حزب الأمة ودوره في السياسة المصرية
أحمد زكريا الشلق
دار المعارف
محتويات
- ١ تقديم
- ٢ تقديم المؤلف
- ٣ فصل تمهيدي
- ٤ الفصل الأول : " الجريدة" وقيام الحزب
- ٥ الفصل الثاني : تركيب الحزب وأصوله الاجتماعية
- ٦ الفصل الثالث : حزب الأمة بين السلطتين الشرعية والفعلية
- ٧ الفصل الرابع : حزب الأمة والأحزاب الأخرى
- ٨ الفصل الخامس : حزب الأمة بين القومية المصرية والسيادة العثمانية
- ٩ الفصل السادس : حزب الأمة والمجالس النيابية
- ١٠ الفصل السابع :الفكر الحر وقضايا الإصلاح
- ١١ الفصل الثامن : من حزب الأمة إلى حزب الأحرار الدستوريين
- ١٢ خاتمة
تقديم
للأستاذ الدكتور أحمد عزت عبد الكريم.
منذ بدأت الدراسات العليا في التاريخ الحديث في جامعتنا في الثلاثينات من هذا القرن اتجهت العناية إلى دراسة تاريخ مصر الحديث وظهرت في هذا المجال دراسات كثيرة تناولت عصورا أو موضوعات شتى من هذا التاريخ، وأتيح لكثير منها أن يجد طريقه على النور فطبع الكثير وإن كانت دور النشر أو الجامعات لا تزال قاصرة عن ملاحقة كل ما يضعه أبناؤها في هذا الحقل من دراسات.
على أنا نلاحظ أن عصور التاريخ المصري الحديث لم تنل حظا متكافئا من العناية، فتاريخ مصر في القرن التاسع عشر ، ثم تاريخ مصر منذ ثورة 1919 قد نالا من اهتمام أبنائنا من الباحثين قدرا أكبر مما نالته الفترة الممتدة من أوائل القرن العشرين حتى ثورة 1919. ولعل السبب في هذا راجع إلى أن القرن التاسع عشر كان عصر التغيير الكبير في المجتمع المصري في شتى نواحيه.
فتطورت علاقة مصر بالدولة العثمانية وبدول أوربا الغربية إلى نحو أوقعها في النهاية تحت وطأة الاحتلال البريطاني في عام 1882، فجاء هذا القرن حافلا بالموضوعات الهامة، كالثورة الوطنية المعروفة بالثورة العرابية ، ثم عصر الاحتلال، فكان حافزا لأبنائنا ومشوقا لهم إلى الاهتمام بدراسة هذا القرن وما اشتمل عليه من تطورات خطيرة في تاريخ البلاد،
أما العصر الآخر الذي حظي بقدر لا يقل من اهتمام طلابنا ونعنى به العصر الممتد من ثورة الشعب عام 1919 حتى قيام ثورة يوليه 1952 فكان هو الآخر حافزا ومشجعا لعدد كبير من أبنائنا كالثورة والحركة الوطنية ومحاولة تسوية العلاقات المصرية البريطانية وقيام الأحزاب والحياة البرلمانية .. الخ.
أما الفترة الممتدة من أوائل القرن العشرين إلى ثورة 1919 فإنها – في رأينا – لم تنل حظا كبيرا من العناية وهى لا تزال بحاجة إلى دراسات شتى، وربما كان السبب في هذا القدر من الإهمال الذي شاب هذا العصر هو الحركة والتغيير الكبير الذي صحب العصر السابق والعصر اللاحق لهذه الفترة ولهذا يمكن أن نقول أن هذه الفترة (سقطت) من اهتمام الباحثين، رغم أنها لا تقل أهمية عن العصر الذي سبقها أو الذي لحقها، ففيها تبلورت مؤثرات العصر الأول، كما كانت أبنائنا طلاب الماجستير والدكتوراه- بتوجيه من أساتذتهم- اهتمامهم إلى دراسة هذه الفترة،
ففي جامعة عين شمس في السنوات الأخيرة أتم عدد من الطلاب بحوثهم في موضوعات مختلفة من هذه الفترة وخاصة ما يتصل منها بالحركة الوطنية أو الحياة الحزبية وهما السمتان البارزتان في تاريخ هذه الفترة.
واليوم يسرني أن أقدم لجمهور القارئين هذا البحث الذي تناول بالتأريخ حزبا كبيرا من بين الأحزاب التي قامت في تلك الفترة وهو "حزب الأمة" وصاحب هذا البحث هو أحمد زكريا المدرس المساعد بآداب عين شمس، وهذا الكتاب هو باكورة أعماله العلمية التي تنبئ بمستقبل باهر في حقل الدراسات التاريخية الحديثة.
ولا أود أن اسبق المؤلف إلى عقول قرائه فأحدثهم عن الموضوعات التي تناولها الكتاب بالبحث، كنشأة الحزب مرتبطا بصحيفة "الجريدة" لمؤسسها أحمد لطفي السيد، ثم تأسيس الحزب من تحليل اجتماعي على جانب كبير من القضايا السياسية والاجتماعية والفكرية التي زخرت بها هذه الفترة من تاريخنا كعلاقة مصر بالدولة العثمانية وسلطة الخديوي، والدستور،ومدافعة الاحتلال البريطاني والدعوة إلى فكرة ( القومية المصرية) ووضعها في مكانها الصحيح من الناحيتين النظرية والعملية وموقف الحزب من الأحزاب الأخرى.. الخ.
وهذه كلها موضوعات سيرى القارئ أن أحمد زكريا قد جمع مادتها من مصادرها الأصلية وعرضها في منهج علمي سليم وأسلوب جلي واضح وبذل في ذلك جهدا استحق أن يمنح عليه درجة الماجستير في التاريخ الحديث بتقدير ممتاز عام 1977، ولقد كان لي حظ الإشراف على هذا البحث وهو إشراف استفدت منه أكثر مما أفدت، لقد كان الصديق أحمد زكريا طوال فترة بحثه،
وهى لا تقل عن ثلاث سنوات، مثالا طيبا للباحث المجد الجاد في عمله والباحث الأمين في بحثه، ومما يزيد في غبطتي أنه اختار لدرجة الدكتوراه موضوعا متصلا بحزب الأمة ، وهو حزب الأحرار الدستوريين ، والمؤلف نفسه قد اعترف بهذه الصلة العضوية بين الحزبين فجعل موضوع الفصل الأخير من بحثه" من حزب الأمة إلى حزب الأحرار الدستوريين".
وإذا كان هذا الحزب قد احتفظ بكثير من العناصر والرجال الذين قام عليهم حزب الأمة، فإنه بحكم تطور الظروف قد عمل في مجالات أوسع وجابهته قضايا أشد تعقيدا وعاش مع الأحزاب الأخرى فترة أطول مما قدر لحزب الأمة، وإذا كانت آراء الناس لا تزال تتباين حول حزب الأحرار الدستوريين ومواقفه فإن أحدا لا ينكر ما كان لهذا الحزب من أثر في أحداث البلاد منذ قيامه ( 1922) حتى انتهاء مصيره مع الأحزاب الأخرى عام 1953.
وإني إذ أهنيء الصديق أحمد زكريا ببحثه أهنئه بما أتيح له من نشر هذا البحث وأدعو له بالتوفيق بما هو أهل له من التوفيق في حياته العلمية والعملية.
منشية البكري – 27 نوفمبر 1979.
تقديم المؤلف
يعالج هذا البحث " حزب الأمة ودوره في السياسة المصرية" فترة جد خصيبة وزاخرة من تاريخ مصر الحديثة، وهى الفترة التي نشأت فيها الأحزاب المصرية عام 1907 وحتى اندلاع الحرب العظمى الأولى عام 1941 تلك الفترة التي كانت ثورة مصر عام 1919 جنينا في أحشائها وكانت الحركة الوطنية قد نضجت واستوت على سوقها،
وقد نشأت فكرة هذا البحث من كون الدراسات التاريخية في تأريخها للحركة السياسية المصرية بشكل عام قد ركزت على الجانب الجماهيري من هذه الحركة بدءا بالثورة العرابية ومرورا بجماعة مصطفى كامل و الحزب الوطني وحتى تجمع الوفد و سعد زغلول دون اهتمام بالجوانب الأخرى في الحركة الوطنية وأساليبها وخاصة الجانب المعتدل أو من أسموا أنفسهم" أصحاب المصالح الحقيقية" حيث لم يحظ هذا الجانب بدراسة شاملة برغم إسهامه في الحركة الوطنية بشكل أو آخر، ومن ثم حرصت على تتبع جذور أصحاب هذا الخط السياسي وأصولهم الاجتماعية وبالتالي حركتهم السياسية من محورين رئيسيين:
- أولهما : تتبع دور الأعيان وأبنائهم من المثقفين وذوى الوظائف أو " أصحاب المصالح" من حيث نشأتهم وأصولهم الاجتماعية والفكرية، وحتى انخراطهم في حزب سياسي يمارسون نشاطهم من خلاله باعتبارهم حزب يعبر عن فئة معينة أو طبقة معينة، وأثر ذلك على مذهبهم السياسي وأسلوبهم في العمل الوطني.
- ثانيا : دراسة الحركة الوطنية في مصر من جانبها " المعتدل" وغير الجماهيري في فترة الاحتلال البريطاني لمصر على ضوء دراسة شاملة لأول حزب سياسي- أعلن عن نفسه- بالمعنى الحديث عرفته مصر وهو حزب الأمة.
بالإضافة إلى هذا وذاك فإن البحث يعرض للمناخ والأصول التي نشأت فيها قيادات مصر السياسية وزعامتها والتي لبت دورها في تاريخ مصر في الفترة بين عامي 1919 ،1952 على اعتبار أن اتجاه الحزب قد لعب دورا كبيرا ومؤثرا في السياسة المصرية في أعقاب ثورة 1919 حيث خرج منه " تجمع" الوفد ثم حزب الأحرار الدستوريين، كما انتشر في شتى التكوينات الحزبية الأخرى.
وقد تناولت في الفصلين الأول والثاني مسألة " توصيف الحزب" من خلال دراسة نشأته وبرنامجه ونظامه وأدواته ثم تركيب الحزب وأصول فئاته الاجتماعية، أما الفصلان الثالث والرابع فقد تناولا علاقة الحزب بالقوى السياسية المعاصرة له كالخديوي والاحتلال البريطاني، ومن ثم نظرية الحزب في الاحتلال والجلاء، وموقع الحزب من الحركة الوطنية المصرية من خلال علاقته بالأحزاب المعاصرة له،
في الفصل الخامس عرضت لموقف الحزب من السيادة العثمانية على مصر وأثر ذلك على فكرة القومية المصرية التي ساهم كتاب الحرب ومفكروه في تنميتها وإبرازها في مواجهة الشعور العام المتعاطف مع الجامعة الإسلامية والذي كان سائدا آنئذ،
أما الفصل السادس فقد تتبع حركة الحزب داخل الهيئات النيابية أو التمثيلية القائمة، مع التركيز على موقفه من قضية الديمقراطية والحكم النيابي، وكذلك موقف الحزب من بعض القضايا العامة المطروحة داخل هذه الهيئات، بينما تناول الفصل السابع بقية القضايا الفكرية والإصلاحية، كالتحديث، والدين والدولة، والليبرالية الاقتصادية والاشتراكية وغيرها.
أما الفصل الأخير فقد عالج موقف الحزب من الحماية البريطانية على مصر وما ترتب على ذلك من تغيير مركز مصر الدولي وكذلك إجراءات الحرب الأولى مع تحليل لأسباب ومظاهر اضمحلال الحزب وانتهائه، كحزب سياسي، مع الإشارة إلى استمرار فكره ومذهبه ورجاله في القنوات السياسية الجديدة التي تشكلت في أعقاب الحرب.
وأهم المصادر التي اعتمد عليها البحث تتركز في مجموعة وثائق وزارة الخارجية البريطانية المتعلقة بالفترة قيد البحث والمستخرجة من دار المحفوظات العامة بلندن وكذلك كلفات أعضاء الحزب المودعة بدار المحفوظات العمومية بالقلعة ثم المذكرات غير المنشورة للقادة والزعماء والسياسيين والمودعة بدار الوثائق القومية التاريخية بالقلعة أيضا، والعديد من المذكرات المنشورة لكثير من الحزبيين والمفكرين والصحافيين، مما يتضح في قائمة المصادر،
أما الصحف الحزبية وغير الحزبية، المعاصرة وغير المعاصرة فقد أفادت البحث فائدة جمة وألقت الضوء على حركة الحزب ونشاطاته اليومية، كما اعتمد البحث كذلك على العديد من الكتابات المعاصرة للحزب، والدراسات الحديثة، بيد أنه من الصعوبات التي صادفت البحث أن الحزب لم تكن له محاضر جلسات مدونة ومنظمة ، على غرار الأحزاب الحديثة، ربما لأن التجربة الحزبية المصرية آنئذ كانت وليدة، الأمر الذي جعلنا نعتمد على نتف من هنا وهناك لنحاول استكمال صورة الحزب في هذا الخصوص .
ويطيب لي أن أعترف بفضل من عاونني على إخراج هذا البحث ، وخاصة الهيئات العلمية ودور المحفوظات والوثائق والكتب ومراكز الأبحاث، وأخص بالذكر دار المحفوظات العمومية ودار الوثائق القومية بالقلعة، ودار الكتب المصرية- وخاصة قسم الدوريات والرصيد ومديره الأستاذ جمال شرف- ومكتبات جامعات القاهرة وعين شمس والأمريكية ومركز تاريخ مصر المعاصر ومركز بحوث الشرق الأوسط، والجمعية المصرية للدراسات التاريخية والجمعية الجغرافية وجمعية الاقتصاد والتشريع ومعهد البحوث والدراسات العربية العالية.
كما أنني مدين لأستاذتي وزملائي وأصدقائي بقسم التاريخ بكلية الآداب، جامعة عين شمس ، على صادق معاونتهم وتشجيعهم لي ، وأخص بالذكر أساتذتي وأصدقائي الأستاذ الدكتور عبد الخالق لاشين والأستاذ الدكتور يونان لبيب رزق والأستاذ الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى، على ما قدموه لي من توجيهات ومصادر علمية. وكذا الأستاذ الدكتور اسحق عبيد لمساعدتي في نشر هذا الكتاب.
أما أستاذي الجليل الذي تابع معي بمثابرة ودأب هذه الدراسة منذ أن كانت مجرد فكرة، الأستاذ الدكتور أحمد عزت عبد الكريم شيخ مؤرخي مصر ورئيس جامعة عين شمس- سابقا- ومؤسس سمنار الدراسات العليا للتاريخ الحديث بها، والذي منحنى من علمه ووقته وجهده الكثير فله منى كل تقدير وعرفان.
وبعد فإن كنت قد وفقت فمن الله وإن كنت قد قصرت في شيء فمن نفسي.. والله الموفق,, أحمد زكريا الشلق.
فصل تمهيدي
الاحتلال البريطاني- السياسة الاقتصادية والخريطة الاجتماعية – الاحتلال والأعيان وأبناؤهم- الحركة الوطنية الشيخ محمد عبده وجماعته- الحزبية في مصر.
وطئ الاحتلال البريطاني بقواته أرض مصر وليس ثمة أمل في وفائه بوعوده بالجلاء حال إقرار الأمر وتثبيت سلطة الخديوي. والاطمئنان إلى مصالح الدول الأوربية. طالما لم تكن هناك ضمانات دولية مؤكدة تكفل ذلك .
وطالما افتقد المصريون القدرة على إلزامه بالوفاء بتلك الوعود، فالدول الأوربية منشغلة بصراعاتها المحلية والدولية، في الوقت الذي لم يفق فيه المصريون من صدمة احتلال عسكري لبلادهم تحت سمع وبصر الدولة صاحبة السيادة عليهم.
أعاد "ولسلى" النظام في القاهرة. واستدعى " دفرين" لينظم حال البلاد وفقا لصالح بريطانيا الاستعمارية. وقد حاول هذا أن يقوم بمهمته واضعا نصب عينيه التوفيق بين طول أمد سياسة الإصلاح والوعود المبذولة للدول بالجلاء الفوري، فبدا بتصفية الثورة وإعادة تشكيل الجيش المصري بعد استبعاد من ساهم فيها، وأوصى بإنشاء بوليس تحت إشراف انجليزي وحل المراقبة الثنائية وتعيين مستشار مالي إنجليزي، كما أشار بإنشاء مجالس تمثيلية لا سلطة لها. كانت تلك سياسة انجلترا المعلنة عشية الاحتلال وهى سياسة تبدو كأنها تحتوى الكثير من حسن النية.
وفى الواقع كانت مصر تحكم بقرارات من وزارة الخارجية البريطانية.
وانحصرت سلطة حاكمها الشرعي في التصديق على هذه القرارات، وسرعان ما سيطر المستشارون الإنجليز على معظم منفذين تعليمات خارجية بلدهم بدرجة بات معه الوزير المصري مكلفا بتنفيذ مشورتهم وإلا وجب عليه ترك وظيفته، فكان الوزراء بتوقعاتهم منفذين لما يأمر به المستشارون الإنجليز، وتوارى كرومر خلف لقبه المتواضع في الظاهر" المعتمد والقنصل العام" مغتصبا حقوق الخديوي والحكومة.
وتدريجيا تخلت انجلترا عن دورها كحامية للرجل المريض، وقد بدا يحتر وكان من الطبيعي أن يشتد ساعد الحركة الوطنية وقد تفضي إلى قيام ثورة فبدا لبريطانيا أن احتلالها لمصر مع موعد بالجلاء القريب أمر يمكن تسويته دوليا.
خاصة وقد علا كعبها في ميدان التنافس الإنجليزي الفرنسي ولعل احتلالها مصر عام 1882 وتأييدها للأرمن 1896 يوضح كيف بدأت تتخلى عن سياستها التقليدية تجاه الدولة العثمانية ، بالإضافة إلى الوفاق الودي 1904 وحادثة طابة 1906 وتسوية الخلافات الاستعمارية مع روسيا 1907 ، كل هذا أسهم في تدهور النفوذ البريطاني لدى الباب العالي كما تبنى سولسبورى فكرة النفوذ البريطاني في القاهرة عوضا عن تدهوره في الأستانة واكتسبت هذه السياسة ليس فقط ثقة حكومة المحافظين (1895-1906) ولكن كذلك حكومة الأحرار الذين تقلدوا زمام الحكم في عام 1906.
أما المصريون ، فقد ران عليهم يأس وقنوط وانكفئوا داخل أنفسهم يستوعبون صدمة الاحتلال ويستعدون لتلمس طريق آخر للخلاص غير الثورة.
شرعت سلطات الاحتلال في القيام بعديد من الإجراءات الاقتصادية ، بدأتها بإلقاء ما أنفق في الحرب على كاهل المالية المصرية ، وكذلك تعويضات خسائر من نكبوا في عمليات الإسكندرية. حتى أن ميزانية عام 1882 اختتمت بعجز يزيد على 600,000 جنيه كما كان على المصريين أن يدفعوا نفقات جيش الاحتلال والعجز في ميزانية السودان وتكاليف مشروعات التنمية به كما استخدمت أموال مصر في مشروعات بعضها ضار بمصر، كتحويل تجارة السودان إلى طريق البحر الأحمر،
وفى عام 1898 حدث ما سمى بالانقلاب المالي حيث بيعت شركة بواخر البوستى الخديوية ، وبيعت أراضى الدائرة السنية إلى شركة انجليزية، وتأسس البنك الأهلي المصري برأسمال انجليزي، وعهد إلى شركة انجليزية – فرنسة بإنشاء خزان أسوان، وقد وقع على المصريين غبن شديد في هذه الصفقات.
وقد وضع كرومر يده على كافة مرافق الدولة المالية وإدارات الثروات الضخمة بها. وشرع في استخدام بعض الوسائل للاقتصاد في الإنفاق العام منها الإقلال من الموظفين، وإلغاء نظارة المعارف، وإنقاص ميزانية العليم ومخصصات العائلة الخديوية وإبطال استخدام سفينتين حربيتين ، وتمثل الإنفاق عموما في الأعمال التي تدر ريعا وبنوع خاص في الري والصرف، أما الإصلاحات الإدارية فجعلت في الدرجة الثالثة
وكان إنشاء بنك زراعي 1902 وقيامه بإقراض الفلاحين بفائدة 9% الهدف منه مساعدتهم على أن يستبدلوا بديونهم للمرابية الأجانب دينا على البنك، وتحقيق استقرارهم وارتباطهم بالأرض. واستقدم الكولونيل " منكريف" مهندس الري الإنجليزي لخدمة الحكومة المصرية كمفتش للري في وزارة الأشغال، وأعطى تفويضا بإعادة تنظيم أساليب الري المصرية، فاستعان بهيئة من المهندسين البريطانيين أتى بهم من الهند،
وكان الهدف من هذه الإصلاحات وضع أسس لرخاء مصر وذلك لحل مشكلاتها المالية فتم إصلاح القناطر الخيرية لتؤدى مهمتها كاملة منذ عام 1891 مما أدى إلى انتشار الري الصيفي في الدلتا. وتوجت إصلاحات الري بإنشاء خزان أسوان وقناطر أسيوط واسنا وزفتى عانى 1902، 1903 وكان من جراء هذا أن ارتبطت مصالح ملاك الأراضي بوجود الاحتلال .
وقد أثرت هذه الإجراءات وغيرها، في أوضاع الأراضي الزراعية من حيث ازدياد مساحتها، وإقبال المصريين على شرائها، وحجم توزيع الملكيات مما أثر بدوره في نمو طبقة كبار الملاك المصريين التي كان محمد على قد وضع أساسها، وشهدت من بعده تطورا واضحا خلال القرن التسع عشر. حيث صدرت خلاله تشريعات وقوانين أتاحت لها النمو والاستقرار. وخلال العقدين الأولين للاحتلال البريطاني شهدت تطورا مكثفا مستفيدة من إجراءاته .
فلم يكن عبثا أن يخصص لمصلحة الري عام 1900 مبلغ مليون جنيه من خزانة مرهقة بالديون في دولة تعانى العسر المالي، حتى زادت مساحة الأراضي الزراعية زيادة بلغت 239068 فدانا خلال عشر سنوات (1896-1906) هي زيادة كبيرة نسبيا إذا أخذنا في اعتبارنا درجة التطور في استصلاح الأراضي وأساليب ذلك خلال هذه الفترة، كما شهدت نفس المرحلة تعديل الدورة الزراعية فأصبح من الممكن زراعة مساحة كبيرة من الأرض أكثر من مرة في العام.
بالإضافة إلى أن سلطات الاحتلال قد سمحت لكثير من كبار الملاك بإقامة مضخات آلية للري على الترع للاستفادة منها في ري أطيانهم، وارتفعت قيمة الأراضي التي كانت تستفيد من الري الصيفي وازداد الطلب على الأطيان، حتى أن ثمن الفدان في أراضى الدومين- مثلا- ارتفع من 80,48 جنيها عام 1900 إلى 169,77 جنيه عام 1906.
وقد شجعت سلطات الاحتلال حركة بيع أطيان الدائرة السنية وأملاك الدومين حتى أن أطيان الدائرة قد صفيت عام 1906 كما أصدرت الحكومة قانونا يجيز بيع أملاك الدومين بعد دفع نصف الثمن نقدا والنصف الآخر على أقساط بفائدة 4,5% الأمر الذي رفع مبيعات الدومين 2979 فدانا خلال عام 1905 خاصة وقد خفضت رسوم تسجيل بيع الأرضاى من 5 إلى 2% وما أن صدر قانون 1891 الذي كان للأفراد حق الملكية التامة في الأطيان الخراجية وجهود الأفراد لم تنقطع في الضغط على الحكومة لكي تتنازل عن الأراضي التي تملكها، وأباحت ملكيتها للأفراد.
وبالفعل حصلوا على حق ملكية أراضى البرك والمستنقعات ملك الميرى. بموجب لائحة 21 فبراير سنة 1894 ، وإزاء ازدياد الطلب على شراء أراضى الحكومة التي تنتفع بمشروعات الري نشرت الحكومة إعلانا جاء فيه أنها لا تبيع أرضا من أراضيها قبل 31 مارس 1904 ، وحتى عام 1906 بلغت عملية الاتجار بالأرض الذروة نتيجة إحساس كبار الملاك بالرخاء الناتج عن ارتفاع أسعار القطن، الأمر الذي أتاح الفرصة لبنوك الرهن العقاري وشركات الأراضي لممارسة نشاطها. حتى أن شركات الأراضي خلال الفترة من 1888- 1906 قد بلغت ثلاثة عشر شركة.
وإذا كان العقد الأخير للقرن التاسع عشر قد سجل استقرارا ونموا للملكيات الزراعية في مصر، فإن ذلك كان نتيجة للتحول الاقتصادي ، الذي شهدته مصر منذ منتصف القرن، نتيجة جهود سابقة لخلفاء محمد على.
ولفتح المجال أمام الاستثمارات الأجنبية، التي اهتمت بالاتجار بالأرض بصفة خاصة، وأخيرا نتيجة سياسة الاحتلال البريطاني كما رأينا.
لم تهدف سلطات الاحتلال بهذه الإجراءات في مجال الري والأراضي، إلى زيادة الإنتاج، وبالتالي جعل مصر قادرة على سداد ديونها فحسب، وإلا لظلت الأراضي المستفيدة من الإجراءات الجديدة في حوزة الحكومة، أو على الأقل بقيت أوضاع الملكيات ومعدل نموها دون تغيير يذكر لكننا نلاحظ مدى الحرص على بيع الأراضي، بصورة لم يسبق لها مثيل.
فإلى أين تؤول الأراضي الجديدة؟ لا نبالغ إن قلنا أن سلطات الاحتلال كانت تضرب في اتجاهين في وقت واحد، فإلى جانب حرصها على سداد ديون مصر، وتوجيه إنتاجها بما يخدم الوجود الاحتلال، فإنها أرادت خلق طبقة مستفيدة من هذه الإجراءات ، يرتبط ازدهارها بوجوده، حتى إذا ما سددت مصر ديونها واطمأنت الدول الكبرى إلى امتيازاتها وأموال رعاياها، بات وجود الاحتلال أمرا لا ضرر فيه، إن لم يكن مرغوبا.
ولعلنا بمحاولة فهم حركة ملكية الأراضي الزراعية، من تقرير كرومر لعام 1906 نستطيع أن نلمس مآل هذه الأراضي من ناحية،وأثرها في الوضع الاجتماعي من ناحية أخرى، والجدول التالي عن توزيع الأطيان في الفترة من 1896-1906 :
فئات الملكية |
سنة 1896 | سنة 1906 | ||
---|---|---|---|---|
عدد الأفدنة | عدد الملاك | عدد الأفدنة | عدد الملاك | |
أقل من5 أفدنة | 988804 | 608373 | 1259670 | 1002806 |
أكثر من50فدان | 666447 | 10389 | 1763175 | 10921 |
وأول ما يستلفت نظرنا أن فئة صغار الملاك قد زادت بمقدار 394433 مالكا بينما الفئة المتوسطة قد نقصت بمقدار 8372 مالكا بينما فئة كبار الملاك( أكثر من 50 فدانا) زادت بمقدار 532 مالكا.
وهذا يوضح كيف زحفت الفئة المتوسطة إلى فئة كبار الملاك، والتي نمت بصورة سريعة. كما أن ملكيات فئة صغار الملاك زادت بمقدار 270866 فدانا في الوقت الذي بلغت هذه الزيادة لدى فئة كبار الملاك 1096728 فدانا بما يوضح أين ذهبت الأراضي المستصلحة وأملاك الدومين والدائرة والأراضي التي تركتها الحكومة.
وقد علقت بعض المصادر على ذلك بأن استثمار المصريين أموالهم في شراء الأراضي ينقل الكثير منهم من متوسطي الملاك إلى كبارهم كما زاد متوسط ما يملكه الفرد بين من كانوا يملكون أكثر من 50 فدانا من 184 فدانا على 189 فدانا، بينما نقص متوسط ملكية الفرد في مصر عامة من 6,5 فدان إلى 4,6 فدان.
وثمة إحصائية أخرى وردت بتقرير كرومر لعام 1902، توضح تزايد نسبة كبار الملاك( 50 فدانا فأكثر) إلى صغارهم ( أقل من 5 أفدنة) في مدى خمس سنوات 1896- 1900 وهى المسألة التي شغلت كرومر كثيرا في تقاريره وتوضح لنا زيادة نسبة كبار الملاك من 43,82% إلى 43,87% بينما هبطت نسبة صغارهم من 65,18% إلى 65,13% في نفس الفترة مما حدا بكرومر إلى العمل للحيلولة دون اضمحلال طبقة الملاك، الأمر الذي قد يؤدى إلى قيام اضطرابات بين الفلاحين وكبار الملاك،
وهى مشكلة لا يمكن تفاديها إلا بتثبيت الملكيات الصغيرة وزيادة عدد ملاكها- وهو ما ظهر في تقرير عام 1906 من ثم كان إلغاؤه لبعض الضرائب والعمل على إلغاء السخرة، وتخفيف الديون عن طريق القروض وما إلى ذلك ولكن هذا لم يوقف ضمور هذه الطبقة وفقدانها أرضها وتحول الكثير منها إلى أجراء.
وحتى عام 1907 كان حوالي 40% من المشتغلين بالزراعة، يزرعون أرضا استأجروها، وكان حوالي 36% عمالا زراعيين أجراء وذلك في الوقت الذي بدا واضحا أن طبقة من الأرستقراطية الزراعية، التي تستمد وجودها من ملكية الأرض الزراعية، آخذة في النمو مستفيدة من الأوضاع الجديدة.
كذلك بلغ التخصص في الإنتاج الزراعي درجة كبيرة، فكان واضحا اهتمام سلطات الاحتلال بالتوسع في إنتاج القطن لسد حاجة لانكشير منه، وبقصد إنتاج محصول يدر العملات الأجنبية، ومما يكفل سداد فوائد الدين الخارجي وأقساطه، وكان ذلك على حساب زراعة الحبوب، مما أدى إلى عجز مصر في سداد حاجة استهلاكها المحلى من المواد الغذائية.
وتحت إغراء الربح العاجل والمضمون من الاتجار وزراعة الأراضي، وازدياد حدة المنافسة الأجنبية، وعدك وجود حماية جمركية، تدهورت الصناعة. كما أدى استيلاء الاحتكارات الأجنبية على جزء كبير من الدخل القومي عن طريق تصدير الأرباح، وعن طريق التبادل التجاري غير المتكافئ – أدى إلى انكماش السوق القومية، وإضعاف القوة الشرائية، مع ما ترتب على ذلك من تجميد القدرة الشرائية، وإبطاء التطور الطبيعي للرأسمالية الوطنية المصرية إلى درجة تقرب من التوقف التام.
على الرغم من تجمع جزء من فائض الأموال في أيدي حفنة من كبار الملاك الزراعيين تتمثل في الأرصدة المودعة في البنوك وفى عمليات المضاربة، غير أن تراكم هذا القدر من رأس المال الوطني لم يؤد على تدعيم الاقتصاد القومي، فقد تعثر في الجري وراء الأخذ بمظاهر المدنية الغربية.
انعكست إجراءات الاحتلال البريطاني، سواء فيما يتعلق بالري وملكيات الأراضي ، أو التحكم في النشاط الصناعي والمصرفي، بشكل أو بآخر على الخريطة الاجتماعية لمصر. وإذا أخذنا جانب التعميم أمكننا أن نرى بوضوح ، بروز طبقة من كبار الملاك الزراعيين، ذات ملامح ارستقراطية، قوامها الأتراك، وكبار الملاك المصريين،أو بتعبير العصر طبقة الأعيان والذوات ،
وفى القاع توجد طبقة عامة الشعب من الفلاحين والصناع وصغار التجار وأرباب الحرف،التي كانت تشغل مركز الطبقة الثرية في المجتمع ، حتى فرض محمد على نظام الاحتكار فتحول أربابها إلى أجراء ، إلا أنها لم تختف تماما وإن كانت قد ضعفت بالفعل.
كما توجد بين الطبقتين طبقة ثالثة وسطى من المهنيين والموظفين وفئات من رجال الدين، وإن اتضح بالفعل غياب برجوازية صناعية تجارية بشكل واضح، منذ عصر محمد على الذي كان لتحطيمه طبقة التجار المحليين والحرفيين أثر في عرقلة نمو طبقة وسطى مصرية. وإن كان محمد على قد ساعد على خلق طبقة من الإداريين ، دخلت بدورها في عداد الطبقة البرجوازية، ولعبت دورها في تاريخ مصر السياسي والاقتصادي . برغم الطابع البيروقراطي الذي خيم عليها.
وعلى ذلك فإن الإدارة الإنجليزية تعزى إليها أحداث تغييرات كمية وتطورات في الأنظمة ، دونما أحداث تغيير في البناء الهرمي للمجتمع من الناحية الكيفية، اللهم إلا ازدياد حدة التناقضات الطبقية بين كبار ملاك الأراضي الذين رأينا معدل النمو في ملكياتهم، وصغارهم الذين أخذوا في التحول إلى أجراء أو معدمين.و متوسطيهم الذين يذوبون تدرجيا في كلتا الطبقتين.
ورغم هذا فإننا نلمح نمو برجوازية مصرية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر نتيجة عوامل منها زيادة السكان التي بلغت الضعف خلال ثلث القرن السابق على عام 1907 الأمر الذي أدى بدوره إلى نمو المدن ، وما صحب ذلك من نمو للرأي العام ، وخلق مصالح برجوازية، وكذلك نتيجة لاتجاهات الحكام، وقد احتضنت هذه البرجوازية فئات مختلفة فضمت أولئك الذين انتزعوا من صلب الريف، ومن مهاجرى الشام، وأهل التجارة والإدارة .
وما كاد القرن التاسع عشر يبلغ نهايته حتى كانت العناصر المثقفة من أرباب المهن الحرة كالمحامين والمهندسين والأطباء تتصدر قيادة الطبقة الوسطى، وقد كان هؤلاء في الغالب من أبناء الأعيان وكبار الموظفين وهؤلاء رغم انحدارهم من أصول ريفية فإنهم يمثلون مصالح سكان المدن ويعبر عنهم " بالأفندية" وهو تعبير يفيد حصولهم على قدر من التعليم والثقافة، في مقابل لفظة " الأعيان" ذات المدلول المادي.
أما طبقة الأعيان أو كبار ملاك الأراضي الزراعية ، فقد نمت العناصر المصرية فيها نموا كبيرا، واكتسبت قيما وأخلاقيات وطموحات جديدة نحو تسيد المجتمع وشغل مركز الصدارة فيه، وقد بدأت عملية " إحلال" لهم في هذا المركز كبديل لانقراض العناصر التركية والشركسية.
وكانوا قد نافسوا الأتراك في شراء الأراضي الزراعية، واكتتبوا معهم في شركة زراعية رأس مالها خمسمائة ألف جنيه لشراء أراضى الدومين والدائرة السنية كما نفس أبناءهم عليهم الوظائف الحكومية، فحين دخل الإنجليز مصر كان الذوات الأتراك لا يزالون يتربعون على قمة الجهاز الحكومي، وقد أبقى عليهم الاحتلال لفترة حتى يحين الوقت الذي ينشىء فيه كوادر جديدة من أبناء الأعيان المصريين كذلك لجأ أبناؤهم إلى الانصهار إلى بقايا الفئة التركية بل كان من أعيان المصريين من ورثوا قصور الأتراك،
فقد اشترى حسن باشا عبد الرازق منزل الأميرة فاطمة ابنة الخديوي إسماعيل وقد بدا المجتمع المصري، وكأنه مجتمع تركي أو كالتركي، فكان الاصطياف في استانبول أمرا مألوفا، وكذلك قلد المصريون الأتراك في أسلوب حياتهم، واخذوا مثلهم بمظاهر المدنية الأوربية. فسكنوا المدن وأقاموا القصور والمضايف المتسعة واقتنوا الجواري والعبيد وتقربوا إلى الذوات وسعوا لإقامة علاقات اجتماعية معهم.
أما فئة الأتراك داخل هذه الطبقة فلم يكد القرن التاسع عشر يبلغ نهايته حتى كانت قد انحصرت داخل أسرة محمد على بفروعها، وبعض العائلات التركية والشركسية التي تلوذ بها، ساعد على ذلك أن سيل الأتراك- الذي انهمر على مصر خلال عهدي محمد على وعباس الأول- قد أخذ في الانحسار بعد ذلك مع اضمحلال شأنهم كفئة اجتماعية نتيجة نمو فئة الأعيان المصريين وارتفاعهم من قمة الطبقة الوسطى إلى الطبقة الأعلى، وإحلال أبنائهم الذين تلقوا تعليما أوربيا، إلى جانب عدد من السوريين، محلهم في الوظائف.
وغلى تأثير الاحتلال ، مع عوامل الضعف الذاتية، نتيجة أحكام هذه الفئة الانغلاق على نفسها، مما أدى في النهاية إلى اضمحلال تأثيرها في التركيب الاجتماعي المصري.
وفى تقديرنا أن فئة مشايخ القرى تعتبر ضمن هذه الطبقة العليا، التي تتكون أساسا من كبار ملاك الأراضي الزراعية وكبار زعماء البدو وكبار التجار والعمد، فهذه الفئة يؤخذ منها العمد، ورغم أنها تقف موقفا وسطا بين الطبقة العليا وطبقة الفلاحين إلا أنها تمثل المدد الذي غذى الطبقة كبديل لانقراض الأتراك، بارتفاعها ودخولها في عداد الطبقة العليا، وكانت هذه الفئة تمثل حلقة اتصال بين الحكومة وجماهير الريف.
وكثيرا ما أتيح لأفرادها أن يضيفوا إلى ملكياتهم وأن يزيدوا ثرواتهم، بفضل ما وفرته لهم اللوائح والقوانين الخاصة بتثبيت الملكية العقارية، يضاف إلى ذلك ما أتته الحكومة من أعمال وإصلاحات مكنت الكثير من أفرادها من الصعود إلى طبقة كبار الملاك.
في تحلينا للخريطة الاجتماعية رأينا أن أكثر الطبقات ثقلا من حيث الوضع الاقتصادي والاجتماعي، هي طبقة كبار الملاك أو الأعيان، وهذه الطبقة وإن كانت تمثل في عهد الاحتلال جيلا في دور الكهولة، فإن معقد الرجاء قد التف حول أبنائهن أولئك الذين نالوا قسطا من التعليم يؤهلهم للمشاركة في ميادين الحياة العامة.
وكما سبق أن اتضح أن إجراءات سلطات الاحتلال الاقتصادية، لم يكن القصد منها إصلاح أوضاع مصر الاقتصادية لجعلها قادرة على الوفاء بالتزامها فحسب. أو حتى امتصاص خيرها بفضل سياسة زراعية " موجهة" فحسب أيضا، ولكن كان على بريطانيا أن توفق بين هذين الهدفين وهدف ثالث.
يدخل في باب السياسات غير المعلنة، بدت لنا ملامحه من مساعدة طبقة مصرية على البروز إلى سطح الحياة العامة من خلال العديد من الإجراءات التي ساعدت على بلورة الوضع الاجتماعي لمصر بالشكل الذي جعل هذه الطبقة وأبنائها أكثر الطبقات المصرية ثقلا، فلم يكن إهمال الصناعة ما صاحبه من وأد بورجوازية صناعية ، والإجهاز على طوائف الحرف،
وقد بدأ اضمحلالها زمن محمد على، وإلغاء التعليم المجاني، وحرمان طبقات الشعب منه، وتحويلها في مجال ملكية الأرض إلى أجيرة أو شبه معدمة، لم تكن هذه الإجراءات السلبية أمرا عفويا، فقد كان هناك هدفا ثالثا يكمن في سياسة الاحتلال ألا وهو " طول البقاء" فقد كانت مشكلة انجلترا إذا ما كان على أوربا أن تلزمها بالجلاء، أو إذا كان المستقبل سيحمل في طياته بذور حركة وطنية، كان عليها أن تبرز وجودها بخلق ضرورة لدى المصريين لبقائها.
وهذا الهدف الثالث كان عليه أن يسير في محورين رئيسيين:
أولهما: احتضان أبناء كبار الملاك من المتعلمين وإغراؤهم بالمناصب الإدارية،
وثانيهما: إقناع النابهين من المصريين أو ذوى الثقل الفكري، بسياسة الإصلاح وأهميتها لمصر، بغض النظر على يد من ستكون، فكبار الملاك قوقعهم الاحتلال داخل مصالحهم، وهيا لهم فرص الاستزادة من إجراءاته، وعقد معهم أوثق الصلات حتى أن كرومر اعتبرهم من أصدقائه المخلصين الذين يكاشفونه بآرائهم بتمام الحرية ويظهرون له رغباتهم، التي أحيانا ما تبدو متناقضة.
لكن خلاصتها الرغبة في الحصول على فوائد الاحتلال، كما ادعى أيضا أنهم وجوده المصريين الذين يشكون إليه من تلقيب زعماء الحزب الوطني، باللقب الذي ادعوه لأنفسهم وأنهم صارحوه بأن أفراد هذا الحزب قليلون ويكثرون من الضجيج والجلبة ولا يمثلون بني وطنهم وقد وضعت سلطات الاحتلال نظاما لتعيين العمد عام 1895 روعي فيه أن يتم اختيارهم بمعرفة لجنة تشكل في كل مديرية، يكون من بين أعضائها ممثلون عن العمد، ولكنه أخضعهم- في نفس الوقت- لسلطة الاحتلال، إذ جعل تعيين العمد وتأديبهم من سلطة المديرين الذين كانوا تابعين لمستشار الداخلية الإنجليزي، كما منحوا سلطات إدارية وقضائية وفرت لهم نفوذا واسعا على الفلاحين.
واستدار الاحتلال نحو أبنائهم،أو ذلك الجيل الجديد الذي تربى في عهده ، ولم يحمل من الحركة الوطنية إلا ذكرى ثورة،وكان كرومر يعرفهم قدر معرفته للجيل القديم، وبدا له الأمل معقود عليهم، خاصة وهو يحتوى عناصر تبش بالتعاون معه فغمرهم بالوظائف حتى آذانهم،
وكان واضحا أن خريجي مدرسة الحقوق- وغالبيتهم الساحقة من أبناء الأعيان القادرين ماديا- مدينون للاحتلال بوظائفهم، فملنر- وكيل المالية آنئذ- يدعو عبد العزيز فهمي ويحدثه عن حاجة الحكومة إلى متخرجى مدرسة الحقوق ليعملوا في وظائف الإدارة، ويعرض عليه وظيفة معاون بإدارة الدقهلية عام 1892 فيقبل، وتتضح هذه السياسة أكثر في تغيير المديرين من الطبقة القديمة والاستعاضة عنهم بالشبان المتعلمين، ويعين لطفي السيد سكرتيرا للأفوكاتو العمومي، بعد عام من تخرجه من الحقوق عام 1895 وبعد عام يصبح وكيلا للنيابة،
ويبدو أن " كوربت" باشا ، النائب العمومي قد لعب دورا في هذا التعيين وإن كان قد وقع بينه وبين لطفي خلاف في الرأي القانوني أدى إلى استقالة الأخير. وكان رجال الاحتلال يمنحونهم قدرا من الثقة ليضمونا ولاءهم، فعبد الخالق ثروت، سكرتير المستشار القضائي- مكلريث- كان محسودا على ما تمتع به من ثقة السير، وكان بعضهم يأخذ على ملكريث، هذه الثقة العمياء بشاب قد لا يقدرها، ولكن الرجل لم يكن يصغى إليهم، ويؤكد أنه واضع ثقته فيمن يستحقها.
وقد كان أمرا واضحا أن يكافأ الشابان المصريون الذين يبدون استعدادا للتعاون مع البريطانيين بسلسلة من الوظائف بلا أي سلطة، تصل ذروتها أحيانا إلى وزارة بلا معنى ولم يكن حرص سلطات الاحتلال على وضع نظارة الداخلية برمتها في قبضتها منذ عام 1894 حين عينت جورست – وكيل المالية آنئذ – مستشارا لها، وحين كلفت ناظر الداخلية بإصدار لائحة بالإصلاح المراد إدخاله،
ولم يكن ذلك كله إلا خطوات محسوبة نحو تدعيم العلاقة بين رجال الداخلية الإنجليز ، وبين العمد والمشايخ من ناحية ،وتهيئة المناخ لتعيين أبنائهم في وظائف المديرين من ناحية أخرى وقد لقى الإنجليز استجابة واضحة لهذا الأمر حتى أنعدد الشبان المصريين الذين يطلبون خدمة الحكومة أصبح يفوق بكثير عدد الوظائف الموجودة وقد ازدادت أعداد المصريين في الوظائف بالنسبة للأوربيين من 8449 إلى 12027 موظفا في الفترة من عام 1896 حتى عام 1906، بينما ظل عدد الأوربيين 1252 دون تغيير.
أما المحور الثاني لسياسة الاحتلال، فقد كان غرس بذرة الإصلاح أو إقناع المصريين بضرورة اتباع سبيل الإصلاح، كبديل للثورة، يفيد ماديا وأدبيا، ثم هو في النهاية، وإن كان بطيئا مضمون، وهذه السياسة بالذات ترضى في المصريين ذلك القطاع المثقف ثقافة غربية، ممن يدخلون في عداد المفكرين المصريين،
كانت فكرة كرومر الأولى هي " إقناع المصريين بأن كل انجليزي موظف في مصر لم يوظف فيها إلا اعتمادا على أن خدمته نافعة لهم، وأن مصالح الإنجليز ومصالح المصريين متفقة لا تناقض بينها بوجه من الوجوه، وأن الحكومة الإنجليزية والأمة الإنجليزية تهتمان بأمر له الشأن الأكبر عند المصريين، وهو صلاح حكومة مصر ونجاحها" وتقرير كرومر الأخير يصرح بأن ذلك لا يتم " بالمعارضة مع الأوربيين – يقصد الإنجليز بالذات- في إدخال الحضارة الغربية في بلدهم،
وقد أمل أن يجد صدى لدى جماعة من الوطنيين الذين لاحظ تطورهم بارتياح وعطف ولم يكن خافيا أن تنفيذ تلك السياسة يستلزم أن تطول مدة الاحتلال " فيبدو أن الناس لم يتصوروا في هذه الفترة أن سياسة الإصلاح والتعجيل بالجلاء نقيضان لا يجتمعان وأن التوفيق بينهما أمر غير ميسور" وقد وجدت هذه السياسة بالفعل صداها لدى المصريين النابهين،
ويبدو هذا واضحا في حديث محمد عبده إلى بلنت، حين زاره في بيته 1892 فقد قال الشيخ " نحن لا نفهم كون الإنجليز يبقون لعام أو عامين أو حتى لخمسة أعوام ،أو لمدة أطول، فسوف يكون شيئا مفيدا لبلدنا لو منحتهم الوقت الكافي حتى ينمو حزب الفلاحين" – يقصد الأعيان- وقد علق بلنت على ذلك بقوله" الآن يبدو الشيخ محمد عبده أعظم المحبين للانجليز من المصريين" وإذا جاز لنا أن نفسر ذلك بعلاقة قديمة بين محمد عبده وكرومر،
فإننا نجد تسرب تلك الروح، عند واحد من أصلب زعماء الحركة الوطنية المصرية وأشدهم تطرفا- فيما بعد- وهو محمد فريد، الذي كتب في مذكراته " وفى الواقع فإني أعترف بدون مبالاة أننا محتاجون لمساعدة الإنجليز لنا مدة لا تقل عن خمسة عشر سنة حتى نبلغ شأوا من التمدن والتقدم في سبل المعارف فيمكننا أن ندبر أحوالنا بأنفسنا لأننا الآن كالشاب الذي لم يحز من الدربة ما يؤهله لمباشرة أعماله بنفسه.."
لقد حاول كرومر بذلك أن يضع قاعدة مضمونها التعامل مع سلطات الاحتلال من منطق الأمر الواقع ومحاولة الاستفادة منه تحت شعار الإصلاح فنجح في تأجيل الثورة المصرية ما يزيد على ثلث القرن.
شهدت مصر ما بعد الاحتلال طورا جديا من التغير، كان لسياسة الاحتلال وإجراءاته أثر كبير في تكوينه، عند الذين كرهوه والذين أقروه على السواء وإذا جاز لنا أن نعتبر أن عقدين من الزمان كافيان لإنضاج الجيل الذي شهدت طفولته سني الاحتلال الأولى،
فإن السنوات الأولى من العقد الأخير للقرن التاسع عشر تصبح توقيتا طبيعيا لبروز هذا الجيل السابق قد خمدت تماما نتيجة صدمة الاحتلال، وإن كانت قد تغيرت كما وكيفا، لقد أفقدتهم الصدمة النطق لبعض الوقت، في الوقت الذي شهدوا فيه إرساء الاحتلال لسياساته، وكان أمرا طبيعيا أن يتردد رجاله في رفض هذه السياسات،
وذلك إما لشعورهم بالضعف أو لعجزهم عن إنكار أن مصر كرومر كانت في كثير من النواحي أفضل من مصر إسماعيل كذلك كان إخفاق الثورة العرابية قد بدد الكثير من الثقة لديهم، ومع هذا لم يستطع الاحتلال تحطيم الحركة الوطنية " فظلت تتابع عملها في خفاء كتوم" فكانت الجمعيات والمنتديات والصحف خمائر الحركة الوطنية، تجتذب شباب الجيل الجديد، فتقرأ عن جماعة لطيف سليم، وصالون نازلي فاضل، وظهور جريدة المؤيد، التي أفسحت صدرها لأقلام سعد زغلول ومصطفى كامل وقاسم أمين والهلباوي وغيرهم.
والتقى في أتون الحركة الجديدة الشباب العائد من أوربا وصغار الموظفين، وطلبة المدارس الثانوية والعالية ، بالإضافة إلى فريق من الأعيان الذين التصقوا بالخديوي الشاب، وأيدوه حين طوف بالبلاد في فبراير عام 1893، وظاهروه خلال أزمة 1893 مع كرومر، وسبقوه للأستانة في يوليو من نفس العام ليحسنوا استقباله، كما ضمت قطاعات من ذوى الثقافة القانونين بالإضافة إلى أصحاب المهن من أفراد الطبقة الوسطى الصغيرة.
وانتقل الجيل الجديد من الكتابة في الصحف القائمة إلى خلق صحف خاصة به، وأضاف إلى جانب الانتماء إلى الجمعيات العلنية، تكوين الجمعيات السرية، التي باتت شكلا مميزا للحركة الوطنية في تسعينات القرن التاسع عشر، وربما استفاد مما حدث للعرابيين، فنبذ أسلوب الثورة حتى أن مصطفى كامل ينفى عن نفسه هذه التهمة ويعتبرها نوعا من الجنون، ويطالب المصريين أن ينفوا باعتدالهم وسكونهم تهمة من يرمونهم بحب الهياج والاضطراب.
ويختتم الخديوي إسماعيل حلمي خطاب افتتاحه للجمعية العمومية عام 1892 بقوله:" أنه بمعونة الله ومعاضدة الأمة تكون أعمالنا ومساعينا عائدة على مصر بالسعادة والرفاهية" وهى أول مرة ذكرت فيها الأمة في مقام رسمي. وهكذا تحتوى الحركة الوطنية الخديوي الشاب، على الأقل في السنوات الأولى من قوتها، الأمر الذي اكسبها قوة وأهمية ،
وقد أشيع عنه أنه قال " إما أن أكون خديويا بالمعنى الصحيح وإما أن أحمل حقيبتي" وبفضل تشجيعه لها أصبحت الحركة عملية من خلال مساعداته المالية للصحافة وخلال السنوات الأولى لحكمه وضع نفسه فى صدر الحركة حين كان حاكما شوريا،
الأمر الذي شجع الوطنيين الليبراليين على الانضمام إليه ويروى أنه قال " لما أفلت الضباط من يدي إذ دخلوا الماسونية التي كان يرأسها السردار تحولت إلى الشباب فلبست اللباس المدني وقربت منى مصطفى كامل ولجنة السرية التي كنت أجتمع بها ليلا في مسجد بناحية سراي القبة" وبالفعل بدأ يستعين بالنابغين الشباب فاتخذ الهلباوي عام 1893 مستشارا للأوقاف الخصوصية ولديوان عموم الأوقاف،
وكان يعاونه وكيل قسم قضايا الأوقاف عبد العزيز فهمي كما أبتدع أن يكون مجلس النظار تحت رئاسته عند كل انعقاد حتى يكون ملما بجميع المسائل ولم يغمض كرومر جفنيه لحظة عن سلوك الخديوي الشاب منذ توليه في 13 يناير 1893،
فأرسل على روزبرى ما وصفه بأنه " أعظم الرسائل التي كتبتها لك أهمية منذ أتيت مصر" بأن " الخديوي الشاب يدأب على إثارة المتاعب، وأنه لشاب أحمق متطرف، وقد يكون من الصعب أن نعرف كيف نتعامل معه ولكن أعتقد أنه سيتلقى درسا قاسيا" فالسنوات التي بدأ بها كرومر نشاطه جعلته يظن أن بوسعه أن يضع عباسا في جيبه كما بدا واضحا على وجع التقريب أن الخديوي كان محبوبا من شعبه بدرجة لم يتوقعها كرومر ويرى كرومر أن نيات الخديوي تدل على رغبته في أن يقف موقف مصري غيور على بلاده " فقد شكا إلى مستر هاردنج- القائم مقامه- حين كان خارج مصر عام 1892 بأن المصريين يعتبرون مصطفى باشا فهمي انجليزيا أكثر من اللازم وليس مصريا بدرجة كافية.."
وبات واضحا أن هناك صراعا بين كل منهما، فبينما لجأ عباس إلى مساعدتهم بالإنفاق على جمعياتهم السرية، وإرسال أفراد منهم للدعاية في أوربا، وتمويل الجرائد، لجأ كرومر إلى احتوائهم في الجهاز الحكومي الذي يشرف عليه الإنجليز، بما يحقق لأسرهم طموحا معروفا،
وكان هؤلاء الشباب يمثلون مستقبل مصر السياسي، والخديوي بعد في مقتبل عمره، وكرومر لا يريد لبلاده إلا سياسة المستقبل من ثم كان على الصراع أن يتخذ بعدا جديدا ، لولا أن عباسا خسر معاركه مع كرومر ، حين لقنه هذا عدة دروس كان أولها الأزمة الوزارية 1893.
كما نصب له- وعلى حد تعبيره- شركا عرف بحادث الحدود، جعله يوقع على أثره أمرا يوميا فى عبارات مذلة للبلاد ولشخصه. كذلك اقتنع الخديوي بعد زيارته للآستانة 1893 بأنه لا ينبغي أن ينتظر منها أقل مساعدة لقد ذهب إليها في تعبير كرومر – شاهرا سيفه وعاد خصما مؤدبا ذليلا ولجأ بعد ذلك إلى الأسلوب السري فاتفق مع مصطفى كامل على تشكيل لجنة سرية للدفاع عن مصالح مصر ضمت العديد من الشخصيات المصرية والفرنسية ولعل هذا كان أحد العوامل التي جرت الحركة الوطنية في البداية صوب فرنسا ،
كذلك طلب الخديوي إلى لطفي السيد ، الذي أنشأ مع عبد العزيز فهمي جمعية هدفها تحرير مصر، عن طريق مصطفى كامل أن يشترك معهم في تأليف حزب وطني تحت رئاسة الخديوي، وبالفعل انضم التنظيمان أحدهما للآخر ، وكان اعتقاد هذه الجمعية أن الكلمة الأولى لتحرير مصر في يد أوربا عامة وفرنسا خاصة،
ومن أجل هذا قرر الحزب إيفاد لطفي السيد إلى سويسرا ليتجنس بجنسيتها ثم يقوم بتحرير جريدة تحميها الامتيازات الأجنبية، لكن تركيا لم توافق وكان الهدف هو السعي في تقوية الحركة الحاصلة في أوربا ولا يكون ذلك إلا باتباع طريق واحد هو التحبب إلى كل السياسيين وملاطفة أرباب الصحف والكتابة والخطابة ونشر الرسائل.."
وكان واضحا أن أوربا هذه تعنى فرنسا الوحيدة التي باستطاعتها مزاحمة انجلترا، والتي تستطيع أن تمنح كثيرا من الوطنيين حمايتها الشخصية ليتسنى لهم بذلك محاربة انجلترا ثم هي لن تترك الإنجليز يمسون الخديوي وعرش ملكه بسوء، فهذه سياسة تقليدية عندها، خصوصا وأن مصلحتها تقتضى ذلك في الظروف الحاضرة وسرعان ما أثبتت لهم الحوادث تبخر هذه الفكرة. حين انسحبت فرنسا من فاشودة ،وأكرهت بريطانيا مصر على توقيع اتفاقية السودان ولم تحرك فرنسا ساكنا،
وجاء وفاق عام 1904 ليمحو بصورة قاطعة ذلك الخيط الواهي الذي ظل يربط الوطنيين بفرنسا منذ بداية فاشودة. وبقيت لديهم تركيا، التي لا تضر تبعيتهم لها، وإن كانت تفيد في تقوية حجة المعارضين للانجليز خصوصا فرنسا وروسيا، ولم يكن في مقدور تركيا أن تقاوم انجلترا في مصر أكثر مما تقاومها أية دولة أخرى.
فحين وقعت أزمة فرمان أبريل 1892 أظهر الإنجليز للمصريين أن نفوذهم أقوى من نفوذ الدولة صاحبة السيادة عليهم، ولم يعد عباس من دار السعادة وكان قد زارها 1893 ليدعم موقفه، إلا بمدليات الامتياز الفضية لأتباعه.
لم يستمر عباس في الشوط حتى ناهيته فكان أول من ألقى السلاح، بل على العكس، شرع في التحبب للانجليز، وقام بزيارة الملكة فكتوريا صيف عام 1900 وفترت صلته بالحركة الوطنية، وضعف أمله في الجلاء، وتكشف الوثائق كيف أن " طاشيوز" كانت الصخرة التي تحطمت عليها علاقات الخديوي بالسلطان ، وجعلته ينحاز على الإنجليز، حين التمس مساعدتهم ضده، واتصل بالسفير الإنجليزي في الأستانة في سبتمبر عام 1902.
فأشار عليه أن يتمسك بطلب إرجاع الجزيرة إلى حوزته كما استقبل استقبالا وديا في زيارته للندن عام 1903 ولما عاد إلى مصر من زيارته للأستانة عام 1904 أبلغ مصطفى فهمي بأنه غاضب على مصطفى كامل لطعنه على الحكومة، وزاد بأنه لا يزال يذكر الحفاوة التي لقبها في لندن وأنه سيزورها كل عام، وكان الخديوي يقصد أن ينقل ذلك كله إلى كرومر عندما يقابله ولما ثارت قضية زواج على يوسف، ناصر الخديوي صحفيه الأثير متحديا مشاعر الرأي العام وعندما احتج عليه مصطفى كامل، في أغسطس عام 1904 لمعارضته للرأي العام أجاب عباس بأنه لا يبالى.
ربما بدا لنا أن الحركة الوطنية حتى هذه الفترة تسير متحدة في أهدافها وأسلوب عملها، فرجالها يكتبون في المؤيد وكلهم ينضوي تحت لواء الجمعيات السرية ومعظمهم على علاقة طيبة بالخديوي أو يعملون تحت إشرافه لكنه برغم انتمائهم جميعا لجيل واحد، وثقافة واحدة تقريبا فإن داخل هذا التوحد كانت تكمن أمزجة وانتماءات طبقية، حتى صلاتهم بالخديوي جميعا. لم تكن حول هدف واحد ،
وكذا مقاومتهم للاحتلال وعلاقة هذا بكل منهم، بل إن مدى الثقة في الاعتماد على فرنسا أو تركيا لم يكن بدرجة واحدة لديهم، فلم يكن غريبا أن بدأت تتساقط عوامل الارتباط هذه واحدة تلو أخرى، لتفسح المجال لبروز الاتجاهات المختلفة داخل الحركة الوطنية،
وقد أخذت الانقسامات تدب في أوصالها مع خضوع الخديوي وقد عبر مصطفى كامل لفريد عن ذلك فأبدى كدره من " عدم وجود إرادة مشتركة بين من يريدون أو من يدعون خدمة الوطن، وعدم وجود خطة ثابتة يجرى عليها الكل" والشيخ على يوسف يرفض نشر مقالات مصطفى كامل في المؤيد بعد أن كان قد عهد إليه في العام السابق بتحرير الجريدة في غيابه" ولطفي السيد الذي دخل الحياة الوطنية كزعيم تحت رعاية مصطفى كامل،
عندما كان يعمل بمساندة الخديوي، ما لبث أن التقى بمحمد عبده وقاسم أمين في جنيف وتأثر بأفكار الشيخ الإصلاحية، وبعدائه للخديوي، حتى أنه عاد من مهمته ليرفع تقريرا للخديوي مؤداه "أن مصر لا يمكن أن تستقل إلا بجهود أبنائها وأن المصلحة الوطنية تقتضى أن يرأس سمو الخديوي حركة شاملة للتعليم العام"
وكان قد أدخل في روع لطفي أن الخديوي يريد استخدام أعضاء الجمعية السرية خداما لشخصه وأعوانا لسلطته ولذا أفصح في رسالة إلى مصطفى كامل " بأنهم لا يجب أن يكونوا ملتصقين تماما بالخديوي لأنه إذا سنحت الفرصة له ليصبح عقبة في سبيل الوطنيين، عندئذ يصبح من واجبهم الإطاحة بهذه العقبة" وانسحب لطفي إلى جماعة الشيخ محمد عبده.
وتبدأ جذور جماعة محمد عبده حول الأفغاني، حيث تلقت دروسه، ثم انتقلت بعد رحيله وبشكل أوسع ليرتفع سوقها، وتورق بفكر الإمام ، فتتحلق حوله، وبشكل أوسع ليرتفع سوقها، وتورق بفكر الإمام، فتتحلق حوله، وتعمل معه في الوقائع المصرية، وتلتقى معه في صالون نازلي فاضل ، الذي يختلف إليه رجال السياسة والوزراء وكبار القوم،
وكانت الأميرة على صلة بالشيخ محمد عبده وسعد زغلول وقاسم أمين وعفيف باشا وغيرهم كما كانت من أنصار الإنجليز وعشاقهم، وكانت تهاجر بذلك وقد لعب صالونها دورا هاما في تغيير أفكار محمد عبده الخاصة بموقفه من الإنجليز، وسمح بصداقته لافن بيرنج ( كرومر) كما ساعد بعض المصريين المتنورين ممن اختلفوا إليه في الحصول على المراكز في الإدارة المصرية.
ثم ظهرت الجماعة في شكل الجمعية الخيرية الإسلامية عام 1892 ، التي ألفها محمد عبده مع صديقيه سعد زغلول وحسن عاصم وضمت إبراهيم الهلباوي، و عبد الخالق ثروت، وطلعت حرب .
كما كان لانضمام محمد عبده لعضوية مجلس شورى القوانين 1899 أثره في اجتذاب عدد من الأعضاء إلى جماعته، فأصبح عبد الرحيم الدمرداش كما كسبت هذه الجماعة قطاعا من الأزهريين حين عرضت لفكرة إنشاء مدرسة القضاء الشرعي، عقب استقالة الإمام من الأزهر،
حيث التقى جماعة من خلصائه الذين هالهم ما حدث وقد تداولوا في الأمر حتى أوشك الإمام أن ينشىء قسما خاصا يختار له صفوة من طلبة الجامع الأزهر ليتولى هو إعدادهم للقضاء الشرعي ومع إدراكنا لأهمية المدرسة إلا أننا نستطيع أن نلمح الأثر الإنجليزي من ورائها، فقد كانت نظارة الحقانية- طبقا لما ذكره مكلريث- تريد أنتكل إلى محمد عبده أمر تنظيم مدرسة القضاة الشرعيين المزمع إنشاؤها ومراقبتها مراقبة فعلية.
وفى الدرس العالي الخاص الذي كان يعقده محمد عبده كل أسبوع، كان يلتقي ببعض المفكرين من متخرجى دار العلوم وأساتذة المدارس الأميرية وغيرهم من رجال الحكومة والأدباء.
ومن أشهر أعضاء هذه الجماعة قاسم أمين الذي رد على الدوق داركور متأثرا برد الإمام على رينان، وقد قرأ عليه فصولا من كتابه " تحرير المرأة" وكذلك فتحي زغلول ، وكان ممن يصطفيهم الإمام معه للاصطياف بسوريا،
ويحضر درسه العالي الخاص، وكان فتحي يومئذ رئيسا لمحكمة مصر الأهلية ولعله قد تأثر في ترجماته للفكر الأوربي بتعاليم وتوجيهات أستاذه، وإن كان لطفي السيد قد بدأ حياته متطرفا إلا أنه حين التقى بمحمد عبده في جنيف وتزامل معه في الدراسة الصيفية بجامعتها، ما لبث أن تحول إلى الاعتدال، ولعل تقريره إلى الخديوي يوضح أثر الإمام فيه، كما يدل على اقتدائه به حين عاد من منفاه في سوريا ورفع تقريرا حول إصلاح التعليم إلى اللورد كرومر.
وكذلك كان الهلباوي صديقا للإمام. تتلمذ مع على الأفغاني، وساعده في تحرير الوقائع واجتمع به في صالون الأميرة والجمعية الخيرية.
أما طلعت حرب فقد عمل معه في تأسيس الجمعية الخيرية بجهده وماله، وكان من طليعة من رثوه عند وفاته عام 1905 كما امتد تأثير الإمام إلى الجيل التالي، وإن كان بشكل غير مباشر في معظم الأحيان ،فنراه يشير على حسن باشا عبد الرازق بالكتب التي يمد بها ابنه مصطفى – طالب الأزهر- الذي حفظ كثيرا من رسالة التوحيد وقد أثرت صداقته لحفني ناصف في ابنته " ملك" التي فاضت كتاباتها بتعاليم الإمام بعد أن تشبعت بروحه واتخذته مثلا أعلى ،
وأصبح ودعوته موضع إعجاب محمد حسين هيكل، وقد دعاه ذلك على قراءة كتابه"الإسلام والنصرانية" فتأثر بطريقة الشيخ وأسلوبه، وهكذا يبدو تأثير الإمام الذي امتد من جيل معاصريه وأصدقائه إلى الجيل الثاني، كما امتد ليشمل أكثر من مجال، في الصحف والجمعيات والصالونات والمؤسسات النيابية والأزهر، ومن خلال ذلك كله اتسعت دائرة مؤيديه والمتأثرين بأفكاره، سواء فيما يتعلق بمواقفه وعلاقاته السياسية، أو منهاجه في الإصلاح.
