنفيذ هذه المهمة، وفي 3-6 من آب/ أغسطس 1935 زار القياديان في الجماعة : عبد الرحمن الساعاتي ومحمد أسعد الحكيم فلسطين، ولقيا ترحيبا هناك من الحاج أمين حيث قاما بنشر دعوتهم، ثم تابعا سفرهما إلى سوريا ولبنان.

وخلال الحرب العالمية الثانية (1939- 1945) وبتكليف من البنا زادت زيارات الإخوان لفلسطين، وخصوصا عبد المعز عبد الستار وسعيد رمضان ، وأخذ عدد من أبناء فلسطين ينضمون للإخوان، غير أن تشكيل فروع للإخوان لم يتم- على ما يظهر- إلا بعد انتهاء الحرب، حيث خفت ظروف القهر والتشديد البريطاني، ونشطت الحركة السياسية الفلسطينية.

ويبدو أن أول فروع الإخوان إنشاء كان فرع غزة برئاسة الحاج ظافر الشوا، ثم تأسس فرع يافا برئاسة ظافر الدجاني، أما فرع القدس فقد أنشيء سنة 1945 ، ثم جرى افتتاح مميز له في 5 من آيار/ مايو 1946 وحضره الزعيم الفلسطيني جمال الحسيني، وأنشئ فرع حيفا برئاسة الشيخ عبد الرحمن مراد، وتتابع إنشاء الفروع في قلقيلية، واللد، ونابلس، وطولكرم، والمجدل، وسلودا، والخليل، حتى زادت الفروع عن عشرين فرعا.

أبقى الإمام البنا على متابعته اللصيقة لفلسطين، ولم يعامل فرع الإخوان فيها كقطر مستقل تماما، وقد ظل الحضور الإخوان ي المصري فيها كثيفا ومتواصلا، واشرفوا بأنفسهم على افتتاح عدد من الفروع وخصوصا في المدن الكبيرة.

وقد نشطت جماعة الإخوان في فلسطين في مجالات الدعوة والتربية والتوعية الإسلامية، والتعريف بالخطر الصهيوني، والمؤامرة على فلسطين والتعبئة للجهاد.

وقد عقد الإخوان الفلسطينيون مؤتمرا عاما في حيفا في 18 من تشرين الأول/ أكتوبر 1946 حضره ممثلون عن لبنان والأردن .

وحملت القرارات أبعادا تنظيمية داخلية وسياسية محلية وخارجية، تؤكد الوعي والتفاعل السياسي مع الأحداث، وقد جاء في القرارات: اعتبار حكومة الاحتلال البريطاني في فلسطين مسئولة عن الوضع السياسي المضطرب، وتأييد مطالب مصر بالجلاء ووحدة النيل، وتأييد المشاريع التي ترمي إلى إنقاذ الأراضي، وعدم الاعتراف باليهود الطارئين على البلاد، وتعميم شعب الإخوان المسلمين في فلسطين.

وبعد عام من انعقاد المؤتمر السابق عقد الإخوان المسلمون مؤتمرا آخر كبيرا في حيفا في 27 من تشرين الأول/ أكتوبر 1947 حيث أعلن الإخوان تصميمهم على الدفاع عن بلادهم بجميع الوسائل، واستعدادهم للتعاون مع جميع الهيئات الوطنية في هذا السبيل، كما أعلنوا أن هيئة الإخوان المسلمين ستتحمل نصيبها كاملا من تكاليف النضال.

ونلاحظ في هذه القرارات مدى جديتها وقوتها، ومتابعتها للأحداث السياسية والواقعية حيث كان للقرارات السياسية نصيب الأسد فيها، كما نلاحظ المضمون الجهادي الذي تمخضت عنه هذه القرارات، والتي كانت متفوقة في مضمونها وطبيعتها عن الاتجاهات السياسية السائدة في تلك الفترة.

وقد نشط الإخوان الفلسطينيون في تعبئة الجماهير للجهاد ضد الإنجليز واعترفت الرواية الإسرائيلية الرسمية لحرب فلسطين 1947- 1948 بذلك حتى أن المؤسسات القومية اليهود ية احتجت واشتكت عليهم للسلطات البريطانية، ولكن لا ينبغي المبالغة في قدرة الإخوان الفلسطينيين وإمكاناتهم، إذ كانوا جديدين إلى حد ما على الساحة، ولم يبلغ انتشارهم حجما سياسيا كبيرا يؤهلهم للتأثير في القرار السياسي الفلسطيني المحلي.

وكانوا بشكل عام أنصارا للحاج أمين الحسيني الذي كان صديقا شخصيا للشيخ حسن البنا ، كما أن إمكاناتهم كانت محدودة جدا مقارنة بما لدى اليهود ، أو بما تحتاجه فلسطين في عملية الدفاع عنها، غير أن هذا لم يمنع أن يمثلوا في تلك الفترة حالة جهادية مضحية واعية، ذات روح وطنية قوية منفتحة.

دور الإخوان المسلمين في حرب فلسطين 1947- 1948 م

شارك الإخوان المسلمون الفلسطينيون في الجهاد عندما اندلعت حرب 1947- 1948 ، إلا أن حداثة تنظيمهم وعدم نموه واستقراره بشكل مناسب وقوي، جعلت مشاركتهم محصورة ضمن قدراتهم المحدودة الإنقاذ أو جيش الجهاد المقدس).

وقد قامت بغارات ناجحة على مستعمرات اليهود وطرق مواصلاتهم، على الرغم من الضعف الشديد الذي كانت تعانيه، سواء في التسليح أو التدريب، ولذلك لا نجد ذكرا رسميا لدور الإخوان في هذه المناطق بشكل عام.

أما في المناطق الجنوبية وخصوصا غزة وبئر السبع فقد انضم العديد من إخوان فلسطين إلى قوات الإخوان (المصرية) الحرة بقيادة كامل الشريف، وشاركوا بقوة وفاعلية في معارك فلسطين هناك.

ويذكر كامل الشريف أن قوات الإخوان المصرية الحرة كان معدل عددها 200 مجاهد في مناطق جنوب فلسطين، وأنعها كان يشاركها الجهاد حوالي 800 مجاهد آخر من أبناء فلسطين، تحت قيادتها حيث إن كثيرا منهم تأثروا بفكر الإخوان المسلمين وأصبحوا منهم.

وكانت أنشط شعب الإخوان مشاركة في الجهاد شعبة الإخوان المسلمين في يافا، وقد كان هناك ( تنظيم عسكري سري خاص) ضمن أعضاء الإخوان في يافا، شارك فيه عدد محدود ممن يصلحون لهذا العمل، ولم يكن باقي الإخوان أعضاء فيه و يعلمون شيئا عنه، وقد ظهر نشاطه الجهادي مع بداية الحرب.

وعندما جاء كامل الشريف إلى منطقة يافا مع سرية من شباب الجامعات، تولى هو قيادة مجاهدي الإخوان ، حيث تجمع قيادته حوالي 100 مجاهد وتولى كامل الشريف قيادة منطقة في يافا اسمها (كرم التوت)،وتقع بين يافا وتل أبيب حيث تقع معارك يومية بين المجاهدين واليهود .

كما شارك الإخوان المجاهدون في الهجوم على مستعمرة بتاح تكفا، ثم ما لبث كامل الشريف أن انتقل إلى منطقة النقب.

ويذكر عارف العارف أنه كان للإخوان المسلمين في يافا قوات متحركة يبلغ عددها 30 مجاهدا بقيادة حسن عبد الفتاح والحاج أحمد دولة، وكان عندهم 30 بندقية ورشاش و2 ستن، وقد كانوا يهبون لنجدة المواقع كلما دعت الحاجة.

ويقول يوسف عميرة: إن الإخوان تولوا في أثناء الحرب الدفاع عن مناطق البصة، وتل الريش، والعجمي، والنزهة في يافا، فضلا عن المحافظة على الأمن داخل المدينة، كما يؤكد على الدور المشرف الذي قام به الإخوان في يافا، حيث كان الالتزام بالإسلام من سماتهم، وكان الدفاع والقتال عن إيمان بالله.

وفي منطقة القدس شارك إخوان فلسطين في القتال مع إخوانهم القادمين من البلاد العربية، أو مع قوات الجهاد المقدس.

دور الإخوان المسلمين المصريين في حرب فلسطين 1947- 1948

يذكر بيان نويهض أن اهتمام الإخوان المسلمين بتحرير فلسطين كان اهتماما صادقا ومرتكزا على الإيمان الديني العميق، ولأن الإخوان في مصر قد أصبحوا في تلك الفترة من أنشط وأوقى الاتجاهات فيها، فقد كان لهم الدور الأكثر قوة من بين إخوان الدول العربية المشاركين في حرب فلسطين.

فقبل إعلان الحرب قام الإخوان في مصر بمهمة تهيئة الشعب لفكرة الجهاد، وانطلقوا في أرجاء القطر المصري داعين للجهاد في سبيل الله لإنقاذ الأرض المباركة، كما قاموا بالعديد من المظاهرات القوية، والتي كان لها أثرها في زيادة وعي الجماهير بقضية فلسين، وقاموا بحملة لجمع التبرعات لفلسطين كما أخذوا يجوبون صحراء مصر الغربية لتوفير السلاح من بقايا الحرب العالمية الثانية للجهاد في فلسطين.

واسهم الإمام البنا في توحيد أكبر منظمتين شبه عسكريتين في فلسطين وهما: منظمتا النجادة والفتوة، حيث كان الصراع والتنافس قد احتدم بينهما، واختير باتفاقهما محمود لبيب – وكيل الإخوان المسلمين للشئون العسكرية- مسئولا عن تنظيم هذه التشكيلات ، التي توحدت تحت اسم " منظمة الشباب العربي" لكن السلطات البريطانية أجبرت لبيبا على مغادرة فلسطين.

وفي 9 من تشرين الأول/ أكتوبر 1947 أرق الشيخ حسن البنا إلى مجلس الجامعة العربية يقول : إنه على استعداد لأن يبعث كدفعة أولى عشرة آلاف مجاهد من الإخوان إلى فلسكين، وتقدم فورا إلى حكومة النقراشي طالبا السماح من هؤلاء المجاهدين باجتياز الحدود ولكنها رفضت.

وفي 15 كانون الأول/ ديسمبر 1947 قام الإخوان بمظاهرة كبرى، وممن خطب هذه المظاهرة رياض الاصلح، والأمير فيصل بن عبد العزيز، وجميل مرد بك، وإسماعيل الأزهري، وقد خطب أيضا حسن البنا الذي أكد " أن الإخوان المسلمين قد تبرعوا بدماء عشرة آلاف متطوع للاستشهاد في فلسطين، وهم على أتم استعداد لتلبية ندائكم".

بدأ الإخوان المسلمون المصريون بالتوجه فعلا للجهاد في فلسطين منذ تشرين الأول/ أكتوبر 1947، أي قبل بدء الحرب في فلسطين بأكثر من شهر، وقد سافرت أول كتيبة من الإخوان بإمارة محمد فرغلي وقيادة محمود لبيب ، لكن التضييق الشديد من الحكومة المصرية على سفر الإخوان قد جعل مشاركتهم محدودة، وقد اضطر الإخوان للتحايل، فاستأذنوا بعمل رحلة علمية إلى سيناء، فأذنت لهم الحكومة بعد إلحاح شديد، ومن هناك انطلقوا على فلسطين.

وأخذ الإخوان يتسللون سرا حيث تجمعوا في معسكر النصيرات، وأخذوا يقومون بالعمليات الجهادية، وبهذا بدأت العمليات الجهادية العسكرية في صحراء النقب، وانضم للإخوان الكثير من المجاهدين من عرب فلسكين، حتى صاروا أضعاف عدد الإخوان أنفسهم فيما بعد.

وبدأت حرب عصابات تبشر بنجاح رائع، إلا أن الحكومة المصرية طلبت من المركز العام للإخوان سحب قواته من النقب، فرفض فقطعت عنهم الحكومة الإمدادات والتموين، وراقبت الحدود، إلا أنهم وجدوا من عرب فلسطين كل مساعدة وعون.

ولما اشتد الضغط على الحكومة المصرية سمحت للمتطوعين بالمشاركة في الجهاد تحت راية الجامعة العربية، حيث دربوا في معسكر (هاكستب)، وكان يشرف على حركة التطوع محمود لبيب- وكيل الإخوان للشئون العسكرية- وتألفت ثلاث كتائب من المتطوعين يقدر عددا بـ 600 مقتل، نصفهم تقريبا من الإخوان المسلمين ، وقد طبعوا هذه الكتائب بطابعهم الخاص، وكان أبرز قادة هذه الكتائب أحمد عبد العزيز وعبد الجواد طبالة.

ولم يكف معسكر هاكستب لاستيعاب المتطوعين، إذ إن المتطوعين كانوا عشرات الأضعاف بالنسبة للمشاركين، فأرسل الإخوان 100 من أفراد ليتدربوا في معسكر (قطنا) في سوريا، وهم كل ما استطاع المركز العام للإخوان أن يقنع الحكومة المصرية بقبوله.

وقد سافرت هذه الكتيبة عن طريق ميناء بور سعيد في 10 من آذار / مارس 1948 وقبل مغادرتها خرجت بور سعيد عن بكرة أبيهم لتحيتهم وتوديعهم، وخطب البنا في الجميع ومما قاله: " هذه كتيبة الإخوان المسلمين المجاهدة بكل عددها وأسلحتها، تتقدم للجهاد في سبيل الله، ومقاتلة اليهود أعداء الإسلام والوطن، ستذهب إلى سوريا حتى تنضم إلى باقي المجاهدين، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ، وفي هذا فليتنافس المتنافسون"

وقد استقبلت هذه الكتيبة في سوريا استقبالا شعبيا كبيرا، وكان في مقدمة المستقبلين المراقب العام للإخوان في سوريا مصطفى السباعي، وعمر بهاء الدين الأميري، والشيخ محمد الحامد وغيرهم، وفي ظهر يوم الثلاثاء 23 من آذار/ مارس سافر حسن البنا إلى دمشق على متن طائرة لتفقد أحوال المتطوعين هناك.

قام الإخوان المسلمون بدور مشرف في حرب فلسطين اعترف لهم به كل من كتب عن هذه الحرب، وكان لهم دور مشهود في جنوب فلسطين في مناطق غزة ورفح وبئر السبع، حيث كانوا يهاجمون المستعمرات ويقطعون مواصلات اليهود .

ومن أبرز المعارك التي شاركوا فيها هناك معركة التبة 86 التي يذكر العسكريون أنها هي التي حفظت قطاع غزة عربيا، ومعركة ديروم ، واحتلال مستعمرة ياد مردخاي وغيرها، كما أسهموا بدور مهم في تخفيف الحصار عن القوات المصرية المحاصرة في الفالوجا، كما كان للإخوان المصريين مشاركتهم الفعالة في معارك القدس وبيت لخم والخليل، وخصوصا صور باهر.

وكان من أبرز المعارك فيها تلك المناطق معركة رامات راحيل واسترجاع مار الياس، وتدمير برج مستعمرة تل بيوت قرب بيت لحم، والدفاع عن " تبة اليمن" التي سميت تبة الإخوان المسلمين نظرا للبطولة التي أبدوها..وغيرها.

وقد استشهد من إخوان مصر في معارك فلسطين حوالي مائة، وجرح نحو ذلك، وأسر بعضهم وكانت وطأة الإخوان شديدة على اليهود ، وقد سئل موشى ديان بعد الحرب بقليل عن السبب الذي من أجله تجنب اليهود محاربة المتطوعين في بيت لحم والخليل والقدس فأجاب: " إن الفدائيين يحاربون بعقيدة أقوى من عقيدتنا، إنهم يريدون أن يستشهدوا، ونحن نريد أن نبني أمة، وقد جربنا قتالهم فكبدونا خسائر فادحة، ولذا فنحن نحاول قدر الإمكان أن نتجنب الاشتباك بهم" ولذلك كان انتقام اليهود من الإخوان رهيبا إذا وقعوا أسرى في أيديهم، فقد كانوا يقتلونهم ويشوهون أجسامهم.

لم يكن حسن البنا سعيدا بأداء الجيوش العربية وهزائمها وتراجعاتها، ولذلك قرر أن يعد قوة ضخمة للدفاع عن القدس، حيث كان اليهود يشنون هجمات عنيفة على مراكز الجيش الأردن ي بها، مما خشي معه أن يستولى اليهود على المدينة المقدسة، وأخبر كامل الشريف أنه يجهز قوات كثيفة ليدخل بها فلسطين، وأنه سيعلن الجهاد الديني والتعبئة الشعبية، بعد أن فشلت الحكومات وجامعتها، وكان يسوق له هذه الأنباء مرددا هذه العبارة " ما فيش فايدة، الناس دول مش عاوزين يحاربوا"، وكان فضيلته يرمي وراء ذلك إلى إثارة الشعور الديني في العالم الإسلامي ودفع الشعوب الإسلامية والحكومات الإسلامية لعمل شيء ما.

دور الإخوان المسلمين السوريين

قام الإخوان السوريون بدور مشهود خصوصا في معارك منطقة القدس، وقد تدربت كتيبة الإخوان السوريين في (قطنا) ثم سافرت إلى منطقة القدس، وقد شارك من الإخوان السوريين حوالي 100 أخ، بقيادة المراقب العام للإخوان المسلمين في سوريا مصطفى السباعي، وقد اشتركوا ببسالة في معارك القدس مثل: معركة باب الخليل التي أصيب فيها 35 منهم بجراح، وكان النصر فيها للمجاهدين ومعركة القسطل، حيث شارك فيها فوج، منهم عبد القادر الحسيني، ومعركة الحي القديم في القدس، ومعركة القطمون، ونسف الكنيس اليهود ي الذي اتخذه اليهود مقرا حربيا وغيرها.

دور لإخوان المسلمين الأردنيين

تفاعل سكان شرق الأردن مع حرب فلسطين وشكل الإخوان المسلمون هنالك لجنة لجمع التبرعات والمساعدات، كما فتحوا باب التطوع للمشاركة في الجهاد، وكان تجاوب الناس رائعا، فيذكر محمد عبد الرحمن خليفة أنه عندما فتح باب التطوع في شعبة السلطة سجل أكثر من ثلاثة آلاف شخص أنفسهم.

وتكونت من إخوان منطقة عمان وما حولها سرية متطوعين تضم نحو 12 مجاهدا من الإخوان المسلمين ، وسميت باسم سرية أبي عبيدة، وقد تولى قيادتها الإخوان ية الحاج عبد اللطيف أبو قورة- المراقب العام للإخوان المسلمين في ا لأردن- في تلك الفترة، أما قيادتها العسكرية فقد تولاها الملازم المتقاعد ممدوح الصرايرة، وقد دخلت فلسطين في 14 من نيسان/ أبريل 1948 ، وتمركزت في عين كارم وصور باهر.

وقد خاضت هذه السرية عدة معارك، واستشهد عدد من أفرادها، وفي إربد تولى مسئول شعبة الإخوان هناك السيد أحمد محمد الخطيب قيادة الإخوان فيها في حرب فلسطين ، وبلغ مجموع من شارك معه في الجهاد من إخوان إربد وأهلها المتطوعين حوالي مائة مجاهد.

دور الإخوان المسلمين العراقيين

بعد أسبوع واحد من قرار التقسيم أسهم الإخوان المسلمين في العراق بقيادة الشيخ محمد محمود الصواف بشكل فعال في تأليف (جمعية إنقاذ فلسطين) في بغداد وكانوا من برز وأنشط عناصرها.

ولقد لبى نداء التطوع 15 ألفا معظمهم ممن تدربوا في الجندية أو الشرطة، وكان للإخوان المسلمين في تلك الفترة دور أساسي في تعبئة الجماهير للجهاد، وكانوا على رأس المظاهرات التي خرجت للتنديد بقرار تقسيم فلسطين، والتي اشترك فيها 200 ألف عراقي في بغداد، وتألف من المتطوعين للجهاد كتيبتا الحسين والقادسية، ( كل واحدة تتكون من 360 مقاتلا) وقد وصلتا إلى فلسطين في مارس 1948 .

كما اشترك ضمن الأفواج التي ذهبت للجهاد الكثير من إخوان العراق الذين قاتلوا ضمن قوات جيش الإنقاذ، ورأوا الكثير من تخاذل وضعف وسوء إدارة قيادته، وعلى رأسه فوزي القاوقجي، إلا أنهم بذلوا ما استطاعوا في المعارك التي شاركوا فيها، خصوصا في شمال فلسطين.

حل الإخوان واغتيال البنا

من الصعب الادعاء بأن حل جماعة الإخوان المسلمين في 8 من كانون الأول/ ديسمبر 1948 ، واغتيال البنا في 12 من شباط/ فبراير 1949 لم يكن له علاقة بجهاد الإخوان في فلسطين، وربما لا تكون مشاركتهم في حرب فلسطين هي السبب الوحيد، لكن القدرة العالية على التعبئة والحشد التي أظهرها الإخوان ، والبطولات والتضحيات التي برزت في المعارك والصدامات، فضلا عن الاستعدادات الحقيقية لتحشيد عشرات الآلاف، وهو ما يفوق أعداد لجيوش العربية، كل ذلك أثار مخاوف الصهاينة والبريطانيين والعائلة الحاكمة في مصر ، خصوصا إذا ما وجدت احتمالات لتوجيه غضب الشارع المصري ضد نظامه الحاكم بسبب تخاذله وضعف أدائه في فلسطين.

لقد دفع الإمام البنا فاتورة وحبه لفلسطين، والتزامه الصادق بنصرتها وتحريرها، كما دفعت جماعة الإخوان الجماعة، إذ كسبت مصداقيتها، وأصبحت تجربتها في فلسطين رصيدا تاريخيا، يكسب لها الأنصار ويفتح لها الآفاق.

ومن الملفت للنظر أنه عندما حلت الجماعة، ووصلت الأخبار إلى الإخوان المجاهدين في فلسطين، أرسل إليهم البنا يطلب منهم الاستمرار في جهادهم، مؤكدا على أن معركتهم هي في فلسطين.

وهكذا كان، ولكن ا لنظام لم يمهله ولم يمهلهم، فاغتالوه (عليه رحمة الله) وساقوا المجاهدين إلى السجون بدل أن يحظوا بالإجلال والتكريم.

سوف يكتب التاريخ أن الإمام البنا كان من رجالات العصر النادرين، الذين أعطوا لفلسين الكثير ، فكريا وسياسيا وإعلاميا وتعبويا وخيريا وجهاديا، ومن أبرز من وسعوا دائرة الاهتمام بها، وجعلوها محط أنظار المسلمين (علي رحمة الله).

أمثلة من التربية الحضارية عند الإمام البنا

د. سيد دسوقي

مقدمة

في امتحان الليسانس في دار العلوم سأل أحد الممتحنين الأستاذ البنا عن حصيلته من الشعر العربي، فأجابه ثمانية عشر ألف بيت من الشعر، فسأله الرجل هل تحفظ قصيدة طرفة بن العبد؟ قال البنا : نعم، استطرد الشيخ وسأل : هل أعجبك فيها بيت معين، فقال البنا : نعم، " إذا القوم قالوا من فتى.. خلت أنني عنيت فلم أكسل ولم أتبلد".

فطرب الأستاذ لإجابة البنا طربا عظيما، فسأله ممتحن آخر: ( وأظنه كان الشاعر الكبير على الجارم) عن س سروره البالغ بهذه الإجابة، فقال له الشيخ الممتحن: لقد وقفت نفس الموقف أمام الإمام محمد عبده ، وسألني نفس السؤال فظللت أقول بين أقول بيتا من هنا وبيتا من هناك، فضاق الإمام محمد عبده ، بإجابتي وقال لي: هل تذكر قصيدة طرفة ولا تذكر قوله:" إذا القوم قالوا من فتى ، خلت أنني عنيت فلم أكسل ولم أتبلد" وهذا الفتى البنا قالها من أول مرة وبدون تردد.

نعم لقد كان أهم ما يميز الإمام البنا هو الهمة الحضارية العظيمة، والتي تدفعه دفعا إلى البحث في خريطة المهام الحضارية، وإعداد نفسه لتحمل هذه المهام بما حباه الله من فضل، وأفاض عليه من علم، ومن قدرات متعددة ولعل هذه الخاصية "الهمة الحضارية، والبحث عن الواجبات الحضارية هما أهم ما يميز حركة الإخوان المسلمين .

في 19501951م انتقل الفلاحون والعمال في قريتي بالمرج من جسد هامد متخلف إلى جسد حي ينشئ مدرسة ومستوصفا، ويسعى في حركة تحارب العادات السيئة من تدخين الحشيش إلى التحلل الاجتماعي، كل هذا في عام واحد، بل بدأ هؤلاء الفلاحون يضطلعون بحفظ الأمن والضغط على عصابات القتل والسرقة حتى أقلعوا عن جرائمهم.

لقد كانت دعوة البنا إحيائية تحيي موات الأمة، وتعيدها إلى النبع الصافي من القرآن والسنة متجاوزة عمليات الإحياء الضيقة التي كانت تقوم على نتف مذهبية، أو نتف تاريخية، أو نتف عرقية، وهذا الإحياء لم يكن نظريا وإنما كان إحياء عمليا، فهذا الجسد الذي تريد إحيائه محتلة أرضه، منهوبة موارده، وتحيط به أمراض حضارية كثيرة، فهذا إذن إحياء تحت صليل السيوف الممشوقة فوق رقابنا تحرس ما تراكم في وعاوئنا من تخلف حضاري.

وفي هذه الوريقات سوف أتذكر مع القارئ مجموعة من مواقف الأستاذ البنا في التربية الحضارية ومعظمها سمعتها ممن شاهدوا بأنفسهم، فأنا هنا أروي عن شهود.

ولن أعلق كثيرا على هذه المواقف حتى أتيح للقارئ حرية التأمل، واستخراج العبر.

1- تقوية النسيج القومي:

في أوائل التسعينات جاءني زوميل مهندس إلى اللجنة العلمية في نقابة المهندسين، وقدم لي شابا لا أعرفه: أقدم لك المهندس أخنوخ فانوس- رئيس المركز الثقافي الأمريكي بالقاهرة- فسألت الشاب على الفور: أنت ابن المجاهد العظيم لويس فانوس؟ فأجابني: نعم، المستشار السياسي للإمام الشهيد حسن البنا ، استغرب زميلنا الأول، حيث جاء ليعرفني بالرجل فوجدنا قد تعرفنا بظهر الغيب، وهنا حكيت لهم قصة أعرفها عن البنا وفانوس.

القصة رواها لي الأستاذ عبد الحليم أبو شقة الناشر الشهير، كان ذلك في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي عندما تقدم شابان مسيحيان يعيشان في طنطا للانضمام لشعبة الإخوان المسلمين هناك.

وهنا انقسم الإخوان إلى رأيين، رأي يرى أنه لا مانع من ذلك، ورأي يعارض هذا الانضمام، أرسلوا رسالة للإمام البنا يطلبون منه الرأي، مضى شهر أو أكثر، ولم يصل الرد، ولكن فاجأهم الأستاذ البنا عندما دعوه في المولد النبوي أن حضر وأحضر معه صديقه ومستشاره السياسي الأستاذ لويس فانوس، وتحدث يومها في الحفل الأستاذ لويس من روح مصرية تؤمن بأن مصر تملك حضارة عربية إسلامية تدعو المسلم والمسيحي أن يستمسك بها ويعيش في رحابها، ويعمل على رفعة بلده في ظلها، بعد الحفل اجتمع الإخوان بمرشدهم وسألوه الرأي في المشكلة القديمة، فقال له: إنه أرسل الرد بالموافقة من قبل، ولكن يبدو أن الرد وقع في أيدي المعارضين فخافوا أن يكون في الأمر لبس فانتظروا، والأستاذ البنا لم يكن له مستشار مسيحي واحد، وإنما كانت له مجموعة من القيادات المسيحية يقدنه على اتخاذ المواقف الوطنية السديدة، ف البنا يريد أن ينهض بالوطن كله لا بجزء منه، وهو في حاجة إلى كل يد تبني معه، مع احترام عقائد الجميع.

2- التعاون التام مع كل القوى الوطنية في العمل الوطني المشترك:

يحضرني في هذا ما رواه الرئيس السادات في مذكراته (البحث عن الذات) عن رغبته في العمل مع شباب الإخوان المنخرطين في الإعداد السري لمقاومة الاحتلال الإنجليزي في مصر ، والعصابات الصهيونية في فلسطين، يذكر السادات أن الأستاذ البنا أرشده أن يذهب إلى عيادة طبيب في باب اللوق، ويدخل إلى الطبيب كمريض وهناك سيجد من يوجهه.

وفعل السادات ذلك، وفوجئ بالفريق عزيز باشا المصري في حجرة حيث ضمه معهم في فصائل المجاهدين، والتي ضمن فيما بعد أسماء لامعة مثل: عبد المنعم عبد الرئوف ، وجمال عبد الناصر وغيرهما. كان الأستاذ البنا يسعى إلى تحرير وطنه من الاحتلال الإنجليزي، وكان يرى تدفق اليهود في هجرات جماعية إلى فلسطين، من أجل ذلك سعى عند كل القوى الوطنية في مصر والعالم العربي من أجل جمع الجهود وتنظيم القوى لمواجهة هذا الخطر في بلاد العرب والمسلمين ، وكان يرحمه الله على صلة بكل الزعماء الوطنيين في العالم العربي والإسلامي.

يحكي الدكتور توفيق الشاوي في مذكراته الذاتية أن بعثته الدراسية كانت في الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد أن استعد للبعثة ذهب يزور أستاذه البنا ، وأخبره بشأن ابتعاثه، فاقترح عليه الأستاذ البنا أن يغير اتجاه البعثة من أمريكا إلى فرنسا، وأخبره أننا نحتاجك في فرنسا لمساعدة مجتمعات المجاهدين هناك، والذين يحاولون أن ينظموا أنفسهم، ثم طلب منه بعد ذلك أن يلتقي هناك بالمجاهد الكبير شكيب أرسلان، وكان هذا ما تم وذهب الشاوي إلى فرنسا، وقام بدور متميز في الإعداد لتحرير الشمال الإفريقي.

وعندما عاد الشاوي إلى مصر ودخل السجن عام 54 لم يخرجه من السجن إلا رجاء الإخوة المجاهدين الجزائريين والمغاربة إلى الرئيس عبد الناصر بالإفراج عنه لحاجتهم الماسة إلى جهوده، وخرج الشاوي من السجن إلى المغرب، حيث ظل يكافح مع إخوانه، حتى تحررت الجزائر، وكان يسكن في بيت واحد مع بن بيلا، ومحمد خضير، وآخرين.

انظر إلى رؤية البنا وانفتاحه على كل القوى الوطنية في عالمنا العربي والإسلامي، وتوجيه تلميذه الشاوي لتغيير بعثته من أجل الإعداد والمساهمة في معارك التحرير، بل يحكي لي المستشار عثمان حسين- رئيس المحكمة الدستورية الأسبق- أن الأستاذ البنا أرسله هو وأخوين آخرين برسالة إلى رجل من الهند سيمر بمطار القاهرة، ولم يكن هذا الرجل إلا القائد محمد على جناح- مؤسس باكستان فيما بعد- والعجيب أنهم عندما التقوا بالرجل في المطار طلب منهم أن يحملوا إلى الأستاذ سلاما عطرا، ويبلغوه أنهم استفادوا كثيرا من نصائحه الغالية، متى وأين كان يلتقي البنا الشهيد بإخوانه من قادة الجهاد في الهند واندونيسيا وكافة أنحاء العالم الإسلامي وانظر كيف يربي تلاميذه على أن دار الإسلام دار لنا جميعا.

3- قيمة الوقت:

يروي أستاذنا فريد عبد الخالق أن الأستاذ البنا اصطحبه ومجموعة صغيرة من شباب الإخوان لزيارة بهي الدين بركات باشا في عوامته في النيل. ذهب الأستاذ قبل الموعد بنصف ساعة، وانتظر هو وأصحابه على الشاطئ، ولما بقي من الوقت خمس دقائق نزل وحده، وظل ينتظر حتى حان الوقت تماما، فدق جرس العوامة فخرج الباشا لاستقباله، ونظر إلى ساعته، وقال مستغربا شيخ ونضبط كل هذا الانضباط، استأذن الأستاذ أن يدخل معه أصحابه، فأذن الباشا وانتهزها الأستاذ فرصة ليتحدث عن قيمة الوقت في الإسلام، حتى أن الله أقسم به في آيات كثيرة من القرآن الكريم، كان هذا درسا عمليا ونظريا لتلاميذه ولمعالي الباشا، ثم أضاف الأستاذ درسا آخر لتلاميذه ولصاحب الدار عندما عرض عليهم الباشا أن يقدم لهم طعام الغداء.

قال الأستاذ الإمام : إننا صائمون، وإنه لصيام تطوع، فإن كان يسعدك أن نفطر فإن الإسلام يعطينا رخصة الإفطار من أجل إدخال السعادة على المضيف. سأل الباشا في استغراب وإعجاب: هل يقول الإسلام ذلك.

وهكذا استطاع الأستاذ الإمام أن يعلم تلاميذه ومضيفه الباشا بطريقة عملية درسين في منتهى الأهمية الحضارية: قيمة الوقت، وقيمة إفشاء المودة والسعادة بين الناس.

4- التدرج في دعوة الناس:

في إحدى زياراته للصعيد اقترح أحد إخوان الصعيد (الأخ حسين عبد الرازق، وهو الأخ الأصغر للشيخ مصطفى عبد الرازق) أن يزور الأستاذ المرشد أحد الباشوات في المنطقة، واسمه لملوم باشا.

استأذنوه في الزيارة فأذن، وذهبوا في الموعد المحدد، وانتظروا بالقصر قرب الساعة، وهنا نزل الباشا إليهم يرفل في روب الحرير وتنبعث منه روائح العطور الفاخرة، وبدأ الأستاذ البنا بالحديث عن عائلة لملوم ومكانتها في المجتمع،وأنها أعطتنا كثيرا من العلماء النجباء، وأثنى ثناء طيبا على الخير الذي تقدمه لملوم لمجتمعها، كان الباشا يستمع إلى الشيخ سعيدا ومنقشبا.

ولما انتهى الشيخ من حديثه التفت إليه لملوم باشا قائلا: إنني أحب أن أصلي ولكن أشعر بضيق من هذا الوضوء الذي يسبق الصلاة، لقد انتظروني حتى نزلت، وكنت أثناء ذلك في حمامي الخاص الصباحي، فأنا أستحم كرتين في اليوم: مرة في الصباح ومرة في المساء،فما ضرورة أن أتوضأ ما دمت نظيفا؟

فقال له الأستاذ المرشد : لا تثريب عليك أن تصلي على هذا الحال، ولا تشغل نفسك بالوضوء، فزع الإخوان الذين كانوا في صحبة الأستاذ من هذا الرأي العجيب ( ومنهم الأستاذ فريد عبد الخالق راوي الحادثة) ولكن الأستاذ أشار إشارة ألا يخوضوا في الأمر ، وانتظروا على مضض حتى خرجوا.

وصاح الأستاذ فريد: ما هذا يا فضيلة المرشد، صلاة بغير وضوءا.

قال له الأستاذ: يا فريد هذه ليست فتوى هذا علاج مؤقت.

يقول الأستاذ فريد: وبعد شهر من هذا اللقاء وصل الأستاذ حسين عبد الرازق للقاهرة، واجتمعنا حوله، فسأله: ما أخبار الباشا لملوم؟ قال : ما شاء الله أصبح يتوضأ لكل صلاة ويسبغ الوضوء، ويقيم معظم صلواته في المسجد القريب من قصره، لقد تغير الباشا تماما، وأصبح إنسانا غير الذي كنا نعرف، وهو دائما يذكر زيارة الأستاذ البنا له، ويثني عليه كثيرا. انظر- رحمك الله- إلى هذا الداعية الموفق عندما يقول: هذه ليست فتوى، وإنما هو علاج، والعلاج يحتاج إلى طبيب حاذق، ولا يحتاج إلى متحذلق يحمل فوق ظهره أسفارا.

5- لين الجانب والتبسط الراشد:

في الأربعينيات كان الأستاذ فؤاد الخطيب يدرس في الجامعة في القاهرة، وكان أبوه يعمل سفيرا للسعودية في مصر . تعلق الأستاذ البنا وأصبح من الناشطين في الجامعة، وأراد الأستاذ فؤاد أن لا يحرم من هذا الخير زملاءه من الطلبة السعوديين، فدعاهم يوما للغداء، ودعا الأستاذ البنا معهم، وقبل أن يصل الأستاذ البنا ظل هؤلاء الطلاب يمزحون مع فؤاد حول شيخه القادم، ويطلقون النكات على المشايخ عموما، ومنهم شيخنا البنا ، ويبدو أنهم لن يكونوا قد رأوه من قبل فتصوره شيخا كبيرا، وعلى رأسه عمامة ضخمة، وتحيط به جبة واسعة، وقفطان مزكرش.

ثم بدا لفؤاد أن ينزل لشراء بعض الأغراض، وللمصادفة يصل الأستاذ ابنا في غياب فؤاد ، وكان يلبس بنطلونا وقميصا ، وتبدو عليه الفتوة والنشاط، فلم يظنوا للحظة واحدة أن هذا الرجل هو الشيخ الذي ينتظرونه، واستمروا يمطرون المشايخ بوابل من النكات المضحكة، والشيخ يضحك معهم ويشاركهم في مزاحهم، وبينما هم كذلك إذ وصل فؤاد، وقال: أستاذنا فضيلة المرشد.

فصمت الضاحكون فجأة، وقالوا في صوت واحد: الأستاذ البنا .. معذرة يا أستاذ تصورناك غير ذلك، ولكن الأستاذ طمأنهم بكلام جميل عن فوائد الفكاهة البريئة، وأن الضحك ليس جريمة. المهم خرج من الموقف بسلاسة حضارية غريبة، ثم بدأ بعد ذلك طريقه إلى قلوبهم وعقولهم ليحملوا معه هم العمل الحضاري عندما يعودون إلى بلادهم. يقول الأستاذ فؤاد الخطيب (عليه رحمة الله): إن هذه المجموعة أصبحت فيما بعد أعمدة بناء الدولة الحديثة في السعودية ، بما فيهم الأستاذ فؤاد الذي تعرفت عليه بعد أن أصبح سفيرا لبلاده في بلدان كثيرة.

الملاحظة هنا أنه بدأ من مواقع الناس، وبمهارة فائقة قادهم إلى الهم العام وحملهم مسئولياته، سواء انضموا على تنظيمه، أو عملوا موازيين لهذا التنظيم.

وتحضرني في نفس الاتجاه قصة رواها الدكتور سعيد رمضان في إحدى خواطره في مجلة "المسلمون" يقول الدكتور سعيد: إن الأستاذ البنا ذهب في رحلة دعوية إلى قرية العزيزية بالشرقية، وكان القوم يحتفلون بذكرى القطب الصوفي الكبير الحسن الشاذلي، ودعوه للمشاركة، وفي كلمته ظل يتحدث عن الإمام الشاذلي ويردد أذكاره وأوراده حتى وصل إلى دعاء الشاذلي الذي يقول :" اللهم ارزقنا الموتة المطهرة".

وهنا سأل الأستاذ البنا سامعيه: أتدرون ما الموتة المطهرة؟ ثم صمت دقيقة، والناس معلقة أبصارهم صاغية قلوبهم إلى إجابة البنا ، ومن هنا بدأ يصوغ قلوبهم في طريق دعوته، وظل يحدثهم عن الموتة المطهرة دفاعا عن العرض والمال والمقدسات، وقتالا في سبيل الله.. وخرج بهم من الآفاق الضيقة التي كانوا يعيشون فيها إلى آفاق حضارية متعددة، يقول الدكتور سعيد( عليه رحمة الله): وما غادر البنا العزيزية حتى بايعته عن بكرة أبيها.

مرة أخرى تتجلى عبقرية البنا في الخروج بالناس من مواقعهم إلى مواقع المسئولية الحضارية ببساطة مذهلة.. رحم الله الأستاذ الإمام.

6- الرفق بالعاملين معه لتكثير خيرهم:

كنت أنا صبي أصطحب الدعاة الزائرين لقريتنا لزيارة قرى أخرى لا نصل إليها إلا مشيا، أو ركوبا للدواب، وكان حظى أن أصطحب دعاة لا أنسى أثرهم في حياتي بما ألقوا في قلبي من المواعظ وفي عقلي من الذكر.

وكان من هؤلاء الشيخ عبد اللطيف الشعشاعي (عليه رحمة الله)ى وكان الشيخ ضريرا، ويحتاج إلى صحبة ترافقه في تنقلاته البعيدة، وفي إحدى هذه التنقلات سألته أن يحكي لي عن الإمام البنا ، وتجلياته الروحية والحضارية.

قال ( يرحمه الله): أرسلني الأستاذ البنا أنا والأخ أحمد السكري في مهمة إلى الإسكندرية ، كان الأستاذ السكري يحب رغد العيش، فلا يركب إلا الدرجة الأولى، وكنت أركب أنا الدرجة العادية. المهم أن الأستاذ البنا أوصاني بأخي محمد وأعطاني مبلغا من المال، وقال لي: إذا طلب منك أخوك السكري مالا فأعطه ولا تجادله، وبينما نحن في رحلتنا إلى الإسكندرية، وأنا في الدرجة العادية أبصرت (وهو الضرير) كأن الأخ السكري مقبل علي من الرجة الأولى، وهو يتخطى القفف والغلقان التي تمتلئ بهما العربة التي أركبها حتى وصل إلي ووضع يده فوق كتفي وسألني: عن كان معي نقود، لأن محفظته قد سرقت منه وليس معه أي نقود. دمعت عيناي وقلت له صدق البنا .. خذ يا سيدي هذا المبلغ الذي أعطاه لي الأستاذ مخافة أن نحتاج في الطريق.

أقول مع الشيخ الشعشاعي: من أخبر حسن البنا بهذا؟ وما هذا الرفق بأتباعه، لو كان غيره لقال: الذي يريد أن يزهو فليزه من جيبه وجيب أبيه، ولكنه البنا ، يرفق بالعاملين معه ويحملهم معه بتكويناتهم المختلفة، ويعينه ربه بكشاف رباني يراهم في ضعفهم فيقيل عثراتهم (رحم الله الأستاذ والإمام).

7- الجنود والمواقع:

في عام 1966م وكنت ما زلت في أمريكا جاءتنا الأنباء المفزعة بإعدام أستاذنا العظيم سيد قطبن وكنت أنا خطيب الجمعة في تجمع لطلاب جامعة ستانفرد بكاليفورنيا . كنت في ثورة أحرجت بعض المصريين الذين كانوا سيعودون في نفس العام لمصر ، فكانت هناك مشادة بيني وبين هؤلاء الإخوة بعد الصلاة. كان من بين المصلين الأخ الكريم الدكتور وهبى حمود الذي كان وكيلا لوزارة التخطيط، وجاء إلى جامعة ستانفرد في برنامج تقدمه ستانفرد في الإدارة العليا لمدة عام. وفي المساء اتصل بي الأخ الدكتور وهبى وسألني أن ألتقي معه في شقته، حيث كان يسكن مع الأخ الدكتور عبد الله عمر نصيف الذي كان يدرس لدرجة الماجستير في الجامعة، المهم التقينا وتحدث الأخ الدكتور وهبى وعيناه مغرورقتان بالدموع: إيه يا عم سيد لقد أبكيتني وغالبت البكاء حتى لا ينفضح أمري، ثم حكى: في النصف الثاني من الأربعينيات كنت أستعد للتخرج من الجامعة، وكنت عصبيا جدا، وكل يوم يذهب زملائي في الجامعة من الإخوان ويشتكون للأستاذ البنا ، محرم تشاجر اليوم مع الشيوعيين.. محرم تشاجر اليوم مع الوفديين.. كل يوم أورط إخواني في خناقة مع آخرين.

وفي إحدى هذه المرات انفرد بي الأستاذ البنا ، وقال لي: يا محرم اختفى من الحركة. قلت: تفصلني يا أستاذ؟ قال: لا ولكن أريد أن أضعك في عمل آخر. ثم قال لي: أنت ستتخرج هذا العام، ففي أي مجال تنوي العمل؟ قلت: في ميدان التدريس. فقال لي: أريدك أن تختفي في وزارة المعارف، حتى تصل إلى أعلى المناصب وتخدم دينك وأمتك في صمت.. وتعاهدنا على ذلك، وبدأت رحلتي في وزارة المعارف، ثم وزارة التربية والتعليم حتى وجدتني مديرا لمكتب الوزير كمال الدين حسين في الستينات.

ثم فوجئت برجل آخر كنت أعرف صلته القديمة بالأستاذ البنا ، وهو أيضا يعمل مستشارا للوزير.. إنه الأستاذ فريد الديب أبو حديد، وتصارحنا فإذا قصته مثل قصتي، ولم ينكشف أمرنا إلا عندما كتب الدكتور نظمي لوقا كتابه الشهير " محمد الرسالة والرسول" والذي يقول في آخر صفحة فيه:" لا خيرة في الأمر ما نطق هذا الرسول عن الهدى، لا خيرة في الأمر ما ضل هذا الرسول وما غدر، لا خيرة في الأمر ما صدق بشر إن لم يكن هذا الرسول بالصادق الأمين، فسلام عليه بما هدى، وسلام عليه في الخالدين"

المهم أننا قررنا هذا الكتاب على طلبة الإعدادية في مادة النصوص، وبدأت اعتراضات محلية وغير محلية، وانكشف أمر الجنديين، الذين لأرسلهما حسن البنا ليحفظا ل مصر نصوصها الدراسية في وقت تطاولت فيه الأيدي العلمانية.

المهم أنه في عز سطوة الشيوعيين والعلمانيين كانت المواد الدراسية في حفظ أمين بفضل هذين الجنديين العظيمين (رحمهما الله).

والدرس المستفاد أنه ينبغي أن لا يركب كل لجنود مركبة واحدة، أو دابة واحدة بقرنين كبيرين يسهل مسكها منهما.. إنما نكثر سواد الدواب، ونوزع الجنود في المواقع، ونسترهم بكل ستر متاح، والحمد لله رب العالمين.

حسن البنا والعلاقة غير الطائفية مع الأقباط

د. محمود مورو

قضية العلاقة بين المسلمين والأقباط في مصر ، واضحة لا شبهة فيها، يعرفها بالضرورة كل مسلم وكل قبطي، وهي علاقة الانتماء إلى الحضارة الإسلامية، المسلم ينتمي إلى الإسلام كدين وكثقافة وكحضارة وكوطن، والقبطي ينتمي أيضا إلى الإسلام كثقافة وكحضارة وكوطن.

وهذه الأرضية الصحيحة للالتقاء- حقيقة تاريخية- تؤكدها العقائد والمصالح، وليس غريبا أن يعبر رجل مثل مكرم عبيد عن هذا المعنى بقوله )إنني مسلم وطنا، مسيحي دينا).

ومكرم عبيد هنا لا يطلق تعبيرا عاطفيا، بل هو يؤكد ويعكس وجدل كل قبطي عاش ويعيش وسيعيش – بإذن الله تعالى- على أرض الطاهرة، نعم مكرم عبيد هنا يعكس التراث القبطي، والالتزام القبطي، والموقف القبطي الصحيح.

والحقيقة أن قضية العلاقة بين المسلمين والأقباط في مصر علاقة محسومة، وتعكس وحدة النسيج الوطني الذي يشكله المسلم والقبطي معا، وليس هناك الآن- ولم يكن هناك بالأمس، ولن يكون هناك في الغد بإذن الله تعالى- مشكلة بين المسلمين والأقباط.

ولكن الحقيقة أن المشكلة هي بالتحديد بين من يتمسكون بالانتماء إلى الوطن والحضارة والثقافة الوطنية، ويرفضون علاقات التبعية للغرب سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وبين هؤلاء الذين يريدون لأمتنا أن تخضع، أو تذوب أو تلحق بذيل الحضارة الغربية.

هؤلاء بالتحديد هم الذين يثيرون من وقت لآخر قضايا الفتنة الطائفية، أو يحاولون زراعة الفتنة- أو يستخدمون قضية الأقباط كقفاز يلقونه في وجه الأمة بهدف تمزيق وحدتها، أو قطع صلاتها بأصولها التاريخية، وهؤلاء مرفوضون من المسلمين والأقباط على حد سواء.

نعم المشكلة ليست بين المسلمين والأقباط- فهؤلاء نسيج وطني واحد ينتمي جملة وتفصيلا على الحضارة الإسلامية ، ويعضون عليها بالنواجذ، ويؤمنون إيمانا راسخا بأن بناء المستقبل لن يكون إلا من خلال قيم تلك الحضارة- ولكنها بين المسلمين والأقباط من ناحية، وبين دعاة التغريب والثقافة الغربية من ناحية أخرى.

وهكذا ليس عجيبا أن تجد أن المطالبين مثلا بالشريعة الإسلامية هم من المسلمين والأقباط على حد السواء.

أما أعداء الشريعة الإسلامية فهم الخارجون على الإسلام والقبطية أيضا على حد سواء.

وهذا الكلام ليس كلاما عاطفيا، بل هو ترجمة أمينة لبحث أجراه المركز القومي للأبحاث الجنائية والاجتماعية بالقاهرة سنة 1985 م تحت إشراف الدكتور أحمد المجدوب- وظهرت نتائجه لتؤكد أن أكثر من 72% من الأقباط يريدون تطبيق الشريعة الإسلامية، بل وبعضهم شديد الحماس لها.

والحقيقة أن عقائد الإسلام، وتراث الحركة الإسلامية ومواقفها- وكذلك عقائد الكنيسة القبطية وتراثها ومواقفها، تؤكد حقيقة الانتماء إلى الحضارة الإسلامية.

وأن هؤلاء الذين يحاولون استغلال موضوع العلاقة بين المسلمين والأقباط في مصر ما هم إلا صنائع الاستعمار، ومن المعروفين بصلاتهم المشبوهة بدوائر الصهيونية و أمريكا وغيرهما.

وهؤلاء يعادون كل ما هو وطني، سواء كان إسلاميا أو قبطيا- وليس اهتمامهم بما يسمى بحقوق الأقليات إلا محاولة خبيثة للعب بقضية خطيرة مثل هذه – بهدف إثارة الشقاق أو دفع الأقباط إلى العزلة، أو وضع الحركة الإسلامية المناهضة للاستعمار والصهيونية في خندق الدفاع وإثارة الشبهات حولها.

وما دام الأمر كذلك- فإن المسلمين والأقباط معا مدعوون إلى مزيد من التحالف والتلاحم لدرء هذه الفتنة، وعزل تلك العناصر المتغربة والمشبوهة والارتباطات، والطرفان أيضا مدعوان للحوار وعدم الاستماع إلى أراجيف تلك الزمرة المشبوهة، ومدعوان على فهم بعضهم بعضا، حتى يظل النسيج الوطني سليما غير قابل للاختراق.

انظر مثلا على هؤلاء الذين يرفعون راية الدفاع عن حقوق الأقباط، لا تجد منهم أحدا متهما في وطنيته، أو دينه، أو حوله عشرات علامات الاستفهام حول ارتباطاته.

والمسألة إذن هي مسألة فرز حضاري لا طائفي، ومن كان منحازا إلى المشروع الوطني فهو على الموقف الصحيح ، سواء كان مسلما أو قبطيا، ومن كان منحازا على المشروع الحضاري الغربي، فهو إما خائن أو جاهل، سواء كان مسلما أو مسيحيا، وفي هذا الإطار فإننا لا نملك إلا وضع الحقائق والوثائق بلا حساسية، لأننا إن تصرفنا بحساسية تجاه مسيحي مثلا، وأعفيناه من الفرز الحضاري، أو استثنيناه من النقد، لأنه قبطي لكان هذا سلوكا طائفيا، السلوك الحضاري يحتم علينا أن نعامل الجميع مسلمين وأقباطا ومسيحيين شرقيين عموما بنفس المعيار، ونكيل لهم المكيال لأن حضارتنا هي حضارة عدم ازدواج المعايير.

كان الإمام الشهيد يعكس هذا لفهم فكرا وسلوكا، فبعد إصابة الحزب الوطني بالضعف في نهاية العشرينيات بسبب عوامل كثيرة حمل راية الكفاح الإسلامي جماعة الإخوان المسلمين بقيادة الإمام الشهيد حسن البنا .

وأكدت تلك الحركة بسبب إسلاميتها موقفا لا طائفيا تقليديا، وعبرت عن نفس المضمون الذي حملته الحركة الإسلامية دائما، وهو أن الأقباط ينتمون على الإسلام كثقافة وكحضارة وكوطن، وأنهم شركاء مع المسلمين في الكفاح ضد الحضارة الأوربية والثقافة الأوربية، وضد التدخل السياسي والعسكري والاقتصادي .

ولم يجد أيضا الأقباط غضاضة في تأييد تلك الحركة أو الدفاع عنها، يقول الإمام الشهيد حسن البنا  :" هذا الشعب – شعب وادي النيل كله في الشمال والجنوب- يدين بهذا الدين الحنيف، والأقلية غير المسلمة من أبناء هذا الوطن، تعلم تمام العلم كيف تجد الطمأنينة والأمن والعدالة والمساواة التامة في كل تعاليمه وأحكامه، ويعتبرون الإسلام معنى من معاني قوميتهم".

والإمام الشهيد هنا عبر بطريقة مباشرة كيف أنه وجماعة الإخوان يرون أن الإسلام معنى من معاني قومية الأقباط، أي أنهم ينتمون إلى الإسلام كثقافة وكحضارة وكوطن.

وفي رسالة الإمام الشهيد إلى الشباب يقول:" يخطئ من يظن أن الإخوان المسلمين دعاة تفريق عنصري بين طبقات الأمة، فنحن نعلم أن الإسلام عنى أدق العناية باحترام الرابطة الإنسانية العامة بين بني الإنسان- كما أنه جاء لخير الناس جميعا ورحمة من الله للعالمين، ودين هذه مهمته أبعد الأديان عن تفريق القلوب وإيغار الصدور، وقد حرم الإسلام الاعتداء حتى في حالات الغضب والخصومة، وأوصى بالبر والإحسان بين المواطنين، وإن اختلفت عقائدهم وأديانهم، وفي إنصاف الذميين، وحسن معاملتهم، فلهم ما لنا وعليهم وما علينا، نعلم كل هذا فلا ندعو إلى تفرقة عنصرية ولا إلى عصبة طائفية".

وفي رسالة (دعوتنا) قال الإمام الشهيد:" إن الإسلام لا يمزق الوحدة الوطنية بل يؤكدها، لأنه أكسب هذه الوحدة القداسة الدينية بعد أن كانت تستمد قوتها من نص مدني فقط".

وهكذا فقد عبر الإمام الشهيد عن فهمه العميق للإسلام، فهو يرى أن الإسلام دين غير طائفي- وأن الحركة الإسلامية ليست حركة طائفية، وأن الإسلام والحركة الإسلامية يؤكدان على الوحدة ويضيفان عليها القداسة الدينية.

ويقول الدكتور زكريا سليمان بيومي: " عن موقف الإخوان من الأقباط اتسم بالاعتدال، وإن البنا كان يرى أن الفتنة الطائفية تفيد المحتل، وإن البنا حرص على نفي تهمتي التعصب الديني، وإشاعة الفرقة بين أبناء الأمة الواحدة.

بل إن البنا كان يدرك " أن تطرف بعض الأقباط في مهاجمة الفكر الإسلامي لا يعبر عن رأي مجموع الأقباط في مصر ".

بل إن الأقباط من جهتهم كانوا يشجعون جماعة الإخوان ، ويدافعون عنها، اللهم إلا هؤلاء المرتبطين بالاستعمار الغربي أو العلمانيين، وهؤلاء كانوا يضمون المسلمين والأقباط أيضا، وكان مجمل الأقباط يؤيدون حركة الإخوان على أساس كفاحها ضد الاستعمار، وفي سبيل الحضارة الإسلامية، والثقافة الإسلامية، والوطن الإسلامي، وهي الحضارة والثقافة والوطن الذين ينتمي الأقباط إليهم.

ويحكي الإمام الشهيد حسن البنا أن أحد المسيحيين قدم عريضة يتهمه فيها بالتعصب ، إلا أن وفدا مسيحيا برئاسة راعي الكنيسة الأرثوذكسية بالإسماعيلية قد رد عنه هذه التهمة، وأعلن استنكاره لما حدث.

ويحكي الدكتور حسان حتحوت في كتابه العقد الفريد 1943- 1952 – دار الشروق، القاهرة، طبعة عام 2000 م ، أن الأستاذ لويس فانوس- عضو مجلس الشيوخ ومن زعماء الأقباط- كان يحضر بانتظام دروس الثلاثاء التي كان يلقيها حسن البنا ، وعندما نقل الإمام الشهيد إلى قنا بالصعيد في إطار المضايقة الحكومية له كمدرس بوزارة المعارف في ذلك الوقت، وكان يلقي دروسا بالمساجد في قنا، كان قساوسة الكنائس يحضرون دروسه، وهذا يدل على أن الرجل لم يكن يعكس وجدانا طائفيا، ولا يسلك سلوكا طائفيا، وعندما ألف الإخوان لجنة استشارية كان من أعضائها الأستاذ وهيب دوس من كبار المحامين الأقباط، وعندما رشح الأستاذ البنا وبعض الإخوان أنفسهم في الانتخابات البرلمانية، كان بعض وكلائهم في اللجان الانتخابية من الأقباط.