ولم كين محمد عبده من أنصار الثورة، ومواقفه منها معروفة بما فيه الكفاية فقد ناصرها يوم أن انضم الجميع إليها حتى الأزهريون الاصطلاحيون بل والجراكسة أنفسهم، وحين تحول عرابي إلى قائد لمصر كلها، وباتت السلطة كلها في يد العرابيين، حينئذ أشبح الشيخ وسلطان باشا والبلاد المصرية قاطبة من أتباع عرابي ،
وكان كيالا إلى التبصر والمسالمة، فحين وقع الخلاف حول مناقشة مجلس شورى النواب للميزانية في وزارة شريف اتفق معه بلنت على أن يناقشا وفدا من الأعضاء ، ويعرضا النتائج المحتملة للمقاومة وهى التدخل المسلح" لكنهم تشبثوا بالرغم من مساعدة عبده للمقاومة وهى التدخل المسلح لي" وكان يقرر في كل مناسبة أن علينا أن نهتم بالتربية والتعليم بضع سنين وأن نحمل الحكومة على العدل بما نستطيع وأن نبدأ بترغيبها في استشارة الأهالي في بعض مجالس خاصة بالمديريات والمحافظات وليس من المصلحة أن نفاجئ البلاد بأمر لم تستعد له"
ويدلنا موقف الهلباوي إزاء العرابيين والإنجليز على مدى انعكاس مواقف محمد عبده على جماعته. فقد رفض الهلباوي تعيين العرابيين له في المجلس المخصوص، وكان في كل أحاديثه ينتقد سياستهم حتى اتهم بعد توليهم السلطة حاكموه في أغسطس عام 1882، وحكموا عليه بالأشغال الشاقة ثمان سنوات، قضى شطرا منها إلى أن دخل الجيش الإنجليزي القاهرة وأخلى سبيله.
وإذا كان محمد عبده قد عرف التطرف بتأثير الأفغاني، فقد تضاءل ذلك فيه، وإذا كان قد اختبر تطرفه بالانضمام على الثورة ، فإنه نفى وعاد أكثر اقتناعا بعدم جدوى العنف، كما ازداد اقتناعا بأسلوب الاعتدال، والتدرج أساسا للإصلاح، ولم يعد دوره العلمي في السياسة أكثر من كونه عضوا في شورى القوانين عام 1899 ،
وقد أصبح أكثر مسالمة كما أشيع أن كرومر قد تدخل للعفو عنه وأعاده من منفاه، حتى بات يقدر حريته حق قدرها، وما برح يدعو إلى عقيدته في الدين ويطالب بإتمام إصلاح اللغة " أما أمر الحكومة والمحكوم فتركته للقدر يقدره، وليد الله بعد ذلك تدبره، لأنني عرفت أن ثمرة تجنيها من غراس تغرسه وتقوم على تنميته السنين الطوال، فهذا الغرس هو الذي ينبغي أن يعنى به الآن.."
وكان على محمد عبده أن ينظر في علاقاته أو أن يصوغها من جديد على ضوء ما حدث خاصة بالنسبة لسلطات الاحتلال وخديوي البلاد.
فبالنسبة لعلاقته بكرومر ، فقد قيل أنه عفى عنه بشفاعة بعض أصحاب النفوذ ومنهم الوكالة البريطانية، أو اللورد شخصيا ، وإن كان كرومر في تقريره لعام 1905 قد ذكر أن الخديوي السابق قد عفى عنه ثم عاد في " مصر الحديثة" ليقول: " إنني لما أتيت مصر عام 1883 كان الشيخ يمر بضائقة ، ولكن توفيق الطيب المعدن، قد عفا عنه بضغط الإنجليز وجعله قاضيا ، ولسنوات عددية منحته كل ما في قوتي من تشجيع" وقد صرح اللورد بأن يظل الشيخ مفتيا في مصر ما ظلت بريطانيا العظمى محتلة لها " وأنه سيظل المفتى حتى يموت"
وحين أراد المفتى أن يزور الأستانة، ولم يكن كرومر يريد ذلكن وافق على أن يعرف هذه العاصمة القديمة، والظاهر أن اللورد كان يعتقد أنه لا شيء يقطع أمل الأستاذ من حياة الدولة إلا زيارته للأستانة ، وبالفعل زارها عام 1901 وكانت معه توصية من اللورد لسفير انجلترا فيها خشية الطوارئ،
وكان الشيخ حريصا على علاقته مع كرومر، على مصالح أصدقائه، فحين عزم كرومر على إلغاء النيابة العامة من المحاكم الأهلية وإحالة أعمالها إلى القضاء، زاره الشيخ وأقنعه بالعدول عن ذلك،
كما تدخل لديه لإنقاذ نفر من الأعيان اتهموا في قضية تعذيب، ولولا أن للإمام منزلة كبيرة عند اللورد لجر هذا الحادث إلى نتائج سيئة. وحين اقترح بلنت على كرومر تشكيل حكومة من الفلاحين المصريين- يقصد الأعيان- قام باستشارة محمد عبده فى الأسماء التي يقترحها على اللورد، وكان ضمنها أمين فكرى وسعد زغلول وأحمد محمود وأحمد حشمت ، والشيخ محمد عبده نفسه ولكن كرومر أضاع هذه الفرصة .
وقد عبر الشيخ عن رأيه في الاحتلال وهو لا يزال بعد في سنوات المنفى – وربما كان قد سمع أن هناك مشاورات انجليزية تجرى لاستصدار العفو عنه- حسن سأله رشيد رضا عن الاحتلال فقال:" أنه مسألة أوربية لا شأن لنا فيها وإنما الشأن للدول الأوربية ذات المصالح في مصر مع السلطان، فإذا اتفقت هذه الدول على الجلاء كان، وهو ما لا دليل عليه الآن.. "
وفى رسالتين من الشيخ إلى بلنت عقب توقيع الوفاق الودي اقترح تشكيل مجلس شورى يضم بعض كبار الإنجليز.. كما يرى أنمن الضروريات لحسن الإدارة المصرية قيام الحكومة الإنجليزية بضمان النظام في البلاد وكفالته فتراقب استتبابه، فتحافظ على استمراره ، وعلى الدستور الذي يمنح لمصر كما يجوز تعيين انجلترا كمفتشين في الوظائف الصناعية التي تحتاج إلى مهارات خاصة،
وأن يبقى السردار وبعض الضباط الإنجليز في الجيش المصري ويشغل المصريون ما بقى من وظائف الجيش، وإذا فرض وقامت بعض صعوبات ورأت الحكومة الإنجليزية وجود بعض قواد انجليز فيه فلا ضرر.."
وقد كان لعلاقات محمد عبده برجال الاحتلال، إلى جانب نفور الشيخ من أسرة محمد على وحرصه على ألا يتدخل الخديوي في المؤسسات الدينية ومنها الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية كما كان لأنشأ كرومر للمجلس الأعلى للأوقاف بعضوية محمد عبده، للحد من تدخل الخديوي في الأمور المالية أثره في استحكام الخلاف بين محمد عبده وعباس، فاتخذت محاربة الخديوي له عدة وسائل منها تحريض العلماء عليه، وعلى فتاويه واتهامه بالوهابية والزندقة،
وقد حاول عزله من منصب الإفتاء ومن إدارة الأزهر لولا تدخل كرومر ، كما أوحى الخديوي لصحيفة " الظاهر" بإسقاط نفوذه الديني وإضعاف حزبه، وقد ردت الصحف الوطنية عليها فيما عدا " اللواء" وكان الشيخ يبادله العداء ويذكر دائما ألا أمل في الخديوي بشأن الجلاء عن مصر،
ويتحدث عن استبداده وأنه لا يثق في قوته أو قدرته، وأن الحكومة لا يجب أن تعتمد عليه كلما كان ذلك ممكنا وأنها يجب تؤيد ببعض النظم الدستورية، وفى رسالتيه الشهريتين لبلنت ذكر أنه يجب ألا يكون لجناب الخديوي أي سلطة تخوله في أعمال الهيئات التنفيذية للنظارات ولا إدارة الأوقاف والأزهر ولا المحاكم الشرعية، ويجب ألا تدع انجلترا الدستور عرضة لتدخل الخديويين.
وإذا ما ربطنا بين رسالتي الشيخ إلى بلنت حول استبداد الخديوي وضرورة اشتراك الإنجليز في الحكومة، بتاريخ توقيع الوفاق الودي 1904 أمكننا أن نفهم أن محمد عبده قد تأكد من قدرة الإنجليز على حمايته بشكل قاطع ودائم، ويئس تماما من الخديوي، كما تأكد من عدم قدرته على تحديه، وقد تحرر الإنجليز بالوفاق، م أكبر مخاوفهم الدولية ن ومن ثم تحدث بصراحة شديدة إلى صديقه عما يمكنه قلبه للخديوي والإنجليز.
وقد بلغ خصام الشيخ والخديوي مداه عام 1904 وكانت نهايته أن استقال، مع الشيخ سلمان، من مجلس إدارة الأزهر بعد تعيين الشيخ الشربينى في مارس 1905 بعدة أيام، بل لم ينته حقد الخديوي عليه بعد وفاته، فغضب على أحمد شفيق لسيره في جنازته كما سبق له أن هدد بفصل بعض حاشيته ممن كانوا على صلة بمجالس الإمام، وأنب فتحي زغلول لاشتراكه في عمل تذكار لمحمد عبده بعد وفاته.
خلف محمد عبده اتجاها في السياسة المصرية، اتضحت ملامحه وعلاقاته وتشربه أتباعه وأشياعه، وقد لقوا اهتماما واضحا من اللورد كرومر وأشاد بهم في تقاريره وكتاباته . خاصة في تقريره لعامي 1905، 1906 .
كما أشاد باتجاهاتهم الإصلاحية التي لا تزعزع أركان الدين الإسلامى وبعده عن فكرة الجامعة الإسلامية، كما حبذ فيهم اعتدالهم في مذهبي الإصلاح والوطنية، حيث يقفون موقفا وسطا بين المسلمين المحافظين المتزمتين من جهة ، والمسلمين الذين تفرنجوا ولم يعودوا يحملون من الإسلام غير اسمه من جهة أخرى، فهم لا يقلون في وطنيتهم عن أولئك الذين تلقبوا بالحزب الوطني، ورغم أنهم فئة صغيرة إلا أنه متزايدة،
وقد ساهم " أتباع المفتى السابق الشيخ محمد عبده" على سبيل الاختصار ، وقد رأى كرومر أنهم أمل القومية المصرية في معناها العملي، ومعقد الرجاء في التعاون مع الأوربيين وذلك " لأن لهم أفكارهم ومعتقداتهم وأسلوبهم الخاص في العمل والحياة"
وقد أوضح كرومر أن الأهمية السياسية لمحمد عبده تكمن في قدرته على خلق مدرسة للفكر في مصر تتشابه كثيرا مع تلك المدرسة التي أنشأها السيد أحمد مؤسس كلية عليكرة في الهند، وهدفها تزكية منهج الإسلام في عين المسلم الحديث، أنهم بمثابة "جيروند" الحركة الوطنية المصرية وجديرون بكل تشجيع وتأييد يمكن إمدادهم به. فهم الحلفاء الطبيعيون للمصلح الأوربي.
وحبب أسلوبهم التدريجي في تنفيذ برنامجهم لتحقيق استقلال ذاتي لمصر، في أعين المصريين، وتعشم أن يتبعوا السبيل القويم الذي أرشد إليه الشيخ وقد اعترف كرومر عام 1909 بأنه أعطاهم قدرا من التشجيع باعتبارهم معتدلين ومناوئين للمتطرفين
وقد تمثل هذا التشجيع في تعيين واحد منهم وهو سعد زغلول 1906 في وظيفة ناظر للمعارف واعتبر ذلك تجربة ينبغي أن تعطى مزيدا من الاهتمام، فإذا ما نجحت ، وهذا ما كان يأمل ويعتقد ، انتقل إلى خطوة تالية في هذا السبيل، وإن لم تنجح فليس أمامه إلا أن يعهد إلى الأوربيين بالإصلاح.
ومع كل ما سبق يدرك كرومر نقطة الضعف في آراء الشيخ محمد عبده وشيعته فيراها " في الحقيقة خيالية وغير عملية، ومع ذلك كان وطنيا مصريا صادقا، وربما كان من حظ الوطنية المصرية أن يوجد كثيرون على شاكلته، ولكن إذا أخذنا في الاعتبار إمكانية اعتبارهم ساسة المستقبل، فإننا نجد نقاط ضعف في نسيج محمد عبده وأولئك الذين اتبعوا تعاليمه" .
وهكذا قدر للحركة الوطنية أن تسير في أكثر من اتجاه، بسبب عديد من العوامل أفضت إلى قيام تكوينات عام 1907 الحزبية، بتحديداتها واتجاهاتها وأسلوبها، تطرفا واعتدالا في علاقاتها بالاحتلال والخديوي وتركيا وحتى فيما بينها، وهذه العوامل في مجموعها هي التي أفضت إلى نمو الحركة الوطنية، سواء فيما يتعلق ببروز طبقة الأعيان وأبنائهم من الموظفين وذوى المهن الحرة، الطموحين إلى العمل السياسي ،
أو ما يتعلق بإثارة عداء قطاعات كبيرة من الطبقة الوسطى نتيجة ما عرف بمظالم الاحتلال، وما أثاره جنوده بين الأهالي أفضى إلى انضمام قطاعات من الشعب إلى صفوف الحركة الوطنية، بالإضافة إلى انضمام الخديوي عباس حلمي إليها، ومنحه تأييدا للحركة الوليدة ثم نكوصه وانخذاله،
كل ذلك إلى جانب ظهور تركيا، صاحبة السيادة، بمظهر غير المكترث لما يحدث في مصر وقد شهدت الأعوام من 1892 وحتى 1906 تغيرا كبيرا إزاء تركيا ، فلا عجب أن نمت الحركة بالشكل الذي ظهرت به، كما أن الحوادث " قريبة العهد" التي بدت مكثفة ومتلاحقة، خلال السنوات الست الأولى للقرن العشرين قد أثرت تأثيرا عميقا في إبراز هذه الاتجاهات ، وبالتالي تكوينات الأحزاب وإعلانها عن نفسها عام 1907 وإن لم تخلقها خلقا.
وتبدو لنا ملامح السنوات القريبة في ملاحظة أكثر من ظاهرة تغيير، فقد شهدت بدايتها الإضرابات الطلابية والهاتفية ضد سيطرة الإنجليز على التعليم والمطالبة بالدستور، وتشكيل الطلاب للجمعيات السرية والعلنية، والكتابة في الصحف ، وتكوين نادي المدارس العليا ليصبح مع مدرسة الحقوق خليتى الجيل الجديد للأشغال بالسياسة،
وكان إضراب طلاب الحقوق 1906 تعبيرا صريحا عن اشتغال الطلاب بالعمل السياسي، وإضافة دماء جديدة لتيار الحركة النامي. كما أضيف للحركة أسلوب جديد، وإن كان وليدا وعلى يد غير مصرية ولكنه بين ظهرانيهم، وهو أسلوب الاعتصابات واعتصاب لفافى السجائر عام 1901 لوح للحركة الوطنية بأسلوب جديد، كما ضم إليها وإن كان بشكل غير فعال وقتئذ فئات من العمال.
وهناك عدة حوادث جرت بين جند الاحتلال والوطنيين أدت إلى انتقاضات الفلاحين وفئات من المدن، منها حادث بحارة الأسطول فى الإسكندرية، وحادث الاعتداء على جند الاحتلال 1895 وحادث قليوب 1897 وواقعة صيد الثعالب بين شمس 1901 وقد دفعت هذه الحوادث بفئات الحرفيين وصغار العمال والفلاحين إلى أحضان الحركة الوطنية ..
وكذلك الحوادث التي أوردها كرومر بتقريره لعام 1905 والتي وقعت بين الوطنيين والأجانب، وبرغم تصويره لها على أنها فردية، وتحديده لإطارها بالمدن التي بها يونانيين فقط إلا أنه رأى أن الحوادث الطفيفة والتي قام بها رعاع من الوطنيين تدعو للحذر فقد تؤدى إلى نتائج ليست في الحسبان. وقد بلغت هذه المتاعب بالنسبة لسلطات الاحتلال حدا جعلهم يضغطون على كرومر لطلب زيادة الحامية البريطانية في ذلك الوقت.
كما ساعد الوفاق الودي 1904 على تهيئة المناخ الحزبي، حيث تخلصت بريطانيا من العراقيل السياسية وشددت قبضتها على البلاد، وأدى أإلى يأس قطاع من الوطنيين من الاستعانة بفرنسا، وأصبح أصدقاء مصطفى كامل " أما أصدقاء للانجليز وإما يائسين" وقد عبر عنه في رسالتيه إلى بلنت.
وقد شهد عام 1906 حادثين على جانب كبير من الأهمية من حيث إبراز الحركة الوطنية في ثوب حزبي أولهما حادث طابة، الذي بلغ ذروته في مايو، وثانيهما حادث دنشواي في يونيو من نفس العام، وفى الأول بدا أن السلطان العثماني يمارس حقوق السيادة باقتطاع جزء من أرضه في مصر، وبدت انجلترا، كما لو كانت تدافع عن ممتلكات مصر،
ووقف القطاع الكبير من الوطنيين في صف الخليفة واستنكروا دور الحامي الذي لعبته بريطانيا لكن فريقا آخر وهم جماعة محمد عبده ، كانوا في جانب آخر، وكانوا على شكوك في صداقة مصطفى كامل وجماعته للسلطان،
من ثم قرروا إصدار جريدة تنطق برأيهم وحين تراجعت تركيا وعينت حدود مصر الشرقية كما شاءت انجلترا، أيدت صحيفتا اللواء والمؤيد هذا التراجع ووصفتاه بالكياسة في الوقت الذي شعرت فيه سلطات الاحتلال بتزايد العداء نحوها في مصر وتعاطف المصريين مع السلطان، من ثم واصلت جهودها نحو اجتذاب كبار الملاك وتلاميذ الشيخ محمد عبده .
وقد لا يبدو غريبا أن يجتمع هؤلاء بعد شهر ونصف من الحادث ليتحدثوا في شأن إصدار جريدتهم.
وبعد اقل من شهر وقع حادث دنشواي الزى اعترف كرومر بأن أحكامه كانت غير عادلة وقد استغله مصطفى كامل في فضح السياسة الكر ومرية ، وليس من قبيل الصدفة أن يكون ثلاثة من شيعة الإمام هم أبطال محاكمة دنشواي ، قضاة وجلادين ومحامين ، فلطفي السيد الذي مثل في هيئة الدفاع، رغم محاولاته في توضيح أن الهجوم على الضباط الإنجليز كان محض صدفة وأن الجريمة بنت لحظتها إلا أن المحكمة أقرت بجرم الفلاحين ورفضت طلب هيئة الدفاع باستخدام الرأفة، ولعل لطفي قد أحس بضعف دفاعه فتجاهله في مذكراته، كما أن " فندلى" القائم بعمل المعتمد البريطاني في مصر- قد شهد له بالامتياز وكان أحمد فتحي زغلول عضو بالمحكمة،
وهو الذي كتب حيثيات الحكم التي علق عليها القاضي مارشال بأنها من " أضعف ما قرأت " ، وأنه أراد أن يرضى الإنجليز لأنه بقى مدة طويلة رئيسا للمحكمة الابتدائية ويريد أن يرقى إلى محكمة الاستئناف، أما الثالث فكان إبراهيم الهلباوي، ممثل النائب العمومي في التحقيق،
وقد حادثه محمد محمود سكرتير مستشار الداخلية وقتئذ في أمر انتدابه وقبل على الفور، وعلى مدى ثلاث ساعات طالب فيها القضاة أن يرفعوا من قلوبهم كل رحمة، وأشاد بما قدمه الاحتلال لمصر، وبنى ادعاءه على أن الضباط صادقون بالفطرة أما الأهالي فكاذبون بالفطرة أيضا ، وكان يود أن يكافئه الإنجليز مثلما رقى فتحي باشا إلى وكالة الحقانية، لكنه لم يرق،مما أثار حسرته وحنقه.
وقد شكلت الأزمة الاقتصادية التي أمسكت بخناق البلاد عام 1907 عاملا آخر فقد بدت بوادرها منذ عام 1905 حين ارتفعت أسعار الأطيان ارتفاعا كبيرا وحدث تضخم مالي وتهافت الناس على استثمار أموالهم في الشركات، وارتفعت أسعار العقارات والأراضي،
وما أعقب ذلك من هبوط كبير أدى إلى إفلاس بعض المؤسسات المالية- إلى جانب الخراب المالي الذي حل بكثير من ملاك الأراضي فدفعت هذه الأحداث الأعيان إلى المزيد من التماسك حرصا على مصلحتهم ، ودفعت بهم بعيدا عن الشباب المتطرف، وقد قيل حينذاك أن الأحزاب التي تكونت بمص غايتها التفاهم مع الإنجليز لرتق الفتق الذي أحدثه تهور الحزب الوطني.
وبالفعل شهد عام 1907 مولد الأحزاب المصرية، الأمة، الوطني، الإصلاح، والعديد من الأحزاب الصغيرة التي بلغت تسعة برغم أن التسمية لا تتناسب مع محتواها أو تكوينها أو حتى وضع جماعتها السياسي والاجتماعي،
وقد بلغت حمى الأحزاب حدا جعل كل مجموعة من الأفراد يلتقون حول مصلحة فئوية أو مهنية يقيمون حزبا، ولعل هذا يسوقنا إلى التساؤل عن معنى الحزبية وإلى أي مدى ينطبق على أحزاب مصر عام 1907، الحزب مجموع من الأفراد يربطهم مبدأ سياسي، ولهم نظام معين، وعليه فهم متحدون في شئون الاقتراع وغايتهم القبض على زمام الدولة،
ولذلك تراهم أشبه بجمعية أو شركة يتعاون أفرادها لنيل السيادة وبلوغ تلك السياسة بواسطة السيطرة على الحكم بالوسائل الدستورية والمفروض أن تنصر مصالح الأمة وتناهض الحكومة بالقلم أو اللسان أو السيف ويتوقف نجاح الحزب على الحيوية في مبادئه ونظامياته.
ومصر قبل عام 1907 لم تشهد من فكرة الحزبية سوى أن هناك اتجاها وطنيا بهدف التخلص من السيطرة الأجنبية والاحتلال، وقد كان الحزب الوطني القديم يسمى حزبا لأن غير الوطنيين من أتراك وجركس، يمثلون اتجاها آخر،
ومن منطق أن هناك برنامجا صاغه وسماه ونشره في التيمس المستر بلنت وكان الحزب الوطني الحر الذي ألفه الأفغاني قبل ذلك أقرب إلى الجمعية السرية منه إلى الحزب وكذا جمعية مصر الفتاة التي أسسها بالإسكندرية مع نفر من الشوام وقد فكر لطيف سليم في تكوين حزب للدفاع عن القضية المصرية في البلاد الأوربية عرف " بحزب الاستقلال" إلا أن هذا الحزب قد دب فيه الضعف ولم يستطع القيام بشيء، ونشأت بعد ذلك الجمعيات السرية التي لا تعدو أنتكون أسلوبا للعمل أكثر من كونها دفاعا عن فكرة أو اتجاه ذلك أن الهدف في النهاية كان واحدا،
وعلى ذلك فالتيارات التي نشأت بمصر في شكل جمعيات سرية أو علنية لا تعتبر أحزابا بالمعنى الشامل بقدر ما تعبر عن اتجاه عام، أو شعور شعبي، وحين برزت للوجود أحزاب عام 1907 فإنها برزت مرتبطة بأشخاص مؤلفيها وتدور حولهم، كما بدت كجماعات متأثرة بهؤلاء ، ممن جمعوا القليل من التابعين ، كما أن أفكارهم قد وجدت أثرا ضئيلا خارج نطاق جماعتهم، وهذا يوضح لماذا لم تصدر قوائم من المرشحين للانتخابات لمختلف المنظمات النيابية ، لقد كانت أقرب إلى الأصول الحزبية منها إلى الأحزاب المنظمة تنظيما دقيقا وتمتلك أدوات مؤثرة،
حتى إذا سئل العضو في واحد منها لماذا اختاره فإنه يجيب بسبب من الأسباب العامة التي تدل على اختلاف النظر والمزاج ولم يكن من المستطاع أن تقوم الأحزاب يومئذ على أسس ومبادئ مجردة، فذلك يحدث في الأمم الحرة، ومصر كانت خاضعة لسيادة تركيا محتلة بالإنجليز وللامتيازات الأجنبية أثر في توجيه اقتصادياتها واجتماعياتها، فكان من الطبيعي أن تتأثر الأحزاب بهذه الحال.
مما سبق يتضح أن الأحزاب المصرية ( 1907- 1914) تعد مرحلة متوسطة بين تلك الأشكال من التجمعات التي سميت أحزابا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وتلك الأحزاب التي ظهرت بشكل منظم بالمعنى الحديث، بعد ثورة 1919.
وإن تكن كلمة أحزاب تعد فضفاضة بعض الشيء، إلا أنها بالفعل أقرب إلى التسمية منها إلى أي تسمية أخرى، صحيح أنها ليست منظمة في شكل كوادر وتفتقد إلى القواعد الشعبية أو اللجان التنظيمية- وإن كان هذا لا ينطبق على الحزب الوطني- كما أنها لم تخض انتخابات برلمانية تشكل بموجبها الحكومات أو تؤثر بشكل مباشر وفعال " كجماعات حزبية" داخل الهيئات النيابية القائمة، لكننا لا نستطيع تجاهل ما لها من مشخصات الأحزاب السياسية، مما يجعلها أقرب إلى التسمية، وهذه المشخصات هي اجتماع آراء فئة من الناس، اتصلوا مصلحيا أو طبقيا بمبادئ معينة، أعلنت في شكل برنامج محدد واضح منشور ، أيا كانت درجة الالتزام به، ثم هي تمتلك أداة للتعبير عن مبادئها،
وإن كانت في بعض الأحيان قد أصدرت صحفا قبل أن تعلن عن نفسها، وأخيرا ظهر أثرها داخل المؤسسات النيابية وان بشكل غير متكامل أو مؤثر كلية، لكنها في كل الأحوال، كانت تتخذ الموقف وإن بغير ترتيب سابق، طبقا لما أعلنته ولما يخدم مصلحتها. وبتحليل نشأة حزب الأمة وصدور جريدته، وإعلان تنظيم الحزب ومبادئه تتضح صورة الحزبية فى مصر في تلك الفترة.
الفصل الأول : " الجريدة" وقيام الحزب
أسباب صدور الجريدة وفكرتها
كرومر والجريدة
الهيكل التنظيمي والتمويل والتحرير
إعلان الحزب وصلته بالجريدة
نظام الحزب وأدواته- مبادئ الحزب وخطته.
برزت في أفق الحياة المصرية طبقة جديدة استفادت من إجراءات الاحتلال وسياساته، وإن لم تكن مدينة له بنشأتها، التي ترتبط تاريخيا بتطور شامل لمصر منذ بداية القرن التاسع عشر، ولكن الاحتلال هيأ لها فرصة النمو وساعد على إبراز كيانها لتصبح أقل القوى الوطنية خطورة بالنسبة له إن لم تكن أضعفها،
ثم هي أكثرها استفادة من إجراءاته حين ركز جهوده نحوها ووجهها التوجيه السياسي الملائم لوجوده في مصر، ولسنا نبالغ إذا قلنا أن الاحتلال حرص كل الحرص على غرس بذرة الإصلاح في نفوسنا ونفوس أبنائنا، كبديل الثورة من جهة، وكعامل ارتباط بين وجوده – كمصلح – وبينهم من جهة أخرى.
وإذا كان لدى الأعيان أو كبار ملاك الأراضي الزراعية وعيا غريزيا بالمصلحة الطبقية، فإن المثقفين من أبنائهم قد أضافوا إلى هذا الوعي الفطري وعيا علميا- إن جاز التعبير- تمثل في القدرة على التخطيط وتغليف ذلك كله بإطار من المبادئ الليبرالية. انعكس بدوره على سلوكهم سواء داخل المؤسسات السياسية أو في علاقاتهم بالقوى السياسية المعاصرة. أو في مدى استجابتهم لأحداث عصرهم.
ورعاية هذه الطبقة تبدأ في جانب المثقفين ، منذ تدخل كرومر لإنقاذ إمامهم وإعادته من منفاه، حيث كسب كرومر انعطاف الشيخ وجماعته منذ تلك اللحظة، والتقى معهم بعد ذلك في أكثر من مجال بدءا بصالون الأميرة وحتى محاكمات دنشواي. أما في جانب الأعيان، فمنذ تعهدهم بمشاريعه الاقتصادية وإجراءاته العقارية والقضائية وغيرها.
وهكذا تهيأت في المجتمع المصري طبقة طموحة للعمل السياسي. لها وزن اقتصادي كبير. لم يكن ينقصها إلا عوامل احتكاك تكفى لأن ترفع صوتها في عالم السياسة. ومن المعروف أن الجماعة التي أصدرت صحيفة " الجريدة" تنتمي إلى الطبقة التي قادت الحركة الدستورية في أواخر عهد إسماعيل، وكلل كفاحها بدستور عام 1881 ولكن الاحتلال قلب لديها موازين السياسة.
ولا شك أن هناك أسبابا دعت إلى اختيار عام 1906 لأولئك الذين أصدروا " الجريدة" للنزول إلى معترك الكفاح، كما أن لدى سلطات الاحتلال أيضا أسبابا أفضت إلى تشجيعهم على ذلك.
ففي جانب مؤسسي " الجريدة" أنزلت الأزمة المالية التي انتابت مصر زلزالا عنيفا بأمنهم المالي أفضى بهم إلى المزيد من التماسك والاقتراب بشكل واضح ممن بيدهم الأمر. كما كان ارتفاع درجة حرارة الحركة الوطنية نتيجة إضرابات الطلبة، حتى أن سلطات الاحتلال قد طلبت من كرومر زيادة الحامية البريطانية في أواخر عام 1905 مما أدى إلى اقتراب ممثلي الاحتلال ممن أسموهم بالمعتدلين المصريين،
وكان قد أدخل في روع هؤلاء أن هذه لاضطرابات التي يقوم بها الشباب المتطرف غير المسئول هي التي أفضت على فقدان الثقة المالية بمصر مما اضر بمصالحهم، وقد برروا ذلك بأنهم أرادوا أن يثبتوا أن الحركة الوطنية المعارضة للاحتلال يقوم بها أيضا غير أولئك الذين ليست لهم مصالح حقيقية في البلاد كالشبان والأفندية والباشوات الأتراك.
وتمثل حادثة طابة عاملا مشتركا لدى كل من الجماعة التي أسست "الجريدة" وسلطات الاحتلال، أدى إلى ضرورة التقارب وإصدار الجريدة فالصحف المصرية إبان الأزمة انقسمت إلى قسمين، بعضها انحاز على الإنجليز، وأكثرها مال إلى تركيا، ولم تحظ مصر بسند أحداها فكان لابد من إصدار جريدة جديدة .
وكانت صحيفة " الجازت" تتهم الصحف الوطنية بأنها خلال الأزمة كانت أشد عثمانية من السلطان نفسه حينئذ بدا للطفي السيد وللعديد من الشخصيات المصرية التي بدأت تنظر إلى الرأي العام المصري بتشكك، بدا لهم أن يرفعوا صوتهم مطالبين بإنشاء جريدة حرة" تنطق بلسان مصر وحدها"وألا يكون لها ميل خاص إلى تركيا أو إلى إحدى السلطتين الشرعية أو الفعلية في البلاد.
وقد رأوا أن تكون ملكا لشركة من الأعيان أصحاب المصالح الحقيقية وهكذا أزعج الحادث، وموقف مصطفى كامل، إزاء اقتطاع جزء من حدود مصرن أزعج بعضا من أتباع الشيخ محمد عبده فقرروا إصدار جريدة تنطق برأيهم، بعد أن رأوا فشل الاعتماد على فرنسا ثم على أوربا.
ثم على تركيا فقدر جماعة منهم أن لابد من الأخذ بسياسة أخرى هي إعداد الأمة بأدوات الاستقلال أما بالنسبة للانجليز الذين أذهلتهم موجة العنف الصحفي الذي قادته اللواء والمؤيد والظاهر وغيرها أو صحف الجامعة الإسلامية، كما يسميها " فندلى" القائم بأعمال المعتمد البريطاني في مصرن مما جعلهم يخشون تأثيرها في الطبقات الأدنى والأكثر جهلا، ذات الخطورة في المدن الكبيرة، وكان كرومر قد طلب إطلاق يده فيما يتخذ من الأمور المحلية- أثناء الحادث- خاصة فيما يتعلق بالإجراءات ضد الصحافة الداعية إلى الجامعة الإسلامية .
ويعتقد " فندلى" أن قسما كبيرا من الرأي العام المصري قد بدأ يتضايق ويخجل من الصحافة الموجودة.. إلى جانب عدم وجود جريدة مستقلة، فجريدة تعبر عن رأى الاحتلال وأخرى تعبر عن رأى الخديوي، وثالثة تستمد رأيها من استانبول ، والشعور المصري ضد كل هذا يتزايد يوما بعد يوم والملاحظات التي أبداها كرومر عن الصحافة لقيت ترحيبا عند كثير من رجالات المصريين ومن هنا يرى أعضاء جمعية الجريدة الجديدة أن الوقت مناسب تماما لمشروعهم.
وكان على الاحتلال أن يواجه موجات العنف "والتعصب" ، هذه بالاستعانة بكبار الملاك ومن يشايعهم من المثقفين المصريين، بتشجيعهم على التعبير عن آرائهم المعتدلة في صحيفة ينشئونها ، ويقوى بذلك جانب المتعاونين معه ويرفع شأنهم في مواجهة هؤلاء العاطفين على السلطان والذين أصبح خطر تحالفهم مع السلطان والخديوي مائلا أمامه،وقد يكون من ذلك رغبة كرومر وقد طالت فترة خدمته بمصر وتعهده هذه الفئة بالتربية والرعاية- في أن يقدمها إلى الحياة السياسية المصرية لشق طريقا جديدا يفيد في تدعيم سياسة الاحتلال ويحقق لكل منها هدفه بشكل معلن.
وكان لحادث دنشواي (13 يونيو 1906) وما أثاره من شعور بالغضب والعداء تجاه الاحتلال وللحملة الصحفية بعده نتيجتان هامتان، أولاهما: التوتر الذي ساد العلاقات بين سلطات الاحتلال بوجع عام، وبينها وبين الفلاحين بوجه خاص،
والنتيجة الثانية هي انتعاش الحركة الوطنية وازديادها قوة وقد شهدت الفترة من 28 يونيو- يوم صدور الأحكام- والتي ازدادت فيها موجات العنف الصحفي، وحتى 23 يوليو عند أول اجتماع رسمي لمؤسسي شركة الجريدة، نشاطا مكثفا من اللقاءات بين جماعة المؤسسين، وبذا تقتصر أهمية الحادث بالنسبة لإصدارها على هذا التنشيط فقد سبق هذا الاجتماع التأسيسي ( اجتماع يوليو) تجمع في 23 يونيو عينت بمقتضاه لجنة لوضع مشروع قانون الجريدة..
وطبيعي أنه سبقت هذا التجمع لقاءات عديدة كان جلها قبيل وقوع الحادث وصدور أحكامه. وقد رفع كرومر مذكرة إلى وزير خارجية بلاده في 8 سبتمبر عام 1906 يقول فيها" ورغم جهودي الآن لدفع فئة المفتى السابق الشيخ محمد عبده ،إلى الإمام، فقد بقوا في المؤخرة ، يرجع هذا أساسا إلى أنهم فئة قليلة جدا عدديا وإلى أنهم لا يتميزون بالجرأة، كما أنهم حريصون على مصالحهم الخاصة،
وقد بدأوا منذ فترة وجيزة يبدون قدرا أكبر من النشاط. وهم علة وشك أن يصدروا جريدة ورغم تضمن مذكرة كرومر معنى تشجيعه لهؤلاء، وإشارتها إلى توقيت تحمسهم لإصدار الجريدة، إلا أنه لم يشر- وكان بوسعه أن يسجل لنفسه ذلك وفى مذكرة سرية- إلى أنه خلق لديهم الفكرة أصلا. ولعل هذا يقودنا على التساؤل عن فكرة الجريدة.
ونحب أن نشير ابتداء إلى أن فكرة إصدار جريدة، فكرة قديمة لدينا بخصوصها عدة روايات، أولها رواية رشيد رضا الذي أقر بانتا " تنفيذ لفكرة الإمام، وإن لم تكن كما يريد من كل وجه، فقد كان يريد أن تكون الجريدة التي دعا إليها في آخر عمره اجتماعية أدبية زراعية أكثر مما هي سياسية"
ويعود بعد ذلك لينسب الفكرة إلى شخصه " ويعلم الله أن هذا ما كنت أقترحه عليه من بضع سنين " وتؤيد جريدتا " الشعب" و" الأخبار " المعاصرتان نفس الفكرة فتشير الشعب على أن الفكرة نشأت من دأب جريدة " الظاهر" على الانتقاص من الشيخ، ولم يكن في مصر جريدة تقف في صفه، حينئذ نشأت عنده وعند شيعته فكرة إنشاء جريدة غير شخصية ولكن الأستاذ انتقل إلى ربه قبل صدورها وتذكر " الأخبار " أن محمد عبده قد كلم أحمد المنشاوي باشا في ذلك عند اجتماعه في رأس البر.
وقد رشح أحمد بك لطفي السيد ليتولى إدارتها، ولكن المنية حالت دون تحقيق ذلك ، أما الرواية الثانية فتعود بالفكرة إلى سلطان باشا، وقد أدلى بها محمود باشا سليمان لأعضاء شركة " الجريدة" يوم اجتماعهم الأول " فإن المرحوم سلطان باشا والمرحوم الشيخ على الليثى كانا يفكران في ذلك لما رأياه من الضرر الذي يصل إلى الأمة بسبب جرائد الأفراد ويؤيد ذلك ما ذكره أحد الأعيان الذين قابلهم مندوب" المؤيد" فالمشروع ليس جديدا برمته بل كان منويا على عهد المرحوم سلطان باشا كما فكر فيه بعد ذلك المرحوم الشيخ محمد عبده
وقد ذكرني فيه قبل وفاته، فنحن الآن ننفذ ما فكر فيه من تقدمنا" أما الرواية الأخيرة فترجع الفكرة إلى أنصار الإمام وبالذات فتحي زغلول ، فيذكر سعد أن أخاه قد سعى للخديوي بأن سعدا أراد أن يؤلف من أصدقاء الشيخ وأنصاره حزبا وجمعهم عنده ولكنه أراد – أي فتحي- أن يحولهم عن غرضهم فأخذ أخي الشيخ محمد عبده إلى اللورد كرومر
ومن هنا نشأت فكرة الجريدة، لكن سعدا كذب هذه السعاية في مذكراته وذكر أن إنشاء جريدة ليس ومن وسائط هدم حزب لا يؤيد الخديوي وجوده وصحح " بأننا اجتمعنا مرة لعمل تذكار للمرحوم الشيخ عبده، وتذاكرنا في خصوصه فمن الناس من قال ننشى مدرسة باسمه ومنهم من قال لا بلا مكتبة، وأخيرا اتفقت الآراء على تأليف لجنة من عاصم وفتحي ومن آخرين لا أتذكرهم للبحث في هذا الأمر"
ويعود فتحي زغلول ليؤكد أنه صاحب الفكرة فيروى لأخيه سعد أنه قابل الخديوي وقال له " أنى أريد الذهاب إليه ( كرومر) للتشكر ولكن أخي (سعد) لم يرض وأنا الذي ذهبت مع أخي الشيخ عبده وأبديت التشكر قم قال لي( الخديوي) وكذلك الجريدة، فقلت: نعم يا مولاي أي أنا الذي أنشأت الجريدة ولولا دخولي ما تم من أمر إنشائها.." .
وقد نسب لطفي السيد الفكرة إلى نفسه قائلا أنه " تحدث في الحالة السياسية مع صديقه محمد محمود باشا إبان حادث العقبة ، وما يجب لمصر في ظروفها السياسية من إنشاء جريدة مصرية حرة تنطق بلسان مصر وحدها.
ولم يحدد لطفي تاريخ هذا اللقاء, كما أنه أقر بأنه لم يكن حاضرا اللقاء الأول الذي كتب على أثره محضر الاجتماع الأول في منزل محمود باشا سليمان وكان أولى بصاحب الفكرة أن يكون أول الحاضرين، ثم إن لطفي فيما بعد عاد ليقول" أنه لما وجدت فكرة تأليف شركة سياسية من المصريين تصدر جريدة سياسية تعبر عن أفكارهم أخذ أعضاء الشورى يعارض بعضهم بعضا..الخ"
مما يؤكد أنه ليس صاحب الفكرة وإن كان قد ساعد في إبرازها، ولا يقوم لدينا دليل على ما قالته " مدام آدم" من أن الذي أوحى بتأليف شركة الجريدة وإبان حادث دنشواي هو مصطفى باشا فهمي رئيس الوزراء.
وعموما فإن الاتجاه العام الذي لا تختلف عليه أغلب هذه الروايات والذي يتفق ومنطق الأحداث أن فكرة إصدار الجريدة قديمة وأنها جالت بخاطر محمد عبده وأنه أفضى بها إلى أصدقائه. أو أن أحد هؤلاء قد طرحها عليهم فلقيت قبوله واستحسانه.
لكن موته حال دون إصدارها إلى أن جاء بعض تلاميذه ليفيدوا وفى ظروف ولأسباب مغايرة، طرح الفكرة من جديد، ومن ثم فإنها جالت بأذهان مختلفة وجرت بشأنها مناقشات عديدة إلى أن ساعدتها الظروف،الخاصة بهم ومن عاونهم على أن تصبح حقيقة واقعة.
وفى افتتاحية العدد الأول " للجريدة" ذكرت أن بعض الكتاب أبى إلا أن ينتقص الجريدة قبل صدورها فخلق لها نسبا لا تعرفه، إذ يقول أنها أنشئت من جناب اللورد كرومر أو أنها متحيزة إلى طرف دون آخر. وكثير من الروايات المعاصرة تردد نفس المعنى. فهل هذا صحيح؟ وإن كان صحيحا فإلى أي مدى ؟
فجريدة الشعب ترى أن كرومر كاشف أخصاءه والمترددين عليه أمثال محمود باشا سليمان وحسن باشا عبد الرازق والشيخ عبد الرحيم الدمرداش وعثمان سليط وأحمد عفيفي وغيرهم فأطلعوه على فكرة محمد عبده فوافق عليها، وتذكر " المنار" نفس المعنى وإن كانت تنقله عن لسان بعض المكتتبين وتبعتها " المقطم" في نقل الفكرة عن بعض الذين تكهنوا بأن الجريدة ستكون بمنزلة الخطام من البعير يقودها به الاحتلال واستدلوا بما بين الزعيمين، زعيم الاحتلال وزعيم الجريدة من المودة والموالاة، كما ذكر الخديوي عباس " أن هذا الحزب- حزب الجريدة- لا خفاء في أنه يتلقى الوحي من اللورد كرومر ويغل ب على الاحتمال أن يكون خاضعا لأوامره.
أما رأى أصحاب الجريدة في هذا المعنى، فقد أدلى به أحد فضلاء مصر المشتغلين بأمر الجريدة الجديدة لمندوب المؤيد- الذي رأى منه إعراضا عن ذكر اسمه – فيقول " لم يكن في نيتنا أن نقابل الحكام ولكن اضطررنا إلى ذلك فإننا لما بدأنا نتكلم في المشروع اجتمعنا عدة مرات في منازلنا لتقريره فوشى بنا قوم إلى الهيئة الحاكمة أننا نجتمع إلى عرض سيء عند ذلك قررنا أن نزور عطوفة رئيس النظار ليزول أثر الوشاية ونعلم رأى الحكومة في جريدة معتدلة. وفيما نحن هناك قيل أن جناب اللورد كرومر موجود أيضا فإذا شئنا أن نقابله لنا ذلك. هذا هو السبب في مقابلتنا لجنابه".
وقد تأيدت فكرة لقاء فتحي زغلول باللورد كرومر وشكره على امتداح محمد عبده في تقريره ومساعدة أسرته، حين نشأت فكرة الجريدة أما نية لقائهم مجتمعين لسلطات الاحتلال فتقرؤها في نص أسباب القضية التي رفعها أحد أعضاء شركة الجريدة وهو حسن بك جمجوم مطالبا بحلها ( 1909) " فالمؤسسين أعلموني أن كشف الأسماء الذي أرسلت الدعوة بمقتضاه إلى الأعيان محرر بين يدي المستشار في غرفة الناظر فناولتهم نصيبا من المال .."
بينما يعترف لطفي السيد بلقائهم مع اللورد كرومر قائلا" فكر نفر منا في تأليف حزب وشركة تصدر جريدة يومية، واقترح بعضهم ألا تبقى المسألة سرا وأن نطلع الحكومة على نيتنا فلا يكون هناك محل للخطأ فاتفقنا جميعا على ذلك وتوجه يوما أربعة منا إلى نظارة الداخلية، وأبلغوا رئيس النظار قصدهم،
واتفق أن اللورد كان يومئذ في نظارة الداخلية وبينما كان خارجا منها التقى بالمذكورين وسأل مستشار الداخلية عنهم فأخبره بغرضهم فاستصوبه وسأل عما إذا كانوا يستحسنون زيارته في الوكالة للبحث في الأمر معا فأجابوا بالإيجاب وزاروه في الوكالة وسمعوا منه ما سمعوه من رئيس النظار.."وبهذا يضيف لطفي إلى الرواية جديدا وهو أنهم زاروا اللورد في الوكالة زيارة خاصة.
ونعتقد أن المقابلة مع اللورد قد تمت قبل تجمعهم الأول في 23 يونيو سنة 1906 ذلك أن كرومر كان يقضى الصيف في بلاده كعادته، عندما كان القائم بأعماله في مصر ( فندلى) يوافى الخارجية البريطانية بما تم إنجازه بخصوص هذا الموضوع، فهو يقول في 5 أغسطس " أبلغ فخامتكم أنه قد تم الوصول إلى نوع جديد من الصحافة المصرية في مرحلة الاستكمال الآن والتي إذا ما حققت نجاحا فسوف يكون لها قيمة كبيرة بعد ذلك، فقد تكونت بفضل جهود شخصيتين كبيرتين لهما مركزا اجتماعي ورسمي كبير، تكونت بدف إنشاء جريدة يومية تدعى ( الجريدة) ..
وقد تم اختيار الشركاء وهم يضمون عددا من الشخصيات البارزة، ونمو المشروع حتى الآن لم يصادفه عقبات تذكر، فقد تمت عدة اجتماعات سبين المؤسسين وضعت فيها بعناية أهم المبادئ التي ستسير عليها الجريدة – وبعد أن يعدد العقبات التي يمكن أن تواجهها يتساءل فهل تظل على إهمالها لتلك المواضيع المثيرة مثل الاحتلال البريطاني أو المفاضلة بين الإسلام والمسيحية..
وقد أوضحت هذه الاعتبارات لأعضاء الجمعية الذين أنكروا نيتهم على الاهتمام بها.." وحديث فندلى بأسلوب " تم الوصول وأوضحت هذه الاعتبارات لأعضاء الجمعية" ،
لا يترك مجالا لنا للشك في أنه كان يلتقي ببعض مؤسسيها ممن صاغوا قانونها ومبادئها وشاركهم الرأي في ذلك اى أنه أتم عملا أبداه كرومر، وحين عاد هذا إلى مصر ورفع مذكرته عن الحالة الحاضرة في مصر في 8 سبتمبر إلى وزير الخارجية، أعاد المعنى مطمئنا بأن عناصر الحركة الوطنية في شكلها السليم " بدأوا منذ فترة وجيزة، يبدون قدرا أكبر من النشاط، وهم على وشك أن يصدروا جريدة، وقد شجعتهم على ذلك بكل الوسائل الممكنة فيما عدا بذل الأموال.." .
ولا تختلف الكتابات الأوربية، سواء في ذلك المعاصرة وغير المعاصرة على أن كرومر قد أعان وشجع الحركات المنافسة للمتطرفين، وهم من أسماهم بالمعتدلين الذين كانوا لا يريدون غير الإصلاح. وكانوا راضين ببقاء الاحتلال وانتظار الدستور بل أن بعض هذه المراجع يذكر صراحة أن كرومر قد " دفع جماعة من الأعيان إلى تكوين حزب عرف بحزب الأمة يتبنى سياسة التعاون مع بريطانيا العظمى وأن زعماءهم عملوا على إصدار جريدة يومية تنطق باتجاهاتهم وتؤكد هذه المعاني بعض الدراسات الحديثة.
فمنها ما يؤكد أن حزب الأمة قد تشكل في سبتمبر عام 1907 بتشجيع غير رسمي من اللورد كرومر والدوائر البريطانية ومنه ما يؤكد أن كرومر قد عاون الجريدة لأنه اعتقد أنه ستكون ملطفة من حدة الصحف الأخرى باعتدالها المرتقب وأنها سوف تكون صوت التعقل والمشاعر الطيبة.
وعموما فليس لدينا نص واضح أو صريح يثبت أن فكرة إصدار الجريدة من ابتداع ذهن كرومر الذي اكتفى بأن أوضح في مذكرته السرية بأنهم على وشك إصدار جريدة, وأنه يشجعهم على ذلك بكل ما يملك، كما أن القائم بأعماله في مصر ( فندلى) ينسب الفضل في ذلك إلى شخصيتين كبيرتين، وأنه وإن كان قد التقى بنفر منهم لم يساهم بأكثر من إيضاحه الديني، وربما يكو- استنتاجا- قد اشترك في وضع مبادئها.
أما عن تشجيع كرومر لجماعتها، ومنحهم تأييده فهذا أمر اتفقت عليه كل المصادر، بل لم تنكره جماعة الجريدة بعبارة صريحة وقاطعة هذا مع اعترافهم بلقائه والتداول معه في دار الوكالة. كما تدل عليه صلاته القديمة بهم وبأستاذهم، ولما اقتضته ضرورة حصولهم على تأييد رسمي ولم تكن علاقتهم بالخديوي لتسمح بذلك، خاصة وقد تلاشت في ذلك الوقت سلطته أمام كرومر ، فلم يكن أمامهم إلا أن يطرقوا بابه. بحث لطفي السيد الفكرة مع صديقه محمد محمود في سلسلة من اللقاءات ،
ثم دعا جماعة من أصدقائه ومعارفه من الأعيان والمثقفين إلى اجتماع بفندق الكونتنال حضره كل من محمد محمود وعمر سلطان وأحمد حجازي ومحمود عبد الغفار بدأوا بعده في عرض الموضوع على أصدقائهم. حتى كان الاجتماع الأول في منزل محمود باشا سليمان في 23 يونيو 1906 ، وجاء في نص محضر الاجتماع:
" اجتمع الموقعون على هذا بمنزل سعادة محمود باشا سليمان وقرروا تأسيس شركة محاصة الغرض منها إنشاء مطبعة وجريدة وطنية مصرية تدافع عن مصالح البلاد، وترشد الراى العام إلى المنافع الحقيقية للأمة بأسرها وقد اختاروا من بينهم أصحاب السعادة محمود باشا سليمان وحسن باشا عبد الرازق وإبراهيم سعيد باشا وإسماعيل أباظة باشا وباسيلى تادرس باشا وأحمد يحيى باشا وإبراهيم مراد باشا وطلبه سعودي ومحمود عبد الغفار وعمر سلطان.. إلخ لوضع قانون لهذه الشركة تبيت فيه شروطها واختصاص مجلس إدارتها وجمعيتها العمومية وقيمة رأس مالها وتوضح خطة الجريدة طبقا للمبدأ المتقدم ذكره وما يتبع ذلك منتسمية الشركة والجريدة وغيرها".
والثابت أن هناك مشاورات سبقت الاجتماع الأول في 23 يونيو، حيث تم فيه تعيين اللجنة السابقة، أما تحريرها فيتعلق بمجلس إدارتها ولا يعرف ذلك إلا في 23 يوليو وهو الموعد المضروب لعرض مشروع القانون على جمعية المكتتبين كما اتفق في عقد تأسيسها على أنها شركة محاصة مقرها وإداراتها بغيظ العدة في باب الخلق بسراي البارودي، وبمقتضى العقد يكون الشركاء غير مسئولين عن تصرف الشركة إلا بمقدار حصصهم، وبمقتضاه أيضا يصبحون غير مسئولين مسئولية سياسية، لأن المسئولية السياسية واقعة على مدير الجريدة وحده، وإن كانت مسئوليتهم أدبية أمام مواطنيهم.
أما تسميتها ، فحتى يوم 4 يوليو لم يكونوا قد اتفقوا عليه بعد وفى 21 يوليو ،قبل اجتماع الشركة بيومين، كانت تجرى مشاورات بهذا الخصوص . وذكر باسيلى تادرس باشا أحد أعضائها أنهم كانوا يودون أن تسمى " الأمة" ولكنهم وجدوا أن هناك جريدة بهذا الاسم، وقد اختلفوا على اختيار إحدى الصحيفتين الكبيرتين في باريس للصحيفة اليومية وهما الطان والجورنال ...
وانتهى الخلاف إلى اختيار الجورنال نموذجا لصحيفتهم و " الجريدة" هي ترجمة ذلك الاسم وبالفعل وافق الأعضاء على هذه التسمية في اجتماعهم يوم 23 يوليو وتمت التوصية على آلات الطباعة، ودفع أقساط الثمن ومشترى الأوراق والتعاقد مع الكتاب ووضع القانون.
أما أحوالها المالية ، فهي شركة محاصة، فتح باب الاكتتاب فيها للعموم بعد تقرير أسهم التأسيس ، رأسمالها عشرون ألف جنيه مجزأة إلى ألفى حصة قيمة كل منها عشرة جنيهات وحتى 24 يوليو كان قد بلغ الاكتتاب ثلاثة عشر ألف جنيه، دفع منها حتى تاريخه خمسة آلاف بلغوا في الخامس من أغسطس 16 ألف جنيه،
وتتضمن المادة الخامسة من قانونها عدم جواز تنازل أحد عن قسم من حصصه المكتتب بها قبل أول يناير عام 1909 ومن ذلك التاريخ يجوز للمشترك التنازل عن قسم منها مستبقيا لنفسه مالا ينقص ثمنه عن خمسين جنيها، ومن أول يناير عام 1912 يجوز الملكية الجريدة في أيدي مؤسسيها أو من يشاركونهم الرأي ، وأنه لن يتغير هؤلاء المؤسسون قبل عامين من ظهورها وأنه بناء على ذلك فلن يتم بيع أو نقل ملكية الجريدة إلا بقرار من مجلس إدارتها.
وتشمل المواد من 6 إلى 11 شروط كيفية التنازل وبيان ما إذا مات أحد الشركاء، وتتضمن المادة ثلاثون أن الشركة لا تنتهي إلا بانتهاء مدتها وهى 50 سنة، حيث يتفق حاملوا أكثر من نصف رأس مالها على ذلك أو إذا هلك كل مالها أو أكثره وتقرر إدارة عمل نافع بما بقى منه، والمواد من 23 حتى 29 توضح سير حسابات الشركة وأعمالها من كل الوجوه.
أما نظام الشركة، فقد تحول المجتمعون في 23 يوليو إلى جمعية عمومية للشركة، وحين عرض عليهم مشروع قانونها أقروه ثم انتخبوا أعضاء مجلس الإدارة وعددهم 25 عضوا، بنص المادة الثالثة منهم مدير الجريدة وأمين الصندوق وقد فاز في الانتخاب كل من :
محمود سليمان | همام حمادي | حسن عبد الرازق |
---|---|---|
أحمد يحيى | إبراهيم مراد | طلبه سعودي |
على شعراوي | سيف النصر محمد | باسيلى تادرس |
عمر سلطان | عبد الحميد السيوفى | سيد محمد خشبة |
محمود عبد الغفار | مصطفى خليل | محمد عثمان أباظة |
عبد العزيز فهمي | عثمان سليط | حمد الباسل |
عبد الرحيم الدمرداش | طلعت حرب | السيد على الرفاعى |
محمد علوي الجزار | بشرى حنا | أحمد لطفي السيد (مديرا) |
عبد الحميد السيوفى ( أمينا للصندوق) |
وتحتوى المواد من 12 إلى 15 إيضاحات عن مجلس الإدارة وكيفية انتخابه واختصاصاته هي :
- أولا: تحضير الميزانية العمومية عن السنة المالية المقابلة والحساب الختامي للسنة الماضية.
- ثانيا: النظر والإقرار على العقود المتعلقة بالشركة.
- ثالثا: المراقبة المالية على الشركة ومراجعة حساباتها.
- رابعا: مراقبة الجريدة من حيث مطابقة سيرها للمبدأ الذي وضع لها.
- خامسا: النظر والفصل في المسائل الإدارية .
- سادسا : وضع لائحة داخلية لإدارة المطبعة والجريدة.
- سابعا: عقد الجمعية العمومية في منتصف يناير من كل عام في الأحوال المنصوص عليها.
- ثامنا: فيما يعرض عليه مدير الجريدة والمطبعة.
- تاسعا: تعيين كاتب سر له.
- عاشرا: اختيار مدير الجريدة عند الاقتضاء.
وأهم ما يميز هذه الاختصاصات ما يتعلق بالتحكم في الجريدة ومراقبة مدى سيرها على المبادئ التي وضعت لها واختيار مدير الجريدة الذي يمكن محاسبته عند الضرورة. أما الجمعية العمومية فقد بلغ عدد أعضائها حتى 5 أغسطس ، ستين عضوا تم اختيارهم بعناية كبيرة كما يقول فندلى وحين صدر العدد الأول للجريدة في 9 مارس عام 1907 كانوا قد بلغوا 107 .
بالإضافة على رئيسها محمود باشا سليمان ، ونائبه حسن باشا عبد الرازق، فيكون مجموعهم 109 أعضاء ، يضمون بينهم عشرة يحملون عضوية مجلس شورى القوانين كما ضمت عددا كبيرا من الموظفين الذين ساعدوا على وضع مشروع قانونها، واشتروا حصصا من حصصها وعدوا بذلك ضمن أعضاء جمعيتها العمومية إلا أنهم امتنعوا عن الترشيح لعضوية مجلس الإدارة،
وما كان امتناعهم إلا لأن عمل مجلس الإدارة يعتبر عملا سياسيا كما أن مؤسسي الشركة كانت تدور بينهم فكرة السعي لدى الحكومة ولدى الأمة في تحقيق مطالبهم التي يتمحص الرأي فيها على صفحات جريدتهم ويقوم بذلك أعضاء مجلس الأداة أو ( اللجنة الدائمة للشركة) ، فمن يوم تأليف المجلس بقى أصحاب السعادة الموظفين غير عاملين وإن كانوا مساهمين تجب دعوتهم لحضور الجمعية العمومية .. وقد أخذ علماء القانون من كبار الموظفين على عاتقهم مهمة سن قانون الشركة.
أما الرئيس محمود باشا سليمان فقد أنكر فيما بعد أنه سياسي أو جورنالى، وأنه وجد في الشركة معينا بالمال" وما يقوله سعادته يقوله أغلب المشتركين في الجريدة..
وأغلب المشتركين فيها مشتركون في اللواء المصري.." وليس هذا صحيحا تماما فالمشروع ليس تجاريا بالدرجة الأولى. ولما سئل الرئيس عن علاقة جماعتهم بمبادئ الإمام محمد عبده لم يشأ أن يرد بشخصه بل أوعز إلى الجريدة أن تجيب على ذلك.
وتمثلت اختصاصات الجمعية العمومية فى التصديق على الحسابات، وعلى تعيين مدير الجريدة أو استبداله، والنظر فيما يقع بين مدير الجريدة ومجلس الإدارة من الخلاف على مبدئها. أو فض الشركة وإبطال الجريدة إذا أصبح رأس مالها غير كاف لاستمرارها أو زيادته .. الخ.
وعموما فإن المشتركين فيها كانوا عددا من الشخصيات البارزة في البلاد، وجميعهم من الأثرياء وذوى المراكز العليا، وفيهم عددا من كبار الشخصيات القبطية. وقد توخي اختيارهم جميعا أن يكون منهم اثنان من وجهاء كل مديرية وذلك لضمان انتشار الجريدة في سائر أنحاء البلاد وتوضح الجريدة في عددها الثالث مغزى الملكية الجماعية لشركتها بأن البلاد الراقية لا تجد فيها غير جرائد الشركات " لأن تلك الجرائد أقوى على النفقة اللازمة وأبعد من الطمع الشخصي وأصعب في تغيير الخطة لأضعف الأسباب.."
ويتفق هذا مع ما أورده القائم بالأعمال البريطاني في من أن " الهدف هو حفظ ملكية الجريدة في أيدي مؤسسيها أو أيدي من يشاركونهم الرأي ..
كما أن مؤسسيها الأثرياء ذوى المراكز العليا والمكانة الاجتماعية يرون أن الجريدة ستكون فريدة في نوعها في الصحافة المصرية، مما سيكون له أثره في تجنبهم أي مظنة من حيث العمل للحصول على مكاسب صغيرة.."
وقد أضفت هذه الملكية الجماعية ميزات عديدة على الجريدة أهمها عدم تأثير العلاقات الشخصية في سيرها. كما أن ملاكها الأثرياء قد تصدوا للدعم كلما واجهت مشاكل مادية، ومن ناحية أخرى فإن الملكية الجماعية قد خلقت لها عقبات أهمها إتاحة الفرصة لأعدائها لإحداث انشقاقات داخل جماعتها باستقطاب جماعة منهم.
وقد أبدى ( فندلى) مخاوفه لأعضاء الجريدة موجها إياهم للعمل على مواجهتها منذ البداية، وقد عرض عليهم هذه العقبات وأولها عدم ترحيب البلاد بها" ذلك لأن الجرائد الموجودة تسير علي نمط مخالف تماما معتمدة على إثارة النوازع الدينية ومهاجمة الموظفين الكبار وغير ذلك، ومن ثم فإن جريدة هادئة متزنة لن تستطيع منافسة الجرائد الأخرى".
وثانيها : معارضة عملاء القصر والجامعة الإسلامية لمن يشتركون في الجريدة وتهديدهم لهم. وثالثهما: تتعلق بتميز الأخلاق المصرية بالفردية وكراهية الجماعية ويستدل بأن الخلافات قد انفجرت بين أكثر الأعضاء تعقلا، وأخيرا ، وهذا هو الأهم ، هل ستظل الجريدة على تمسكها بمبادئها؟ هل يمكن أن تظل على إهمالها للموضوعات المثيرة كالاحتلال والتعصب الديني؟
وما أن تم تعيين لطفي السيد مديرا لها، حتى أوفد إلى أوربا لدراسة آخر طرز الصحافة والطباعة وتم ابتياع الورق والأحبار واستوردت من أمريكا مطبعة مزدوجة كهربائية تمنها ألف جنيه ، واستقدم معها مهندس أمريكي لتدريب مصري عليها.
أما رئاسة التحرير فقد تولاها لطفي السيد – إلى جانب إداراته لها- بمرتب ألف جنيه في العام ثم صار إبراهيم رمزي مديرا للتحرير ، بعد أن فصل المنصبان، من يناير حتى ديسمبر عام 1914 حيث تركها ليعين بالمعية السنية على أن رئاسة التحرير طوال الفترة التي قضاها لطفي في الجريدة لم تكن منصبا دائما له،
فقد تولاها عنه فترات ابتعاده أو إبعاده بعض المحررين ، منهم إبراهيم رمزي نفسه كما تولاها الدكتور هيكل عقب الضجة التي أثارتها مقالات لطفي إبان الحرب الطرابلسية ، وانسحابه إلى قريته " برقين" بناء على طلب حزب الأمة كذلك تولى عبد الحميد حمدي رئاسة التحرير منذ أواخر عام 1914، حين ترك لطفي الجريدة، وظل في المنصب حتى توقفت آخر يونيو عام 1915، وقد عينت الجريدة وكيلا لإدارتها وهو نسيم أفندي فهمي، كما عين بليغ أفندي الصباغ مأمورا لإدارة الجريدة.
وليس لدينا رقم محدد عن هيئة التحرير ، وإن كنا نقرا أسماءهم في الافتتاحيات التي لم يكتبها الرئيس وفى توقيعاتهم على الأبواب الثابتة وغالبيتهم العظمى من الصحافيين المحترفين، الذين تعلق الجريدة على أسمائهم بقولها" أحد محرري الجريدة" أو ( .. من قلم تحرير الجريدة) ومن هذه الأسماء : عبد القادر حمزة و عبد الحميد الزهراوى، و يوسف البستاني و عبد الفتاح الأنصاري و عبد الحميد حمدي .
أما مراسلوها فهم: محمد توفيق دياب وسلامه موسى ( من لندن) ونقولا الحداد ( من نيويورك) وقد راسلها محمد حسنين هيكل من باريس، وكانوا جميعا من الشباب الذي يتلقى العلم في أوربا، كذلك استعانت بمراسلين أوربيين من الصحافيين والمحترفين، فعينت المسيو ( بيرين) مكاتبا خصوصيا لها في باريس ، والمستر ( ج. دوصن) في لندن.