بل إن الأستاذ حسان حتحوت يحكي أنه فهم من الإمام الشهيد أن أحكام الجزية غير واردة على الأقباط، طالما كانوا يؤدون الخدمة العسكرية، وأن أبا عبيدة رد على أهل حمص جزيتهم عندما قرر الجيش المسلم الانسحاب منها، فلم يعودوا مدينين بثمن الحماية العسكرية.

ويحكي الدكتور سيد دسوقي نقلا عن الأستاذ " عبد الحليم أبو شقة" أن الإمام الشهيد كتب موافقا على انضمام شابين مسيحيين إلى شعبة الإخوان المسلمين بطنطا في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، وأنه كان له عدد من المستشارين المسيحيين منهم الأستاذ لويس فانوس، وقد امتدت آثار البنا في هذا الصدد إلى ما بعده.

ففي إطار برنامج النقاط العشر للتحالف، والمنشور في صحيفة (الشعب) الناطقة بلسان التحالف نجد التأكيد على الوحدة الوطنية، واعتبار الأقباط جزءا لا يتجزأ من الحضارة الإسلامية والثقافية الإسلامية.

وفي إطار قوائم الترشيح للانتخابات نجد أن عددا من الأقباط قد تصور قوائم انتخابات 1987م على قوائم التحالف الإسلامي، بل كانوا على رأس هذه القوائم مثل الأستاذ (جمال أسعد).

وفي إطار المواقف والتصريحات والآراء المعلنة للإخوان والعمل، نجد أن الإخوان عبروا عن الرأي التقليدي للحركة الإسلامية في أن الأقباط يشاركون المسلمين في الانتماء للحضارة الإسلامية، والوطن الإسلامي، والثقافة الإسلامية، وأن الإخوان يدعمون ويؤكدون ويحرصون على هذا الانتماء.

ففي افتتاحية مجلة (لواء الإسلام) عدد رمضان الموافق أبريل 1990 م كتب حامد أبو النصر- المرشد العام للإخوان المسلمين- (رحمه الله) قائلا:

"على مدى قرون تعرضت مصر لأكثر من محنة وأكثر من فتنة، ووقف أبناؤها أقباطا ومسلمين جميعا صفا واحدا، وفي خندق واحد يواجهون الأعداء. فخلال الزحف الصليبي، والزحف التتري، والزحف الفرنسي، والحملة الإنجليزية، والاحتلال البريطاني كان المسلمون والأقباط يكافحون كل ذلك، ويؤكدون على دورهم الحضاري الأصيل".

ويضيف الأستاذ حامد أبو النصر (رحمه الله):" إنه طوال انشغالنا بالعمل الإسلامي من خلال الإخوان المسلمين - وجدنا أن جماعة الإخوان من خلال فهمها الدقيق للإسلام تجمع ولا تفرق، وتؤكد على الود والحب بين الأقباط والمسلمين"

وفي تعليق المجلة على أحداث الفتنة الطائفية أشارت إلى الأصابع الصهيونية التي تريد زرع الفتنة الطائفية، وأن مسلسل الأحداث يؤكد أن مصر في ظل التطبيع مع اليهود تتعرض لأساليب جديدة، وأساليب دنيئة في الهدم والتخريب".

وفي إبان أحداث المنيا وأبي قرقاص أصدر الإخوان المسلمون بيانا نددوا فيه بالفتنة الطائفية، واتهموا الأصابع الصهيونية بأنها وراءها، وأهاب البيان بأبناء الأمة أن يعضوا بالنواجذ على وحدتهم الوطنية، وأن يتحد المسلمون والأقباط في خندق واحد في وجه أعداء الوطن".

كان حسن البنا وكان الإخوان المسلمون ينطلقون في ذلك من أن الإسلام دين غير طائفي، وأن الحركة الإسلامية حركة غير طافية.

الإسلام دين غير طائفي

يحلو للمثقفين المتغربين دائما، أن يتحدثوا عن الطائفية، والحكم الديني، والثيوقراطي وغيرها من المصطلحات، كلما ظهر الحديث عن المشروع الإسلامي لبناء المجتمع، أو استلهام الإسلام في العملية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ويصل الفجور بهؤلاء أن يتحدثوا عن الطائفية- كلما ظهرت الدعوة إلى قيام حزب إسلامي، ويملأون الدنيا ضجيجا، مطالبين بعدم قيام أحزاب على أسس دينية.

وهؤلاء يتعمدون الخطأ مرتين:

أولا: لأنهم ينظرون على الإسلام بمنظور غربي، ووفقا للتراث الفكري للغرب، ويريدون أن يطبقوا تلك المفاهيم على ا فسلام والمسلمين، مع أن الفارق التاريخي والموضوعي والاجتماعي مختلف تماما بمقدار الاختلاف بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية.

وثاني الخطأين: أن الغرب ذاته يترك حرية قيام الأحزاب على أسس دينية ، ولا يمنعها، وهناك الكثير من الأحزاب المسيحية في دول أوربا و أمريكا ، بل وفي دول آسيوية كالهند.

ولا ندري لماذا يؤمن هؤلاء بكل قيم الغرب، حتى إذا جاءوا على مسألة الأحزاب الدينية تخلوا عن قيمهم تلك فجأة في هذا الصدد وحده؟

ولو أنهم تخلوا عن قيم الغرب كلها مع هذه المسألة لحمدنا لهم هذا المسلك، وإذا لأراحوا واستراحوا، ولكنه العداء للحضارة الإسلامية، ونمط الحكم الإسلامي، لا أكثر ولا أقل.

والحقيقة أن قيام أحزاب على أسس إسلامية أمر مطلوب ومشروع على كل مستوى، فكما رأينا وحتى بمقياس هؤلاء ، ووفقا لقيمهم المستمدة من الحضارة الغربية، فإن قيام تلك الأحزاب أمر وارد.

وحتى على مستوى فهمهم المتناقض، فإنه أيضا لا حجة لديهم في هذا المنع، فلو كان الخوف من قيام أحزاب إسلامية هو خوف من الطائفية، لكن هذا أمرا عجيبا يدل على مدى جهلهم بالإسلام، فمن قال لكم: إن الإسلام دين طائفي، ومن قال لكم: إن الحركة الإسلامية أو الحزب الإسلامية حزب طائفي.

ولو كان خوفهم من هذا الأمر هو الخوف من إثارة حساسية المسيحيين، أو غيرهم في مصر لكان هذا أمرا أعجب.

فالواقع أن الأقباط بالتحديد ينتمون على الحضارة الإسلامية والثقافة الإسلامية، وبالتالي فالحزب الإسلامي هو حزب للمسلمين والمسيحيين وغيرهم على حد سواء.

بل أكثر من هذا، فمن الممكن قيام حزب يدافع عن انتماء مصر الإسلامي، ويدافع عن الشريعة الإسلامية ويدعو إلى الحضارة الإسلامية، ويكون كل أعضائه من الأقباط.

على أي حال ، فلنتكلم في البديهيات ولا حول ولا قوة إلا بالله، ومن تلك البديهيات أن الإسلام دين غير طائفي، بل هو دين عالمي، جاء لكل البشر، وليس خاصا بقوم أو مجموعة تاريخية أو جغرافية، أو قومية، أو جنسية ، أو عرقية، بل هو يدعو إلى إلغاء الفروق بين البشر، " إن أكرمكم عند الله أتقاكم" (الحجرات: 13)، وهو يرفض التمييز العنصري والقومي والجنسي، ويحرم ذلك تحريما.

والإسلام أساسا دعوة لحرية الاختيار " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" (البقرة: 256).

وهو يرفض إكراه الناس حتى على الإسلام، بل ولا يقبل الله تعالى إيمانا قائما على الإكراه.

والأمة الإسلامية ليست ملزمة بإكراه الآخرين على الحق، بل هي منهية عن ذلك، فالإسلام هو الدين الحق الذي نزل به آدم، ونوح، وإبراهيم، وعيسى، وموسى، ومحمد عليه السلام، بل ونزل به كل الرسل والأنبياء.

والإسلام يضع للإنسان تصورا غير طائفي بالمرة، فالإنسان مستخلف في هذا الكون، وهذا الكون مسخر للإنسان.

والله تعالى قد أخذ على الإنسان ميثاقا قبل أن يبعثه في الأرض، وهو ميثاق الذراري" وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين" (الأعراف: 172)، إذن فمعرفة الله تعالى والإيمان به مركوزة في فطرة الإنسان، وفي وعيه قبل أن ينزل إلى الأرض.

والله تعالى قد خلق الكون وصممه، وبث فيه من الآيات والحكمة ما يقود الإنسان إلى معرفة الله والتسليم بقدرته وجلاله.

وأعطى الله تعالى للإنسان عقلا وجعله سميعا بصيرا، ليستطيع بهذا العقل أن يهتدي إلى وجود الله ويؤمن بقدرته وجلاله.

إذن فمعرفة الله تعالى، والإيمان بوجوده ، وقدرته وجلاله أمر سهل وميسور وبديهي، ولا يحتاج إلى عناء، فالفطرة تقوم إليه، والكون والعقل أيضا.

ولكن الشيطان وأتباعه يفعلون كل شيء لمنع هذا الإيمان، وليس أمامهم إلا وسائل القمع والظلم والتحريف لأداء تلك المهمة.

القوى الشيطانية تدرك أن الفطرة والكون والعقل يقودون إلى معرفة الله والإيمان به وبقدرته وجلاله، أي يقودون إلى الإسلام، عن طريق مجرد التفكير البسيط أو الوجدان البسيط.

إذن فلابد من منع حرية التفكير والشوشرة عل الفطرة والوجدان، لابد من استبداد سياسي، لابد من منع حرية التفكير والتدبر، وحرية المناقشة والحوار، ولابد من استخدام وسائل الإعلام لتلقين الناس قيما وحقائق مزيفة، ومن يجرؤ على الخروج عن هذا فالسجن أو الشنق في انتظاره.

إذن فمهمة الرسل ( عليهم السلام) والعلماء والدعاة، وكل مسلم ليس لإقناع الناس بالإسلام أو إكراههم عليه، ولكن مهمتهم هي رفع الحجر الفكري، والقمع، والاستبداد، وتحقيق الحرية، فإذا ما تحققت الحرية فإن الناس يصلون إلى الإسلام بمنتهى البساطة، عن طريق الفطرة والكون والعقل.

الإسلام إذن في جوهره ثورة من أجل الحرية، ثورة على الاستبداد السياسي والفكري.

ففرعون وأبو جهل وغيرهما يقولون " ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد" (غافر: 29).

ومحمد (عليه السلام) وغيره من الرسل يقولون " أفلا تعقلون" ن " أفلا تتدبرون" ، " أفلا تتفكرون"، " إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب" (آل عمران: 190).

فرعون يقمع الناي على رأيه وفكره، ومحمد صلى الله عليه وسلم يدعو على التدبر والعقل والتفكر.

مهمة القوى الشيطانية أن تخلق أوضاعا اقتصادية وطبقية لا تدع للناس حرية أو وقتا للتفكير، فهناك، مستكبرون ومستضعفون، هناك مترفون ومحرومون، لتظل الثروة والسلطة فيد يد القوى الشيطانية.

ويظل المحرومون والمستضعفون أسرى الحرمان، والجري وراء لقمة العيش واستجدائها ن المستكبرين، بما يترتب على ذلك من تبعية فكرية لهم، وبما يترتب عليه من حرمان من الصحة والتعليم، وتلبية الحاجات الضرورية اللازمة للتفكير السليم، وللجسم السليم وللعقل السليم.

ومهمة الرسل والعلماء، وكل مسلم، أن يتصدوا لرفع الظلم الاقتصادي والاجتماعي والطبقي، ويعطوا كل إنسان حقه في حياة كريمة، تحقق له الأمان والصحة الجسدية والعقلية والنفسية.

فإذا ما تحقق مجتمع العدالة، ووجد الناس حاجاتهم الطبيعية، اهتدوا إلى الإسلام ببساطة لأنه دين الفطرة والعقل، فالإسلام هنا ثورة على الظلم الطبقي والاجتماعي والاقتصادي.

القوى الشيطانية تعمل على نشر الجهل والخرافات والأفكار المنحرفة مثل : الدعوات القومية والعرقية والجنسية، والتعصب للقبلية أو للوطن أو للقومية، أو تفوق جنس على جنس، أو عرق على عرق، أو لون على لون.

أما الأنبياء والعلماء وكل مسلم، فهم يدعون إلى عالمية رحبة، وأخوة شاملة ويرفضون كل هذه الأفكار الضيقة والظالمة، والإسلام يدعو على العلم والنور.

" إن أكرمكم عند الله أتقاكم" (الحجرات: 13)، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى أي بالعمل الصالح النافع المفيد. " كلكم لآدم وآدم من تراب".

والقوى الشيطانية تستغل بعض رجال الدين المرتزقة لتزييف وتحريف المعاني.

وتدعو على التمسك بهذه الأشياء المحرفة بدعوى التمسك بتراث الأجداد" إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون"ي.

أما الأنبياء والعلماء وكل مسلم فهم يرفضون التقليد الأعمى " أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون" (البقرة: 170).

إذن فالإسلام في جوهره ثورة ضد الاستبداد والقمع، ثورة ضد الظلم الاقتصادي، ثورة ضد الأفكار الضيقة والمنحرفة، ثورة ضد حكم رجال الدين، أو تحالف رجال الدين مع السلطة الغاشمة، ثورة ضد التقليد الأعمي.

وهذا الإطار يجعل من الطبيعي واللازم أن ينخرط كل مستضعف، وكل مظلوم، وكل مقهور في النضال مع الإسلاميين بصرف النظر عن انتمائه الديني، ويجعل من الطبيعي أن ينخرط في هذا النضال كل من يؤمن بالحرية والعدالة، ويرفض الاستبداد والظلم والتمييز العنصري أو العرفي، كل من يدعو على العلم ويرفض الجهل والخرافات.

إذن ففي الإسلام متسع كبير جدا لغير المسلمين لأن ينخرطوا في النضال من خلال الأمة الإسلامية أو الحزب الإسلامي، والإسلام ذاته يفرض على المسلمين أن ينحازوا ويتحالفوا مع كل دعوة للعدل، أو كل فئة مظلومة، أو كل جماعة محرومة أو مضطهدة إذن أين الطائفية هنا ؟

إن هؤلاء الذين يتكلمون عن الطائفية لم يفهموا الإسلام، أو قل لا يريدون أن يعترفوا بالحقيقة، فما بالك إذا كان الأقباط في مصر ينتمون على الحضارة الإسلامية؟ إذن فهم لا يجدون غضاضة في الانخراط في جهاد وحركة الأمة الإسلامية أو الحركة الإسلامية، أو الحزب الإسلامي.

وقد حدث هذا دائما أثناء الحكم الإسلامي، وبعد سقوط الخلافة أيضا، وبالتحديد مع الأفغاني وعرابي ومصطفى كامل، ومحمد فريد، وأحمد حسين، والشهيد حسن البنا ، وفي إطار تحالف العمل مع الإخوان المسلمين وجدنا الأقباط على رءوس قوائم هذا التحالف، وسوف نفصل كل هذا في فصول تالية بإذن الله تعالى.

التراث الإسلامي، فيما يخص الأقليات عموما والأقباط خصوصا تراث عظيم ورائع.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا الآخرة- ليس بيني وبينه نبي- والأنبياء أولاد علات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد".

وقد بشر الرسول الكريم ( عليه الصلاة والسلام) بفتح مصر ، وأوصى بقبطها خيرا حيث قال: " إنكم ستفتحون مصر ، وهي أرض يسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها، فحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحما".

والوثيقة التاريخية المهمة التي كتبها الرسول صلى الله عليه سلم لأهالي نجران تشهد عدل الإسلام ورحمته، وقد جاء فيها " ولنجران وحاشيتها ذمة الله وذمة رسوله، على دمائهم، وأموالهم، وملتهم، وبيعهم، ورهبانهم، وأساقفهم، وشاهدهم، وغائبهم، وكل ما تملك أيديهم قليلا كان أو كثيرا، وعلى أن لا يغيروا أسقفا من سقيفاه، ولا واقها من واقيهاه، ولا راهبا من رهبانيته، وعلى ألا يحشروا ولا يعشروا، ولا يطأ أرضهم جيش، ومن سأل منهم حقا فلنصف بينهم بنجران على ألا يأكلوا الربا، فمن أكل الربا من ذي قبل فذمتي منه بريئة، وعليهم الجهد والنصح، فيما استقبلوا، غير مظلومين، ولا معنون عليهم، شهد بذلك عثمان بن عفان ومعبقب".

وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم سار أبو بكر الصديق رضي الله عنه على نفس المنهج، فكتب لأهل نجران كتابا حذا فيه حذو الرسول صلى الله عليه وسلم.

وفي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعطى عمر لأهل إيلياء في بيت المقدس كتابا جاء فيه " هذا ما أعطى عبد الله عمر- أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانا لأنفسهم، وأموالهم، وكنائسهم، وصلبانهم، سقيمها وبريئها، وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم، ولا تهدم، ولا ينتقص منها، ولا من خيرها، ولا من صليبهم، ولا شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن إيلياء معهم أحد من اليهود ، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطى أهل المدائن، وأن يخرجوا منها الروم واللصوص، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله، حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية ، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم، ويخلي بيعهم وصلبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم وبيعهم وصلبهم، حتى يبلغوا مأمنهم".

بل إن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه قام وصلى خارج الكنيسة على الدرجة التي على بابها عندما حانت الصلاة، وقال للبطريك : " لو صليت داخل الكنيسة لأخذها المسلمون من بعدي".

ويقول ساويرس بن المقفع " إن عمرو بن العاص عندما دخل مصر فاتحا كان بطريرك الأقباط مختفيا من وطأة الاستبداد البيزنطي، فكتب عمرو بن العاص إلى عمال مصر كتابا يقول فيه : " الموضع الذي فيه بنيامين بطريرك النصاري له العهد والأمان والسلامة من الله، فليحضر آمنا مطمئنا، ويدبر حال بيعته وسياسة طائفته". وتحكي المصادر التاريخية أنه في عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قام الوليد عبد الملك بهدم جزء من كنيسة يوحنا ليضيفه إلى المسجد الأموي بدمشق، فشكا إليه النصارى ذلك، وعرض المسلمون أن يدفعوا تعويضا للكنيسة، فأصدر عمر عبد العزيز رضي الله عنه قرارا بهدم جزء من هذا المسجد ورده إلى الكنيسة، وعندما تباطأ والي دمشق في التنفيذ أصدر عمر عبد العزيز قرارا جديدا حدد فيه اليوم والساعة التي يجب أن تتم فيها عملية الهدم والتسليم.

ولم يكن كل هذا إلا ترجمة أمينة لروح الإسلام، ووصايا الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول : ط من ظلم معاهدا أو ذميا فقد آذاني".

وإذا قارنا ذلك التسامح الإسلامي بتاريخ الاضطهاد الديني في أوربا نجد أن هناك فرقا شاسعا، فاضطهاد الديني علم على أوربا قديمها وحديثها، فالرومان اضطهدوا المسيحيين في بداية المسيحية أيما اضطهاد، بل وعندما دخلت الدولة الرومانية في المسيحية حولتها إلى مسيحية وثنية، ولم يتوقف الاضطهاد الديني، وانصب هذه المرة على المسيحيين المخالفين في المذهب لمذهب الدولة الرومانية، واشتدت عمليات القتل والتحريض للمسيحيين المخالفين للمذهب الرسمي للدولة الرومانية، حتى أنه في بلد مثل مصر سقط آلاف القتلى حرقا وتعذيبا وتنكيلا على يد السلطة الرومانية ، لدرجة أن التراث الكنسي المصري يسمى هذا العصر عصر الشهداء، وبعد ذلك تحولت الكنائس الأوربية إلى مؤسسات للقهر والنهب، ف مارس ت الاضطهاد للآخرين، ونهبت الأتباع تحت مسميات مختلفة مثل: صكوك الغفران، وتحالفت مع الأمراء، ودخلت في صراعات مستمرة داخل أوربا ، وظهرت محاكم الديانة المسيحية أنفسهم، ممن كانت لهم آراء علمية أو فلسفية، وعندما ظهر المذهب البروتستانتي تعرض أتباعه إلى عملية اضطهاد قاسية، فقتلوا وحرقوا على يد الكاثوليك، وعندما تمكن البروتستانت في بعض البلدان الأوربية قاموا بدورهم بتنظيم المذابح للكاثوليك.

وهكذا، بل وهناك حرب دينية استمرت عشرات السنين، وحتى في اليام الأخيرة وجدنا الاضطهاد الديني الأوربي على قدم وساق، فالفرنسيون اضطهدوا المسلمين في الجزائر، والصرب يذبحون اليوم المسلمين في البوسنة والهرسك، ويشاركهم في ذلك الكروات، ويبارك عملهم بالصمت أو بغيره المجمع الأوربي بأسره، وهكذا فالاضطهادات الدينية مميزة للحضارة الغربية في كل مراحلها.

يقول شكيب أرسلان في كتابه حاضر العالم الإسلامي:" إن أحد الوزراء العثمانيين كان مرة في أحد المجالس في جدال مع بعض رجال الدولة في أوربا فيما يتعلق بموضوع التعصب، فقال لهم الوزير العثماني: إننا – نحن المسلمين- من ترك وعرب وغيرهم مهما بلغ بنا التعصب في الدين فلا يصل بنا إلى درجة استئصال شأفة أعدائنا، ولو كنا قادرين على استئصالهم ـ ولقد مرت بنا قرون وأدوار كنا قادرين فيها على ألا نبقى بين أظهرنا إلا من أقر بالشهادتين، وأن نجعل بلداننا كلها صافية للإسلام، فما هجس في ضمائرنا خاطر كهذا الخاطر أصلا، وكان إذا خطر ببال أحد من ملوكنا، كما وقع للسلطان سليم الأول العثماني تقوم في وجهه الملة، ويحاجه مثل زنبيلي على أفندي سيخ الإسلام ويقول له بلا محاباة: ليس لك على النصارى واليهود إلا الجزية، وليس لك أن تزعجهم عن أوطانهم، فيرجع السلطان عن عزمه امتثالا للشرع الحنيف، فبقي بين أظهرنا حتى ابعد الفرق وأصغرها نصارى ويهود وصائبة وسامرة ومجوس، وكانوا كلهم وافدين لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين، أما أنتم معاشر الأوربيين فلم تطيقوا أن يبقى بين أظهركم مسلم واحد، واشترطتم عليه إذا بقي بينكم أن ينتصر، ولقد كان في أسبانيا ملايين وملايين من المسلمين، وكان في جنوب فرنسا، وفي شمال إيطاليا وجنوبها مئات الألوف منهم، ولبثوا في هذه الأوطان أعصرا مديدة، ولا تزالون تستأصلونهن، حتى لم يبق في هذه البلدان شخص واحد يدين بدين الإسلام، ولقد طفت ببلاد أسبانيا كلها فلم أعثر فيها على قبر واحد يعرف أنه قبر مسلم".

الحركة الإسلامية.. حركة غير طائفية

الحركة الإسلامية المعاصرة في مصر هي تلك الحركة التي تبنت خط الكفاح ضد الاستعمار الأوربي والنفوذ الأجنبي، والدفاع عن الثقافة والحضارة الإسلامية في مواجهة الغزو الفكري والسياسي والعسكري الأوربي الصليبي.

وترى الحركة الإسلامية المعاصرة أن أوربا بكل قواها السياسية ومذاهبها الاجتماعية تعكس روحا صليبية حاقدة على الأمة الإسلامية، والحضارة الإسلامية، والثقافة الإسلامية، وأن تلك الروح الصليبية تمتد لتشمل في حقدها وأهدافها القضاء على الكنائس الشرقية عامة، والكنيسة القبطية خاصة.

وبالتالي فإن الكفاح ضد الاستعمار يتضمن أساسا الدفاع عن الكنائس الشرقية وعن الكنيسة القبطية بالذات، هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى فإن الإسلام يحتم الدفاع عن المستضعفين، وأن الجهاد الإسلامي فيه متسع لانخراط غير المسلمين للكفاح ضد الاستبداد والقهر والاستعمار، أي ضد ما تمثله الحضارة الأوربية.

وهكذا لم يكن عجيبا أن تكون الحركة الإسلامية حركة غير طائفية، وأن تشمل تلك الحركة العديد من غير المسلمين في بلادنا، وتكون هذه الحركة الإسلامية المعاصرة هي الإطار الطبيعي لنضال الأقباط من داخلها في مواجهة الحضارة الأوربية الصليبية، ودفاعا عن الحضارة الإسلامية والثقافة الإسلامية على أساس انتماء مسيحيي الشرق عموما والأقباط خصوصا، إلى تلك الحضارة الإسلامية والثقافة الإسلامية.

وإذا كانت الحركة الإسلامية المعاصرة هي الأفغاني- النديم- الثورة العربية- الحزب الوطني (مصطفى كامل- محمد فريد- عبد العزيز جاويش- إبراهيم الورداني) والإخوان المسلمون ، و مصر الفتاة، فإننا سنتابع مواقف هذه الحركات من مسألة الأقباط وموقف الأقباط أيضا منها، لنعرف إلى أي مدى كان الأقباط يدركون أن هذه الحركات غير طائفية، وذلك لكونها إسلامية، وكيف أن الأقباط كانوا يرون أن الحركة الإسلامية هي القناة الطبيعية والإطار الطبيعي لنضالهم، على اعتبار أن الإسلام هو دين المسلمين، وهو ثقافتهم وحضارتهم ووطنهم، أنه بالنسبة للأقباط هو ثقافتهم وحضارتهم ووطنهم.

فالأفغاني مثلا هو رائد الحركة الإسلامية المعاصرة ومفجرها، وقد نفخ في البلاد روح الثورة والكفاح ضد النفوذ الأجنبي، وهاجم الاستبداد بكافة صوره، ودعا إلى الجامعة الإسلامية، ونهضة شعوب العالم الإسلامي ووحدتها، والأخذ بأسباب القوة والعلم.

وإذا كان الأفغاني والنديم هما زعيما حركة الثورة الإسلامية في مصر في عهد الخديوي عباس ، وفي مواجهة النفوذ الأجنبي والاختراق الأوربي لمصر ، وإذا كان جميع المؤرخين يصفون الزعيمين، بأنهما كانا إسلاميين في غاياتهما ووسائلهما ، فإن ذلك لم يمنع هذين الزعيمين من دعوة المسلمين إلى الانخراط في حركة الثورة الإسلامية، والمقاومة الإسلامية، والمقاومة الإسلامية للنفوذ الأجنبي، على أساس انتماء المسلمين وغير المسلمين في بلادنا إلى الحضارة الإسلامية والثقافة الإسلامية.

ولم تمنع إسلامية هذه الحركة من أن ينخرط فيها المسلم والمسيحي واليهود ي المصري في ذلك الوقت، بل انخرط هؤلاء في أتون الحركة لأنها إسلامية، وبالتالي فهي غير طائفية.

ولم يكن عجيبا أن نجد أن الكثير من الجمعيات السرية التي أنشأها كل من الأفغاني والنديم، كانت تضم المسلم والقبطي واليهود ي، على قاعدة الانتماء إلى ا لإسلام كثقافة وكحضارة وكوطن، بل ونجد أن الأفغاني قد اعتمد في إصدار الصحف وتحريرها على الكثير من العناصر غير المسلمة، وهذه ذات الصحف التي هاجمت النفوذ الأجنبي، واتهمت أوربا بالتعصب الصليبي ضد الإسلام.

إذن فقد كانت تلك الحركة الإسلامية لا تخجل من اتهام أوربا بالتعصب الصليبي، بل إن غير المسلمين في داخل تلك الحركة هم أنفسهم الذين كانوا يتهمون أوربا بذلك، لأنهم يفهمون أن التعصب الأوروبي الصليبي حقيقة ثابتة، وهو موجه إلى الحضارة الإسلامية التي ينتمون إليها، وهو خطر أيضا على كنائسهم الشرقية وخاصة الكنيسة القبطية.

والثورة العرابية التي كانت ثورة إسلامية في الوسائل والغايات، والتي كانت تستهدف التخلص من النفوذ الأجنبي الأوربي والاستبداد الخديوي، والتي استخدمت أسلوب التحريض الديني وحده في تعبئة الجماهير، لدرجة أ صلاح عيسى ينتقد النديم في هذا الصدد قائلا:" إنه أخطأ لأنه اعتمد في خطابه السياسي على الخطاب الديني وحده".

وليس هنا- بالطبع- مجال مناقشة خطأ صلاح عيسى في هذا الرأي، ما يعنينا منه هو اعترافه باقتصار دعاية الثورة على الخطاب الديني.