وقد لا يكون مهما حصر كتاب الجريدة على مدى ثمان سنوات وأربعة شهور تقريبا، ولكن تكفينا الإشارة إلى أهم كتابها الذين نشروا فيها بصفة مستمرة أو متقطعة مقالاتهم وأعمالهم ، ومنهم كامل دياب ورشيد رضا، الذي كتب فيها مقالات اجتماعية في مناسبات عديدة. وقد كتب فيها عبد العزيز فهمي مقالات اقتصادية موقعا باسمه في افتتاحياتها وإن كان رائدا الكتابة في المسائل الاقتصادية هما الدكتور يوسف نحاس وإبراهيم رمزي.
هذا بالإضافة إلى طلعت حرب، أنما الموضوعات الأدبية واللغوية فقد كتب فيها مصطفى صادق الرافعي ومحمد السباعي وقد تخصص الأخير في مقالات الإصلاح التعليمي والاجتماعي بشكل عام، فكان تلميذ " لى هنت" في فن المقالة على أسلوب المدرسة الإنجليزية وكان رائد هذا الفن في أسلوب تحرير الصحف، وقد تولى عزيز خانكى الجانب القضائي والادارى في تحرير الجريدة، فقدم بحوثا مستفيضة عن تاريخ القضاء والمحاكم والنظم الإدارية في مصر وأوربا ونشرها فيما بعد في مجموعة كتب،
واحتضن لطفي السيد فريقا من الشباب وشجعهم على الكتابة في الجريدة، ناشرا ومستكتبا ، نذكر منهم إلى جانب سلامة موسى وتوفيق دياب وعباس العقاد وعبد الرحمن شكرا وإبراهيم المزني ومحمد حسنين هيكل، ومصطفى عبد الرازق وطه حسين وعبد العزيز البشرى ومنصور فهمي ومحمود عزمي والشعراء أحم محرم وإيليا أبو ماضي وحافظ إبراهيم والشابات ملك حفني ناصف ومارى زياد (مي) ونبوية موسى ولبيبة هاشم، من رائدات الحركة النسائية في مصر.
وقد صدر العدد الأول في 9 مارس عام 1907 في ست صفحات بحجم الصحف المعارة مصدرا بحكمة شهيرة لبن حزم كشعار لها وكان المقال الافتتاحي عادة بقلم لطفي السيد، ولم يكن يحرره غيره إلا نادرا ، أما الصفحات التالية استوعبتها الأخبار والمقالات الاجتماعية والسياسية والأدبية والبحوث الاقتصادية ، وكانت غالبا ما تستوعب صفحتين أو ثلاثا، واحتلت أخبار الإسكندرية والأقاليم والشئون التجارية الصفحة الخامسة وبعض السادسة.
ينبغي أن نفرق بين تكوين حزب، وبين إعلانه عن نفسه من حيث التاريخ ، فالشائع أن " الجريدة" صدرت ثم تحولت شركتها إلى حزب سياسي، بمعنى أن الجريدة هي الأصل . وكل القائلين بهذا يتجاهلون الفرق بين تكون الحزب فعليا وإعلانه رسميا في 21 سبتمبر عام 1907.
صحيح أن الجريدة صدرت قبل الإعلان عن الحزب بما يقرب من الستة شهور، ولكن ليس معنى هذا أن الحزب لم يكن قائما قبل ذلك التاريخ. لقد اتفق على أن تصدر الجريدة أولا لتهىء الرأي العام لقبول الاتجاه الجديد .
كما أن النشاط الحزبي في تلك الفترة كانت الصحف أداته الكبرى، وإن لم تكن الوحيدة، فكل جماعة اتحدت أفكارهم ورأوا مذهبا واحدا في السياسة عبوا عن أنفسهم بادئ ذي بدء بالصحافة، فالأصل هنا هو نشأة الفكرة أو الاتجاه ثم التعبير عنه، وبخصوص حزب الأمة فإن استقراءنا لمصادره يؤكد هذه الفكرة بما لا يدع مجالا للشك. فالهلباوي يذكر " أننا في أواسط عام 1906 أنشأنا حزبا سياسيا هو حزب الأمة برئاسة المرحوم محمود باشا سليمان.
وكنت أنا وأصدقائي عبد العزيز فهمة ولطفي السيد وحسن عبد الرازق من ضمن مؤسسي هذا الحزب- كما أنشأنا له جريدة سياسية باسم " الجريدة" وفى خطاب إعلان الحزب يؤكد حسن عبد الرازق " أن جمعية غرضها ذلك لا يمكن أن تسمى في عرف السياسة إلا حزبا سياسيا فنحن بذلك من يوم اجتماعنا الأول، حزب متشابه الأعضاء في المقاصد متحد الأجزاء في المراكز الاجتماعية، لا ينقصه إلى التسمية اللفظية" ويؤكد نفس المعنى لطفي السيد " بأنه لما وجدت فكرة تأليف شركة سياسية من المصريين تصدر جريدة سياسية تعبر عن أفكارهم في أمر بلادهم..الخ".
وطبيعي أن الشركة السياسية خلاف الشركة التجارية، التي تقتصر على إصدار جريدة فحسب، وأكثر من هذا تصرح بأن " إطراء الجرائد وإظهار ثقتها بهذا الحزب، الذي لم يتألف إلا منذ العام الماضي ، دليل يبشر بتوحيد المقاصد"
وما يؤكد نفس المعنى أن الخديوي عندما غضب من فتحي زغلول لسعيه في إنشاء جريدة، وتشكيل حزب ضده، دافع فتحي عن نفسه متهما أخاه سعدا بأنه أراد أن يؤلف من أصدقاء الشيخ محمد عبده وأنصاره حزبا، وأخيرا تفصح الجريدة بما لا يدع مجالا للشك بأن " أعظم أنباء الأسبوع هو نبأ إعلان حزب الأمة .. أقول إعلان ولا أقول تكون، لأن الحزب كائن الرسم من قبل فلم ينقصه إلا الاسم وإعلانه على رؤوس الأشهاد..".
ولعل الذي دعاهم إلى عدم الإعلان عن أنفسهم كحزب منذ البداية هو أإحساسهم بأن الرأي العام لم يكن مهيأ لقبول اتجاههم الجديد، كذلك فإن فكرة الإعلان عن حزب سياسي ذي برنامج محدد إلى جانب التيار العام للحركة الوطنية أو بعيدا عنها، كانت ستبدو غريبة على أذهان المصريين بالرغم من المحاولات المبتسرة السابقة، وقد يرجع هذا أيضا على رغبتهم في استطلاع رأى الخديوي ورؤية رد فعل إجرائهم الأول- كجماعة سياسية- لديه.
لقد كانوا أولا في حاجة إلى إيجاد قاعدة من المصريين تكون مستعدة لقبول برنامجهم، ولعل ذلك كان متفقا عليه منذ البداية ، من ثم بادر رئيسهم بدفع " تهمة" السياسة عن عملهم بأنه " ليس سياسيا" مكتفين من السياسة بجانبها الاصلاحى، والمعتدل كمرحلة أولى ينتقلون بعدها إلى العمل السياسي الصريح في شتى مجالاته، فتم الاتفاق بينهم في العقد المؤرخ في 23 يونيو 1906 بإنشاء جريدة " تكون باكورة أعمال الجمعية الوطنية والشركة المؤلف على هذا النحو.."
وفى ميعاد انعقاد الجمعية العمومية لشركة " الجريدة" صباح يوم 21 سبتمبر عام 1907 ، أفتتح حسن باشا عبد الرازق الجلسة، واعتذر عنها مدير الشركة محمود باشا سليمان، لأسباب صحية ، وقد أعلن حسن باشا في خطبة طويلة تسمية جمعيتهم السياسية " بحزب الأمة" بعد مشاورات أفضت على قبول التسمية كما تناقش الحضور ووافقوا بالإجماع على ما حوته الخطبة ،
ثم اختير محمود باشا رئيسا للحزب، وحسن باشا عبد الرازق وعلى شعراوي باشا وكيلين له، واختير أحمد لطفي السيد سكرتيرا عاما ،وبذلك يكون الاختيار مبنيا على انتخاب سابق لرئيس الشركة ووكيله، مع إضافة وكيل آخر هو شعرواى باشا .
واتخذ الحزب القاعة الكبرى بإدارة " الجريدة" مقرا لاجتماعاته ، واتخذ الحزب " الجريدة" لسانا له، فدعت الناس إلى الدخول في هذا الحزب وذكرت أن باب الدخول مفتوح لكل من أراد أن يله ،وان أعضاءه هم غالبية رؤساء العائلات " يسيرون ويستقبلون بصدر رحيب كل من يضم إلى حزبهم الرشيد فجاء الناس ملبين هذه الدعوة.."
ولما سئلت الجريدة عن شروط العضوية في الحزب، وهل يشترط في المرء كي يقبله حزب الأمة أن يكون مع الخضوع لقانون البلاد كاسبا للجنسية المصرية بحيث يصح أن ينتخب وينتخب في جمعيتها العمومية؟ أجابت بأن الحزب يقبل في جملة أعضائه كل من اتخذ مصر وطنا وخضع لقوانينها وافق الحزب عل مذهبه راميا إلى غرضه مستعذبا لمشربه وإن كانت إقامته في القطر لا تصل إلى الحد الذي تتحقق فيه الجنسية الرسمية التي تجعل صاحبها أهلا لانتخاب .
وعلى ذلك يكون من الجائز أن يتسع حجم جمعية الحزب العمومية المؤسسة لشركة الجريدة، والتي تحولت إلى جمعية تأسيسية لحزب الأمة، ليشمل أعضاء جدد فيما بعد، ولم تشر إلى النصاب المالي الذي يشترط شراء أسهم محددة من شركة الجريدة على اعتبا أن هذا كان أمرا مقررا، ولما اتهمت الجريدة بأن حزب الأمة يبدو قاصرا على مساهمي شركة الجريدة أجابت بأن الحزب قد دخله الآن كثير من غير الشركاء ومن هؤلاء المساهمين بعض كبار الموظفين الذين ساعدوا على وضع قانون الشركة واشتروا حصصا من حصصها وعدوا بذلك ضمن أعضاء جمعيتها العمومية ،
وهذا يؤكد فكرة اتساع الجمعية، وكان الاجتماع الذي أعلن فيه تأسيس الجمعية العمومية للشركة قد حضره 109 من الأعيان بينما الاجتماع الذي أعلن فيه عن قيام الحزب كان يضم 116 عينا من الأعيان وتبدو الصفة الأساسية لهذا الحزب منذ الاجتماع الأول" فهو يضم بين طرفيه غالبية رؤساء العائلات في هذا الشعب ونوابه وكلهم رئيس عشيرته وكلهم صاحب نيابة حقيقية عن قومه وذويه" بل إن لطفي السيد قد وصفهم بأنهم ليسوا حزب جمهور العامة.
وبالمثل تحول مجلس إدارة شركة الجريدة على مجلس إدارة لحزب الأمة، وإن كانت الجريدة لم تشر على ذلك ، وإنما ذكرت " أنه قد اجتمع مجلس إدارة حزب الأمة وقرر إرسال خطاب شكر لجناب رئيس وأعضاء البنك العقاري المصري على ما بذلوه من الهمة في تحسين الحالة المالية" بتوقيع على شعراوي نائبا عن رئيس الحزب ، ويعتبر هذا هو أول عمل رسمي يقوم به مجلس إدارة الحزب بعد إعلانه رسميا. فحتى ذلك التاريخ لم نقرا هذا الاصطلاح- مجلس إدارة الحزب- على صفحات الجريدة.
توالت برقيات التأييد للحزب وطلبات الانضمام إليه، ووالت الجريدة نشرها بتوقيعات أصحابها، وليس لدينا رقم اساسى عن عدد أعضاء الحزب وإن كان وكيل الحزب قد ذكر لمحرر جريدة ستاندرد اللندنية أنهم بلغوا 170 عضوا من وجهاء المصريين، أما عددهم الآن- حتى 16 ديسمبر عام 1907 – 645 عضوا وفى 26 يناير 1908 نعلم من اجتماع الجمعية العمومية أن أعضاء الحزب بلغوا 750 عضوا .
وقد أدت ملكية الجريدة الجماعية ، بالإضافة إلى نظامها والمتمثل في جمعية عمومية ومجلس إدارة، إلى تحولها إلى حزب سياسي بنفس النظام، مع بعض اتساع بسيط في قاعدة جمعيتها العمومية.
فشملت من انضموا للحزب واشتروا قدرا من ألسهم وكذلك لن تخضع الجمعية لعدد قانوني مثلما نص على ذلك بالنسبة لمجلس الإدارة أو اللجنة الإدارية وعندما أعلن الحزب أصبحت بالفعل الجمعية العمومية للجريدة، جمعية عمومية له، تجتمع في منتصف يناير من كل عام اجتماعا دوريا. كما أصبح مجلس إدارة الشركة هو اللجنة الإدارية للحزب.
وقد يكون أمرا مؤسفا أي تنشر جريدة الحزب محاضر جلساته أو حتى ملخصات لها كما هي عادة الجرائد الحزبية، كذلك لم تنشر الجرائد المعاصرة شيئا عن هذه الجلسات، رغم تدوين الحزب لمحاضرها، الأمر الذي يضيع على الباحث الكثير من المعلومات حول نظام الحزب وما كان يدور في هذه الجلسات.
لكنا نستطيع الاستنتاج مما استطعنا جمعه أن شكل الحزب التنظيمي قد تميز ببساطة شديدة، فلن تعرف للحزب لجان فنية متخصصة دائمة، وإن كان الحزب بين الحين والحين يشكل لجنة للنظر في مشروع ما، كتلك التي ألفت للنظر في مشروع تعديل القانون النظامي، وكذلك اللجنة التي انتدبت للمداولة مع الشركاء الذين صرحوا بالخروج من شركة الجريدة،
ولم يكن للحزب قواعد شعبية- بخلاف قراء الجريدة- تنتظم في شكل وحدات أو مجموعات تأسيسية تنتشر في الأقاليم ، أو حتى كوادر تنظيمية محددة وهرمية أو لجانا فرعية، أما اللوائح والقوانين فليس لدى الحزب منها إلا ما نص عليه قانون شركة الجريدة بخصوص التكوين والأحوال المالية، وعلاقة الأعضاء بسياسة الجريدة ومديرها،
وقد لا يبدو غريبا إزاء هذا النقص التنظيمي للحزب، ألا نشهد حراكا له قيمة داخل اللجنة الإدارية للحزب فيما يتعلق بالتجديد الدوري الذي نص عليه القانون ( مادة 18) فلم تفيدنا عن حدوثه إلا مرة واحدة، أما الجمعية العمومية فقد كانت تتغير نتيجة انسحاب بعض الأعضاء وانفصالهم عن الشركة.
وسواء كنا سنتتبع دور جماعة حزب الأمة في السياسة المصرية من حيث كونهم جماعة حزبية، أو جماعة تمثل قوة اجتماعية لعبت دورا سياسيا خارجا عن إطار التنظيم الحزبي، مع اعتبار أن التنظيم كان هزيلا من حيث كونه تنظيما، ومع ملاحظة أن التتبع في الحالتين لا يمس وضعهم كجماعة وليس كأفراد، فهل حافظت هذه الجماعة على تماسكها من خلال العمل الحزبي أو العمل داخل إطار تنظيم سياسي أم من خلال التأثير الفردي؟ هذا ما سوف يتضح لنا من الفصول التالية.
أما علاقة الجريدة بالحزب. فيتضح لنا أن الجريدة ، مهما بلغ حجم تأثيرها ورغم صدورها قبل الإعلان عن الحزب، إلا أنها لا تعدو أن تكون أداة من أدواته، بل هي وعلى حد قولها " باكورة أعمال الجمعية الوطنية والشركة المؤلفة على هذا النحو" مع أنها كانت صحيفته الوحيدة، وهناك أحزاب معاصرة تصدر أكثر من جريدة، أو لها جرائد تتبع نفس سياساتها ،
فلم يكن لحزب الأمة سوى " الجريدة" و نعرف أن جريدة ما تشيعت لمبادئه أو أيدتها، وإن بدت الجريدة في فترة من الفترات كما لو كانت تحتوى الحزب، إلا أن ذلك راجع أصلا إلى رضا المساهمين عن سياسة الجريدة. وحين كان مديرها يجاوز حدود ما اتفق عليه- مثلما حدث إبان الحرب الطرابلسية- فإن الحزب يقف ضده مما يضطره على التواري فترة عنها.
وإذا كان الأعيان قد اقتصر دورهم على تقديم المال للجريدة، فإنهم كانوا يتابعون عملية إنفاق الأموال وإلى أي مدى تحقق لهم ما يريدون، وإلا لاقتصر دورهم على حساب المكسب والخسارة في ميزانية الشركة باعتبارها مجرد شركة تجارية،
ومع ذلك لم يكن مقدرا أن تسير الجريدة وفقا لبرنامج الحزب بشكل منتظم، فإذا كانت قد تخطته فهذا لا يفيد أن الحزب قد أشار بذلك" لأن الجريدة إدارة مخصوصة منفصلة عن الحزب، وهى في وسط صحافي تتكلم فيه على ما يوافق مصلحة انتشارها.." فلم تكن الجريدة تكتب على ما يوافق برنامج الحزب ، كما لم تكن تحتويه،
بل كان الحزب يجتمع ويناقشها الحساب ويحملها المسئولية ومن ثم يقوم بدور الموجه لها. وقد لخص لطفي السيد حقيقة هذه العلاقة حين قال:" أما استقلال مدير الجريدة ومجلس الإدارة بأعمال الشركة فهو الواقع، وإني لا أتأخر عن الاعتراف به لأن قانون الشركة أو العقد الذي أمضيناه جميعا حصر السلطة في مجلس الإدارة، وأن العقد الذي قبل به مدير الجريدة وظيفته يعطيه الحرية الكاملة فيما يكتب، إلا أن يحتج عليه مجلس الإدارة وهنالك يرفع الخلاف للجمعية العمومية..".
لم تكن صحيفة الجريدة هي أداة الحزب الوحيدة، بل كان هناك ناد للحزب يسمى" نادي حزب الأمة" يعقد فيه ما سمى " بالسمر السياسي" وهو يلي الجريدة من حيث الأهمية، كأداة للحزب، يلي ذلك ما يمكن تسميته مجازا- " بالمجموعة البرلمانية" للحزب والتي لعبت فرادى أو جماعات دورا داخل المؤسسات شبه النيابية القائمة، هذا بالإضافة إلى بعض النشاطات الخاصة كإلقاء سكرتير الحزب الخطب السياسية في المنتديات العام، وحسب المناسبات.
وقد احتفل يوم 17 مايو عام 1908 بافتتاح نادي الحزب، برئاسة على باشا شعراوي، أحد وكيلي الحزب، ومجلس إدارته، ومقره سراي البارودي بدار الجريدة، وقد حضره الفا نفس من الأعيان والفضلاء والموظفين وألقى فيهم مدير الجريدة خطبة بعنوان" الحالة الحاضرة" وقد وصفت الجريدة السمر السياسي بأنه شيء جديد في عالم الأحزاب السياسية، وغرضه تقرير مبادئ حزب الأمة، فالخطابة أفعل في النفوس وأدنى إلى تقريب المذاهب المتباعدة.. على هذه الاعتبارات شرع حزب الأمة هذه السنة الجديدة.
وأصبح السمر كل أسبوع أو كل خمسة عشر يوما مساء الأحد، وسوف يخطب فيه أعضاء الحزب، وكل يؤم دار الجريدة – حيث النادي- كثير من الشباب المتعلم للاستماع إلى محاضرات كبار الأساتذة والمحامين بل اتخذ النادي قاعة للتدريس لطلبة الحقوق حين استدعى الأستاذ أحمد عبد اللطيف ليدرس القانون المدني للطلبة وقد أثرت هذه المحاضرات في هؤلاء الشباب فوسعت آفاقهم الفكرية وحققت التحاما بينهم وبين الجيل السابق.
انتهت المشاورات التي أجرتها " الجمعية الوطنية" التي أصدرت " الجريدة" إلى عدة مبادئ توضح هدفها وأسلوبها، وكان " فندلى" قد أبدى لحكومته تصوره لهذه المبادئ على النحو التالي:
(أ) قبول نوع الحكومة القائمة بحيث لا تثار مسائل سابقة كالحديث عن مزايا أو مساوئ الاحتلال البريطاني أو الرغبة فئ جلاء جيوشه، وألا تثار أي اعتراضات على ما يقوم به ممثل الحكومة البريطانية في إدارة البلاد، أو بشأن وجود المستشارين، وتجنب المسائل ذات الطابع الديني... وإن كان هذا لا يعنى التغاضي عن مسألة هامة هي إصلاح المؤسسات الإسلامية والأمور ذات الأهمية بالنسبة للمسيحيين.
(ب) خلق رأى عام صحيح في مصر، وذلك بأن يوضع أمام الجمهور يوما بيوم حسابا لكافة الأمور التي في صالحه وبحث القرارات الإدارية وأعمال الحكومة بتعقل وتقديم الانتقادات والاقتراحات وشرحها للناس.. وإقامة جهاز لنشر تقارير كاملة عن القضايا ذات الطبيعة الجذابة ، وهذا غير معروف في مصر.
(جـ) إن هدف هذه الجريدة سوف يكون التعامل مع ما يقع في حيزها بروح الاعتدال وعدم الخوف من الإعراب عن رأى يعتقد محررها أنه الحقيقة.
من هذه المبادئ التي أبدى نائب المعتمد البريطاني تصوره لها يتضح أنهدف الجريدة يدور حول محورين رئيسيين:
أولهما: تحديد المسائل التي لا ينبغي على الجريدة إثارتها أو " ذات الطبيعة الخاصة" التي دأبت الصحف الأخرى على إثارتها فأقضت مضجع سلطات الاحتلال،
وثانيهما: خلق رأى عام يقر ما تفعله الحكومة، وشغله بقضايا جذابة.. أما أسلوبها فهو الاعتدال نقيض التطرف، الذي سلكته الصحافة الوطنية، وبالفعل ما أن صدرت الجريدة حتى أكدت المعاني السابقة في افتتاحيتها التي أوضحت أن " شعارها الاعتدال ومراميها إرشاد الأمة المصرية إلى أسباب الرقى الصحيح وإخلاص النصح للحكومة والأمة، وانتقاد أعمال الأفراد والحكومة بحرية أساسها حسن الظن..
مما يحقق تقريب الآراء المتباينة بعضها من بعض فيحصل بها الراى العام.." ، أي أنها ستقوم كعامل توازن بين الأمة والحكومة فتمخض لها النصح، لا أن تحاسبها ،كما ستنصرف أساسا إلى الاشتغال بحاجات الأمة من تعليم وصناعة وزراعة وتجارة، وقد لخصت المادة الثالثة من قانون الشركة هذه المعاني ، وقد لا يطلب من جريدة أكثر من ذلك بكثير، أما الحزب السياسي فإنه مطالب بأكثر من ذلك وأول ما يطلب منه تحديد موقفه من الظروف القائمة على ضوء الأمر الواقع.
وحين أعلن الحزب كان لابد من بلورة هذه المبادئ والأهداف بعد تفصيلها بشكل أدق كبرنامج حزبي، وهذا ما حدث فكان حزب الأمة حقيقة أول الأحزاب التي وضعت لها برنامجا، وعلى نهجه سلكت الأحزاب الأخرى بعد ذلك، وقد سماها وكيل الحزب " خطة" ونصها:
1- أن نعضد لسعينا وأموالنا ونصائحنا حركة التعليم العام والمشروعات التي تساعد على تحقيق رغائبنا من التقدم والمدنية.
2- أن نوجه همنا ونصرف قوانا للحصول على حقنا الطبيعي وهو الاشتراك مع الحكومة في وضع القوانين والمشروعات العامة وذلك بالسعي في توسيع اختصاصات مجلس المديريات ومجلس شورى القوانين والجمعية العمومية حتى يكون لنا رأى معدود في القوانين التي نعامل بها كقوانين المحاكم الأهلية والإدارة والري ونحوها حتى نصل بالتدريج إلى المجلس النيابي الذي يوافق حالتنا السياسية.
3- أن نواصل السعي ولا ندع فرصة تفوتنا في مساعدة نهضة التعليم حتى يصبح موافقا لرغائبنا موصلا على مقاصدنا فيكون في مدارس الحكومة الابتدائية مجانيا وإجباريا.
4- أن نسعى ما استطعنا في توسيع نظام الجمعية الزراعية توصلا إلى تقدم زراعة البلاد وإنماء حاصلاتها وتنويع مزروعاتها.
5- ألا نهمل الصناعة بل ندأب على رقيها وتقدمها بفتح المدارس الحرة أو الأميرية.
6- أن نسهر على المصالح التجارية العامة حتى تتمتع الأمة حقيقة بثمرات أتعابها في زراعتها وصناعتها.
وأول ما يستلفت النظر في هذا البرنامج تجاهله لحقيقة العلاقة مع الاحتلال أو قضية الاستقلال – فلم ترد في البرنامج أية إشارة عنه، ربما عملا بما اتفق عليه، ولكنه على أية حال أرجأ الحديث عن هذه المسألة باعتبارها سابقة لأوانها، وكل ما ورد بهذا الخصوص في خطبة إعلان الحزب، أن عدد وكيله الكفاءات التي ينبغي للأمة أن تعمل لها منذ الآن وتمثل النقاط الست في البرنامج " فاستقلال اشرف ما تصبو إليه الأمم..
وهو مرتبة لا تدرك إلا بقوى متعددة تدفع إليه وهى الكفاءات.." لقد كانت الفكرة أن الاحتلال قائم ,إن زحزحته ليست بمجرد الكلام أو التفكير فيه أو حتى الميل إليه وإنما بالتعامل معه وفى نفس الوقت إعداد الأمة بالكفاءات، حينئذ يجئ الاستقلال .
كما جاء برنامج الحزب خلوا من أية إشارة إلى علاقة مصر بتركيا من حيث وضعها المتميز أو من حيث نظرة الحزب المستقبلية إلى هذا الجانب من قضية الاستقلال. وكان هذا الحزب قاسما مشتركا بين اتجاهات الحركة السياسية في مصر بمعنى أن استقلال مصر لا يمس حقيقة هذه العلاقة، وان كان هذا التجاهل من حزب الأمة يعتبر تجاه ذا مغزى . كذلك لم يشر البرنامج بشك لواضح أو ضمني على معنى القومية المصرية سياسيا ووطنيا، وهى الفكرة التي تبناها الحزب فيما بعد فلم تكن واردة منذ البداية.
ويمكن أن نلخص برنامج الحزب في عبارة واحدة هي:" إعداد الأمة بالكفاءات العلمية والاقتصادية ومشاركة الحكومة بعض اختصاصاتها" ففي البندين الأول والثالث يطالب الحزب بنهضة تعليمية وجعل التعليم الابتدائي ( فقط) مجانيا وإجباريا، وهكذا مثلت المسألة التعليمية ثلث برنامجه فرغم تجاهلها للتعليم العالي وحتى الحديث عن الصناعة تضمن الإشارة إلى فتح المدارس الحرة أو الأميرية.
كما تمثل البنود: الرابع والخامس والسادس مطالبه الاقتصادية زراعية وصناعية وتجارية. أما الثاني فيوضح رغبة زعماء الحزب باسم الأمة التي هم رؤساؤها الطبيعيون بحكم أنهم كبار عائلاتها ، في مشاركة الحكومة في وضع القوانين والمشروعات العامة وتوسيع اختصاصات الهيئات القائمة ليشاركوا بموجبها في السلطة،
ولم يشر على الدستور الكامل واحدا من أكبر مطالب الحركة الوطنية، وبمعنى أدق أصبح المجلس النيابي تام السلطة- كالجلاء والدستور، أمرا مرجأ يجيء مع الزمن.
وعموما سوف توضح الفصول التالية مدى التزام الحزب ببرنامجه أو إذا كان قد أصابها شيء من التغيير وإلى أي مدى.
وكانت الجريدة قد سبقت إعلان برنامج الحزب بالحديث عن هذه الكفاءات، فنشرت سلسلة مقالات بعنوان" حياتنا والكفاءات الثلاث : السياسية والعلمية والمالية" وفى حديثها عن الكفاءة السياسية، اكتفت بأن أوضحت أنها نتيجة ركناها الكفاءتان: العلمية والمالية ، كما نشرت مقالات مسلسلة عن " التعليم العام:
طرائقه وقاعدته" والعديد من المقالات موجهة إلى الشباب حول العلم والتعليم، وبهذا بادرت الجريدة بشرح الكفاءات ابتداء من الشهر الأول لصدورها على اعتبار أنها بنود برنامج الحزب الذي أصدرها،
حتى تهىء الأذهان لقبول فكرة إعداد الأمة لها، هذا في الوقت الذي لم تعط فيه اهتماما للمطلب السياسي المتمثل في البند الثاني من برنامج الحزب مكتفية بتلخيص ما يدور داخل الهيئات النيابية، وبشكل عام لم يتضمن برنامج الحزب هدفا يسعى إليه الحزب بقدر ما تضمن وسائط لبلوغ الأهداف بمعنى أن نية رجال الحزب، عند قيامه اقتصرت على الوسائط دون الغايات، وحتى اختياره لهذه الوسائط قد غلبت عليه النزعة التربوية لا السياسية.
رفع الحزب منذ بداية أمره شعار الاعتدال والتدرج على اعتبار أن الظروف التي تمر بها البلاد والعلاقة بين الحكومة والأمة تجعل عمله أكثر مشقة وأحوج على زمن طويل ، مع الالتزام بالاعتدال في جميع الأحوال، كما تنص المادة الثالثة من قانون الجريدة، والتي أبانت في عددها الأول أن شعارها هو الاعتدال،
وطبيعي أن خطة كخطتهم تعتمد أساسا على تنمية الكفاءات فترة من الزمن تطول أو تقصر، كانت تحتاج إلى أسلوب معتدل مضمون، ينأى عن الطفرة وقد ذكر " فندلى" نفس المعنى حين كتب أن هدف الجريدة سيكون التعامل مع كل ما يقع في حيزها بروح الاعتدال،
كما عبر حسن عبد الرازق ( الابن) عن هذه الروح" لمراسل المؤيد بقوله" لو وجدت جريدة معتدلة المبدأ فيما للحكومة وما عليها فإن الحكومة تكون مستعدة لسماع أقوالها والاهتمام بها وترتبط هذه الروح بفكرة الإصلاح وما يتطلبه من وقت طويل، التي غرسها فيهم كرومر ،
وحذرهم في تقريره الأخير من مغبة الطفرة حين قال " ليس من العقل في هذه البلاد التي قضت قرونا طويلة، يعاملها حكامها من الفراعنة حتى الباشوات بالظلم والاستبداد ،وأهلها أميون، أن تطفر مرة واحدة لتصبح فجأة قادرة على استعمال حقوقها كدولة مستقلة.. إن هذا لهو المحال.." .
أما نوعية هذا الاعتدال فتتلخص في " شكر المحسن ونصح المسيء- لا انتقاده- بالتي هي أحسن سواء في ذلك الحكومة أو الأمة" والاقتناع من غير تشويش وإيهام حتى لا يضرب بمقالها عرض الحائط عند العقلاء كما هو حل لغيرها. وقد بين علماء الأخلاق أن الاعتدال وسط بين " التفريط والإفراط" وبمحاولة تحليل معنى الاعتدال يواجهنا السؤال:" تجاه من هذا الاعتدال ؟
إذا كان تجاه الحركة الوطنية المطالبة بالجلاء والداعية للاستقلال، فدوائر حزب الأمة لم تشر قط إلى وضع الاحتلال، وهذا الصمت ليس اعتدالا بحال من الأحوال، ومن ثم تعاملوا مع الاحتلال من منطق أن المطالبة بالحق شيء وأن المناوأة شيء آخر، في حين أن المطالبة بالحق باعتباره حقا وطنيا سوف تفضي بلا شك إلى مناوأة الاحتلال.
وليس كل اعتدال عن فضيلة وترو، فقد يصبح الاعتدال في بعض المواقف ضد المصلحة الوطنية بنفس القدر الذي لا يصبح كذلك، إذا ما ارتبط بظروف مغايرة وقياسا إلى شتى المواقف الأخرى، لعل هذا سوف يتضح عند مناقشتنا لموقف الحزب من الاحتلال البريطاني، وعلاقته بالقوى الوطنية الأخرى.
أما إذا كان المقصود بالاعتدال هو الوقوف موقفا وسطا بين الحكومة والأمة، لإحداث شيء من التوازن فربما يعد هذا صحيحا في بعض وجوهه،
وأخيرا إذا كان تجاه السلطة، فقد صرحوا أن جريدتهم " لم تنشأ لأن تنتصر لأحداهما على ألأخرى، بل أنشئت لتوضح أن هناك مصلحة يجب أن تضحى في سبيلها كل المصالح. هي مصلحة الأمة، تلك الأمة المصرية التي يجب أن تتخذ لها مركزا ثابتا وسطا بين السلطتين "
ولكن هذا الموقف، إذا ما كان مخلصا وعمليا، فلابد أن يصبح طرفا في صراع السلطتين أو بمعنى أدق لابد للحزب أن يحابى وأن يعادى، ذلك لأن هناك تناقضا أساسيا بين السلطتين ، على الأقل في فترة سلطان كرومر.
وبالفعل واظبت الجريدة على الاعتدال كلما كان ذلك ممكنا بالنسبة لها. فنبذت سياسة معاندة الاحتلال، وطالبت بالهدوء والسكينة " يكفينا أن نقدم قضيتنا الوطنية إلى قضاة الإنسانية شاعرين بأن الحق في جانبنا" واستنكرت العناد السياسي وما يجره من البلاء، وقد لا يبدو غريبا إذا لم نعثر في قراءتنا لجريدة الحزب أن كاتبا أو أحد أعضاء حزب الأمة قد حوكم في قضية صحافية أو سياسية ،مما يؤكد لهجتهم الهادئة المعتدلة، وحتى السنوات الأخيرة من حياة الحزب وجريدته ظل لطفي السيد يؤكد أن " استقلال الأمم ليس بضاعة حاضرة ولكن نتيجة ضرورية لعمل متعب طويل. أنه الثمرة الناضجة للكفاءات المختلفة...
وما أطيش الأحلام التي نظن هينا علينا أن نلم شعثنا وندعم جامعتنا ونتحد في وضع صيغة أطماعنا ثم نأخذ قواعد المدنية الحديثة ثم نشهر استقلالنا كل ذلك في جيل واحد..." ولا يعنى هذا أن الجريدة لمتخرج عن اعتدالها وان ارتبط ذلك بظروف مختلفة، عندما تبنت بعض أساليب الحزب الوطني فحبذت أسلوب المظاهرة الوطنية التي لا يختلف اثنان في أنها من علامات الحياة القويمة والشعور النامي،
وهاجمت نواب الجمعية العمومية متهمة اعتدالهم بأنه أفضى إلى بعث قانون المطبوعات " وأقاموا الحجة على شعبهم من حيث أرادوا أن يخدموا الاعتدال . نسوا الأضرار التي تنجم عن التطرف في الحرية لا توازى شيئا من الضرر الذي تأتى به طبائع الاستبداد" .
ووسائل الحزب لبلوغ غايته هي " كل الوسائل الشريفة من كتابة ومشافهة وإيفاد وفود وتفهيم وتفاهم وإقناع، وكل طريق يوصلنا إلى مقاصدنا" وقد وصفها لطفي السيد بأنها" طريق سلمية مدنية" ،ورغم أن الحزب اعتبر مسألة حصول مصر على استقلالها مسألة مصرية بحتة، واستنكر عمل الذين استعانوا بمجلس نواب فرنسا حقبة ومجلس النواب الإنجليزي حقبة أخرى،
ورأى أن من العبث الاستنجاد بالدول الأوربية، والتماس مداخلتها،ورغم تأكيده على أن التوكل على بعض رجال البرلمان الإنجليز ينسى الأمة شخصيتها ورفع كتابه لشعار " اعتمدوا على أنفسكم " رغم هذا كله حرص وكيل الحزب في رسالته إلى محرر جريدة ستاندرد اللندنية على أن يؤكد أنه لابد من إقناع الرأي العام الإنجليزي بإهمال الإدارة الإنجليزية لأمر التعليم العالي وعدم استعدادها لتوسيع القانون النظامي، ولم يستعن حزب الأمة برغم صلاته برجال الاحتلال بالبرلمانيين الإنجليز كما كان يفعل رجال الحزبين الآخرين ، الحزب الوطني و حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية ،
ذلك لأن هذه الصلات بعينها كانت كافية لخلود الحزب إلى هذا الاتجاه، ثم إن لطفي السيد ومحمد محمود قد فكرا في ذلك بالفعل، وأفضيا به إلى سعد زغلول الذي ذكر أنهما قالا له" الأحسن أن نبحث عن التعرف بأربعة من الإنجليز يكون لهم نفوذ لأن في ذلك نفعا عظيما..."
كما أدى الحزب في السنوات التالية ليشترك بكتابه الأول، في مؤتمر الشبيبة المصرية في جنيف، مؤكدة جريدته أن أوربا هي المحكمة العليا التي لها الحكم الأخير في حل المسألة المصرية" . كما غطت أنباء المؤتمر بشكل كبير، وبالمثل أيدت الاستعانة بمؤتمر لاهاى لحل المسألة المصرية ، وباركت " المؤتمر الوطني المصري في بروكسيل" الذي عقده الحزب الوطني ونشرت أنباءه كاملة".
ولعلنا نلمس تغييرا آخر في استخدام الجريدة لتعبير " الشدة في انتقاد الحكومة المطلقة بطرفيها..." وقد ذكرت صحيفة الجازت أن الحزب قد غير خطته وأسلوبه بعد رحيل كرومر، فلم يعد يحفل بالثبات السياسي، وعمد إلى استمالة الأمة بالطعن على كرومر والاحتلال طعنا شديدا وانتقاد كبار الموظفين.
وإذا جاز أن نعتبر أن فترة كرومر قد شهدت " حضانة" الحزب فما أن رحل كرومر عن مصر حتى كان الحزب قد شب على قدميه في الوقت الذي تغيرت فيه ملامح المسرح السياسي، الذي شهد وفاقا بين الخديوي وجورست وما نتج عن ذلك من اشتداد قيام الحركة الوطنية التي وجد حزب الأمة نفسه داخل أتونها ولم يكن بوسعه أن يكون بمنأى عنها. وإذا كنا قد عالجنا شكل الحزب وأدواته وأهدافه، فإن الصورة لا تستكمل إلا بتحليل عناصر الحزب وأصوله الاجتماعية قبل أن نخوض معه غمار الحركة السياسة.
الفصل الثاني : تركيب الحزب وأصوله الاجتماعية
رؤية الحزب لنفسه اجتماعيا
أعيان الحزب وأصولهم
المثقفون – مثقفو حزب الأمة ونشأتهم الثلاث
علاقة الأعيان بالمثقفين.
ذكرت افتتاحية العدد الأول للجريدة، أن أولى الجماعات بواجبات الخدمة القومية ومراقبة الأحوال العامة وأقدرها على العمل لتكوين الرأي العام هم جماعة أولو الرأي ، الذين نبهوا ذكرا بعلو النسب أو بالعلم والفضل، ثم أوضحت أن الحكومة المصرية تعتبر حكومة نصف ارستقراطية أو ( حكومة أشراف) ،حيث نجد في اللوائح وأوراق الحكومة من عهد جنتمكان سعيد باشا كلمات:
الأعيان والأعيان المندوبين وأنه اتخذ له بطانة عسكرية من أبناء الأعيان، ثم عين إسماعيل باشا عمد البلاد وأعيانها في الوظائف الكبيرة فجعل كثيرين منهم مديرين للأقاليم حتى الأميين، وقد حصر القانون النظامي قابلية العضوية للمجالس النائبة عن الأمة في طائفة من الناس يكون ما يدفعونه خراجا عن أملاكهم لا يقل عن 50 جنيها في السنة ...
ولابد أن الشعور العام في البلد يرفع المرء إذا كان من طبقة خاصة هي تلك التي ميزتها الحكومة" وقد كرر لطفي السيد نفس المعنى حول" المعروفو الأسماء في الأمة بانقياد الناس إلى أفكارهم بسبب ثروتهم أو طول خدمتهم أو قدم عائلاتهم وكثة ظهورهم في الاجتماعات الرسمية، ويوضح أن ذلك هو المدلول العرفي لمعنى قولهم" أهل الرأي أو أصحاب البلد أو أصحاب المصالح الحقيقية أو أعيان البلاد الذين تؤخذ أقوالهم دون غيرهم- حجة على أمتهم" .
وفى خطبة إعلان الحزب ذكر حسن باشا أن رقى الأمة على يد أولى الرأي ، وأن حزبهم يضم أغلبية رؤساء العائلات في هذا الشعب ونوابه أو بمعنى أدق يتألف من سراة البلاد وأعيانها وطائفة غير قليلة من كتابها وأذكيائها، فالأعيان كما يقول لطفي السيد هم رؤساء الأمة الطبيعيون ،
والمقصود العائلات والأمة لا تتكون من الأفراد بل تتكون من العائلات، والمقصود بالعائلة العصبية فكل جمعية اتسعت بين أفرادها دائرة المشابهات وضاقت دائرة الفروق فهي عائلة ذات عصبية وتضامن وعلى هذه العائلات الكبرى التي هي الأندية تبنى العصبية العامة أو سلطة الأمة.
وحين ووجهت الجريدة من قبل خصومها بأنها " جريدة الأعيان" واشتهر حزب الأمة بين الناس بحزب الأعيان، أجاب لطفي السيد بتكرار المعنى السابق حول استخدام لفظ أعيان في القوانين المصرية، والمدلول لعرفي للفظه وأن الجريدة لم تنتحل لمؤسسيها هذا اللقب بل وصفتهم بما هم موصوفون به وأنه كالقول " كبار المزارعين" أو رؤساء العائلات الفلاحين، كما أن حزبهم هو حزب الشعب وحزب المحكومين لا الحكام .
وحزب الفلاحين لا الذوات الفخام. حزب الأمة لا حزب الأعيان " ولو كان في لفظ الأعيان ما يوهم مذهبا سياسيا بعينه لما كان من الأعيان في الحزب الوطني وحزب الإصلاح.
وهكذا أوقع الاتهام لطفي في كثير من الخلط اضطره إليه محرر اللواء- الطرف الآخر في الحوار- فبدا أنه ينكر أنهم حزب الأعيان، بعد أن أقره، كما ميزهم عن أعيان الحزب الآخرين، وأنكر أن في التسمية بحزب الأعيان ما يوهم مذهبا سياسيا بعينه.
وهكذا بدا واضحا أن الحزب يقرن بين الإحساس بالوضع الطبقي، والطموح السياسي، ولا يرى غرابة وهو يعبر عن التفاوت، في أن يسمى نفسه حزب الفلاحين أو حزب الشعب، وطالما رددت جريدته أن ألأمة بزعمائها لا بعامتها، وأن العامة في كل أمة تابعون لهؤلاء الزعماء" لا تختلف في ذلك حكومة من حكومات أوربا الديمقراطية ملوكية كانت أم جمهورية ، وطبقة العامة في كل امة لاتعنى كثيرا بالمسائل السياسية لاشتغالها بأعمالها المعايشة فلا ينتظر من عامة الأمة أن تعرف مواد دستورها..
وقد عبر لطفي السيد عن هذا المنطق حين سأله مراسل الاجبشن جازيت: " لماذا لا يكون حزبكم أكثر ظهورا أو إعلانا عن نفسه؟ فأجاب بأننا لسنا في حاجة إلى ذلك لنشر مبادئنا لأننا نرمى على اكتساب تأييد المفكرين والمهذبين وحزبنا ليس حزب جمهور العامة، والجمهور لا يبالى بالسياسة ولكنك تجد في كل قرية قوما زارها أخيرا، قرية بلا رجل أو رجال يهتمون بالسياسة ويكونون مراكز تشع بالمبادئ والقواعد السياسية من كل جهة.
أما بالنسبة لاصطلاح " أصحاب المصالح الحقيقية" فقد ووجهت الجريدة باتهام آخر، نشرته بتوقيع " ابن الشعب" فحواه أن أصحاب المصالح الحقيقية في مصر " كما يفهم من أقوال الكتاب والخطباء هم حضرات السادة أصحاب الملايين والألوف من الفدادين أما الفقراء وأصحاب المتربة وإخوان العامة فلا تعرفهم مصر إلا بمقدار ما تعرفهم لندن وباريس..
والحقيقة أن أصحاب المصالح الحقيقية هم الذين أن حل الضيم بالبلد كان لاحقا بهم أو أصابه شقاء كان حالا عليهم" وما أضبه رد الجريدة على ذلك بردها على محرر اللواء، حيث أنكرت أنها تقصد بأصحاب المصالح الحقيقية أصحاب الأطيان أو الأموال الطائلة..
وأن هذا التعبير إنما ينصرف لذوى العائلات التي تتألف الأمة من مجموعها ولم يشترط أحد في تعريف العائلة أنها فقيرة أو غنية، وكل عائلة تضم فقراء وأغنياء، وإن لم يكن عند الفقراء الوقت الكافي لتتبع حركات السياسة، بل هم يجيئون غالبا إليها يوم يحتاج تدبير حال الأمة إلى القوة ...".
يتضح إذن أن الأمة ، برغم التفسيرات السابقة، في عرفهم هي الأعيان أو كبار المزارعين أو أصحاب المصالح الحقيقية، وأبناؤهم أو فئة المتعلمين وأصحاب الوظائف، وأن مصلحة الأمة تعنى مصلحتهم، وأن مصالحهم اليومية المتعددة بنسبة اتساع ثرواتهم، وأنهم يريدون قضاء تلك المصالح " سواء كانت متعلقة برى الأطيان أو بترتيب العمد والمشايخ والخفراء أو سلامة حقوق الانتخاب من العبث..." أي أن المصلحة ترتبط بحجم الثروة والعمل السياسي معيار هذه المصلحة،
وإذا ما فحصنا أسماء الجمعية العمومية للحزب والتي ضمت حوالي 16 يحملون لقب ( باشا ) وما يزيد على الثمانين يحملون لقب ( بك) في مجتمع تدل فيه الألقاب على وضع اجتماعي واقتصادي بين ، ولا تمنح غالبا إلا للأغنياء أو الأعيان ذوى الوجاهة أدركنا المعنى السابق بسهولة.
ولتحليل التركيب الاجتماعي سوف نفترض أن لدينا مقياسين لتحديد الوضع الطبقي للحزب أولهما: يمكن تسميته بمقياس الثروة والدخل على اعتبار أن هناك شكلا هرميا للمجتمع المصري آنئذ، في أعلاه طبقة من الأعيان أو كبار ملاك الأراضي والعقارات أو " طبقة أرستقراطية" وفى الوسط طبقة صغار الملاك نسبيا- وذوى المهن الحرة من التجار والمحامين والصحافيين والموظفين والذين لديهم قدرا أقل من الملكية العقارية، وفى القاعدة العمال والفلاحين والمعدمين.
وثانيهما: فئوي تحليلي- إن جاز الاصطلاح- والمعيار فيه توزيع الفئات الاجتماعية طبقا لمعايير منها الوظيفة أو الثقافة وبموجبه توجد فئة من الأعيان الذين لا يمتهنون شيئا سوى الإشراف على أراضيهم، وعندهم حظ متواضع من التعليم ،
ثم فئة الموظفين الحكوميين أو العاملين في الجهاز الادارى للدولة وفئة ذوى الأعمال الحرة كالمحامين والصحافيين والكتاب، وهؤلاء في معظمهم تلقوا تعليما عاليا وتحددت مراكزهم الاجتماعية طبقا لوظائفهم أو مدى شهرتهم في الأعمال الحرة.
وبالنسبة لحزب الأمة فسوف نحاول تطبيق المقياسين معا باعتبارهما وجهين لعملة واحدة فبالمقياس الأول نستطيع أن ندرك- سلفا- أن الحزب يتركب أساسا من الأعيان- أو من يمثلون الارستقراطية المصرية من كبار ملاك الأراضي الزراعية وكبار التجار والمشايخ،
والذين يمثلون مناطقهم عادة في المجالس النيابية ومجالس المديريات أو هم وجهاء القطر، يضاف إليهم الفئة العليا من الطبقة الوسطى، ممن نالوا قدرا كبيرا من التعليم وتقلدوا الوظائف أو عملوا فترة بالمحاماة أو هووا العمل الصحفي، أو حتى تحرروا من هذا وذاك،
وبالنسبة للمقياس الثاني، فيضم الحزب فئة الأعيان وفئة المثقفين، وهذه الفئة الأخيرة- من الموظفين والمحامين وذوى الأعمال الحرة- وإن وضعناهم في قمة الطبقة الوسطى فذلك راجع لكون ملكياتهم- باعتبارهم منفصلين عن آبائهم- أو ثرواتهم أقل من ناحية، وباعتبار أن نصيبهم من الوجاهة أقل وينبني أساسا على حظهم من التعليم ،وعلى ذلك فحزب الأمة، طبقا لمعيار المقياسين معا.
يتكون أساس من الأعيان والمثقفين بفئاتهم، على ما سنرى ، اشتغل بالمحاماة فترة وتقلد الوظيفة بضع سنين ، أو أن فيهم من جمع بين الوظيفة والإنتاج الفكري. وإن اعتبرنا المثقفين أبناء لهذه الطبقة فليس هناك حقيقة انفصال بين الطبقة ومثقفيها وإن كانت الضرورة المنهجية سوف تلجئنا إلى ذلك.
أولا: الأعيان
لم يكن ظهور طبقة متميزة من كبار ملاك الأراضي الزراعية في مصر إلا نتيجة طبيعية لما حدث منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر ، والذي أفضى إلى تطور المجتمع ككل نتيجة صدور العديد من الإجراءات في المجالين التشريعي والتطبيقي أدت في النهاية، أو في الثلث الأخير من القرن بالذات، إلى بروزهم إلى سطح الحياة العامة،
ومن ثم المجال السياسي وممارستهم للعمل العام معتمدين على وضعهم الاجتماعي الذي وفرته لهم هذه الملكيات، ومن ثم فإن البحث في نشوء ملكياتهم وتطورها هو بالضرورة بحث في أصول وضعهم، والعلامات البارزة حول هذا الموضوع توضحها إجراءات محمد على حين أصدر قراره عام 1837 الذي وضع أساس الملكية الخاصة للأرض مما أدى إلى خلق طبقة من الناس تحصر نفسها في نسب الغنى العقاري،
وجاءت لائحة سعيد عام 1858، لتوسع من حقوق هذه الطبقة ثم كانت لائحة المقابلة 1871 وقانون التصفية 1885 الذي أتاح بيع أملاك الدائرة السنية والدومين، وذلك لاستهلاك الدين العمومي وأخيرا دكريتو 1891 الذي جعل حقوق الملكية التامة في الأطيان الخراجية.
وهكذا نشأت الملكيات الكبيرة من أشكال معينة لحيازة الأرض الزراعية فشكلت الأطيان العشورية الجانب الأكبر من الملكيات الزراعية الكبيرة ولعبت أطيان العهد دورها في توسيع مساحة بعض الفئات. وكانت أطيان المسموح هي الأساس الذي قامت عليه ملكيات أعيان المصريين من شيوخ القرى.
وقد نشأت الملكات الزراعية الكبيرة نتيجة ظروف سياسية واقتصادية متعددة لعل أبرزها رغبة محمد على في تقويض النظام الاقتصادي الذي كان سائدا عند بداية حكمه،وخلق مصالح اقتصادية للفئات الاجتماعية التي اعتمد عليها في الحكم، ومن ثم تهيأت الفرصة لقيام طبقة تتمتع بنفوذ سياسي ومكانة اجتماعية يستندان إلى ما تتملكه من ثروة عقارية.
وقد لعبت التشريعات والأزمات المصرية والعالمية ، وتدفق رؤوس الأموال الأجنبية واشتغالها في مجال استثمار الأراضي، وديون الحكومة التي اضطرتها إلى بيع أملاكها وما تنازلت عنه الأسرة الخديوية، والأزمة القطنية التي دفعت وجهاء الريف ومشايخ القرى إلى الإقبال المتزايد على شراء الأراضي، لعب ذلك كله دوره في إحداث حراك انتقلت على أثره الفئة العليا من الطبقة الوسطى إلى عداد طبقة كبار الملاك أو الطبقة العليا من الطبقة الوسطى إلى عداد طبقة كبار الملاك أو الطبقة الارستقراطية- مجازا- كما خلخل بدوره هذه الطبقة ليفسح للوطنيين فيها مكان الصدارة،
وما أن حل عام 1906 حتى كانت عمليات المضاربة بالأراضي قد بلغ الذروة وحتى كانت أملاك الدائرة السنية والدومين على وشك الانتهاء إلى أيدي كبار الملاك المصريين الذين تبلورت لطبقتهم ملامح اجتماعية واقتصادية محددة.
وطبقة الأعيان التي خرج منها حزب الأمة بشكل عام طبقة محدثة تاريخها لا يمتد إلى أبعد من عصر إسماعيل ولا يتجاوز- منذ وضعت بذرتها الأولى وحتى بداية الاحتلال- أكثر من عقدين وإن نمت عن حيوية بالغة في تطورها واكتمالها، ولذلك كان اشتغالها بالسياسة قريب عهد أيضا وبالذات منذ صدور قانون الانتخاب 1866 الذي حصر الانتخاب في العمد والمشايخ وكانت النتيجة أن جاء أعضاء مجلس شورى النواب في دوراته الثلاث 1866-1876 من العمد وحين صدر النظام الأساسي عام 1883 احتوى الباب الرابع شروط انتخاب " الأعيان المندوبين" للجمعية العمومية.
كما منحهم دكريتو مارس 1895 بخصوص انتخاب عمد ومشايخ البلاد، سلطات قانونية أوسع ومنها حق الضبطية القضائية وما يختص بالأمن العام، وكان الأعيان أول من انفض من حول عرابي عند أول صدام له مع قوات الاحتلال، بل إن منهم من شكل وفدا لاستقبال قائد جيش الاحتلال وقدم له نوعا من الأسلحة على سبيل الهدية.
وكان محمود باشا سليمان أثناء الثورة العرابية قد ترك العمل العام منصرفا إلى إعماله الخاصة، وقد وصفه هيكل بأنه من بعيد النظر الذين قدروا ما يمكن أن يصيب البلاد من جراء الثورة فتنحى عن الاشتراك فيها وترك القاهرة إلى الصعيد عام 1895 كما كان حسن باشا عبد الرازق عضوا في مجلس النواب في عصر إسماعيل ، وكان صديقا حميما لسلطان باشا صاحب الموقف المعروف من الثورة.
وعموما لم يكن عمل الأعيان بالسياسة أو تكوين الأحزاب استكمالا للوجاهة أو تأصيلا لهيبتهم بين فلاحى أراضيهم وأجهزة الدولة، بقدر ما كان اشتغالهم بمها صونا لمصالحهم النامية بطرق أكثر ضمانا . ولعل هذا كان وراء حرصهم على أن يتقلد أبناؤهم مناصب الإدارة.
وقد توزع الأعيان بين شتى الاتجاهات السياسية في عصرهم، حسب مصلحة كل فريق ، من ثم كانوا في شتى الأحزاب، كل حزب بقدر، لكنهم في حزب الأمة كانوا يشكلون معظمه- مع أبنائهم من الموظفين والمحامين والكتاب- فحزب الأمة حزب طبقة، بمعنى أن فئة أو جماعة من طبقة الأعيان، كانت أغلبية ساحقة فيه،أو أن فريقا كبيرا من طبقة الأعيان قد كون حزب الأمة،
وليس بمعنى أن طبقة الأعيان المصرية قد كونت حزبا هو حزب الأمة. ذلك هو مفهوم حزب الأعيان المصريين وعلاقته بالمفهوم العام للأعيان كطبقة قياسا على الوضع الطبقي لبقية الأحزاب.
وقد ضم حزب الأمة عند نشأته أكثر من ثمان عمد، والكثير من شغل آباؤهم وإخوتهم هذا المنصب، أو يمتون إليه بصلة من قريب ،أما العمد فهم : محمود باشا سليما ، وكان عمدة أبو تيج وساحل سليم، وحسن باشا عبد الرازق ، وكان قاضيا على بلدة أبى جرج بالمنيا، ورث منصب القضاء عن أجداده ، الذين تولوه منذ عام 1798 ،
وكان يعنى تولى أمر ولاية البهنسا كلها ثم نقل إلى أبى جرج وصار إرثا في العائلة حتى تولاه حسن باشا وكيل حزب الأمة، أما وكيل الحزب الآخر ،على باشا شعراوي فكان عمدة بني محمد شعراوي في بني مزار بالمنيا، وكذلك كان السيد بك أبو على – والد لطفي السيد- عمدة لبقين بمديرية الدقهلية، ويملك ألفى فدان،
وكان حمد الباسل باشا عمدة لقبيلة الرماح، وإن كان قد تخلى عن العمدية لأخيه عبد الستار عضو جمعية الحزب العمومية، وزوج ملك حفني ناصف- من كاتبات الحزب- وكان يمتلك وحده أكثر من ألفى فدان، وكان الإخوان من شيوخ البدو الذين تكونت ملكياتهم في ظروف مشابهة لتلك التي تكونت فيها ملكيات أعيان الريف ونشأ بعضها نتيجة سياسة توطين البد والتي اتبعها محمد على وحلفاؤه ،
وكذلك كان مصطفى باشا خليل عمدة " لمنية الكرم" بمديرية الشرقية، ومحمد بك موسى عين أعيان المنيا، وعمدة لبلدته " الفقاعى" وقد كان قطب بك قرشي عين أعيان ديروط، والد لمحرم بك عمدة " القرشية" أيضا وكان عين أعيان المنيا، ناشد بك حنا، عمدة لبلدته " اشروبة " وقد ظل في الوظيفة خمسة عشر عاما،
وفى قائمة أعضاء جمعية الحزب العمومية نعثر على أسماء ثلاثة بكوات من الأباظية هم : سليمان أحمد أباظة، ومحمد صادق أباظة، ومحمد عثمان أباظة، وأولهم ابن أحمد أباظة باشا ، الذي كان كبير للعائلة حتى عام 1900 ثم تولاها إسماعيل باشا ،
وقد تقلب أولاد أباظة في الرتب السنية والمنصب الديوانية منذ عهد سعيد باشا أما محمد صادق فكان أخا لإسماعيل باشا أباظة، وقد اكتتب في الجريدة بمبلغ مائة جنيه مثله مثل الأخير- محمد عثمان- وهو ابن أخيهم أيضا وكان عضوا في مجلس إدارة الحزب.
وقد ضم أعيان الحزب الأمة بين صفوفهم فريقا ممن عملوا تجارا وجمعوا ثروات طائلة ومنهم من أسس مشروعات عقارية كبيرة، وتاجر مع الحكومة مثل أحمد يحيى باشا الذي كان في مقدمة تجار الإسكندرية الثراة، وكذلك كبار الشخصيات القبطية من أسرة عبد النور كالخواجة فخري عبد النور الذي عكف على تعاطي الزراعة والتجارة وكان كلما تقدم يزيد أشغاله ويوسع أعماله ويضاعف موارده، ومنها أسة حنا التي اشتهر فيها بشرى بك حنا، الذي بلغ في التجارة مكانة مرموقة أدت إلى انتخابه رئيسا للمؤتمر القبطي بأسيوط، وأيضا سينوت بك حنا،
وكلاهما كانا عضوين بجمعية الحزب العمومية، وإن كان بشرى قد جمع بين ذلك وبين عضوية مجلس إدارة الحزب. هذا بالإضافة إلى العديد من الشخصيات القبطية المعروفة كالخواجة الياس واندراوس بشارة، وحنا صالح سليم وابنه الخواجة عزيز ، وكان اعتدال الحزب هو الذي جذب إليه العديد من زعماء الأقباط ومن كبار التجار أعضاء الجمعية العمومية للحزب . أمين بك الشمسي والذي كان سر تجار بندر الزقازيق ( مركز القنايات).
كما ضم الحزب من أعضائه البارزين شيخ مشايخ الطرق الصوفية، الشيخ عبد الرحيم مصطفى الدمرداش ، الذي تولى رئاسة المشيخة عن أبيه ونمى ثروته حتى عد من كبار ممولي زمانه ، كما ضم الحزب إدريس بك راغب " الأستاذ الأعظم للمحفل الأكبر الوطني المصري " الماسونى" الذي كان يضم الخديوي توفيق وفخري باشا والأمير محمد على والدوق أوف كنوت ، وعددا من الوزراء ووكلائهم.
أما بالنسبة لذوى المناصب، فمنهم من عملوا لفترة بالحكومة ثم هجروا الوظائف ليتولوا شئون عائلاتهم ، كمحمود باشا سليمان، الذي كان حاكما على أبو تيج من قبل نظارة الداخلية، وعلى ديروط بسلطة غير محدودة ثم أصبح نائبا لمديرية جرجا
وأخيرا ترك الوظائف وعكف على إدارة أطيانه الواسعة، ومثل محمود بك عبد الغفار، من أعيان تلا بالمنوفية، الذي تخرج من الحقوق الخديوية 1894 وعين في النيابة العمومية ولم يمكث بها إلا زمنا يسيرا واضطر إلى الاستقالة عقب وفاة أخيه الأكبر، ليعمل على تنمية ثروة أسرته، وكذلك محمد محمود بك خليل ، الذي اشتهرت عائلته بعلو مكانتها، وكان جده سكرتيرا خصوصيا لإسماعيل باشا وحافظا للدفترخانة السلطانية،
وقد تخرج هو الآخر من الحقوق الخديوية ومارس المحاماة لعامين ثم عين في نظارة الحقانية بوظيفة نائب ثم استقال ليعمل لحسابه الخاص، ولعلنا لاحظنا أن الاهتمام بشئون الأطيان وممتلكات الأسرة والحفاظ على وحدتها وعصبيتها كان عندهم أهم من وظائف الحكومة بل إن هذا الاهتمام قد يبلغ حد استدعاء أحدهم وصرفه عن دراسته، لتولى هذه الشئون مثلما حدث لحسن عبد الرازق، الذي قطع دراسته بالأزهر ولم يجاوز العشرين استطاع في فترة وجيزة أن ينمى ثروة العائلة،
ولما شكل مجلس النواب في عهد إسماعيل انتخب عضوا عن امنيا وحدث نفس الشيء لبسيونى بك الخطيب، الذي استعان به أحمد باشا المنشاوي، ابن خاله- ليكون وكيلا لدائرته ، مما يدل أيضا على مدى الترابط الذي كان يحرص عليه الأعيان في إدارة أملاكهم والاستعانة بذويهم الذين كونوا بدورهم ثروات خاصة بهم.
وغلى جانب شغل الأعيان لمناصب العمدية في قراهم ونواحيهم نجد الكثير منهم قد شغلوا مناصب ذات وضع اجتماعي معين أو ساهموا في مؤسسات اجتماعية وإن لكم يكن لها صفة رسمية، ومنهم من أنشأ بعض المعاهد العلمية أو أوقف عليها من أطيانه، فمحمود باشا سليمان قد شيد مدرسة صناعية يتعلم فيها أكثر من مائة طالب صناعة النجارة والحياكة والحدادة وغيرها.
ومحمد بك عبد الغفار كان من أكبر مؤسسي جماعة المساعي المشكورة في مديرية المنوفية، كما كان عضوا في مجلس المعارف الأعلى وقد أوقف قطب بك قرشي الكثير من أملاكه على مدرسة ديروط ثم قام بتشييد معهدها العلمي،
وكان محمد بك موسى عضوا في مجلس مديرية المنيا، وعضوا بلجنة الشياخات، ومصطفى باشا خليل عضوا في مجلس مديرية الشرقية وله خدمات جليلة في الجمعية الزراعية الخديوية وقد كان حمد باشا الباسل عضوا في لجنة النفي الادارى،
أما السيد بك أبو على فقد ضم إلى جانب عضويته للجمعية الزراعية ، عضوية مجلس قومسيون الأشقياء بمديرية الدقهلية عام 1882 ، وقد عهدت المنيا إلى فخري بك عبد النور بوكالة قنصليتها في مديرية جرجا أما أحمد يحيى باشا فقد اندمج في إدارات الحكومة وانتخب عضوا في المجلس البلدي ثم عين عضوا فيه من جانب الحكومة.
وقد مثل آباؤهم في مجلس شورى النواب عام 1866 وفى عهد الخديوي إسماعيل ، فكان أحمد بك عبد الغفار، عمدة تلا بالمنوفية ووالد محمود بك من مؤسسي الحزب، عضوا بالمجلس في دور انعقاده الثاني 1870- 1873 وقد أصبح وكيلا لمجلس شورى القوانين فيما بعد وكذلك كان محمد بك الأتربى والد محمود بك ،وأيضا الشيخ حسن عبد الرازق عمدة أبو جرج،
وكذلك كان لهم دورهم في مجلس النواب عام 1881 فنقرأ بين أعضاء الهيئة النيابية الأولى1881 - 1882 أسماء أحمد عبد الغفار وسليمان أباظة، وأمين الشمسي، وعلى حسن شعراوي، ومحمود سليمان ، وقد أنعم على محمود بك سليمان برتبة المتمايز ، وعلى كل من على شعراوي وأحمد عبد الغفار بالرتبة الثالثة ، هذا على جانب اشتراكهم في المؤسسات النيابية التالية بشكل أوسع مما سوف نتحدث عنه في فصل مستقل.
ومستوى ثقافتهم بشكل عام يرتبط بحظهم من التعليم، وقد تلقاه معظمهم في كتاب القرية، واحتياز بعضهم قدرا من التعليم في الجوامع السابقة على الأزهر، ووصول البعض الآخر إلى الأزهر.