تلك الثورة التي كانت أوربا تخشى من نتائجها، لأنه يمكن أن تؤدي إلى ظهور قوة إسلامية شابة وصاعدة في المنطقة، وأنها ربما تؤدي إلى إعادة المجد الإسلامي، أو على الأقل تكون خطرا على المشروع الاستعماري الأوربي في المنطقة، لدرجة أن أوربا تناست تناقضاتها الثانوية ومصالحها في مصر ، وتركت مصر تقع في قبضة الإنجليز لينفردوا بالكعكة كلها، فهذا أفضل من وجهة نظرهم من ظهور قوة إسلامية شابة في مصر .

بل إن فرنسا ذاتها- صاحبة المصالح الواسعة في مصر في ذلك الوقت، والتي كانت في حالة سباق مع انجلترا للسيطرة على مصر - كانت تشجع انجلترا على غزو مصر لذبح الثورة الإسلامية العرابية، مضحية بمصالحها في مصر لصالح انجلترا، وهذا طبعا أفضل من ظهور قوة إسلامية صاعدة.

بل نجد أن وزير خارجية فرنسا يهنئ السفير الإنجليزي في باريس بنجاح الغزو قائلا:" إن نجاح العرابيين كان يعني خطرا على المستعمرات الفرنسية في المغرب العربي".

نعم برغم إسلامية الثورة وخطرها على النفوذ الصليبي الأوربي، أو قل بسبب ذلك قام الأقباط بتأييد الثورة، والانحياز إلى العرابيين، بل إن بطريرك الأقباط قد وقع على قرار المجلس العرفي بخلع الخديوي توفيق، وتثبيت عرابي، واستمرار القتال ضد الانجليز، بل وأعلن بطريرك الأقباط أن الإنجليز خرجوا على تعاليم المسيحية الحقة، التي تدعو إلى السلام وعدم الاعتداء.

وإذا أمعنا النظر في تلك المواقف، وجدنا أن الحركة الإسلامية المتمثلة في الأفغاني والنديم وعرابي ، كانت ترى أن الأقباط جزء لا يتجزأ من النضال الإسلامي ضد الغرب الصليبي، وأن الأقباط كانوا يرون أنهم ينتمون على الإسلام كثقافة وكحضارة وكوطن.

وبعد الاحتلال الإنجليزي لمصر سنة 1882، قامت الحركة الإسلامية الوطنية في مصر ، ممثلة في الحزب الوطني بالكفاح من أجل تحقيق الجلاء والدستور، فنادت الحركة بالجامعة الإسلامية، بل واعتبرت الجامعة الإسلامية، أي الدعوة إلى توحيد المسلمين من أهم مبادئ الحركة، بل ومن أهدافها الجوهرية.

وألف مصطفى كامل كتابا في المسألة الشرقية، أكد فيه أن أوربا متعصبة ضد الخلافة العثمانية الإسلامية، وأنها تسعى لهدمها، ودعا المسلمين إلى الوحدة والتضامن والدفاع عن الخلافة العثمانية.

ودعا مصطفى كامل إلى صبغ التعليم بالصبغة الدينية، كما دعا إلى تأييد تركيا في صراعها مع انجلترا في مسألة طابا، وأسس مصطفى كامل صحيفة العالم الإسلامي للاهتمام بقضايا العالم الإسلامي عموما.

كما دافع مصطفى كامل وصحافة الحزب الوطني عموما عن الأخلاق الإسلامية والسلوك الإسلامي، وخاض المعارك دفاعا عن الحجاب ضد السفور،كما خاضت صحافة الحزب المعارك لفضح م مارس ات وأساليب وأهداف بعثات التبشير.

واعتبر مصطفى كامل دائما أن أوربا تنظر إلى قضايا العالم الإسلامي بغير العين التي تنظر بها إلى قضايا الشعوب الأوربية الصغيرة.

وعلى نفس الخط سار محمد فريد، الذي ألف كتابا عن الدولة العلية العثمانية، واعتبر بقاءها ضرورة للجنس البشري، ودعا دائما إلى الحرص على أن تكون صلات مصر بالدولة العثمانية حسنة دائما، وأكد دائما على عدم السماح بالإيقاع بينهما.

وقام محمد فريد في المنفى بتشكيل جمعية (ترقي الإسلام) وأصدر مجلة (ترقي الإسلام) للاهتمام بأحوال العالم الإسلامي، كما اهتم الحزب الوطني بالاحتفال بالمناسبات الإسلامية مثل : عيد الهجرة وميلاد الرسول وغيرهما.

وكان هذه الإسلامية الواضحة في حركة الحزب الوطني، ومبادئه مدعاة لانخراط الأقباط في نضاله ضد الاستعمار والاستبداد، وفي سبيل الجامعة الإسلامية، لأن الأقباط ينتمون إلى نفس القاعدة الحضارية والثقافية التي ينتمي إليها الحزب الوطني، وهكذا وجدنا عددا من الأقباط في اللجنة الإدارية العليا للحزب الوطني مثل الأستاذ ويصا واصف، وسينوت حنا.

ولم ينجح الاستعمار في زرع الفتنة بين المسلمين والأقباط، بسبب إيمان الطرفين بالانتماء إلى الثقافة والحضارة الإسلامية، ورفضهما للاستعمار وللحضارة الأوربية، بل ونجح الحزب الوطني بفضل وعيه الإسلامي الفذ في إفشال المخطط الطائفي الاستعماري في سنة 1911م .

وكان عبد العزيز جاويش وإبراهيم الورداني من كبار شخصيات الحزب الوطني وقياداته، والمضطلعين بأعباء العمل السري والجماعات السرية للحزب الوطني، وقد دخل عبد العزيز جاويش السجن عدة مرات، وفي كل مرة كان المسلمون والأقباط يتبارون في التضامن معه والدفاع عنه.

وعيد العزيز جاويش ذاته الذي كان يعمل رئيسا لتحرير صحيفة "اللواء" هو الذي قاد الحملة الصحفية الضخمة ضد بعض الأقباط الذين استخدمهم الاستعمار لزرع الفتنة الطائفية في سنتي 1910، 1911، وهو الذي أكد دائما على إسلامية حركة الكفاح الوطني المصري، وهو ذاته الذي يقول:" إن الحركة الوطنية الإسلامية في مصر بقيادة محمد فريد قد ألفت بين الرجال والنساء والمسيحيين والمسلمين- والهلال والصليب".

أما إبراهيم الورداني، وهو أحد قيادات الحزب الوطني- وكان على علاقة قوية بمحمد فريد، حيث كان مسئولا عن جمعية التضامن الأخوي- فهو الذي دبر ونفذ عملية بطرس غالي- رئيس الوزراء-عقبا له على توقيع اتفاقية السودان 1899 التي أطلقت يد انجلترا في السودان على حساب مصر .

وكذلك إعادته قانون المطبوعات، والتضييق على الصحافة الوطنية، ومشاركته في المؤامرة على أهالي دنشواي، وإصدار الحكم بالإعدام والحبس والجلد عليهم خدمة لأسياده الإنجليز، وأخيرا محاولته تمرير مشرع لمد امتياز قناة السويس أربعين سنة أخرى، وكلها جرائم تستحق الإعدام ولا شك.

وإذا كان الاستعمار قد وجد في الحادثة مادة خصبة لزرع الفتنة الطائفية، والإيقاع بين المسلمين والأقباط، عن طريق بعض صنائعه من الأقباط، فإن الوعي القبطي والإسلامي التقليدي قد طوق هذه الأمور وأحبط مخطط الإنجليز.

بل ووجدنا من الأقباط من يدافع عن إبراهيم الورداني مثل: نصيف جندي المنقبادي الذي يقول:

" إنني أعرف الورداني شخصيا، وهو فتى شديد الذكاء كثير المعارف، ملأ صدره بالوطنية، وليس رجلا متعصبا، وإن تهمة التعصب الإسلامي ضد الأقباط ما هي إلا من إشاعات الإنجليز".

وهكذا فإن مدرسة الحزب الوطني الإسلامية اتسعت لنضل الأقباط من خلالها على قاعدة الجامعة الإسلامية والجلاء والدستور، وانطلاقا من انتماء المسلمين والأقباط على حد سواء إلى الإسلام كحضرة وثقافة ووطن.

بل ولم تجد الحركة الإسلامية ممثلة في الحزب الوطني ومنظماته السرية غضاضة في اغتيال بطرس غالي، وهو القبطي على يد مسلم وهو إبراهيم الورداني، بتكليف من قيادة الحزب، ممثلة في محمد فريد، وذلك للقضاء على مشروع مد امتياز قناة السويس .

نعم لم يجد الحزب الوطني غضاضة في التخلص من خائن للوطن مثل بطرس غالي، حتى ولو كان قبطيا – لأنها لو استثنته من العقاب الذي يستحقه لمجرد أنه قبطي لكان هذا سلوكا طائفيا.

المرأة في أدبيات الإمام حسن البنا

أ.د. مكارم الديري

تمهيد

شهد واقع المرأة المسلمة عند تأسيس الإمام البنا (رحمة الله عليه) لجماعة الإخوان المسلمين عام 1928م تراجعا ملحوظا في ظل حياة الجهل والاستبداد من جهة، وبين دعوات تغريب المجتمع، ومحاولة القضاء على كل مظهر من مظاهر الحياة الإسلامية، واقتلاع قيمه من عقول أبنائه من جهة أخرى.

فقد توارت شمس الحضارة الإسلامية، وتم القضاء على دولة الخلافة الإسلامية عام 1924 م بعد أن ظلت رمزا لوحدة المسلمين عبر قرون طويلة، وقوة يهابها أعداؤها حتى وصلت في عهدها الأخير إلى حالة من الترهل والشيخوخة، مما أغرى أعداءها بالنيل منها، واحتلالها ثم تقسيمها إلى دويلات صغيرة حتى لا تقوم لها قائمة مرة أخرى.

يقول المستشرق "جيب":

"المقصود من الجهود المبذولة لحمل العالم الإسلامي على الحضارة الغربية هو عدم وحدة الحضارة الإسلامية التي تقوم عليها وحدة المسلمين، لأن كل قطر سيتجه إلى اقتباس ما يلائم ظروفه من هذه الحضارة، وعند ذلك تتعدد أساليب الاقتباس بتعد البيئات الإسلامية المختلفة، فتفقد الحضارة الإسلامية طابعها الموحد، بل لا يعود هناك شيء اسمه الحضارة الإسلامية، ثم يتساءل : المهم هل ستكون هناك ميول مشتركة بين الشعوب الإسلامية؟ وهل سيقوم إحساس بوحدة العمل ووحدة الهدف؟ أم أن الآراء الجديدة وحاجات الحياة الجديدة ستنجح آخر الأمر في تشتيت المجتمع الإسلامي وتحطيم وحدته؟

من هنا نعرف لماذا قامت جماعة الإخوان المسلمين ؟ ولماذا كانت دعوة الإمام البنا إلى الوحدة الإسلامية، ومقاومة الاحتلال من أهم أسباب قيام جماعة الإخوان المسلين، كامتداد لحركة الإصلاح الإسلامي التي نادى بها أ. جمال الدين الأفغاني ، والإمام محمد عبده ، والشيخ رشيد رضا وغيرهم من زعماء وشعراء البعث الإسلامي، مع تميز منهج الإمام البنا بشموله وعالميته، وبالتطبيق العملي لما يؤمن به في المجتمع، وما يؤمن به هو الإسلام وقيمه ومبادئه".

فقد أفاد من تجارب من سبقوه من هؤلاء الزعماء، وجمع صفوة ما وصلوا إليه في منهج واحد( فالأفغاني كان يرى الإصلاح عن طريق الحكم، ويراه محمد عبده عن طريق التربية، وقد استطاع البنا أن يدمج بين الوسيلتين معا، وأن يأخذ بهما جميعا، كما أنه وصل إلى ما لم يصلا إليه، وجمع صفوة المثقفين من الطبقات والثقافات المختلفة، إلى مذهب موحد، وهدف موحد.

لم يكن أيضا تفكيك الوحدة الإسلامية هو الهدف الوحيد من تغريب المجتمعات التي تدين بالإسلام، ولكن كراهية الحضارة الإسلامية واعتبارها أهم عائق من عوائق الاستسلام لهيمنة القوى الاستعمارية، وكنتيجة للاختلاف الأيديولوجي بين الحضارتين، وقد صرح بهذه الكراهية العديد من مفكري الغرب وزعماؤهم، ومنهم اللورد كرومر- المندوب السامي البريطاني- ل مصر آنذاك فترة الاحتلال البريطاني مطلع القرن العشرين، حيث قال:

إن الإسلام بطبيعة تعالميه عدو للحضارة الأوربية، وإن المسلم الغير متخلق بأخلاق الأوربيين لا يقوى على حكم مصر ، لذلك سيكون المستقبل الوزاري للمصريين المتربين تربية أوربية، وتوصيف كرومر المدنية الأوربية بالحضارة خطأ في الفهم، والمسلمون لا يرفضون من هذه المدينة إلا الثقافة كقيمة وسلوك اجتماعي، وهو ما يختلفون فيه عن هذه الثقافة.

وهؤلاء المتربون على موائد الغرب كرهوا الثقافة الإسلامية وتحرروا من الكثير من قيم وسلوك الإسلام وآدابه، بل منهم من ربطها بالجهل وبالتخلف، وقد اعتبرهم العديد من زعماء الإصلاح السياسي والزعماء الوطنيون من الخونة الممالئون للاحتلال، فنرى الزعيم مصطفى كامل يعتبرهم خائنين للوطن، ودعا إلى مقاومتهم، وفضح ألاعيبهم، فهو يعلم جيدا أن من أهم أهداف الاحتلال هو تغريب المجتمع الإسلامي ليصبح كيانا تابعا للاستعمار في فكرة وثقافته المناهضة لقيم وآداب المجتمعات الإسلامية، فغالبا ما يتبع المقهور ثقافة الغالب ، إما عن جهل أو إعجاب به.

والمرأة في خضم هذا الصراع الثقافي هي أصل وأساس في التغيير لاجتماعي المنشود، وهي حجر الزاوية لكل التيارات الإصلاحية في المجتمع، فمنها من ينادي بالأخذ بأساليب المدنية الأوربية في فكرها، وثقافتها، وعاداتها، ومنطلقاتها بخيرها وشرها، ومنهم من يدعو إلى الإصلاح بالقيم والآداب الإسلامية، وآخرون ينادون بالتوفيق بين الحضارتين و" بأن الإسلام هو الأساس الذي يجب أن يقوم عليه الإصلاح، ولكنهم فسروا النصوص الدينية تفسيرا يقبل معه كثير من أساليب الحياة والتفكير الوافد من الغرب.

وكانت قضايا الحجاب والسفور والاختلاط، وعمل المرأة، ومحاولة تغيير بعض القوانين الخاصة بالأسرة من القضايا الأكثر جدلا في المجتمع المصري آنذاك، أما قضية تعليم المرأة فقد كانت محل اتفاق بين جميع الإصلاحيين على السواء والاختلاف، عما يمكن أن تتعلمه المرأة، حيث كان التعليم في عهد الاحتلال يتجه إلى التغريب، والتعليم الديني ينظر إليه بالتخلف والاستهزاء.

ومما يؤكد ذلك قول المستشرق "جيب" بأن التعليم من أهم وسائل التغريب، وذلك في قوله:

" وقد رأينا المراحل التي مكر بها طبع التعليم على الأسلوب الغربي في العالم الإسلامي ومدى تأثيره على تفكير الزعماء المدنيين وقليل من الدينيين".

الإمام البنا وقضايا المرأة

جاء اهتمام الإمام البنا بالمرأة كأحد أهم أهداف الجماعة نحو بناء مجتمع ملتزم بالقيم الدينية، والأخلاقية، ولتكوين الشخصية الإسلامية المتكاملة وتنميتها، وفق المبادئ الإسلامية الصحيحة، بدءا من إعداد المسلم في عقيدته وروحه وعقله، وخلقه ، وجسمه، وعلمه، وعمله إلى إعداد البيت المسلم إعدادا فاعلا، ثم العمل على تربية المجتمع تربية شاملة، يسودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو في ذلك مؤمن بإعداد المرأة والرجل معا على ذات المنهج للمشاركة في تنفيذ البرنامج الإصلاحي المنشود، ولذلك فقد نصت اللائحة الداخلية للنظام الأساسي للأخوات عام 1932 على مشاركة الأخوات في حدود ظروفهن وجهودهن في تحقيق البرنامج الإصلاحي الأساس لهيئة الإخوان المسلمين العامة.

وهذا ما يؤكد إيمان الإمام حسن البنا بأهمية دور المرأة كأخت للرجل لتحقيق مشروعه الإصلاحي، فقد وضح لديه دور المرأة في الإسلام، وما كان له من أثر بعيد في تكوين الرجال، وتحقيق المبادئ التي قامت عليها دولة الإسلام منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وها هي تكلف من قبل الإمام البنا بهذه المهمة الكبرى، وهي مشاركة في إصلاح المجتمع.

فضلا على ذلك فهو يؤمن بأهمية المرأة في الأسرة، وأثرها البعيد على تربية النشء وبناء المجتمع فيقول:

" فهي نصف الشعب، بل هي النصف الذي يؤثر في حياته أبلغ الأثر، لأنها المدرسة التي تكون الأجيال وتصوغ الناشئة، وعلى الصورة التي يتلقاها الطفل من أمه يتوقف مصير الشعب، واتجاه الأمة وهي بعد ذلك المؤثر الأول في حياة الرجال والشباب على السواء".

اهتم الإمام البنا بقضايا المرأة التي كانت تشغل مجتمعه آنذاك، وما زالت مثارا للجدل إلى يومنا هذا، وكان له فيها مواقف وآراء، ومن هذه القضايا: الحقوق والواجبات بين الزوجين، مسألة القوامة في الأسرة، التبرج والسفور، والاختلاط بين الجنسين: أهمية دور المرأة في الأسرة، ووظيفتها الأساسية كأم وزوجة، والآثار السلبية المنعكسة على الأسرة نتيجة إثارة قضايا الحجاب والسفور، وعمل المرأة، والاختلاط ، وقضايا الطلاق، والتعدد وغير ذلك من القضايا التي تؤثر على استقرار الأسرة والمجتمع.

ففي مجال الحقوق والواجبات يقول الإمام البنا :

إن المرأة شريكة للرجل في الحقوق والواجبات، واعتبرها الإسلام أختا للرجل وشريكته في الحياة، هي منه وهو منها، " بعضكم من بعض" (آل عمران: 195) وقد اعترف الإسلام بحقوقها الشخصية كاملة، وبحقوقها المدنية كاملة، وبحقوقها السياسية كاملة، وعاملها على أنها إنسان كامل الإنسانية له حق يشكر إذا أدى واجباته، ويجب أن تصل إليه حقوقه، والقرآن الكريم والأحاديث الشريفة فياضة بالنصوص التي تؤكد على هذا المعنى وتوضحه.

فهو يشير إلى الحقوق والواجبات التي أقرها الإسلام للمرأة في حياتها الزوجية والمدنية والسياسية وحق المساواة في الإنسانية، ويؤكد على أن هذه الحقوق يجب أن تحصل عليها المرأة.

قضية القوامة

ينطلق الإمام البنا في هذه القضية من خلال احترام الإسلام للتنوع البيولوجي للجنسين" وليس الذكر كالأنثى" (آل عمرا: 36) ، ولا يعني ذلك استعلاء أو تكريما، وإنما يعني تنوع في الاختصاص والمهام، طالما تؤمن بأن هناك أمومة وأبوة، ولذلك فإن رؤيته لهذه القضية تنبه من ثلاث محددات:

الأول: الاختلاف بين الزوجين فطري:

فيقول: الرجل كائن والمرأة وكائن، وللرجل مهمته، وللمرأة مهمتها، يقول تعالى في شأن تكوين الأسرة، وتنظيم شئونها:" لهن مثل الذي عليهم بالمعروف وللرجال عليهم درجة" (القرة: 228) فقرر أن الأسرة دولة بينهما، وأنها تتكون منهما، وإنما تكون القوامة للرجل "الرجال قوامون على النساء " (النساء: 34) وذلك للاختلاف الفطري بينهما طالما أننا نؤمن بأن هناك أمومة وأبوة.

الثاني: الاختلاف الفطري يترتب عليه اختلاف المهمتين، وفي نظم الحياة المتصلة بكل منهما:

" وذلك يعني في نظام الأسرة الطبيعية، والذي يقره الإسلام أن للمرأة مسئوليات زوجية، وأمومة تشمل الحمل، والإنجاب، والإرضاع، رعاية وتربية الأطفال، وأن للرجل دوره في الإنفاق على هذه الأسرة، وتولى شئونها، وتوفير حاجاتها المادية والاجتماعية".

الثالث: التجاذب الفطري بين الجنسين يؤسس لعلاقة زوجية متوازنة"

يقول الإمام البنا عن العلاقة الزوجية بأن أساسها التجاذب الفطري، وأن الغاية من هذه العلاقة لا تقوم على مجرد المتعة وحدها، ولكن على التعاون معا للمحافظة على النوع، وتحمل متاعب الحياة، فضلا على التجاذب النفسي الذي يسمو بهذه العلاقة عن صور الاستمتاع البحت إلى صورة رائعة من العلاقة الروحية التي تبنى على التعاون التام بين الزوجين كما في قوله تعالى:" ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة" (الروم: 21).

قضيا الطلاق والتعدد

وهي من القضايا التي كانت تهتم بها بعض الجهات التحررية في مصر لعمل تغيير في قوانين الأسرة، وعن ذلك يحدثنا الإمام فيقول: تقدمت الحكومة المصرية في الأربعينات من القرن العشرين بمشروع قوانين تحد من تعدد الزوجات، وتقيد حق الرجل في الطلاق، مما أثار بعض الشباب ، واعتبروا ذلك تحريم ما أحله الله، وحمل الناس على نهج يزيد الأمر فساد، كما يتداوى شارب الخمر بالخمر، وكان رد الإمام البنا على ذلك منطلقا من منهج الله (عز وجل) مراعيا مصالح المجتمع وحقوق الزوجة، والإمام البنا في تناوله لهذه القضية انتهج العرض المنطقي للقضية، ملتزما بوضع حل لها كعادته في كل الأمور، فبدأ بتحديد القاعدة الشرعية لقضيتي تقييد حرية الطلاق، وتعدد الزوجات، وذكر أنهما ليسا محل خلاف في الإسلام.

ثم عرض للمشكلة وهي إساءة استخدام الأزواج هذه الحقوق، مما يترتب عليها ظلم وإساءة للمرأة، وبذلك يثبت أن هناك فرق بين الحق الشرعي، وبين طريقة استخدام هذا الحق، فالمشكلة ليست في التشريع الحنيف، ولكنها في سوء تطبيقه، وتلك هي مشكلة مجتمع يجهل آداب دينه " تسوده الفوضى الخلقية التي أدت بالأسرة إلى التحلل والاضطراب إلى درجة تصم السميع وتعمي البصير" كما يقول الإمام البنا :

فحدد الإمام البنا أساس المشكلة هنا في أمرين:

1- سوء استخدام الأزواج لحقوقهم الشرعية.

2- الجهل والفوضى الخلقية والتحلل الخلقي.

ثم وضع الإمام البنا رؤيته للحل في البحث عن أسباب المشكلة، ووجد أن الأمر في حاجة إلى علاج جذري، كي يصبح الحل ناجعا، ويكمن هذا الحل في التربية، وهو المنهج الذي التزمه الإمام البنا لتغيير المجتمعات الإسلامية.

حيث يبدأ مع تربية الفتيان والفتيات تربية إسلامية عفيفة طاهرة، ومصادرة الصحف والمجلات والروايات والمسارح والسينما ..إلخ، التي تستغل في الناس أخس مشاعرهم، وأحط غرائزهم، ثم تشجيع الزواج، وإقناع الشباب بالغاية الصحصحة منه، وإفهامهم بأنه شركة على احتمال أعباء الحياة، لا جنة محفوفة بالروح والريحان، مغمورة بالمشاعر الملتهبة، وتعريف كل من الزوجين حقه وواجبه في حدود قوله تعالى:" ولهم مثل الذي عليهم بالمعروف وللرجال عليهن درجة"(البقرة: 228)، فلا يكون بعد ذلك إلا إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان فالحل الذي وضعه الإمام البنا يتلخص فيما يأتي:

1- التربية الإسلامية الصحيحة.

2- مصادرة الإعلام الهابط.

3- تشجيع الزواج ومعرفة أهدافه.

4- بيان حقوق وواجبات كل من الزوجين.

وهو يرى أنه لا مانع من أولى الأمر أو الحكومة، باعتبارها المسئولة عن شئون الناس العامة من التدخل لوضع حد لفوضى سوء استعمال الناس لهذه الحقوق، بشرط أن يكون ذلك حماية للأوضاع الإسلامية وبالكيفية التي رسمها الإسلام لاستخدام هذه الحقوق.

ويرى أن تدخل الحكومة إنما يكون لحماية شرط العدل، كما في قوله تعالى:" فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة"(النساء: 3).

ولا مانع أيضا من تدخل الحكومة لتجعل القاضي وسيطا في الصلح ، يندب حكما من أهله، وحكما من أهلها قبل الطلاق، كما يقول تعالى" وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها"(النساء:35).

ولكن أي حكومة يمكنها تنفيذ ذلك؟ يقول: الحكومة التي تراعي في مشروعاتها للطالب الفكرة الإسلامية، وعدم مصادمة قواعد الشريعة الإسلامية فلا يترتب على ذلك تحريم حلال وتحليل حرام.

فضلا على ذلك يدعو إلى التيقن من الدافع الحقيقي وراء ذلك، هل هو المصلحة العامة، أم هي شهوة بعض الأفراد؟

قضية عمل المرأة ومشاركتها السياسية

كان للإمام البنا في هذا الموضوع رأي خاص، لم يعلنه كحكم شرعي، ولكنه نظر إليه انطلاقا من أحوال المجتمع المصري وواقعه، تحت الاحتلال الذي أدرك أن من أهم أسباب وجوده هو تغيير هذه المجتمعات، واستئصال قيمها الأخلاقية والدينية، وكان قد تم عرض موضوع اشتغال المرأة بالمحاماة على مجلس النواب المصري، وإباحة الانتخاب للمرأة عام 1944 م وقد تمت موافقة المجلس عل إباحة اشتغال المرأة بالمحاماة، ورفض حقها في الانتخاب في مجتمع أغلبه يعاني الأمية الثقافية والفكرية والدينية الصحيحة، وفي سياق زمني مختلف.

يعلق الإمام البنا على هذا الموضوع في قوله:

" ولنا في هذه القضية نظرات هادئة نتوجه بها إلى المهتمين بهذه القضية، ويجب أن نكون جميعا ممن يهتمون بها، فهي قضية الأخلاق، وقضية الأسرة، وقضية ا لمدنية والعالم، فما نظن أن شيئا جنى على الناس قديما، أو سيجني عليهم حديثا، إلا سوء فهمهم للأوضاع، وتحكم الهوي، ومخالفة التكوين الطبعي، الذي لا يمكن أن يتخلف عن سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلا.

فالإمام البنا يعرض رأيه في هذه القضية ليس انطلاقا من حكم شرعي، ولكن يعرضها كشأن عالم أو مصطلح اجتماعي يهتم برصد الواقع، وتحليل أوجه قصوره، ثم يبحث عن أسباب العلل والفساد، فيعرضها تاركا الحكم النهائي بالرفض أو الاقتناع للمهتمين بهذا الأمر.

فهو يناقش هذه القضية من خلال عدة أمور:

الأول: هو مخاطبة العقل والمنطق، وذلك حين يضع قضيتي العمل بالمحاماة، وحق المرأة في الانتخاب في موضع مفاضلة بينهما وبين قضايا إنسانية كبرى ترتبط بمصير أمة وحضارة إنسانية، وهي قضية الأخلاق وقضية الأسرة، وقضية الأمة: فالمرأة ركيزة أساسية في هذه القضايا الكبرى، ومراعاة هذه القضايا الثلاث هو أساس لصناعة حضارة إنسانية من جانب، ونجاح للمرأة في القضايا الأقل أهمية من جانب آخر.

فالحضارة لا تنهض في أمة متدنية أخلاقيا تغفل قيمها، وتتبرأ منها، ولا تقوم على أسر متهالكة ضعيفة الوشائح ممزقة العلاقات، ولا تتفوق بأمة لا تعي أهدافها، أو تربط مصيرها بغيرها من الأمم، ولا فائدة مرجوة من محامية يقف دورها عند حد الوظيفة، أو حد تفوقها الشخصي ما لم يرتبط ذلك برسالة تؤديها في أستها أو في سبيل عزة أمتها، ولا أهمية لناخبة أمية، أو متعلمة جاهلة بأهدافها في الحياة، فهي في الحالين لا تستطيع إحسان اختيار من يمثلها في المجالس النيابية.

وكذلك الأمر بالنسبة للرجال، فهم كما يقول الإمام البنا :" إن أكثر من 60% من الرجال لا يهتمون بحق الانتخاب، ولا يعرفون كيف ينتفعون به أو يضعونه في موضعه، فضلا على أن عدد المقيمين في الجداول وعدد المنتخبين بالفعل يشير إلى ضعف المشاركة السياسية للرجال، فيجب الاهتمام بتربية هؤلاء الرجال تربية وطنية، تغرس المعاني السياسية العليا في نفوسهم وأرواحهم".

فالإمام البنا يدرك جيدا أن الهدف من إثارة مثل هذه القضايا حينذاك، هو إلهاء المرأة وشغلها عن دورها الأساس الفاعل في الأسرة كأم، ومربية نشء لها قدرات خاصة تتميز بها عن الرجال في هذا المقام.

ولا يقوم مقامها فيه أي من الرجال، وليس من عاقل يرى أن الهدف الأول والأساس والوحيد للمرأة في الحياة أن تكون محامية، أو طبيبة... أو أن دورها ينحصر في الكد والسعي من أجل لقمة العيش دون حاجة إلى ذلك، أو حاجة المجتمع، فتشارك الرجل في ذلك، ولكن من يشاركها في الحمل والوضع والإرضاع؟ والمجتمع غافل عن توفير أدنى ضمانات الرعاية، والأماكن لها ولأولادها.

وفي حياة المرأة دور أهم، ودور أقل أهمية، وإن نجاحها في الدور الأهم هو أساس بناء الأمة، لأنه يتعلق ببناء الإنسان ذاته، وحين ترى أن عملها أكثر أهمية فعليها ألا تنجب.

ويأتي حذر الإمام البنا من انشغال المرأة بمثل هذه القضايا وفي سياق زمني متقدم لم تكن المرأة على قدر كبير من الوعي الديني الصحيح، كي تكون على وعي بالمحاذير الشرعية في الاختلاط والسفور في ظل سيادة الفكر التغريبي للمجتمع، مما سينعكس سلبا على حياة المرأة، ومستقبل الحياة الزوجية والأسرة بوجه عام.

من هذا المنطلق جاء حذر الإمام ا لبنا، فالقضية الأهم ليه هي قضية الأخلاق والأسرة والمدنية.

الأمر الثاني: إثباته لعدم مصداقية هذه الدعاوي، وأنها زائفة وصدى لدعاوي التغريب، ويرى أن أصحاب هذه الدعاوي ير مخلصين في دعواهم في الحرص على إنصاف المرأة والسمو بمنزلتها في المجتمع، ولكن أهوائهم غلبت على نفوسهم، والدليل على ذلك أنهم أردوا للمرأة أن تشتغل بالمحاماة، وهم بالأمس القريب فكروا في التشدد في شروط قبول الشباب في جدول المحامين، وصار كثير منهم لا يجد عملا حتى زاحموا الكتبة العموميين على أبواب المحاكم.

ثم يقدم حلا طريفا لمشكلة المحامين والمحاميات فيقول:" أفما كان الأولى والأجدر أن يقرر مجلس النواب المصري إلزام المحاميات بأن يتزوجن محامين، فيضرب بحجر واحد، ويفرج أزمتين، أزمة المحاماة وأزمة الزواج معا بقرار واحد، ويضع بذلك أساسا سليما قوي الدعائم للتعاون لا للتزاحم.

لم تكن رؤية البنا لعمل المرأة شاذة عن سياقها التاريخي، وهو عام 1944م وظروف مجتمع يعاني الأمية والاحتلال، وما أشاعه من فوضى خلقية، وصفها في قوله:" لا أظن أن اثنين يختلفان في أن الإسلام الحنيف يحرم تحريما قاطعا، هذه الفوضى الخلقية والإباحية السائدة التي تتجلى في مجتمعاتنا وأطفالنا، والصور التي تنشرها جرائدنا ومجلاتنا، ومهما قيل عن أن كشف الوجه والكفين يجيزه الإسلام، فليس في الدنيا كلها مسلم واحد يقول: إن الإسلام يبيح هذا الكشف الفاضح عن مواضع الزينة، ويسيغ هذه الأزياء المتهالكة التي تشف وتصف معا، وليس في الدنيا كلها مسم واحد يقول بجواز خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية عنه من غير أن يكون معهما محرم.

هذا الوضع لا يقره الإسلام بحال، ولا يقر ما يؤدي إليه، فكل عمل أو تصرف يكون من شأنه اختلاط المرأة بالأجانب عنها يحرمه الإسلام ولا يرضاه".

وما كان الاقتراح الذي قدمه بشأن حل مشكلة المحامين والمحاميات إلا محل نظر واعتبار، فهو يعرض موقفا مشابها عن وضع المرأة في ألمانيا وعملها، ومشكلة بطالة الشباب، حيث إن القانون الألماني آنذاك كان يحظر على المرأة المتزوجة أن تعمل خارج المنزل، ولهذا افقد أعلنت شركة دخان كبرى مكافأة’ لكل فتاة تجد عريسا قبل انتهاء السنة الحالية، بأن تحصل على مكافأة ستمائة مارك، وهي تأمل بذلك أن تزيد الإقبال على الزواج، وتخفض - جهد المستطاع- عدد العاملات في مصالحها، وتقول هذه الشركة : إن كل وظيفة تخلو بسبب زواج الفتيات تستخدم فيها رجالا للتخفيف من وطأة البطالة.

وقد صدق رأي الإمام لبنا في هذه الدعاوي زائفة، وأن هناك أهدافا أخرى لا تقف عند حد مشاركة المرأة في العمل فحسب، ولكن يتضح الآن الهدف الحقيقي لذلك، وهو تحرير المرأة المزعوم من أعباء الحياة الزوجية وقوامة الزوج على الأسرة، المستهدف هو تغيير نظام الأسرة، كما هو واقع في الغرب من خلال التعدي على قوانين الأسرة في الشريعة الإسلامية، وإحلال قوانين مدنية بعيدة عن الشريعة الإسلامية ، ولكنها تعبر عن جوهر الحضارة الغربية التي أدت إلى تحلل نظام الأسرة، وتربي الأطفال في الملاجئ ودور الرعاية البديلة.

المنهج التطبيقي للإمام البنا مع المرأة في الواقع العملي

وينقسم إلى : مجال العمل العام مجال أسرته.

في مجال العمل العام:

اهتم الإمام البنا منذ بداية دعوته بمشركة المرأة في العمل على تحقيق البرنامج الإصلاحي للإخوان المسلمين، كما نصت على ذلك اللائحة الداخلية للنظام الأساس للأخوات المسلمات.

وكان من الضروري قيام الأخوات بهذه المهمة الخطيرة من الإعداد والتربية الصحيحة من خلال برامج تربوية، تستهدف بناء العقيدة الصحيحة، وتنمية عقولهم، وتقويم سلوكهم، وتزويدهن بالعلوم العصرية المختلفة مع الاهتمام ببناء القوة البدنية والروحية معا، كمنظومة كاملة نحو بناء الفرد المسلم القادر على تولي المسئوليات، وتحمل الأعباء.

ولتحقيق هذه الأهداف قام الإمام البنا منذ بداية دعوته ببناء مدرسة مع أول مسجد للإخوان عام 1928م، الموافق 17 من رمضان 1348هـ، سميت هذه المدرسة بمدرسة "أمهات المؤمنين" وقد جمعت الدراسة في هذه المدرسة بين آداب الإسلام، وبين العلوم النظرية والعملية التي تقتضيها ظرف العصر آنذاك، وكان إنشاء مثل هذه المدرسة في وقت سادت فيه الأمية، وخاصة بين النساء، وتعذر وجود مثل هذا النوع من المدارس الذي يجمع بين العلوم الدينية والمدنية، وقد كان التعليم في معظمه مدنيا، يجري على الأسلوب الغربي والمبادئ الغربية والتفكير الغربي.

ثم أنشأ الإمام البنا بعد ذلك قسما للأخوات المسلمات يتألف من نساء الإخوان وبناتهن وقريباتهن ، أطلق عليه بعد ذلك اسم " فرقة الأخوان المسلمات" وبأسلوب علمي ممنهج وضع الإمام البنا لفرقة الأخوات المسلمات لائحة تنظم العمل، وحدد لها أهدافها ووسائلها، ونظامها الداخلي، وكان الغرض من تكوين هذه الفرقة: التمسك بالآداب الإسلامية، والدعوة إلى الفضيلة، وبيان أضرار الخرافات الشائعة بين المسلمات، أي الالتزام بالإسلام الصحيح وتنقيته من العادات والتقاليد الفاسدة.

وكان يرأس هذه الفرقة المرشد العام لجمعيات الإخوان المسلمين ، وجميع أعضائها أخوات في المبدأ وتوزيع الأعمال.

بعد انتقال إدارة الإخوان إلى القاهرة، تكونت فرقة للأخوات المسلمات عام 1352هـ- 1932م.

وفي أول خطاب موجه من رئيسة الفرقة السيدة لبيبة أحمد إلى الأخوات المسلمات بينت لهن الحالة المتردية التي كان يعيشها المجتمع المصري آنذاك قائلة لهن: إن الأمة في تدهور خلقي، وخلل اجتماعي، بدأت أعراضه في كل مظاهر الحياة في المنزل، وفي الشارع، وفي المصنع، وفي المتجر، وفي كل بيئة، وفي كل وسط، وإن أساس إصلاح الأمة إصلاح الأسرة، وأول إصلاح الأسرة إصلاح الفتاة، لأن المرأة أستاذة العالم، ولأن المرأة التي تهز المهد بيمينها، تهز العالم بيسارها، ووجهت المرأة إلى العناية بإصلاح الأمة من خلال تعاليم الإسلام وأحكامه.

وقد أدرك الإمام البنا أهمية تربية كوادر وقيادات نسائية كطليعة لسيدات ملتزمات بقيم الإسلام يستطعن توجيه المجتمع، وإصلاح حال المرأة، ومن هذا المنطلق اهتم بتربية الأخوات، وتربية قيادات منهن، فكان يعطي لستة منهن درسا أسبوعيا خاصا يتناول فيه العديد من الأمور التربوية والعقائدية والمواقف العامة، كما سعى إلى تكوين كوادر نسائية تكون كطليعة قيادية في مجتمع المرأة المسلمة، وتمثيل الإسلام في المحافل المختلفة وبصورة راقية فقد جمع الأخوات الجامعيات والمثقفات، وكان عددهن آنذاك مائة وعشرين أختا ليلقي عليهم درسا أسبوعيا لمدة عام كامل بدأه بالعقيدة، ثم تلاه بالعديد من أمور الدين والدنيا.

والبرنامج التربوي للإخوان المسلمين يهتم بالمرأة كاهتمامه بالرجل، وبنفس القدر، كما يصرح بذلك الإمام البنا في قوله:" نريد الرجل المسلم في تفكيره وعقيدته وفي خلقه وعاطفته، ونريد بعد ذلك البيت المسلم في تفكيره وعقيدته، وفي خلقه، وفي عاطفته، وفي عمله وتصرفه، ونحن لهذا نعني بالمرأة عنايتنا بالرجل، ونعني بالطفولة عنايتنا بالشباب، وهذا هو تكويننا الأسري".

وقد اعتمد منهج التربية للأخوات على التربية الروحية والثقافية، فشملت القرآن الكريم، العقائد ، السنة المطهرة، وتراجم للرائدات الصحابيات في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والتاريخ الإسلامي، وتزكية النفس وفقه الدعوة، والفكر الإسلامي والعلوم الحديثة، فضلا على الاهتمام بشئون البيت والأسرة، وتعلم كيفية ضبطها بسلوك الإسلام وآدابه، وكيفية العمل على بناء علاقات أسرية ناجحة، ومحاولة إيجاد برامج لإصلاح حال الأسرة، وحل مشكلاتها، وتقديم نماذج صالحة من الأخوات والشباب والأمهات والآباء إلى المجتمع.

أهم أهداف البرنامج التربوي للأخوات:

1- بعث الروح الدينية، وبعث التعاليم الإسلامية الكفيلة بتكوين شخصيات نسائية مهذبة تستطيع تحقيق البرنامج الإصلاحي للإخوان المسلمين.

2- التعريف بالفضائل والآداب المزكية للنفس والموجهة للخير والكمال.

3- الإرشاد إلى طريق التربية الصحيحة النافعة التي تضمن لأبنائهن النمو الجسمي، والعقلي، وتجنبهم الإسراف الصحي والنقص العقلي.

4- العمل على صبغ البيت بالصبغة الإسلامية، وبث تعاليم القرآن الكريم، والسنة المطهرة وسيرة أمهات المؤمنين، وفضليات النساء.

5- محاربة البدع، والخرافات، والأباطيل ، والترهات والأفكار الخاطئة، والعادات السيئة التي تنتشر وتروج بين النساء.

6- نشر الثقافة والمعارف التي توسع مداركهن من الثقافات الحديثة.

7- الاهتمام بالشئون المنزلية، وقيام الأسرة على أساس إسلامي صحيح.

8- المشاركة في المشروعات الاجتماعية النافعة بما يتناسب مع ظروفهن وجهودهن، ومن ذلك: المستوصفات، دور الطفولة، رعاية اليتامى، الصبيان، تنظيم مساعدة الأسر الفقيرة، ووضع لائحة لكل مشروع وهيئة إدارية تشرف عليها طبقا لأحكام القانون رقم 1945م، وتسجل بوزارة الشئون الاجتماعية.

9- المعاونة في حدود ظروفهن وجهودهن في تحقيق البرنامج الإصلاحي الأساسي لهيئة الإخوان المسلمين العامة. ومن أجل تحقيق هذه الأهداف ،وبعد إعداد متكامل لمن يقوم بهذه الأنشطة تم وضع هيئة تأسيسية تتألف من الأخوات العاملات بالقاهرة والأقاليم إلى تاريخ 1951م، وعددهن خمسون.

أنشطة الأخوات في المجال العام

تنوعت مجالات الأنشطة التي تقوم بها المرأة في جماعة الإخوان المسلمين في عهد الإمام البنا ، لتشمل النشاط الدعوي والاجتماعي، فضلا على مواقفهن السياسية ودورهن في فترات المحن، وغياب الأزواج في غياهب السجون والمعتقلات، بدءا من قضيتي السيارة الجيب عام 1948 م، مرورا بصدور قرار حل جماعة الإخوان المسلمين ، ثم العهد الناصري فيما بعد.

أثناء محنة 1948 م قام قسم الأخوات بتشكيل لجنتين للقيام بدورهن خلال هذه المحنة، أولاهما: إعداد الطعام، والملابس، والأدوية للإخوان بالسجون، وغسل الملابس وتنظيفها، واللجنة الثانية مهمتها زيارة أسر الإخوان المسجونين بصفة مستمرة، ودعمهم ماديا وأدبيا، وخاصة الفقراء منهم، وتقديم الشكاوى، والاحتجاجات إلى الجهات المسئولة.

كما ت إنشاء مدرسة اليتيمات عام 1946 م، وتسمى "دار التربية الإسلامية للفتاة" وكانت مديرتها آنذاك السيدة فاطمة عبد الهادي، ورئيس مجلس إدارتها السيدة آمال عشماوي.

امتد نشاط الأخوات إلى إقامة وتنظيم معارض خيرية سنوية داخل وخارج مصر ، ومن ذلك قيام الأخت سعاد الجيار عام 1948 ، بفتح اكتتاب عام لإنشاء مقبرة خاصة بالمسلمين في أمريكا ، وإنشاء مدرسة لتعليم الأطفال اللغة العربية والدين الإسلامي.

وعن مثل هذه الأنشطة تتحدث إحدى السيدات، وهي السيدة فاطمة عبد الهادي- زوجة الشهيد يوسف هواش، فتقول: انتدبني العشماوي باشا من وزارة التربية والتعليم لأكون مسئولة مدرسة التربية الإسلامية للفتيات بالمنيا ، والمشغل التابع لها، وبحمد الله كان لنا نشاط واضح، ومؤثر بين الطبقات الراقية، فكانت الأخت آمال عشماوي تحضر أسر البشاوات، ليحيكوا ملابسهم لدينا في لمشغل، وتقيم حفلات في نادي الجزيرة، ومعارض خيرية سنوية، تشمل المشغولات اليدوية والملابس، ومستحضرات التجميل ، المخللات وغيرها. وكانت تلقى إقبالا كبيرا بفضل الله.

وبعد استشهاد الإمام البنا بعدة أعوام تمم افتتاح مستوصف في امبابة عام 1954م امتدادا للدور الذي قامت به الأخوات في عهد الإمام البنا ، واقتصر العمل فيه على المتطوعين من الإخوان وغيرهم، وكان غير قاصر على السيدات وحدهن، ولكن كان هناك أطباء من بينهم الدكتور أحمد الملط (رحمه الله) الذي كان المؤسس الأول للجمعية الطبية الإسلامية في ثمانينات القرن العشرين.

وقفت بعض الأخوات في الإرساليات التبشيرية الأجنبية في مصر ، فكن يطرقن أبواب الموسرين قائلات لهم، إن الإرساليات التبشيرية الأجنبية ترسل الحلوى لتشتري بها العقيدة، وأنتم مسئولون أمام الله فقوموا الآن بواجبكم، وتعالوا معنا لنزور هذه الأحياء، ولتلقوا إلى أهلها بالهدايا، وببعض ما للناس عندكم من حق معلوم ، وبذلك قطعن خط الرجعة على المبشرات فولين الأدبار.

كما كانت الأخوات قد قسمن أنفسهن إلى فرق ولجان، فلجنة في كل شعبة من شعبهن للتعرف على سيدات الحي، وبث الدعوة الصحية والاجتماعية والدينية بينهم، سيما الطبقة العامة، فتذهب الأخوات ومعهن الحلوى والهدايا والعقاقير الصحية يطرقن أبواب المنازل، ويجلسن إلى الأطفال ويرشدن الأمهات، حتى إذا ما عدن إلى دار الشعبة قدمن تقريرا عن حالة الأسرة، وإن كانت الناحية الخلقية في حاجة إلى إرشاد قام بذلك قسم الإرشاد، وإن كانت في حاجة إلى معونة مالية أو كان رب الأسرة متعطلا، كان كل ذلك موضع الدراسة، وكذلك شأن قسم زيارة المستشفيات وتقديم الهدايا للفقيرات المريضات، وقسم لإرشاد سيدات الطبقة العامة في الخبازات عن الوقار اللازم لاحترام الموتى، والإقلاع عن العادات الذميمة التي ليست من الدين، ثم مدارس الجمعة للفتيات الصغيرات، وقد أصبح عدد وفير من مثقفات المدينة من طبيبات ومعلمات وناظرات، يتابعن بعطف وتقدير هذه الأنشطة.

في مجال العمل السياسي:

كان لقسم الأخوات مواقف صلبة وحاسمة، بل وشجاعة رائدة بالنسبة لهذه الفترة من تاريخ مصر ، فقد وقفن في وجه الاحتلال الإنجليزي وأعوانه، فقد قامت الأخوات المسلمات عام 1946 م بتقديم احتجاج إلى المندوب السلمي البريطاني بالقاهرة على اعتداء جنوده على المصريين الآمنين.

وقد قمن بأدوار جريئة أيضا في مواجهة السلطات المصرية آنذاك، فبعد قرار حل جماعة الإخوان المسلمين سلم الإمام البنا مجموعة من الأخوات مذكرة تفند خطأ مبررات الحل، وطفن بها على مكاتب الوزراء ومجلس النواب والشيوخ، والقصر الملكي، ورئاسة الوزراء.

ولا ننسى ما قامت به الحاجة زينب الغزالي في مجال دعوة الأخوات المسلمات، حيث بايعت الإمام حسن البنا سنة 1948 م وقدمت عطاءها في مجال الدعوة إلى ما يزيد عن نصف قرن من الزمان، وكان لها دور كبير في مجال النضال السياسي في عهد الملك، وعهد عبد الناصر والسادات ومبارك.

ومن متابعة مسيرة عمل الأخوات المسلمات وفق منهج الإمام البنا ، ووضع البرامج العملية لتفعيل دور المرأة في العمل العام والاجتماعي، والاستفادة من قدرات المثقفات والجامعيات والعاملات في حقل التدريس والطب. وغير ذلك من الأعمال يمكن التأكيد على أولا أنه لم ينكر على سيدات الجماعة أمتهانهن لمهنة شريفة في المجتمع في ضوء مراعاة الضوابط الإسلامية.

ثانيا: إيمانه بدور المرأة في العمل العام والاجتماعي لم يكن مجرد تصريحات أو آراء مطروحة، ولكنه لجأ للتطبيق العملي لما يؤمن به، من قيم ومبادئ الإسلام التي كانت حية نابضة في شرايينه، وواقعا عمليا في سلوكه، حيث ترجمها إلى منهج قابل للتطبيق غير الكثير من واقع المرأة المسلمة.

الإمام البنا في أسرته

التزم الإمام البنا بأدبيات الإسلام في بيته سلوكا ومنهجا، فكان ابنا بارا، وزجا مخلصا محبا لزوجته، ووالدا حانيا عطوفا لإخوانه وأبنائه، مهذبا في سلوكه، مربيا نصوحا، وصلا لرحمه ورحم زوجته.

وكان للمرأة في بيت الإمام المؤسس الاحترام، والسمو، والتقدير، والرعاية، فالمرأة تمثل له الأم والأخت والزوجة والابنة والخادمة، التزم معهن جميعا بآداب الإسلام وقيمه وفضائله، واهتم بأسرته اهتماما بالغا، فجعلها من القلب والوجدان قرة عينه، وحمل مسئولياتها بشرف ورجولة " فقد شارك أسرته كل همومها، وتحمل النصيب الأوفى من مسئولياتها، وخفف عن والده عبء تربية أشقائه، والإنفاق عليهم، فكان في سلوكه مع أسرته ينطلق من دوافع رب الأسرة وليس مجرد فرد فيها".

علاقته بأمه

كان الإمام البنا وثيق الصلة بأسرته بارا بوالديه ومحبا لهما، يتأدب معهما بأدب الإسلام، فهو عطوف مقر معترف بصنيعهما لا يناديهما إلا بما يوقرهما، ويدل على هيبته وإجلاله لهما، ففي خطاباته إليهما نراه يردد عبارات سيدي الوالد، سيدتي الوالدة، ومن خطاباته التي تدل على مدى حبه لأمه في خطاب يقول فيه عن أمه: " والله إني لأقضي الساعات الطوال في ألم لتألم والدتي، وفي تفكير : كيف أرضيها؟ وكيف أسعدها؟ وكيف أجعلها هانئة مغتبطة، فهل يوفقني الله إلى هذه الأمنية؟ خطر لي أن أزوركم كل شهر مرة لا لشئ إلا لأراكم وأشرف بتقبيل يديكم ويدي والدتي، وأحظى بدعوة صالحة من دعواتكم، وعسى أن يكون هذا مرضيا لوالدتي بعض الرضا"

فالإمام البنا الذي تأدب بأدب الإسلام، ونشأ في ظل منهجه يدرك تمام الإدراك قيمة بر الوالدين والإحسان إليهما، ويدرك أيضا أن الأم لها ثلاثة أرباع البر عن الأب، ولذا فهو معني بإرضائها وتقبيل يديها، والتفكير في كيفية إرضائها وإسعادها، ويجعل من ذلك أمنية له فيتساءل : هل يوفني الله إلى هذه الأمنية.

الإمام البنا مع زوجته

اقترن الإمام البنا بفتاة اخترتها له والدته، أهم مؤهلاتها حسن دينها، حيث سمعتها والدته وهي تصلي وتقرأ القرآن بصوت خاشع، فرحب الإمام البنا بهذا الاختيار، واقترن بها، ويقول عن ذلك:" كأنما أراد الله أن يخفف عن نفسي وقع هذه الفتن، فأتاح لي فرصة الزواج، وتم الأمر في سهولة ويسر وبساطة غريبة، خطوبة في غزة رمضان تقريبا، فعقد في المسجد ليلة السابع والعشرين منه، فزفاف في العاشر من ذي القعدة بعده، وقضي الأمر والحمد لله".

وهكذا نرى أن الإمام البنا كان زواجه نموذجا للزواج الذي يفضله الإسلام، ليكون مثلا ونموذجا يقتدى حيث سارع في الزواج طلبا للعفة والإحسان، والزواج في سهولة ويسر وبساطة، فلا تعقيدات ولا شروط مسبقة، أو مؤجلة، والفتاة ذات دين، والعقد في المسجد، والزفاف بعد مدة قصيرة من العقد، لا تتجاوز الشهر، وهكذا بدأ الإمام المؤسس تأسيس أركان أسرته وأولى لبناتها، فقد كان للأسرة اهتمام كبير في مشروعه باعتبارها الركيزة الأساسية التي إن صلحت صلح المجتمع ، ورسخ بنيانه وصمد في مواجهة ما يتعرض له من تحديات، وفي القلب من الأسرة الأم التي هي بمثابة الشجرة الطيبة، التي تمد المجتمع بقيم الحب والحنان، والثمرات الصالحة.

وكان حرص الإمام البنا على اختيار الزوجة الصالحة المتدينة هو أول تطبيق عملي لما يؤمن به، فهي كما يقول: " نصف الشعب، بل هي النصف الذي يؤثر في حياته..".

كان الإمام المؤسس (رحمه الله) إنسانا ناجحا في حياته الأسرية والعملية، وقد كان يقول : إذا وجد الرجل المؤمن وجدت مع عوامل النجاح، ولذا فقد كان لإيمانه القوي بالله، والتزامه بمنهجه وسلوكه مخلصا لدعوته، عاكفا على تأسيس مشروعه لنهضة الأمة، كما كان أيضا إنسانا ناجحا في بيته وأسرته، وأصلا لأرحامه وأصهاره أيضا.

يقول أ. سيف عن والده الإمام البنا  : " حرص رضي الله عنه على أن يعرف أقارب زوجته فردا فردا، وكل ما يرتبط بها بصلة رحم، وأحصاهم عدا، وزارهم ووصلهم جميعا".

ومن هنا ندرك كيف يمكن للعلاقات الإنسانية أن تتوطد، ووشائج الأرحام أن تتلاحم، وصلات الأبناء بالأرحام كيف تؤسس من خلال علاقات زوجية ناجحة، وم مارس ة عملية من الآباء مع الأرحام أمام أبنائهم.

تميز الإمام البنا بسمات جعلته زوجا ناجحا محبوبا في أهله، ومن ذلك أنه : " كان مع زوجته هادئ الطبع، واسع الصدر، هينا لينا، لم يرتفع له صوت على أحد في البيت، لأي سبب من الأسباب، يعاون زوجته في بعض أعباء البيت رغم انشغاله بأعباء الدعوة، كان دقيقا في تصرفاته، منظما لشئونه، نافعا لبيته، حرص على أن يكتب مذكرة صغيرة بكل احتياجات البيت الوقتية، حتى يحضرها بنفسه، أو يكلف من يحضرها، على علم بكل شيء يخص المنزل حتى موعد تخزين الأشياء كالسمن والبصل والثوم.

بمثل هذا الخلق الرفيع مع زوجته، كان (رحمه الله) نموذجا للزوج الصالح الناجح، بتمثل الإسلام في قيمه ومبادئه، ويلتزم بسلوك رسوله الكريم مع أهل بيته، وكان عليه الصلاة والسلام هاشا باشا وفي مهنة أهله.

الإمام المؤسس مع أبنائه

إن أهم ما يميز الإمام البنا فلا علاقته بأبنائه هو الالتزام التربوي العملي، وفي قدرته على بناء الشخصية السوية، التي تؤسس على الإيمان بالله ومراقبته، والاحترام، وتحري الصدق والأمانة، والحي واللين، فقد كانت هذه القيم جانبا أصيلا في منهجه التربوي الذي التزمه في داخل أسرته وخارجها.

" كنا لا نحس فيه الغلظة، يغمرنا بالمودة والرحمة والعطف، ينادينا بأحب الأسماء إلينا، يدخل البيت يطمئن على غطاء كل الأبناء، يتناول عشاءه المعد له سلفا على المائدة دون إيقاظ الوالدة ، أو أحد من أهل البيت".

ومن هنا ندرك كيف كان يملك القدرة الفائقة في التأثير على سلوك الأبناء نتيجة لهذا الخلق الطيب معهم كمعلم وقدوة، ووالد حنون، فالتوجيه بالحب والالتزام والقدوة من أهم سمات المربي الصالح.

يقول عنه ابنه، سيف إنه كان عطوفا إلى أقصى درجة، يراعي مشاعر الطفولة في أبنائه بشكل كبير وكان لديه القدرة على جعلنا نطيعه دون حاجة إلى أمره.

ومع التزامه التربية الصحيحة مع أولاده، فقد عني أيضا بتعليم إخوته، وأبنائه، يستوي في ذلك ابنه سيف مع أخواته البنا ت، وفي خطابه الذي وجهه لوالده دليل واضح على اهتمامه بتعليم أخته فاطمة، فيقول:" أما فاطمة فأنا أوصيها كلما سنحت الفرصة بالوصايا التهذيبية، وسأشرع معها في القراءة والكتابة بحول الله وقوته".