كما أن البعض قد تلقى تعليما أوليا في مدارس الحكومة الأولية والابتدائية، والبعض الآخر قد تلي تعليمه على أيدي معلمين استحضرهم آباؤهم كرئيس الحزب، ووكيلة حسن عبد الرازق الذي تلقى العلم بالأزهر لمدة تسع سنوات " وشغف بالأدبيات ،
وكان متضلعا في العلوم الدينية على مذهب الإمام الشافعي" وكذلك مصطفى خليل والشيخ الدمرداش اللذين " بلغا" الأزهر، وإن كان الكثير لم يتجاوز في تعليمه الكتاب ، حيث قنعوا بتلقي مبادئ اللغة العربية والقرآن والخط والحساب ، كالسيد بك أبو على وبسيونى بك الخطيب,
وقد تلقى البعض تعليما حكوميا لم يكمله، مثل محمد بك موسى وإن استكمله بعضهم حتى آخر مراحله كمحمود عبد الغفار ، وإن كان قد اكتفى أخيرا بالاشتغال بأطيان بينما درس بعض الأقباط منهم العلوم الحديثة في مدارس الفرير بالقاهرة، ومدارس الآباء اليسوعيين ،
وإن كانوا لم يكملوا الشوط حتى نهايته، فعادوا إلى قراهم لتولى العمدية أو لتعاطي الزراعة والتجارة كناشد حنا وفخري عبد النور ، وقد سافر الكثير منهم إلى أوربا للسياحة والاصطياف وتعرفوا على مدنيتها ، فنعرف أن أحمد الباسل كان يجيد الإنجليزية والفرنسية، وكذا ناشد وبشرى حنا.
ثانيا : المثقفون
حين بلغت مصر ذلك الجيل من مثقفيها ، والذين شهدت طفولتهم احتلال مصرن وأذكوا نار الحركة الوطنية، وتجمعوا داخل الأحزاب السياسية وتأثروا في أحداث تلك الفترة، وكان ذلك الجيل صورة أكثر نضجا ووعيا من الجيل السابق ، بل كان نتاجا متطورا لمسألة تحديث مصر، التي فتحت حملة بونابرت أعين مصر عليها والتقطها وتعهدها محمد على بإجراءاته وإصلاحاته وشهدت البلاد في عهده تعليما حديثا وأرسلت البعثات العلمية لأوربا للمرة الأولى واستقدم الأساتذة الأوربيون،
وفكت طلاسم الهيروغليفية ونشطت المعارف والعلوم بفضل مؤسساته التعليمية، وظهر جيل على قدر من الثقافة الحديثة، ولذا لم تنشأ النهضة العلمية والفكرية التي عرفتها مصر في عهد إسماعيل من فراغ، فكان لتدفق رؤوس الأموال الأجنبية في عهده مع ما صحبها من مؤثرات أوربية ونتيجة مشروعاته الاقتصادية مما فتح الباب لتحولات كبيرة أحدثتها هجرة الأوربيين إلى مصر الأمر الذي أدى بدوره إلى انتقال الأفكار والعادات الأوربية هذا بخلاف ما اطلع عليه المصريون من الترجمات ،
ودور الصحافة في الحياة السياسية ، ودور الأفغاني والشوام في أحياء الثقافة والفكر، مما كان له أثره في تكوين طبقة جديدة من المثقفين المصريين ممن تلقوا تعليما علمانيا قوامها الموظفون الرسميون ممن تعلموا في أوربا وخريجوا المدارس، بالإضافة إلى بعض رجال الأزهر المستنيرين.
وفى ظل هذا المناخ العام للحركة الثقافية والفكرية ظهر جيل ما بعد الاحتلال، غير أن مثقفي حزب الأمة يحملون طابعا معينا وفرته لهم عدة أسس : منها أن غالبيتهم الساحقة من أبناء الأعيان القادرين ماديا. والذين حرص آباؤهم على استكمال تعليمهم حتى أتموا دراستهم في أوربا على نفقتهم وإن كان منهم من أرسل في بعثات حكومية، كفتحي زغلول، وعلى أبو الفتوح ، اللذين درسا الحقوق في مونبليه بفرنسا،
كما أن بعضهم ينتمي إلى الفئة النامية من الطبقة متوسطة الملكية، ومن أشهر الذين درسوا على نفقتهم محمد حسين هيكل الذين حصل على الدكتوراه في الاقتصاد السياسي من باريس ، ومصطفى عبد الرازق الذي درس الفلسفة في السوربون ( 1909- 1912) ولطفي السيد الذي درس علم الأخلاق في جامعات سويسرا ( 1897) وإبراهيم رمزي الذي درس القانون الدستوري والاقتصاد السياسي في باريس ، ومحمد بك محمود الذي استكمل دراسته في أكسفورد.
ومنها أن هؤلاء المثقفين شكلوا ما يسمى بجماعة الشيخ محمد عبده التي تحلقت حوله وتأثرت بأفكاره واتجاهاته بل ومواقفه السياسية . ومنها أيضا أنهم اتصلوا من قريب بالفكر الأوربي وإن كانت ثقافتهم في معظمها فرنسية , وعرفوا داروين ونيتشه وكونت القصاصين الروس والفلبيين البريطانيين ودعاة المذهب النفعي , هذا بالإضافة إلى كتاب فرنسا في عهد الاستنارة كفولتير وروسو وكوندياك ومنتسكيو وكذلك فرويد ولوبون وغيرهم .
وعلى سبيل الأمثلة يقرأ هيكل الحرية لستيوارت مل والعدل لسبنسر ويبدو أثر ذلك في كتاباته " تراجم مصرية وغربية " وترجماته لروسو وتستشهد ملك حفني ناصف بأقوال سبنسر , ويظهر أثر دراستها للداروينية , فيما تكتب من مقالات أما قاسم أمين فقد قرأ مع زميلته الفرنسية حكم لارشفوكو وشعر لامارتين وفلسفة فنلون ورينان وأعمال فولتير وروسو , وغيرهم وتمنى لو ترجم أعمالهم وترجم فتحي زغلول كتابات لبنتام ولوبون وديمولان وغيرهم .
وإذا جاز لنا اتخاذ حصولهم على شهادة الحقوق الخديوية أو استكمال دراستها بالمدارس والكليات الأوربية , مقياسا لثقافة العصر , حين كان ذلك النوع من الدراسة أسبق أنواع التخصصات , باعتباره يؤهل الفرد إلى أعلى مناصب الدولة , كما يعد الفرد للعمل الحر , والمحاماة والصحافة والكتابة وغيرها ,
فإنهم في معظمهم جميعا كانوا مثقفين بثقافة العصر , التي حرص الأعيان على نيل أبنائهم لها ليتمكنوا أيضا من التعامل مع شركات الأراضي وإدارة الأملاك , والحصول على مناصب الإدارة وتولى مقاعد النيابة العمومية .
ومن بين مؤسسي الحزب وجريدته وجد خمسة عشر يحملون شهادة الحقوق الخديوية , هذا بالإضافة إلى حصول بعضهم على دراسة أعلى في الجامعات الأوربية , ويضاف إلى ذلك كله فريق من الشباب المحامين الذين كانوا يعتنقون مذهب الحزب ,
ويكتبون في جريدته مؤيدين خطته كيوسف نحاس , وعزيز خانكي وأحمد عبد اللطيف وغيرهم , كما كان منهم من درس الحقوق على نفقته ومارس المحاماة فاكتسب خبرة قانونية رغم أنهم بدؤا دراستهم بالأزهر , كمحمود أبو النصر ,وإبراهيم الهلباوي , كذلك نجد منهم محمد محب باشا الذي ربما درس الحقوق هو الآخر , وقد ترقى في المناصب حتى بلغ الوزارة ,
ولا تقصر ثقافة مثقفي الحزب على ذلك فمنهم من درس علوم الاجتماع والفلسفة كمصطفى عبد الرازق وغيره , ومنهم من كان جل اهتمامه بالأدب والنقد والدراسات الاجتماعية وغيرها ومعظمهم من كتاب الحزب الذين نشروا كتاباتهم ومقالاتهم على صفحات جريدته , وأن لم يهتموا بسياسة الحزب فانصبت اهتماماتهم على الدراسات الأدبية والاجتماعية والأخلاقية .
بل كان بعضهم يحتل الصفحات الـأولى للجريدة وافتتاحياتها أحيانا وبشكل عام تتفق كتاباتهم وخط الحزب الإصلاحي ولذا نعتبرهم من مثقفي الحزب وإن لم يكونوا أعضاء نظاميين في جمعيته العمومية , كالعقاد الذي كان أول من أبرق للحزب معلنا تأييده , وكتب الكثير من المقالات على صفحات جريدته .
وسلامة موسى الذي اعتبر لطفي السيد وحيه الذهني في السياسية الوطنية , وطه حسين الذي يدين للطفي السيد بالتشجيع على الكتابة ونشر له أول مقال بالجريدة وباحثة البادية وعبد الحميد حمدي وغيرهم .
وإذا كنا قد استخدمنا لفظ " مثقفو الحزب " على إطلاق المعنى فإننا سنحاول ـ منهجيا فقط ـ أن نقسم هؤلاء المثقفين إلى فئات حسب إسهام كل منهم العلمي أو نشاطه المهني أو دوره الوظيفي وعلى ذلك سوف يتضح أن مثقفي الحزب يضمون فئات رئيسية ثلاث هي :
ـ الكتاب والمفكرون الذين أسهموا بنصيب من الإنتاج الفكري أو الذين احترفوا الكتابة في الصحف أو تأليف الكتب أو ترجمتها .
ـ المحامون , الذين اتخذوا المحاماة حرفتهم الرئيسية .
- الموظفون، الذين شغلوا مناصب حكومية ، وظلوا يعملون بها أو استقالوا منها.
على أنه ليس ثمة فروق أو حدود قاطعة بين هذه الفئات الثلاث، فكثيرا ما جمع أحدهم اثنتين منها أو تنقل بينها، وخير مثال على ذلك لطفي السيد نفسه الذي عمل بالوظائف الحكومية ثم احترف المحاماة لفترة قصيرة ، وأخيرا هجرها ليتفرغ للصحافة والكتابة هذا إلى كون الفئتين الأوليين تنتميان على العمال الحرة، على حين أن الفئة الثالثة ليست كذلك.
1- الكتاب والمفكرون:
في مجال الفكر السياسي والاجتماعي يبرز أحمد فتحي زغلول ( 1863- 1914) وأحمد لطفي السيد ( 1872- 1963) فاشتهر الأول بترجماته عن الفكر الأوربي، بحثا عن سر تقدم الإنجليز الديمولان، وسر تطور الأمم وروح الاجتماع ( للوبون) وأصول الشرائع ( لبنتام) . ومن مقدماته الطويلة لترجماته يتضح مدى إيمانه بضرورة وأهمية نقل منجزات الفكر الأوربي الحديث إلى اللغة العربية، والأخذ بتجارب الأمم الأوربية من منطلق وحدة التجربة الحضارية.
كما يتضح منها مذهبه في التطور والاعتدال، كما أن له دراسات تخصصية في مجال عمله القضائي منها كتابه ( المحاماة) ورسالة في التزوير وشرحا للقانون المدني.
أما لطفي السيد ، فخلال فترة بحثنا، لم يؤلف أو يصنف كتابا في موضوع بل أنه حين شرع في تأليف كتاب للرد على كتاب " مصر الحديثة لكرومر" لم يكتب منه سوى مقدمته التي نشرتها الجريدة في حينها، كما أنه لم يترجم شيئا عن الفكر الغربي قبل عام 1924،
في الوقت الذي قل فيه اشتغاله بالسياسة، حين شرع في ترجمة أرسطو طاليس مبتدئا بعلم الأخلاق، ولكن مقالاته الغزيرة التي افتتحت بها الجريدة، قد تنوعت وغصت بأهم منجزات الفكر الأوربي الحديث، فكتب في الليبرالية بمفهومها السياسي والاقتصادي، وفى الاشتراكية والديمقراطية ومذاهب الحكم وحتى في البيداجوجيا، والإصلاح الاجتماعي .
وقد صنفت مقالات لطفي ، فيما بعد، ونشرت في عدة كتب.
وقد شغلت قضية المرأة والفكر الاجتماعي اهتمام ثلاثة من المفكرين المنتمين للحزب، أولهم قاسم أمين ( 1863- 1908) بكتابيه الشهيرين ( تحرير المرأة ، والمرأة الجديدة) عامي 1899، 1900 وثانيهم طلعت حرب ( 1867- 1941) وله في الرد على كتابي قاسم ( تربية المرأة والحجاب 1899) ، ( فصل الخطاب في المرأة والحجاب 1901) ، وأخيرا باحثة البادية ( 1886- 1918) التي جمعت كتاباتها في كتاب " النسائيات" عام 1920.
أما الفكر الاقتصادي فقد اختص به طلعت حرب، وعلى أبو الفتوح ( 1873- 1913) فعالج الأول قناة السويس عام 1910 وتناول " علاج مصر الاقتصادي ، واقتراح إنشاء بنك للمصريين عام 1913" واحتوت خطبه ومقالاته التي جمعت عام 1957 على العديد من الأفكار حول تمصير الاقتصاد والدعوة إلى التحرر الاقتصادي ، أما على أبو الفتوح فقد أسس جمعية لتعريب الكتب الاقتصادية وكان من أعمالها كتاب " الاقتصاد السياسي لجيفونس" كما احتوى كتابه " خواطر على أبو الفتوح" على العديد من المقالات الاقتصادية، وقد نشر عام 1914. .
وفى مجال الدارسات النقدية والإبداع الأدبي والفني تبرز أسماء محمد حسين هيكل ( 1888- 1956) ومصطفى عبد الرازق( 1885- 1947) وإبراهيم رمزي ( 1867- 1924) . أما هيكل فإلى جانب رسالته للدكتوراه " دين مصر العام 1912) ألف أول قصة مصرية بالمعنى الحديث هي قصة ( زينب) التي نشرت عام 1914،
كما أن مصنفه "في أوقات الفراغ" والذي حوي دراسات في النقد الأدبي والتاريخ، كان قد نشر معظم فصوله في الجريدة، وقد أهدى طبعته الثانية إلى لطفي السيد – ولم نعرف لمصطفى عبد الرازق كتابا مؤلفا خلال فترة البحث، وإن كانت مقالاته بالجريدة قد جمعت بعد ذلك في مصنف" من آثار مصطفى عبد الرازق" ، وقد احتوى على دراسات نقدية في الفلسفة والأدب وبعضا من مذكراته الخاصة حين كان يدرس في باريس. وقد نشرت جميعا بالجريدة حتى عام 1915 .
وأخيرا جمع إبراهيم رمزي بين أكثر من مجال فكان في طليعة من عملوا للمسرح، بتأليف ( المعتمد بن عباد عام 1892) وأتبعها بسلسلة من المسرحيات المؤلفة والمترجمة، وقد اصدر مجلتين أحداهما بعنوان ( الفيوم) ، والأخرى بعنوان ( المرأة في الإسلام) وقد عضد بها قاسم أمين، وإن كان قد حولها بعد عام إلى جريدة سياسية أسبوعية دعاها ( التمدن) . كما ترجم كتابا في أصول الأخلاق عن الفرنسية وألف كتابا بعنوان " مبادئ التعاون" .
ب- المحامون:
زاد الإقبال على المحاماة نتيجة تزايد الاكتساب منها، يدل على ذلك تزايد طلاب الحقوق ، ولعل وراء هذا الإقبال أيضا طموح إلى العمل السياسي، الأمر الذي يفسر طلبهم إلغاء النصاب المالي الذي يحدد عضوية الهيئات النيابية، اكتفاء بشهاداتهم الدراسية هذا بالإضافة إلى انتشارهم في التكوينات الحزبية التي نشأت بعد عام 1906، إلى جانب ما احتازوه من وضع اجتماعي معين.
أما أعضاء حزب الأمة الذين عملوا بالمحاماة لفترة أو بصفة دائمة فتبرز منهم أسماء لطفي السيد وعبد العزيز فهمي وكان الأخير قد عمل بها منذ عام 1903. وحين استغنى لطفي السيد في أوائل عام 1906 عمل معه بضعة أشهر ثم ترك المهنة ليعمل بالصحافة والسياسة وإن كان فهمي قد استمر يعمل بها حتى انتخب وكيلا للجمعية التشريعية ،
كما مارس المحاماة من أعضاء الحزب محمد محمود خليل حتى عام 1902 حين عين في نظارة الحقانية بوظيفة نائب ثم استعفي عام 1904 ليعود للمحاماة ويصبح من رجالها المشهورين، وكذلك محمد أبو النصر الذي اندمج في إعداد المحامين أمام المحاكم المختلطة والأهلية والشرعية، وبلغ في المهنة مكانة جعلته ثالث نقيب للمحامين ( 1914) .
أما الهلباوي فقد بدأ عمله بها في يناير 1886 حتى اختير مستشارا للأوقاف عام 1893 ثم انتدب مستشارا للخاصة الخديوية، ومحاميا لها، إلى أن تفرغ وبلغ فيها أكبر شهرة في زمنه وانتخب بسببها رئيسا لأول نقابة للمحامين ، كما نقرأ على صفحات الجريدة العديد من أسماء المحامين، والذين أيدوا الحزب واعتنقوا مذهبه، كيوسف نحاس ، الذي تولى شئون الجريدة القضائية وله في ذلك دراسات رائدة بعنوان" ما هنا وما هنالك" ،
وكان في طليعة من نادوا بإنشاء نقابة المحامين، وكذلك إسماعيل زهدي، الذي طالب بإلغاء النصاب المالي لتمثيل المحامين في الهيئات النيابية، ونادى باستقلال القضاء يضاف على هؤلاء العديد من المحامين الشباب الذين كتبوا في شتى الموضوعات، بل أن منهم من كتب بصف دائمة في الجريدة مثل عبد العليم صالح، وحسين فهمي، وزكريا نامق، وأحمد محمود وغيرهم.
جـ - الموظفون:
يجع الأساس التاريخي لاشتغال المصريين بالوظائف الحكومية في العصر الحديث إلى عهد محمد على الذي دأب على استبدال المصريين بالأتراك وخاصة بعد أن أنشأ مدرسة الإدارة لتخريج الموظفين ، مما أفضى في النهاية إلى قيام طبقة من البيروقراطية، وجاء الاحتلال ليفسح الطريق أمام أبناء الأعيان ويمنحهم الوظائف الحكومية ولم يكن هؤلاء يرغبون في الوظيفة إلا للحصول على الجاه ، كما كانت سبيلا للحصول على أعلى المراكز الاجتماعية.
أما أعضاء حزب الأمة الموظفون فقد عرفنا مدى علاقتهم بشركة الجريدة ومجلس إداراتها، وبالتالي موقعهم في سلك الحزب، وتجدر الإشارة ابتداء إلى علاقتهم بالحزب قد اتسمت بمرونة شارفت حد الانتهازية أحيانا، ذلك أنهم وإن وجدوا ضمن المؤسسين لجريدة الحزب فقد كان من السهل عليهم الاعتذار بأنها مجرد شركة صحفية لا سياسية،
كما أنهم ظلوا على علاقة طيبة بالحزب طالما بقى الحزب على علاقة طيبة بالوكالة البريطانية، وعندما حدث وفاق عباس- جورست، وقدر للحزب أن يصطدم بالاحتلال بشكل ما، وبدا أن الوفاق قد أطلق يد الخديوي في بعض المناصب، انسحب الموظفون في صمت ، بل لجأ بعضهم- على ما سنرى - إلى الاعتذار للخديوي وأعلنوا تبرؤهم من الحزب.
وينقسم أعضاء الحزب من الموظفين إلى مجموعتين : المجموعة الأولى وهى التي شغل أصحابها الوظائف لفترة متصلة أو متقطعة ثم تركوها لأسباب سياسية أو للاشتغال بأعمالهم الخاصة، والمجموعة الثانية، وهى التي قضى أصحابها أعمارهم في سلك الوظيفة ومنهم من بلغ فيها منصب الوزير أو وكيله.
فبالنسبة للفريق الأول نجد أن لطفي السيد بدأ حياته كاتبا في النيابة عام 1894 ثم صار سكرتيرا للأفوكاتو العمومي فمعاونا لنيابة بني سويف ثم وكيلا للنيابة عام 1896 إلى أن استقال عام 1950 لخلاف مع النائب العمومي. كما بدأ عبد العزيز فهمي حياته العملية مترجما بنظارة الأشغال إلى أن عينه السير ملنر معاونا لإدارة الدقهلية،
ثم صار كاتبا بمحكمة طنطا عام 1892، وتقلب في وظائف النيابة حتى صار وكيلا للمستشار القضائي بالأوقاف 1897 إلى أن استقال عام 1903 ليعمل بالمحاماة.
وعلى هذا النحو أيضا بدأ طلعت حرب مترجما في قلم قضايا الدائرة السنية إلى أن صار مديرا لأقلام قضاياها، واستمر حتى أبريل 1906 حيث استقال ليعمل مديرا لشركة إخوان سوارس ، أما الهلباوي فقد عين كاتبا في مجلس الشورى ( 1883) وتدرج حتى صار رئيسا لكتابه عام 1885، ثم أصبح سكرتيرا للبرنس حسين كامل، وفى عام 1893 أصبح مديرا للأوقاف العمومية، فمستشارا قضائيا لها، وقد انتدبه الخديوي ليكون مستشارا قضائيا ومحاميا لخاصته- إلى أن استقال عام 1909 ليعمل بالمحاماة ولم تكن المهنة إذ ذاك تشترك مؤهلا دراسيا معينا.
أما الفريق الثاني فمنه أحمد عبد الرازق ، الذي بدأ حياته الوظيفية مبيضا، بمحكمة مصر المختلطة 1887 ثم عمل مترجما 1889 فنائب قاض ثم قاضى في عام 1893، وفى مارس 1907 رقى للدرجة الأولى إلى أن فصل عام 1911 لأسباب صحية ومنه أيضا باسيلى تادرس الذي كان مستشارا بمحكمة الاستئناف الأهلية ثم عين بأمر عال رئيسا لمحكمة الاستئناف المختلطة بالإسكندرية عام 1905 .
وكذلك أحمد عفيفي الذي بدا عام 1878 مساعدا لنيابة محكمة مصر المختلطة ثم عمل وكيلا للنيابة 1885 فرئيسا للنيابة في نفس العام، فقاضيا بمحكمة استئناف مصر الأهلية، فرئيس شرف لاستئناف الإسكندرية 1905 ، وجمع إلى وظيفته الأخيرة وظيفة ناظر ديوان الخاصة الخديوية في ديسمبر 1914 إلى أن فصل 1917 عقب وفاة السلطان.
ويحسب قاسم أمين ضمن هذه المجموعة، ذلك أنه دخل خدمة الحكومة في ديسمبر 1885 مساعدا لنيابة محكمة مصر المختلطة، وبعد عامين صار مندوبا لقضايا الحكومة بنظارة المالية، وفى يونيو 1889 عين رئيسا لنيابة بني سويف ثم طنطا، رقى بعدها نائب قاض بمحكمة الاستئناف الأهلية، ثم أصبح قاضيا في نوفمبر 1893 حتى وفاته عام 1908 ، أما محمد محمود فقد التحق بالوظيفة مفتشا بوزارة المالية، ثم سكرتيرا لمستشار الداخلية، وترقى بعدها مديرا للفيوم ، ثم صار بعد ذلك محافظا للقنال إلى أن نقل مديرا للبحيرة في يناير 1910 وقد تقلب بعد ذلك في المناصب حتى صار رئيسا للوزارة ،
ثم توفى في عام 1941 ، وقد كان لديه ما يمنعه من الإعلان عن دوره في الحزب وهو الوظيفة ، فكان مديرا للفيوم وقت قيام الحزب، حيت استدعاه الخديوي ليواجهه بأنه يحضر من الفيوم للاشتغال بجريدة الحزب أجابه بأنه لا يشتغل بالسياسة وانه إذا أراد ذلك فسوف يستغنى من وظيفته، وعندما وشى به فتحي زغلول ، هدده الخديوي مرة أخرى، وذكره بأنه لا يليق بموظف أن يشتغل بالسياسة .
بيد أن محمد محمود لم يرتدع، فقد شكاه ناظر الداخلية للخديوي وذكر أنه يشتغل بالسياسة مع لطفي السيد وأنه جمع العمد ليحضروا خطبة لطفي السيد. وقد عوقب محمد محمود على هذا الإصرار فعندما صدرت حركة تنقلات المديرين في 24 ديسمبر 1908 عين كمال بك مديرا للبحيرة رغم أحقية محمد محمود لتقدميته، فلم يرد بدا من تقديم .
فلم ير بدا من تقديم استعفائه الذي أوشك الخديوي على قبوله أو نقله على بورسودان ، ولكن المسألة انتهت باستبقائه، وقد حدث مثل هذا مع فتحي زغلول، حين أنبه الخديوي على اشتغاله بأمر الجريدة فاعترف للخديوي بأنه هو الذي أنشأها ولكنه قطع علاقته بها عندما رآها سارت على غير أفكاره ،
وأنه لا علاقة له بالحزب ولم يجتمع بأعضائه إلا في الليلة التي اجتمعوا في مسائها ولكن يبدو أن فتحي ظل على علاقته بالحزب لأن الخديوي عاود انتقاده لذلك الأمرالذى جعله يؤكد للخديوي مرة أخرى أنه غير راض عن خطة الجريدة وأنه حرر لمديرها خطابا بذلك،
ولم يتركه الخديوي حتى انسحب من الحزب وجريدته، وقد أشيع أنه تعهد له بأن يعمل على إفسادها ، وإن لم يقم دليل على أنه فعل ذلك أو حاوله، إلا أن الجريدة لم تعد تكتب عن فتحي- بعد ذلك- إلا بمقدار ما تكتب عنه الصحف الأخرى، وكان فتحي قد بدأ حياته الوظيفية مساعدا لمندوب بلجنة قضايا الحكومة في سبتمبر سنة 1887،
ثم عين رئيسا للنيابة في 27 يونيو سنة 1889 ، فرئيسا لمحكمة المنصورة، نقل بعدها إلى محكمة مصر الابتدائية، ثم رقى وكيلا لنظارة الحقانية في فبراير سنة 1907 إلى جانب عضويته في لجنة المراقبة القضائية وظل وكيلا للحقانية حتى توفى في مارس 1914.
أما على أبو الفتوح الذي بدأ مساعدا للنيابة في يونيو سنة 1894 فوكيلا لها في ديسمبر سنة 1896، فرئيسا لنيابة الاستئناف في ديسمبر سنة 1908، فقد رقى مديرا لجرجا في مارس سنة 1909 دون أن يتدرج في وظائف الإدارة وأصبح بعدها وكيلا لنظارة المعارف في أبريل سنة 1912 إلى أن توفى في العام التالي.
وقد تولى اثنان من رجال الحزب منصب الوزارة هما عبد الخالق ثروت ( 1873-1928) ومحمد محب. وقد بدأ ثروت موظفا بورشة التنفيذ بقلم الدائرة في يوليو 1893 ثم رئيسا لها في نوفمبر من نفس العام. ثم صار مساعدا للنيابة في يونيو 1894 فوكيلا لها في يوليو من العام التالي ثم صار قاضيا بمحكمة مصر الأهلية في يونيو 1898 وحاز الدرجة الأولى في فبراير سنة 1903 وصار بعدها وكيلا لمحكمة قنا الأهلية 1905
ثم باش مفتش أقلام الكتاب بالمحاكم الأهلية في نوفمبر 1906 ، فمستشارا بمحكمة الاستئناف في فبراير سنة 1907، وانتقل بعد ذلك إلى مناصب الإدارة فصار مديرا لأسيوط في نوفمبر من نفس العام لكنه عاد بعدها إلى الحقانية نائبا عموميا في نوفمبر 1908 ثم ناظرا لها في أبريل 1914، في وزارة رشدي التي استمرت حتى ديسمبر من نفس العام أما محمد محب باشا فتدلنا المصادر على أنه كان محافظا لعموم القنال ، معنى هذا أنه تقلب عاد في وظائف الإدارة أو القضاء ، كما حدث لعلى أبو الفتوح وعبد الخالق ثروت،
ثم عين وزيرا للزراعة في وزارة محمد سعيد الأولى ( 23 فبراير 1910 حتى 5 أبريل 1914) ، ثم أصبح وزيرا للأوقاف في وزارة رشدي الأولى ( 5 أبريل 1914 حتى 19 ديسمبر 1914) .
ويتعلق بمسألة تكوين الحزب قضية انتماء بعض الشخصيات إليه، فهناك بعض هذه الشخصيات ممن يحسبون على الحزب، وإن لم يكونوا أعضاء نظاميين فيه أو بمعنى أدق يرون مذهبه ، وجمعتهم به عوامل منها انتماؤهم أصلا لجماعة الشيخ محمد عبده، ومنها الإيمان بفكره وأسلوبه، ومنها أخيرا الصلات الشخصية التي تربطهم برجال الحزب،
وبالرغم من أنهم لعبوا دورا مؤثرا في تكوين الحزب ونشاطه دون أن يكونوا أعضاء في مجلس إدارته – كمحمد محمود وفتحي زغلول- حيث حالت وظائفهم دون ذلك، وكذلك عدم حماس بعضهم للعمل العام أو الرغبة في عدم الالتزام الصريح تجاه حزب بعينه. خوفا أو طمعا- كقاسم أمين وسعد زغلول- وسنكتفي بهذين الأخيرين لعدم انضمامهما الصريح لجمعية الحزب العمومية.
ولعل وفاة أمين المبكرة في 22 أبريل عام 1908 لم تتح له حسم مسألة انضمامه إلى الحزب، كما لم تتح لنا فهم ذلك من مواقفه، لكن هناك معلومات تجعلنا نقرر ونحن مطمئنين بأن قاسم أمين ينتمي إلى حزب الأمة،
أولها أنه كان من أقرب أصدقاء محمد عبده، وعلى صلات وثيقة بأغلب جماعته ، وثانيها إيمانه بأسلوب المسالمة والاعتدال " فمعاقبة الشر بالشر إضافة شر إلى شر" وهو ما عبر عنه الحزب فيما بعد بفلسفة المسالمة لا المعاندة ومنها أيضا ما دونه في كلماته بما يفيد أنه واضع حكمة ابن حزم شعارا للجريدة" فلا تكتمل أخلاق المرء إلا إذا استوى عنده مدح الناس وذمهم إياه"
وإن كان سعد زغلول قد أرجع عدم اشتراكه هو وقاسم في الجريدة لأنها أنشئت على غير رغبتهما وأنهما استرابا في قصدها وشرعا العمل في إنشاء الجامعة بينما تبرز طبيعة قاسم النفسية لتؤيد ما ذكره سعد، فهو يجد السآمة في الاجتماعات " وما شعرت بها في الوحدة، اشتاق إلى الناس فإذا اختلت بهم رأيت وسمعت ما يزهدني فيهم فأفر منهم.."
ولكن عمل قاسم أمين في إنشاء الجامعة ينفى هذا المعنى، والأقرب إلى الصواب أن قاسما مثله مثل محمد محمود وفتحي زغلول، حالت وظيفته دون الإعلان عن انضمامه للحزب أو حتى الجمعية العمومية لجريدته، بينما أعلن الآخران ذلك، فلم يكن قاسم من أبناء كبار الملاك، بل أنه يحرص على أن يقتنى الأطيان، فعلى مدى اثني عشر عاما من وظيفته لم يشترى قيراطا ولم تكن لع عصبية عائلية تحميه، فكان من أصل كردى،
ثم هو قد منح في مارس سنة 1906 مكافأة زادت مرتبه السنوي من 800 جنيه إلى 1000 جنيه، وقد منحها مع سعد زغلول بقرار واحد، فليس من المستبعد أن يكون ابتعادهما عن الجريدة التي بدأ اجتماع تأسيسها بعد رفع مرتبيهما بثلاث شهور، أمرا متفقا عليه.
أما سعد زغلول فقد حسبته المصادر على حزب الأمة ، حتى رجح أنه كان عضوا سريا بالحزب، ويفسر هذا الرأي بأنه كان من أبرز أعضاء جماعة الشيخ محمد عبده، وأنه كان يرى مذهبه ومذهب الحزب من ضرورة إعداد الأمة بالكفاءات قبل كل شيء ، ,أنه كان من المعتدلين ، كما جمعت الصداقة بينه وبين معظم مؤسسي هذا الحزب،
أما سعد فقد قال في مذكراته " لو كان في ميل للأحزاب لدخلت الأمة، وهو يضم كثيرا من أصدقائي" وتعيين سعد ناظرا للمعارف في 28 أكتوبر سنة 1906، التي يعتبر يدا قدمها كرومر لجماعة محمد عبده تم بعد اجتماعات الجريدة والاتفاق على إصدارها حين كان سعد يهيئ نفسه لتولى الوظائف حينئذ، وربما بلغه أن كرومر سوف يدخله الوزارة فاختياره لها لم يكن ليتم بين عشية وضحاها، فأراد ألا يقولب نفسه داخل حزب سياسي قد يحول دون المنصب...
من ثم لم يشترك في تأسيس الجريدة مفسرا ذلك بارتيابه في قصدها ، كما أنه في نفس الوقت كان يعلم موقف الخديوي العدائي في هذه الجماعة ، وتأنيبه لفتحي زغلول لاشتغاله معها، ومن ثم كان حريصا على عدم إغضاب الخديوي خاصة وأن دنلوب وجورست كانا يضغطان عليه بشدة، من ثم فهو في حاجة إلى الخديوي الذي أوضح له " أن جورست كان متساهلا معنا ولكنه بعد أن علم أن حزب الأمة يريد أن يكتب عريضة لانجلترا يطلب إرجاع اللورد كرومر تغير حاله"
فكان كلام الخديوي ينطوي على تحذيره من حزب الأمة، ولذلك طلب سعد من لطفي السيد أن ينقطع عن التردد عليه دفعا لسوء الظن به، فانتقده لطفي وأوفد الحزب له محمد محمود ليعاتبه ويسترضيه ، حيث أن له – عند الحزب- منزلة كبيرة .
ويحذره من مغبة التيار الذي انساق إليه. وقد ذكر سعد أ حزب الأمة يعلم بأنه – أي سعد- كان من أركانه، وأنه – الحزب- " يعمل كل ما في وسعه لمعاكستي حتى أعود إليه" وقد انقطع أغلب أعضاء الحزب عن التردد عليه، ثم علق " بأنني لم أكن إلا مع حقهم وإني أبرأ إلى الله من باطلهم لقد كانوا من نصراء الحق فأصبحوا يخذلونه"
ولكن تنتهي فترة مصالحة سعد للخديوي فيستأنف سعد من جديد علاقته بحزب الأمة وجريدته التي تتبنى مسألة الدفاع عن استقالة سعد، كما تنتصر لسعد في قضية طعن رفعها ضد إسماعيل أباظة وصاحب الأهرام، وتصرح الجريدة " بأننا لا نتنكر لسعد باشا بعد خروجه من الوزارة بل نؤكد أننا أقرب إليه بعد استقالته... نحن أصدقاؤه الشخصيون ومشاطروه آراءه في السياسة".
لقد أتاح سعد لنفسه حرية الحركة السياسية فلم يشترك في تأسيس الجريدة رغم إيمانه بمبادئ الحزب وصلاته الشخصية والوثيقة بجماعة محمد عبده وتأثيره، إن لم يكن استفادته، من علاقته بهذه الجماعة، وذكره أنه لو كان حزبيا لانضم لحزب الأمة وأخيرا لعل سعد رأى أن مركزه من الحزب لن يكون مركز الزعامة، خاصة وفيه من الأعيان من هم آباء أصدقائه محمد محمود وحسن عبد الرازق ولطفي السيد، فلم ينضم للحزب متيحا لنفسه مرونة تفيده في مستقبله السياسي.
وقبل أن نختم هذا الفصل لابد لنا من التساؤل : إلى أي مدى كانت ايولوجية الحزب التي عرضها مثقفوه، تقنع باقي الأعضاء من الأعيان أو بمعنى آخر ما مدى الارتباط بين مثقفي الحزب وكبار الملاك فيه؟
إن هؤلاء المثقفين هم بالدرجة الأولى نتاج أو صورة مهذبة من آبائهم ولا نغالي إن قلنا أن تعليمهم كان نتيجة طبيعية للظروف التي استفاد منها آباؤهم بشكل أو بآخر ، فلا غرو أن أفسح لهم آباؤهم، والذين دفعوا بهم إلى ساحة العلم في أوربا، ليكونوا المعبرين عنهم في كل المناسبات، والمنظرين لأفكارهم، فتركوهم يعبرون عن ذلك بالحرية طالما لم يكن هناك ضرر مباشر من ذلك مع الإمساك بذمامهم إذا لزم الأمر.
فقانون شركة الجيدة نص على محاسبة مدير الجريدة أو تغييره إذا رؤى ذلك، وصورة منحهم هذه الحرية تتمثل في تمويل الأعيان للجريدة، وإقالة عثراتها المالية كلما لزم الأمر، وهى أداة الحزب الأولى والفريدة، فكان هذا التمويل بمثابة صك الموافقة،
كما كان صمام الأمان في أيدي الأعيان إذا ما تطرف الكتاب تطرفا يضر بمصلحتهم، في الوقت الذي اندفع فيه الكتاب في التعبير عن ثقافاتهم وأفكارهم التي نقلوها عن الغرب، ولم يكونوا يحسبون حسابا للمدى الذي يمكن أن تفضي إليه، بل كان شاغلهم في أغلب الأحيان إظهار القدرة على الاستظهار والترديد على اعتبار أن ذلك نوعا من المعاصرة.
هذا مع اعتبار أنفسهم الشريك الطبيعي لكبار الملاك في العمل السياسي.
إن لم يكونوا الشريك الأعلى باعتبار ما ناوله من تعليم، وحتى في عرضهم لنظريات الفكر السياسي كانوا يعبرون عن الديمقراطية مثلا من مفهوم طبقي. فلطفي السيد مثلا يرى أنه إذا كانت الديمقراطية بالغة حدها من الكمال فهي لا تخلو من تباين في الطبقات فإن هذه الديمقراطية إن فقدت المفاضلة بالنسب ى تعدم المفاضلة في المال فإن للأغنياء مصالح غير مصالح الفقراء..."
كما يرى حسن صبري ، وهو يخطب في نادي الحزب ألا بأس من تجريد الأعيان من المزايا والتمكين لنظرية المساواة المطلقة بين الأعيان والعامة، من زاوية أنه لا بأس من ذلك ما دام الملوك سيحرمون من السلطة التي لابد وأن تنالهم، وهم الصفوة المتعلمة وأبناء العائلات الكبيرة وهذا يدل على تعبير المثقفين عن مصلحة فئتهم داخل الطبقة التي خرجوا منها وذلك لثقافتهم العالية ،
والتي أحدثت فجوة بينهم وبين الأعيان من ناحية، ولقدرتهم على فهم روح التطور في عصرهم وتصورهم للمستقبل من ناحية أخرى، أما ألعيان فكان لديهم نفور غريزي من المبادئ والأفكار التي لا يفهمونها ، وكثير من ألعيان انصرفوا بعد الاجتماع الأول لتأسيس الجريدة حين علموا بأهدافها فخافوا من معاداة الخديوي، والداعين للجامعة الإسلامية.
كما لا نجد صعوبة ونحن نقلب أعداد الجريدة، في إدراك اهتماماتها الاقتصادية والزراعية على وجه الخصوص وما قامت به من ترشيد وتوجيه في وسائل الزراعة والري، والاهتمام بشئون القطن وسوق الأوراق المالية وهى كلها مسائل تهم الطبقة التي خرجوا منها، وبرغم تأكيد لطفي السيد على أن الجريدة ظهرت " بفكرة الأعيان ومالهم وسارت في حياتها على طبق رغبتهم" وأنه يكتب ما يمليه عليه الأعيان أصحاب الأموال إلا أنه لم يتورع عن انتقادهم حين اصطفوا للاحتفال بجورست أثناء جولته في أغسطس 1910،
كما انتقدهم يوسف البستاني لنفس السبب واستنكر هذا الميل التقليدي للوقوف أما هذا الكبير أو ذاك، والضعف أما الحاكم وعندما أرسل بعض الأعيان برقيات تهنئة إلى جلالة ملك بريطانيا إيذانا بالرضي عن الحال الحاضرة، استنكر لطفي السيد هذا واعتبر الأعيان الذين أتوا ذلك إنما أتوه بصفتهم الشخصية وليسوا نائبين عن الأمة.
ويظهر الاختلاف بين الأعيان وكتاب الجريدة بصورة أخرى في المجالس النيابية، فبينما وقف خمسة من أعضاء حزب الأمة داخل مجلس الشورى ضد اقتراح علنية الجلسات، فقد طالبت الجريدة بعلانيتها في حملة مايو 1907 وبينما تطالب جريدة الحزب بالدستور الكامل، إذ ببعض أعيان الحزب داخل مجلس الشورى يطلبون طلبات أكثر تواضعا تتمثل في مجلس نيابي ذي سلطة أهلية صرفه.. الخ، وغير ذلك من المواقف التي ستتضح من دراستنا لمسألة الديمقراطية والمجالس النيابية.
ولسنا نعرف موقفا تحدى فيه الأعيان الجريدة وعلى رأسها لطفي السيد إلا عندما ثارت عليه ثائرة الرأي العام نتيجة مقالاته عن موقف مصر من تركيا خلال الحرب الطرابلسية ، مما أبعده عن الجريدة لفترة، خففت فيها من حدتها وحاول فيها د. هيكل امتصاص غضب الرأي العام والأعيان الذين وقفوا موقفا معاكسا وأيدوا تركيا وتبرعوا لجيشها، وإن كان هذا الموقف قد ساعد على انتهاء الجريدة والحزب، حيث لم تكن " الجريدة" صحيفة شعبية تستطيع تعويض خسارتها المالية في الوقت الذي توقف فيه الأعيان عن تمويلها، ومع هذا لم يستطع المثقفون أن يستمروا في التعبير عن مصالح الأعيان،
ولم يستطع هؤلاء أن يجاروا كتاب الجريدة في مبادئهم وأفكارهم، برغم الأرضية المشتركة التي تجمعهما ، ووحدة الهدف، ويؤكد هذا المعنى أنه لن تظل بنوتهم للأعيان هي العامل الأساسي في تكوين حركتهم، فسوف يزاحم ذلك عوامل أخرى منها أنهم نتاج لتطور فئة المثقفين المصريين بشكل عام، ودرجة استيعابهم للفكر الأوربي، ثم انعكاس الأحداث الداخلية والخارجية المعاصرة لهم على تكوينهم السياسي والفكري ومدى تصورهم للمستقبل في ضوء هذا كله.
الفصل الثالث : حزب الأمة بين السلطتين الشرعية والفعلية
-حزب الأمة والخديوي عباس حلمي.
-موقف الحزب من المعتمدين البريطانيين.
-علاقات الحزب برجال الاحتلال.
-نظرية الحزب في الاحتلال والجلاء.
ترجع علاقة الخديوى عباس الثانى بحزب الأمة إلى اصلبن رئيسيين تتفرع عنهما شتى المواقف.
أولهما علاقة الخديوى بمحمد عبده ، وما انتابها من عداء بين راجع في أصله إلى أفكار الشيخ المناوئة لرغبات الخديوى، ولعلاقة الشيخ بكرومر والوكالة البريطانية، والتي انعكست بشكل تام أو جزئي على جماعة محمد عبده ،
وثانيهما يتمثل في موقف الأعيان الجديد، بعد نمو طبقتهم من صاحب السلطة الشرعية في البلاد ذلك أن كبر حجمهم الاقتصادي والاجتماع قد دفع بهم للمشاركة في السلطة.ومن ثم لم يكتفوا بنشاط نيابي شكلي، فكانت رغبة المزاحمة في الميدان السياسي لابد وأن تقودهم إلى الاحتكاك بالخديوي ، كما أنه – وطبقا للأصل الأول- فإنه بعد وفاة محمد عبده كان لابد لجماعته من إعادة النظر في موقفها من الخديوى.
انتابت الخديوى الشكوك والمخاوف من هذه الجماعة وكيف لا وهم أنصار خصمه القديم، خاصة وهو لا يزال يذكر انسلاخ بعضهم عنه بعد أن كانوا قد انتووا العمل تحت رعايته في الجمعيات السرية ليلتفوا حول الشيخ ، ويوثقوا علاقتهم بدار الوكالة، أو بمعنى آخر عندما بدا أن النصر منعقد لكرومر في صراعه مع عباس في اجتذاب أفراد الجماعة، وإحساس عباس بالخذلان إزاء نجاحات كرومر وضرباته المتلاحقة .
وكان محمد عبده يكن احتقارا دفينا لأسرة محمد على وبالإضافة إلى ما بثته العلاقات السابقة في نفس الخديوى من الشكوك والمخاوف فقد تخوف من ثقل هذه الجماعة الفكري وتشبعها بالمبادئ الحديثة، التي إن نجحوا في التعبير عنها في نطاق حزب سياسي، سوف يمسون سلطته بشكل أو بآخر وقد عبر الخديوى عن قلقه من ظهور حزب الأمة، حيث بعث من أوربا مستفسرا عما إذا كان لسعد زغلول وأخيه يد في هذا الحزب.
واتهمه بالتشيع لكرومر، وتلقى الوحي منه وقد أظهر امتنانه عندما أنكر فتحي زغلول أن له صلة بالحزب كما عجل الخديوى بدفع حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية إلى الظهور بعد أن حاول إدخال على يوسف في عضوية شركة " الجريدة" فرفض رئيسها مما حقق مخاوفه خاصة وقد جاء في أسباب رفض على يوسف " أن أعضاءها لا يوافقون على خطة ومبادئ المؤيد المتعلقة بعلاقة الحاكم والمحكوم".
ومنذ العدد الأول عبرت الجريدة عن موقف حزبها من الخديوى، فتجاهلت السلطة الشرعية، وتحدثت عن الرأي العام، وسلطة الأمة، ودأبت على غمز المعية السنية بأن المعية ليست هي الأمير وإنما هي ديوان من دواوين الحكومة وأعلنت أن من حقها نقد الأمير نقدا صريحا. وتساءلت : وهل الملوك والأمراء معصومون فلا يحق لأحد أن يتكلم عنهم إلا بالإطراء والثناء؟
كما شرعت في انتقاد تصريحاته للمستر " دايسى" وركزت على أن سموه يعتقد أن ألأمة المصرية ليس لها وجود سياسي ذاتي ولا تطلب الاعتراف لها بهذا الوجود وأن المصريين يريدون أن يظلوا محكومين بالحكومة الشخصية أي الاستبدادية، وفسرت ذلك بأن سموه لا يريد أن يساعدنا مساعدة فعلية على أن نكسب بالتدرج حكومة ذاتية،
ولما أعلنت مبادئ الحزب، لم يكن فيها ما يشير إلى موقفه من الحقوق الخديوية من قريب ولا من بعيد ، الأمر الذي أثار ثائرة الخديوى. فأسف بدوره عن موقفه العدائي من القائمين بأمر الجريدة، بل لقد هددهم بالنفي أو العزل من الوظائف كما لجأ إلى استقطاب بعضهم بمنحهم الرتب والنياشين. فقد منح فتحي زغلول نيشانا عقب إقراره بأن لا علاقة له بالحزب وأوعز إلى صحيفة الأثير على يوسف القيام بحملة صحافية لإحداث شقاق بين مؤسسي الحزب وضربهم ببعضهم البعض وقد نجح في ذلك إلى حد كبير .
فقد خصصت المؤيد ما يعتبر بابا يوميا لنشر أخبار الاستقالات من الحزب والجريدة تحت عنوان " بين الجريدة ومساهميها" في الفترة من 4 حتى 23 يناير عام 1908 ويبدو أن الخديوى كان وراء سقوط لطفي السيد في انتخابات مجالس المديريات 1908 ولم يكن الخديوى ليستطيع أن يؤثر بهذه الفعالية لولا سياسة الوفاق التي منحته قدرا من حرية الحركة، حين بدا أن المسافة تزداد تباعدا بين الحزب والوكالة مما أدى إلى تخبط " الجريدة" بين مغازلة الخديوى، وجورست ، والابتعاد عن كليهما.
فقد لوحت لجورست بأن الوفاق لا يبعد رجالها عن مليكهم وذكرت أن الإنجليز إذا تذرعوا بأن الوطنيين المصريين يحملون على مليكهم كما يحملون على الإنجليز فإننا ندفع من الآن هذه الدعوى بأن المصريين يحبون مليكهم ويؤيدونه ، وفوق هذا حاولت الجريدة انتزاع الخديوى من أحضان جورست فردت على الجرائد الإنجليزية اتهامها للحركة الوطنية بأنها موجهة ضد الأمير وعلقت بأنهم" يريدون أن يغيروا قلب الأمة على أميرها المحبوب ليوجدوا بينهما خلافا يكون مرسحا للدسائس الإنجليزية" وتتلطف لهجة الجريدة .
وهى تطلب الدستور من " سمو الأمير المحبوب " وتفصل بين أنصار السلطة الشرعية وأنصار السلطة الشرعية الشخصية لتوضح أنها من أنصار الأولى ولم يفقد الحزب الأمل في الخديوى بعد بالرغم من أن الجريدة وهى تتحاشى الحملة على شخص الخديوى ما استطاعت خشية أن تلتصق بها تهمة عدم الولاء للعرش – كانت تبرز دائما أن الحكومة ما هي إلا حكومة الأمير وهى حكومة شخصية وعندما أثيرت مسألة الرتب والنياشين وجهت النقد المر للحكومة وتساءلت كيف تمنح الرتب والنياشين وهى شخص أدبي؟"
وحتى أواخر عام 1908 لم يطرأ تغير أساسي في علاقة الحزب بالخديوي، وإن كان هناك تهادن ظاهري من مظاهره اشتراك محمود باشا سليمان وعلى شعراوي باشا في جنازة ابن الشيخ على يوسف، مما جعل سعد زغلول يعتقد أن ذلك كان مسبوقا بصلح خاص بينهما أو مندرجا تحت صلح عام انعقد بينهما وبين عابدين،
ودلل على ذلك بأنه رأى على شعراوي ضمن اللجنة التي تعينت لاستقبال الخديوى في الأوبرا، " وكان موضع التفاته السامي" كما ربط سعد زغلول بين هذه الملحوظة ومسألة تغيير الوزارة وظهور سلطة الخديوى في تأليف الوزارة الجديدة" حيث التف حول " المؤيد" من كانوا منصرفين عنه خصوصا بعدما شاع وذاع أنه كانت له اليد الكبرى في تعيين بعض النظار " ويعد هذا صحيحا إذا ما أخذنا في اعتبارنا التمهيدات السابقة للجريدة .
وأن حزب الأمة أراد أن يشارك في الحكومة حين بدا أن الوفاق قد أبعده عن مركز السلطة ويؤيد ذلك أيضا تغير لهجة الجريدة بالنسبة للسلطة الشرعية ، واختصاص الخديوى للطفي السيد بأحسن التفات عند انصرافه من احتفال الجامعة.كما أن أعضاء حزب الأمة قد أخذوا في التقرب من المعية ولكن الخديوى لم يصف تماما للحزب وما لبثت الأمور أن عادت إلى سيرتها الطبيعية، خاصة وقد خيب التشكيل الوزاري 1909 آمال الحزب بل لقد أصر الخديوى على إبعاد الموظفين عن الحزب إماما.
وأبدى قبوله لاستعفاء قدمه محمد محمود لأن حركة تنقلات المديرين قد تجاهلته لولا تدخل الوكالة وانتهاء المسألة باستبقائه وفى يناير سنة 1909 ردت الجريدة على الخديوى مؤيدة موقف أحد الأشخاص في قضية رفعها على الخديوى أمام محكمة الإسكندرية، وأثبتت استنكارها لحكم القاضي بعم قبول الدعوى بناء على شكوى إلى الحقانية تطلب فيها تأديب المحضر الذي أوصل صحيفة الدعوى إلى سمو الأمير ورأت أن المحضر ينفذ القانون
وتساءلت: وهل في القانون ما يمنع من إعلان سموه شخصيا ويحتم اختصام ناظر دائرته؟ كلا... إذا صح هذا الخبر فهل يمكن القول بأن القانون محترم في بلادنا؟ وعندما انعقد مجلس النظار واعترض سعد زغلول على عدم تعيين على أبو الفتوح قضايا بالاستئناف مع خلو هذه المحكمة من الأكفاء وعلى تعيين أحدث الرؤساء وأصغرهم سنا في الاستئناف،
قال بطرس والخديوي أن نظارة الحقانية رأت ذلك ومرة أخرى حاول زعيما الحزب اكتساب ود الخديوى فعند افتتاح الجمعية العمومية في فبراير من عام 1909 قبل محمود باشا سليمان يد الخديوى مرتين ظهرا لبطن وهوى على شعراوي لتقبيلها بشدة فانزاح طربوشه حتى كاد أن يسقط لولا أن سنده بيده ولكن بغير جدوى، مما أثار الحزب وجعله يرد عليه بتحريك حوادث الأزهر والقيام بنصرة الأزهريين للانتقام منه، وعندما انتهت حوادث الأزهر، وصفح الخديوى عن الطلاب توجه بعد أفراد الحزب إلى المعية للشكر، وطلب على شعراوي إبلاغ الخديوى " بأننا نقسم ألا تتكرر حادثة الأزهر مرة أخرى"
وقد ضاعف ذلك من تأثر الخديوي من حزب الأمة وكان منزل الشيخ مصطفى عبد الرازق خلال الأزمة، مقرا لتدبير المشاغبات وعندما خوطب في ذلك قدم استعفاءه من مدرسة القضاء، فطلب الخديوى على الفور قبول استعفائه في 14 مارس 1909 بالرغم من أن الاستعفاء يسهل له المجاهرة بما لا يرضى والإقدام على ما كان يحجم عنه وقد ميز لخديوي بين أعضاء مجلس الشورى في الدعوة للاحتفال بتوديعه عند سفره إلى بورسودان، مما أحدث تنافرا وانقساما بينهم. ويبدو أن الذين تجاهلهم الخديوى هم أعضاء حزب الأمة،
وذلك أنعلى شعراوي في جلسة 14 أبريل 1909 طلب إلغاء قانون المطبوعات، وتبعه من لم يدع إلى الحفلة وخالفه الذين دعوا إليها فقالوا بوجوب بقائه وكانت الغلبة لهم ثلاثة عشر صوتا في مقابل عشرة، وكادوا يرفضون اقتراح محمود سليمان الخاص بطلب المجلس النيابي لولا أن طلب بعضهم التأجيل فتأجل وقد تشددت الجريدة في مواقفها من الخديوى
فكتب لطفي السيد مقالا بعنوان " عظة الملوك" بمناسبة خلع السلطان عبد الحميد حين أراد التنكيل بالدستوريين، ملوحا بأن " ذلك الخبر يزف إلينا شيئا من الفرح بغلبة الحق على الباطل وتغلب سلطة الجماعة على سلطة الفرد"
وكان بذلك يحذر الخديوى في غير مواربة وقد فسر سعد زغلول تقديم السيد البكري استعفاءه من شورى القوانين ، بأنها حيلة دبرت لحمل الأعضاء على الاستعفاء حتى يمكن التخلص من الذين لم ترق للجناب العالي وللحكومة حركاتهم في هذه الأيام مثل شعراوي ومحمود سليمان ويتصل بذلك أفضاء الخديوى إلى إسماعيل أباظة ورشدي باشا برغبته في أن يبحثا عن طريقة لتطهير الحزب الوطني من الطائشين والانتفاع به في حمل حزب الأم على ترك معاداة الخديوى والسير فيما ينفع البلاد وشكوى الخديوى لسعد زغلول من اجتماع فتحي زغلول بلطفي السيد
وقوله" أنه لا ينبغي أن يعاشره" وعندما أراد سعد إثناء لطفي السيد – بناء على رغبة الخديوى- عن حملته ضد جورست والشكوى من السياسة الحاضرة، رفض لطفي السيد ذلك وقال أنه سيجرى على خطته مهما كانت النتيجة لما رآه من استحالة الانتفاع بالجناب العالي واعوجاج سير أغلب الملتفين حوله.
وخلال بقية عام 1909 تستمر حملة الخديوى لتفتيت الحزب سواء بالضغط عل مؤيديه من الموظفين- من خلال وظائفهم أ بإهداء الرتب والنياشين كعادته مثلما حدث بالنسبة لأحمد عفيفي باشا الذي اندفع في نقد الجريدة بعد أن خرج عليها، ولعل لمنحه الباشوية أثرا في ذلك فما كان قد منحها بعد، كما أغرى بعض الشركاء برفع دعوى يطلب تصفية شركة الجريدة، حيث قام محمود الأتربى وعثمان سليط بمقاضاتها وتولى الدفاع عنها عبد العزيز فهمي الذي أودع خزينة المحكمة المبلغ الذي اكتتباه لما رفضا استلامه،
ولم يكن من الممكن أن يصرح باتهام الخديوى أمام هيئة قضائية حتى لو امتلك الدليل ومنذ ذلك العهد انقطع الحبل الرفيع الذي كان يربط القصر بحزب الأمة وبالجريدة واستمر الحزب في سياسته لكن لا تلبث أن تظهر أصابع الخديوى خلف قضية حسن جمجوم التي رفعها مطالبا بتصفية الجريدة والتي تبنتها " المؤيد" وكان من أهم أسبابها – كما قال صاحب الدعوة- انه وبعض أصدقائه ضجروا من تتابع الطعن في صاحب السلطة الشرعية...
وأنهم قرروا تشكيل وفد من الساخطين على ذلك لمقابلة الجناب العالي، وعرض إخلاصهم عليه، ولما عيرهم مدير الجريدة باسترضاء الجناب العالي، تساءل جمجوم " أي عار في ذلك أيريدون أن يطعنوا عليه ويبادر إلى منحهم الرتب والنياشين" كما تبدو نفس الأصابع خلف القضية التي رفعها خمسة وعشرون من أعضاء شركة الجريدة في نفس الشهر مطالبين بتصفيتها ،
وقد دفعت الخاصة الخديوية مصاريف الدعوى وأنعم على المدعين بالرتب والنياشين، وكان المحامى الذي رفع الدعوى هو محامى الخاصة، فكتب لطفي السيد مذكرة بذلك وسلما إلى المسيو جرين المحامى عن الشركة فتدخل الأمير حسين كامل لديهم حتى تأجلت الدعوى إلى أجل غير مسمى.
وكان الخديوى لا يحسب حسابا إلا لكتاب الجريدة الذين دأبوا على غمزه، والذين هم في حل من قيود الوظيفة ومن ثم كانت محاولاته للتأثير عليهم عن طريق أصدقائهم من ذوى المناصب مثلما حاول التأثير على لطفي السيد عن طريق سعد زغلول ، وعندما فكر الخديوى في الزواج من إحدى وصيفاته التي أعلنت إسلامها كان أخشى ما يخشاه على يوسف هو أن ذلك يفتح بابا للجرائد المعادية للخديوي مثل " الجريدة" للحط من مقامه والتنغيص عليه وكان الخديوى يذكى نار الحرب الصحافية بين الجريدة والمؤيد بين الحين والآخر،
وحتى نهاية عام 1909 كان الموقف يزداد حدة بالفعل حتى أنه عندما سافر الخديوى للحج في ديسمبر عام 1909 تخلف عن توديعه من أعضاء الشورى والجمعية العمومية على شعراوي وعبد الرحيم الدمرداش ومحمود عبد الغفار ومحمود سليمان وإن كان الأخير قد اعتذر أمام إخوانه بالمرض " سترا لكسوفه".
أثرت هذه الانشقاقات التي أحدثها العداء مع الخديوى، في الحزب تأثيرا عميقا من حيث الكم والكيف ، خاصة إذا عرفنا أن معظم المستقلين كانوا أعضاء في جمعية الحزب العمومية، كما أن الموظفين وهم واضعوا قانون الحزب ويمثلون ثقلا اجتماعيا للحزب وإن يكن بشكل غير مباشر.
من ثم بدأ الحزب يراجع نفسه، خاصة وقد كانت أسباب الاستقالات تدور حول تهجم الجريدة على السلطة الشرعية، في الوقت الذي كانت هناك حركة تعيينات وترقيات في مناصب الإدارة، الأمر الذي قد يتيح للخديوي فرصة جديدة لضرب ذوى المناصب من أبناء أعيان حزب الأمة وعلى ذلك بدأت الجريدة تراجع موقفها
وقد شرعت في ذلك فعلا منذ بداية عام 1910 ، بإنشاء المقالات والقصائد في مديح الخديوى واستقباله من رحلة الحج، وأسهبت في وصف رحلة عودته ونشر برقيات تهنئة ولكن الخديوى لم يتخلص من عدائه كلية وإن استحال إلى نوع من الامتعاض من الحزب، وقد أبان عن امتعاضه هذا حين عرضت عليه حركة المديرين ووجد فيها محمد محمود محافظا للقنال، فكاد يسقط هذا التعيين ولكنه عدل بعد أن أظهر عدم الارتياح.
وحتى أواخر عام 1910 لم تكن هناك عوامل تؤدى على تقارب من نوع ما بين الحزب والخديوي، فعادت الجريدة إلى التلميح للخديوي من بعيد متخذة من الثورة البرتغالية " درسا وعبرة" – في مقال يحمل هذا العنوان – بأن كل ملك لا يحترم إرادة الأمة وينقاد إلى الإنجليز يجنى على نفسه "
وذكرت أن الملك المخلوع كان معتمدا على الإنجليز يهد خصومه بمداخلتهم وكان ذلك تلميحا أكثر منه تلويحا فقد كانت الجريدة بالفعل تتحين الفرصة للتقرب من الخديوى دون إراقة ماء الوجه، وقد واتتها فرصة ذهبية عندما لم يحسن الصدر الأعظم استقبال الخديوى في تركيا فانقلبت الجريدة" مؤيدا ثانيا"
وكتبت أن مركز خديوي مصر هو اسمي من مركز الصدر الأعظم وليست تابعية الخديوى للسلطان بمقلة شيئا من مقام الخديوى وإننا إذا انتقدنا أعمال خديوينا داخل مصر فإنه متى خرج من مصر حاملا فوق رأسه شرف الأمة المصرية لا نستطيع أن نقف جامدين لعدم الرعاية التي تقع لشخصه" وكان ذلك مقدمة لصلح بين الخديوى ولطفي السيد ، وإزاء هذا الموقف ، وإظهارهم للسلطان أن الخديوى محبوب من شعبه، استجاب الخديوى لذلك التقرب، وطالعتنا الجريدة بخبر عن مقابلة سياسية جرت بين لطفي والخديوي ،
ولما غمزت صحيفة العلم- صحيفة الحزب الوطني- ذلك بأن حزب الأمة قد تنازل عن مبدأ من مبادئه الأساسية، ردت الجريدة بأن المقابلة لم تستتبع تنازلا عن مبدأ من مبادئ الحزب الأساسية، وأنه ليس له بواحدة من السلطتين اتصال خاص إلا ما يقتضيه السعي لتحقيق سلطة الأمة، وأن من السهل جدا التوفيق بين الأدب السياسي وبين المبادئ الجافة.
استمر الموقف الجديد خلال عام 1911 ولعل ذلك راجع إلى انتهاء سياسة الوفاق بين السلطتين وبالتالي فقدان الخديوى حرية حركته التي مكنته من إظهار عدائه للحزب بشكل مؤثر، ثم كان مجيء كتشنر العسكري الذي أمسك بزمام الأمور كلها في قبضته الحديدية. مما أدى إلى ازدياد اندفاع الحزب نحو الخديوى،الذي رحب بذلك في مواجهة تشدد كتشنر .
وتتضح ملامح هذا التقارب عندما ردت الجريدة على كلمة لإسماعيل أباظة وأوضحت أنه ليس للخديوي عدو ولا مناوئ في مصر وأنه إن كان في حاجة إلى الدفاع فكل أقلام مصر دفاع عن شخصيته الكريم وعرشه المصري ... صرحنا ونصرح بأننا مخلصون لسمو الأمير والعرش الخديوى.. إننا نقول بسلطة الأمة وقد قال بها سمو الأمير عام 1907 ، لمراسل الطان إذ قال بالدستور والدستور هو سلطة الأمة" وهكذا – وللمرة الأولى- قرنت الجريدة بين سلطة الأمة والسلطة الخديوية ...
وعلقت على حديث الخديوى لمراسل الفيجارو" بأن الأمير دستوري محب للدستور" ونقلت نصه في افتتاحيتها مختتمة ذلك بتعليق كل الآمال على سعى الخديوى نحو الدستور. ودشنت هذه السياسة بقصيدة عنوانها " عريضة الإخلاص والصراحة" إلى الخديوى لكننا نلاحظ أن صلحهم مع الخديوى قائم أساسا على إحساسهم بضعفه وبحاجته إليهم، فلطفي السيد في حديثه مع مراسل الاجبشن جازيت،
قد أكد أنهم أكثر رعايا الأمير ولاء ولم ينس أن يوضح أن مراميهم الدستورية لا يمكن إلا أن تطابق مرامي سموه، ولكنهم مع ذلك لا يحنون الركب تزلفا وأملا في استجلاب رضى الأمير لأنهم أهل سعة ويبدو منطق هذا التقارب أكثر وضوحا حين يقع لطفي في التناقض الذي يفسره قوله" لا أنكر أن الخديوي لا حول له في منح الدستور.
والواقع أننا لم نسمع بملك واحد قيد نفسه بالدستور من تلقاء اختياره".
وتشهد الفترة التالية فتورا في علاقة الحزب بالخديوي، واستعدادا من جانبه لخوض انتخابات مجالس المديريات من ثم يتجاهل لطفي السيد صلحه مع الخديوي حين يحاول سعد زغلول أن يحادثه في أمره، ويبدو سخطه على الخديوي والنظار نتيجة تدخلهم وإيقاف الانتخابات ولما كان الخديوي يعلم أن كتشنر يدبر في الخفاء أمر خلعه ويرشح للخديوية أميرا من أمراء بيت حليم. كان عليه أن يحتاط لذلك من جانب الرأي العام،
ومن ثم قرر أن يطوف بالوجه البحري ويوثق صلته بالأعيان، الذين أحسنوا استقباله في قصورهم ، وقد أعدت هذه الرحلة أعدادا ضخما ووضع له برنامج حافل وتمت بالفعل في الفترة من 28 أبريل حتى 13 مايو 1914 وقد أسهبت الجريدة في وصف استقبالات الخديوي وملأت صفحاتها بالإشادة به ووصفت السرادق الذي أقامه السيد بك أبو على وأنجاله لاستقباله، وكان ضمن الذين تشرفوا بلثم يد سموه حضرة حسين أفندي هيكل كما كان لطفي السيد في استقباله " بناء على رغبة أبويه".
وزاد من إقبال أعضاء حزب الأمة على الخديوي ، خاصة وقد تكلم مع لطفي السيد بأنه برم بوزارة محمد سعيد ويريد تغييرها، وأكثر من ذلك أنه أخذ رأى لطفي في الرجال الذين يصلحون لوزارة جديدة.
كما طلب من السيد بك أبو على أن يحضر ابنه لطفي السيد معه إلى قصره وطلب إلى لطفي أن يزوره كل سبت وقد فعل وقد رد لطفي على هذا الانعطاف بأن تولى حملة صحافية للمطالبة بجزيرة طاشيوز لمصر مستعينا بالإنجليز ليحموا أملاك مصر من اليونان إرضاء للخديوي،
وما كف عن حملته إلا عندما طلب إليه الخديوي ذلك لأنه آثر أن يستبدل بالجزيرة أطيانا في الأناضول وكذلك أدب الخديوي للأعيان الذين زارهم مأدبة خديوية، وكان من الملتفين حول المائدة الخديوية السيد بك أبو على ونجله أحمد بك لطفي السيد وحين وقعت حادثة الاعتداء على الخديوي في الأستانة سنة1914 كانت الجريدة أولى الصحف التي استنكرت الحادث ونشرت برقيات التهنئة بسلامته، وعبرت عن مشاعرها نحو الأمير بالعديد من القصائد والمقالات واستمرت العلاقة على هذا النحو حتى تم عزل الخديوي.
يرجع إذن تغير العلاقات بين الحزب والخديوي أساسا إلى علاقة الخديوي بممثلي الاحتلال وإن غلبت صفة العداء على هذه العلاقة. فمنذ البداية وقف الخديوي موقفا عدائيا من جماعة الجريدة.
في الوقت الذي لم ينس فيه تأييد كرومر- عدوه- لهم، وقد قابلوا هذا العداء بالتجاهل والإنكار، حيث لم تكن سياسة الوفاق قد استقرت بعد، ثم أخذ عداءه لهم مسلكا عمليا، بتهديد الموظفين منهم بالنفي والتشريد،
كما أغرى البعض بالرتب والنياشين واستخدم المؤيد في أضخم حملة لتفتيت الحزب، مستفيدا فى ذلك بما أتاحته له سياسة الوفاق، وبالمثل يبدو تقرب الحزب من الخديوي والتمسح بأعتابه حين بدا أن جورست قد تجاهله كلية وإن لم يصف الخديوي للحزب تماما عندما انتهت سياسة الوفاق،
وحلت محلها سياسة الخلاف أو الصراع مع كتشنر، مما جعل الخديوي يقبل يدا مدها له الحزب، الذي رغم إحساسه بضعفه أمام ممثلي الاحتلال، استمر في تقربه خاصة وقد تحدث الخديوي مع لطفي باعتزامه تغيير الوزارة وظهر أن العداء له قد ألحق بالحزب ضررا بليغا وأفقده قطاعا هاما من قطاعاته،
يضاف لذلك كله أن السنوات التي تلت عام 1911 بعد مجيء كتشنر قد حدت من قدرة الخديوي على الحركة مما أثر بدوره على ركود علاقته بالأحزاب كما أن حزب الأمة قد بدأ الضعف يدب في كيانه خلال هذه السنوات، بما لم يسمح لعلاقته بالقوى السياسية - ومنها الخديوي- أن تكون حيوية وزاخرة.
أما علاقة حزب الأمة بالاحتلال البريطاني فسوف نحاول إبرازها من زوايا ثلاث: أولها: موقف الحزب من معتمدي بريطانيا لدى مصر، وثانيهما: العلاقة برجال الوكالة البريطانية ، وأخيرا: موقف الحزب من مسألة الاحتلال والجلاء.
وينبغي أن نفرق بين علاقة الحزب بالاحتلال أو بسياسته كقضية عامة، وبين علاقته بممثلي هذا الاحتلال سواء في شخص المعتمد أو مستشاريه أو جهاز الوكالة البريطانية ككل. فالمسألة الأولى تعنى قبول الاحتلال كقضية واقعة مسلم بها أو عدم قبوله ، والإيمان بسياسته أو رفضها ،
وبالتالي التعامل معه من منطق مصلحة ضيقة خاصة أو من منطق المصلحة الوطنية العامة ، بينما المسألة الثانية تعنى العلاقة الخاصة أو الشخصية بما تحمله من ارتباط سيكولوجي برجل مثل كرومر مثلا أو مثل كتشنر فالأخير شخص مكروه في كل الأحوال،
أما الأول فله عند جماعة الحزب رصيد قديم بينما قضية الاحتلال البريطاني لمصر حقيقة واقعة لا يغير منها تبدل هذه العلاقة الخاصة، اللهم إلا إذا كان على هذا الممثل للاحتلال أن يتخذ إجراء يضر بمصلحتهم أو وضعهم الطبقي، حينئذ ينعكس هذا الإجراء على موقفهم من الاحتلال بشكل عام، فلو أن كرومر ،
وهو على ما ذكرنا من العلاقة بهم اتخذ عدة إجراءات اقتصادية واجتماعية على حسابهم، لنافسوا رجال الحزب الوطني في عدائهم لشخصه، وللاحتلال برمته، وعلى ذلك ينبغي ألا يفارق أذهاننا معيار " المصلحة الطبقية لكبار الملاك" ونحن نحاول تتبع وتحليل نوعية هذه العلاقة سواء بشكل خاص يتعلق بممثلي الاحتلال أو بشكل عام يتمثل في وضع الاحتلال وسياساته.
ثمة نقطة أخرى تتعلق بالتعبير عن الموقف السياسي من الاحتلال فالمعروف أن الموظفين المنتمين للحزب كانوا أعضاء في جهاز الدولة الادارى الذي يسيطر عليه الاحتلال سيطرة تكاد تكون تامة، كما جرى العرف حينئذ بعدم اشتغالهم بالسياسة، من ثم يجب إبعادهم عن مسئولية التعبير عن الحزب وهو ما حدث بالفعل، فلم نعثر على مقال سياسي كتبه واحد من هؤلاء طوال فترة حياة الحزب،
أما بالنسبة للأعيان فلم تتح لهم ثقافتهم الدخول في معارك جدلية، كما أنهم قنعوا بدورهم في المجلسين النيابيين، واللذين لم يتعرضا لمثل هذه المواقف بشكل مباشر وفعال، من ثم تركوا الأمر لكتاب الجريدة، الذين وقعت عليهم مسئولية التعبير عن الموقف السياسي من الاحتلال.
وإذا جاز لنا أن نؤمن بأن يد كرومر هي التي صنعت هذا الحزب فمعنى هذا أنعلى الحزب أن يموت عشية رحيله أو أن يغير جلده بأسرع ما يمكن، لكنه لم يمت ، وكان من الممكن ألا يعلن عن نفسه بعد عدة شهور، على الأقل بهذه السرعة.
ورغم ما يقال عن حقيقة العلاقة مع كرومر فلا جدال في أن ثمة تطورات اقتصادية واجتماعية وفكرية أدت بشكل أو بآخر إلى ظهور طبقة الأعيان ومثقفيها على سطح الحياة المصرية، هيأت الحوادث لها أن تلعب دورها وخلقت لها صلاتها برجال الاحتلال، وتطرف الآخرين في عداء أو صداقة الاحتلال، وذلك التطرف- بشقيه- الذي يتنافى مع مصالحها النامية، المناخ الجديد للقيام بدورها ، فكان عليها أن تلعب دورها في كل الظروف والأحوال حتى لو رحل كرومر.
لم تكد تمضى على صدور جريدة الحزب سوى تسعة عشر يوما حتى أبرق كرومر إلى وزير خارجية بلاده باستقالته وبذلك واجهت الجريدة وحزبها موقفا جديدا لم تكن قد استعدت له، حتى أن بعض المصادر تذكر أن الحزب قد غير خطته فور رحيل كرومر ويبدو لنا أن الجريدة حتى إعلان كرومر لاستعفائه في 13 أبريل 1907 لم تكن تدرى بذلك، حتى أنها لم تقصد في مديحه كما لم تنتقد شيئا من سياسته،
وإنما كانت تسمى الاحتلال " سلطة الإرشاد" وأثنت عليه- من منطق المصلحة- أنه ممن نبهوا الأمة في بوادر الأزمة المالية بما كتبه في تقريره عن عام 1906 ونصحها بالتبصر وعدم التهافت في الاشتغال بالمضاربات مع الشركات وعندما صدر تقريره الأخير، لم يسعها إلا تلخيصه على ما به من هجوم على الحركة الوطنية، واتهامها بالعداوة الجنسية والدينية وتشككه في تمثيل الحزب الوطني لرغائب الشعب الحقيقية،
واقتراحاه إنشاء مجلس شورى مختلط وكلها أمور اهتمت الجريدة بمعالجتها والتعليق عليها فيما بعد ، لكنها وإن كانت قد هاجمت الاقتراح الأخير إلا أنها لم تعلق على هذا التقرير بشيء في حينه، ذلك أنها لم تكن قد عرفت شيئا عن استعفاء اللورد، وهذا بخلاف بقية الجرائد وبخلاف ما عملته إزاء تقارير السنوات التالية.
وحالما أشيع خبر الاستعفاء بادرت الجريدة بنقل ما أعلنه جراى على مجلس النواب الإنجليزي من أن كرومر " بعد الاستشارة الطبية رأى أن لابد له من الاستعفاء بسبب صحته" متبنية بذلك وجهة النظر الإنجليزية، وبغض النظر إن كان ذلك صحيحا- وقتها – أم غير صحيح كما نشرت برقية كرومر التي ذكر فيها أنه " يهمه كثيرا جدا أن يعلم الأسباب التي حملتني على اتخاذ هذه الخطة إنما هي أسباب صحية لا غير وأن ليس لها أي علاقة بأسباب سياسية" ثم ترجمت للورد وعلقت " بأننا الآن أمام وداع شيخ كبير المقام لأمته بما يجب عليه من صادق الخدمة ،
نقول أن العارفين بصفاته الشخصية يروون عنه حب الق والعدل وحسن المقابلة والمعاملة..." ولع الجريدة بتبنيها لوجهة النظر هذه قد تجاهلت ضغط الأحداث على كرومر، الذي أفقده توازنه وقدرته على الاستمرار في منصبه، والذي حدا بحكومته إلى المسارعة بقبول استعفائه خاصة ومصر كانت تغلي أثر دنشواي التي هزت كيان السياسة البريطانية وخاصة كذلك وأن تأكيد كرومر بأن استقالته لأسباب اعتلال صحته التي أضعفتها الظروف السياسية بينما كانت الجريدة ترجو له الشفاء بعد راحة طويلة، فإن كل ما يشكو منه ضعف شديد في الأعصاب ،
ولما استنكرت "اللواء" موقف الجريدة تساءلت هذه : وأي علاقة بين السياسة ووداع رجل كبر أصبح في مصر ضيفا لا يملك من سلطته شيئا ولا رابطة بينه وبين من يتظنن اللواء في مبدئهم غلا العواطف الشخصية وفى قائمة مودعي كرومر برزت إلى جانب أعضاء الوزارة وكبار الشخصيات الأجنبية في مصر أسماء محمود سليمان، والدمرداش، وقاسم أمين، وخالد لطفي، وإدريس راغب، كما ابدي شعراوي استعداده لحضور حفل الوداع بينما لفر جميع الوطنيين من ذلك وكانت جرائد الحزب الوطني تحرض الناس على الابتعاد عن هذه المظاهرة.
كان على الجريدة أن تبرر موقفها بالنسبة للحركة الوطنية فأنشأت تنادى بأن سياسة معاندة الاحتلال عقيمة، إذ كيف يقبل المعاند أن المعاند حسابا على أعماله، بل كيف يرجو من العدو عدوه إصلاحا لحاله، وفى هذا من التناقض ما فيه، فكيف يقبل العدو محاسبة من عدوه أ كيف تقبل سلطات الاحتلال محاسبة المصريين لها وهم أعداؤها بمنطق الجريدة؟
ورأت الجريدة في هجوم الصحف الوطنية على " العقلاء من كبراء الأمة" وهو يودعون كرومر، هجوما على حرية هؤلاء من جرائد تدافع عن الحرية، وقد أحسنت الجريدة وداع اللورد كما أحسنت مجاملته لكنه أعلن في خطبة وداعه، أن الاحتلال باق إلى ما شاء الله، ووصف المصريين بأنهم شعب من العميان، وأهان مصر إهانات لم تغتفرها الصحافة الوطنية، فماذا كان رد الجريدة؟ تمنت لو أن اللورد مال إلى عطفه التوديع فيذكر عن الأمة المصرية شيئا من الخير ولكنه عمد إلى النقيض ،
ولم تر في تبشير اللورد ببقاء الاحتلال إلا سوء مجاملة " لو قال بأنه باق حتى تبلغ الأمة حكم نفسها بنفسها لكان ذلك أدعى على المجاملة اللائقة" وظلت الجريدة تنادى بالمحاسنة ، وإن كانت هذه المرة قد دعت الاحتلال ذاته بمحاسنة الأمة حتى تعترف له بجميل وفى مقال طويل حللت سياسة كرومر تحليلا نقديا تحت عنوان " لورد كرومر أمام التاريخ" قسمت فيه أعماله قسمين قسم اقتصاد مالي، وقسم سياسي، اعترفت له في القسم الأول بالفضل الكبير وقدمت له الشكر الجزيل، في حين كان كرومر يبغى بالإجراءات المالية صالح دولته من ناحية مضمون هذه الإجراءات ،
أما من الناحية الشكلية فكان يهمه إقناع الدول الأوربية بأن مصر في سبيلها على تسديد ديونها، كما كان يبغى من ناحية أخرى أن يبدو في عين المصريين في ثوب المصلح الأوربي المنشود وهو ما أشادت الجريدة به فعلا، كما ركزت على الجانب الذي يهم رجالها بشكل يحمل معنى الاعتراف بالجميل.
أما الجانب السياسي فقد رأت أن اللورد " كان مجاهدا يستنبط في كل زمن وسيلة جديدة لارساخ قدم دولة في وادي النيل والنتيجة أننا لو نظرنا إليه بعين مصري فلا يمكننا أن نصوغ له شيئا من الثناء فإنه حرم مصر حياة سياسية تطمح لها كل أمة حية" لكنها وهى تبدو منتقدة لسياسته ترى أنه كان بوسعه أن يحصل لدولته على أكثر الفوائد التي حصل عليها لوأنه صرف همه أيضا في كسب ولاء المصريين الذين وصف نفسه بأنه صديقهم...".
وإذا جاز لنا أن نعترف ، مثل لطفي السيد ن أنه خدم بلاده تماما فهل لا يتناسب ذلك تناسبا عكسيا مع خدمته لمصر، أم أنه ليس هناك تعارض بين مصلحتي بريطانيا ومصر، حتى أن اللورد بتعاونه مع أصدقائه المصريين يستطيع أن يحصل لبلاده على فوائد أكثر؟
وعندما أصدر كرومر كتابه " مصر الحديثة" تناولته الجريدة بالتخلص من 5 إلى 9 مارس 1908 ثم أزمعت الرد عليه في شكل كتاب بعنوان " الانكليز في مصر" لبيان خطته وبيان سياسة الاحتلال في مصر والسودان، ووعدت بترجمته إلى الإنجليزية وتوزيعه في أوربا ولكنها لم تفعل أكثر من كتابة مقدمته وخطته .
وإذا أخذنا في الاعتبار أن الحزب فقد الأمل تماما في عودة كرومر مرة أخرى وأن بعضه شرع في كتابة عريضة لانجلترا بطلب إرجاعه وإذا عرفنا أيضا أن سياسة الوفاق (عباس – جورست) قد بدأت ترسخ ، أمكننا أن نعرف لماذا بدأت الجريدة حملتها على كتاب كرومر، برغم سلبية النقد وهزاله ثم توقفه بعد مقال واحد،
وكذلك احتداد لهجتها ووقوفها موقفا انتقاديا بعد مقال واحد، وكذلك احتداد لهجتها، ووقوفها انتقاديا من اللورد كرومر وسياسته ، فذكرت أنه كان يتدخل في أصغر الأشياء حتى تعيين مأموري المراكز، وفى خطبة لطفي السيد بنادي الحزب ( 1908) ذكر أنه كان يسير على ضرب من الاستئثار بالسلطة تقتضيه مصلحة الاستعمار، إنماء الحركة الاقتصادية يأمن بها الأوربيون عل مصالحهم فلا يحركون ساكنا في المسألة المصرية، وهكذا فسر لطفي السيد أخيرا إصلاحات كرومر الاقتصادية ووصف سياسة اللورد في النهاية بأن من جرائها القضاء على كل رجاء مصري في الاستقلال
وعندما حمل كرومر في مجلس اللوردات في يوليو عام 1908 على الرأي العام في مصر رد عليه لطفي السيد بمقال ذكر فيه أن اللورد كفانا مؤونة إثبات سوء نية الانكليز، بالتعليم العام في مصر، وتساءل : هل حملت الصحافة على الانكليز بشيء لم يعترف به لورد كرومر؟
وهكذا تغير موقف الجريدة ، وللمرة الأولى، مكن كرومر وسياساته، بعد رحليه والتأكد من أنه لن يعود وبعد أن بدا أن سياسة الوفاق قد أخذت سبيلها على النجاح، فهاجمت رجلا لم يعد في السلطة ، حيث لم يعد لانتقادها أية قيمة، وحيث لم يعد لسياسة المحاسنة قيمة، وحين انقطع بينه وبين مصر نسب السياسة .
استشير كرومر فيمن يصلح أن يكون خلفه فأشار بتعيين جورست، لكي يتمم ما شرع فيه ، ووصفه بأنه " ذكى نبيه، متشرب من مبادئ ومطلع على أحوال مصر" وكأن كرومر كان يتوقع ما سوف تثيره خطبة وداعه، وإفصاحه عن نية بقاء الاحتلال لهذا أشار على جورست أن يكمل ما بدأه من مساعدة المعتدلين من ألعيان على إبراز حزبهم فهل نفذ جورست ما أشار به سلفه؟ لم تكن بريطانيا قد رأت نتيجة تشجيع كرومر للمعتدلين، وكان على جورست أن يتبع إحدى السياستين:
إما معادة المعتدلين، بكسب الخديوي إلى صفه وضرب القوى الوطنية وعزلها بالوفاق معه. أو بكسب المعتدلين بمعاداة الخديوي ومعه القوى الوطنية الأخرى، وقد بات أمر المعتدلين معروفا لدى جورست، ومن ثم لم يخش بأسهم وراء ألا داع للاستمرار معهم فوجه ثقله نحو الخديوي لاكتسابه وإبعاد الوطنيين من حوله وتعريتهم حتى يمكن تصفيتهم.
كما بات واضحا أن بريطانيا ، عقب دنشواي تواجه مشكلات أكثر إلحاحا : تحدى ألمانيا العسكري وقوتها الدبلوماسية ، والمسألة الايرلندية ، واعتراض مجلس اللوردات على ميزانية لويد جورج وما ترتب على ذلك من مناقشات حول الإصلاح البرلماني، وكانت أغلبية الأحرار في البرلمان قد تناقضت منذ عام 1906 ،
كما أن إحساسهم بالإثم بسبب دنشواي قد تلاشى مع الوقت وأصبح الوزراء أكثر التزاما بالمحافظة على مصالح بريطانيا الاستعمارية وأقل حرصا على تشجيع الحكم الذاتي، وأخيرا فإن وفاة السير هنرى كامبل بانرمان رئيس الوزراء المتطرف بعض الشيء عام 1908 قد أتاحت للثلاثي الاستعماري المكون من اسكويث وجراى وهولدين، السيطرة على مجلس الوزراء.
وبالنسبة لحزب الأمة فقد شرع منذ البداية يخطب ود العميد الجديد فذكرت جريدته سعى كرومر مشكورا لتلبيته طلب بعض كبار المزارعين ومنع بيع أملاك الدائرة السنية للشركات الكبيرة، وبيعها لهم حصصا صغيرة وأملوا أن تكون هذه سياسة خلفه أيضا كما محضته النصح بأن يعتمد في معلوماته على كبراء الأمة الذين تربطهم به رابطة العمل بالضرورة.
وكان على جورست قبل كل شاء أن يترضى الخديوي الذي ألقت به معاملة كرومر القاسية في أحضان مصطفى كامل وحزبه، وحتى جعلته يصرح بأنه يميل إلى الحياة الدستورية. وقد نجح جورست في هذا الترضى نجاحا عاجلا وانحرف نحو السلطة الشرعية انحرافا شديدا وأطلق يد عباس في أمور كثيرة وعزف عن التدخل رسميا في عمل من أعمال الحكومة وألقى كل المسئولية على كاهل الموظفين في الأعمال التي تتعلق بهم، وكان يود أن يسير مع الجانب العالي سيرة الملاينة والمجاملة وقد لخصت خاتمة تقريره عن عام 1908 فلسفته وهى أنه ينبغي على الإنجليزي الذي يخدم في مصر أن يتولى القيادة دون أن يظهر بمظهر القائد، وهذا يقتضى منه أن يعمل من وراء ستار.
وقد تحدثت مصادر عديدة عن أن تغيرا كبيرا قد حدث في سياسة حزب الأمة نتيجة الوفاق فقد انحرفت الجريدة عن تأييدها للاحتلال وتاقت إلى التأييد العام بمهاجمتها المعتمد والاحتلال وكبار الموظفين وأنه تحول من طلب الإصلاحات التدريجية إلى المطالبة صراحة بالاستقلال التام فلم يمض على هذه السياسة شهرا حتى بدت النغمة الانتقادية للجريدة أكثر حدة على أن حملتها لم تتجاوز حدود النقد الحصيف ولم تقصد من وراء حملتها أن تطالب بإنهاء الاحتلال.
وعلى مدى عام كامل لم تفصح الجريدة عن موقفها من جورست أو خلال ما سمى بعام الوفاق الأول ذلك أنها كانت تستنكف غذ ذاك موقفه من الأعيان وتتفحص علاقته بالخديوي وما يترتب عليها.
ثم هي تحاول بطرف حفي أن توجه أنظار السير إلى أهمية كبار الأمة حتى أنها عندما أحست بخيبة الأمل وطفقت تهاجم تقريره في مايو عام 1908 أبانت أنها " كانت تتوسم فيا أن يكون مؤديا فكرة الطبقة العالية من المصريين على حققتها كما هي" وحين اتضحت لها أبعاد سياسة الوفاق وأن تجاهله لحزب الأمة بات أمرا مؤكدا اندفعت يائسة في مهاجمته واصفة سياسته بأنها سياسة الألغاز والأحاجي،
سياسة المطل والتسويف وكان أول م أخذته عليه هو سياسته الاقتصادية " فقد أقام بين ظهرانيها عاما كاملا تفشت في خلاله الأزمة المالية تفشيا هائلا فلم يشأ أن يمد يده لمساعدة الأمة بأي صورة من الصور ...
والسير جورست باتفاقه مع السلطة الشرعية أشد خطرا علينا من اللورد كرومر " واتهمت الحكومة بأنها رفضت أن تمد يدها بعمل يخفف من الأزمة المالية. كما مست هذه السياسة حجم الحزب كما رأينا عند خروج الكثيرين عليه، وخاصة الموظفين الذين آثروا جانب الحكومة وقد أبان الحزب عن استيائه وحنقه على ذلك بأن كتب لانجلترا مطالبا بعودة كرومر، بالرغم من أن سياسته لا تخالف مطلقا سياسة سلفه . كل ما في الأمر أن جورست باتفاقه مع الخديوي كان أشد خطرا عليه.
المهم أن جريدة الحزب بدأت بالفعل حملة صادقة على سياسة الاحتلال البريطاني في شكل سلسلة مقالات بعنوان " نحن والاستقلال" حللت فيها وعود وأعمال جورست ووصفت الحالة السياسية في عهده بالغموض وانتقدت سياسته المالية التي أفقدت أوربا الثقة بالسوق المصرية وانتقدت كذلك سياسته الإدارية ومداخلته في أمر الحكومة فوق ما تجيزه القوانين ،
أما سياسته التعليمية فقد وصفتها بأنها لم تكن أكرم من سياسة سلفه وطالبت بإلغاء مناصب المستشارين، وتساءلت هل شرعت انكلترا لنا الدستور حتى تميت الاستبداد سبب الفساد؟ كلا وخلال بقية عام 1908 لم تتوان الجريدة عن الهجوم على سياسة الوفاق التي أبعدت حزبها عن الوكالة ، وألقت بالخديوي في أحضان جورست مما أفقده تعاون حزب الأمة ،
الذي كان من مؤيديه أعضاء في الوزارة ومجلس شورى القوانين والجمعية لعمومية والهيئات القضائية. بل أدى إلى هجومه على سياسته واتهامها للوفاق بأنه مبنى على تخدير الشعور الوطني والتغلغل في جميع المصالح والقضاء على شخصية الأمة وإيقافها في المدنية عند حد لا تستطيع معه أن تتطلع إلى الحرية والاستقلال كما أدت هذه السياسة أخيرا إلى جعل حزب الأمة والقوى الوطنية الأخرى في معسكر واحد،
انبرت الجريدة تدافع عن الحركة الوطنية المصرية ضد اتهامها الصحافة الإنجليزية مؤكدة أنها حركة طبيعية " سببتها كراهيتنا للحكم الشخصي على أي صورة" وأبانت أن الإنجليز من خلال تقاريرهم وتصريحاتهم وتصرفاتهم في مصر، يطمعون في شيء أكثر من المحافظة على طريقهم للهند ومصالحهم المالية وفى تقييمها للعام الثاني لسياسة الوفاق أثارت الرأي العام على سياسة جورست ، فلا يحل في شرعة التمدين أن تتخذ الأمة كمية عاطلة لا يحترم لها قول ولا يجاب لها طلب".
وقد أبدى جورست سخطه على حزب الأمة في تقريره عن عام 1908 ورأى في انتقاد رجال الحزب الوطني للحكومة والسخط عليها أمرا طبيعيا بينما يبدو غريبا أن يقف سواهم ممن هم أقل تطرفا، هذا الموقف ، وفسر ذلك بانتشار روح التمرد في البلاد الشرقية نتيجة الحركات الدستورية وتفشى روح حب الشهرة والظهور بالحملة على سياسة الحكومة ورجالها،
ولكنه أمل يزول ما تطرق إلى قطاع كبير من الطبقات العليا من تطرف وحدة بالصبر ومرور الزمن كما أوعزت سلطات الاحتلال إلى رجال الإدارة بالتدخل في انتخابات مجالس المديريات حتى لا يفوز أحد من أعضاء حزب الأمة ، ويذكر الهلباوي أن سقوط لطفي السيد وأعضاء الحزب الآخرين كان نتيجة لذلك .
وقد شنت الجريدة حملة شعواء عل هذا التقرير بدأت في 10 مايو عام 1909 أوضحت فيها أن جورست أثبت أنمصر لن تستقل حتى يظهر ارتقاؤها، وأنه يجب حرمانها من هذا الارتقاء باستدامة النظام البيروقراطي، وأن الذي يحكم على كفاءة المصري هم المحتلون، وردت عليه طعنه على كفاءة مجلس الشورى، وأرجعت بطأه إلى تفريق الحكومة بين أعضائه بالرتب والنياشين، وانتقدته لذلك مر الانتقاد.
وقد استمر عداء حزب الأمة للمعتمد البريطاني خلال عامي 1909 ، 1910 وعندما صدر تقريره عن عام 1909 ردت عليه الجريدة مفندة كل نقطة فيه، مختتمة انتقادها بالإشارة إلى علاقة مصر بانجلترا للمرة الأولى فذكرت أن " من الواجب علينا أن نذكر دائما أن علاقة انكلترا بمصر علاقة مؤقتة صرفة وليس لها أدنى صفة من صفات العلاقات الشرعية كعلاقة اللحاق أو الحماية أو علاقة الاحتلال بالقانون".
وفى أسى عميق تحسرت " الجريدة" على أن الوفاق لم يكن مع الأمة " أن المحتلين كان في استطاعتهم أن يجربوا هذه التجربة الجديدة: تجربة الوفاق مع الأمة، يساعدونها على الدستور فتثق بوعودهم ويعلمون حقيقة لخيرها فتعتمد على صداقتهم ،
فإذا حان أجل الجلاء لا يجد الإنجليز لهم أصدقاء أوفى من المصريين" وألمحت إلى أن الأمة ليست طرفا في هذا الوفاق على ما في ذلك من التناقض ،وإذا ما تذكرنا مفهوم الحزب عن الأمة التي يترأس عائلاتها أعضاؤه، فمن المحقق أنهم كانوا يريدون الوفاق مع حزبهم وليس مع الخديوي
ولما لم يأبه جورست لذلك المحوا إلى أنه من الممكن أن يكونوا طرفا في هذا الوفاق، وهذا يدل على مدى التخبط الذي عاناه الحزب، وما أن أحسن أعيان البلاد استقبال جرست في سياحته، حتى أبدت الجريدة انتقادها لذلك ، على استحياء وعلقت بأن " الذي ينكر كل الإنكار ولا تبيحه الحرية ولا المصلحة المصرية هو أن يقاد الأعيان لاستقبال عميد الدولة المحتلة " وفسرت ذلك بضعفهم أمام الحاكم وميلهم التقيلدى إلى الوقوف بين يدي هذا الكبير أو ذاك لذلك لم تر الجريدة بدا من التراجع عن هجومها العنيف، وفى الوقت الذي اعتلت فيه صحة جورست، كما أن علاقة رجالها بالخديوي قد سارت في طريق التحسن،
ومن ثم ذكرت " أن من الخطأ الصريح أن يظن بأن المصريين يعتمدون في بلوغ أمانيهم على مناوأة الاحتلال ويتصورون أن معاندته تعجزه فتقضى على وجوده في البلاد... إننا حاولنا إعجاز انكلترا ومن انحن بمعجزين وفى ذلك عودة إلى سياسة الملاينة مع رنة من اليأس الناتج أساسا على إحساس الحزب بالضعف نتيجة انصراف بعض الأعيان عنه، وانشقاق الموظفين وبعض الشخصيات عليه وإنهاكه من حدة الصراع مع الخديوي.
وإذا كانت علاقة الحزب بالسلطة الفعلية نابعة أساسا من رغبته في الحصول على هامش يتيح له الاشتراك في السلطة ، فإن موقف جورست من الخديوي والحركة الوطنية- وفاق مع الأول وصدام مع الأخير- أربك حزب الأمة وافقده الثقة في الركون إلى السلطة الفعلية ممثلة في جورست آنذاك، ومن ثم سعى الحزب نحو الخديوي – خصمه الاستراتيجي- في محاولة يائسة لإيجاد تنوع من التناقض بينهما قد يفيد منه بشكل أو بآخرون
ولكن الأحداث كانت أسرع مما توقع الحزب، فما لبث جورست أن مرض مرضا جعل الدائر البريطانية تفكر في تعيين خلف له، وما أن شاع أن بريطانيا سوف ترشح اللورد كتشنر معتمدا لها في مصر حتى بادرت الجريدة بنشر مقال عن " النعومة والخشونة" أوضحت فيه أن لا فرق بين العميد المريض – جورست – وسلفه ، إلا ما بين خصمين سياسيين لمصر أحدهما لين البنان حلو اللسان والآخر قوى البأس صعب المراس، ولكن كلا الرجلين يقول انكلترا قبل كل شيء، فإذا جاء اللورد كتشنر وتجبر وتكبر ثم رأى من الحق والإنصاف أن ينصح الحكومة بتوسيع اختصاص الشورى تمهيدا للدستور أو بإلغاء قانون المطبوعات، فهو أفضل من أي معتمد يذوب رقة ولطفا...".
لقد تمنت بذلك إشراك حزبها في الهيئات السياسية القائمة، وأفصحت عن رغبتها حين تمنت أن يكون عهده عهد وفاق مع الأمة وقد أدلى الشيخ عبد الرحيم الدمرداش بتصريح لصحيفة الجازت رحب فيه بكتشنر، ودعا مواطنيه إلى معاونة الإنجليز على ترقية البلاد وتحضيرها والعدول عن الشكوى من الاحتلال والهياج عليه، وقد أيد لطفي السيد نفس المعنى في حديثه لنفس الصحيفة
وحين حللت الجريدة الأسباب التي حملت بريطانيا على تعيين كتشنر، أبانت عن أهمية موقع مصر للمحافظة على الهند، وذكرت أن " البانجرمانزم" في سياسة ألمانيا نحو الشرق وتحالفها مع " البانسلامزم" يجعل مركز الإنجليز في خطر، ومن ثم كان اختيار كتشنر لهذا المنصب هو اختيار تمليه السياسة البريطانية التي تتوخى مصلحتها وبذلك ظلت الجيدة طامعة في تحالف كتشنر مع الأمة ومنحه لها حق الاشتراك الفعلي مع الحكومة وهى تعلم أن كتشنر ما اختير بالذات إلا ليحمل السوط والعصا متوخيا مصلحة بلاده،
كما ذكرت أنها لا تستطيع أن تحكم على سياسته حكما قطعيا وهى تعلم – أيضا- الظروف الدولية التي حدت بريطانيا إلى هذا الاختيار، في الوقت الذي أثار هذا التعيين قلقا لدى الدوائر السياسية والوطنية، خاصة وقد أرسلت الوكالة البريطانية صورة الخطاب الذي كان كتشنر ينوى إلقاءه أمام الخديوي، وكان يشتمل على معان تفيد رغبته في التدخل في صميم شئون مصر، وكان هذا الخطاب غريبا ومحرجا للخديوي وللوزارة.
وبالفعل ما أن أتى كتشنر إلى مصر حتى طرح سياسة سلفه وآثر الرجوع إلى خطة الإشراف الإنجليزي المتسم بالنشاط واليقظة، وإلى حكم المصريين بنفسه، ولهذا أصبحت الحكومة أوتوقراطية أكثر منها في أي وقت مضى منذ الاحتلال ، إذ أخضعها كتشنر لإرادته تماما وتوسع في توظيف الإنجليز في الإدارة، في الوقت الذي تحول فيه هؤلاء إلى بيروقراطية جامدة متباعدة عن الشعب تماما وكان تدخله هذا مقصودا لمحاربة الخديوي وتوطيد سياسة الاحتلال وكان أن أعلن استياءه من الأحزاب، ورأى أن صراعها مع بعضها لا يؤدى إلى التقدم،
وقد ذكر أن الاهتمام بالمسائل السياسية اهتماما يقترن بالهدوء مفيد للحاكم والمحكوم لكن الاهتمام الذي يبنى على تحريف الأقوال، والذي يدون بأموال الحزب وإجراءاته فلا جدوى منه .
وإزاء صرامته وتصريحاته لزواره ولأصحاب صحيفة المقطم التي تشير بعدم انتخاب رجال الأحزاب أو المشتغلين بالسياسة قل دوران كلمة الأحزاب على الألسنة إلا مقرونا بالاحتقار والابتعاد عن الانتساب إليها وقد احتارت الجريدة في وصف سياسة كتشنر :
هل هي سياسة خلاف أم وفاق؟ وإن كانت قد عادت فوصفتها بأنها " سياسة الشدة" وأبدت اعتقادها بأنها ليست وفاقا مع السلطة الشرعية على أية حال ، وطلبت من كتشنر، الذي لمصر عليه حقوق سابقة أن يمعن النظر في الحال الحاضرة فيخلى بين النفوس وبين الحرية" ثم احتدت لهجتها بعض الشيء عندما أعلن كتشنر بأنه لا يريد في البلد أحزابا سياسية، وذكرت " أن من الخور وقلة الوطنية أن يجاريه رجالنا في قوله هذا لأننا ما كنا نعمل طبقا لرغبات الاحتلال ولم نكن لننتظر حكم الاحتلال على حركتنا الوطنية حتى نتبعه في أمرها" .
وحين أدلى كتشنر بحديث إلى صحيفة المورننج بست، وأنكر فيه وجود الأحزاب وذكر أن الموجود فعلا هو أشخاص يعملون في الأحزاب لمصالحهم الخصوصية ، انبرت الجريدة للرد عليه وذكرت أن هناك صدورا وأعيانا خزائنهم عامرة ونفوسهم شابعة من خير الله يشتغلون لمصلحة وطنهم، وأن كل من يطلب إلى حزب في بلاد استبدادية أن يضارع غيره في بلاد برلمانية كمن يطلب الطيران من مقصوص الجناح.
وهكذا بدا أن المعركة بينهم وبين كتشنر قد دارت حول احتقاره أو إنكاره لوجود أحزاب مصرية بالمعنى الصحيح وإثباتهم لوجودهم بشكل ما ، ولم تتعد أكثر من ذلك لتتصل بقضايا السياسة، وإزاء عناده وتشدده في إنكار وجود الأحزاب أصلا ، من ثم لم يروا بدا مم التراجع في حملتهم خاصة بعد عام 1912 ، حتى أننا نلمس اتجاه جريدتهم إلى توجيه المصريين وترشيدهم ، فقد طغت هذه السمة على سمة النقد، إلا أن هذا اللين ليس قاصرا على الجريدة وحدها بل شمل الصحف الوطنية الأخرى ،
وكان لأتباع كتشنر لسياسة زراعية طيبة وزياراته للأقاليم واحتفاء الأعيان به في سرادقات أقاموها له وأعضاء الجريدة عن التعرض لسياسته بشيء ، أثره في اهتمام كتشنر بحزب الأمة حتى أنه افهم الخديوي أنه عند حدوث تغيير في الوزارة فإن الحكومة قد تفكر في حزب الأمة،
وقد كتب لحكومة بلاده في نهاية عام 1912 فوصفهم بأنه " طائفة من أصحاب الأراضي ليسوا أصدقاء للخديوي" وكان رد الفعل عند الجريدة أن بادرت اللورد كتشنر بالشكر والثناء، لأنه أنقذ البلاد من الإفلاس ونصح الفلاح بوجوب إيفاد الديون والاهتمام بالتوفير ، وعندما أصدر تقريريه عن عام 1911 كانت له المديح لهمته في مشروع المصارف " فلولاه لبقى هذا المشروع العظيم في قمطر الأوراق المخزونة "
وبذلك تغير موقف الجريدة للمرة الأولى من اللورد كتشنر وانتقلت من طور إثباتها لوجود الحزب إلى طور الإشادة بمنجزات كتشنر الاقتصادية والزراعية بوجه خاص. في الوقت الذي لم تتعرض فيه للمسائل السياسية من بعيد أو قريب .
فسارت في نفس الطريق الذي اختطه كتشنر للبلاد.
من ذلك كله اتضحت علاقة حزب الأمة" رسميا" بالمعتمدين البريطانيين في مصر، الذين عاصروا حزب الأمة ولكن ثمة جانب آخر يكمل صورة موقف الحزب من الاحتلال، يتمثل في العلاقات ذات الطبيعة الخاصة بين بعض رجال الحزب أو فئاته ودار الوكالة البريطانية في مصر،
فالمفهوم أنه لا تقع مسئولية التعبير عن الموقف السياسي للحزب على الموظفين المنتمين له، بحكم أنهم لم يتصدوا لذلك في جريدة الحزب، وبحكم وظائفهم التي حالت دون عملهم بالسياسة العملية أو الصحافة، وعملهم في جهاز الحكومة، الذي يحول بينهم وبين انتقاد مسلكها، وبالتالي مسلك الاحتلال المسيطر عليها، ولكن يبدو، إلى جانب الأسباب السابقة، أن هناك سببا آخر يحول دون ذلك ،
وهو العلاقات ذات الطبيعة الخاصة أو الشخصية التي تربطهم برجال الاحتلال، حتى أنها جعلتهم موضع اتهام بالنسبة للقوى الوطنية الأخرى، التي تشككت في نوايا الحزب ومع ذلك لا نستطيع أن نخرج " أعيان الحزب" عن دائرة هذه العلاقات ، خاصة وقد خطب الأعيان ود قواد جيش الاحتلال منذ دخلوا مصر وقدموا الهدايا لهم، وكان رئيس الحزب، ضمن لجنة شكلت لذلك، وحين كتب كرومر لحكومته عن الاضطرابات القادمة واحتمال نشوب ثورة بالإسكندرية ،
ذكر أن عددا كبيرا من أشراف البلاد، وملاك الأراضي، وأعضاء شورى القوانين الذين يزورون الوكالة باستمرار قد عبروا عن استيائهم ، كما بدت هذه العلاقات فردية أحيانا، فمصطفى خليل استقبل ضباط الأسطول الإنجليزي، واحتفل بهم وخطب فيهم مطريا أعمال الاحتلال. كما أقام محمود الأتربى وعثمان سليط مرقصا لجند جيش الاحتلال .
بل إن المودة التي بين الشيخ الدمرداش والقادة الإنجليز جعلته يقترح على سعد زغلول أن يشتركا في مظاهرة إكرام للأسطول الإنجليزي القادم في ( 20 أكتوبر 1913) ، وعندما أراد الإنجليز الاستعانة بخبرات مصرية في المسائل الزراعية بالسودان استقدموا أحمد الباسل إلى الخرطوم وأكرموا وفادته، فكتبت الجريدة بذلك، وكان في مقدمه كتشنر عند زيارته للسودان، ويبدو كذلك أن ثمة علاقات شخصية بين بعض السيدات المصريات وزوجات رجال الاحتلال ، فنعلم مثلا من حديث ناصف عن اللادى كرومر أنهما كانتا صديقتين .
أما بالنسبة للموظفين، فقد سمحت علاقاتهم الوظيفية لصلاتهم برجال الوكالة ، بالنمو والاستمرار ، وإن غلب عليها الطابع الوظيفي نتيجة لذلك، وقد رأينا سياسة الاحتلال في توظيف أبناء الأعيان، وكان لذلك كله أثره في نشاط الحزب وموقفه من مسألة الاحتلال والجلاء فجورست يمتدح محمد محمود ، مدير الفيوم ويصفه بأنه جنتلمان صغير السن ويجب مساعدته وقد أهداه ملك وملكة الإنجليز صورتيهما، عندما صار محافظا لعموم القنال .
أما فتحي زغلول فكان يقبل معرفته بكرومر، صديقا حميما لمستشار الحقانية( مكلريث) وكان يطلعه على بعض المسائل المتعلقة القضايا الوطنية دون علم الخديوي.
كما كانوا أحيانا يتكلمون في حق بعضهم في دار الوكالة البريطانية فسعد زغلول يروى أن محمد محمود قد اعترف أنه تكلم في الوكالة في حق أبيه وشعراوي باشا وقد عرفنا صلة مكلريث بعبد الخالق ثروت ومدى ثقته فيه، التي بلغت مسامع جورست، حتى أنه عندما رشحه له مصطفى فهمي نائبا عموميا، وافق على الفور كما وصفه في تقريره عن عام 1908 بأنه بالرغم من صغر سنه فقد ثبتت كفاءته ومقدرته في المسائل القضائية والإدارية.
وقد وقف ثروت موقفا لا يحسده عليه الوطنيون ، عندما كان نائبا عموميا وذلك حين دبرت ما عرف " بمؤامرة شبرا عام 1912" لاغتيال عباس وكتشنر ومحمد سعيد، وضبط خطاب من أحد المتهمين إلى آخر، اعتبره فلبيدس دليل اتهام وفسره النائب العام تفسيرا يتلاءم مع رغبة فلبيدس".
ولم يجد رجال الاحتلال خيرا من المحامين أعضاء حزب الأمة ، للدفاع عن قضاياهم ، فحين أقامت النيابة دعوى على مأمور ضبط القاهرة(فلبيدس ) انتدب عبد العزيز فهمي للدفاع عنه، ثم اعتذر عنها بعد أن علم بغضب الخديوي من ذلك وتولى الهلباوي عنه هذا الأمر، رغم اعترافه بأنه ممن يشكون في أمانة فلبيدس، فمعظم ما أصاب خيار الوطنيين من الاضطهاد والاعتقال والسجن يرجع إلى دسه عليهم وتحريض السلطة الإنجليزية على تعقبهم".
ويتصل بكل ما سبق أن سلطات الاحتلال كانت تتخذهم، حتى قبل إعلان حزبهم، رسلا " للتهدئة والتخويف" لدى الوطنيين ، فعندما حدث اعتصام طلبة الحقوق عام 1904 أرسل كرومر كلا من لطفي السيد وعبد العزيز فهمي ومحمد أبو النصر وحسن عبد الرازق لتسكين ثائرة الطلبة.
وقد روى شاهد أنه سمع عبد العزيز فهمي يقول لهم " أليس اللورد قادرا على إغلاق كل المدارس" وإذا اعتبرنا ذلك مبالغة من صحيفة ( مصر الفتاة) المنتمية للحزب الوطني، فإن سعد زغلول يروى ما يؤكد الفكرة وهو أن كتشنر كان متخوفا من أن يكون سعد رجل معارضة في الجمعية التشريعية، فأرسل له محمد محمود ليخبره ويمنيه بالوزارة كما أرسل له فتحي زغلول بمهمة مشابهة.
وهكذا يبدو أن العلاقات الخاصة بين دار الوكالة البريطانية ورجال حزب الأمة قد لعبت دورا مزدوجا، سواء فيما يتعلق بالحصول على الوظائف أو الترقي فيها بالنسبة لرجال الحزب، أو في احتواء الوكالة لهؤلاء ، بما لهم من نفوذ وتأثير ومعرفة ما يدور بين بعضهم والبعض الآخر.
ولعلنا بعد ذلك نتساءل: هل أثرت مواقف الحزب من المعتمدين البريطانيين ، وكذا علاقات رجاله بدار الوكالة البريطانية في مفهوم الحزب لقضية الجلاء؟ أو بمعنى أدق ما هي حقيقة العلاقة بين الاحتلال كأمر قائم ومفروغ منه ، والجلاء باعتباره مطلبا وطنيا عاما، لدى حزب الأمة ؟ لقد عرفنا أن برنامج الحزب قد أغفل الحديث عن هذه القضية الهامة، وإن كان قد أسهب فيما سماه " أدوات الاستقلال" بدرجة جعلت الحديث عن الوسائل يطغى على معنى ومفهوم الهدف.
الاحتلال: كما تقول الجريدة، مسألة قوة لا مسألة حق، والقوة تتغلب أحيانا على الحق فتنهشه ولكنها لا تعدمه أما مفهوم الاستقلال فقد ألقت عليه ظلا من التشويش ، فتساءلت كأنها تضع كل المفاهيم على مستوى واحد، ينادون بالاستقلال ولا ندرى هل يريدون من ذلك الدستور، وكيف يتفق وجود الدستور ووجود الاحتلال، أم يريدون بالاستقلال جلاء جنود الاحتلال عن مصر، أم يريدون به التسوية بين المصريين وبين الأجانب النازلين في مصر أمام القانون، أم يريدون بالاستقلال الكامل أي تكون مصر مملكة مستقلة عن كل من عداها من غير احتلال ولا سيادة"؟
ولكنها أجابت مفصحة بلسان لطفي السيد بأنه على الكتاب والأحزاب أن تشتغل من الآن في تعليم الشعب، فتشجع تعليم القراءة والكتابة وتعلم حقوق الأفراد من الحرية السياسية وواجباتهم من الطاعة للقانون .." وهكذا تجنب لطفي تحديد مفهوم الاستقلال كمطلب وطني ملح، وركز على إعداد الأمة بكفاءات الاستقلال الذي يأتي به الزمن.
وعندما فاه " جراى " بتصريحات حول بقاء الاحتلال بقاء غير مقيد، وثارت ثائرة الصحف الوطنية ، في الوقت الذي اشتد فيه تأثير سياسة الوفاق على حزب الأمة ، ثارت جريدة الحزب على هذه التصريحات ورأت فيها خروجا على قاعدة الرابطة بين مصر وانجلترا. فإن وعد الانكليز بالإصلاح ثم خروجهم كان هو الأساس للعمل بالاشتراك بين المصريين وبينهم وبهذا أقرت الجريدة بأن هناك" رابطة" بين مصر وانجلترا، وحسبت أن الإنجليز جاءوا مصر ليصلحوها ثم ينصرفوا.
ومهما يكن فإن السلوك العملي الذي ارتضته هو أنها طلبت من الوزارة الاستقالة احتجاجا على هذه التصريحات وتمادت أكثر في الخروج متجاوزة مفهوما عن الاستقلال ومبتعدة عن فكرة الإصلاح وأسلوب التدرج والاعتدال، فكتب لطفي السيد مقالا بعنوان" الاستقلال" وذكر فيه أن كل شعب مهما كانت تربيته راغب في الاستقلال عامل عليه مضح في سبيله كل ما عداه..
ويغلو بالمستعمر حب الاستعمار على أن يقول بأن مصلحة الأمة المغلوبة أن تبقى محكومة بغيرها ولكن لا يلبث لطفي في حديثه إلى مراسل الاجبشن جازيت، أن يعود على الحديث عن قاعدة التعاون مع الإنجليز لتقريب يوم الجلاء" فالجلاء إنما يكون متى بلغ المصريون درجة من القوة والمدنية لا تجد انكلترا عندهما عذرا به لأوربا عن استمرار الحالة الحاضرة"
ولما سأله المراسل عن مدى اعتقاده في جلاء الإنجليز أجاب لطفي " لسنا من الجهل بحيث نظن أن دولة ذات مصالح جمة في هذه البلاد وقد مضى عليها ثلاثون سنة وهى متصلة كل الاتصال تترك هذا الوادي لدى كلمة منا كأن لم يكن شيء" وفى لهجة العاتب يقول لطفي السيد للمراسل " إن انكلترا لا تكلف نفسها شرح قضيتها لهم".
ويبدو أن لطفي قد أحس أنه لم يقل للمراسل كل ما يريد فأنشأ مقالا طويلا يحدد فيه" نظريتنا في الاحتلال والجلاء" بدأه بالتساؤل : كيف يكون الجلاء؟ وأجاب عليه بعدة إجابات بشر فيها بأن ذلك لا يتم باختيار الإنجليز ما دامت مشاريعهم الاستعمارية متزايدة، وسفه القائلين بالاستعانة على انجلترا بقوة أخرى لأن هذه سوف تحل محلها وسخر من عقد معاهدة دولية كذلك لأن هذه الظروف السعيدة غير موجودة الآن.
وبعد أن سد لطفي كل السبل التي فتحها عاد إلى فلسفة حزبه مؤكدا أن الجلاء لا يتم إلا " بعملنا وارتقائنا بالقوة المعنوية، قوة العلم والصناعة والتجارة والمزاحمة" ويسهب في الحديث عن الكفاءات والأخذ بالممكنات دون المستحيلات " فالجلاء نتيجة لا مقدمة" واعتقادنا أن هذه النظرية التي جعلها حزب الأمة نصب عينيه، نظرية الأخذ بالأسباب هي أقرب الطرق إلى الجلاء وإن طال قليلا أو كثيرا.
ولسنا ندرى كيف يتم ذلك وسلطات الاحتلال بيدها كل شيء فتترك للمصريين ما يجعلهم أقوياء مما يقطع منفعتهم من احتلال مصر خاصة ومشاريعهم الاستعمارية في تزايد كل يوم كما ذكر لطفي في بداية حديثه. بل أنه وهو يتوجه بأحاديثه إلى الشباب يطلب إليهم الثقة بوعود انجلترا وتصريحات ساستها " بل يجب علينا أن نعمل مع الانكليز لبلوغ النتيجة النهائية وهى الاستقلال".
ورحبت الجريدة بمشروع محاكم الاخطاط باعتباره خيرا أيا كان مصدره، وعلقت بان الاحتلال فعلى صرف من أصله... ولئن أنكر الحق ذل فإن الحس لا ينكره لقد كان الاحتلال- بمفهوم جريدة حزب الأمة- قوة قاهرة أو نازلة من السماء نصرفها إلى مصلحتنا فإن لم نستطع فلندفع ضررها عنا فإن لم نستطع وجب علينا أن نتدرج إلى تخفيف هذا الضرر، وبهذا وضحت دون أن تدرى،
إن الأمة مغلوبة على أمرها، وإن مشاركتها للمحتل في الحكم نوع من الوهم، أو أنه يفتقد إلى المساواة ومن ثم يوضح لطفي أن رضى الأمة ، وعدم رضاها بأي مشروع كان لا يقدم ولا يؤخر صفة الاحتلال . أنه يعترف أن " حق الرفض" وهو حق سلبي، هو الآخر ضرب من الوهم لا جدوى منه في الوقت الذي ينادى فيه بسلطة الأمة، ولا يجد " سببا لليأس من قبل الاحتلال".
عندما أعلنت التيمس أن الاحتلال سوف يدوم لخصت الجريدة مقالها وحاولت استشفاف نوايا السياسة البريطانية دون أن تعلق عليها بشيء أو حتى تناقشها ولكن حين أخذت إشاعة ضم مصر للإمبراطورية البريطانية تنتشر ، وتواكبت معها إشاعة إعلان الحماية البريطانية عليها، وبدت نذر الحرب العالمية في آفاق السياسة الدولية أفصحت الجريدة عن موقفها،
وذكرت أن المصريين ولو أن بلادهم تحت احتلال انجليزي إلا أنهم لا يفضلون عليهم دولة أخرى تجيء مغيرة غازية، هي في الأخلاق والحرية واللطافة والكياسة أقل بكثير من الانكليز، فضلا عن أن الإنكليز اليوم لطول عهدهم بمصر صاروا أصحاب رأفة وحنان عليها وعلى أهلها..".
مما سبق اتضح لنا أن موقف الأمة من السلطتين الشرعية والفعلية ارتبط أساسا بمدى اتفاقهما أو اختلافها، الأمر الذي يؤثر بشكل مباشر في مسلك الحزب، إن لم يكن في تكوينه وحجمه وفترة بقائه ، لكن السمة الغالبة على موقف الحزب من الخديوي عباس حلمي كانت كما رأينا – سمة العداء ،ذلك أن طموح الأعيان السياسي قد دفع بهم على معاداة السلطة الخديوية والطبقة التركية القديمة التي كانت تساندها فلم تستطع أن تكون بديلا طبيعيا لهذه الطبقة،
وإن كانت قد عملت على أن تكون وريثا اجتماعيا لها كما لم يعد الأعيان قانعين بدورهم كما حددته لهم قوانين المجالس النيابية وصلاحياتها وبالمثل لم تكن أوتوقراطية الخديوي لترضى المثقفين من أبناء الحزب ها إلى معادة أصحاب المناصب منهم للخديوي، باعتبارهم جزءا من نظام أقامه كرومر عدوه اللدود.
وقد مرت علاقة الخديوي برجال الحزب من طور التعبير عن حقده وغضبه، إلى طور أكثر فعالية ، استغل فيه الخديوي ماأتاحه له الوفاق مع جورست ليبطش بالحزب وبالرغم من التحسن الظاهري في هذه العلاقة بعد انتهاء الوفاق، وتلويح كشتنر باستخدام القوة، إلا أن الخديوي لم يكن يأمن جانب الحزب بحال من الأحوال وقد كان عزل الخديوي إعفاء للحزب من اختبار صلاحية هذا التقارب عمليا.
أما السمة الغالبة على موقف الحزب من السلطة الفعلية، ممثلة في المعتمدين البريطانيين وجهاز الوكالة، فلم تكن سمة العداء أو التحدي ، ولم يتخذ هذا الموقف صراعا عمليا من نوع ما، مما يتطلبه الموقف الوطني عادة، على الرغم من أن جورست قد فعل ذلك بشكل مؤثر، بالنسبة للحزب عن طريق وفاقه مع عباس، وكان كرومر قد عاون الحزب ما استطاع وبكل وسيلة- عدا بذل الأموال وما كانوا بحاجة إليها- فصار رجاله أفضل أعداء انجلترا وإن لم يكونوا خلصاءهم الوطنيين ،
وظلوا على توددهم له حتى أحسنوا وداعه وما انتقدوه إلا بعد أن تأكدوا تماما أنه ذهب بغير عودة، وفى ظل حقدهم وعدائهم لجورست، الذي ما حنقوا عليه إلا وفاقه مع عباس، ولكن أملهم في عودة سياسة الخلاف مع الخديوي بمجيء كتشنر، قد خاب لدى تصريح المعتمد الجديد باستنكاره واحتقاره للأحزاب، وتجهمه لكل من الوطنيين والخديوي.
وقد انعكست هذه المواقف والعلاقات على نظرية الحزب عن الاحتلال والجلاء فالاحتلال نازلة من السماء لا يملك لها المصريون دفعا ومن ثم وجب عليهم الاستفادة من بقائه، وافترضت جريدة الحزب لذلك قاعدة للتعامل مع الاحتلال من منطق الأمر الواقع، تنبني أساسا على إعداد الأمة بالكفاءات التي تنتج الاستقلال ولو بعد زمن، مع التدرج والاعتدال والاعتقاد في صدق نوايا بريطانيا.
ولم يعرف لأحد من كتاب الحزب أو المعبرين عن أفكاره خروجا على هذا المعنى بشكل له دلالة بما يعج تطورا لذلك المفهوم . فطرحوا ببرنامجهم هذا المعنى وظلوا ينادون به طوال فترة حياة الحزب وجريدته دون أن يتجاوزا ذلك.
الفصل الرابع : حزب الأمة والأحزاب الأخرى
حزب الأمة والحزب الوطني: التكوين والتنظيم والمبادئ - تطور العلاقة
حزب الأمة وحزب الإصلاح على المبادئ الدستورية: التكوين والتنظيم والمبادئ ، تطور العلاقة
حزب الأمة والأحزاب الصغيرة : الأحرار ، الجمهوري ، المصري.
تتحد العلاقات بيت الأحزاب المصرية على أساس تركيبها الاجتماعي والأهداف التي تجمعت حولها ، وانطلقت منها منذ البداية ، ثم تتخذ طبيعة ديناميكية- مدا وجزرا- تبعا للأحداث التي تمر بها مصر داخليا وخارجيا ، ولسنا نريد اتخاذ علاقة كل منها بالقوى السياسية " الخديوي والاحتلال وتركيا" محورا لحركتها،ذلك أن هذه العلاقات بدورها متغيرة بتغير الأحداث،
ثم إن ثلاثتها لا تتخذ عمقا وتأثيرا واحدا، فعلاقة حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية بالسلطة الشرعية تحرك بصفة أساسية علاقاته مع الحزب الوطني وحزب الأمة، كما أن موقف الحزب الوطني من الاحتلال البريطاني يمثل محور علاقاته مع حزب الأمة، وهكذا ...
بالتالي فهي ليست العامل الوحيد في تحديد هذه العلاقات فقد تغير التركيب الاجتماعي لحزب من الأحزاب على علاقته بالأحزاب الأخرى، كما قد يطور الحزب برنامجه أو يغير مذهبه السياسي مما يؤثر أيضا في علاقات الحزبية. وإن كان هذا وذاك لم يحدث كثيرا بالنسبة للأحزاب المصرية عام 1907.
وعلى هذا سنبدأ دراسة علاقة حزب الأمة بالأحزاب المعاصرة من حيث التكوين والتركيب والأهداف، ثم الموقف من الأحداث وفقا لسياقها الزمني وأثرها على العلاقات الحزبية.
كان لابد للحركة الوطنية ، وقد شملها إطار واحد، أن يبرز فيها أكثر من اتجاه ، على النحو الذي ظهرت به بعد ذلك في شكل تكوينات عام 1907، نتيجة المصالح لدى عناصرها من ناحية ، تأثير الأحداث التي مرت بمصر من ناحية أخرى.
وجدير بالذكر أن نقاط الخلاف بين اتجاهي مصطفى كامل وأنصاره، وبين جماعة محمد عبده لم تكن حادة منذ مطلع القرن العشرين فقد وجدنا محمد فريد يرى أن مصر محتاجة لمساعدة الإنجليز. ومصطفى كامل يتحدث عن تأخر المصريين ، ويرى أن المسألة المصرية ليست هي مسألة الاحتلال ويسأل الإنجليز الوفاء بوعد " دفرين" ويبدى اهتماما بالإصلاح التعليمي والمجلس النيابي،
ربما يفوق اهتمامه بقضية الجلاء كما كانت " اللواء" تنادى بأن مصر للمصريين وأنه لا يوجد مصري جدير بأن يسمى مصريا يرضى لنفسه ولقومه أن تفقد مصر استقلالها الداخلي الذي قبلته تركيا وضمنته دول أوربا ، وكانت هذه المسائل محور اهتمام جماعة محمد عبده.
ولكن عندما برز اتجاه كل منهما بشكل واضح ، وتجمع داخل إطار حزبي عبر من خلاله عن موقفه من القوى السياسية وتصوره لأسلوب الكفاح بدأت هذه العلاقات تتخذ شكلا جديدا، اثر فيه تكوين كل منهما تأثيرا واضحا.
وأول ما نلمح في تكوين الحزب الوطني أن جميع زعمائه تقريبا ينتمون إلى فئتي كبار ملاك الأراضي والمهنيين مع غلبة المحامين.
وكان الشباب من أهم خصائصهم فلم يزد عمر أي مسئول فيه خلال فترة ازدهاره عن خمسين عاما كما كان الطلاب يمثلون جزءا رئيسيا في صفوف الحزب وتنظيماته وأجهزته الفرعية ومن باب أولى جمعياته السرية وفى حديث للطفي السيد مع مراسل صحيفة " الطان" ذكر أن أغلب المنضمين للحزب الوطني من الطلبة الفتيان.
أما المنضمون لحزب الأمة فهم من الأعيان ، بينما علقت " اللواء" على ذلك بأن الحزب الوطني هو الأمة المصرية من فتيانها إلى شيوخها عدا الجماعات التي تتألف منها الأحزاب الأخرى، وربما كان الداعي على هذا التعريف هو أن المادة الثالثة من لائحة الحزب الوطني تنص على أنه يقبل عضوا في الحزب كل مصري يتمتع بسمعة طيبة.
الأمر الذي أدى إلى دخول الوطنيين فيه أفواجا كما واصل الحزب اكتساب المزيد من الأعضاء مما يمكن قياسه بتضاعف عدد التنظيمات التابعة في القاهرة والإسكندرية والأقاليم والمدن الرئيسية في أوربا في حين كاد يقتصر تكوين حزب الأمة على الأعيان من رؤساء العائلات وأولى الرأي في الأمة من أبنائهم.
وبينما لم نجد شخصية مسيطرة داخل حزب الأمة، بالرغم من أن لطفي السيد كان المعبر عن آراء الحزب، إلا أن ذلك لم يكن على طول الخط، كما أن دوره اقتصر على التعبير دون العمل ، كان مصطفى كامل شخصية مسيطرة داخل الحزب الوطني عملا وقولا بدرجة تحول معها زملاؤه على أتباع مخلصين لا قادة لهم كياناتهم.
وقد اتسم تنظيم حزب الأمة ببساطة بلغت حد التواضع، بينما كان تنظيم الحزب الوطني أكثر شمولا ودقة فضمت لائحته جمعية عمومية ( مادة 2، 8) ولجنة إدارية من ثلاثين عضوا تجمع مرة كل شه ( مادة 10، 11، 12) ثم لجنة تنفيذية من ثمانية أعضاء تجتمع مرة كل أسبوع على الأقل ( مادة 14، 15) وللحزب ناد بالقاهرة نصت المادة (21) على أنه يمكن أن تكون له فروع في جميع المدن، وكان لجميع الأعضاء الحق في حضور الجمعية العمومية السنوية بالقاهرة وانتخاب الرئيس واللجنة الإدارية، على أن تؤلف من أبحاث الأعضاء وخطبهم مجموعة سنوية تنشر باسم تقرير الحزب الوطني.
ولابد أن اللواء" كانت تعلم بالمشاورات التي تجرى في النصف الثاني من عام 1906 لتكوين حزب الأمة، ومع هذا لم تعلق بشيء، بعكس المؤيد مثلا، ولعلها كانت تنتظر ما ستكشف عنه الأيام، كما كانت منشغلة بمسألة طابة وآثارها ودنشواي التي وضع فيها الاحتلال رجال حزب الأمة، في موضع الخصوم من ضحاياها ، الذين صاروا أكبر مادة لدعاية مصطفى كامل وأنصاره ضد الاحتلال.
ولما صدرت " الجريدة" رحبت " اللواء" بها ونقلت بعضا من افتتاحيتها وإن كانت قد فندت مذهبها مما يوحى بالشك في زاياها، فقالت " إذا كانت ترى أن أعلى مظاهر الاعتدال في العلاقة بين الأمة والحكومة هي المحاسنة المطلقة فنحن موافقون لها إذا كانت الحكومة أهلية، أما إذا كانت في يد مغير فهل يجب على الأمة مقابلة إساءتها بالامتنان والشكران؟"
وقد ردت الجريدة ملقبة جماعة " اللواء" بمحتكري الوطنية بأن يقلعوا عن هذا الشغب المؤدى إلى سوء الظن بين الأمة والحكومة، مما أثار موجة من الخصومة بين الحزبين، زاد الأمر سوءا عندما طالبت الجريدة بحسن توديع اللورد كرومر ، الأمر الذي جعل اللواء يتشكك في أمر القائمين عليها، فتساءلت الجريدة، " وأي علاقة بين السياسة ووداع رجل كبير؟
كذلك بدأت اللواء تقلب " أوراقا قديمة" لجماعة الجريدة- إن صح القول- فأشارت على صلتهم بالشيخ محمد عبده وإلى صلة هذا بكرومر وأسمتهم " بالكرومريين " وعلقت على اعتراف لطفي السيد بمنجزات كرومر المالية والاقتصادية قائلة" أن اللورد أعطى الأمة الغنى المادي باليسرى وأخذ باليمنى الوسائط التي ترقيها أدبا وعلما يقال أنه نفع من المصريين أحدا؟".