ولا يخفى علينا مكانة نباته العلمية اليوم فقد اهتم بتعليمهم، وحصل ثلاث منهن على الدكتوراه في الطب، وفي التجارة، وفي الاقتصاد المنزلي، وذلك لأنهن نشأن في بيت علم ودين ، فكما كان والدهم (رحمه الله) يؤمن بأهمية دور المرأة الصالحة المتعلمة في أسرتها ومجتمعها آمن بأهمية التفوق العلمي ودوره في حياة المرأة والمجتمع.

الإمام البنا مع الخادمة

اهتم الإمام البنا بتعليم الخادمة، حيث كلف ابنته الكبرى وفاء بأن تعلم الخادمة القراءة والكتابة والصلاة.

وقدم (رحمه الله) أروع المثل في تحقيق المساواة التي نادى بها الإسلام، ليس مع الأبناء والأولاد فحسب، ولكن أيضا بحسن معاملتها، وقد حدث أن عاقب ابنته الدكتورة سناء ذات مرة لأنها عاملتها معاملة غير لائقة، وكان للخدمة في بيته سرير مستقل، ودرج للملابس مستقل في دولاب الأولاد، وتأكل مما يأكلون ويشرب مما يشربون وتلبس مما يلبسون.

هذه جوانب مضيئة عن المرأة في أدبيات الإمام البنا من خلال فكره ومنهجه وأسلوبه العملي، الذي غير كثيرا من واقع المرأة، حيث تؤتي دعوته ثمارها في جيل الصحوة الإسلامية اليوم، فنرى مظاهرها في الشارع، وفي كثير من مؤسسات المجتمع، ولدى العديد من المفكرين وقادة ا لرأي، وحمل العديد منهم فكرته الإسلامية ، وبرامجه التربوية، حيث تحولت إلى مشروع حضاري للأمة، فرحم الله إمامنا المؤسس الذي حاول أن يؤسس صرحا ضخما على كتاب الله وسنة رسوله الكريم، وهو بناء الأفراد والمؤسسات التي تستضئ بنور الإسلام وتسير على هديه ومنهجه.

وصدق الله العظيم إذ يقول" من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا"(الأحزاب: 23).

الشباب في فكر الإمام الشهيد حسن البنا

د. رشاد محمد بيومي

كان للشباب في مسيرة دعوة الإخوان دور بارز ومميز في كل مراحلها وأطوارها.. وكان الإمام الشهيد يحرص دائما على تفقد الشباب والتعايش معهم، يتعهدهم برعايته، ويوليهم عنايته واهتمامه.

ولقد استطاع الإمام الشهيد أن يترجم أفكاره وأمنياته لمجتمع الشباب إلى واقع ملموس، وحقائق راسخة ثابتة سجلت أسمى وأرقى درجات التحية والعطاء، وقدمت نماذج ناطقة في كل المجالات، إذ كانت لهم بصمات واضحة المعالم في تاريخ الجماعة وم مارس اتها طوال القرن الماضي وما بعده.

وأذكر في هذا المقام ما ورد على لسان العلامة أبو الحسن الندوي في مقدمته لكتاب " مذكرات الدعوة والداعية".

لقد استمع الإمام البنا إلى الشباب الجامعي في نواديهم ومجالسهم، وزار الإسكندرية وشواطئها ومصايفها، ورافق فرق الكشافة والجوالة والرياضة، ودخل دور السينما، ورأى الأفلام الأجنبية والمحلية، واطلع على الروايات التي تصدرها المكتبة العربية في مصر بين حين وآخر، ويتهافت عليها الشباب بنهامة وجشع، وعاش متصلا بهذه الأجيال، وتتبع الحوادث، ولم يعش في برج عاجي، أو في عالم الأحلام والأوهام، وعرف رزية الأمة الإسلامية والمسلمين، ونكبة الدعوة الإسلامية في هذا الجزء الذي كان يجب أن يكون زعيما للعالم العربي والإسلامي.

ولذا فقد أصدر رسالة إلى الشباب معبرا فيها عن كل ما يتمناه ويرجوه للأمة الإسلامية، ثم رسالة إلى الطلاب، وفي كلتيهما دستور واضح المعالم للشباب المسلم، وما تتطلبه منهم دعوتهم وأوطانهم ومجتمعاتهم.

وفي هذا المقال الذي (اعتبره قاصرا) عن بيان كل ما تتطلبه منهم دعوتهم وأوطانهم ومجتمعاتهم.

وفي هذا المقال الذي (اعتبره قاصرا) عن بيان كل ما تتطلبه الشهادة عن الشباب في فكر الإمام حسن البنا .. أرصد ما يلي:

1- ما يتطلبه الإمام البنا من الشباب.

2- آليته وطريقة تعامله وتربيته للشباب.

أما ما يتطلبه الإمام البنا من الشباب، فيتلخص فيما أورده في رسالة التعاليم: أن يكون قوي الجسم.. متين الخلق.. مثقف الفكر.. قادرا على الكسب.. سليم العقيدة.. صحيح العبادة.. مجاهدا لنفسه.. حريصا على وقته. .منظما في شئونه .. نافعا لغيره.

ما أعظم وما أبلغ تلك العبرات الشاملة التي شملت كل من شأنه الإحساس بقيم الإنسان.. والإحساس بمدى مسئوليته نحو نفسه وغيره.

أما طريقة الإمام في التعامل وتربية الشباب، فتعتمد ابتداء على الانتقاء والاختيار اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم حين أعلنها:" خياركم فالجاهلية، خياركم في الإسلام إذا فقهوا" فلابد أن تتواكب طبيعة الشاب مع متطلبات دعوته من حيث الاستعداد والبذل والتضحية والإحساس بالمسئولية.

وأما منهج التربية فينقسم إلى ثلاثة أوجه:

أ‌- ما يخص الجسد، اقتداء بقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلك :" المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف" ولذا فإن الإمام الشهيد يطالب الشباب بـ:

1- أن تبادر بالكشف الصحي العام، وأن تأخذ في علاج ما يكون فيك من أمراض، وتهتم بأسباب القوة والوقاية الجسمانية، وتبتعد عن أسباب الضعف الجسمي.

2- أن تبتعد عن الإسراف في قهوة البن والشاي ونحوهما من المشروبات المنبهة، فلا تشربها إلا للضرورة، وأن تمتنع بتاتا عن التدخين.

وقد كان الإمام الشهيد حريصا على إلزام الشباب بمزاولة الرياضة والمشاركة في الأنشطة الكشفية ومعسكراتها.

ب‌- أما ما يخص الروح، فنلمسه فيما ورد عنه في مناصحته للشباب فيما يلي:

1- أن تديم مراقبة الله تبارك وتعالى، وتذكر الآخرة وتستعد لها، وتقطع مراحل السلوك إلى رضوان الله بهمة وعزيمة، وتتقرب إليه سبحانه بنوافل العبادة، من ذلك صلاة الليل، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر على الأقل، والإكثار من الذكر القلبي واللساني، وتحري الدعاء المأثور على كل الأحوال.

2- أن تجدد التوبة والاستغفار دائما، وأن تتحرز من صغائر الآثام، فضلا عن كبائرها، وأن تجعل لنفسك ساعة قبل النوم تحاسبها فيها على ما عملت من خير أو شر.. وأن تحرص على الوقت، فهو الحياة.. وأن تتورع عن الشبهات حتى لا تقع في الحرام.

جـ- أما ما يخص العقل، فقد نصح الإمام الشهيد بالتالي:

1- أن تجيد القراءة والكتابة، وأن تتعلمهما إذا لم تكن كذلك، وأن تكون لنفسك مكتبة خاصة مهما كانت صغيرة، وأن تتبحر في عملك وفنك إن كنت مختصا.

2- أن تكون متميزا في علمك متقدما في تحصيلك.

ويكفي أن نقول: إن شهادات التفوق والتميز كانت تملأ مداخل شعب الإخوان ودورهم، وكفى الجماعة فخرا أنها أنتجت هذا الكم الوافر من العلماء العاملين في كل المجالات يحملون أرفع الدرجات العلمية وأعظمها.

بعد هذا نرى الإمام الشهيد مخاطبا الشباب قائلا:

إنما تنجح الفكرة إذا قوي الإيمان بها، وتوفر الإخلاص في سبيلها وازدادت الحماسة لها، ووجد الاستعداد الذي يحمل على التضحية والعمل لتحقيقها.

وتكاد تكون هذه الأركان الأربعة، " الإيمان والإخلاص والحماسة والعمل" من خصائص الشباب لأن أساس الإيمان القلب الذكي، وأساس الإخلاص الفؤاد النقي، وأساس الحماس الشعور القوي، وأساس العمل العزم الفتي، وهذه لا تكون إلا للشباب، ومن هنا كان الشباب قديما وحديثا في كل أمة عماد نهضتها، وفي كل نهضة سر قوتها، وفي كل فكرة حامل رايتها" إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى" (الكهف: 13).

ومن هنا كثرت واجباتكم.. ومن هنا عظمت تبعاتكم.. ومن هنا تضاعفت حقوق أمتكم عليكم.. ومن هنا ثقلت الأمانة في أعناقكم.. ومن هنا وجب عليكم أن تفكروا كويلا.. وأن تعملوا كثيرا.. وأن تحددوا موقفكم، وأن تتقدموا للإنقاذ ، وأن تعطوا الأمة حقها من هذا الشباب.

ومما سبق: فإن الإمام الشهيد يضع جل آماله في الشباب، يستنهض همتهم، ويعرفهم طبيعة مسئولياتهم، ويبين لهم واجباتهم، مركزا على عظمة الدور المنوط بهم، والمسئولية الملقاه على عاتقهم، ليعود مذكرا : يا شباب لستم أضعف ممن قبلكم، ممن حقق الله على أيديهم منهاج الدعوة التي يتحقق بها بناء الفرد المسلم، ثم البيت المسلم، ثم المجتمع المسلم، فالحكومة المسلمة.

ويزكيهم قائلا: فلا تهنوا ولا تضعفوا، وضعوا نصب أعينكم قوله تعالى:" الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل"( آل عمران: 173).

ثم يعود مذكرا بحقيقة الجماعة، ومعرفا بحقيقة الصفات التي يتسم بها شباب الجماعة، فيقول: أيها الشباب، يخطئ من يظن أن الإخوان المسلمين جماعة دراويش، وقد حصروا أنفسهم في دارة ضيقة من العبادات الإسلامية، وكل همهم صلاة وصيام وذكر وتسبيح.. فالمسلمون الأولون لم يعرفوا الإسلام هكذا، ولم يؤمنوا به على هذا النحو، بل آمنوا به عقيدة وعبادة، ووطنا وجنسية، وخلقا ومادة، وثقافة وقانونا، وسماحة وقوة، واعتقدوه نظاما كاملا يعرض نفسه على كل مصحف وسيف، وهم مع هذا لا يهملون أمر عبادتهم ، ولا يقصرون في أداء فرائضهم في غير غلو ولا سرف، فلا تنطع ولا تعمق إيمانا بقول رسولهم الكريم:" إن الدين متين فأوغل فيه برفق".

وليعلم الجميع أن خير وصف لشباب جماعة الإخوان هو وصف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم " رهبان الليل .. فرسان النهار".

ولذل، فإنا نجد الكثير على الساحة ممن لم تسعفهم الظروف للتعرف على حقيقة الإخوان يسيئون الظن بهم وبوجهاتهم، ولو كلفوا أنفسهم بالتعامل مع الإخوان عن قرب لتغير رأيهم الذي كونته وسائل الإعلام المغرضة طوال السنين الماضية.

إن الإخوان حملة لواء الوطنية وروادها، وخير دليل على ذلك ما ورد في خطاب الإمام الشهيد، يخطئ من يظن أن الإخوان يتبرمون بالوطن والوطنية، فالمسلمون أشد الناس إخلاصا لأوطانهم وتفانيا في خدمة الأوطان، واحتراما لكل من يعمل لها مخلصا، والفارق بينهم وبين غيرهم من دعاة الوطنية المجردة أن أساس وطنية المسلمين هو العقيدة اللازمة الجازمة، وفي اعتقادهم أن التفريط في أي شبر من الوطن جريمة لا تغتفر فمن (مات دون وطنه فهو شهيد).هكذا يؤكد الإمام الشهيد على أن الانتماء والولاء للوطن عقيدة وعبادة، وأن على الشباب أن يقدموا الغالي والنفيس فداء لأوطانهم ، ثم يعود فيؤكد على أن الشباب لابد أ يتسم بالجدية والعزم فيقول:

يخطئ من يظن أن الإخوان دعاة كسل وتواكل أو إهمال ، فهم يعلنون في كل وقت أن المسلم لابد أن يكون إماما متميزا في كل شيء ولا يرضون بغير الريادة والعمل الجاد والسبق في كل شيء، ومع هذا فهم ينكرون على الناس هذه المادية الجارفة التي تجعلهم يريدون أن يعيشوا لأنفسهم فقط، وأن ينصرفوا بمواهبهم وأوقاتهم وجهودهم إلى الأنانية الشخصية، فلا يعمل إلا لشخصه، ولا يعني من أمر أمته بشيء، ونبينا يقول:" من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم" أو كقوله: " إن الله كتب الإحسان على كل شيء".

وعندما يثير المغرضون أن الإخوان دعاة تفريق عنصري، يرد عليهم مخاطبا الشباب.. مخطئ من يظن أن الإخوان يدعون إلى تفريق عنصري بين طبقات الأمة فنحن نعلم أن الإسلام عنى أدق العناية باحترام الرابطة الإنسانية العامة تبعا لقول الله تعالى:" يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" (الحجرات: 13) ، "لا نفرق بين أحد من رسله" (البقرة: 285) ، " ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى" (المائدة: 8)، كما أوصى بالبر والإحسان بين المواطنين وإن اختلفت عقائدهم" لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم" (الممتحنة: 8)، كما أوصى رسول الله بأهل الكتاب خيرا، " لهم ما لنا ، وعليهم ما علينا" واختص أهل مصر ، لأن لنا فيهم نسبا وصهرا، لكن إلى جانب ذلك لا نشتري هذه الوحدة بإيماننا، ولا نساوم في سبيلها على عقيدتنا.

يا الله.. وكأن الإمام الشهيد كان يستشرف الأحداث، ويرى بعين البصيرة ما تزدحم به وسائل الإعلام المغرضة والمريضة، فأبان في وضوح جلي رأي الإخوان وأصولهم التي تبع من كتاب الله وهد رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.

ويردف ذلك بقوله: يخطئ من يظن أن الإخوان يعملون لحساب هيئة من الهيئات، أو يعتمدون على جماعة من الجماعات، فالإخوان المسلمون يعملون لغايتهم على هدى من ربهم، فداء للإسلام والأوطان في كل زمان ومكان، وينفقون على ذلك مما رزقهم الله ابتغاء رضائه، ويفخرون أنهم إلى الآن وإلى أن تقوم الساعة لم ولن يمدوا أيديهم على أحد، ولم يستعينوا بفرد ولا هيئة ولا جماعة ، الله كافيهم.. وهو حسبهم.

ويعرج معلما في مجالات السياسية، فيخاطب شباب الطلاب ويبين لهم فكره في مجال الدين والسياسة، فيقول:

قلما تجد إنسانا يتحدث إليك في السياسة والإسلام إلا وجدته يفصل بينهما، ويضع كل واحد من المعنيين في جانب، فهما عند الناس لا يلتقيان ولا يجتمعان، فحدثوني بربكم: إذا كان الإسلام شيئا غير السياسية، وغير الاجتماع، وغير الثقافة، وغير لاقتصاد، فما هو إذن؟ أهو هذه الركعات الخالية من القلب الحاضر؟ أم هذه الألفاظ التي هي كما تقول رابعة العدوية: (استغفار يحتاج إلى استغفار) ، ألهذا نزل القرآن؟ أم أنه نظام كامل محكم مفصل " تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين" (النحل: 89).

وهكذا يعمد خصوم الإسلام إلى حصده، وحصر المسلمين في هذا الحيز الضيق الذي لا يخرج عن ركعات تؤدى في المسجد.

فالإسلام دين الشمول الذي يعني بجمع المسلمين على كلمة سواء، ويدعو إلى الوحدة والتضامن ، وينأى عن التعصب والتشدد، ولذا فإن المسلم لن يكتمل إسلامه إلا إذا كان سياسيا، بعيد النظرة في شئون أمته، مهتما بها، غيورا عليها، ولقد كذب وافترى من قال: إن الإخوان بدءوا كجماعة دينية، ثم تحولوا إلى جماعة سياسية".

كيف هذا والإسلام قد عنى بالسياسة ، ووضع لها القواعد والأصول، وبين معنى الحكومة ونظمها وبين مهماتها وتفصيل حقوقها وواجباتها ومراقبة الحاكمين، والإشراف عليهم، امتثالا لقول الله تعالى:" وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من لكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا" (المائدة: 48).

هكذا كانت وصايا الإمام الشهيد للشباب، وهكذا كان منهج تربيتهم، ولم يكن هذا الكلام مجرد كلام مرسل، بل كان عملا وتطبيقا، شهدت به الأحداث التالية:

1- ما إن دعا داعي الجهاد إلى فلسين عام 1948 م بعد أن تسلط عليها العدو الصهيوني، حتى تسارع شباب الإخوان من كل حدب وصوب إلى ميدان المعركة طلبا للشهادة، فسطروا تاريخا سجلته حروف مضيئة ينطق بالتجرد والجدية، وكانوا قاب قوسين من تل أبيب، لولا أن حماة الشر أعادوهم مكبلين بالأغلال إلى المعتقلات والسجون، ويكفيني هنا شهادة اللواء" صادق المواوي" قائد القوات المصرية في فلسطين، متبوعة بشهادة الضبع الأسود " سيد طه" قائد قوات الفالوجا.

2- وعندما أحس الإخوان في عهد أمام الهضيبي عام 1951م أن الإنجليز يحاولون كعادتهم الممالة في الجلاء بحجة حماية القناة، هبوا يعدون كتائب الفداء والجهاد، ولعلها المرة الأولى في تاريخ الجامعات محليا وعالميا، أن ترصد الميزانيات الجامعية لإعداد معسكرات الجهاد في الجامعات الثلاث (فؤاد الأول- إبراهيم باشا- فاروق الأول)، وتسابق الإخوان يؤدون ضريبة الدم، مقدمين مثلا حيا لفداء الوطن، واستهد في تلك المعارك أحمد المنيسي- طب القاهرة، عمر شاهين- آداب القاهرة، عادل غانم- طب عين شمس، عباس الأعسر- تجارة الإسكندرية، وكان منهم الأسرى على إبراهيم، ومحمد عبد الوهاب- علوم القاهرة.

وكانت جنازة الشهداء من الجامعات الثلاث شاهدا على التفرد وتلك التضحية والفداء .

3- ما إن بدأ الإعداد لثورة 1952 إلا وكان شباب الإخوان حماة للجبهة الداخلية، حرسوا البنوك والكباري والمنشآت العامة من القناة حتى القاهرة.

4- وأخيرا انتشر شباب الإخوان في كل مواقع المجتمع (الاتحادات الطلابية- النقابات- المحليات- البرلمان) ، فكانوا- ولا زالوا- نموذجا لطهارة اليد وإنكار الذات، المصلحة العامة هي الهاجس الأول والأخير، القدوة الحسنة والعطاء والتضحية والفداء، كما تعلموا من أستاذ الجيل حسن البنا .

مراجع:

1- رسائل الإمام الشهيد حسن البنا .

2- مذكرات الدعوة والداعية.

3- تاريخنا الحديث (شاهد عين في صفوف الجماعة من عام 1948 م حتى الآن).

الإمام الشهيد " حسن البنا "والتقريب بين المذاهب الإسلامية " رؤية معاصرة"

حسان عبد الله حسان

من أقوال الإمام الشهيد
" نعتذر لمخالفينا:

نعتقد هذا فنلتمس العذر لمن يخالفوننا في بعض الفرعيات، ونرى أن هذا الخلاف لا يكون أبدا حائلا دون ارتباط القلوب وتبادل الحب والتعاون على الخير، وأن يشملنا وإياهم معنى الإسلام السابغ بأفضل حدوده، وأوسع مشتملاته، ألسنا مسلمين وهم كذلك؟ وألسنا نحب أن ننزل على حكم اطمئنان نفوسنا وهم يحبون ذلك؟ وألسنا مطالبين بأن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا؟ ففيم الخلاف إذن؟ ولماذا لا يكون رأينا مجالا للنظر عندهم كرأيهم عندنا؟ ولماذا لا نتفاهم في جو الصفاء والحب إذا كان هناك ما يدعو إلى التفاهم؟

رسالة دعوتنا

مقدمة

مثلت العلاقات السنية- الشيعية حلقة مهمة من حلقات التاريخ الإسلامي، لعي فيها الاستعمار والوراثة والجهل دورا أساسيا في إثارة الاضطراب والقلق بين الفرقتين فترة طويلة من الزمن- لا زالت آثارها باقية حتى الآن- إلا أن هذه العلاقة لم تخل من بصيص من الأمل لإزالة هذا التوتر، وإعادتها إلى وعاء الأخوة الإسلامية مرة أخرى، والتي أعلن الله رباطها في الكتاب الكريم" إنما المؤمنون إخوة" (الحجرات: 10)، وكان هذا الأمل يظهر دائما في أفكار المصلحين في العالم الإسلامي.

ومن المحاولات الباكرة في تاريخ التقريب بين السنة والشيعة محاولة نادرشاه (1099هـ- 1160هـ) الملك الإيراني، الذي استطاع لأول مرة في التاريخ جمع علماء السنة والشيعة على وثيقة تقريبية مشتركة لأسس التفاهم المذهبي بينهما، ثم كانت محاولة جمال الدين الأفغاني ، و محمد عبده وآية الله الكاشاني، وآية الله البروجروري.

وفي مطلع العصر الحديث يطالعنا الإمام الشهيد حسن البنا ( 1906- 1949م) بمنهج فكري وسطي تقريبي، يطرح قضية " لوحدة الإسلامية" عاملا أساسيا لعلاج مشكلات العالم الإسلامي الراهنة- آنذاك- وأخطرها الاستعمار، وكذلك يطرح محورا جوهريا لعلاج مشكلة التراجع الحضاري بعد سقوط الخلافة الإسلامية، لذلك جاءت رسائله وخطبه في تشخيص هذا الواقع المرير الذي تعيشه الأمة الإسلامية وبيان سببه الرئيسي المتمثل في الخلافات بين المسلمين، التي أودت بحاضرهم ومستقبلهم إلى ما هم عليه حتى الآن.

وانطلاقا من هذه المسئولية الحضارية التي تحملها الإمام الشهيد تجاه "الأمة الإسلامية" طرح برنامجا ومنهاجا التزمه هو أولا، ثم جماعته "الإخوان المسلمون " تمثل في هذا المنهج الوحدوي والتقريبي بين عناصر "الأمة" وكان في ذلك أمينا على أمته ودينه في مقابل عناصر التفريق والتباعد.

منهج البحث

يعتمد البحث الحالي على منهج القراءة وإعادة إنتاج النص ووضعه في إطارين: الأول، الإطار التاريخي للفكرة، والثاني، الإطار المعرفي، حيث إن إنتاج "أفكار الإمام الشهيد " جاءت في ظروف تاريخية معينة مر بها العالم الإسلامي ، كما أن أفكاره ليست بمعزل عن باقي الأفكار التي ظهرت في تلك الفترة ضمن "المشروع النهضوي الإسلامي" الذي بدأ عقب سقوط الخلافة الإسلامية، والذي بدأه الأفغاني، و محمد عبده ، ورشيد رضا، وواصله الإمام الشهيد حسن البنا ، ثم إن هذه الأفكار تمتد إلى الواقع المعاش، من حيث كونها تتضمن رؤية مستقبلة لأحوال العالم الإسلامي، فلا يزال العالم الإسلامي في حالة تتشابه مع حالته الأولى من : التراجع الحضاري، والضعف السياسي، والتبعية الاقتصادية والغزو الثقافي مع ملاحظة تطور هذه السمات وفقا للتوصيف العالمي القهري للمسلمين، ومن ثم فهذه الأفكار يمكن أنتكون دعوة لإصلاح اليوم، كما كانت دعوة لإصلاح الأمس، فالواقع يبرز لنا الحاجة إلى نصوص تقريبية ووحدوية وإصلاحية يجتمع حولها المسلمون لنشدان نهضتهم التي ينتظرونها منذ زمن.

لذلك يقوم المنهج المتبع في هذا البحث على عدة مستويات:

1- عرض وتحليل بعض أفكار الإمام الشهيد من خلال مجموعة الرسائل.

2- المناقشة والحوار للآراء المعروضة في حد ذاتها، وفي إطارها التاريخي، وفي مستوى عصرها من أجل تعميقها وتحريكها استعدادا لإعادة كتابتها وإنتاجها وصياغتها في ظروف أخرى جديدة.

3- إعادة كتابة النص في إطار معرفي داخل "المشروع النهضوي الإسلامي" المعاصر، باعتبار أن أفكار الإمام الشهيد تحمل أفكارا لمشروع النهضة الإسلامية.

ومن المفاهيم النهضوية التي حاولنا تحريكها وإعادة إنتاجها عند الإمام الشهيد:

مفهوم "الأمة" وأبعاده العقدية والمنهجية والفكرية، مفهوم " التقريب ومنطلقاته" أو " الوحدة الإسلامية ومنطلقاتها" في ظل تراث دس فيه البعض سموم الاختلاف والفرقة، وواقع يوجد فيه من يستدعي هذا الاختلاف ويؤججه بين المسلمين ومفهوم "الوجود الإسلامي " في ظل المتغيرات العالمية السياسية والاقتصادية والثقافية، وموقعه على الخريطة العالمية، من حيث القوة والتأثير وكذلك مفهوم " الاختلاف" وأبعاده الحقيقية والطريقة السوية للتعامل معه داخل الإطار الإسلامي، ثم تطرق البحث إلى استنباط مجموعة من الأصول الفكرية والعملية التي أرساها الإمام الشهيد لتكون نموذجا فكريا في البنا ء التربوي للشخصية المسلمة.

أولا: واقع الأمة الإسلامية عند الإمام الشهيد.. الأزمة والعلاج "رؤية تقريبية"

يعيش العالم الإسلامي المعاصر ظروفا تتشابه مع الظروف التي عاشها الإمام الشهيد منذ مائة عام، فإذا كان سقوط الخلافة الإسلامية وتفتت العالم الإسلامي أبرز ملامح هذه الأزمة، فإن الواقع الإسلامي المعاصر يوافق ذلك تماما، وإن زاد عليه أحد وجوه هذه الأزمة، والمتمثل في الفتنة القائمة بين الشيعة والسنة الآن.. وقد تنبه الإمام الشهيد إلى الأسباب التي أفرزت هذا الواقع وقراءته منذ مائة عام قراءة تتق مع القراءة الواعية المعاصرة، فأشار (رضي الله عنه) في رسالة " بين الأمس واليوم" تحت عنوان :" عوامل التحلل في كيان الدولة الإسلامية " إلى أن أهم العوامل:

1- الخلافات السياسية والعصبية وتنازع الرئاسة والجاه، مع التحذير الشديد الذي جاء به الإسلام في ذلك، والتزهيد في الإمارة، ولفت النظر على هذه الناحية التي هي سوس الأمم ومحطمة الشعوب والدول " لا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين" (الأنفال: 46) ، ومع الوصية البالغة بالإخلاص لله وحده في القول والعمل والتنفير من حب الشهوة والمحمدة.

2- الخلافات الدينية والمذهبية والانصراف عن الدين كعقائد وأعمال إلى ألفاظ ومصطلحات ميتة لا روح فيها ولا حياة، وإهمال كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، والجمود والتعصب للآراء والأقوال، والولع بالجدل والمناظرات والمراء، وكل ذلك مما حذر منه الإسلام، ونهى عنه أشد النهي.

والإمام الشهيد في هذا النص يبرز بوضوح دور " الخلافات" ،و" التنازع"، و" الجود" ، و" التعصب"، و" الجدل المذموم" في تمزيق أواصر مفهوم "الوحدة الإسلامية" وتغيب الأمة الإسلامية" وهذا الأخير ما حاول الإمام إحياءه في منهجه التقريبي، الذي يدعو إلى نبذ الخلافات، وإحياء مفهوم" الأمة الإسلامية" يقول الإمام الشهيد في رسالة "دعوتنا" .. إننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة.. فكل بقعة فيها مسلم يقول:" لا إله إلا الخ محمد رسول الله) وطن عندنا له حرمته وقداسته وحبه، والإخلاص له، والجهاد في سبيل خيره، وكل المسلمين في هذه الأقطار الجغرافية أهلنا وإخواننا نهتم لهم ونشعر بشعورهم ونحس بإحساسهم، ثم يضيف قائلا: " وأحب أن أنبهك إلى سقوط ذلك الزعم القائل: إن الجري على هذا المبدأ يمزق وحدة الأمة التي تتألف من عناصر دينية مختلفة، فإن الإسلام، وهو دين الوحدة والمساواة، كفل هذه الروابط بين الجميع ما داموا متعاونين على الخير.. ويبقى بعد ذلك أن يعملوا لترفع راية الوطن الإسلامي على كل بقاع الأرض، ويخفق لواء "المصحف" في كل مكان.