وبدا أن اللواء تريد أن تدمغ جماعة الجريدة بالخيانة لصلتهم بالاحتلال فانتهزت ذكرى دنشواي ، ونشرت اقتباسات من ادعاء الهلباوي ولما أزمع حزب الأمة الإعلان عن نفسه، عادت اللواء إلى تفنيد مذهبه وأسلوبه متشككة في تمثيله للأمة " فالأمة كلها على رأى واحد" وأن القائلين بالتدرج نسوا كلمة " جمبتا" أن الإنجليز لا يحترمون وذكرت" أن الوطنيين طريق واحد وأن الاحتلال والاستقلال لا يجتمعان وأن حكم الأجنبي ورقى البلاد لا يكونان " فما هذه الصيحات التي نسمعها وما هذه الأحزاب التي يسمونها؟، وهكذا أنكرت اللواء الحزب واستنكرته، وعزت قيام الأحزاب إلى السياسة الإنجليزية التي تستفيد من وراء انقسام الرأي ، وتسجيل كلمة الرضى بالاحتلال على المصريين.
ولما أعلن قيام حزب الأمة نشرت اللواء وصفا لاجتماع الأعيان وبعضا من خطبة حسن عبد الرازق ومبادئ الحزب دون أن تعلق بشيء ولكن فريقا آخر من جماعة مصطفى كامل عبروا عن رأيهم في هذا كله في صحيفتهم الإنجليزية " الاجبشن ستاندرد" التي رأى أن طلب توسيع نطاق المجلس النيابي مناف لمصالح البلاد " فإلى متى سنظل نمهد الطريق وكم قرنا سينقضي في ذلك التمهيد، ثم أن إصلاحات التعليم لا تتم ما دامت مصر لا تحكم نفسها ،
وهكذا بدا أنهم يرفضون أسلوب الإصلاح التدريجي الذي اتخذه حزب الأمة منهاجا بعمله بعد أن أعلنوا فضهم لمسلك الاعتدال، وكان مصطفى كامل في أوربا عشية إعلان قيام حزب الأمة،وقد أشيع أنه أرسل إلى محمد فريد يقول" إن ظهور حزب الأمة المؤلف من أولئك الذين خبرنا نفسيتهم وميولهم إلى مسايسة المحتلين وفقا لما يسمونه سياسة اللين والتدريج يحم علينا أن نظهر حزبنا الوطني بالرغم منا في مظهره الحقيقي".
أما برنامج حزب الأمة فقد أعلن محمد فريد أنه طلب نفس الإصلاحات التي نادى بها جماعة الحزب الوطني منذ عشرة أعوام أمام أوربا، وأن الفرق الوحيد هو أنهم لم يجعلوا الجلاء في مقدمة مطالبهم، وهكذا كانت مسألة الاحتلال هي جوهر الخلاف بين برنامجي الحزبين، وإذا كنا لم نجد في برنامج حزب الأمة غير وسائط للاستقلال،
كما أنه لم يتضمن مطلبا سياسيا مباشرا، فإن برنامج الحزب الوطني كان سخيا وقد وضع على رأسه " تحقيق استقلال مصر كما قررته معاهدة لندن وضمنته الفرمانات..." وبينما تجاهل برنامج حزب الأمة مسألة وضع مصر بالنسبة لتركيا، فإن برنامج الحزب الوطني دعا في مادته العاشرة إلى بذل الجهود لتقوية علائق المحبة والتعلق التام بين مصر والدولة العلية وكان مصطفى كامل يعتبر هذه المسألة من أسس سياسته، وأنها لا تعنى أن ينسى المصريون مصر، ولم يكن لديه مانع من أن تكون هناك جامعة وطنية وجامعة إسلامية ، فليس ثمة تناقض بين هذه وتلك.
أما المطلب النيابي فقد كان عند الحزب الوطني واضحا وحاسما وهو " إيجاد حكومة دستورية مسئولة أمام مجلس نيابي تام السلطة كمجالس النواب في أوربا ( مادة 2) في حين تواضع مطلب حزب الأمة الذي لم يتجاوز توسيع اختصاصات الهيئات القائمة، وتعلق بالممكن وبالتدرج متسقا بذلك مع دعوة الحزب إلى اتخاذ اسلوبى الاعتدال والتدرج الذي يتفق ومصالح كبار الملاك،
وهو الأسلوب الذي نبده الحزب الوطني بالمعنى الذي يقصده حزب الأمة " فالذي تقهقر أمام المطلب الرئيسي وهو الجلاء واقتصر على التشنيع على الحكومة فهو معوج" وكان مصطفى كامل يتساءل :
وهل يكون الاعتدال شيئا سوى الخوف والجبن والرياء، واستعمال خطتين ومخاطبة الناس بلسانين؟" ، ومع هذا لم يكن التطرف الذي يفضى إلى الثورة هو نقيض الاعتدال أو حتى بديله لدى مصطفى كامل، فكثيرا ما نفى " تهمة" الثورة ، واستنكر إثارة الفتن، وكان من أوائل الداعين للسكينة، والمحافظة على الأمن العام، وقد ذكر " ألم نجعل أساس سياستنا وقاعدة خطتنا استخدام الوسائل السلمية لنيل حقوقنا بالطرق القانونية..؟"
كما هاجم مصطفى سياسة الإصلاح التي تبناها حزب الأمة ووصفها بأنها سياسة المغالطة، وسخر من هؤلاء الذين يريدون أ ن يخدعوا انجلترا بقوة الدهاء، واعتبر ذلك اعترافا من فريق الأمة بقبول الاحتلال هذا فضلا عن كونها سياسة تؤدى إلى قتل الروح الوطنية.
وإذا كان هذا هو تحليل مصطفى كامل لمعنى الاعتدال والتطرف وأسلوبه لتحقيق غاياته فلسنا نراه يبتعد كثيرا عن أسلوب حزب الأمة، فكلا الحزبين يتمسك بالاعتدال بديلا عن التطرف والتهييج، ووسيلة الحزب الوطني ، تنحصر في بث الروح الوطنية الصحيحة والشهامة والإقدام في الأمة وإعلاء ملكتها وإيجاد حب السؤود والرفعة فإذا تمكنت هذه الروح من كل مصري وفتحت المدارس العلمية والصناعية والتجارية والزراعية، واتحدت الأمة وزادت ثروتها اضطرت انجلترا يومئذ لأن تتفق معها على الجلاء"
وإن كان الحزب الوطني، بعد وفاة مصطفى كامل قد نبذ هذا الأسلوب بشكل عملي فتبنى أساليب عنيفة من المقاومة السلبية والتحريض على الإضرابات والمظاهرات وإنشاء الجمعيات السرية وغيرها مما لانعرف له مثيلا لدى حزب الأمة. وحتى أكتوبر سنة 1910 كان قد تم تحذير " اللواء" للمرة الثالثة نتيجة مقالاتها العدائية ضد الاحتلال. بينما لم يحدث مثل ذلك لجريدة حزب الأمة،
كما أرجع تشيتهام في تقريره إلى جراى في 30 يونيو 1911 عن الجمعيات السرية، قيام معظمها إلى قيادات الحزب الوطني وخاصة الشيخ جاويش . وحين علم لطفي السيد أن الحزب الوطني موضعا لتنديد العقلاء .
وكثيرا ما عطلت صحف الحزب الوطني أو حذفت بعض مقالاتها بينما لم يحدث ذلك " للجريدة" اللهم إلا حذف مقال وبعض من مقال منها في فترة إعلان الأحكام العرفية في بداية الحرب العالمية الأولى.
كذلك حوكم معظم زعماء الحزب الوطني وعوقبوا بالنفي والتشريد والسجن، ولم يتعرض واحد من زعماء حزب الأمة لمثل ذلك.
أما عن تطور العلاقة بين الحزبين، التي بدأت بشكل عدائي وسافر حين وصف مصطفى كامل أنصار حزب الأمة، بأنهم أنصار سياسة المغالطة وذلك في خطبة إعلانه للحزب الوطني فى22 أكتوبر سنة 1907، فقد نقل مراسل " الجريدة" بعضا من الخطبة تحت عنوان " ناقل الكفر ليس بكافر" واصفا المسرح بأنه اهتز من كثرة التصفيق والدعوات الصالحات، والخطيب بأنه " كمن يخطب من فوق عرشه عبيدا" كما ذكر المراسل أن مصطفى يعرض بحزب يخالف مبادئه وفى اليوم التالي حللت الجريدة الخطبة بأنها دفاع من مصطفى كامل عن نفسه وسب لمخالفيه،
وأن اعتباره لوجود الأحزاب السياسية تفريقا للأمة، خطأ واستبداد في الرأي والفكر. وأن سياسته وشخصه شيء واحد وهى عداء المحتلين عداء لا يحرك ساكنا ولا ينازع نزيلا وردت " اللواء" بأن حزب الأمة يرى أن الاستقلال مسألة ثانوية ،وأنه إذا كان طلب الاستقلال يعتبر كفرا في مذهب الجريدة فالإيمان إذن هو الرضا بالاحتلال وعدم المطالبة بالاستقلال.
ولم تكتف " اللواء" بحصر الخلاف في هذه المسألة بل وسعت نطاقه لتفصح سياسة حزب الأمة تجاه تركيا، وحاولت جر الخديوي إلى الميدان عندما أثارت قضية الاستقلال التام مدعية أن حزب الأمة يوزع منشورا يطلب فيه التخلص من الاحتلال الإنجليزي والسيادة العثمانية والعائلة الخديوية،
وذكرت أن الجريدة وضع أساها أيام مسألة العقبة لمحاربة الأميال التركية في مصر ، وقد ردت " الجريدة" على ذلك بتفسير معنى الاستقلال التام تفسيرا مغايرا اعتمدت فيه على جدل فقهي موضحة أن ما تعنيه هو " الأوتونومى" وليس الاستقلال الكامل " الأندباندانس" وأنكرت أن يكون طلب الاستقلال التام من السلطة الفعلية ؟" .
وإزاء هذا التراجع أحست " اللواء" بالانتصار فنعتت حزب الأكمة" بالحزب المضطرب" ، ورأت في ذلك انهزاما وخضوعا للحق وذكرت أن جريدته بخلت على الحقيقة بكلمة " داخلي" فئ تحديد نوع هذا الاستقلال.
وكانت اللواء بشعبيتها الهائلة تعاير الجريدة وتعتبرها أقل الجرائد المصرية شأنا وتتهمها بمحاربة الوجدان الوطني، ولم تكن تعنى سوى كتاب " الجريدة" وعلى رأسهم لطفي السيد، ذلك أن " مساهميها أفاضل الأمة ونوابغها ولم يدخلوا فيها كغيرهم مرضاة لكرومر" ولكنها أخذت عليهم أنهم تركوها تكتب بأسمائهم وأموالهم. على أن هذا الاحترام من اللواء لأعيان الحزب انبعث أساسا من الرغبة في تحطيم الجريدة والإيقاع بين مؤسسيها،
وكانت موجة الانسحاب من الجريدة قد بدأت على صفحات " المؤيد" ويبدو أن الجريدة إزاء هذا العداء العام كانت تتلمس تأييدا- ولو واهيا- أو تحييدا، ممن هم في مرتبة الخصوم، فكانت تنشر مقالات فريد وجدي صاحب جريدة الدستور، المؤيدة للحزب الوطني، ( الذي كتب ما يفيد استياء الكتاب الأحرار من هذه الحملة على حزب الأمة) ولم تشأ الجريدة أن ترد على اللواء راغبة في سكوتها إن لم0 يكن عطفها ، كما أن لطفي السيد في اجتماع الجمعية العمومية للجريدة تحدث عن فضل مصطفى كامل في تنبيه الشعور الأمي ونعته " بسعادة زميلي" ودعا له بالشفاء.
وجاءت وفاة مصطفى كامل المفاجئة بمثاب نجاة لحزب الأمة ، فارتئها فرصة كبيرة للتقرب من الحزب الوطن، الذي كان بدوره منشغلا بوفاة زعيمه عن الصراعات الحزبية، ولم تكن لهجة الجريدة في نعى مصطفى أقل أسى من اللواء فأغرقت صفحاتها في الترجمة له ونقل فقرات باقتراح إقامة تمثال لمصطفى كامل " تمثال الوطنية" وأوضحت أنه لا خلاف بين برنامج حزب الأمة وبرنامج الحزب الوطني إلا ما يكون من الخلاف اللفظي بين العبارتين تؤديان معنى واحدا.
وقد تولى أحمد لطفي السيد حملة كبرى متبنيا فيها أساليب الحزب الوطني فلأول مرة – تقليدا لمصطفى أو حلولا محله- يخطب فئ نادى المدارس العليا خطابا عاما لجميع الأعضاء، دعا فيه إلى إقامة التمثال والوفاق مع الحزب الوطني واعتمد فيه على أساليب مصطفى كامل ومنطقه في إثارة الحماسة الوطنية وإلهاب المشاعر.
وبهذا لم يكتف حزب الأمة بالتقارب مع الحزب الوطني ودفع تهمة الشك في وطنيته، بل سار إلى أبعد من ذلك ، وربما ساورت لطفي فكرة تولى زعامة الحزبين خلفا لمصطفى كامل ، خاصة وقد تبنى أسلوبه ومنطقه الخطابي في نادى المدارس العليا ثم في نادى حزب الأمة في 17 مايو 1908 وكذلك مسرح زيزينيا بالإسكندرية- مكان مصطفى كامل- كما أن لطفي قد نيط به أمر استلام التمثال وكلف على فهمي أن يكتب إلى فريد ذلك.
ويكمل هيكل الصورة حين يبدى استغرابه للطفي من موقفه يوم الوفاة حين بدا وكأنه أصيب فئ أعز الناس لديه، على ما كان بينهما من خصومة سياسية، فيرد لطفي بأن هيكل لا يزال شابا لا يدرك مثل هذه المواقف .
وقد بادل الحزب الوطني حزب الأمة مشاعره وبادر محمد فريد إلى الرد على إحدى الجرائد التي حاولت التشويش على صداقته لأحمد لطفي السيد " بعد أن تأكد أننا على وفاق مع مدير الجريدة في كليات الأمور" وكان لاتضاح معالم سياسة الوفاق التي أضرت بكلا الحزبين، أثر في تنمية هذا التقارب بين الحزبين، فقد أبعدت حزب الأمة عن الوكالة البريطانية بنفس القدر الذي ابتعد به الحزب الوطني عن الخديوي عباس يائسا منه، وإن كان قد بدأ ذلك قبيل وفاة مصطفى كامل ،
كما أدى ازدياد حدة لهجة الجريدة تجاه الاحتلال إلى نفس النتيجة، ويتأكد هذا التقارب أكثر فأكثر فتنشر الجريدة ملخصا لخطبة فريد بدار التمثيل في 17 أبريل 1908 التي امتدح فيها حزب الأمة ومبادئه. ولا نجد الجريدة مغمزا للواء إلا فيما يتعلق بمسائل حزبية بسيطة لا تمس أسس سياسة كل منهما.
ولكن مع ذلك تظل هناك عقدة قديمة لا تفارق صدر الحزب الوطني، هي الخاصة بموقف حزب الأمة من علاقة مصر بتركيا، وهذه المسألة إلى جانب موقف حزب الأمة من الاحتلال ، يمثلان نقطتي الخلاف الجوهرتين في علاقات الحزبين.
فقد علقت اللواء على خطبة للطفي السيد تحدث فيها عن " استقلال مصر" بنشر عتاب بتوقيع إبراهيم حليم باشا نفى فيه عن لطفي السيد سوء النية وذكره بأن مصر خديوية تابعة للدولة العلية وأمل أن يكون لطفي قد عنى باستقلال مصر،
زوال الاحتلال الإنجليزي كما لم يسمح للحزب الوطني لتحسين العلاقة مع حزب الأمة بأن تنسيه مبدءا من الاحتجاج على جريدة حزب الأمة حين وافقت ناظر المعارف على امتحان اثنين من الإنجليز داعيا أن بإمكانهما القيام بتدريس الرياضة باللغة العربية..
حتى لا يغضب دنلوب والاحتلال، ورأت اللواء أن موقف الجريدة يعتبر عجيبا حقا لأن كل انجليزي يدعى ذلك يجاب على طلبه ذلك أن الذي يثبت عليهم مقدرتهم هم المفتشون الإنجليز، وتساءلت في استنكار " أيصح أن تقول الجريدة أن هذه الطريقة حكيمة ومعقولة حتى لا يغضب دنلوب والاحتلال...
إننا لسنا في مقام إرضاء دنلوب والاحتلال" وتدل هذه المسألة على اتساق موقف كل منهما من الاحتلال، كما تدل أيضا على أن الحزب الوطني ليس على استعداد لقبول موقف حزب الأمة استمرارا لفترة الود بينهما،
وقد اتضح نفس المعنى في موقف كل منهما إزاء علاقة مصر بتركيا، يضاف إلى هذا وذاك نقطة تتعلق بالمطلب الدستوري، فبينما تولى الحزب الوطني ما عرف بحركة العرائض في أواخر أبريل سنة 1908 لم يحرك حزب الأمة ساكنا إزاء هذه الحركة العامة ويواصل مناقشة الحكومة في مشروع توسيع اختصاصات الهيئات النيابية القائمة الأمر الذي أدى إلى انتقاد اللواء لذلك المسلك، وإن بشكل غير مباشر واعتبرت حزب الأمة ضحية لسياسة الخداع والاتهام التي واجه بها الاحتلال طلب المجلس النيابي، وفندت الصحيفة نوعية هذا " التوسيع" واعتبرت أن التغييرات التي حدثت محدودة وشكلية وبلا قيمة.
ثم استدارت اللواء نحو مجلس الشورى وأوضحت لأعضائه أن من الفضيحة أن يقبلوا مناقشة مثل هذا المشروع التافه بعد أن ارتفع صوت الصغير والكبير بطلب الدستور.
وبالرغم من هذا الاختلاف بين الحزبين على هذه المسائل الأساسية وأسلوب التعامل معها، فيما يسمى بالتطرف والاعتدال ،فإن العلاقات الودية بينهما لم تنقطع، ومحاولات حزب الأمة التودد أكثر للحزب الوطني لا تزال مستمرة، حتى ود لو فني الحزبان أحدهما في الآخر " فخير الأحزاب أن لا حزب" كما دعت الجريدة إلى الخروج من التحزب ونشرت نص خطبة فريد بزيزينيا في أغسطس 1908 وقد بلغت العلاقة الودية بين الحزبين درجة أشيع معها أن الجهود مبذولة لجعلهما حزبا واحدا.
وأن خطبة لطفي السيد في الإسكندرية ستشرح البروجرام الجديد، وأن الخلاف ينحصر فيمن يكون الرئيس وأن لطفي السيد قرر الانفصال عن حزب الأمة إذا لم يتحقق الانضمام ليكون سكرتيرا عاما للحزب الوطني ثم يرشح نفسه للرئاسة القادمة.
وقد قابلت اللواء والجريدة ودا بود فنشرت في صدر صفحاتها نص خطبة لطفي ووصفتها بأنها دلت على اتحاد الشعور الوطني وأنها " ذكرتنا بأقوال فقيدنا وخاصة وقت مناداة الخطيب جهرا بالجلاء والدستور" وعلقت بأن حزب الأمة لو كان قد جهر بهذه المطالب من يوم نشأته لكان اليوم هو والحزب الوطني واحدا.
وبذلك يتضح أن الحزب الوطني لم يصرح بذلك إلا بناء على تصوره أن حزب الأمة قد تخلى عن مبادئه أو طورها ثم غير موقفه من الاحتلال، كما يبدو أيضا أن اختلاف الحزبين في المبادئ والمواقف شيء والعلاقات الودية بينهما أو بين زعمائها شيء آخر . فالمسألة الأخيرة مستمرة، برغم ثبات الأولى لا تتغير إلا بتخلي أحدهما عن مبدأ من مبادئه.
ينطبق هذا التحليل على ما اعتبره حزب الأمة تزحزحا من الحزب الوطني عن موقفه تجاه تركيا، خاصة بعد الانقلاب الدستوري في يوليو 1908 ونزوع الاتحاديين عن الاتجاه الإسلامى، وعلى أثر تصريح أنور باشا لمراسل التيمس في تركيا في أوائل سبتمبر من نفس العام بشأن الاتجاه الجديد
فأشادت " الجريدة" بمقال لمحمد فريد أبطل فيه حجة القائلين بأن من مصلحة مصر أن ترسل عنها مندوبين في مجلس المبعوثان واعتبرت أن فريدا يدافع عن رأى حزب الأمة في هذه المسألة وانتشت الجريدة بتطور العلاقة بين الحزبين على هذاالنحو ورأت فيما ذكره فريد عن توحد الحزبين أمرا ممكنا وأجابت سائليها عن حقيقة هذه الإشاعة بأنها لا تعلم خبرا كهذا ، وإن كانت مبادئ الحزبين تسمح لهما بذلك، وضربت مثلين .
أولهما: أن الحزب الوطني جعل " المصرية" قاعدة أعماله السياسية، وثانيهما: اتفاق موقفهما بشأن تمثيل مصر في مجلس المبعوثان ، وكررت الجريدة أن مقصدها العام" هو الدستور والاستقلال وإذا كان المستقبل يضمر توحيد الحزبين بالفعل فهذا ما لا نعرفه اليوم".
ويبدو أن فكرة توحيد الحزبين كانت مقلقة لحزب الأمة ذلك أنه خشي أن يذوب داخل الحزب الوطني الكبير قبل أن يتأكد لمن ستكون الزعامة، وكذلك فإن دعوة حزب الأمة للدستور والجلاء لم تكن لها نفس دوافع الحزب الوطني. كما أن لطفي السيد لم يستطع تجاهل حقيقة العلاقة بين زعامات الحزب الوطني وتركيا برغم رفضهم اشتراك مصر في مجلس المبعوثان .
زاد من مخاوف حزب الأمة أن إحدى صحف الحزب الوطني ذكرت أنه ليس في مصر حزب غير الحزب الوطني وأن الأحزاب ما أنشئت إلا محاربة لمصطفى كامل.
ومع ذلك تستمر العلاقة الودية فتلخص الجريدة خطبة فريد فئ 14 سبتمبر 1908 وترد على المؤيد طعنها على مقالاته " ماذا يقولون" فتمتن اللواء لدفاع الجريدة وتنقل عنها انتقادها لشيخ المؤيد وتصفه بأنه أسطر ذهبية ويحضر فريد وبعض أعضاء اللجنة الإدارية للحزب الوطني الحديث السياسي في نادى حزب الأمة بل وتنشر نص محاضرة لأحد أعضاء حزب الأمة كاملة في صدر صفحاتها للمرة الأولى وحين تتعطل آلات الطباعة باللواء تستضيفها مطابع " الجريدة" ليومين متتاليين ،
وتمتلئ صفحات اللواء بتهنئة العشرة الكرام، أعضاء مجلس الشورى، ومعظمهم من حزب الأمة، لاتفاقهم مع الأمة في طلب المجلس النيابي ويستقبل نادى حزب الأمة قطبا من أقطاب الحزب الوطني محاضرا وهو عمر لطفي كما يحضر محمد فريد خطبة مدموازيل كليمان في نادى حزب الأمة.
وهكذا تستمر العلاقات بين الحزبين، ودية طالما لم تكن هناك أحداث تمس جوهر مبادئ كل منهما وعلاقاته السياسية، ولم يكدرها سوى رسالة نشرتها " الجريدة" لأحد قرائها يستنكر فيها الدعوة لإقامة تمثال لمصطفى كامل لأن في ذلك إحياء للوثنية فترد اللواء على لسان أحد قرائها أيضا الذي لام الجريدة على نشرها مثل هذه الرسالة،
خاصة وهى أول من نادى بفكرة التمثال وحتى ذلك الحين لم تخرج اللواء عن آداب الحوار مراعاة لحسن العلاقة بين الحزبين. غير أنها فاجأت " الجريدة" بنشر كتاب مفتوح إلى مديرها وصفتها فيه بأنها جريدة الأعيان وحزبها حزب الأعيان،
وتساءلت عن المعنى الخاص الذي تقصده بلفظ الأعيان واستنكرت أن يكون رجال حزب الأمة هم رؤساءنا أو خيارنا ، وأنهم أهل البلد وكلنا عيال عليهم دخلاء بينهم..."، كما حاولت تفسير المعاني المقصود للفظ وفندتها جميعا منتهية إلى أن حزب الأمة هو حزب الأغنياء.
فردت الجريدة بأنها لم تنحل لمؤسسيها هذا اللقب بل وصفتهم بما هم موصوفون به من قبل، وأنهم حزب الأمة أي حزب الشعب لا حزب الأعيان، وقد مرت هذه المسألة بسلام دون أن تكدر صفو العلاقات بين الحزبين، فاشتركا معا في الإعداد لمؤتمر يعقد في جنيف دعا غليه الحزب الوطني وساهم فيه لطفي السيد بإلقاء محاضرة عن " المسألة المصرية".
ولعل في تلبية حزب الأمة دعوة الاشتراك في المؤتمر والإعداد له خروجا على المألوف من سياسة الحزب في شأن المسألة المصرية بالاستعانة بأوربا وشرح القضية المصرية لها، فلم نعهد موقفا كهذا للحزب قبل ذلك، وهو في هذا يتبنى واحدا من أساليب الحزب الوطني،
كماأن ذلك أيضا يعتبر تطورا من نوع جديد في علاقة الحزبين انتقل بهما من العلاقات الودية والشخصية أحيانا، إلى الاتفاق على أسلوب واحد في التعامل مع المسألة المصرية. وتتضح معالم التغير في ترجمة " إدارة الجريدة" لخطب لطفي السيد لعامي 1908، 1909 إلى الفرنسية لإعطاء الرأي العام الفرنسي صورا وحقائق عن سياسة الحكومة كما نلمس تأثرا آخر بالحزب الوطني بأسلوب العمل،
كان حزب الأمة مدفوعا إليه بتزايد عداء الخديوي له، وهو الدعوة إلى قيام مظاهرة تبدأ من إدارة الجريدة حتى منزل الشيخ حسونة النواوى لتتأسف لاستقالته وتشكره على استقلال رأيه خلال حوادث الأزهر وبالرغم من أن المظاهرة لم تتم بالفعل إلا أن الدعوة إليها تنبئ عن تغير يتعلق برغبة الحزب في التخلي عن أسلوبه.
وقد احتفلت الجريدة بعيد الدستور العثماني وأقام الحزب زينة باهرة وتوافد أعضاؤه على النادي بعضهم البعض وهو أمر وافق مشرب الحزب الوطني الذي تمادى في الاحتفال بما يناسب موقفه من تركيا ، فأرسل وفوده إلى تركيا للتهنئة ، وأعلن أن " المصريين عثمانيون قبل كل شيء، على أن مصر عندما تتحرر لا يجوز أن تبقى ذيلا للدولة كماهى اليوم" .
وقد نادت بسلطة الأمة فذكرت أن جميع الآراء قد تضافرت على القول بسلطة الأمة والنداء بسلطة الأمة، وأن الأمة المصرية إذا طلبت حقها فإنها تطلبه حقا طبيعيا شرعيا وهو الحكم الذاتي بيد أن مفهوم الأمة يختلف بالضرورة عند كلا الحزبين، فالأمة عند الحزب الوطني تعنى عامة الشعب، وتعنى مختلف الطبقات من غنى وفقير وصغير وكبير، وأنه يمثل الأمة خير تمثيل بينما يدخل الغنى والمكانة الاجتماعية ورئاسة العائلات الكبيرة في مفهوم حزب الأمة.
سيظل الحزب الوطني على نفوره من الاعتدال والمعتدلين، وقد وصفت " اللواء " المعتدلين الذين يظنون أن المحتلين سينيلوهم بالتدريج حكم أنفسهم، بأنهم كالقابضين على الشمس. وتساءلت " ألا يزال بيننا من يحسنون الظن بالإنجليز" وكانت تعلم أن لا أحد يستطيع أن يرد بالإيجاب فكأنها تريد أن تثبت على حزب الأمة،
وقد رأته يتبنى بعض أساليب الحزب الوطني، نجاح سياستها. ويؤكد محمد فريد هذا المعنى في حديثه إلى جريدة " الأكلير" في 22 سبتمبر 1909 فيقول " الحزب الوطني صريح في هذه المسألة لأنه لا يطلب من انجلترا إصلاحات داخلية، وإنما يطالبها بالجلاء، أما أصحابنا أعضاء حزب الأمة فهم يقتصرون على مطالبة انجلترا بالبر بوعودها بلهجة أخف بكثير من لهجتنا...".
وحتى يناير 1910 كانت العلاقات بين الحزبين على شيء من الود المتمثل في تبادل التهاني والدعاية لبعضهما في صحفهما وتبادل المطبوعات والتقارير أما نقاط الاختلاف الأساسية فقد بقيت دون تغير ، بينما لمسنا تغيرا طفيفا في أسلوب حزب الأمة مال به إلى شيء من التطرف النسبي، متأثرا بالحزب الوطني مرتبطا بسوء علاقته بكل من الوكالة والخديوي، وبمحاولة الحزب التماسك بعد توالى الاستقالات منه، ومحاولته اكتساب شعبية تعوضه في محنته،
ولم يكن هذا الميل إلى التطرف يرجع إلى اقتناع حقيقي بقد ما كان ميلا" تكتيكيا" ذلك أن تركيب الحزب لم يتغير بدرجة يغير معها أساليبه، كما أن أسس الخلاف الجوهرية بينه وبين الحزب الوطني وبالذات موقف كل منهما من الاحتلال والسيادة العثمانية ظلت على ما هي عليه.
ويقابل ذلك إمعان الحزب الوطني في تطرفه واندفاعه في مهاجمة الحكومة ومجلس شورى القوانين، خاصة بعد الموافقة على قانون المطبوعات، والإضرار التي حاقت بالحزب بسببه، فأغلقت إحدى صحفه وهى القطر المصري وسجن صاحبها، كما حبس الشيخ جاويش وأنذر اللواء في يوم واحد، وبلغت حملة الحزب الوطني على مجلس الشورى.
وخاصة أعضاء حزب الأمة فيه، بدأه في النصف الأول من يناير سنة 1910، في الوقت الذي شرع فيه حزب الأمة في مهادنة الخديوي والتقرب من معيته، وكف قلمه عن انتقاد الحكومة، بل ودافع عن مسلك مجلس الشورى ، وقد اعتقدت " الجريدة" أن الخلاف الذي دب بين أعضاء الحزب الوطني، والذي صدرت على أثره صحيفة " العلم" كلسان للحزب يعتبر نقطة ضعف في الحزب الوطني مما يجعله غير قادر على تحدى حزب الأمة.
وما أن اشتدت حملة اللواء على مجلس الشورى، حتى اقترح عضو بالمجلس سحب رخص الصحف التي طغت على الأعضاء ومنع مندوبيها من دخول المجلس، وعضده على شعراوي خاصا اللواء بالذكر، وعضدها طائفة من زملائها من حزب الأمة أو من أشياعه واعتبرت اللواء أن الحملة مدبرة وأبدت أسفها لدخول الشخصيات والحزازات الحزبية إلى مجلس الشورى.
ورأت ألا غرابة في أن يأتي ذلك من حزب الأمة فقد كان أعضاؤه أول من صدقوا على قانون المطبوعات . ولم تنكر الجريدة ذلك. بل أيدت الاقتراح وحصرت الخلاف حول مندوب اللواء فقط وذكرت أن اللواء يمثل في ذاته معنى التطرف ( الراديكالزم) غير أن التطرف لا يقبل الخلط في المبادئ ، ولا يسوغ الخروج عن قوانين الآداب غير أن هذا الموقف يوضح أن الجريدة كانت على استعداد للتضحية بما نادت به لمجرد الخلاف الحزبي أو حتى الشخصي مما يدل على جوهر التمسك بما تنادى به،
فموقفها من مندوب اللواء يعتبر مناقضا لما كتبته في 18 أبريل 1909 مستنكرة أن يحرم أحد من دخول المجلس في زوايا المجلس ليكتبوا في اليوم التالي قصائد المدح للنواب...". ويفسر هذا الموقف بعداء الحزب للخديوي، الذي اقترحت مجموعة داخل المجلس يترأسها إسماعيل أباظة، مشروع علانية الجلسات ولم يتضمن واحدا من أعضاء حزب الأمة.
وتذكرت اللواء جذور الخلاف مع حزب الأمة، فتحدثت عن كشف مصطفى كامل لأمر الجريدة وأثر سياسة جورست على الحزب، حيث لم تبق له قيمة وطعنت على مجلس الشورى الذي لا يمثل الأمة، واستشهدت بأقوال سابقة للطفي السيد حول حرية الصحافة والنقد ولم يجد لطفي السيد بدا من النكوص أمام عنف الشيخ جاويش- رئيس تحرير اللواء- فذكر أن الظروف السياسية تقتضى أن تأتلف الأحزاب، " ولا يزال الحل على رئيس تحرير اللواء بحق الوطنية أن لا تجتهد في التفريق بيننا وبين أصدقائنا الكثيرين في الحزب الوطني" وقد تمادى جاويش في عدائه ،
رغم تراجع لطفي السيد فكتب مقالة طويلة يرد بها على اتهام لطفي له بالتفريق بين الأحزاب، وأطلق على مجلس شورى القوانين لقب " مجلس أعيان الأمة" وسرد تاريخ مصطفى كامل مع " الجريدة" وكأنه يريد بذلك أن يجرد الجريدة من قرائها، خاصة الشباب منهم.
فانتقلت دائرة الخلاف من "الظروف القائمة" إلى " المواقف القديمة" وقد قدمت الجريدة دليلا على تراجعها ورغبتها في إيقاف المعركة، منتهزة فرصة صدور الحكم بإيقاف صحيفة "العلم " – وقد أصبحت لسان الحزب الوطني- وانتقدت مسلك الحكومة وتطبيقها لقانون المطبوعات على جرائد الحزب الوطني.
كما خلقت مسألة مد امتياز قناة السويس موقفا مشتركا بين الحزبين حيث تسابقا في معارضة المشروع ، وما أن صرح الخديوى لمندوب صحيفة الطان بأنه رئيس الحزب الوطني حتى رحبت اللواء بذلك وكفت حملتها عن حزب الأمة منشغلة بمطالبة الخديوى بالدستور من جديد".
وتولى حزب الأمة بلسان إبراهيم الهلباوي ومحمود أبو النصر، الدفاع عن الوردانى- أحد شباب الحزب الوطني- في قضية اغتياله لبطرس غالى وأفسحت الجريدة صدرها لنشر نصوص الدفاع عنه، ولما علم أحمد بك عبد الرازق أحد مؤسسي حزب الأمة بأمر تفتيش منزل محمد فريد، أرسل إليه قبل التفتيش يحذره من ذلك، فتخلص فريد من الأوراق التي يمكن اتخاذها دليلا للإضرار ببعض أعضاء الحزب الوطني.
وزاد التقارب بازدياد اعتدال موقف الحزب الوطني نسبيا ودعوة زعمائه للاعتماد على النفس، ورفع شعار مصر للمصريين، ويأسهم من رجال تركيا الفتاة الذين صمت آذانهم عن نداءاتهم ،وفى حديث لطفي السيد إلى مراسل صحيفة الطان ذكر أن بروجرام حزب الأمة هو في الحقيقة بروجرام الحزب الوطني، وأن الفرق بينهما إنما هو فرق سن ومزاج فقط.. هم راديكاليون ،
ونحن أوبورتنست متمهلون، وأن أغلب المنضمين إليه هم طلبة فتيان أما المنضمون إلى حزبنا فهم من الأعيان .
وقد غضب الحزب الوطني من التحديد الأخير ولكنه لم يشأ أن يفتح مجالا جديدا للنقاش فاكتفت " اللواء" بأن أشادت بأن الفتيان ينتمون للحزب الوطني الذي هو الأمة المصرية بأسرها إلا قليلا وأعربت عن احترامها لأشخاص حزب الأمة أو حزب الأعيان وإن قل عددهم وعندما علقت الجريدة على حديث لبلنت حول استبدال طابور عثماني واحد بجيش الاحتلال وذكرت أن " عودة مصر ولاية عثمانية لا يقول به مصري حر واحد" علقت اللواء بأنها لا ترضى أن يكون في مصر جيش احتلال سواء كان انجليزيا أو عثمانيا " ,إننا متمسكون بالسيادة العثمانية كما هي ما دامت في مصلحتنا فهي أكبر ضمان لاستقلالنا الداخلي.."
وبهذا لم تتعد اللواء حدود تفسير رأيها بما يوافق مبادئ حزبها، مما يدل على أن كلا الحزبين ظل على تمسكه بمبادئه في ظل العلاقة الطيبة التي تربطهما، يدل على ذلك دفاع الجريدة عن الشيخ جاويش عندما حوكم في قضية التقريظ التي أثارها ديوان" وطنيتي" للغاياتى وعرضت على محمد فريد أحد محاميها للدفاع عنه" فإن القضية مهمة بالمتهم عديمة الأهمية بالنسبة لموضوعها".
وقامت بحملة صحفية للدفاع عنه ثم طلبت إلى الحكومة العفو عنه وألحت في ذلك حتى أن محمد فريد قال " أرجو أن يتحاشى لطفي بك طرق هذا الموضوع فإن هذا ما لا أقبله ولا أرغب فيه".
وما لبثت قضية الاستقلال أن برزت إلى السطح، حين كتب لطفي السيد سلسلة مقالاته عن سياسة العواطف والمنافع، فانبرت صحيفة العلم للرد عليه وأظهرته في موقف المحارب لعواطف المسلمين واتهمته بأنه راغب، والذين على رأيه ، في استبدال السيادة العثمانية بالسيدة الإنجليزية ولم تكتف " العلم " بذلك أثارت نقطة الخلاف الأخرى بين الحزبين والمتعلقة بموقفهما من الاحتلال البريطاني منتهزة فرصة حديث لطفي إلى مراسل صحيفة " الجازت" فعلقت بأن ذكر الأدلة تلو الأخرى على أن الاحتلال له اليد الطولي في تلك" الجريدة" يعادل أقوال مديرها التي لا تدع مجالا للشك،
ووصفت مديرها بأنه انجليزي أكثر من الإنجليز ولا يقتصر الهجوم على الجريدة وحزب الأمة على صحيفة العلم بل توالت صحيفة "الأفكار" إحدى صحف الحزب الوطني مهاجمة " الجريدة" باعتبارها أكثر شرا من المؤيد.
وإذا أخذنا في اعتبارنا ما أحدثته حملة الجرائد المصرية على مقالات لطفي السيد، والخلاف الذي حدث داخل الحزب نتيجة لذلك، وما أحدثته تصريحات كتشنر عن استيائه من الأحزاب وصراعاتها، حينئذ يبدو طبيعيا أن تتراجع الجريدة وتكف عن السير في خصومة " العلم" حتى ناهية الشوط بل أنها أبدت أسفها لتعطيل الصحيفة ثلاثة أشهر وحاولت اجتذاب قطاعات الوطنيين بكتاباتها عن الحركة الوطنية ونموها وذكرها أن الخلاف بين الأحزاب لا يؤثر عليها
ودافعت عن محمد فريد عندما هوجم لعدم وقوفه عند عزف السلام الخديوى بالأوبرا ولما حوكم على أثر خطبته في 23 مارس 1912، واعتبرت خطبته تحريضا ضد الحكومة ودعوة للثورة، وحوكم معه على فهمي كامل وإسماعيل حافظ، تبنت الجريدة القضية وتولى عبد العزيز فهمي ومحمود أبو النصر الدفاع عنهم..
وعندما قبض على ثلاثة ينتمون للحزب الوطني بتهمة التآمر على حياة الخديوى وكتشنر ومحمد سعيد وحوكم الثلاثة فيما عرف " بمؤامرة شبرا" يظهر الهلباوي ضمن هيئة الدفاع ويتولى دنشواي يوضع رجلان من حزب الأمة في موضعي الادعاء والدفاع في قضية وطنية ، وإن كان المتهمون ينتمون بشكل صريح للحزب الوطني كما أن الهلباوي وقد تغير موقعه من ممثل الاتهام إلى محام عن المتهمين.
وفى أواخر عام 1912 رحل محمد فريد عن مصر، مما أضعف الحزب الوطني وصرف الكثيرين عنه، كما أن اللواء قد أغلقت ومعها الكثير من صحف الحزب. وكذلك هددت وأنذرت صحيفة العلم وأغلقت أكثر من مرة، وكان إغلاقها للمرة الأخيرة نتيجة نشرها مقالة لفريد ختمتها بالطعن على ولاة الأمور العثمانيين وحملتهم تبعة ما أصاب الجيش العثماني في الحرب البلقانية،
كما نلاحظ أن " الجريدة" نشرت أخبار الدولة العثمانية وانتصاراتها الوهمية وغزتها بطرف خفي، دون أن تحتد لهجتها، فذكرى موقفها من الحرب الطرابلسية لا يزال مائلا، بما يجعل هذه الأخبار تكذب بعضها بعضا.
الأمر الذي خلق تقاربا بين زعامات الحزبين، والذي بدا واضحا في موقفهما من الجمعية التشريعية. حيث بدا أن معارضة قوية من رجال الحزبين، ستلعب دورا هاما بها بل أشيع أنه ربما اتفق منتخبوا الحزبين لتكوين حزب واحد داخل الجمعية. يتأكد هذا التقارب مع تأثير إجراءات الحرب العظمى الأولى على مصر من أحكام عرفية ورقابة صارمة وإغلاق الصحف وتشتيت زعامات الأحزاب،
وقد صاحب هذا مؤقتا وبإكراه، تخل نسبى للحزب الوطني عن تطرفه تجاه الوجود الاحتلالى فيذكر فري أن مدام ودي روشبرون أخبرته بأن لطفي السيد صرح لها بضرورة بقاء الاحتلال والانفصال عن الدولة العلية دون أن يعلق على ذلك أو يستنكره، بل أن بعضا من زعماء الحزب الوطني قد تحادثوا مع فريد في ضرورة الاتفاق مع الإنجليز " حث لم يبق لنا أمل تقريبا في الحملة التركية على مصر " فيذكر فريد لإسماعيل لبيب ، " أن الإنجليز لو كانوا منحونا المجلس النيابي والاستقلال الداخلي التام الذي نشده لأعناهم ومشينا معهم" – يقصد في الحرب العالمية- وهكذا قبل فريد هذا الحل " المعتدل " الذي هاجمه الحزب الوطني، وعاد معتدلا مثلما كان قبل صلته بمصطفى كامل ،
كما أنه للمرة الأولى في تاريخ العلاقات بين الحزبين يحدث التقارب أساسه اتفاق الموقف من الاحتلال وأسلوب التعامل معه. يتصل به تقارب آخر أساسه تغير موقف الحزب الوطني من تركيا للمرة الأولى.
حزب الأمة وحزب الإصلاح على المبادئ الدستورية:
إذا ما تمثلنا علاقة الخديوى عباس بمؤسسي الجريدة الذين أعلنوا أنهم يكونون حزبا سياسيا منذ البداية، فقد لا نبالغ إذا قلنا أن إعلان حزب الأمة عن قيامه في سبتمبر 1907 كان واحدا من الأسباب الرئيسية لظهور حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية في ديسمبر 1907، حيث فقد الخديوى الأمل في هذه الجماعة تقريبا حين وقفت منه جريدتهم، منذ البداية، موقفا غير ودي، في الوقت الذي سادت فيه علاقته بالحزب الوطني.
وأثبت الحزب وجوده بعيدا عنه فكان لخسران الخديوى لأكبر قطاعين وطنيين ، وإعلانهما عن قيام حزبين كبيرين يتجاهلان ف برنامجهما سلطته، كما كان لرحيل سياسة الخلاف برحيل كرومر، وظهور بوادر الوفاق مع جورست، أثره في بحث الخديوى له عن دور جديد في الحركة السياسية.
ولما كانت هذه الحركة قد اتخذت أشكالا حزبية تنطق بلسانها صحف قائمة أو أنشأتها فقد وجد الخديوى ضالته في صحيفة المؤيد التي يحررها على يوسف- الذي ما زال يذكر له وقوفه إلى جانبه في قضية زواجه متحديا بذلك مشاعر الرأي العام- لا يهمه على أية مبادئ تقوم بقدر ما يهمه أن تقف دونه في مواجهة الحزبين الآخرين، وليس من قبيل الفضول الصحفي أن تهتم المؤيد بأمر " الجريد" قبل صدورها بأشهر تسعة،
فما أن علمت بمشاورات الأعيان لإصدارها حتى بذل على يوسف محاولاته ليكون عضوا بشركتها فاعتذر له رئيسها كما قامت المؤيد بحملة استطلاع رأى واسعة النطاق تحت عنوان " محادثات مع بعض الأعيان" التقى فيها مكاتبها بأعضاء شركة الجريدة، ولم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا وسألهم عنها. كما نشر مشروع قانونها وهو دور الإعداد وهو ما لم تشر إليه " الجريدة" ذاتها فيما بعد ،
وكان المؤيد تري أن توضح للخديوي مركز الجريدة الجديدة. زاد الأمر وضوحا أنها ترجمت عن الصحف الإنجليزية ما ذكره ملنر من أن كرومر يعمل لتكون حزب وطني مخلص للحكومة يقاوم مثيري القلاقل في مصر، ثم عادت فأفصحت عن ذلك بأن هذا الحزب هو الجمهور الذي يشتغل الآن بإنشاء الجريدة الجديدة.
واستعدت المؤيد لمواجهة الجريدة الجديدة، فصدرت للمرة الأولى في ثمان صفحات وبحجم كبير لتزيد من مادتها وتوسع من قاعدة قرائها، كما لجأت إلى التنفير، من الجريدة قبل صدورها بأسلوب ملتو فذكرت أن إكثار الصحف الإنجليزية كالتيمس وغيرها من الترويج لها يضر بسمعتها، حتى أن بعضهم يسميها " مقطما
ثانيا" وذكرت قراءها بأن القائم على تحرير الجريدة هو صاحب الدفاع الهزيل في دنشواي ، والذي شهد له " فندلى" بالامتياز ثم استدارت إلى الخديوى لتوضح له لهم جماعة محمد عبده، عدوه القديم لذلك عندما صدرت الجريدة شرعت في غمز المؤيد بطرف خفي وقالت أنها تنفذ الإرادات المستترة للمعية السنية وتساءلت: ما حاجة الجناب العالي وهو صاحب السلطة الشرعية لقلم الكاتب؟
حينئذ أحسن المؤيد أن الجريدة تقصدها فتساءلت عما تقصده بالإرادات ومن الذي يصدرها، بترديد ما تقوله الصحف الإنجليزية بل وحاولت إيعاز الخديوي على الجريدة متهمة إياها بلمزه.
ثم تعرضت المؤيد لبرنامج حزب الأمة بالنقد والتحليل ولاحظت عليه عدة ملاحظات أولها: أنه تجاهل الحرية الشخصية وثانيها أنه ترك مطلب التعليم باللغة العربية في مدارس الحكومة. وثالثها: يتعلق بخلاف لفظي مؤداه إثبات أن مبادئ الحزب إذ تقرر " أن نصل بالتدريج إلى المجلس النيابي الذي يوافق حالتنا السياسية" وبهذا يخالف حزب الأمة ما قررته الجمعية العمومية التي طلبت المجلس طلبا أصليا ذاتيا، ورابعها: اقتصار الحزب في الدعوة للاجتماع على المشتركين في الجريدة ومع ذلك يدعى أنه يمثل الأمة.
وقد ردت الجريدة على ذلك موضحة أن الحرية الشخصية موجودة وكافلها القانون الذي تطلبه في الفقرة الثانية، كما أن ذكر التعليم وتصييره موافقا لنا لا يكون كذلك إلا إذا كان بلغتنا والمجلس النيابي غير محقق الأمل فيه إلا بظروف استثنائية للدول في أمرها حكم لا يستهان به، كما أن قصر الدعوة على أعضاء الجمعية العمومية لشركة الجريدة أمر طبيعي لأن الاجتماع لم يكن لتأليف حزب بل لإعلان برنامج حزب مؤلف من العام الماضي.
واحتدت المعركة بين الصحيفتين فخصصت الجريدة بابا دائما بعنوان " المؤيد وحزب الأمة" ترد في على دعاوى على يوسف الذي أنشأ سلسلة مقالات مطولة تحت عنوان " كيف أنشىء المؤيد- خطته السياسية- رأيه في حزب الأمة" أكد فيها على الشقاق القائم بين رجال الحزب والخديوي،
وأبان أن مدير الجريدة الذي يدعى خدمة الأمي يجب أن يعلم أن مصلحة الأمة في التحيز للسلطة الشرعية وأنكر أنه طلب الانضمام لشركة الجريدة التي لا تقبل أي شخص له علاقة بإحدى السلطتين وقبلت اقرب المقربين للوكالة البريطانية، كما حاول على يوسف الإيقاع بين الجريدة وحزب الأمة بإثارة مسألة علاقة الموظفين بالحزب الذي هو مشكل لأن يكون قوة أمام الحكومة باسم الأمة.
وخلال أكتوبر 1907 أعلن الحزب الوطني عن قيامه رسميا. فتأكد لدى على يوسف أن الخديوى لم يعد أمامه إلا المؤيد فمهد لإعلان حزب الإصلاح بمهادنة حزب الأمة، بل أنه وصل إلى حد دفاعه عنه عندما هاجمه الحزب الوطني فيما عرف بقضية " الاستقلال التام" وذكر المؤيد أن اللواء نسى أنه نادي بالاستقلال التام ألف مرة وبالتالي فه أسبق في معاداة الدولة العلية.
وحزب الإصلاح الذي أعلن عن قيامه في ديسمبر 1907، يتشابه إلى حد كبير مع حزب الأمة من حيث التكوين، فمجلس إدارته المكون من خمسة عشر عضوا، ضم بينهم ثلاثة باشوات وستة باكوات، ثم أن المؤسسين ، والذين انضموا إلى الحزب بعد تأسيسه " كلهم من سراة المصريين وكبار فضلائهم من باشوات وبكوات وعلماء ومحامين وذوات وأعيان" كما أيده من القوم" عقلاؤهم ووجهائهم وأهل العلم والعمل والثروة وذوو الصفات النيابية في البلاد"
وإذا أخذنا في اعتبارنا أن الكثير من المثقفين الشبان من أبناء الأعيان قد انضموا إلى حزب الأمة وأن غيرهم من فئات الشباب وطلبة المدارس قد أخذوا بمبادئ مصطفى كامل وحماسته المتدفقة، وإذا علمنا أن طبيعة حزب الإصلاح طبيعة جامدة محافظة لا ترضى طموح الشباب ،
حينئذ يمكننا استنتاج نوعية الفئات التي انضمت لحزب الإصلاح خاصة وقد فصل الحزب بين عضويته العاملة وغير العاملة بنصاب مالي ولعل عدم نص قانون حزب الأمة على إطلاق العضوية لمن شاء أو تحديد ذلك بنصاب مالي يمثل الفرق الوحيد بين الحزبين في هذه المسألة وإن كان لم يؤثر كثيرا في تكوين حزب الإصلاح وحجمه الذي يعتبر عدديا أقل بكثير من حزب الأمة، ففي اليوم الأول لإعلانه كان عدد الأعضاء 160 عضوا عاملا، يضاف إليهم مجلس الإدارة ويكونون جميعا جمعية الحزب العمومية.
ونظام حزب الإصلاح قريب الشبه بنظام حزب الأمة حيث يباشر أعماله مجلس إدارة يتكون من 15 شخصا ، وإن كان 25 في حزب الأمة ، وجمعية عمومية ( مادة 6) وبرغم أن قانونه نص على أنه سوف ينشىء فروعا في مدن القطر الكبرى ( مادة 1) إلا أننا لم نسمع سوى أصوات مندوبي المؤيد في الأقاليم فقط.
ولعل الفارق الأساسي في النظام بين الحزبين يتمثل في كون صاحب المؤيد ورئيس تحريره هو عينه رئيس حزب الإصلاح ، أما حزب الأمة فقد كانت الجريدة شركة جماعية يرأس تحريرها سكرتير الحزب. وعمليا كان الصحيفة وحدها لسان حال كل منهما.
وإذا كان حزب الأمة قد تجاهل في مبادئه السلطة الخديوية، فإن حزب الإصلاح قد وضع مسألة تأييدها في قمة برنامجه، أما مسألة الاحتلال والجلاء، فقد رأينا حزب الأمة يعرض مقدمات ووسائط تبلغ بها الأمة استقلالها ، ويقرر حزب الإصلاح تلك الوسائل ، وإن كان قد اسبقها بتأكيده الاعتماد على وعود وتصريحات بريطانيا ومطالبتها بتحقيقها ( مادة 2) أما مقدمات الاستقلال فقد تحددت بطلب مجلس نيابي تام السلطة وهو ما لم يطلبه حزب الأمة، كما أن برنامج حزب الإصلاح قد تجاهل الإصلاح الاقتصادي،
في حين احتل هذا الأمر نصف برنامج حزب الأمة، ولسنا نبالغ إذا قلنا أن حزب الإصلاح قد وضع أساسا لتحقيق المبدأ الأول من برنامجه " تأييد السلطة الخديوية فيما منحتها الفرمانات الشاهانية لاستقلال مصر الادارى" ذلك أن بقية برنامج الحزب قد ورد في برنامجي الحزبين الآخرين- الأمة والوطني- ولأن هذا المبدأ دون غيره ،كان محور الخلاف بين حزب الإصلاح والأحزاب الأخرى، وبالذات حزب الأمة،
ثم إن الحزب ظل قويا بقوة هذه السلطة، وضعف بضعفها، وزال بإشارة منها. وكان طبيعيا أن يغلب طابع الاعتدال على أسلوب الحزب، وذلك بحكم تكوينه، وعلاقته بالسلطة الشرعية خاصة فئ زمن الوفاق، وطبيعة المهمة التي أنشىء من أجلها، ويصرح شيخ المؤيد بذلك الاعتدال مؤكدا أن الاعتدال هو الوظيفة الطبيعية للعقل وخير الأمور الوسط.. وإن كل من خرج عنه بتطرف أو إفراط محكوم عليه بالخطأ والطيش .
كما أن خير دليل على اعتداله ، بمنطق حزب الأمة، موقفه من قضية الاحتلال الذي تقول عنه" المؤيد" لا ينبغي أن نكره هذا الضيف الذي نستفيد منه ونترقى به حتى تبلغ مبلغه من الرقى والكمال وحين ذلك نطالبه بالحسنة.. فيغنينا برقينا وتقدمنا عن المكافحة والنزاع ويؤكد على يوسف اختلاف جماعته مع الحزب المتطرف " فالإنجليز ينوون البقاء لا الجلاء غير أننا نختلف في طريقة إبدال هذا البقاء بالجلاء فهم يرون القوة ونحن نرى الاتفاق".
انتقدت الجريدة على حزب الإصلاح أنه توج مبادئه بذكر تأييد السلطة الخديوية " كأن عرش الخديوية في حاجة إلى تأييد، وما سمعنا أن ملكا يفتقر في تأييد سلطته لحزب ولا أن حزبا أسس لتأييد ملك ثم ما هو التهديد الذي يهدد الخديوية لتحتاج إلى تأييد" وكانت بذلك تنقد مسلك الخديوي تجاه الحزب لا العكس.
رغم تأكيدها أن التمسك بالعرش واجب مقدس على كل مصري والطريف أن الشيخ على يوسف الذي دافع عن موقف حزب الأمة في قضية الاستقلال التام ذكر في اجتماع حزبه، أنه لا يطلب الاستقلال التام الذي يطلبه سواه، ويعتبر من يطلبه لمصر مهددا للخديوي بالدرجة الأولى في حين أن الحزب الوطني قد فسره باعتباره مهددا للسيادة التركية.
وبتصاعد الخلاف بين الخديوي عباس وحزب الأمة في مطلع عام 1908 يتصاعد العداء بين حزب الأمة والإصلاح، إن لم يكن هذا الأخير مذكيا ومتحمسا له، ففي يناير عام 1908 حملت المؤيد على حزب الأمة حملتين كبيرتين تستهدفان تمزيقه بدأت أولاهما باحتضان المنشقين على الحزب خلال صراعه مع الخديوي، فنشرت نصوص استقالاتهم تحت عنوان شبه يومي هو " بين الجريدة ومساهميها"
وكلهم يعلنون تبرؤهم من خطة الحزب ومسلك الجريدة وينسحبون من شركتها رافعين دعاوى لتصفيتها وكان معظمهم يستنكر موقف الجريدة من العرش الخديوي، وقد خرجت الجريدة من هذه المحنة بفتح اكتتاب جديد قيمته أربعة آلاف جنيه وذكرت أن الاكتتاب تتوالى عليها بالتلغرافات من الأقاليم.
أما ثانيهما : فقد بدأتها المؤيد بنشر كتابي محمد عبده إلى ويلفرد بلنت اللذين ترجمهما اللواء .
على ما فيها من تصريح الشيخ برغبته في تجريد الخديوى من السلطة، وسألت المؤيد حزب الأمة : هل هذه آراء جمعيتكم السياسية، ألم يقتف حزبكم أثر المرحوم في مبادئه؟ وردت الجريدة موضحة أن كل الأحزاب تطلب المجلس النيابي والحكومة الدستورية، حتى حزب الإصلاح نفسه، أيطلب صاحبه حكومة دستورية حاكمها مطلق؟
وذكرت أن من أعضاء حزب الأمة من كان صديقا للمفتى رغم مخالفته لآرائه، ثم إن حزب الأمة لم يعلن أنه يقتفى أثر المرحوم في سياسته كما أن الشيخ على يوسف كان زمنا من أتباعه. فتهدد المؤيد " حزب المفتى" بأن لديها كتبا خصوصية لمحمد عبده وصورا وتقارير مطولة أرسلها للآستانة بين سنتي 1901، 1902 ولم تنشرها إكراما لمماته، فترد الجريدة متهمة المؤيد " بالتلبيس" مطالبة إياها بنشر ما عندها وهددتها بأنها ترمى بالحجر وبيتها من زجاج.
ويبدو أن هاتين الحملتين لم تجهزا على حزب الأمة برغم ما ذكرته صحيفة من أن عددا كبيرا من أعضائه انضموا إلى حزب الإصلاح لذلك أخذت المؤيد على عاتقها تنفي ممولي الجريدة واصفة إياهم بأنهم أداة في يد كتابها وتطالبهم باستبدال مديرها المحامى بمدير صحافي وأن يغيروا اسمها الذي حير الأفكار ، بل دفع الخديوى بصحفيه في انتخابات مجلس الشورى، فتساءلت " الجازت" كيف يحتمل أعضاء حزب الأمة في مجلس الشورى قبول زعيم حزب الإصلاح فيما بينهم.
وقد مرت بعد ذلك فترة هدوء بين الحزبين، يفسرها تقارب واضح بين حزب الأمة والحزب الوطني، كما يزداد اقتراب رجال حزب الأمة من على يوسف ، بصلحهم مع الخديوى، في الوقت الذي أذيع فيه أن الوزارة بصدد التغيير وظهر أن سيكون للخديوي سلطة في تأليف الوزارة الجديدة " فتألف حول المؤيد من كانوا منصرفين عنه بالأمس خصوصا بعدما شاع وذاع أنه كانت له اليد الكبرى في تعيين بعض النزار" ويدل على هذا سير محمود باشا سليمان، وعلى شعراوي باشا في جنازة ابن الشيخ على يوسف.
لكن الخلاف يعود مرة أخرى عندما خاب أمل حزب الأمة في الوزارة الجديدة، وبدأت علاقته بالخديوي تسوء مرة أخرى في بداية عام 1909، وكان من آثار ذلك القضية التي رفعها خمسة وعشرون عضوا من الجمعية العمومية لحزب الأمة، مطالبين بتصفية الجريدة وقطع لسان الحزب ولا تخف الحدة إلا بعد أن يخلد حزب الأمة،
وقد أضعفته وأنهكته ملة الاستقالات، إلى مهادنة الخديوى ، حيث شرعت جريدته في نشر قصائد مديحه وأخبار استقالاته، فبادلتها المؤيد ودا بود، وكفت في إثارة المتاعب للحزب وتشجيع المنشقين عليه، ثم لا تلبث أن تضع حزبي الأمة والإصلاح في معسكر واحد يضم " عظماء الأمة وكبار المفكرين في وادي النيل، وهما الحزبان اللذان يمثلان الرأي المعتدل في مصر"
لكن الخلاف يعود ليكدر صفو السلام بين الحزبين وكان السبب الأساسي كالعادة هو الخديوى، فقد قدم محمود سليمان وشعراوي تقريرا بشأن قانون الأزهر، يعارض ترؤس الخديوى للمجلس الأعلى للجامع، فهاجمت المؤيد هذا التقرير واعتبرت أن واضعه هو مدير الجريدة.
كما استنكرت وهاجمت رغبة حزب الأمة تكوين جبهة من " الأحرار" أو حزب الأحرار الاحتلالى النزعة والذي تنطق المقطم بلسانه وهذا الفريق من حزب الأمة، وقد استعانت بإسماعيل أباظة ، رجل الخديوى ليهاجم هؤلاء "الأحرار" الذين شكلت لجنة من المجلس لتكريمهم بدار الجريدة.
ويمثل موقف لطفي السيد من الحرب الطرابلسية آخر مرحلة للصراع بين الحزبين، كما أن حملة على يوسف على حزب الأمة بسبب ذلك كانت آخر حملاته على حزب الأمة، فلم يلبث أن عين شيخا للسجادة الوفائية بأمر عالم في مارس 1912 .
وتعتبر هذه الحملة هي أول جلة يشنها المؤيد دون أن يكون محورها الخديوى، وإن اتصلت به بشكل ما، كذلك لم ينفرد بها صاحب المؤيد وحده، فقد كانت كافة القوى الوطنية بل وفريق من حزب الأمة نفسه، في معسكره وموقف حزب الإصلاح من مساعدة الطرابلسيين يتصل باعتبارها مسألة إسلامية لا تركية فكان رئيسه من المطالبين بتشكيل لجنة الاكتتاب فما أن نشر لطفي مقالات " سياسية العواطف" حتى انبرت لنشر برقيات مساهما الجريدة المستنكرين خطتها والمطالبين بمحاربتها،
ثم ردت عليها بسلسلة مقالات عنوانها " التخبط في السياسة بين المنافع والعواطف" طعنت فيه على لطفي السيد طعنا جارحا واتهمته باحتقار الرأي العام وإرضاء الإنجليز، والإلحاد ولم تنته المعركة إلا بانتقال الشيخ على يوسف إلى السجادة الوفائية، بعد أن استنفد لدى الخديوى مسوغات وجوده، وإن كانت سنواته الأخيرة قد أكدت هذا من قبل ،
فقد كان واضحا أن الحزب ليس أكثر من كومنه صحيفة تدافع عن الخديوى ضد الأحزاب الأخرى، ولكن مع فرض قانون المطبوعات والقوانين المكممة لأفواه الوطنيين، وتدهور الحزب الوطني ومع مجيء سياسة الخلاف بين السلطتين في ركاب كتشنر وما صحبها من تقوقع الأحزاب وانصراف الكثير عنها، لم يعد الخديوى بحاجة إلى صحيفة تحميه أو حزب يدافع عنه.
إذا حاولنا أن نعطى بقية الأحزاب المصرية، توصيفات حقيقية فسوف ننزع عنها بالفعل تسميتها " بالأحزاب" . ذلك أنها كانت تكوينات ذات وجود لفظي أكثر منه فعلى، فقد نشأت من واقع العداء لفكرة معينة، أو لخدمة علاقة بعينها، أو نتيجة حادثة ما، كما أنها- باستثناء الحزب الوطني الحر- لا تملك صحفا للتعبير عن نفسها، كما افتقدت وسائل التعبير الأخرى، التي تكفل لها وجودا معنويا وعضويا.فلسنا نعرف لإحداها ما يعتبر هيئة برلمانية أو تشكيلا من نوع ما،
ثم إن معظم القائمين عليها كانوا من الكتاب والصحافيين . وتبعا لذلك أصبحت كيانات هذه الأحزاب- إن كان ثمة كيان لإحداها- هزيلة ومتواضعة ووهمية في أغلب الأحيان. كذلك لم يكن لأغلبها برامج محددة.
ومن ثم سوف تقتصر دراستنا لعلاقة حزب الأمة بهذه الأحزاب على " مواطن الاحتكاك " التي حدثت بينهما وبين حزب الأمة طالما وجدت وسيلة للتعبير عن هذه المسألة أو تلك. وهذه الأحزاب هي الحزب المصري أو حزب المصريين المستقلين ( سبتمبر 1908) / حزب النبلاء أو الأعيان" أكتوبر 1908) ، الحزب الدستوري أو مصر الفتاة ( 1909) ، ولم تكن هناك صلة – فيما درسنا- بين حزب الأمة والحزبين الأخيرين.
أما الحزب الوطني الحر أو حزب الأحرار الذي عرض محمد وحيد برنامجه في صحيفة " المقطم" في 26 يوليو 1907، والتي اتخذت لسان حاله منذ البداية، فصلته بالاحتلال معروفة بما فيه الكفاية، ولعل هذه الصلة مثلت محور علاقته بحزب الأمة، كما جعلت " المقطم" الصحيفة الثانية – بعد المؤيد- التي اهتمت بمسألة إصدار " الجريدة" ووصفت القائمين عليها بالأفاضل المعتدلين، وذكرت أن ما ذكره المتطيرون من استحكام وشائج الود بين الاحتلال وأصحاب الجريدة هو بعينه الكفيل بنجاحه.
ثم رحبت " بالجيروندست" أو الحزب المعتدل وهاجمت اللواء حين أنكرت وجود حزب بمصر سوى الحزب الوطني.
وحين عرض محمد وحيد مبادئ حزبه كان على رأسها مسالمة المحتلين والسعي في نيل ثقتهم والاتفاق معهم على ما فيه خير القطر وترقيته وإنجاحه، وتدور باقي المبادئ حول التدرج واجتناب الطفرة وإعداد الأمة لقبول الإصلاح الذي يأتي به الإنجليز وهى في مجموعها لا تختلف كثيرا عن فلسفة حزب الأمة، وكان أول احتكاك بين صحيفتي الحزبين- الأمة والأحرار- حين سألت المقطم الجريدة عمن تقصد بأصحاب المصالح الحقيقية،
فردت الجريدة بأنهم هم الذين يدافعون عن بلادهم وقت الشدة ويجهرون بأنه لي في البلد تهييج ولا مهيجون بيد أن حزب الأمة يرى أن ثمة فارقا بين اعتداله واعتدال حزب الأحرار ، بل يرى في ذلك الرضا للاحتلال. فمثلا حين يبرق وحيد على الخديوي وهو بالآستانة ليؤكد له باسم حزبه أنهم راضون عن الاحتلال تمام الرضي ويعترفون بحسناته وثمراته، لا ترى الجريدة لهذه البرقية سببا ظاهرا وتعتقد أن هذا السعي في شكله لا ينطبق على ما يدعيه الأحرار.
وبالرغم من هذا يصر حزب الأحرار على الاقتراب من حزب الأمة، بل ويعتبر نفسه فريقا من حزب الإمام محمد عبده، اختص بالجانب السياسي من هذه الحزب الكبير ويقرن بين أفكار حسن باشا عبد الرازق في خطبة إعلان الحزب، وبين أفكاره، وأن كل من هنالك هو أن حزب الأمة يفصل مثلا في بعض الأمور إلى يجملها حزب الأحرار، ولتمام الفائدة يرى أن يجمعا قوتيهما ويعملان حزبا واحدا بينما تجاهلت الجريدة الرد عليه،
وحتى حين سألها المقطم عما تقصده بكلمة" أمة" لتوجد نوعا آخر من الاتفاق بين الحزبين، أصرت الجريدة على التجاهل حتى لا تكسب حزبها صفة محددة، ربما حوسبت عليها بعد أن تحدد موقفها من سياسة الوفاق ورأت أنه إذا كانت المقطم تقول بالرضا عن الاحتلال فالجريدة لا تقول بذلك لأن الوقت لم يحن بعد.
ومع هذا لا يفتأ حزب الأحرار أن يبدى رغبته في الاتحاد مع حزب الأمة الذي حاول الإيقاع بين محمد وحيد وبين صاحب المقطم الدكتور فارس، " الذي أفسح صدره لهذا الحزب الخيالي الذي ليس له حظ من الوجود إلا الاسم " . وتأبى المقطم إلا أن تؤكد أن الحزبين مختلفان لفظا ومتفقان معنى .
فتكرر الجريدة أن الخلاف بينهما هو الرضا بالاحتلال الذي تقول به المقطم فترد هذه بأن الاحتلال موجود رضينا أم لم نرض ووجوده غير متعلق على رضانا، وأن المصلحة تقضى علينا بمسالمتهم والاشتراك معهم في عمل يفيد القطر وهو منطق التعامل مع الاحتلال اعتماد على الواقع مع المسالمة، والذي نادت به الجريدة من قبل، ولا يكف حزب الأحرار عن محاولته الالتصاق بحزب الأمة عن طريق الإعداد لاجتماع بين محمد وحيد ولطفي السيد ، أو فتح اكتتاب عام لإقامة تمثال لمحمد عبده.
ترك محمد وحيد المقطم على أثر خلاف مع صاحبها، وأصدر صحيفة الأحرار فاتخذت علاقته بحزب الأمة شكلا جديدا، بعد فشل كل محاولاته للاتحاد معه كما أن حزب الأمة منذ الشهور الأولى لعام 1908 قد بدا حملته على سياسة الاحتلال البريطاني، ومهاجمة الوفاق، حينئذ اندفع حزب الأحرار في شن حملة قوية عليه اتهمه فيها بأنه " حزب تيهان وجريدته تيهانة" أنه قام به نفر من الغيطانيين ذوى الغيطان ليس إلا .
ووصفه بأنه لا مذهب له ولا مشرب لجريدته وأنه " حزب متلون" ولطفي السيد" غلام متلون" . ولكن حزب الأمة تجاهل وجود هذا الحزب وتجاهل محمد وحيد بعد إصداره لصحيفته، فلم نعثر على مقال واحد في الرد عليه، بل ولم نعد نسمع عم حزب الأحرار نفسه الذي أغلقت صحيفته في منتصف عام 1910.
أما الحزب الجمهوري: فقد ظهر في ديسمبر 1907 حين أصدر محمد افندى غانم رئيسه بيانا أعلن فيه أن هدف الحزب الأساسي تلقين المصريين مبادئ الجمهورية حتى إذا زال الاحتلال تحول نظام الحكم في البلاد إلى شكل جديد للمصريين في ظله أن يختاروا حكمهم بأنفسهم، وكان ضمن الأحزاب المعادية للحكم الأوتقراطى الذي مارسته أسرة محمد على . وقد نادي محمد غانم على صفحات جريدة " الأخبار " التي أفسحت صدرها لدعوته، بسيادة الأمة واعتبارها مصدر كل سلطة.
ورغم ما يجمع هذا الحزب وحزب الأمة من عداء للخديوي وأسرته ودعوة الحزب الجمهوري إلى سيادة الأمة أو سلطة الأمة، مع اختلاف نظرة كل منهما لكيفية ممارستها لهذه السلطة، إلا أن حزب الأمة لم يكن على استعداد لمجاراة هذا الحزب في دعوته، ومع ذلك كان محمد غانم وهو يهاجم" " جرائد السلطة المطلقة والأغراض الشخصية" يضع جريدة حزب الأمة في موضع وسط" فبرغم أنها نادت بسلطة الأمة إلا أنها برأت نفسها من القول بأشرف المبادئ الوطنية وهو الاستقلال التام حرصا على مركزها المالي" ، وكان يأمل أن يتحد الحزبان لأن حزب الأمة ينادى بالجمهورية بضميره وينكرها بلسانه...
فسلطة الأمة واحدة ولا تتعدد ووحدتها الجمهورية " فما لحزب الأمة ينادى بأمر ويسعى على ضده" وربما خشي حزب الأمة من تطرف مبادئ محمد غانم فلم يعلق عليها بشيء وربما أيضا لم تسمح الفترة التي عاش خلالها الحزب الجمهوري، ولم تتجاوز بضعة أشهر، بتطور من نوع ما لعلاقة هذا الحزب بحزب الأمة.
وأخيرا الحزب المصري، فحين صدرت " الجريدة" رحبت بها الصحف القبطية، التي تحدثت باسم الحزب المصري فيما بعد، وكان هذا الترحيب يرجع إلى رفع الجريدة لشعار الاعتدال الذي أشادت به صحيفة " الوطن" ورأت أن خطة حزب الأمة موافقة كل الموافقة لسياسة " الوطن" التي نادي بها الشهور والأعوام ,وأشادت صحيفة مصر بسياسة " المسالمة لا المعاندة" للاحتلال. ورأت أن جرائد الحزب الوطني قد عميت عن هذه الحقيقة. كما أشادت بسياسة حزب الأمة
وذكرت أنه طالما نادت بالاعتدال إزاء المحتلين، وأن يتولى الأعيان والقائمون بالنيابة إصلاح الأخطاء، وكانت شركة الجريدة وبالتالي الجمعية العمومية لحزب الأمة تضم 16 قبطيا من بين أعضائها البالغين 113 عضوا، ولعل سر اهتمامهم بالمساهمة في حزب الأمة يرجع إلى خشيتهم سيطرة الميول والاتجاهات الإسلامية على الحزب الوطني،
كما أن إعلان " الجريدة" لسلوكها سبيل الاعتدال، قد قربهم منها أكثرن بالإضافة إلى أن أعيان الأقباط وجدوا في حزب " الأعيان" متنفسا طبيعيا للتعبير عن مصالحهم، وقد شرعت صحيفة مصر في مهاجمة حزب الأمة عندما تبنى هذا أساليب الحزب الوطني ، في فترة وفاقه معه، فرأت " مصر" أن حزب الأمة قد سار مع الحزب الوطني جنبا إلى جنب وضرب على كل أوتاره ، رآه ينكر على عنصر الأقباط حقوقه ويطعنه بأقبح الطعنات فداراه ولم يجترئ على الاحتجاج عليه وعلقت على خطبة لطفي السيد بالإسكندرية في أغسطس 1908 بأنها كخطب محمد فريد، وأن هدفه كان إرضاء الغوغاء وأن كلامه الطي عن الوطنية ليس إلا غشاء كاذبا، وأنه يتنازع مع محمد فريد دولة الغوغاء في مصر,
وقد تجاهلت " الجريدة" ذلك كله، لعزوفها عن الدخول معارك طائفية، كما أن حرصها على تجنب الخوض في المسائل الدينية النابع ساسا من معتقداتها الخاصة، جعلها تتجاهل قيام الحزب الذي لم نعد نسمع عنه بعد قيامه في 23 سبتمبر عام 1908.
كانت مسألتا الاحتلال البريطاني والسيادة العثمانية هما المحركان الأساسيان لعلاقة حزب الأمة بالحزب الوطني، ورغم اختلاف الحزبين حول هاتين المسألتين وأسلوب التعامل بشأنهما- تطرفا واعتدالا- فإن العلاقات الودية ظلت بين الحزبين ، مما يؤكد أن الخلاف في المبادئ والمواقف شيء وأن حسن العلاقة شيء آخر،
فالمسألة الأخيرة مستمرة أما الأولى فلا تتغير إلا بتخلي أحدهما عن موقفه إزاء هاتين المسألتين أو أسلوب التعامل معهما، ولم يحدث هذا كثيرا في حركة العلاقة بين الحزبين، إلا عندما تبنى حزب الأمة بعض أساليب الحزب الوطني أو عندما أبدى زعيم الحزب الوطني استعداده لقبول حلول معتدلة، فقد رأينا للمرة الأولى في تاريخ الحزبين تقاربا أساسه اتفاق موقفيهما من الاحتلال، يتصل به تقارب آخر أساسه ما يعتبر تغيرا في موقف الحزب الوطني إزاء السيادة العثمانية خلال الحرب الأولى.
وعلى غير ذلك كان الخديوي محور علاقة حزب الأمة بحزب الإصلاح، حيث كان المؤثر الحقيقي إن لم يكن الوحيد في حركة العلاقة بين الحزبين وليس هذا غريبا على حزب أقامه الخديوي في مقابل حزب ينفس على الخديوي سلطته، ومن ثم كانت طبيعة العداء هي الغالبة وما سواها لم يكن غير نوع من المهادنة وحين تصاعد عداء حزب الأمة مع الخديوي في سنوات الوفاق ساهمت صحيفة حزب الإصلاح في ضعضعة حزب الأمة وإن لم تجهز عليه، ولم يحدث أن عرفت علاقة الحزبين لها محورا غير الخديوي سوى مرة واحدة خلال الحرب الطرابلسية حين شارك حزب الإصلاح بقية القوى السياسية .
الفصل الخامس : حزب الأمة بين القومية المصرية والسيادة العثمانية
السيادة العثمانية وموقف المصريين منها
القومية المصرية وجماعة محمد عبده
حزب الأمة وعلاقة مصر بالدولة العثمانية
لطفي السيد والجامعة المصرية
الحرب الطرابلسية.
نود بادي ذي بدء أن نميز بين موقف حزب الأمة من الدولة صاحبة السيادة القانونية على مصر، أي الدولة العثمانية، من واقع مفهومين لهذه السيادة أو السلطة: أحدهما سياسي ، يتمثل في علاقة مصر بالدولة ، وموقف كل منهما من أحداث الأخرى وبالتالي موقف حزب الأمة من ذلك، والآخر ديني بحكم أن تركيا ، مقر الخلافة الإسلامية أو دار الخلافة، وهذا المفهوم ذو مضمون فكرى يتعلق بمعنى القومية عند كل من مصر وتركيا، أو باحتواء القومية الدينية لهما معا، وليس هذا التمييز من قبيل الفصل بين مسائل السياسة وقضايا الفكر.
ذلك أن العلاقة بينهما مستمرة وحيوية وأزلية، فكثيرا ما أضافت أفاعيل السياسة مضامين جديدة أو مستحدثة لفكرة القومية ، وهذه بدورها تؤثر على الموقف السياسي هنا وهناك. ولكن تمييزها هنا ينبني على ملامح معينة لتلك الفترة بالذات ، ففي العقد الأول للقرن العشرين كانت فكرة القومية المصرية قد ثبتت أقدامها، وأخذت مفاهيم جديدة بجانب المفهوم الديني، أو على الأقل لم يعد الدين هو العامل الحاسم في هذه المسألة.
كما أنه وعقب هذا العقد مباشرة، بدا أن القومية العثمانية ، ذات الأساس الإسلامى، قد بدأت في التحول نحو اتجاه تركي محض، دافعة بذلك أسسا جديدة لقوميات تقوم على اللغة أو الجنس ، بعيدا عن الأساس الديني وبالمثل فإن التطورات الداخلية لكل قطر من أقطار الدولة العثمانية قد تطلبت أن تقف الدولة منها مواقف محددة أدت بدورها إلى تغييرات في نوعية هذه العلاقة.
وأخيرا فإن اتجاهات الحركة الوطنية المصرية قد تراوحت بين الإيمان بدعوة الجامعة الإسلامية أو رفضها، وبين الاعتراف بسلطان الدولة السياسي ومدى الولاء له، أو حتى إنكاره.
وبمقتضى معاهدة لندن عام 1840، أصبحت مصر ولاية غير عادية من ولايات الدولة العثمانية، ولم تمارس عليا الدولة من حقوق السيادة سوى تعيين واليها وتحصيل جزية سنوية، ويخطب باسم خليفتها فى مساجد مصر، وتسك باسمه عملتها، وتعين قاضى القضاة، على ان يكون لها قوميسيرا عاليا في مصر، بمثابة تجسيد ناطق لهذه السيادة، التي لم تتخذ سلوكا عمليا أكثر من إصدار فرمانات التولية والخلع لحكام مصر من أسرة محمد على. وحين أرادت تأكيد حريتها في تغيير حدود مصر، طبقا لسيادتها القانونية عليها، فشلت في ذلك كما سبق لها أن منيت بنفس الفشل حين لعبت دور المفاوض لإجلاء انجلترا عن مصر، ليثبت بعد ذلك أن هذه السيادة عمليا تعد شيئا شبه وهمي،
وكان المصريون باستثناء فريق منهم، قانعين بذلك أو مؤيدين لها، ومغلوبين على أمرهم في كل الأحوال، وإن لم ينبعث رضاهم من تفريطهم في حقوق مصر أو حرصهم على إرضاء دولة الخلافة، بل كان انسياقا عاطفيا- دينيا في مواجهة العدو المخالف لهم في الدين بالرغم من أن تركيا لم يبد أنها ستقوم بعمل جدي تجاه الاحتلال، وكان أمرا طبيعيا أن تقوم الحركة الوطنية المصرية من نطلق اسلامى بالدرجة الأولى في مجتمع يموج بالولاء لخليفة المسلمين،
فالتيار القومي لم يكن قد اشتد عوده بعد والجيل الذي كان عليه أن يعبر عنه لم يزل يتحسس موقع أقدامه في الحياة السياسية، كما كانت دعوة السلطان عبد الحميد للجامعة الإسلامية قد وجدت صداها في مصر، التي دخل في يقينها أن عصيانها لدولة الخلافة قد ألقى بها تحت أقدام الإنجليز ومن ثم كان عليها استدراك ذلك فيما بعد.
وبالرغم من أن الولاء للدولة العثمانية قد انبعث أساسا من واقع ديني إلا أن التعبير عنه قد جاء بسبب سياسي مؤداه إثبات عدم شرعية الاحتلال الإنجليزي بالتأكيد على شرعية وقانونية السيادة العثمانية على مصر، كما أن مشكلة الحركة الوطنية المصرية آنئذ ليست في علاقتها بالجامعة الإسلامية ، فالدين والوطنية توأمان عند مصطفى كامل، بل في مواجهة الاحتلال البريطاني الجاثم على صدرها.
وقد عبرت الحركة الوطنية الجديدة عن موقفها من الدولة العثمانية تعبيرا نظريا ذا مضمون ديني، فمثلا نجد أن أحد رجالها وهو محمد فريد قد ألف كتابا عن تاريخ الدولة العلية عام 1894 هدفه تبيان فضل الدولة في إبقاء دولة الإسلام، والدفاع عنه ضد دول أوربا المسيحية أوضح فيه أن المسألة الشرقية دينية لا سياسية.
ولكن العلاقة اتخذت موقفا عمليا عندما اشتعلت الحرب التركية- اليونانية ( 1897) حيث تألفت لجنة مصرية لجمع التبرعات لجرحى الجيش التركي وقطعت العلاقات مع قنصل اليونان تبعا لأوامر الدولة . وكان في تأكيد تبعية مصر للدولة العثمانية- كما يقول محمد فريد- هذه التبعية التي لا تفيد مصر أقل فائدة أدبية، تقوية حجة المعارضين للانجليز في مصر " فلو أن الدولة العلية غير قادرة على إلزام الإنجليز بالخروج من مصر لكن لا يخفى ما في تأييده روابط التبعية من غل أيدي الانكليز ع ابتلاع مصر صفقة واحدة".
ومع هذا فقد ميز الوطنيون بين عدائهم للطبقة التركية المقيمة بين ظهرانيهم واحتقارهم للمصريين، وبين الولاء لتركيا، صاحبة السيادة في ظل حكم وطني، فقد أبدى محمد فريد سروره من تعيين الشبان المصريين في مناصب الدولة الإدارية لأنهم يدركون معنى الوطنية وحقوق الوطنية، ولا يحتقرون المصري ولا يضطهدونه كالبشوات الذين من أصل تركي.
وقد اشترك الوطنيون المصريون اشتراكا فعليا في مختلف أنشطة الجامعة الإسلامية، ففي عام 1900 انفردت صحيفة اللواء بتدبير حملة لجمع التبرعات لسكة حديد الحجاز، بل إن التقارير البريطانية قد اتهمتها بأنها كانت على اتصال ببعض الجمعيات السرية الداعية للجامعة الإسلامية وقد بادل السلطان الزعماء الوطنيين ودا بود،
فأغدق عليهم الرتب والنياشين، وفتح لهم أبوبا " يلدز" عند زياراتهم لعاصمته التي كانت مزارا ومصيفا لكثير من وجهائهم" وحين أشيع أن السلطان قد يشعل ثورة إسلامية للدفاع عن الإمبراطورية ، سارعت الصحف الإسلامية في مصر بنشر المقالات لجذب اهتمام الناس استجابة لما عسى أن يطلب السلطان.
وتمثل حادثة طابة 1906 قمة النضج بالنسبة لموقف الحركة الوطنية المصرية من أن الدولة تبغي الاقتطاع من ممتلكات مصر وتخومها، وأن بريطانيا هي التي تحول دون ذلك، وكان هذا التأييد ينطلق من أساسيين يتعلقان بموقف القوى الوطنية من كل من تركيا وبريطانيا، بل هو تعبير حاد عن علاقتها بكل منهما حين ووجهت بكلتاهما في وقت واحد،
بيد أن مصر بإطلاقها لم تكن ظهيرا للدولة، فهناك فئة لم تكن نفس الحماسة لدولة الخلافة ، وبعيدا عن اتهامها بمشايعة الإنجليز، فإنها اعتبرت موقفها الذي وضعها في معسكر الإنجليز، قد انبعث أصلا من أرضية قومية مصرية صحيحة.
وكان تطور مفهوم القومية المصرية حتى بداية القرن قد أعطى هذا الفريق من المصريين حجة قوية للوقوف في وجه أطماع تركيا فاعتمدوا على سند قانوني حددته معاهدة لندن عام 1840، والتي باتت حدا أدنى لعلاقة مصر بتركيا، وكان نصف القرن التالي للمعاهدة قد شهد نموا كبيرا لفكرة القومية المصرية والتي نبهت الحملة الفرنسية إلى إمكانية قيام دولة جديدة على أساساها وجاءت انجازات محمد على لتقيم هيكلها،
هذا بالإضافة إلى ما أحدثه الاتصال بأوربا وفكر الثورة الفرنسية، مما بدا أثره في كتابات المفكرين المصريين ، بدءا بالطهطاوي أول مصري رأى في مصر أمة متميزة عن الجسم العام للمجتمع الإسلامي، وحتى أحمد لطفي السيد، وبينهما ساهم محمد عبده وعبد الله النديم وأديب اسحق، وحسين المرصفى وغيرهم، في تكوين تلك المشاعر التي ما لبثت أن تراكمت حول مفهوم الأمة بالمعنى الحديث،
وكونت الحالة النفسية المعروفة بالقومية ، وبدا أثرها واضحا في كتاباتهم وكان ذلك كله من خلال ما قدمه إسماعيل من قنوات ثقافية بالإضافة على مواقفه التي ساعدت على إبراز مصر كدولة قومية في عهده وقد تحددت عناصر القومية المصرية من ينبوعين
أولهما: العلمانية الليبرالية التي تميزت بها أوربا في القرن التاسع عشر، والتي كان استيعابها وقبولها مباشر، وثانيهما : حركة الإصلاح الإسلامية التي صاغ مفاهيمها محمد عبده ورشيد رضا.
وقد ساهم محمد عبده في بلورة القومية المصرية بالرغم من سيادة الشعور الديني العام في عصره، والذي بدا كما لو كان قد أذاب كافة عناصر القومية الأخرى في سعيره فذكر محمد عبده عام 1876 أن الشعب المصري لا ينفى ولا يندم عليه فيه، بل يعيش ويحفظ مشخصاته القومية، والحكومات أعراض تزول وهو لا يزول، وكان اهتمامه بالاكتشافات الأثرية متمما لوعيه بقومية مصر. فوجدها مناسبة للتأكيد على الجوانب المتحضرة للشعب المصري،
كما كان أول من دعم الفكرة القومية بسعي للإصلاح الاجتماعي والديني دعما وثيقا بحيث صاغ تلك الوطنية في قالب حي متطور ذي برامج أجماعية وإصلاحية تشمل مختلف الحقول ، إلا أنه لم يكن يرى تعارضا بين القومية المصرية والقومية الدينية، داخل إطار الدول العثمانية ، التي ارتبطت في ذهنه بالخلافة كنظام إسلامي، فحتى ذلك الحين لم يكن ثمة مجال للصدام بينهما، بل أنه حتى أكتوبر عام 1881 كان يرى أن " الدولة العلية لها علينا حق السيدة والولاية ولها منا ما خولتنا الامتيازات التي منحتنا إياها بمقتضى الفرمانات العلية.
فكأنه وقد أحس بالضغط الأوربي على مصر ، لا يريد أن يفتح بابا للتدخل الأوربي ، كما لا يريد أن يدع مجالا للخلاف بين مصر وتركيا في الوقت الذي كسب فيه العرابيون الجولة الأولى، لكن اكتشاف المؤامرة الشركسية قد أشرب محمد عبده كراهية عميقة للأتراك، وقد ذكر لبلنت أن لكل مصري يكره الأتراك ويمقت ذكرهم وليس هناك من لا يفكر في تجريد فرصتنا لنحقق الاستقلال التام.
وعندما تألفت وزارة راغب باشا التي أرضت الأتراك والشراكسة ووقعت فظائع الإسكندرية ازداد تراكم الأتراك في نفس محمد عبده ، وقد روى بلنت أنه سمع البارودي وعبده ونديم يلعنون السلاطين والأمم التركية من عهد جنكيز خان وهولاكو حتى عبد الحميد وقد أساءت مواقف السلطان محمد عبده ،
وقد أساءت مواقف السلطان محمد عبده وهو المصلح الديني المستنير، فاتهم عبد الحميد بأنه أساء إلى الخلافة وذكر أن ما حاوله من الانتفاع بلقب الخلافة، وبمنصبها الروحي لا يرجى منه أدنى فائدة للمسلمين لجهله وجهل رجاله بمعنى الخلافة وبالوسائل التي يمكن بها إحياء منصبها والانتفاع به
وأوضح أن الأسرة العثمانية باتت غير أهل لإمارة المسلمين وحين كان منفيا في سوريا على أثر الحكم عليه بتهمة " العرابية" عاد إلى اتجاهه الاصلاحى، وتراجع هن مواقفه من السلطان، إن لم يكن قد اعتذر عنها ، وذكر في رسالته إلى والى حلب أن المحافظة على الدولة العثمانية ثالثة العقائد بعد الإيمان بالله ورسوله فإنها وحدها الحافظة لسلطان الدين والكافلة لبقاء حوزته.
ويبدو أنه كوفئ على ذلك باشتراك السلطات في الوساطات لدى الخديوي توفيق للعفو عنه وإعادته إلى مصر، وإن كان محمد عبده قد فسر موقفه هذا فيما بعد حين فصل بين موقفه من السلطان وبين خشيته على الدين، فقال" وأنا أيضا أكره أعمال السلطان ولكن لا يوجد مسلم يريد بالدولة سوءا، فإنها سياج في الجملة إذا سقطت نبقى نحن المسلمين كاليهود بل أقل من اليهود".
ويظل الشيخ على احتقاره لآل عثمان حتى السنوات الأخيرة من عمره، ولما زار جنيف كان يتحدث إلى بعض المصريين هناك- ومنهم لطفي السيد- ضد السلطان.
وقد سمحت صلات محمد عبده برجال الاحتلال باحتداد موقفه إزاء السلطان والسيادة العثمانية، وقد بدا موقف بريطانيا تجاه هذه السياسة واضحا خلال الأزمة التي عرفت بفرمان التولية عام 1892، وعندما زار محمد عبده الآستانة ( 1901) كانت في جيبه توصية من اللورد كرومر إلى سفير انجلترا ليستخدمها عند الضرورة ،
وبعد وفاة محمد عبده، اتضح موقف بريطانيا أكثر في أزمة طابة 1906 حيث أدرك كرومر أنه إلى جانب حركة الجامعة الإسلامية توجد حركة وطنية وأن الحركتين ممتزجتان وإن كانت حركة الجامعة الإسلامية أقوى ، إلا أن فكرة الجامعة الوطنية أو القومية المصرية قد ازدهرت وآتت ثمارها وقد وصف كرومر أتباع محمد عبده بأنهم تلك الفئة التي تمثل القومية المصرية وأنهم وطنيون صادقون يبغون ترقية مصالح بلدهم وأبناء دينهم، ولكنهم مجردين م صفة الجامعة الإسلامية.
وحتى الاحتلال البريطاني لمصر لم تكن مشكلة العلاقة بين الأمة الإسلامية والقومية المصرية قد أثيرت بالشكل الذي بدت به عقب الاحتلال مباشرة، وآخذين في الاعتبار القدر الذي بلغته فكرة القومية المصرية من النضج، وتواكب ذلك مع الأزمات السياسية التي حدثت بعد الاحتلال ، التي أذكتها سلطاته لا بقصد تقوية فكرة القومية المصرية لذاتها ولكن لتواجه مصر الدولة العثمانية وتنفصل عنها،
فإن المشكلة أثيرت ووجد أطرافها الثلاثة في حادثة طابة متنفسا لهم فكانت نقطة تفكير ذلك الفريق من أتباع محمد عبده، في إصدار " الجريدة" والتعبير عن موقف " مصري" في مواجهة أطماع الدولة العثمانية، لذا يعتبر صدور الجريدة بدرجة ما – أول موقف عملي لهذه الجماعة إزاء سيادة الدولة العثمانية على مصر.
وفى الجانب الفكري أصبحت فكرة القومية المصرية مألوفة ومقبولة لدى الجميع ، في الوقت الذي بدت فيه فكرة الجامعة الإسلامية مجرد فكرة رومانسية ومن ثم كان تركيزهم الرئيسي على شئون مصر المحلية، باعتبارهم مصريين يحسون بالولاء لمجتمع لم يكن من الممكن لهم أن يعتبروه جزءا من الأمة الإسلامية فقط وكان نفر من هؤلاء قد عبروا عن تلك النظرة من خلال كتاباتهم ، فأحمد زغلول، قد أهدى ترجمته لكتاب ديمولان " سر تقدم الإنجليز" إلى الناطقين بالضاد عموما، وإلى المصريين خصوصا.
كما روى قاسم أمين قصة الطفل الفرنسي الذي رآه يرفع قبعته ليحيى علم بلاده، وقد علق على ذلك موضحا كيفية غرس " الشعور الوطني" محللا أسباب انحطاطه عند المصريين ، ويرد على الدوق داركور بكتابه " مصر والمصريين" الذي يؤكد المعاني السابقة ، كما تمتلئ " كلماته" بالأحاديث حول الأحاسيس الوطنية في مصر.
وكانت الجريدة تعنى بمقالاتها العديدة التي تصدرت أعدادها الأولى بعنوان " الوطنية في مصر" تفسير عناصر تلك القومية أو بمعنى آخر التركيز على الوجه الآخر لعلاقة مصر بالدولة، أي الجامعة الوطنية، في مقابل الجامعة الإسلامية أو " البانسلامزم" التي منحتها تعريفا جديدا يختلف عن التعريف الشائع في عصرها " والذي أكسبته أوربا مفهوما صليبيا"فالجامعة الإسلامية عند جماعة " الجريدة" شعور المسلمين بالافتقار إلى الحرية والاستقلال وأنها واجب ديني وليس تعصبا دينيا، وسر نهضة المصريين الحديثة أنه تلبية لداعي البانسلامزم، أو هي بانسلامزم محلى فحصرت بذلك نطاق هذه الجامعة في المفهوم الديني،
ونأت بهذا عن التعصب فالمسلمون لم يتفقوا اتفاقا سياسيا بعد عهد عمر، بل ولم يتفقوا اتفاقا دينيا بعد عهد على، ولم يكن هذا الحديث موجها إلى أوربا ، التي تلغط بالجامعة الإسلامية بقدر ما كان موجها إلى السيادة العثمانية ذاتها ومؤيديها في مصر،
وقد أكدت الجريدة موقفها بتأييدها لمؤتمر اسلامى يعقد في القاهرة لإصلاح شون المسلمين الاجتماعية دعا إليه إسماعيل بك غصبرسكى صاحب جريدة " ترجمان" إلى جانب سعيها إلى إبراز الجنسية المصرية، منتهزة فرصة رفض الحكومة المصرية التصريح لواحد من المترجمين في قنصلية ايطاليا بالتجنيس بالايطالية، وإحالتها ذلك على الآستانة،
فبرغم تأييدها لمسلك الحكومة، فإنها اتخذت من ذلك فرصة للحديث عن الجنسية المصرية وإبرازها من قاعدة أنه يجوز للشخص أن يكون جنسيتان جنسية عامة تربطه بدولة كبيرة، وجنسية خاصة وأكدت أن كل الدول تعتبر مصر حكومة مستقلة وأنها تعاملها كما تعامل الحكومات المستقلة.
وعندما أعلن حزب الأمة مبادئه لم يشر على موقفه من علاقة مصر بالدولة العثمانية أو علاقة ذلك بقضية استقلال مصر، وحين اتهمته اللواء بأنه يوزع منشورات تدعو للاستقلال التام ، وأنه بذلك يطلب فصل مصر عن الدولة ردت الجريدة بأن " الاستقلال الذي يطلبه هو أن تصبح الحكومة مستقلة استقلالا تاما" تحت سيادة الباب العالي"وكاملا" بالنسبة للدول الأخرى، وحددت معناه " بالأوتونومى" وهو غير الاستقلال الكامل " الأندباندنس" ، ولعل الحزب رأى أن إثارة هذه المسألة أمر سابق لأوانه، خاصة وهو في دور التكوين، الأمر الذي قد ينفر الناس منه، لذلك عمد إلى التحليل اللفظي،
وأمعنت جريدته في مدارة موقفه وأوضحت أنه بين السلطنة العثمانية ومصر علاقات متينة العرى غير علاقة المتبوعية أو السيادة السياسية ،وربما كانت العلاقة التجارية أمتن من تلك العلاقات عروة وأكثرها فائدة للبلدين، حتى لقد أبدى مراسل " التيمس" دهشته من انحياز الجريدة، في مقال كتبته عن فوز الدولة العلية السياسي على انجلترا إلى الدولة العثمانية والدول التي أيدتها في المسألة المقدونية،
فسألت الجريدة: وهل أتينا أمرا منكرا، وهل الدولة غريبة عنا لا تجمعنا بها جامعة السيادة ولا الجامعة الشرقية ولا الدينية . ويفهم من هذا أن الجريدة قد أهملت العلاقات السياسية، إن لم تكن قد أشارت إلى تفاهتها مع إقرار بوجودها ، ويؤكد هذا الفهم ما أوضحه لطفي السيد حين قال في يأس " علقنا آمالنا أول الأمر بالآستانة، أي بحكومة جلالة السلطان صاحبة السيادة علينا وبقينا ننظر نتائج ما يعمله لنا الأتراك فلم ننل من وراء ذلك شيئا...".
وكان وقوع الانقلاب الدستوري في تركيا في يوليو 1908 بمثابة النهاية لنشاط السلطان عبد الحميد بشأن الجامعة الإسلامية كما كان نقطة البداية لتقلص نفوذ الدولة لعثمانية وانكفائها إلى الداخل.
وتحول القومية العثمانية إلى قومية تركية بفضل دعاة الجامعة الطورانية داخل جمعية الاتحاد والترقي الذين كانوا يرون وجوب انفصال البلاد العربية عن الدولة العثمانية لتظل تركيا بلدا تركية بقومية تركية خالصة الأمر الذي أدى إلى انتشار الجمعيات العربية السرية والعلنية الساعية للانفصال عن الدولة كالمنتدى الأدبي والجمعية القحطانية والعهد والعربية الفتاة وغيرها .
وقد أعطى ذلك كله حزب الأمة موقفا أكثر ملائمة للجهر بآرائه ومواقفه من الدولة العثمانية، خاصة وقد جهر حزب تركيا الفتاة باحتقاره لمقاصد الحزب الوطني، ونشاطاته الإسلامية ولأساليبه التي يمارسها بشأن المغالاة والتطرف في الجامعة الدينية لذا كان طبيعيا أن يهلل حزب الأمة للدستور العثماني فنقلت جريدته نصه ونبأ صدور الإرادة الشاهانية بإعادة مجلس المبعوثان وأسهبت في وصف أفراح الدستور، بيد أن هذا الفرح كان من منطق الفرح للجار إذ يصيبه الخير ولأن الدستور- كما تقول الجريدة- يبطل حجة القائلين بأن شعوب الشرق لا تفهم إلا حكومة الشخصية ،
وجاء حديث أنور باشا بطل الدستور، على مكاتب التيمس الذي قال فيه أن حزب تركيا الفتاة يؤلف جيشا إسلاميا ، وان مصر لا تدخل في دائرة أعماله ,وأنه لا يتعرض بشيء لما جرى من الأعمال الباهرة فيها بيد الإنجليز،جاء هذا الحديث ليعطى حزب الأمة حجة قوية لموقفه فأعلن أن قاعدة الأعمال السياسية هي مبدأ المصرية دون غيرها كوحدة الاعتقاد أو الجنس، وأن كل سياسة لا يكون أساسها الوطنية والمنفعة فهي سياسة شلى،
كما اتخذ الحزب من هذه الأقوال أيضا حجة لدى أولئك الذين يتقربون من تركيا ويقولون أن مصر جزء منها ولها أن ترسل عنها مندوبين إلى مجلس المبعوثان أو أنها يجب أن تعتمد في استقلالها على تركيا أو الأحرار كما أكدت " الجريدة" أن الدستور العثماني قاصر على الولايات العثمانية التي لم تحصل على امتياز الاستقلال الادارى، الذي حصلت عليه مصر منذ 1840، فمصر مستقلة إداريا ولم ترسل مندوبين عنها منذ مجلس 1877.
وقد رأى حزب الأمة في وفاق تركيا وبريطانيا، خلال أزمة البوسنة والهرسك فرصة أخرى لتعميق الهوة بين مصالح مصر ومصالح الدولة العثمانية فذكرت جريدته أن مساعدة انجلتا خلال الأزمة لن يكون مجانا، وحذرت من أن يكون الثمن هو التضحية بمصر، ذلك أن صداقات الدول تقوم على المصلحة قبل كل شيء .
وأن الباب العالي لا يعود عليه أن يضحى كثيرا من حقوق مصر في الاستقلال كلما كانت هذه التضحية لمصلحته، وكانت " الجريدة" بذلك تنبه بأن على المصريين أن يبحثوا عن مصالحهم في صراع المصالح " فالدول اليوم كشركات تجارية عظيمة" وذكرتهم بأن الموقف الحرج الذي تقف فيه السلطنة لدى أوربا لا يدعها تفكر في غير نفسها " فلتفكر إذا الأمة المصرية في نفسها أيضا".
وجاءت ثورة تركيا الفتاة مشروعا تركيا صرفا، وثورة قومية استهدفت الإطاحة بنظام عبد لحميد، لتحل محله حكومة اقوي قد تستطيع أن تضع حدا للتدخل الأجنبي وللأوضاع التي لا تطاق والتي كان الأتراك يرزحون تحتها منذ تسلم عبد الحميد العرش.
واستقبل حزب الأمة أنباء الثورة العثمانية التي أطاحت بعبد الحميد بفرح طاغ، واعتبرت جريدته ذلك، عيدا للحرية العثمانية ، ورأت أن من الممكن أن تخلع الأمة سلطانها، " حتى ولو كان ولى أمر المسلمين وحامى بيضة الدين وخليفة رب العالمين" لتشير بذلك إلى إمكانية خلع ذلك الإطار الذي يحتمي به السلطان باعتباره خليفة المسلمين.
التقطت الجريدة نصوصا من صحيفتي " الطان والتيمس" مؤداها أن حركة أحرار العثمانيين حركة وطنية صرفة وليس لها أقل صبغة دينية وأن زعماءها يرددون أنهم تركوا اسم تركي أو عربي أو سوري، وعملوا على اختيار لقب " عثماني" المحبب لديهم، ورحبت الجريدة بذلك أشد الترحيب بل وهنأت الوطن المصري بهذه الخطة المثلى، ذلك أن إتباعها أمنية كل عاقل مصري محب لوطنه،
وطالبت المصريين باسم الوطنية أن يحذفوا لف؟ة " دين " من جرائدهم السياسية وحتى ذلك الحين كانت مقالات الجريدة حول الجامعة المصرية ذات طابع رومانسي أحيانا، يحمل معاني حب الوطن، وتعريفاته المختلفة والتغني بماضي مصر والمصريين، والدعوة تعالجه بشكل سلبي، وذلك بإبعاد هذه الجامعة عما يبتلعها ويحتويها وهى الجامعة الإسلامية،
ولكنها بإزاء تلك التطورات اتخذت خطوات إيجابية تمثلت في دعوتها للمصريين أن " عليكم أنفسكم" في الوقت الذي بدا واضحا انصراف الدولة العثمانية إلى مشاكلها الخاصة واتخاذها أسلوبا يتفق ومصلحتها، دون ولاياتها، ومن ثم كانت دعوة لطفي السيد إلى الجامعة المصرية قداستغرقت العديد من مقالاته، واعتبر الجامعة الإسلامية جامعة مستحيلة ولم يكتف بمهاجمة فكرة الأفغاني الحديثة عنها بل هاجم أيضا المعنى القديم للأمة الإسلامية.
وقد بدأت مواقف حزب الأمة الايجابية نحو " الجامعة المصرية" تتعارض بشكل عملي مع السيادة العثمانية منذ سبتمبر عام 1909 وحين استنكرت جريدته اشتغال الناس بتأليف جمعيات اكتتاب لإعانة البحرية العثمانية في الوقت الذي لم تفكر فيه الدولة في آراء واجبها نحو مصر،
وذكرت أن هذه المساعد لا تنفع دولة غنية كبيرة ولكنها تدفع الإقليم الذي جمعت منه في بناء مدرسة أو ملجأ أو معمل زراعي، وأنه إذا كان الغرض منه هو الدفاع عن الأمة العثمانية فالدفاع عن مصر أوجب" عليكم أنفسكم، جودوا على بلادكم بالمال".
وفى المقابل نادت صحيفة الحزب بتقوية الشخصية المصرية، بكل الوسائل الممكنة " فارتباطنا بهذه الأم الحنون، أرض وادي النيل ، من أمنع الاستحكامات التي حفظت شخصيتنا لليوم" وأنشأ لطفي السيد مقالتين عن " الجامعة المصرية" ركز فيهما على أن الجامعة المصرية تتألف من المصريين الأصليين ومن عناصر أخرى جديدة من الأجانب الذين حلوا مصر على سبيل القرار وجعلوها موضع فصارت محل ثروتهم وموطن حياتهم في الحال والاستقبال فأصبحوا بذلك مصريين ،
ودعا إلى أن يصبح كل من على أرض مصر من العثمانيين والأجانب، أرباب الامتيازات ، مصريين متساوين في الحقوق والواجبات ولم يكن لطفي في هذا التعريف أكثر من مردد لما أورده كرومر في تقاريره حول تعريف معنى المصرية فكرومر رأى أن كلمة " مصرية" تعنى سكان مصر جميعا وكل من يتعاملون معها على اختلاف معتقداتهم وأجناسهم،
وبهذا أدخل كافة القاطنين بمصر تحت هذا المعنى، بل واقترح في آخر تقرير له أن تكون الجنسية المصرية شاملة لكل من يقطنون مصر بغض النظر عن معتقداتهم وأجناسهم أو أصولهم، واقترح إنشاء مجلس شورى محلى يضم هذه الطوائف كلها، على اعتبار أن ذلك يؤدى إلى قيام وطنية مصرية لا تضر بالمصلحة الحقيقية لمصر.
وكانت القاعدة التي بنى عليها لطفي السيد هذا التعريف ، هي قاعدة " المنفعة" حيث لا يكون لمختلف المعتقدات أو الأجناس أثر كثير أو قليل في السياسية المصرية العامة فالوطن عنده ، كما سبق أن عرفه ، آلة المصلحة ليس إلا ، ومسقط الرأس ليس لأحد بوطن إذا صار بلقعا وخوى أو استحوذ عليه العدو وبغى ولم يعد للمرء فيه أهل ولا ملك، فلا يعتبر الدين أو الجنس أساسا من أسس تكونه، وقد تساءل مرة " وهل هناك من يقول بأن مسلما مصريا يفضل منفعة تركيا على منفعة مصر أي على منفعته هو؟".
فالوطن مقول على ارض محدودة مقترنة بكتلة السكان القائمين عليها على سبيل القرار، أي أنه ليس مسألة مجردة بل مجموعة من الناس يسكنون أرضا ذات حدود جغرافية واضحة تربط بينهم جميعا مصلحة مادية مشتركة، وكثيرا ما ردد لطفي السيد هذا المعنى وعندما تحدث إلى صحيفة الطان باسم حزب الأمة ذكر أن " الدين لا دخل له في سياستنا لأننا لا نبنى سياستنا على أي عقدية مذهبية".
ومن ثم كان هجومه على الجامعة الإسلامية، وعلى من جعلوا أنفسهم وبلادهم " على المشاع وسط ما يسمى خطأ بالجامعة الإسلامية ، تلك الجامعة التي يوسع بعضهم في معناها فيدخل فيه أن مصر وطن لكل مسلم" وذكر أن الجامعة الإسلامية دعوة استعمارية ،
وطالب بأن يحل محلها المذهب الوحيد المتفق مع أطماع كل أمة لها وطن محدود وهو مذهب الوطنية، وحتى عام 1913 كان لا يزال يكرر دعوته للجامعة المصرية، ويدعو المصريين الذين كسبوا الجنسية المصرية بالإقامة في مصر، أن يقطعوا ميولهم عما عدا مصر لأن الوطنية- وهى حب الوطن- لاتقبل الشرك ،
وهكذا كانت الأمة هي محور تفكيره وبمعنى الوطن القومي ثم بمعنى المصلحة الوطنية، أما الجامعة الإسلامية فقد اعترف ضمنا إلا صلة لها بقضايا العالم الحديث، واعتبرها نوعا من الخيال مثيرا للسخرية حتى لقد اعتبر بعض الكتاب نبذ لطفي السيد لفكرة الجامعة الإسلامية في مواجهة التعاطف الفطري السائد معها، عملا على قدر كبير من الشجاعة باعتبارها دعوة تحررية.
ومثلما هاجمت " الجريدة" المكتتبين لمساعدة البحرية العثمانية عام 1909 تحت شعار " عليكم أنفسكم" احتجت اشد الاحتجاج لم يقابل الخديوى بالحفاوة المعتادة عند زيارته للآستانة ، وذكرت أن مركز الخديوى في مصر اسمي مقاما من مركز الصدر الأعظم، وأن الخديوى متى خرج من مصر حاملا فوق رأسه شرف الأمة المصرية، عتيقة المدنية، والتاريخ ، لا نستطيع أن نقف جامدين لعدم الرعاية التي تقع لشخصه، وغالت في موقفها من تركيا أكثر حين انتقدت جماعة الاتحاد والترقي ،واعتبرتهم قلابى وزارات وعابثين بالدستور.
وعندما وقعت الحب الطرابلسية في سبتمبر 1911 بسبب غزو إيطاليا لطرابلس الغرب، وقف لطفي السيد موقفا اتسق وفكرة حول الوطنية المصرية والجامعة الإسلامية فقد مست هذه الحرب علاقة مصر بالدولة في الصميم ومنذ البداية شرع لطفي في التنبيه إلى أن كل حركة من حركات التشيع أو إظهار المساعدة للدولة من شأنه أن يزيد مركز مصر ارتباكا على ارتباكه، وأن المصريين هم أحق الناس بالمساعدة.
وكانت انجلترا قد أصدرت إعلانا بحيادها خلال هذه الحرب صرح فيه السير ادوارد جرا بأنه يخالف إعلان هذا الحياد أن نسمح للدولة التي نحتلها- مصر- أن تقدم عونا عسكريا لأي طرف وقد أشرف اللورد كتشنر على تنفيذ ذلك بنفسه، وهدد بأن القوات التركية التي وصلت إلى بورسعيد والسويس عن طريق اليمن سوف ينزع سلاحها إذا لم ترحل في الوقت المناسب، ولكن موقف مصر كان معتقدا، وقد أعلنت الحكومة التركية الحرب على إيطاليا،
وفى ذلك مطالبة صريحة من الدولة لمصر بالاستعداد لتنفيذ التكاليف المفروض عليها القيام بها للدولة وفى شماتة ظاهرة صورت " الجريدة " الموقف فقالت" ذو حق يطالبها بتنفيذه وذو قوة يمنعها من أداء الحق فكيف يمكن التوفيق ؟الواجب على الحكومة المصرية أن تظهر أنها مستعدة لتنفيذ واجباتها نحو تركيا حتى لا توصف بنقض العهد، فإذا وقف الاحتلال بقوته في طريق ذلك فهي ليست مسئولة عن فعل القوة التي لا تستطيع ردها..."،
وسخرت من الدولة العثمانية قائلة كان من الواجب عليها أن تجلى الاحتلال عن مصر حفاظا لسياستها وخروجا من جعل هذه السيادة الخارجية سيادة اسمية".
وقد أبدت " الجريدة" بلسان الدكتور هيكل، عطفا أفلاطونيا على مصلحة الدولة، شريطة أن يؤدى ذلك إلى استقلال مصر استقلالا كاملا، فذكرت " أنا نود حدث شيء أن يكون لمصلحة الدولة العلية أوعلى الأقل لا يضر بها، وإن صح أن نذهب بالأماني بعيدا فإنا نود أن تكون نتيجة ذلك الذي يحدث استقلال مصر استقلالا كاملا" هذا في الوقت الذي جعلت فيه بقية الصحف الوطنية،
تقدم الأسانيد القانونية التي تبرر وقوف مصر إلى جانب الدولة العثمانية كما استند الوطنيون في تأييدهم للدولة إلى أن بريطانيا لن تستطيع أن تؤثر على الحكومة وترغمها على الوقوف في وجه الجيوش العثمانية تفاديا لغضب الأمة المصرية في الوقت الذي تدفقت فيه عواطف المصريين جميعا نحو الدولة بل واتخذت شكلا عمليا، تمثل في الاكتتاب لمعاونة الجيش العثماني،
وتكوين جمعيات ولجان الهلال الأحمر وغيرها بما امتلأت به أعمدة الصحف، حتى صحيفة حزب الأمة ، بينما عاد لطفي السيد إلى شعار " عليكم أنفسكم"بمقالات ثلاث تحت عنوان " سياسة المنافع لا سياسة العواطف" تحدى بها كافة المشاعر، وتجرد عن كل انفعال مستنكرا هذه الحركة التي ابتدأت بفكرة الجهاد الديني، التي هي من أكبر الأخطار على مصر، وانتهت بحركة جمع الاكتتابات للدولة،
وحذر من أن كل حركة من حركات التشيع أو إظهار المساعدة الحربية الدينية من شأنه أن يزيد مركز مصر ارتباكا، من ثم يجب على المصريين أي يجعلوا الدين قاعدة لأعمالهم السياسية وعاد إلى ترديد فكرة عدم شيوع مصر في العالم الإسلامى وتميزها عما عداها من الأوطان الإسلامية ثم انتقل لطفي خلال مقالاته إلى بيان استحالة مساعدة مصر للدولة وعدم جدواها " فهي لا تنفع الدولة وتضر بمركزها" ووصف حركة الاكتتاب بأنها مظهر كاذب للجهاد الديني وإعانة الدولة ،
ولو أراد الجمهور المساعدة الفعلية لقاطع التجارة الطليانية فذلك أنفع في المساعدة الحربية من القروش التي لم تصل إلى عشرات الآلاف من الجنيهات واختتم لطفي السيد مقالاته بالتأكيد على الدعوة " للجامعة المصرية" وتقوية شخصيتها والعمل لمصلحة الأمة المصرية قبل كل شيء .
وقد روى لطفي السيد في مذكراته أنه وجد في هذه الحرب فرصة لإعلان مصر استقلالها وتنصيب الخديوى ملكا عليها واستبدال العلم المصري بالعلم العثماني وذكر أن الخديوى قد سر بذلك، ولكن كتشنر رأى أن الوقت غير مناسب، وأن رشدي باشا قد أبلغه أن الخديوى رأى أن يؤلف وفد من سعد وعدلي ولطفي للذهاب إلى لندن لتحقيق ذلك مع الحكومة الإنجليزية على أن يدفع هو نفقات هذا الوفد،
وأن ثلاثتهم بدأوا الاجتماعات بالفعل، في الوقت الذي كان لطفي يكتب فيه مقالاته " سياسية المنافع" يفهم من ذلك أن لطفي لقى تأييدا من الخديوي ، ورفضا غير قاطع من كتشنر ولكن الأمة كلها كانت ضد هذه الحملة، فتعرض لعاصفة من النقد المر اتهم خلالها بمناوأة دولة الخلافة الإسلامية ، واتهم بالإلحاد، كما فشل في إقناع أصدقائه السياسيين في الحزب بمناصرته في موقفه كذلك لم يستطع الأعيان الوقوف في صف لطفي ، صحيح أنهم يميلون إلى تركيا بحكم عدائهم لطبقة الأتراك، وطموحهم لحم مصر باعتبارهم أبناءها الخلص،
إلا أنهم رغم اقتناعهم بالمضمون السياسي لدعوة لطفي السيد لم يستطيعوا الاقتناع بالمضمون الديني وهو نبذ الولاء لدولة الخلافة خاصة في مواجهة ضغط الرأي العام ، ولعلنا لا نخطئ إذا أضفنا على ذلك عاملا آخر وهو أن كتشنر لم يكن مشجعا لذلك، وإلا ما وقفوا موقفا عكسيا خلال أزمة طابة حين ظهروا والإنجليز في معسكر واحد، فلم يكن من السهل عليهم مواجهة الرأي العام في الوقت الذي لم يحصلوا فيه على تأييد كتشنر.
وقد تولت صحيفة " العلم" نشر رسائل احتجاج الكثير منهم وتبرؤهم من خطة الجريدة ولطفي السيد وحزب الأمة ، واتهموا الجريدة " بالطليانية" في الوقت الذي امتلأت قوائم الاكتتاب للدولة بأسماء الكثير من أعيان حزب الأمة ولم يكن هناك نصير للطفي سوى هيئة تحرير الجريدة من الشباب، وقد عهد بتحريرها في غياب لطفي إلى واحد منهم وهو الدكتور هيكل، الذي شرع في تناول الموقف السياسي من زاوية أخرى فتحدث عن هزائم الطليان ولم يتعرض لموقف مصر أو حيادها. اغتبط بذلك رجال الجريدة، فقد أنجاهم هذا من سخط الرأي العام من غير مخالفة لما دعا إليه لطفي السيد.
وقد نشر هيكل سلسلة مقالات تحت عنوان " وجهتنا السياسية" لا يسع قارئها إلا أن يلمس بوضوح اتجاهات لطفي السيد، وإن بشكل غير مباشر أحيانا عندما يتحدث عن تركيا ، وبشكل سافر حين يتحدث عن القومية المصرية وقد عرض هيكل مسألة استقلال مصر على هذا النحو: أنمصر إنما تخرج انجلترا من حالتين:
إما بقوتنا نحن وإنما بتسوية دولية لقد آن الأوان لأن يقال للمصريين" الأحسن أن تخلوا مسائلكم" وشأن أستاذه أوضح إلا صلة بين الوحدة القومية والخلافات العقائدية،
وذكر أن تركيا نفسها أول من تخلى عنا ثم هي أول من استنجد الدول ضدنا، كما أنها تخلت عنا أخيرا عند دخول الإنجليز فمن الحق أن يوجه مصري وجهه لغير بلاده، وزاد على ذلك بالدعوة إلى تمصير الأشياء المادية والمعنوية حتى لا يجيء يوم يزيد فيه المصريون والمتمصرون ويزيد في الوقت عينه فقر البلاد فلا يتسنى لهؤلاء أن يعيشوا إلا عالة على الأجنبي وبالتالي عبيدا له.
وفيما يشبه الاعتذار ، نشرت الجريدة أخبار ما أسمته بانتصارات الجيش العثماني على صدر صفحاتها بعناوين ضخمة، بل وسمت إحدى انتصاراته بانتصار " عدوه الثاني" وهنأت إخوانها العثمانيين بذلك، حاولت التوفيق ، بلسان صالح بك هيكل، بين مصالح مصر ومصالح جيرانها فتساعد مصر جيرانها وإخوانها في الإنسانية والذين مع الاحتفاظ بمصريتها في النهاية. وقد شجع على نمو هذا الاتجاه أن بدأ أفق الدولة العثمانية يحمل علامات الانهيار،
فهناك ثورة في ألبانيا وفتنة عسكرية ، وأخبار سيئة عن الكرك وحوران، وخروج الادريسى عليها ورفع العلم الأجنبي على ثغور طرابلس ودرنة وجزر الأرخبيل وهياج كريت والخوف الكبير في مقدونيا والاتفاق السري بين بعض دول البلقان هيأت هذه المتاعب والمؤشرات أذهان المصريين للإيمان بأن الضعف بدأ يستشرى في كيان الدولة.
وأتاحت للطفي السيد آذانا أعادته إلى الجريدة، فتوجه بأحاديثه إلى الشباب، مطالبا إياهم بالسعي لخير مصر، دون غيرها، فلا يكونون آلات في يد جمعية الاتحاد والترقي التي صرحت من أول يوم بأن مصر ليست داخلة ضمن أعمالها وربط لطفي بين العمل للاستقلال في نظره هو المعنى الوحيد للوجود ومناط الأمل في الحياة القومية .
ولكن الحرب البلقانية كانت بمثابة اختبار جديد لجماعة الجريدة، فعندما بدت نذرها وقفت الجريدة موقفا مزدوجا بعض الشيء، فبينما عادت على رفع شعار " اعملوا لأنفسكم" والاعتماد على النفس في بلوغ الاستقلال لا يرى لطفي السيد غضاضة بين ذلك وبين أن يعلم الباب العالي مصر بالحرب " فليس بعيدا أن يكون نشر الحكومة المصرية لبلاغ وردها من الباب العالي مقدمة برجوع الحال في مصر إلى القاعدة القانونية ، وقطع العلاقات بينها وبين الجبل الأسود وحكومات الطليانية فالعذر غير واضح فئ هذه الحرب". ولعله كان يعتذر ، بهذا الموقف المزدوج عن موقفه السابق ،
وقد دعم الدكتور هيكل موقفه هذا بالإشارة إلى صليبية هذه الحروب، وأبان أن السلطان إذا نادي المسلمين باسم الدين فهو دائما في حدود وظيفته في حين أن هذه الأمم- المتحاربة مع الدولة- ليس لها من الرئاسة الديني شيء وبذلك أعطت الجريدة تبريرا لدعوة السلطان للجهاد الديني .
وهو أمر استنكرته قبل ذلك بعام، هذا بينما واكبت موقف أعيان الحزب الذين أيدوا الدولة ونشرت، بصدر رحب ، أخبار تبرعاتهم لجمعيات الهلال الأحمر العثماني لحسب البحرية العثمانية ، كما شكلت لجان كثيرة تضم الكثير من أعضاء حزب الأمة في أسيوط والشرقية وغيرها ، لإعانة الدولة العلية ونشرت الجريدة قوائم تبرعاتهم، مشيدة ببسالة الجندي العثماني.
وعموما وقفت مصر على الحياد في هذه الحرب، مثلما فعلت إبان الحرب الطرابلسية، وإن كان الأهالي قد أظهروا ميلهم نحو المحاربين المسلمين كما تسلم الحكم في أوائل عام 1913 ، والحرب ما تزال دائرة، فئة من الضباط الأتراك ذوى نزعة أكثر شوفينية فحكموا الإمبراطورية حتى انهيارها،
وقد تغيرت في غضون ذلك معتقدات القوميين العثمانيين أنفسهم، فانحلت معاني فكرة الدولة والجماعة الدينية، وتحولت القومية العثمانية إلى قومية تركية ومما يدل على ذلك أن رشيد رضا غادر الآستانة إلى القاهرة معلنا أن التعاون مع حكومة تركيا الفتاة بات أمرا مستحيلا ذلك أن المناخ السياسي أصبح معاديا لفكرة الجامعة السياسي أو الرابطة العثمانية.
وقد تهيأ بذلك مناخ طيب لجماعة الجريدة للحديث عن " الجنسية المصرية التي أعطتها تعريفا محددا وضعت به من ينتمون إلى أصول تركية أو عربية أو قبطية على قدم واحدة من حيث احتواء القومية المصرية لهم،وذكرت أن التفريق بين هذا وذاك مع بعده عن الصواب، أضر ما يكون على القومية المصرية" أننا لو ظللنا نقول تركي وفلاح أو مصري عربي أو مصري قبطي لساعدنا الزمان على النيل منا، والفت في عضدنا والعبث بتضامننا"
وبذلك نبت في هذا التعريف ما حاول لطفي السيد إدخاله تحت شعار الجامعة المصرية من عناصر أوربية أو أجانب أرباب امتيازات، واكتفت بذوي الأصول التركية ، ولعل ذلك راجع إلى اقتناعها بأن هؤلاء قد باتوا يساوون المصريين والشراكسة قبيل الثورة العرابية ولكن ذهب الزمان بذلك وأصبح الجميع سواء.
ولم يكن هذا هو التغيير الوحيد للجريدة بهذا الخصوص، فقد كفت حديثها عن قاعدة المنفعة التي وضعها لطفي السيد، والتي ضم على أساسها كل الفئات السابقة إلى الجامعة المصرية، وركزت على فكرة " الولاء لمصر" ولاء من يقيمون على أرضها سواء كانوا من أصول فلاحية أو قبطية أو عربية أو تركية ، وعملت على تنمية هذه الفكرة، فالمصري مهما كانت أصوله تركية أو شركسية لا يكون مصريا إذا لم يكن ولاؤه لمصر أولا وأخيرا، أو إذا تعددت الأوطان لديه، واستنكرت من يقول أن أبى ارناؤدى وأمي شركسية وكل من يحاول إرجاع نسبه إلى أصل غير مصري .
وقد أبانت أن التعبير عن هذا الولاء يكمن في أن يرى المصري في بلده متأخرة الحضارة ،وأنها تحتاج إلى مناصرته وجده ونشاطه لإنهاضها وبعث قوتها،وصرف كل عواطفه لخيرها ومنذ بداية الحرب الأولى كانت الجريدة تدرى مدى تحمس المصريين باسم الجامعة الإسلامية ، حين بدا أن دخول تركيا الحرب ضد انجلترا لا يعدو أن يكون مسألة وقت،
وقد نزح الكثيرون بالفعل إلى الآستانة اعتقادا منهم بأنهم يفيدونها واثقين من أن تركيا التي سلمت لمصر بالاستقلال الذاتي يسهل الحصول منها على الاستقلال التام متى كسبت الحرب ، وكان معظم هؤلاء من زعامات الحزب الوطني، وقد اتفق وفد منهم مع الخديوي في سبتمبر عام 1914 على الاشتراك في الحملة التركية المزمع إرسالها إلى مصرن كما اقترح الخديوي دعوة أحد أقطاب حزب الأمة للاشتراك في هذا الوفد
واقترح آخرون من الحزب الوطني هذا الأمر ولكن لم يتوصل إلى اتفاق من هذا النوع، كما لم نعرف واحدا من حزب الأمة قد انضم على هذا التجمع، بل على العكس رفعت الجريدة مرة أخرى ، شعار " عليكم أنفسكم " فهي أولى بتلك القوى الضائعة والوقت المنصف في الكلام بأخبار الغير . وقد اعترف محمد فريد أن هذا الوفد كان ممن قادهم شدة حبهم للدولة والإسلام إلى نسيان مصر ومصالحها فأصبحوا يقولن أن مصر للمسلمين لا للمصريين.
لكن أين كان زعماء حزب الأمة، الذي كانت تنادى جريدته بالولاء للقومية المصرية أثناء هذه الأحداث ؟ فمثلا نرى أن رونالد ستورز، السكرتير الشرقي لدار الوكالة البريطانية قد استخدم على شعراوي وكيل الحزب في إقناع الأمير حسين كامل بقبول عرش مصر من يد الإنجليز كما ذهب لطفي السيد ، لسان الحزب،
عندما دخلت تركيا الحرب وأعلنت انجلترا الأحكام العرفية- ذهب إلى حد أن اقترح على صديقيه رشدي وعدلي، السع لان تعترف انجلترا باستقلال مصر على أن تدخل مصر معها الحرب ضد تركيا، وقد عرضت هذه الفكرة على السير جراهام مستشار الداخلية الإنجليزي ثم عرضت على ستورز ، بحضور نجيب غالى ، وكيل الخارجية بل ووضع الجميع صورة لذلك بيد أن انجلترا رفضت هذا كله، فقد كانت واثقة من أنها ستوجه مصر الاتجاه الذي تريده دون أي التزام من جانبها بشأن استقلال مصر.
ووقف إبراهيم الهلباوي موقفا مشابها عندما اقترح على ستورز- الذي كان يقيم في طابق بمنزله- وجراهام ، بحضور سعد زغلول ، أن تكتفي انجلترا بأن تأخذ ما لتركيا في مصر من الحقوق، فأجابه ستورز بأن ذلك سيثير الرأي العام فطمأنه الهلباوي قائلا:
معنى ذلك أنه لن يصبح لكم جيش في مصر وستتخلون عن وظائف الحكومة متجاهلا بذلك أن هذه السيادة الاسمية للدولة لها سند قانوني تعترف به الدول، وأن من حق تركا بمقتضى ذلك أن تستخدم مصر في حروبها فكأنه يريد إعطاء الاحتلال صفة قانونية ن اعتمادا على ظروف مؤقتة تتعلق بضعف سيادة الدولة العثمانية على مصر والتي كان الاحتلال ذاته ، من أكبر أسباب ضعفها.
وبينما كان ذلك موقف بعض زعامات الحزب، نجد أن كتاب الجريدة من جيل الشباب يمثلهم الدكتور هيكل، الذي أنشأ يكتب افتتاحيتها بعد أن كسر لطفي السيد قلمه- على حد تعبيره- وعاد إلى قريته يائسا بعد رفض بريطانيا لمشروع المعاهدة الذي اقترحه- نجدهم يرجعون نغمة" منافعنا وعواطفنا" ويتخفون وراء المصلحة المصرية، مفصحين عن موقف الحزب من تركيا وممهدين لفكرة الاتجاه نحو بريطانيا طلبا للاستقلال على يدها تارة أخرى " فالمصري يميل للدول الأجنبية على نسبة ما عند هذه الدول من الميل لمصر... وها لدينا بلاغ الوكالة البريطانية الذي ينصح الناس بالإبقاء على أنفسهم وأموالهم وبالنظر في مصالحهم ومصالح مصر، وأن في ذلك لعظمة بالغة.."
وبإعلان الحماية البريطانية على مصر في 18 ديسمبر 1914 زالت السيادة العثمانية فعلا، وعزل عباس حلمي من منصبه بعد ذلك بيوم، وقد تعهدت بريطانيا بترقية شئون مصر المختلفة والسير بها في طريق الحكم الذاتي، ولم تصرح بأيلولة الحقوق التي كانت لسلطات تركيا وخديوي مصر إلى بريطانيا بعد إلغاء السيادة العثمانية، وكان هذا التريث بهدف معرفة صدى ذلك في نفوس المصريين قبل الانتقال إلى خطوة تالية، ثم تحركت حكومة رشدي فقطعت آخر خيط من الروابط المتبقية لمصر مع تركيا بإلغاء وظيفة قاضى قضاة مصر.