إن إحياء مفهوم " الأمة" كما أشار إليه الإمام الشهيد- يمثل المنطلق الأساسي للبناء المنهجي والفكري لوحدة المسلمين، ذلك المفهوم الذي مزقته "الدولة القطرية" في القرن العشرين و"العولمة" في القرن الحادي والعشرين.

والأمة في اللغة تعني : الدين ، قال أبو إسحاق في قوله تعالى:" كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين"( البقرة: 213) أي كانوا على دين واحد، والأمة: الطريقة والدين يقال: فلان لا أمة له، أي لا دين له ولا نحلة، وقال تعالى:" كنتم خير أمة" (آل عمران: 110)، قال الأخفش : يريد أهل أمة أي خير أهل دين. والإسلام هو دين أمتنا لذلك تنعت بـ "الأمة الإسلامية" " إن الدين عند الله الإسلام" (آل عمران: 19)، "إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكن فاتقون" (المؤمنون: 52)، " إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون" (الأنبياء: 92).

والأمة الإسلامية : مفهوم إلهي أطلقه الله على الجماعة البشرية التي تؤمن به وتعبده، ورضي لها الإسلام دينا وشريعة" اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" (المائدة: 3)، وهذا هو الذي يميز الأمة الإسلامية عن غيرها من الأمم التي ذكرها القرآن الكريم، وهي إضافة "الإسلام" إليها كنهج استراتيجي في الدنيا والآخرة، وقد أعطى الإسلام مجموعة من الأبعاد التي تشكل النسق الحضاري للأمة الإسلامية، وهذه الأبعاد هي:

1- البعد العقدي، ذلك البعد الذي يتضمن "التوحيد" في الاعتقاد والعبادة لإله واحد، والمتمثل فيش هادة " لا إله إلا الله " والتي تعد مصدر قوة الإنسان المسلم ومصدر عزته ، وتحريرا له من أغلال وعبودية غير الله، وتحريرا لطاقته من الشهوات والغرائز والأشياء والعلائق المتغيرة.

2- البعد الفكري والمنهجي، إن مفهوم الأمة الإسلامية يحدد للمسلم أصول فكره ومنهجه ونسقه المعرفي، فالأفكار الإسلامية هي نتاج التقاء (العقل) مع (النص أو الوحي) والعقل هو الذي يقوم بالاستنباط والإبداع لإيجاد الصيغة المعرفية لإقامة واقع يتمثل فيه الفكر الإسلامي الناتج ع هذا التفاعل، ومعه تنتج الحضارة الإسلامية.

هذا البعد يمثل "الهوية" التي يجب أن يعمل لها أصحاب الدعوة إلى "وحدة الأمة" كما يتيح من خلاله تحديد نقاط الالتقاء بين العقل والوحي والتعرف على النتاج الإسلامي وتاريخيته، وما يمكن استمراره، وما يجب الاستغناء عنه، وما يجب أن يضاف من معارف وأفكار- ناتجة عن المستجدات، إلى المنهج الفكري الإسلامي في استنباطه لعلاقات وصيغ جديدة للواقع الجديد.

وهذا البعد الفكر والمنهجي يمكن أن يساعد في تحديد نظرة إسلامية واحدة حول:

- التصور الفكري للإنسان والعالم والكون.

- القواعد الأساسية التي تحدد العلاقة الراهنة بين العقل والوحي.

- الموقف من التراث الفكري والفقهي.

- الموقف من التراث البشري لغير المسلم.

- الوسائل والقواعد العامة لتفاعل المسلم مع اللحظة الراهنة والمستقبلية .

3- بعد الوسطية: والوسط في اللغة: ظرف بمعنى "بين" يقال جلس وسط القوم، (الوسط) وسط الشيء : ما بين طرفيه وهو منه، والمعتدل من كل شيء يقال: شيء وسط بين الجيد والردئ، وما يكتنفه بين أطرافه ولو من غير تساو وبعدل وبخير، وفي التنزيل" وكذلك جعلناكم أمة وسطا" (البقرة: 13)، أي عدولا وخيارا، والوسطية صفة رئيسية للأمة الإسلامية، وهي إرادة الله لهذه الأمة وقدرها" وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس" (البقرة:143).

وينفي د. محمد عمارة: أنتكون هذه الوسطية انعدام الموقف الواضح والمحدد أمام المشكلات والقضايا المشكلة، أو أن تكون وسطا بين رذيلتين مثل " الفضيلة اليونانية" ، ولكنها في التصور الإسلامي، موقف ثالث حقا، ولكن توسطه بين النقيضين المتقابلين لا يعني أنه منبت الصلة بسماتها وقسماتها ومكوناتها.. إنه مخالف لهما، ليس في كل شيء، وإنما خلافه لهما، منحصر في رفضه الانحصار والانغلاق على سمات كل قطب من الأقطاب وحدها دون غيرها.. منحصر في رفضه الإبصار بهين واحدة، لا ترى قطبا واحدا، منحصر في رفضه الانحياز المغالي، وغلو الانحياز ولذلك، فإنه كموقف ثالث وجديد إنما يتمثل تميزها، وتتمثل جدتها في أنها تجمع وتؤلف ما يمكن جمعه وتأليفه- كنسق غير متنافر ولا مغلق- من السمات والقسمات والمكونات الموجودة في القطبين النقيضين كليهما، وهي لذلك: " وسيطة جامعة".

ويذكر سيد قطب في تفسيره آية الوسطية "أمة وسطا" .. في التصور والاعتقاد، لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي، إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد، أو جسد به روح، وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقه المتكامل من كل زاد وتعمل على ترقية الحياة ورفعها في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها" أمة وسطا" في التفكير والشعور، لا تجمد على ما علمت، وتغلق منافذ التجربة والمعرفة، إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول، ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب، وشعارها الدائم: الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها، في تثبت ويقين.

إن بعد الوسطية يمكن المشروع الحضاري من:

1- تحقيق التوازن، والشمول في الرؤية الفكرية والمنهجية.

2- مراعاة السنن الحضارية وحركة الكون والأشياء.

3- صياغة رؤية متكاملة عن المستجدات والمتغيرات المعاصرة.

4- تحديد الثوابت والمتغيرات في حركة العمل الإسلامي.

5- ترشيد الفهم الخاص بالخلافات المذهبية والتنظيمية.

6- تحقيق التفاعل الخلاق بين المسلم وحضارة العصر الذي يعيش فيه.

7- بلورة برامج التنمية الفكرية لتحقيق الوحدة الفكرية بين المسلمين.

يلاحظ- إذن – أن هناك مستويين للشهادة: مستوى التحمل، ومستوى الأداء، وبتحقيق المستويين يتم الشهود للأمة المسلمة، والشهود- وفقا لذلك- يتطلب ما يلي:

1- الاستقلالية الفكرية والمنهجية: للذات التي تقوم بهذا الشهود، فلا يمكن لأمة أن تقيم شهودها، وهي في حالة تبعية.

2- الحجة الحضارية: وهي شرط أساسي لقبول الشهادة، وتستلزم "الحضور الحضاري" ، و" الفعل الحضاري" للذات الشاهدة لأن الغياب يؤدي إلى رفض الشهادة.

3- العدل الحضاري: فالشهادة تتطلب أن يكون الشهداء عدولا، و" العدل الحضاري" يتطلب "القوة الحضارية" للذات التي تقوم بالشهادة، فلا شهادة لضعيف أو واهن أو متخلف.

4- البصيرة الحضارية، وتقتضي سلامة المنهج النظري والعملي للذات الشاهدة، حتى يثبت صدق شهادتها، لأن الكذب يلازم غياب المنهج أو مرضه.

5- وحدة الذات الشاهدة، لأن الانقسام والتعدد يؤدي إلى الانفصال ، ويشكك في قبول الشهادة وقيمتها.

إن تحديد الأبعاد والمحددات الرئيسية التي تتسم بها " الأمة الإسلامية" من شأنه أن يسهم في تحقيق الوحدة المنهجية والفكرية بين المسلمين، وتسهم أيضا في خلق إرادة واحدة فاعلة لها نسقها الفكري الموحد- بدلا من تعدد الأنساق وتعدد الإرادات- كما أن إحياء مفهوم الأمة كما يؤكده الإمام الشهيد حسن البنا يجعل الولاء للإسلام، وليس لمذهب أو لتنظيم أو لجماعة، أو يجعل ولاء المذهب والتنظيم والجماعة "للأمة الإسلامية" ، فتكون الأمة قائدا ومحورا وليست تابعا أو فرعا، ويعطي مفهوم الأمة- أيضا- تميزا في الهوية لكل المسلمين في العالم فيخرجهم من دوائر تصنيفات الهيمنة الغربية: " العالم المتخلف" ، "العالم النامي" ، " دول الجنوب" ، " الشرق الأوسط"، ويصبح الانتماء " للأمة الإسلامية" هو الركن الأساسي في عنوان المسلم المعاصر، والجنس في تعريفه، والمحدد الأول لهويته.

ثانيا: مشروعية الاختلاف، ولا مشروعية النزاع والعداء

أكد الشهيد في منهجه للتقريب بين المذاهب الإسلامية على مشروعية الاختلاف الفكري والفقهي، إلا أنه نهى عن أن يكون هذا الاختلاف سببا للنزاع والعداء بين المسلمين، وقد وضع لهذه القاعدة ثلاثة محاور جوهرية تنطلق منه دعوته في التقريب بين طوائف ومذاهب الأمة الإسلامية، وهذه المحاور هي:

المحور الأول: الوحدة لا الفرقة

يقول الإمام الشهيد: "فاعلم – فقهك الله أولا أن دعوة الإخوان المسلمين دعوة عامة لا تنتسب إلى طائفة خاصة، ولا تنحاز إلى رأي عرف عند الناس بلون خاص ومستلزمات وتوابع خاصة، وهي تتوجه على صميم الدين ولبه، ونود أن تتوحد وجهة الأنظار والهمم حتى يكون العمل أجدى، والإنتاج أعظم وأكبر، فدعوة الإخوان دعوة بيضاء نقية غير ملونة بلون، وهي مع الحق أينما كان، تحب الإجماع وتكره الشذوذ، وإن أعظم ما مني به المسلمون الفرقة والخلاف، وأساس ما انتصروا به الحب والوحدة، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها ، هذه قاعدة أساسية وهدف معلوم لكل أخ مسلم، وعقيدة راسخة في نفوسنا، نصدر عنها وندعو إليها".

يبين هذا النص بوضوح خاصية "الإسلامية" التي وصف بها الإمام الشهيد دعوته- في هذه الرسالة- وما تتميز به من اتساع وشمول، بحيث أضحى منهج هذه الدعوة غير مقيد بزي خاص ولا عصبية مقيتة، ولا مذهبية عمياء، وهذا هو الإسلام نفسه الذي أرسل الله به نبيه صلى الله عليه وسلم " رحمة للعالمين" ( الأنبياء: 107)، " لتعارفوا" (الحجرات: 13)، " ن أكرمكم عند الله أتقاكم" (الحجرات: 13)، وبهذا التصور الفريد لدعوة الإمام الشهيد تتربى طائفة كبيرة من الأمة الإسلامية، استنادا إلى هذا المنهج القويم الذي يدعو المسلمين إلى "الحب"، و"الوحدة"ن ونبذ "الخلاف" و" الفرقة" " واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم" (آل عمران: 103) فالإسلام جاء لتأليف القلوب لا لغرس البغضاء باسم الإسلام.

المحور الثاني: ضرورة الخلاف

كان الإمام الشهيد( رحمه الله) مربيا دارسا لكتاب الله وطبائع النفس البشرية ومقاصد الخلق، لذلك فإن الوحدة الفكرية التي نشدها الإمام لا تعني بالضرورة صب المسلمين في قوالب فكرية واحدة جامدة، لأن ذلك يخالف الشرع الذي أكد على اختلاف الناس، وهنا يذكر الإمام قوله:" ونحن مع هذا نعتقد أن الخلاف في فروع الدين أمر لابد منه، وضرورة لا يمكن أن نتحد في هذه الفروع والآراء والمذاهب لأسباب عدة منها:

- اختلاف العقول في قوة الاستنباط أو ضعفه، وإدراك الدلائل والجهل بها والغوص في أعماق المعاني.

- ارتباط الحقائق بعضها ببعض، والدين آيات وأحاديث ونصوص يفسرها العقل والرأي في حدود اللغة وقوانينها، والناس في ذلك جد متفاوتين، فلابد من خلاف.

- سعة العلم وضيقه، وإن هذا بلغه ما لم يبلغ ذاك، والآخر شأنه كذلك.

- اختلاف البيئات، حتى أن التطبيق ليختلف باختلاف كل بيئة.

- اختلاف الاطمئنان القلبي إلى الرواية عند التلقين لها.

- اختلاف تقدير الدلالات: فهذا يعتبر عمل الناس مقدما على خبر الآحاد مثلا، وذاك لا يقول معه به، وهكذا.

المحور الثالث: صعوبة الإجماع على أمر فرعي

يقرر الإمام الشهيد في هذا المحور، وبعد هذه المقدمات المنطقية في المحورية السابقين أن " الإجماع على أمر واحد في فروع الدين مطلب مستحيل، بل هو يتنافى مع طبيعة الدين، وإنما يريد الله لهذا الدين أن يبقى ويخلد ويساير العصور ويماشي الأزمان، وهو لهذا سهل مرن هين لين، لا جمود فيه ولا تشديد".

يؤكد الإمام الشهيد- هنا على خاصية التعددية الفكرية، والتي تستند في جوهرها إلى النص القرآني الذي يبرز لها أصولا متعددة في وجه القائلين بالأحادية الفكرية التي نهى عنها الكتاب الكريم، ونفاها باعتبارها _أي الواحدية- تخص الله وحده، ولا تخص أيا من مخلوقاته، والإمام بذلك يسهم في إرساء أصول إسلامية للتعددية الفكرية في المجتمع الإسلامي، والتي هي الوجه الحقيقي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، ومنهج الشهيد في ذلك يعتمد في جوهره على الأصول القرآنية التي تؤهل لمفهوم التعددية- بوجه عام- ومن هذه الأصول:

أصل التنوع والاختلاف، ومظاهره في القرآن:

أ‌- تنوع الخطاب الإلهي: حيث لم يقصر "الله" تعالى خطابه على المؤمنين بالكتاب فقط، أو الذين سوف يؤمنون في المستقبل به، بل كان خطابه للناس - أيضا- كل الناس : مؤمنهم، وكافرهم، رجالهم، ونسائهم، شيوخهم وشبابهم، ومن استقراء لألفاظ القرآن الكريم، وجدنا أن الله تعالى وجه خطابه "للناس" بما يزيد على مائتين وأربعين مرة و " الإنسان" خمس وستين مرة، و " يا أيها الذين آمنوا" سبع وثمانين مرة، وإن دل ذلك فإنما يدل على عالمية الخطاب القرآني وعموميته وعالمية رسالته:" قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والأرض" (الأعراف: 158) كما يؤكد – أيضا- على تعددية هذا الخطاب وتنوعه.

ب‌- تنوع في الخليقة، يقول تعالى:" ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور" (فاطر: 27، 28)، " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم" (الحجرات: 13)، " واختلاف ألسنتكم وألوانكم" (الروم: 22)

يشير التنوع هنا إلى التعددات :العرقية، والثقافية واللغوية باعتبارها جميعا من "جعل" الله تعالى ، أي أنها هي "الأصل" في المجتمع البشري، وليست طارئة عليه، أو هي علة تصيبه، بل إن الأمر الطبيعي هو أن يتسم المجتمع البشري بهذه التعددية التي هي تناقض للأحادية.

جـ- تنوع في الطبيعة الإنسانية: فالله تعالى لم يخلق الإنسان من مكون واحد وإلا لانحاز الإنسان إلى هذا المكون في واقعه الاجتماعي والطبيعي، فقد ذكر الله – سبحانه وتعالى- العناصر التي تكون منها الإنسان- والتي يمكن تقسيمها إلى عنصرين رئيسيين هما: العنصر المادي، والعنصر الروحي، ففي التكوين المادي يذكر الله تعالى أن الإنسان تكون من طين، وطين لازب، وتراب، وحمأ مسنون، وصلصال ، قال تعالى : " هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده" (الأنعام: 2)، " إنا خلقناكم منطين لازب" (الصافات: 11)، " علمه البيان" (الرحمن: 4)، " ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون" (الحجر: 26)، أما التكوين الروحي: فهو النفخة الإلهية في هذه العناصر المادية" فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين" (ص: 72).

د- تنوع في الشرائع المرسلة: ويشير النص القرآني إلى ذلك في قوله تعالى:" لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا"

أصل الحرية:

جاء النص" القرآني ليدعو الناس على الحرية، وتبدو أهم مظاهر هذه الحرية في:

أ‌- حرية العقل في التفكير، بلا قيود أو انحيازات مسبقة حتى يستطيع إصدار الأحكام السليمة، وذلك عن طريق ذم التقليد في مقابل الاستقلالية، قال تعلى:" وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون" (المائدة: 104)، ونهى عن الشك المطلق في مقابل الحق يقول تعالى:" إن الظن لا يغني من الحق شيئا" (يونس: 36)، ونهى عن اتباع الهوى والتحيز في مقابل الموضوعية " بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم" (الروم: 29).

والآيات كثيرة، تلك التي وضعت قواعد لتحرر الإنسان في تفكيره من سيطرة الخرافات والشعوذة، والانحيازات والتعصبات والقومية ، بل والدينية –أيضا- وكل ما من شأنه أن يحجر على التفكير الحر للإنسان.

ب‌- طلب الدليل والبرهان والحجة، لم ينكر الله تعالى على المخالفين مخالفتهم، ولكنه طلب منهم البرهان والحجة والدليل على مخالفته جل شأنه في مقابل أن قدم- تعالى- البرهان على صدق المرسل والرسول، قال تعالى" قد جاءكم برهان من ربكم" (النساء: 174)، " قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي" (الأنبياء: 24)، " قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين" (البقرة: 111).

جـ- حرية العقيدة : وقد أشار النص القرآني، في أكثر من موضع إلى أن الإيمان والإسلام ليسا بالإكراه ، ولا يمكن للنبي أن " يكره" الناس في ذلك، لهذا فإن الحرية "المشيئة" للإنسان في أن " يؤمن" أو أن "يكفر" ، طالما توفرت له أسباب التفكير السليم الحر، والذي يوفره له الإسلام أصلا، ومن النصوص القرآنية التي تؤكد هذا المعنى" لا إكراه في الدين"(البقرة: 256)، " أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين"(يونس: 99)، " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" (الكهف: 29)، " لست عليهم بمسيطر" (الغاشية: 22).

أصل الحوار:

الحوار في جوهره يعني قبول مناقشة آراء الآخر، وهذا يعني – أيضا- الاعتراف بوجود ذلك الآخر، وجودا عقليا أكثر منه وجودا جسميا، وقد أشارت إحدى الدراسات إلى أحد عشر نوعا من أنواع الحوار في القرآن الكريم ومنها:

- حوار بين الخالق- عز وجل- وبين بعض المخلوقات.

- حوار بين الرسل (عليهم السلام) وبين أقوامهم.

- حوار مع أهل الكتاب.

- حوار مع المنافقين.

- حوار حول ما أحله الله تعالى وما حرمه.

وقد قدمت هذه الحوارات القرآنية قواعد عديدة ينبغي اعتبارها عند "الحوار" ، مثل: الموضوعية والحياد، احترام الآخر، قبول الرأي المخالف، الجدال بالحسنى... إلخ، وإن البحث في هذه الحوارات القرآنية يمكن أن يقدم للمسلم أصولا وقواعد واضحة لجوهر " التعددية" مثل أصل "الكلمة السواء" في الحوار مع أهل الكتاب، وقاعدة "طلب البرهان" مع الكافرين، وغيرها من القواعد التي تسهم بشكل فعال في وضع إطار إسلامي للتعددية.

وتأكيدا لما ذهب إليه الإمام الشهيد في قوله: إن "الإجماع على أمر واحد في فروع الدين مطلب مستحيل ، بل يتنافى مع طبيعة الدين، وإنما يريد الله لهذا الدين أن يبقى ويخلد.." ، فإن المعنى المقابل يعني أن الانحصار في رأي أو قول واحد يأذن بأفول الدين، ولهذا تضمنت المنظومة الفكرية الإسلامية- في ظل ازدهار الحضارة الإسلامية- مناهج وأفكارا شتى، تعالج المواقف والحوادث برؤ فكرية وفقهية مختلفة، انطلاقا من قاعدة " صلاحية الدين( الشريعة) لكل زمان ومكان وكذلك قاعدة "المرونة" و"السعة" التي أشار إليها الإمام الشهيد بقوله عن الدين بأنه "... سهل من هين لا جمود فيه ولا تشديد".

وقد بلغ عدد المذاهب الفقهية التي نشأت في ضوء الأسباب السابقة إلى ما يزيد على عشرة مذاهب ظل يعمل بالكثير منها حتى اليوم، ومنها:

1- مذهب أبي حنيفة النعمان (80هـ- ت 150هـ).

2- مذهب مالك ابن أنس (93هـ- ت 179هـ).

3- مذهب الإمام الشافعي (150هـ- ت 204 هـ).

4- مذهب أحمد بن حنبل ( 164هـ- ت 241هـ).

5- المذهب الزيدي (زيد بن على) ( 80هـ- ت 122 هـ).

6- المذهب الجعفري (جعفر الصادق) (80 هـ- ت 148هـ).

7- مذهب الأوزاعي ( 88 هـ - ت 157 هـ ).

8- مذهب سفيان الثوري ( 97هـ- ت 161هـ).

9- مذهب داود الظاهري (200هـ- ت 270هـ).

10- مذهب ابن جرير الطبري (ت 310هـ).

وهناك مذاهب أخرى لم نعرفها ،ولم ينشرها أصحابها، ولا تلامذتهم، ولم يجدوا من الحكام من يتبنى مذهبهم فيعمل على نشره وإذاعته بين الناس.

وقد تراوحت الاختلافات الفقهية في نوعية وترتيب الأدلة الشرعية، وإن كانت كل المذاهب تتفق على أسبقية الكتاب والسنة وصدارتهما لكل الأدلة، إلا أن الاختلاف كان في الآليات التي يمكن أن نستنبط منها الحكم: هل بظاهر النص، أم تأويله؟ هذا فيما يتعلق بالوحي، أما الأدلة الأخرى فتراوحت بين العمل بالرأي كما عند أبي حنيفة، إلى الإجماع عند مالك، والقياس عند الشافعي، وفتوى الصحابي عند أحمد بن حنبل.

وباستقراء كتب أصول الفقه نجد أن "التعددية الفقهية" أنتجت ما يقرب من تسعة أدلة يمكن من خلالها إصدار الأحكام الفقهية، التي كانت على عهد النبي وصحابته اثنين أو ثلاثة، ولكنها تطورت وفقا لعوامل "الحرية الفكرية" "والمكان والزمان" فأصبحت بعد الوحي (الكتاب والسنة) تسعة أدلة أو يزيد ، وهي:

1- الإجماع، ويعني: اتفاق جميع المجتهدين من المسلمين في عصر من العصور بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم على حكم لتساوي الواقعتين في علة هذا الحكم.

2- القياس، وهو إلحاق واقعة لا نص على حكمها بواقعة ورد نص بحكمها، في الحكم الذي ورد به النص، لتساوي الواقعتين في علة هذا الحكم.

3- الاستحسان، وهي العدول عن قياس جلس إلى قياس خفي، أو استثناء مسألة جزئية من أصل كلي، أو قاعدة عامة لدليل يقتضي هذا العدول.

4- المصالح المرسلة، هي المصالح التي لم يشرع الشارع أحكاما لتحقيقها، ولم يقم دليل معين على اعتبارها أو إلغائها.

5- سد الذرائع "الوسائل" ، ويعني سد الوسائل والأفعال والطرق المؤدية إلى الشر والفساد أو فتح الوسائل والأفعال والطرق المؤدية على المصالح والإصلاح.

6- العرف، هو ما اعتاده الناس وساروا عليه في أمور حياتهم ومعاملاتهم من قول أو فعل أو ترك بما لا يخالف الشرع، أما العرف الفاسد، فلا خلاف بين الفقهاء على تركه وعدم الاعتبار له.

7- مذهب الصحابي، ذهب بعض الفقهاء إلى أن قول الصحابي حجة يجب اتباعه، وللمجتهد أن يتخير من أقوال الصحابة ما يراه أقرب إلى الكتاب والسنة.

8- شرع من قبلنا، وهي الأحكام التي شرعها الله تعالى لمن سبقنا من الأمم وأنزلها على أنبيائه ورسله لتبليغها لتلك الأمم.

9- الاستصحاب، ويعني الحكم ببقاء الشيء على ما كان عليه في الماضي، حتى يقوم الدليل على تغييره، أو هو بقاء الحكم الثابت في الماضي حتى يقوم الدليل على تغيره.

ويحصي الطوفي (ت 716هـ) تسعة عشر دليلا عند الفرق الإسلامية جميعا "أولها الكتاب، وثانيها السنة، وثالثها إجماع الأمة، ورابعها إجماع أهل المدينة، وخامسها القياس، وسادسها قول الصحابي، وسابعها المسلحة المرسلة وثامنها الاستصحاب، وتاسعها البراءة الأصلية، وعاشرها العادات، والحادي عشر الاستقراء، والثاني عشر سد الذرائع، والثالث عشر الاستدلال، والرابع عشر الاستحسان، والخامس عشر الأخذ بالأخف، والسادس عشر العصمة، والسابع عشر إجماع أهل الكوفة، والثامن عشر إجماع العترة عند الشيعة، والتاسع عشر إجماع الخلفاء الأربعة.

إن اختلاف الفقهاء كان علامة مضيئة في تاريخنا الإسلامي، وهو نتاج واضح لأصل "التعددية" و" الحرية" و"التنوع" الذي أقره الإسلام متمثلا في الوحي، وفد صدقه الواقع في أقرب شيء إلى الإسلام، وهو " التشريع"، هذا لا ينفي بالطبع" الصدمات" و" الصدامات" المقلقلة التي نشأت على هامش هذه الحرية الفكرية التي عاشها العقل حوالي ما يقرب من أربعة قرون.

الأصول الفكرية والعملية للتقريب

يتسم منهج الإمام الشهيد بالإمكان واليسر العملي في التطبيق، بل إن منهجه في السلس منهج تربوي يتعدى جدل الفلاسفة ونظريات المفكرين إلى التطبيق في الواقع العملي، لذلك اتسمت أفكاره هـ "الإجرائية" في بناء الشخصية المسلمة، ومن ثم فعندما مقول" الأصول الفكرية" للتقريب، فهي لا تمثل فقط منهاجا نظريا، بل في الأساس إجراءات وخطوات تنفيذية في هذا الاتجاه الرشيد، وقد حدد الإمام الشهيد مجموعة من الأصول التي ينبغي للشخصية المسلمة التزامها في بنائها العقدي والفقهي والثقافي الإسلامي برؤية تقريبية عميقة، ومن أهم هذه الأصول ما يلي:

أصل 1، شمولية الإسلام:

الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا، فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء.

أصل 2، مصدرية الفكر:

- القرآن الكريم والسنة المطهرة مرجع لكل مسلم في تعرف أحكام افسلام ، ويفهم القرآن طبقا لقواعد اللغة العربية من غير تكلف ولا تعسف، ويرجع في فهم السنة المطهرة إلى رجال الثقات.

- كل يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم ، وكل ما جاء عن السلف (رضوان الله عليهم) موافقا للكتاب والسنة قبلناه، وإلا فكتب الله أولى بالاتباع، ولكنا لا نعرض للأشخاص، فيما اختلف فيه- بطعن أو تجريح، ونكلهم إلى نياتهم، وقد أفضوا إلى ما قدموا.

أصل 3، في المسألة الفقهية:

- لكل مسلم لم يبلغ درجة النظر في أدلة الأحكام الفرعية أن يتبع إماما من أئمة الدين، ويجسن به من هذا الاتباع أن يجتهد ما استطاع في تعرف أدلته، وأن يتقبل كل إرشاد مصحوب بالدليل متى صح عنده صلاح من أرشده وكفايته، وأن يستكمل نقصه العلمي إن كان من أهل العلم حتى يبلغ درجة النظر.

- الخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سببا للتفرق في الدين، ولا يؤدي على خصومة ولا بغضاء، ولكل مجتهد أجره، ولا مانع من التحقيق العلمي النزيه في مسائل الخلاف في ظل الحب في الله والتعاون على الوصول إلى الحقيقة ، ومن غير أن يجر ذلك على المراء المذموم والتعصب.

- كل مسألة لا يبنى عليها عمل فالخوض فيها من التكلف الذي نهينا عنه شرعا، ومن ذلك كثرة التفريعات للأحكام التي لم يقع، والخوض في معاني الآيات القرآنية الكريمة التي لم يصل إليها العلم بعد، والكلام في المفاضلة بين الأصحاب (رضوان الله عليهم ) ما شجر بينهم من خلاف، ولكل منهم فضل صحبته وجزاء نيته، وفي التأول مندوحة.

أصل 4، في معرفة الله:

معرفة الله – تبارك وتعالى- وتوحيده وتنزيهه أسمى عقائد الإسلام، وآيات الصفات وأحاديثها الصحيحة، وما يليق بذلك من التشابه، نؤمن بها كما جاءت من غير تأويل ولا تعطيل، ولا نتعرض لما جاء من خلاف بين العلماء، ويسعنا في ذلك ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه " والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا " (آل عمران: 7).

أصل 5، في البدعة:

البدعة الإضافية والتركية والالتزام في العبادات المطلقة خلاف فقهي لكل فيه رأيه، ولا بأس بتمحيص الحقيقة بالدليل والبرهان.

أصل 6، النهي عن التكفير:

لا نكفر مسلما أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاها وأدى الفرائض برأي أو معصية، إلا أن أقر بكلمة الكفر، أو أنكر معلوما من الدين بالضرورة أو كذب صريح القرآن، أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال أو عمل لا يحتمل تأويله إلا الكفر.

فوائد من الأصول الفكرية للتقريب

استطاع الإمام الشهيد أن يؤصل لاستراتيجية فكرية وعملية للقضاء على الفتن بين المذاهب الإسلامية- لا سيما بين الشيعة والسنة- وذلك في حالة الالتزام بهذه الأصول الفكرية السابقة، والتي لا يمكن أن يختلف عليها مسلمان عند النظر إليها بعمق، ومن الفوائد التقريبية لهذه الأصول ما يلي:

فائدة 1، نهى الإمام الشهيد على "التفرق في الدين" ، و" الاختلاف" ,"المراء المذموم" ، و" إثارة البغضاء" بسبب اختلاف الآراء المذهبية، لأن ذلك يكون سببا لإشاعة الكره والفرقة بين المسلمين، وهو ما نهى عنه الإسلام.

فائدة 2، التأكيد على مصدرية الوحي (القرآن والسنة)، وأن أقوال الأشخاص مهما كانوا إذا خالفت هذا المصدر فإنها لا يعتد بها.

فائدة 3، أن الإسلام أوسع وأعلى من خلاف في الرأي، فهو نظام يشمل جميع ميادين الحياة والكون، وهذا ما يتفق عليه المسلمون جميعا، وعليهم أن يجعلوه كذلك بسعيهم وجهدهم نحو تحقيق هذا الهدف.

فائدة 4، الدعوة إلى استخدام المنهج العلمي والموضوعية في الحوار بين المسلمين عند مناقشة خلافاتهم، وترك الأهواء والتعصب والعاطفة التي تتحكم في إصدار الأحكام بينهم.

فائدة 5، إنهاء الموجة التكفيرية بين بعض طوائف المسلمين لما في ذلك من مخالفة ونهي شرعي، وانتكاسة حضارية واجتماعية في المجتمع الإسلامي.

وبعد... من المؤكد أن ما قدمه الإمام الشهيد يتعدى هذه الفوائد بكثير، وأن النظر في منهجه الفكري التقريبي يجعلنا نعتقد أنه من أوائل المصلحين الذين دعوا إلى التقريب بين المذاهب الإسلامية وإعلاء شأن "الأمة" في مقابل "المذهب" و" الطائفة" وهذا في ذاته غاية العمل التقريبي المؤسس الذي أسهم في إنشائه الإمام الشهيد، مع العلامة محمد تقي القمي، والشيخ محمود شلتوت بإنشائهم دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في فبراير 1947م، وكان الإمام الشهيد (رحمه الله) ضمن الأعضاء المؤسسين لهذا الدار التي شملت علماء ومفكرين من كافة المذاهب والفرق الإسلامية.

ويذكر الأستاذ عمر التلمساني عن الإمام البنا والتقريب قوله:

لقد أدرك إمامنا الشهيد حسن البنا - أول مرشد عام للإخوان المسلمين- مدى الخير الذي يعو على المسلمين إذا توحدت مذاهبهم أو تقاربت ببذل الجهد الجهيد في تحقيق ما سماه (التقريب بين المذاهب)، واستضاف في المركز العام السيد محمد القمي- أحد فقهاء الشيعة وزعمائهم- وعين له مرافقا يصحبه في غدواته وروحاته، هو السيد محمد طراد، وسارت الأمور خطوات موفقة، حتى شاء الله أن يستشهد الإمام الشهيد قبل أن يحقق أمنيته المنشودة، ولم تفتر علاقة الإخوان بزعماء الشيعة، فاتصلوا بآية الله الكاشاني، واستضافوا في مصر نواب صفوي، كل هذا فعله الإخوان ، لا ليحملوا الشيعة على ترك مذهبهم، ولكنهم فعلوه لغرض نبيل يدعو إليه إسلامهم، وهو محاولة التقريب بين المذاهب الإسلامية إلى أقرب حد ممكن، توحيدا لكلمتهم، وتدعيما لصفهم الذي يحاول أعداء الإسلام توهينه بكافة الطرق والوسائل.

وبعيدا عن كل الخلافات السياسية بين الشيعة وغيرهم، فما يزال الإخوان المسلمون حريصين كل الحرص على أن يقوم شيء من التقارب المحسوس بين المذاهب المختلفة في صفوف المسلمين.

فعلى فقهائنا أن يبذروا فكرة التقريب إعدادا لمستقبل المسلمين، ولئن حالت الظروف دون قيامهم بواجبهم في الحرب الدائرة الآن، فإن هذه الظروف لن تحول بينهم وبين واجبهم الديني في التقريب، إذ لا يمكن اتهامهم بالتحيز لفريق دون فريق في هذا المجال، ولقد حالت الظروف السياسية دون قيام علماء الطائفتين بواجبهم في كل مجالات الحياة، وليس السبب هو عيب الظروف السياسية، ولكنه عيب الذين استودعهم الله أمانة العلم، فلم يؤدها كما يجب عليهم، وتركوا الأمر لمن لا يحسن تدبيره فساء حالهم وحال المسلمين.

خاتمة

تعد الدعوة إلى الوحدة الفكرية والمنهجية بين المسلمين فريضة دينية وضرورة بشرية، فإذا كان "الشهود الحضاري" هو مسئولية هذه الأمة، فإنها لن تستطيع القيام به في حالة الانقسام والتفتت، لهذا فإن الهاجس الأول الذي يجب أن يؤرق مضاجع المفكرين والمثقفين والندوات والمؤتمرات هو إرساء قواعد هذه الوحدة، وإيضاح المعايير والمبادئ التي تقوم عليها، ووضع آليات لتقيل الخلاف بين فئات وجماعات وتنظيمات ومذاهب العمل الإسلامي، وغرس قيم الولاء "للأمة الإسلامية" ذلك الأصل الذي يجب أن تتمحور حوله كافة روافد الفكر والعمل الإسلامي.

إن الشهود الحضاري المنوط بالأمة الإسلامية يتطلب استنهاض همم المسلمين: الهمم الفكرية والمعنوية والمادية جميعا، وهذا يتطلب بناء العقلية المسلمة الواعية التي تدرك وظيفتها في البلاغ والشهود، ثم تحدد وسائل أداء هذه الوظيفة ، فقد حققها السابقون بالإنجازات العلمية والاكتشافات، وكانت أداة مبتكرة في أيديهم لم تدركها الإنسانية قبلهم، وكذلك اليوم- أيضا- فالإنسان المعاصر بحاجة إلى أدوات مبتكرة تخلصه مما هو فيه من شقاء دام قرونا طويلة، ومن ثم يأتي "الإنقاذ" ذلك الدور العالمي للرسالة الإسلامية والمسلمين " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" (الأنبياء: 107).

كما يجب على القائمين على أمر العمل الإسلامي (أفرادا وجماعات وفرقا وطوائف) أن يعيدوا تقييم برامجهم الفكرية في ضوء الأهداف الاستراتيجية للأمة الإسلامية في القرن الحادي والعشرين، وهذا يتطلب مراجعة النظام المعرفي الذي يرتبط بهذه العناصر جميعا، حيث إن تقييم التجربة الإسلامية في القرن العشرين هو أنها أنتجت لنا انقساما واختلافا، أكثر مما أنتجت وحدة وائتلافا، وهذا أدعى إلى "مراجعة المنهج الفكري" والائتلاف ، باعتبارها الطريق الوحيد لإنتاج حضارة إسلامية، فالأفراد والجماعات والتنظيمات والطوائف والمذاهب لن تستطيع إنتاج حضارة- مهما بلغت قوتها- والتجربة الإسلامية الأولى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم تؤكد ذلك، حيث تم صهر جميع الفئات والأجناس والطبقات في " مشروع إسلامي" واحد في مصادرة العملية، وأهدافه الاستراتيجية، وأولوياته الزمانية والمكانية، لهذا كان " الإنتاج الحضاري" و"القيادة الحضارية" نتيجة مترتبة على هذه الوحدة الفكرية والمنهجية.

وإذا كانت العوامل المادية (القدرات والثروات الطبيعية والبشرية وغيرها) والمعنوية (القرآن والسنة، وما يحملان من قيم أخلاقية واجتماعية ونفسية) يقدمان للمسلم أسباب "الفعل الحضاري" فلم يبق سوى الالتقاء والتقارب حول هذه الأسباب لبدء العمل على تحقيق رسالة "الإنقاذ الإسلامي" للبشرية التي تعاني من سيطرة "القوة العمياء" التي تحكم أقدارها في الأرض" الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر" (الحج: 41).

والله الموفق إلى سواء السبيل

البنا وقضايا الفكر والثقافة

نظرة إلى التراث الفكري والاجتماعي للشيخ حسن البنا

أ.سيد هادي خسر شاهي

البنا وتجربة الفن

أ.عصام تليمة

التجربة الصفية الرائدة للإمام الشهيد حسن البنا أ.د. محمد فريد عزت

نظرة على التراث الفكري والاجتماعي للشيخ حسن البنا

المؤسس والمرشد للإخوان المسلمين

حجة الإسلام : سيد هادي خسرو شاهي

المقدم

يصادف العم الميلادي 2006م الذكرى المئوية لمولد الشيخ حسن البنا - المؤسس والمرشد لجماعة الإخوان المسلمين في مصر - وبهذه المناسبة، إضافة إلى المراسم الخاصة التي أقيمت في مصر وبعض البلدان العربية، أقامت "الجماعة الإسلامية" في باكستان كذلك، مراسم خاصة، وأصدرت كتابا خاصا حول الإمام حسن البنا و الإخوان المسلمين .

قبل أشهر، كان الزعيم والمرشد للجماعة الإسلامية ال باكستان ية مولانا " القاضي حسين احمد" قد جاء إلى طهران للمشاركة في ندوة من الندوات، فطلب مني نظرا إلى الاهتمام والمعرفة التي تتوفر لدى في هذا المجال، إعداد مقال وإرساله إلى باكستان كي تتم ترجمته إلى لغتي الأردو والانجليزية، ليطبع في الكتاب الخاص الذي يصدر بهذه المناسبة، لقد أعددت هذا المقال بهذه المنسبة وأرسلته إلى الجماعة الإسلامية في باكستان ، والآن قد أرى من المناسب أن يتم نشر الترجمة العربية لهذا المقال في القاهرة لزيادة معرفة الشعوب المسلمة، بالشيخ حسن البنا وأفكاره وأهدافه.

ميلاد النور

تفصل بين ولادة الشيخ حسن البنا حتى يوم استشهاده (1906- 1949م) ثلاثة وأربعون عاما من الجهود والعمل والجهاد والحياة الصاخبة والمثمرة، وقد دخل البنا المعترك السياسي والمجتمع، وهو يحمل نفسية "صوفية جهادية" وعند تشرفه بالشهادة، خرج هذا المجاهد البطل من مسرح الحياة حسب الظاهر، لكن التأثير المعنوي والثقافي الذي تركه في العالم الإسلامي والعربي ، ما زال باقيا، كان الشيخ حسن البنا ، الذي ينبغي اعتباره بحق أحد الدعاة من أهل القبلة في عصرنا، أنموذجا نادرا من القادة السياسيين والمفكرين الدينيين الذين لم يصبهم التعب والملل في نشر وترويج الفكر الإسلامي ومعارفه.

وكان الشيخ حسن البنا مصلحا اجتماعيا وزعيما دينيا، وكان يشكل محورا لفكر وحركة مختلف الفئات والأطياف للمجتمعات الإسلامية والعربية، وقد أسس في فترة زمنية قصيرة منظمة، وتشكيلات إسلامية، ما زالت تعتبر عاملا رئيسا ومؤثرا في التيارات السياسية والفكرية في العالم الإسلامي والعربي ، المنظمة التي ما زالت تعتبر عنصرا جديرا بالاهتمام في المعادلات السياسية في مصر .

كان الشيخ البنا يتمتع بقوة خارقة في تعبئة الشعب المصري المسلم وتنظيمه، وكان المثال المطلوب للعالم الإسلامي والزعيم الفكري والحركي، ويعترف معاصروه من الباحثين السياسيين والمؤرخين، بنبوغه وقوته الخارقة في قيادته التنظيمية العالية.

وقد جعلته خبراته منذ فترة حداثته في حضوره في المجالات الثقافية والمؤسسات الاجتماعية والجمعيات الخيرية والدينية، مرشدا وزعيما لا يصيبه التعب، ويقظا وواعيا، كما جعلته مؤثرا وفاعلا في التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية في بلاده.

واقترنت سوابق حضوره في جماعة السلوك والأخلاق وجماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، و" طريقة إخوان الحصافية، بخبرات قيمة تركت تأثيرا بالغا في بلورة شخصيته باعتباره زعيما ومؤسسا.

في عهد حداثته تزعم حسن البنا " جمعية الحصافية للبر" وذلك من أجل صيانة الأخلاق الإسلامية في المجتمع المصري المسلم، والتصدي لفعاليات الهيئات التبشيرية الدينية الغربية التي أوفدت إلى البلاد العربية للتبشير بالمسيحية، في عام 1927م ولعب الشهيد حسن البنا دورا محوريا في تأسيس " جمعية الشبان المسلمين " وفي الثانية والعشرين من عمره أسس جمعية الإخوان المسلمين مع ستة من زملائه.

كان للشيخ حسن البنا منذ شبابه حضور في التربية والتعليم في مصر ، باعتباره معلما للغة العربية، ومربيا للأخلاق والمعارف الإسلامية، وقد أكمل في هذا المنحى مهاراته وفنونه في نشر وتعليم الديانة الإسلامية وأحكامها، مما ترك ذلك الأثر في تكوينه الفكري وقدراته النفسية والشخصية، وبعد معرفته وتعاونه مع كل من " محب الدين الخطيب" و" الشيخ رشيد رضا" تكاملت شخصيته العلمية والمعرفية، كما ألف فنون الصحافة وقوانين العمل في الأجهزة الإعلامية من خلال عمله في الصحافة المرتبطة بالتيار الإسلامي آنذاك.

والعجيب أنه لم يتأثر بالأساليب المتطرفة لتلك الشخصيتين حول المذاهب الإسلامية سواء في فترة تعاونه معها أو بعدها، وجعل الطريقة المنطقية للتقريب والتآلف بين المذاهب الإسلامية ضمن برامجه الحركية.

وبات حسن البنا من خلال تنظيمه الدقيق وطباعته ونشره لأسبوعية المطبوعات الإسلامية، يشكل الطليعة والرائد للأجهزة الإعلامية والنشريات الإسلامية الملتزمة، وكانت نشريات الإخوان المسلمين تعلب دورا أساسيا في الاهتمام بالصحوة " للمرأة المسلمة" وتنظيم المرأة المسلمة في تشكيلات "الأخوات المسلمات" من جانب حسن البنا ، التي كانت تدار بناء على دعوته بإشراف السيدة زينب الغزالي، والتي كانت من مؤشرات أفكاره النهضوية الشاملة، وفي مجال الكفاح وحركة النضال بمعاداة الاستعمار البريطاني والفرنسي في البلدان العربية كان حسن البنا ومنظمة الإخوان المسلمين دائما حاضرين وفاعلين، وفي الخط الأمامي لمواجهة الأعداء.

ويكفي أن نشير على ذكائه هذا وبعد النظر الذي كان يتحلى به ، حيث قد عاصر اثنتي عشرة وزارة من الحكومات المصرية، وكان تعامله مع أية واحدة منها بما يتطابق وينسجم مع المقتضيات الزمنية، وكانت قضية فلسطين وضرورة تحريرها من نير وهيمنة الصهاينة تحتل موقعا محوريا في الفكر السياسي ل حسن البنا ، وكان البنا يؤكد دائما أن القضية الفلسطينية هي قضية المسلمين كافي في العالم ، وكان يرى أن بريطانيا والصهاينة يفهمون لغة واحدة وهي " لغة الثورة وقوة الأسلحة".

وقد أصدر حسن البنا باعتباره المرشد للإخوان المسلمين في السادس من شهر آيار عام 1948 م فتوى "الجهاد المقدس" لتحرير فلسطين، وعبأ كتائب المجاهدين، وقام بتنظيمها في كافة أرجاء العالم العربي- وخاصة في مصر وسوريا والأردن والعراق - ولولا خيانة الحكام وقيادات الأنظمة العربية لكان المسلمون قادرين على قمع الصهاينة وتحرير فلسين منهم.. وفي أعقاب حضور المجاهدين الإخوان في الحرب ضد الصهاينة ودفاعهم البطولي عن الأراضي الفلسطينية المسلمة، ازدادت المؤامرات والدسائس ضد حسن البنا وتنظيمه، وقد دفعت ضغوط بريطانيا الحكومة المصرية على إصدارها قرار بحل تنظيم الإخوان المسلمين ، وتم بذلك استدعاء كافة القوى لمحاربة والمجاهدة من الإخوان المسلمين من جبهات الحرب ونزع أسلحتهم وبعدها بفترة وجيزة استشهد حسن البنا بتاريخ 12 من فبراير/ شباط عام 1949م على أيادي مرتزقة الحكومة الدائرة في التبعية الاستعمارية، وكان حسن البنا في الواقع شهيد دفاعه عن القضية الفلسطينية وكفاحه ضد المستعمرين ، لكن العناصر الدائرة في التبعية البريطانية والأمريكية تمكنت حسب الظاهر من اغتيال الشيخ حسن البنا ، إلا أنها لم تفلح في اغتيال تفكيره وفكره ومسار حركته وإيقافها، وما زالت الشجرة المباركة التي زرعها الشيخ البنا تنمو وتثمر ثمارها.

مكانة حسن البنا في تيارات الفكر الإسلامي المعاصر

كانت حركة حسن البنا ونهضته في المبادئ ومفاهيمها المطروحة في الواقع مكملة للتيار الإسلامي السابق لها، والتي كان قد بدأها السيد جمال الدين الحسيني المعروف بـ " الأفغاني" في أواخر القرن التاسع عشر، فالسيد جمال الدين سافر إلى مصر مرتين، وأقام في القاهرة، واشتغل بالتدريس، واهتم بتربية الأفراد وإلقاء الخطب في المحافل والمجامع الثقافية، وقد أوجد حركة فكرية عظيمة هناك، ولعب في الواقع دورا قياديا في تشكيل أو تحريك المحافل المثقفة في مصر ، وفي باقي البلدان العربية، ويؤكد معظم المؤرخين والباحثين في تاريخ الحركة الإحيائية الإسلامية على دور السيد جمال الدين ، فالسيد حمال الدين استطاع بنبوغه الخارق في فترة قصيرة جمع الكثير من التلاميذ والمريدين له حول الأفكار الإحيائية الإسلامية، وتأسيس حركة الصمود الشاملة، ويمكن تلخيص أركان ومبادئ هذه الحركة على النحو التالي:

1- الالتزام والتعهد بمبادئ الدين الإسلامي الحنيف، وانتهاج نهج السلف الصالح للأمة الإسلامية.

2- تحرير وخلاص الأمة الإسلامية من الاستبداد الداخلي والخارجي.

3- استيعاب العلوم والفنون الحديثة من أجل كسب الاقتدار للأمة الإسلامية.

وكان السيد جمال الدين الحسيني قد اعتبر الجهل، والتوجه الخرافي للمسلمين، وابتعاد العالم الإسلامي عن الحركة الحضارية والعلوم الحديثة الأساس والجذر للمرض والانحطاط لهذه الأمة ، ولذلك كان يدعو علماء هذه الأمة إلى تعبئة طاقاتهم وتشجيع المجتمع الإسلامي للخلاص من الجهل والخرافات.

وقد أكد السيد جمال الدين الحسيني في حركته كثيرا على ضرورة المواجهة، والمقاومة للاستبداد الداخلي والاستعمار الخارجي، وفي الواقع لعبت جهوده وأفكاره دورا أساسيا في تكامل الفكر الإسلامي، وكان مشروع الإسلام الحر من " قيود التقليد الأعمى" والتأكيد على فتح " باب الاجتهاد" ومشروع " الإسلام السياسي المناضل" والمعارض للطغيان والاستبداد الداخلي والخارجي، من نتاجات أفكاره، والتي كانت مؤثرة في حركة التيارات الإسلامية التالية.

كان الشيخ محمد عبده تلميذا وزميلا للسيد جمال الدين الحسيني باعتباره مصلحا اجتماعيا وثقافيا ومكملا لمسا السيد جمال الدين في دخوله لمعترك الحركة الإسلامية، وقد أثرى بإصلاحاته الثقافية والتعليمية الحركة الإسلامية، وعمل على تكاملها.

وكان للشيخ محمد عبده حضور فاعل في مختلف شئون حياة المجتمع المصري وبلدان شمال أفريقيا كتونس والجزائر والمغرب، ثم سوريا ولبنا، وقد أثمرت أفكاره نتائج طيبة وخالدة في البرامج الإصلاحية التي أجريت في جامعة الأزهر المصرية، وكما يقول حسن البنا في كتاب مذكراته الذي جاء باسم " مذكرات الدعوة والداعية" بأنه جاء بعد السيد جمال الدين الحسيني، والشيخ محمد عبده ، ليواصل مسار الحركة الإسلامية وطريقتها، وكان حسن البنا تلميذا لمحب الدين الخطيب، والشيخ رشيد رضا- صاحب تفسير المنار، وتلميذا خاصا للشيخ محمد عبده .

حسن البنا وحركة الإخوان المسلمين هما اسمان مترابطان لا ينفصمان عن بعضهما أبدا، لعب حسن البنا باعتباره المرشد والمصلح والمعلم، من خلال عرضه النظريات الإسلامية، دورا في إثراء الحركة ألإسلامية والتيارات الإسلامية السياسية، وما من شك أنه كان للإخوان المسلمين باعتبارهم الرياديين بين الأحزاب والمنظمات الإسلامية في القرن العشرين دور قيم في تنامي الحركة الإسلامية، وضرب الأسس الثقافية الغربية والعلمانية في العالم العربي والإسلامي.

ويعتبر حسن البنا ف التاريخ المعاصر للعالم الإسلامي والعربي، أكبر شخصية إسلامية، وقد كتبت حوله وحول آثاره وأفكاره الكثير من الكتب والدراسات، وما زال البنا اليوم، وبعد مرور 75 عاما من تأسيس حركة الإخوان المسلمين ، رائدا وقائدا يكتب الكتاب والباحثون حوله وحول الإخوان المسلمين العديد من المقالات والكتب، وما من شك أن البحوث ونقد الأفكار ودراسة الأبعاد الشخصية لحسن البنا لعبت دورا مؤثرا في تطور الفكر السياسي الإسلامي وتقدمه، وبالرغم من العمر القصير لحسن البنا ، إلا أنه كان له الدور في بلورة التيارات السياسية والإسلامية في مصر وباقي البلاد العربية، والتشكيلات التي نظمها في عام 1928م مع ستة من زملائه، ما زالت موجودة رغم عمليات القمع والإعدامات والضغوط، وحالات الكبت والاستبداد الم مارس من جانب الحكومات المتتالية منذ حكم الملك فاروق، وبعدها في عهد جمال عبد الناصر، وكانت وما زالت من ناحية الرأي العام منافسة للحزب الحاكم في البرلمان المصري، ولولا دسائس ومؤامرات الدوائر الغربية، وتعاون الاستبداد الداخلي معها لكان تيار الإخوان المسلمين يسيطر على قيادة المجتمع في مصر ، بل وكان يحظى بالسيادة والاقتدار في البلدان العربية وباقي البلدان الإسلامية كذلك.

تحظى حركة الإخوان المسلمين التي لعب حسن البنا في قيادتها دورا رئيسا اليوم بكوادرها ذات الكفاءة بالقوة والمقدرة للإعداد لتشكيل حكومة إسلامية في مصر ، وفي بعض الدول الإسلامية والعربية الأخرى، وقد ترك حسن البنا في المجال الفكري والعملي آثارا وأفكارا يمكن الإشارة إلى موجز منها على شكل مفهرس كما يلي:

مفهوم الإصلاح ، يرى حسن البنا أن الإصلاح يجب أن يحظى بشكل ومحتوى محلي، ولا يكون تقليدا للغرب ومفاهيمه، وفلسفته، لأن النظريات والأنماط الغربية لا تنطوي على الفاعلية اللازمة في المجتمعات الشرقية.

مفهوم الحركة، ينطوي مفهوم الحركة في فكر حسن البنا على مكانة واسعة، كما يري حسب وجه نظره أن لهذا المفهوم ثلاثة أركان أساسية، وهي عبارة عن:

1- الأنموذج المفضل: يرى البنا أن هذا المثل هو القرآن الذي يشكل أساسه الإيمان بالله الواحد المتعالي، كما يرى البنا أن الأمة الإسلامية تبلغ سيادتها الكاملة عندما تؤمن بالله – عز وجل.

2- القوة المادية: يرى حسن البنا أن حركة الأمة الإسلامية لا تتكامل ولا تنتصر إلا في حالة بلوغها القوة المادية في مختلف جوانبها: كونوا أقوياء ما استطعتم، وأعدوا أنفسكم" وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة " (الأنفال:60)، وهذه الآية الشريفة موجودة في راية الإخوان المسلمين ، ومرسوم بشكل بارز فيها.

3- الاقتدار المعنوي: يرى البنا أنه لا تكتمل أركان الحركة الإسلامية إلا بحصول تغيير في الذات:" إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" (الرعد: 11)، إذا ينبغي البدء بأنفسنا، وبعدها التفكير في تغيير المجتمع.

الدين والسياسة: يرى حسن البنا أن الإسلام يستجيب للمقتضيات الزمنية والمشاكل المعاصرة، ولذلك كان يعارض بوضوح نظرية فصل الدين عن السياسة، ويقولك" إننا نعارض وجهة نظر الدكتور طه حسين والآخرين، ممن يؤمن بنظريات " فصل الدين عن السياسة"، و"الدين عن الوطنية" ونؤمن بأن الإسلام لا يتعارض مطلقا مع السياسة والعلم والتوجه الوطني"

البنى التحتية السياسية للحركة: كان حسن البنا يبحث عن البنى التحتية للهيكليات السياسية لتشكيل حركة عالمية إسلامية، ، وكان يرى أن القواعد الأساسية لهذه الحركة هي عبارة عن:

1-القيادة: يرى حسن البنا أن المثال لهذه القيادة هو الرسول الإسلامي الكريم.

2-الوحدة : يرى حسن البنا أن الوحدة هي القاعدة الأساسية للحركة، ولا يتيسر انتصار الحركة الإسلامية دون إزالة عوامل وعناصر التشتت والتفرقة بين أبناء الأمة الإسلامية.

3-التحرر من الهيمنة الاستعمارية، كان حسن البنا يستخدم مصطلح الاستخراب (طلب الخراب) بدل مصطلح الاستعمار، وكان يعتبر الاستعمار عنصرا مخربا لوحدة الأمة الإسلامية، ومانعا أساسيا أمام إيجاد الحركة الإسلامية، لذلك كان يدعو الأمة الإسلامية إلى مقارعة الاستعمار والتخلص من قيوده لتتاح لها المقدمات اللازمة "لحركة شاملة".