وهكذا يبدو صحيحا أن ظهور " الجريدة " من وجهة نظر أصحابها- كان أول موقف عملا معارض لممارسة الدولة العثمانية لسيادتها على مصر، كما يؤيد هذا المعنى نشاط الحزب فيما بعد في التركيز على تنمية فكرة الوطنية المصرية أو الجامعة المصرية كبديل للجامعة الإسلامية التي كانت سائدة في عصرهم وكان نشاط الحزب منذ البداية واضحا بالتأكيد على إبراز الهوة بين مصلحة مصر ومصلحة الدولة العثمانية ،متخذا من أحداث الدولة الداخلية والخارجية فرصا لذلك ابتداء من حركة تركيا الفتاة ( 1908) وحتى حروب الدولة في طرابلس والبلقان وقد ظهر الحزب
وكأنه يناضل وحده في هذا الميدان، مخالفا بذلك الرأي العام، الذي اثر ضغطه في صرف الكثيرين عن الحزب، حتى لقد بدا لطفي السيد وكأنه وحده في هذا الميدان، وجاء إعلان الحماية البريطانية على مصر وزاول السيادة العثمانية عنها ليوفر على الجميع حركتهم في هذا الشأن .
الفصل السادس : حزب الأمة والمجالس النيابية
المجالس القائمة وتمثيل الحزب فيها
هل كان للحزب هيئة برلمانية ؟
الطلب النيابي بين الدستور الكامل وتوسيع اختصاصات الهيئات القائمة
موقف حزب الأمة من بعض القضايا المعروضة
حزب الأمة والجمعية التشريعية.
بموجب القانون النظامي الصادر عام 1883، وجدت بمصر ثلاث هيئات نيابية أو بمعنى أدق شبه نيابية أو تمثيلية هي:
مجالس المديريات ومجلس شورى القوانين ، والجمعية العمومية ، وكان الطابع الأول لتكوين هذه الهيئات هو أنها تتكون من كبار الملاك الزراعيين أو كبار الممولين ، أي أنها مثلت قنوات أساسية لأعيان المصريين للقيام بدور في الحياة السياسية بشكل أو بآخر وبالنسبة لسلطات مجالس المديريات فهي سلطات استشارية محضة وذات طابع محلى صرف، وتكمن أهميتها في أنها أمدت مجلس الشورى والجمعية العمومية بأعضائها،
وعلى ذلك سوف يكون حديثنا عن مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية هو ضمنا، حديث عن هذه المجالس، وقد انحصرت وظيفة مجلس الشورى في فحص وتقديم التوصيات أو التوضيحات للحكومة حول كل المسائل المقترحة، وليس لديها أي سلطة تشريعية ، كما أن آراءها ليست ملزمة للحكومة، أما الجمعية العمومية فوظيفتها الأساسية الموافقة على الضرائب الجديدة التي لا يمكن تقريرها بدون موافقتها .
وقد استمر مجلس الشورى مدة ثلاثين سنة عقد خلالها 657 جلسة في 33 دور انعقاد في المدة من 24 نوفمبر 1883 وحتى 31 مايو 1913 ، حصل خلالها تجديد انتخاب أعضائه مرات أربع ، وكانت جلساته سرية حتى صدور القانون رق (3) في 3 مارس 1909 فأصبحت علنية وكان محظورا عليه المناقشة في المسائل السياسية أو الدين العمومي وما التزمت به الحكومة بموجب قانون التصفية أو المعاهدات الدولية، وترسل إليه الميزانية في ديسمبر من كل عام ليبدى رأيه فيها حيث يبلغ لناظر المالية الذي كان من حقه رفض اقتراحات المجلس مع إبداء الأسباب دون أن يترتب على ذلك جواز المناقشة فيها،
أما الجمعية العمومية فقد عقدت 64 جلسة في 16 دور انعقاد في المدة من 28 يوليو 1883 وحتى 31 مارس 1912 وتجدد انتخابها أربع مرات وأصبحت جلساتها علنية بموجب قانون 1909 أيضا، وأهم ما يستحق الذكر من أعمالها، رفضها بجلسة 7 أبريل 1910 مشروع تمديد امتياز القناة، وطلبها إنشاء مجلس نيابي مصري.
وبالنسبة لحجم عضوية حزب الأمة داخل هاتين الهيئتين فإن مجلس شورى القوانين قد ضم بين أعضائه في الفترة من 1896- 1906 خمسة من مؤسسي حزب الأمة من بين أعضائه الأربعة عشر المعينين ، وقد أتوا جميعا نتيجة التجديدات التي حدثت بالمجلس وهم إدريس راغب، ومقار عبد الشهيد( فبراير 1899 ) طلبه سعودي ( نوفمبر 1899 ) ، باسيلى تادرس ( يونيو 1904) وعلى شعراوي ( نوفمبر 1906 ) وبالإضافة إلى الشيخ محمد عبده، الذي عين في يونيو 1899، أما الأعضاء المنتخبون الستة عشر فقد ضمت الهيئة النيابية الأولى (24/ 11/ 1983- 5/1/1890 ) ثلاثة من مؤسسي الحزب وهم :
إبراهيم سعيد ، طلبه سعودي، حسن عبد الرازق- بينما ضمت الهيئة النيابية الثالثة(1/2/1896 – 18/ 12/ 1901 ) خمسة هم : إبراهيم سعيد عبد الرازق ، محمد أبو حسين، إبراهيم مراد ومحمود سليمان، أما في الهيئة النيابية الرابعة ( 24/ 12/ 1902 – 17 / 12 / 1907 )
فقد بلغوا ثمانية أعضاء من 16 عضوا وهم الأربعة السابقون- بعد استبعاد محمود أبو حسين – مضافا إليهم أحمد يحيى، محمود عبد الغفار، وعثمان سليط وإبراهيم عبد العال، كما كان محمود باشا سليمان رئيس حزب الأمة قد عين وكيلا للمجلس في 13 مارس 1902 وثبت في 8 فبراير 1911 واستمر في الوكالة حتى حل المجلس.
وهكذا يتضح لنا أنه حتى عام 1907 كان مجلس الشورى يضم بين أعضائه الثلاثين، عشرة من مؤسسي حزب الأمة بعد أن شمل التجديد ثلاثة آخرين كانت الحكومة قد عينتهم بالمجلس ( هم إدريس راغب ، مقار عبد الشهيد، وطلبة سعودي) وقد زحف معظمهم على المجلس في السنوات السابقة عل تكوين الحزب مباشرة مما يدل على مدى رغبتهم في خوض غمار الحياة السياسية.
وقد كانوا بحكم القانون النظامي أعضاء في الجمعية العمومية ، التي قرأنا ضمن أعضاء هيئتها النيابية الرابعة ( 8، 3/ 1902 – 5/ 3/ 1907) أسماء تسعة أعضاء آخرين من مؤسسي الحزب من بين الـ 46 عضوا منتخبا وهم: عبد الرحيم الدمرداش ( القاهرة) حسين عابدين ( الجيزة) ، السيد أبو حسين( المنوفية) ، أمين الشمسي ومصطفى خليل ( الشرقية) ، حسن فودة ( الدقهلية ) ، محمد الشريعي ( المنيا) ، أحمد عثمان الهلالي ( أسيوط) ، محمد تمام ( جرجا) وبهذا ضمت الجمعية العمومية بين صفوفها ما يقرب من ربع أعضائها ( الـ 82) من مؤسسي حزب الأمة).
وإذا عرفنا كيف لعبت الإدارة دورها في إجراء هذه الانتخابات التي سيق إليها الناس سوق، وكان الإنجليز عن طريق أجهزة نظارة الداخلية يديرون دفتها حسبما يريدون ، وكذلك في مسألة التعيين لمجلس الشورى عن طريق الحكومة
وإذا ما تذكرنا أن هذه الطبقة من كبار الملاك كانت المستفيد الأساسي من إجراءات الاحتلال البريطاني الاقتصادية، وأنها كانت مقصودة بذاتها بهذه الإجراءات ، أمكننا بعد ذلك أن نفسر معنى هذا " التدافع السياسي" لهؤلاء الأعيان داخل المجلسين، ويتصل بذلك تعيين الشيخ محمد عبده بالمجلس في 25 يونيو 1899 حيث لعب دورا هاما به والتف حوله الكثيرون من مؤسسي حزب الأمة.
ولعل هذا يقودنا إلى التساؤل ، هل استطاع حزب الأمة أن يكون داخل مجلس شورى القوانين ما يعرف بالهيئة البرلمانية للحزب تكون متضامنة ولها رئاسة وخطة وهدف معين؟ لا تعطينا مصادر الحزب إجابة لهذا السؤال .
فلسنا نعرف ذلك في نظام الحزب أو فيما نقلته جريدته أو الصحف المعاصرة عن اجتماعاته أن الحزب قد اتفق على تكوين جماعة كهذه، رغم هذه الأغلبية النسبية، ربما لأن طبيعة المجلس لم تكن في شكلها العام طبيعة سياسية، ولعل الحكومة لم تكن تسمح بقيام مثل هذه الهيئات كما أن درجة ثقافة ووعى النواب والتجربة الحزبية بعد في أطوارها الأولى – كانت محدودة بشكل اقتصر على الدفاع عن مسائل عام اشتركت العناصر الأخرى داخل المجلس مع حزب الأمة فيها،
واقتصر دورهم على تحديد " الموقف" طبقا لمصلحة خاصة، اتخذوا منها موقفا واحدا دون اتفاق مسبق، أو قل هو اتفاق " غريزى" دفاعا عن قضية بعينها، أو صراعا مع جماعة أخرى، نتيجة عداء تقليدي وليس من أجل قضية وطنية عامة مثلما كان صراعهم مع الحزب الوطني واقتراحهم طرد مندوبه الصحافي من المجلس،
هذا رغم تأكيد شعراوي باشا وكيل الحزب في حديثه باسم حزب الأمة داخل مجلس الشورى بأنهم لا يعتبرون المسألة مسألة حزبية مطلقا حتى أن رئيس المجلس سأله عما يقصد " بنحن" فقال أقصد أعضاء حزب الأمة الموجودين بالمجلس – فقال الرئيس :
لا يوجد في المجلس أحزاب مختلفة فلم يعلق شعراوي بأكثر من طلبه باسمه وباسم إخوانه ترك الكلام في هذا الموضوع على حين نادت الجريدة أن يكون مجلس الشورى كالمجالس النيابية فيه أحزاب تقتتل ويسقط بعضها بعضا ليحقق كل مبادئه والسبل التي يعتقد أنها موصلة لخدمة بلاده فكانت الجريدة وكتابها على درجة أكبر من الوعي بالديمقراطية وإن لم يعن هذا أنهم يريدونها لمصر على إطلاق معناها،
كما كانوا راغبين في تكوين مثل هذه الهيئة، وكثيرا ما هتفت بالنواب أن يكون لكل منهم راية الذي يعبر به عن سياسة الحزب الذي ينتمي إليه ولو كان مخالفا لرأيه الخاص، كما طالبت بقيام معارضة برلمانية منظمة واتخذا موقف من الحكومة داخل المجلس، فيكون جلوس الأعضاء حسب مشاربهم أما مؤيدين من أعضاء اليمين وإما معارضين فهم من أعضاء الشمال فأولى بكل جماعة يدينون في السياسة بمذهب معين أن يكونوا في مجالسهم متآلفين وفى آرائهم متحدين.
ولم نعرف موقفا واحدا ينم عن ظهور هذه المعارضة المنظمة بالمعنى الدقيق . سوى تأليف جبهة أسمت نفسها " بالمعارضة" أغلبيتها لحزب الأمة عام 1911 في الوقت الذي لم تكن فيه الحكومات المصرية حكومات حزبية،
وقد اقترحت هذه الجبهة إصدار قانون يقضى بعدم منح أعضاء مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية رتبا أو نياشين وذلك منعا لسوء الظن بهم وضمان استقلالهم عن السلطة التنفيذية، وقد أثار الاقتراح ضجة كبيرة داخل المجلس وخارجه وانتهى برفض الأغلبية له وتألفت لذلك لجنة لتكريم ممثلي " المعارضة"
وأقيم حفل بالكونتننتال لذلك حضره محمود سليمان ، على شعراوي، مرقص سميكة، عبد اللطيف الصوفانى،فتح الله بركات، وأحمد حبيب، وتحدث فيه حسن عبد الرازق وأحمد عبد اللطيف وإبراهيم الهلباوي ولطفي السيد مما يدل على أن حزب الأمة وحده لم يكن صاحب هذه الجبهة المعارضة، بل اشترك فيها بعض من أقطاب الحزب الوطني، وقد أشادت صحيفة الحزب بالاحتفال " بالأحرار" ونشرت تفاصيله والخطب التي ألقيت فيه وسجل لطفي السيد في النهاية أن الاحتفال ليس قاصرا على حزب من الأحزاب ولا عنصر من العناصر.
وربما تدلنا قراءة مضابط مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية على معنى لهذا الوجود الكمي لحزب الأمة يتصل بشكل ما بما يمكن أن نسميه – تجاوزا- " بجماعة حزب الأمة داخل المجالس القائمة" إذا لم يكن لدينا دليل على وجود مجموعة برلمانية للحزب، وإن كنا نستطيع إدراك مبلغ ثقلهم ومحور اهتمامهم داخل مجلس الشورى، من تشكيل اللجان التي كان يشكلها لبحث موضوعات بعينها.
فمثلا اللجنة التي شكلت للرد على تقرير المعتمد البريطاني عن عام 1908 وكانت مكونة من خمسة أعضاء احتوت ثلاثة- منهم الرئيس – من حزب الأمة واللجان التي شكلت خلال جلسات نوفمبر 1910 كلجنة دراسات المشروعات المتعلقة بالأمور الزراعية والتي تكونت من ستة أعضاء كان منهم أربعة- منهم الرئيس أيضا- من حزب الأمة،
ولجنة المعارف والحقانية المكونة من سبعة أعضاء وقد ضمت أربعة من حزب الأمة، هذا بالإضافة إلى أعداد أقل من أعضاء الحزب ضمتهم لجان المجلس الأخرى كلجنة الأشغال والحربية ( 1910) المكونة من خمسة أعضاء ترأسهم محمود سليمان وضمت إلى جانبه عضوا من أعضاء حزب الأمة.
أما بخصوص المطلب النيابي للحزب، فقد لخصت المادة الثانية من مبادئه أن الحزب سوف يسعى لتوسيع اختصاصات مجالس المديريات ومجلس الشورى والجمعية العمومية حتى نصل بالتدريج إلى المجلس النيابي الذي يوافق حالتنا السياسية،
ولم تكن نغمة التوسيع أو التدرج من ابتداع حزب الأمة، بل كانت ترديدا لتصور مسبق لكل من كرومر وجورست، فكرومر في تقريره لعام 1905 رأى أن أفضل الوسائل التي تضمن " توسيع" سلطة المجلسين مستقبلا تكمن في إقناع أعضائهما الحكومة والأمة، " على مر الأيام" بأنهم يستعملون ما بيدهم من سلطة بالتعقل والحكمة وكذلك فإن جورست في تقريره لعام 1907 لا يريد أن يحمل كلامه عن سلطة المجلسين على أنه يعارض في " ترقيتهما تدريجيا" بقدر ما يقومان بتأدية ما يناط بهما بالحكمة والترو.
ولا يرى من الحكمة أو الصواب إحداث تغيير جوهري بخصوص تشكيلهما أو وظائفهما ويزيد الأمر وضوحا أن الجريدة ابتداء من أعدادها الأولى أيدت ما قاله محمود باشا سليمان في الجمعية العمومية من إنشاء مجلس النواب هو أمنية كل مصري أنه يطلب توسيع اختصاصات الهيئات النظامية الحاضرة، وأنها ترى – الجريدة- أن أوضح الطرق على المقصد الدستور هو الجري على سنة التدريج بأن تبتدئ الحكومة في توسيع الاختصاصات شيئا فشيئا حتى يتم على يديها الإصلاح المأمول، وتساءلت في استنكار " وهل للجرائد أن تتخذ الطفرة قانونا اجتماعيا لطلب تنفيذ المصالح على مقتضاه" .
وبذلك لم تطالب الجريدة، شأن رئيس شركتها، بالمجلس النيابي إلا مقيدا بالإمكان وبقاعدة التدريج من غير أن يضار أولو المصالح من الأوربيين ولا أن يراد به الاحتجاج على إدارة الحكومة المصرية.
وعلى ذلك يصبح أمرا طبيعيا أن تتجه الجريدة إلى اليد الخفية وراء الحكومة وهو السير جورست، بسلسلة مقالات تحت عنوان " مطالب الأمة من مساعدة السير جورست" ( من 18 – 21 مايو 1907) تطلب منه على لسان كاتبها الأول ثلاثة أمور تتعلق بإصلاح القانون النظامي ( 1883)
أهمها ما يتصل بقانون الانتخاب، فذكر لطفي السيد أن طريقة الانتخاب عندنا يمكن اعتبارها طريقة وسطا بين الديمقراطية والارستقراطية، وهى على رأينا خير الطرق وأكثرها ضمانا لمصلحة الأمة وأقربها على التطبيق العملي، وطالب ببقاء النصاب المالي للترشيح على ما هو عليه، وإذا كان قد طالب بإعفاء العلماء والمشتغلين بالمهن الحرة كالمحاماة والطب والهندسة منه،
إلا أنه اشترط أن يكون لهم طوائف مرتبة وأن تقبل الحكومة تمثيلهم ورغم أنه يرى أن حصر المنتخبين ( بالكسر) في طبقة من الناس من صغار الملاك لا يدفعون من الأموال إلا يسيرا، مما ينقص معنى النيابة عن الأمة أو يحرم طوائف العمال والفقراء من حقهم في الانتخاب، إلا أنه رأى أن أولى طريقة بالإتباع هي الطريقة الحالية.
ومن هذه المطالب ما يتعلق بتوسيع اختصاصات مجالس المديريات بزيادة أعضائها وتخفيض النصاب المالي المشترط لعضويتها وزيادة فاعليتها " فتكون سلطة المدير في الزمن السابق هي سلطة مجلس المديرية على أن تعقد جلساته بصفة دورية من غير أمر علا..."
وبالنسبة لمجلس الشورى فقد طلب لطفي السيد بمضاعفة عدده وإبطال التعيين بمعرفة الحكومة، وعلنية جلساته وأن يكون رأيه قطعيا في قوانين المحاكم الأهلية، والري ولوائح الأمن العام ووانين الضرائب، واستشاريا فيما عدا ذلك، وأن تبيح له الحكومة مناقشتها في أسباب رفضها لمشورته، على أن يكون ذلك مرة واحدة فإن لم تقنع بمناقشته تمضى القانون على الوجه الذي تراه.
كانت تلك أفكار الحزب وجريدته حول المطلب النيابي، وتصوره لمعنى توسيع اختصاصات الهيئات القائمة وهى كما نرى تعد متواضعة قياسا إلى مطالب الحركة الوطنية التي تطالب بالمجلس النيابي طلبا أساسيا ، كما أن فكرة التدرج والتوسيع هذه لم تكن أكثر من ترديد لفكرة قديمة عرضها معتمدا بريطانيا في مصر، ولم تكن في مضمونها تعبر عن إيمان عميق أو تصور للمثل الأعلى لدى كتاب الجريدة النابهين، وبرغم ما بدا من أن كتاب الجريدة ف ى واد ، وأعيان الحزب داخل المجالس النيابية في واد آخر.على ما سوف يتضح.
وفى مجلس الشورى اقترح إسماعيل أباظة مخابرة الحكومة في جعل جلسات المجلس علنية ، وكان أول المعارضين على شعراوي حيث رأى أن هذه المسألة تحتاج إلى بحث وروية، وطلب تأجيلها، وفى نفس الجلسة أيد هذا الاقتراح واحد من أعضاء حزب الأمة وهو محمد علوي ، بينما استنكر محمود عبد الغفار هذا حتى لا يكون القانون النظامي عرضة للتغيير في كل وقت، وأيده في ذلك طلبه سعودي وطلب إبراهيم مراد في جلسة 16 ديسمبر تأجيل هذه المسالة وبالفعل تم تأجيلها،
وهكذا وقف خمسة من أعضاء حزب الأمة في وجه هذا الاقتراح مطالبين بتأجيله بالرغم من أن جريدتهم كانت تقترح هذه المسألة في مقالات مايو 1907 كما أن أعضاء الحزب داخل المجلس لم يكونوا على رأى واحد فقد أيد الاقتراح أحد أعضائه بينما وقف الآخرون من مناقشته بين مسوف ورافض.
وإذا كان حزب الأمة قد طلب توسيع اختصاصات الهيئات القائمة، وصولا في المستقبل إلى المجلس النيابي، فقد كان الهدف الرئيسي عنده هو تحقيق سلطة الأمة، فقد تصور أعضاؤه أنه من خلال هذه المؤسسات يستطيعون الإمساك بسلطة حقيقية تتيح لهم حكم البلاد، ومع أن هذا المعنى يتضمن توسيع اختصاصات الهيئات الثلاث،
إلا أن الحكومة ومن ورائها جورست لم تكن تسمح بأكثر من توسيع اختصاصات مجالس المديريات فقط، وعلى سبيل التجربة، ولم يكن أمام الحزب إلا أن يقبل الاشتغال بما يعتبر ثلث مطلبه النيابي الذي بنى على ضوء الممكن والمتاح، هذا في الوقت الذي انتقلت فيه فكرة إنشاء مجلس نيابي من دور الكلام إلى دور الطلب والإلحاح،
حيث كانت قد قدمت عرائض كثيرة بهذا الشأن إلى الخديوي والوكالة البريطانية ، وأخذت جرائد المعية والحزب الوطني تحث الناس على أن يجمعوا أمرهم ويتحدوا في طلب المجلس النيابي وقبل الحزب الاشتراك مباشرة مع المعتمد البريطاني في تعديل قوانين مجالس المديريات .
فعندما علم أن الحكومة تضع مشروعا في هذا الخصوص وضع الحزب مشروعا وأرفقه بمذكرة بأسباب التشريع وقدمه للحكومة في 29 ديسمبر 1907 ، كل من محمود سليمان وعلى شعراوي وإبراهيم سعيد وإبراهيم مراد ومحمود عبد الغفار،
بهدف تعديل البابين الثاني والثالث من القانون، وأهم الإضافات التي وردت بالمشروع هي إعطاء المجالس سلطة تقرير رسوم فوق العادة لصرفها في شئون التعليم بحيث لا تزيد عن 5% من الضريبة المربوطة وتكون قراراتها في ذلك قطعية، وأن تكون الرسوم التي يحصلها المجلس، والوصايا والتبرعات ملكا له" مادة 2، 4" ونص على أن يختص مجلس المديرية بإدارة أملاكه، وأمواله ، وإدارة حركة التعليم الأهلي ، والحكم في القضايا الإدارية وأخذ رأيه في تعديل مراكز المديرية وإعطائها نصيبا من المسئولية عن الأمن العام" مادة 5، 6" ، كما اقترح المشروع انعقاد المجلس كل شهرين بدعوة من ناظر الداخلية بدلا من الأمر العالي" مادة 10" ،
أما الباب الثالث فالجديد فيه يتعلق بزيادة عدد أعضاء هذه المجالس " مادة 13" على أن تكون الزيادة بنسبة عدد السكان ولا ينقص عدد أعضائه عن 6 ولا يزيد عن 15 بينما كان في القانون القديم من 3- 8 أعضاء ، ولما ظهر مشروع الحكومة، وضع حزب الأمة تقريرا عنه قدمه للحكومة أيضا ونشرته جريدته في شكل مذكرة تفسيرية للمشروع الذي قدمه الحزب آنفا.
ومع أن هذه المطالب تعطى هذه المجالس بالفعل سلطة قوية مستقلة إلا أنه يبدو أن حزب الأمة قد خدع في رغبة الحكومة الأساسية إزاء مشروع قانونها الجديد، فقد كان يعتقد أن ذلك سوف يمكن أعضاءه، وهم كبار القوم في مديرياتهم من الإمساك بزمام السلطة فيها كاملا، تمهيدا للمجالس الأخرى، ولكن الحكومة- بتعبير لطفي السيد – قد خذلتهم فأخذت تمحو وتثبت في مشروعها حتى أخرجته خاليا من القاعدتين اللتين أسس الحزب مشروعه عليهما،
وهما وضع أساس سلطة الأمة وتمليك هذه المجالس إدارة التعليم ، وبذلك خرج قانون توسيع الاختصاص خاليا من كل توسيع جوهري ، وهكذا لم يكتب النجاح لأول مشروع قدمه حزب الأمة إلى الحكومة وأيده رجاله داخل مجلس الشورى، ذلك أنه وقع ضحية رغبة الحكومة في امتصاص غضب الرأي العام الذي يلح في طلب المجلس النيابي التام، فاستخدمه في العمل تحت شعار توسيع اختصاصات الهيئات القائمة وصولا إلى المجلس النيابي،
بل واجتزأت من ذلك بمجالس المديريات إلى أن مرت الزوبعة وظهر مشروعها الذي لم يكن أكثر من تنسيق بين مواد القانون القديم مع إعطاء هذه المجالس بعض السلطات الشكلية وتحديد سلطاتها في إصدار القرارات بالأوامر العليا المصدقة عليها، أو بالترخيص لها من ناظر الداخلية، كما ظل حجمها ومواعيد اجتماعاتها دون تغير يذكر.
وكانت جرائد الحزب الوطني تطالب الدستور وتقوم دوائره بحركة العرائض في الوقت الذي كانت علاقته بحزب الأمة يسودها الصفاء في منتصف عام 1908. كما كان حزب الأمة اشتد عداؤه للخديوي، وقد أحس كذلك يخذل الحكومة لمشروعه، وفى تلك الأثناء وقع الانقلاب الدستوري في تركيا ( يوليو 1908) ذلك الانقلاب الذي أمد المصريين جميعا بأمل كبير في الحصول على الدستور ، وقوى دعوة المعتدلين في المطالبة بالحكم النيابي.
فلم يكن أمام جريدة حزب الأمة إلا أن تعيد صياغة مطلب الحزب الدستوري، خاصة وقد استشرت روح المطالبة بالدستور بين فئات الشعب. فبدأت تطالب بالدستور بشكل صريح وذكرت" نطلب الدستور الذي نصبح به أحرارا في بلادنا أما حكومتنا..." وأوضحت أن الأمة على قيد شبر من الدستور وأن اغتباطها بالدستور العثماني يعتبر احتجاجا منها على حكومة الفرد وإظهارا للشعور الكامل بالحاجة إلى الدستور. وصاحت بالإنجليز " بأي عين تصرون على حرماننا من الدستور ؟
إن الرأي العام مصر عليه ولابد للحكومة من إرضاء الرأي العام" ومرة ثانية نرى جريدة الحزب وكتابها في واد، وأعيان الحزب داخل مجلس الشورى في واد آخر، فقد طلب محمود عبد الغفار مطالب دستورية محددة وعلق عليها بأنها على كونها ليست دستورا كاملا فإنها كافية لأن تكون الآن وسيلة لرقينا، وأيده احمد يحيى في نفس الجلسة التي اشتد فيها الجدل حول الموافقة على طلب المجلس النيابي على الفور أو تأجيله، واستبدلت الحكومة صيغة" الاشتراك الفعلي التقريري مع الحكومة" بصيغة طلب المجلس النيابي، ورغم أن صاحب هذا الاقتراح ومؤيده كانا عضوين في حزب الأمة،
فإن رئيس الحزب ووكيله قد لعبا دورهما في هذا التحول الخطير الذي غير الاقتراح من أساسه،ولعلهما اتفقا مع بطرس على ذلك كما يروى سعد زغلول الذي علق بأن الناس يتحدثون حتى في القهاوى بأن الطلب والجواب متفق عليهما من قبل ، ويؤيد هذا كله ما ذكرته اللواء من أنه قبيل اشتداد الجدل انسحب وكيلا المجلس محمود باشا سليمان والشواربى باشا حتى يكونا على الحياد، وأخيرا قرر المجلس أن يطلب إلى الحكومة إعداد مشروع بمنح حق الاشتراك الفعلي مع الحكومة في إدارة شئونها، ثم طلب الرئيس إبداء الرغبات الآن في مشروع قانون مجالس المديريات.
وبذلك يتضح لنا أن أعضاء حزب الأمة داخل مجلس الشورى لم يتسع أفقهم للمشاركة في مطلب صار عاما وملحا، بل أن رئيسهم وفريقا منهم قد خذلوا اقتراحا قدمه أحد رفاقهم داخل المجلس وأيده آخر، بما يدل على عدم اتفاقهم، وقد تأكد نفس الموقف حين انعقدت الجمعية العمومية في فبراير عام 1909 عندما ردت الحكومة على طلب المجلس النيابي بأنها ترى أن الوقت لم يحن بعد فعاود نواب الحزب تقديم اقتراحات بإعداد مشروع قانون يعطى الأمة حق الاشتراك الفعلي في تدبير شئونها الداخلية، مشتركين في ذلك مع العديد من النواب الآخرين، ولكن الشيخ الدمرداش علق قائلا:
هل المقصود هو توسيع اختصاصات الهيئات القائمة أو إيجاد هيئات جديدة؟ بما أن مجلس الشورى قد طلب هذا المطلب فالأولى الانتظار حتى تجيب الحكومة أما إذا كان إيجاد مجلس جديد فاقترح أن يكون مكونا من جميع العناصر من أوربيين وغيرهم ممن لهم معنا مصالح مشتركة. وقد أعاد بذلك إلى الأذهان فكرة قديمة لكرومر حول إنشاء مجلس تشريع دولي، المهم أن الجمعية رفضت هذا الاقتراح مكتفية بطلب الاشتراك مع الحكومة.
وعندما طالب فتح الله بركات بتشكيل لجان متخصصة تحال عليها الاقتراحات ووافقه على ذلك محمود عبد الغفار ، عضو حزب الأمة ، احتج الدمرداش على ذلك مؤكدا أن عمل الجمعية هو قبول الاقتراحات أو رفضها يس إلا فلا حاجة لذلك. مما يدل على معارضة بعض أعضاء الحزب لكل محاولة من شأنها أن تعطى الجمعية خطوة إلى الأمام، ويؤكد المعنى السابق حول عدم اتفاق أعضاء الحزب داخل الجمعية أيضا على رأى واحد،
بل ووقوفهم مواقف متعارضة في أكثر من مسألة، ولم يظهر أعضاء الحزب داخل مجلس الشورى متحدين إلا عندما ميز الخديوي في الدعوة إلى احتفال بمناسبة رحلته لبورسودان ،بين أعضاء المجلس ، فلم يدع أحدا من حزب الأمة ونتج عن هذا ما يشبه اتفاق هذا الفريق على طلب المجلس النيابي، ففي جلسة 18 فبراير 1909 تقدم محمود باشا سليمان بطلب إلى المجلس ذكر فيه أن مشروع توسيع اختصاصات مجالس المديريات لا يحقق رغبات الأمة ولا طلبات الجمعية أو المجلس واختصاصاته وقدم اقتراحا مؤداه"
أن يقرر المجلس مشروع قانون بتعديل نظام الانتخاب على الوجه الذي يتفق مع حال البلد وإبلاغ عدد أعضائه المنتخبين إلى عدد تتحقق فيه النيابة عن الأمة وأن يكون رأيه قطعيا في القوانين والمسائل المصرية الصرفة حتى يحصل بالتدريج من هذا كله المجلس النيابي التام السلطة بالزمان"، أي أنه انتقل من توسيع اختصاصات مجالس المديريات إلى المطالبة بتوسيع اختصاصات مجلس الشورى
وأيده في ذلك محمود عبد الغفار وعلى شعراوي ، وفى جلة 13 أبريل أخذت الآراء فتقرر بالأغلبية تأجيل الاقتراح إلى يونيو 1909 وقد روى سعد زغلول أن شعراوي قد طلب إلغاء قانون المطبوعات وتبعه من لم يدعوا إلى حفل بورسودان وخالف الذين دعوا وكانت الغلبة لهم بثلاثة عشر صوتا يضادها عشرة وكادوا يرفضون اقتراح محمود سليمان المختص بالمجلس النيابي لولا أن بعضهم طلب تأجيله، ليفسر بذلك الدافع وراء موقف حزب الأمة إزاء قضيتين هامتين كانتا مطروحتين على المجلس
وهما طلب المجلس النيابي وقانون المطبوعات وبخصوص القانون الآخر، قدم شعراوي باشا اقتراحا بإلغائه " حيث أن اليد ليس بها فتنة وأن قانون العقوبات فيه الكفاية، وأيده محمود عبد الغفار ومحمود علوي، ولكن إسماعيل أباظة ونفرا من شيعته رأوا بعث القانون القديم أو وضع مشروع قانون جديد للصحافة، بينما طالب فريق ثالث على رأسه مقار عبد الشهيد، أحد مؤسسي حزب الأمة،
بإبقاء الحالة على ما هي عليه ، وبالفعل صدر قرار الحكومة بتنفيذ قانون المطبوعات الادارى في 26 نوفمبر 1881 ،وغضبت الجريدة أشد الغضب، واعتبرت موقف النواب الذين صوتوا على إبقاء القانون موقفا شخصيا وأن ذلك يدل على أن أخلاقهم لم تصف بعد من الاستبداد.
ولم ينس الأعيان، وهم ينوبون عن الأمة ، أن يعبروا عن مصالحهم، أو على الأقل لا يجب أن تتعارض المسائل المطروحة للمناقشة مع هذه المصالح حتى لو أدى الأمر إلى التضحية بالمبادئ أو الوقوع في شيء من التناقض، فقد اقترح محمد عبد الغفار مثلا أن يكو رأى مجالس المديريات في مسألة إنشاء السكك الحديدية استشاريا لا تقريريا خشية ألا يوافق بعض الأعيان على ألا تمر السكك في أطيانهم أو يؤخذ من أملاكهم شيء فرفض المجلس بما فيه جميع أعضاء حزب الأمة هذا الاقتراح الذي تقدم به زميل لهم.
وعندما اقترح موسى غالب أن يكون أحد الناخبين عن كل مركز مقيما في هذا المركز بحيث لا ينتخب لمجلس المديرية أكثر من شخص من كل عائلة، رد عليه عبد الغفار بأنه لو فرض وكان في العائلة شخصان أو ثلاثة أكفاء وقلنا لا ننتخب منهم إلا واحدا نكون قد قيدنا حرية المنتخبين، وقد أيده في ذلك إبراهيم مراد" لأن حرمان العائلات ليس من العدالة"
وعلق محمود سليمان بأنه يشترط في كل عضو دفع 50 جنيها أموالا أميرية فإذا فرض ولم يوجد بذلك موقف زميليه من الاقتراح، ومعارضا تخفيض النصاب المالي إلى النصف بالنسبة لحاملي الشهادات العالية لأنه سينافى مع موقفه السابق حيث سيوسع من إمكانية تمثيل المركز نفسه في مجلس المديرية.
ومرة أخرى وقفت الجريدة من أعضاء الحزب في المجلس موقفا مغايرا فذكرت أنه ليس من الصالح العام أ ن يكون نصف أعضاء المجلس بزيادة واحد من مركز واحد بل ومن عائلة واحدة، وإلا فأين الصالح العام، والإنابة الحقيقية ، وطالبت بأن يكون لكل مركز عضوان من دائرته فيوجد التوازن بين الأعضاء ويوجد التباين في الأفكار .
ءوحبذت دخول الشبيبة المتعلمة إلى المجلس معارضة رأى الذين طالبوا بإبقاء النصاب المالي، وذكرت أن ذلك يشعر بأن نوابنا ما زالوا يقدرون الرجال بالمال بل يخشون احتكاكهم بطبقة المتعلمين.
ويبدو أن نواب حزب الأمة لم يكونوا مقتنعين بما يمكن أن يؤدى إليه تطوير مجالس المديريات، وقد ظهر هذا واضحا في جلسة الشورى في 29 نوفمبر 1911 حين عرض اقتراح مؤداه أن يكون سن عضو هذه المجالس 25 سنة بدلا من ثلاثين وأن يعفى حائز على شهادة عالية من النصاب المالي كلية وأن تخفف مدة إدراجه في دفاتر الانتخاب من خمس سنوات إلى سنة فقط،
وكان الهدف من ذلك هو توسيع دائرة المرشحين وخاصة لذوى الكفاءات ودفع الشباب المتعلمين إلى كراسي النيابة، ورغم أن أحد المقترحين كان عضوا بحزب الأمة(مصطفى خليل) إلا أن الأعضاء الآخرين من الحزب نكصوا على تأييد ذلك، فلم يعلق أحدهم على الاقتراح بشيء بل إن إبراهيم مراد قد طلب تأجيل ذلك حتى يأتي رد الحكومة على الاقتراحات الأخرى فتم بذلك تعطيل الاقتراح.
ويبدو كذلك أن نواب الحزب لم يكن بوسعهم استمرار تأييد أو الدفاع عن اقتراح تقدم به أحدهم حتى النهاية، ففي جلسة 22 يونيو 1909 قدم رئيس الحزب اقتراحه السابق بشأن المجلس النيابي مع إضافة بسيطة تتعلق بزيادة حجمه، فيكون عدد الأعضاء ستين بدلا من ثلاثين، وقد طلب إسماعيل أباظة ضم هذا الاقتراح إلى الطلب الأول الذي اقره مجلس الشورى والجمعية العمومية، وقدم طلبا بإعداد المشروعين ودمجهما فوافقه محمود عبد الغفار وحسن مدكور وطلبه سعودي،
وهكذا تم إلحاق الاقتراح بالاقتراحات السابقة التي ذهبت أدراج الرياح، وقد علق محمود سليمان على ذلك بقوله: حيث أن الغرض في الحالتين الخدمة العامة فيلزم التجاوز عن الاختلافات فتقرر بالإجماع تبليغ ذلك للحكومة.
ومع ذلك لم تكف الجريدة عن المطالبة بالدستور بأقلام مثقفيها الشبان، منذ حدث الانقلاب الدستوري في عاصمة السلطان، واعتبرت الجريدة أن مشروع مجالس المديريات لا يحقق التدريج المطلوب وتساءلت كيف تدرجوننا على الشورى والشورى موجودة عندنا منذ عام 1883 ، أفلا يكفى هذا الزمن لإمضاء التجربة ؟
واعتبرت إطلاق الحكومة المدافع من طابى الإسكندرية احتفالا بعقد مجلس المبعوثان بموجب الدستور هو احتجاج من الحكومة على نفسها،
وإلا فكيف يكون ذلك فرح حكومة بالدستور،وهى لا تجيب طلب الجمعية العمومي ومجلس الشورى؟ وللمرة الأولى اعتبرت الجريدة أن الأمة مهيأة للدستور وأبدت سخطها على كلمة " الكفاءة" التي يرددونها كلما ذكر الدستور، والتا جعلوها شرطا لنيله ،
فكيف يحسبون أن الإيرانيين أكثر كفاءة للدستور من الصدريين؟ فأطاحت بفكرة التدريج، والكفاءات ، وهى التي طالما نادت بها كثيرا خلال العامين السابقين وإن كانت قد تخبطت في طلبها للدستور، تارة من الوزارة أو بمعنى أدق من الإدارة الإنجليزية ، وتارة من السلطة الشرعية.
ويبدو أن الحزب قد فكر في تقديم عريضة للخديوي بطلب الدستور، أسوة بحركة العرائض التي تبناها الحزب الوطني، وقد ذكر لطفي السيد أنه قد حررت هذه العريضة وأخذ الأهالي في إمضائها ، وإن كان هذا لم يثبت بشكل ما، وربما لأن الخديوي قد علم بتفكير الحزب في ذلك فلجأ إلى جورست الذي سعى بدوره لإحباط المسالة وإرجاع أعضاء الشورى عن طلب المجلس ، كما روى سعد زغلول .
ويبدو تراجع أعضاء حزب الأمة عن طلب المجلس النيابي واضحا في انعقاد الجمعية العمومية في مارس 1912
حيث لم نجد ضمن الاقتراحات الخمسة المقدمة بهذا الخصوص إلا اقتراح واحد تقدم به أحد أعضاء الحزب( أحمد عثمان الهلالي) ، بل لقد أعلن اكتفاءه بتصريح الخديوي بشأن المجلس النيابي ، خاصة وقد قربت سياسة كتشنر المتشددة الخديوي من حزب الأمة، ففي الوقت الذي طالب فيه الصوفانى- عضو الحزب الوطني- بالمجلس النيابي الفورة، لا يرى عبد الرحيم الدمرداش أن هذا الطلب مناسبا بعد وعد الجناب العالي، وعاد إلى ترديد نغمة الكفاءات والتدرج حين ذكر : لقد\ اخذ جيراننا الدستور قبل استعدادهم فماذا حصل؟ حصل أن الدستور معلن والأحكام العرفية مقامة بجنابه..."
ووافقه على ذلك إبراهيم مراد وحسن بكرى وعلى شعراوي وأمين أبو ستيت وكلهم من أعضاء حزب الأمة حتى تمت الموافقة بالإجماع على رأيهم ، مما يؤكد أن طلب المجلس النيابي أو الدستور ارتبط عند نواب حزب الأمة بعلاقاتهم بمركز السلطة شرعية كانت أم فعلية ولا يتصل لديهم بالوعي أو الإيمان بالمبادئ الدستورية. وعلى العكس وقفت الجريدة بكتابها مواقف أكثر تطورا اتضحت أكثر من مرة على النحو الذي سبقت الإشارة إليه.
وسوف نستعرض عدة قضايا رئيسية داخل الهيئتين النيابيتين القائمتين لنتعرف على مواقف نواب حزب الأمة إزاء كل منها، أولها حين طلب مجلس الشورى من الحكومة وضع مشروع يجير للأعضاء مساءلة النظار بشروط توضع لذلك، فأجابت الحكومة بخطاب في 6 ديسمبر 1909 بوضع شروط خمسة لتوجيه الأسئلة، سحبت باه مضمون هذه المسالة ،
وقد رفض محمود عبد الغفار تدخل الحكومة اعتبر هذه القيوم رجوعا القهقرى ، ورأى شعراوي باشا أن خطاب الحكومة لم يأت بالطريق التشريعي فهو باطل، بينما طلب محمود سليمان تجنب الكلام في هذا الخطاب وأن تضع الحكومة مشروع قانون في هذا الموضوع وترسله للمجلس ليبدى رأيه فيه، وأخيرا تقرر مراعاة الجواب الوارد من الحكومة وطلب مشروع قانون لذلك وقد اتفق هذا مع رأى رئيس الحزب وبقية نوابه داخل المجلس .
وفى مسألة مشروع مد امتياز قناة السويس أربعين سنة تبدأ عام 1968 طالبت الجريدة باستشارة الجمعية العمومية أولا، ونادت بأن هذا هو صوت الأمة الذي ينادى الحكومة من كل جانب أن تعقد الجمعية العمومية .
والثابت أن أعيان حزب الأمة ومحاميه قد اجتمعوا في منزل شعراوي باشا ورفعوا تلغرافات إلى الخديوي ورئيس الوزراء وجورست يطالبون بإعلان المفاوضات مع الشركة وأخذ رأى الأمة فيها وألحت الجريدة في مطالبة الحكومة بضرورة أخذ رأى الجمعية العمومية في هذا المشروع بعد أن طلب لطفي السيد من بطرس غالى نفس الطلب وعندما وافقت الحكومة على ذلك أثارت الجريدة مسألة هل سيكون رأى الجمعية قطعيا أم استشاريا ؟
ورأت أن أصل حقوق الجمعية أن تكون قراراتها قطعية صرفة، وهتفت بالنواب أن اتقوا حكم التاريخ وطالبتهم برفض كل شر هضام لحق الأمة هدام لمصلحتها، وأنشأت العديد من البحوث السياسية والاقتصادية حول المشروع وألف طلعت العديد من كتابه الشهير " قناة السويس" الذي عرض فيه لتاريخ القناة بالإحصائيات وناقش مذكرة المستشار المالي موضحا مضار العرض بالنسبة لمصر وشكلت الجمعية لجنة لدراسة المشروع ومناقشته من 15 عضوا ترأسهم محمود باشا سليمان وضمن سبعة سواه من أعضاء حزب الأمة،
حين قرر مجلس النظار إدخال التعديلات التي رآها على المشروع بدون قبول الشركة، صرح لطفي السيد لسعد زغلول بأن هذا القرار نتيجة ارتشاء وقد أشيع فعلا وقتها أنه سيكون للخديوي وبطرس سمسرة جسيمة لو نجح المشروع، وأثبت محمد فريد فيما بعد ( 1914) ما أكد تفاوض الخديوي مع المشرفين الماليين على الشركة بهذا الشأن.
ورغم ذلك، وبقرار تاريخي رفضت الجمعية العمومية المشروع بالإجماع- عدا عضو واحد- في جلسة 12 مارس 1910 واعتبرت الجريدة ذلك فوزا للنواب على الحكومة بعد أن شاركت بجهد واع في تبصير النواب بدورهم وتنبيه الرأي عام بحقيقة المشروع.
وعندما قدم مشروع قانون الجامعة الأزهرية إلى مجلس الشورى 1911 شكلت لجنة للنظر فيه من الشيخ النواوى ومحمود سليمان وشعراوي وسعودي وإبراهيم مراد ومصطفى خليل والاتربى وفتح الله بركات، أبدى ثلاثة منهم( سليمان وشعراوي وبركات) تعقيبا على المادتين 11،23 وقد نصت الأولى على ترؤس الخديوي للمجلس الأعلى للأزهر عند الاقتضاء ورأت اللجنة ألا معنى لذلك الاقتضاء، وأن هذا خطأ عظيم.
أما المادة الأخرى فقد طلبت اللجنة ألايون اختيار شيخ الأزهر من كبار العلماء،بل يرشحه كبار العلماء الذين ينتخبون ثلاثة منهم يعين الخديوي أحدهم شيخا، ويبدو من هذا أن تلك التعديلات تدور حول الحد من سلطة الخديوي الذي كان قد دخل في مرحلة عدائه الأخير لهم في نهاية عام 1910، وإن كانت اللجنة قد أعطتها تبريرات دستورية، بل أن اثنين من أعضائها ( مصطفى خليل وإبراهيم مراد) قد رفضا تعديل المادة 11، أما المادة 23 فلم يضطلع أحد من نواب حزب الأمة بالدفاع عن تعديلها، في حين تولى هذا الأمر الصوفانى وبركات مطالبين بانتخاب شيخ الجامع،
وأخذت الآراء فلم تصوت إلى جانب التعديلات ، وهكذا بدا نواب حزب الأمة نظريا في مظهر المدافعين عن الديمقراطية ، في حين تراجعوا عمليا، كما لم يظهروا كالعادة يدا واحدة تدافع عن التعديل ن الذي شكلوا أغلبية اللجنة المعدة له، والطريف أن الجريدة اعتبرت أن الحية ، إزاء تراجع النواب، قد تخاذلت وفشلت أمام المجاملة،
وأوضحت أن فشل الأحرار أمام الوعيد ليس من شأنه أن يوهن من عزيمتهم وأدانت الحكومة التي حملت المجلس على التصديق على المشروع، ونعتت محمود سليمان بشيخ النواب وأسمتهم بالديمقراطيين.
ولعل لذلك صلة ، كما تقول الجريدة، باقتراح كل من محمود سليمان وفتح الله بركات وأحمد حبيب ومحمد أمين أبو ستيت بعدم الإنعام بالرتب والنياشين على أعضاء المجلس فقد تدخلت الحكومة لخذلان الأعضاء السابقين في تعديلاتهم على مشروع قانون الأزهر .
ففي جلسة 30 مارس 1911 قدموا اقتراحا بهذا المعنى حتى يكون الأعضاء بعيدين عن سوء الظن بهم من مستنيبيهم ، وحين بدأت مناقشة هذا الاقتراح انسحب أبو ستيت، واستمات بركات في الدفاع عنه وأبدى استعداده في الحال للتنازل عن رتبته،
هذا في الوقت الذي نكص فيه محمود سليمان وأحمد حبيب عن مؤازرته ، بل أن محمود الأتربى ومحمد الشريعي قد انبريا للرد عليه واعتبراه طاعنا في زمم زملائه وأيدهما إبراهيم مراد أيضا، وحين أخذت الآراء رفض الاقتراح، وبذلك تكرر نفس الموقف من نواب حزب الأمة، استقطبت الحكومة بعضهم، وأغرى الخديوي البعض الآخر بالرتب والنياشين، وكانوا مدفوعين بعوامل خاصة ، من ثم انتاب التردد والنكوص والتضاد مواقفهم داخل المجلس.
والقضية الأخيرة تتعلق بقانون الخمسة أفدنة، الذي يقضى بعدم جواز الحجز على أطيان من يملكون خمسة أفدنة فأقل ومسكن وملحقاته ودابتين وفاء لدينهم، فعندما عرض المشروع على مجلس الشورى ووضعت لجنته- التي ترأسها محمود باشا سليمان- تقريرها جاء فيه:
أن للجنة أمنية هامة تحفظ حقوق الملاك المؤجرين وهى توقيع الحجز الإدارة على محصولات المستأجرين لضمان إيجار أطيانهم، وتساءلت كيف يرضى المالك تأجير أرضه إلى مزارع صغير إذا كان لا يستطيع الحجز على أملاكه لتسديد قيمة الإيجار؟
كما حرص التقرير على توسيع الاستثناءات من ظروف الحجز والبيع وفاء لحقوق الملاك، فبدا أن كبار الملاك لا ينظرون لأبعد من حدود مصلحتهم، حتى لقد اتهمهم بذلك ناظر الحقانية ولم يقبل هذا التعديل ولكن المجلس قرر التعديل بالإجماع واعتبر الإيجار من الديون الممتازة التي يجوز بموجبها الحجز على الملكيات الصغيرة ، ونصت المادة الثانية من القانون على ذلك ،
وكذلك نصت المادة الرابعة على أنه لا يترتب على ذلك ضياع حقوق الدائنين الذين اثبتوا بدينهم سندا ثابتا قبل هذا التاريخ وهكذا كانت فاعلية كبار الملاك، وبشكل خاص نواب حزب الأمة – الذين توحدوا تماما- تبدو مؤثرة إذا ما كان المشروع يضر بمصلحتهم أو يمسها من قريب أو بعيد، وقد وضح هذا جيدا في الثقوب التي استطاعوا إحداثها بقانون الخمسة أفدنة.
عندما افتتح الخديوي دور انعقاد الجمعية العمومية الأخير عام 1912 أعلن أن الحكومة مشتغلة بدراسة أفضل الوسائل لتحسين النظام النيابي، وخلال جلسات هذا الدور تم التصويت على طلب الدستور مرات ثلاث.
وقد أرسل كتشنر إلى جراى يقترح تعديل النظام الحالي وإعداد نظام أكثر ديمقراطية وأكثر تمثيلا لوجهات النظر للشعب المصري، وعرض عليه تفصيلا لتصوره للتغيير الجديد يتعلق بالانتخاب والتمثيل الكمي والنوعي الذي يكفل تمثيل صغار الملاك، وذكر أن الهدف من ذلك تسكين المتطرفين ، حتى أواخر عام 1912 كانت قد شكلت لجنة لبحث تعديل قانون الانتخاب ووالت اجتماعاتها في سرية تامة، وطلب كتشنر إلى جراى أن يحاول إقناع مجلس العموم بألا يتدخل في هذه المسألة لأن ذلك سيثير جماعة المتطرفين ،
وقد ركز على أن أعضاء الجمعية العمومية يجب أن يختاروا من المصريين المتعلمين وخاصة ممن لهم خبرة بالمسائل الإدارية ، ورغم أنه لم يكن مقتنعا بأن التغيير إلى نظام حكومة برلمانية مسئولة لا يعد مناسبا لحاجات مصر إلا أنه ذكر أن من الضروري وضع رغبات الطبقات المختلفة في عين الاعتبار فكأن المسألة تعنى مزاحمة كبار الملاك ببعض الفئات الجديدة من أبناء الطبقة الوسطى وصغار الملاك لهؤلاء ،" وتسكينا للمتطرفين، واحتواء زعامات هذه الفئات داخل الجمعية وتمييع المطلب الدستوري الذي ألحت عليه الجمعية العمومية،
وإذا كان كتشنر قد تشدق بأن الجمعية الجديدة سوف تكون سلطاتها أوسع وأنها ستأخذ في اعتبارها بشكل خاص المسائل الداخلية ، مع عدم تجاهل الطبقات الفقيرة وعدم إعطاء أهمية للنصاب المالي إلا أن القانون الجديد الذي أنشئت الجمعية التشريعية بموجبه لم يحثث شيئا من هذا ،
فلم تتسع سوى اختصاصاتها الاستشارية بحيث صار من حقها تأخير أي قانون وكذا عقد لجا مع ممثلي الحكومة في المسائل محل الخلاف وحق مساءلة الحكومة تحريرا وشفاهة- مع سلب الجمعية مضمون هذا الحق عمليا- بالإضافة إلى حق تقديم مشروعات القوانين .
وقد حرمت الجمعية من إبداء رأيها في مسائل أباحها القانون السابق كسحب الحق المخول لمجلس الشورى بشأن مناقشة كل أقسام الميزانية وسحب حق الجمعية العمومية في دراسة سائر المواد المتعلقة بالثروة العمومية والأمور الإدارية والمالية كذلك احتفظ القانون الجديد بنفس الشروط المالية تقريبا اللهم ألا تغيير محدود وبلا قيمة، الأمر الذي أتى بأعضاء معروفين للناخبين، وضمت الجمعية الجديدة 49 من كبار الملاك من بين 66 منتخبا ، وقد علقت المؤيد على ذلك " باهتمام الأعيان بالانتخابات وإعجابهم بالمشروع الجديد وأن هذا الاهتمام كان دائما دأبهم في جميع الانتخابات ، لكنه في جميع البلاد الراقية لا يحفل إلا بآراء الطبقة المتعلمة المتهذبة والتي قابلت المشروع بفتور زائد".
ومن بين 66 عضوا منتخبا نجد 18 عضوا ينتمون لحزب الأمة عند نشأته، هذا بالإضافة إلى أن الحكومة قد عينت أربعة ينتمون للحزب أيضا من بين 17 معينا وإن كان هذا لا يعنى أيضا أنهم كونوا جماعة حزبية داخل الجمعية ذلك أن ما أصاب الحزب من تفتت خلال الأعوام السابقة قد أبعد الكثيرين عنه، بل أن كثيرا من الذين نجحوا في الانتخابات كانوا ممن انشقوا على الحزب،
كذلك فإن ما حدث داخل الجمعية لا يعطى المعنى السابق على ما سوف يتضح، وبالمثل فإن طبيعة الجمعية نفسها لم تكن تحتمل قيام أكثرية أو أقلية بالمعنى البرلماني الصحيح ثم إن كتشنر وكان يبغض الأحزاب ويحتقرها لم يكن ليسمح بظهورها داخل الجمعية، وقد صرح لسعد بأنها إذا ضمت المشاغبين ورجال الأحزاب واثبتوا أهواء وميول أحزابهم فلن تجنى البلاد منها إلا شرا .
لكل ذلك لم يستطع حزب الأمة أن يكون جماعة حزبية داخل الجمعية.
وحين اقترب تشكيلها من نهايته وصفها لطفي السيد بأنه جمعية استشارية لا تحقق سلطة الأمة بالمعنى الصحيح وهتف بالنواب أن يفتحوا باب الحرية على مصراعيه، وذكرهم بأن النواب هم الذين ساعدوا الحكومة على بعث قانون المطبوعات فأقاموا الحجة على شعبهم من حيث أرادوا أن يخدموا فكرة الاعتدال ، ونسوا أن ألضرار التي قد تنجم عن التطرف في الحرية لا توازى شيئا من الضرر الذي تأتى به طبائع الاستبداد مبررا ذلك للمرة الأولى، أسلوب التطرف إن لم يكن محبذا له، وأن تخفى وراء الحرية، ولعل ذلك راجع على غضبه لسقوطه في الانتخابات .
وكان قد رشح نفسه عن مركز السنبلاوين ولم ينجح، وفسر ذلك بتدخل الحكومة وعملها على إسقاطه ، وكان قد أعد كراسة بخطته في الجمعية التشريعية، ودفع بها على سعد زغلول الذي فهم منها أن لطفي بعد القانون النظامي خطوة نحو الدستور ويبدى سروره من تدرج الحكومة بالأمة نحو الحكم الذاتي ومن كون جميع الأفراد بما يقيد حريتهم في تصرفاتهم ،
ولعل سقوط لطفي يفسر أيضا دعوته إلى أن يكون بالجمعية يمين وشمال أو حزب معارضة وإهابته بكل عضو أن يضحى دائما رأيه لرأى حزبه كما يفسر تيئيسه من الجمعية وهجومه المتكرر عليها، فقد رأى أنها لا تمتاز عن الشورى إلا بزيادة العدد أما رأيها فلا يزال استشاريا ناقصا منه بعض الاستثناءات فالرجاء فيها بأكثر مما يدخل في حدودها، أماني مجردة لا يقام لها وزن.
ولم يكن لطفي هو الوحيد الذي سقط في الانتخابات فقد حدث نفس الشيء للهلباوي, وكان السبب مختلفا، فقد رشح نفسه ضد سعد زغلول في دائرة بولاق وعندما نصحه سعد بالتنازل ، ووعده بأنه سيتنازل له عن دائرة إذا نجح في اثنتين وأنه سوف ينصح أهل الثقة بانتخابه رفض الهلباوي ذلك بحجة أن الحكومة لا تقبل ذلك.
ولكن سرعان ما أشيع أن سعد زغلول وعبد العزيز فهمي، والأخير أحد فرسان حزب الأمة، سوف يشيعان في الجمعية روحا جديدة وسيتوليان زعامة المعارضة فيها، حتى أن الحكومة لجأت للتخلص منهما بمحاولة استيزار سعد الذي طلب استشارة أنصاره وناخبيه، وكذلك عرضت وظيفة مستشار بالاستئناف على عبد العزيز فهمي،
لكنه أبى وقد علقت الجريدة على ذلك بأن الحكومة لم تقصد حرمان الجمعية منه، فهي تحتكر بيدها كل السلطة ولا ترى أمامها إلا جمعية شورية غير قادرة بقوة نظامها على إسقاط الوزارة، وأكدت عدم خشية الحكومة من " أحرار" الجمعية . وربما كان عبد العزيز فهمي مدينا بما أحرزه من مستقبل سياسي مرموق فيما بعد، لفترة عمله بالجمعية التشريعية على قصرها.
وقد أثار محمد السيد أبو على مشكلة الوكيلين سينوب عن الرئيس المعين أم المنتخب ، وانضم إليه في ذلك الشيخ الدمرداش .
ورأى لطفي السيد أن المسألة ليست على قدر من الأهمية " فهي مسألة أشخاص لامسألة مبدأ" واستنكر على الحكومة محاولتها تجنيد فريق من النواب ليضع نصا في اللائحة يعين أي الوكيلين ينوب عن الرئيس، ولكنه في مقال آخر بنفس العدد أبدى رأيا قاطعا بأن الوكيل المنتخب هو الأحق، وأن الأمة لابد أن تجادل عن حقها في جعل وكيلها هو النائب عن الرئيس .
وداخل الجمعية لم يقف نواب حزب الأمة أو بمعنى أدق ممن ينتمون في الأصل لهذا الحزب، لم يقفوا موقفا واحدا، بل أن فريق الأحرار الزى ترأسه سعد قد ضم العديد من رجال الحزب الوطني كالصوفانى والمكباتى وحين قدمت عريضة بجعل الوكيل المعين أسبق من المنتخب في الرئاسة وقعها من المنتمين لحزب الأمة أمين أبو ستيت وخالد لطفي والدمرداش والاتربى وغيرهم،
بينما عارض قطب قرشي، وإبراهيم سعيد، وعلى المنزلاوى، وراغب عطية، وعلى شعراوي، ومحمد علوي، وعلى رأسهم عبد العزيز فهمي وسعد زغلول وانتصرت الجريدة لفريق المعارضين ولقبتهم " بالأحرار" وهنأت الأمة بهم وبموقفهم الذي أدى إلى انسحاب سعد بهم " مما أثبت أن لدينا في المجلس ثلثه على قدرة واتفاق في الآراء "
بينما تقدم حمد الباسل وعلى شعراوي بحل وسط مؤداه أن الرئيس يعين أحد الوكيلين بالمناوبة بينهما. وقدم عبد العزيز فهمي اقتراحا بجعل الإنابة للوكيل الأكبر سنا، ولكن رفض هذان الاقتراحان ، ثم أخذت الآراء فكانت إلى جانب أولوية الوكيل المعين بنسبة 44 ضد 32 صوتا وبذلك حسمت المسألة، وحملت الجريدة الحكومة مسئولية تصرفها وهنأت الأمة " بالحريين".
وكانت المسألة العامة الأخرى التي ناقشتها الجمعية التشريعية هي مشروع ميزانية عام 1914، وفد بدأت مناقشاتها حين قدم عبد العزيز فهمي اقتراحا مؤداه أن كل لجنة من اللجان تدرس من الميزانية الفصل الخاص بها ثم تقدم إلى اللجنة المالية فيتوزع العمل وتكون كل لجنة على بينة بميزانية النظارة المكلفة ببحث أعمالها، وقد رفض الاقتراح على أهميته ووجاهته بنسبة 42 إلى 28 كما لم يصوت إلى جانبه معظم المنتمين لحزب الأمة،
وإن كان قد حظي بتأييد مجموعة كبيرة من " الأحرار" ورجال الحزب الوطني. وقد طالب عبد العزيز فهمي بأن يشترك، النظار في الإجابة على أسئلة الأعضاء واستفساراتهم، وإلا فما معنى وجودهم ؟ فرد عليه ناظر الحقاني بأن القانون هو الذي أوجدهم فطلب فهمي من النظار أن يجيبوا الآن على الأسئلة الظاهرة البسيطة التي لا تحتاج إلى بحث.
بيد أن عبد العزيز فهمي الذي بدا برلمانيا حاذقا واعيا، لم يكن وعيه يتعدى حدود الطبقة التي خرج من صفوفها ، فحين علق أحد الأعضاء ( كمال أبو جازيه) على زيادة إيرادات الميزانية بأن معظمها يؤخذ من الفلاح عن طريق الضرائب الفادحة الشديدة الوطأة عليه الخفيفة على سواه،وطلب تعديل الضرائب بحيث تتحمل البضائع الكمالية والمشروبات وأوراق اللعب وأسهم وسندات الشركات سهما عادلا من هذا العبء، علق عبد العزيز فهمي بأن هذه أمنية جميلة وتؤجل في التقرير إلى القسم الخاص بالأماني فوافقه الأعضاء بساطة شديدة رغم أن الأمر يتعلق بنفس الفقرة الجاري مناقشتها.
وقد عبر حمد الباسل عن نفس المصالح في تعليقه على الميزانية فطلب إلى الحكومة بيع أطيان الدومين- أو ما تبقى منها- بالطريق التي اتبعت في بيع أراضى الدائرة السنية لأنها بيعت للأهالي بأقساط مريحة، وحتى تتخلص الحكومة من أعمال الزراعة والإدارة وما تنفعه في سبيلهما لأنه ليس في الإمكان أن تكون حكومة وزراعة في آن واحد، وطالب بتخصيص ميزانية اكبر لنظارة الزراعة، فرد عبد العزيز فهمي بأنه – الباسل- يريد لن يجعل ناظر المالية " يأخذ من أموالنا" فعلق الباسل بأنه سيصرفها في الوجوه المفيدة للأمة.
وتكررت المواقف المتعارضة لرجال حزب الأمة داخل الجمعية التشريعية في أكثر من مناسبة ، فحين اقترح أحدهم ( محمد علوي الجزار) أن تخفف نظارة المعارف رسوم الامتحانات وتعفى الفقراء منها وتقبل جميع طلبات دخول المدارس العليا من متوسطي الحال وإنشاء مدرسة ثانوية لتعليم الفقراء مجانا، طلب عبد الله أباظة، من المنتمين لحزب الأمة- تأجيل هذه الاقتراحات على اعتبار أنها خارجة عن موضوع مناقشة الميزانية.
وأيده الدمرداش وعبد العزيز فهمي وكثير من رجال حزب الأمة، وعندما اقترح آخر ( راغب عطيه) إلغاء ضريبة الخفر، انبرى عبد العزيز فهمي لتنفيذ اقتراحه موضحا أنه إذا جاز للجمعية أن تقبل ذلك لجاز لها أن تطلب إلغاء مال الأطيان لأنه ثقيلة وكذا رسوم الجمارك، وطلب تأجيل الاقتراح إلى أجل غير مسمى، برغم أنه قد نحظى بتأييد بركات والصوفانى وغيرهما ممن لا ينتمون لحزب الأمة.
من كل ما سبق يتضح أنه رغم التمثيل الكبير- نسبيا- لحزب الأمة فى الهيئات النيابية، إلا أن أعضاء الحزب داخل هذه الهيئات لا يمكن اعتبارهم هيئة برلمانية للحزب ، كما لم يستطيعوا بحال قيادة معارضة وطنية باعتبارهم حزبا، رغم مخالفتهم للحكومة من خلال مواقف شخصية أثرت علاقة نواب الحزب بالسلطتين في تحريكهما،
وقد اتضحت كذلك من خلال تعبيرهم عن خصومتهم للحزب الوطني في الوقت الذي لم تكن هناك معارك نيابية بين الأحزاب بشأن القضايا العامة، ربما لأن أحزاب هذه الفترة لم يكن بوسعها أن تخوض معارك انتخابية- بالمعنى الحزب- للتمثيل في هذه الهيئات.
ولعله اتضح كذلك أن مطلب حزب الأمة النيابي الذي يقرر السعي لتوسيع اختصاصات الهيئات القائمة وصولا إلى المجلس النيابي، لم يقدر له على تواضعه أن يتم بالشكل الذي ابتغاه الحزب وذلك لنكوص أعضائه عن النضال لتحقيق هذا الهدف، ولأن المجلس النيابي تام السلطة صار مطلبا راديكاليا للحركة الوطنية المصري على إطلاقها ، الأمر الذي أدى إلى ابتلاع كافة المحاولات المتواضعة والمبتسرة.
ولعلنا أخيرا لمسنا أن نواب الحزب قد انبوا – غريزيا ودو اتفاق- للإدلاء بدلوهم في المسائل التي تهم الطبقة التي خرجوا من صفوفها ، في حين لم يشب ذلك مواقف جريدة الحزب، التي عبرت بأقلام الشباب، عن مسالة الديمقراطية والحكم النيابي بشكل أكثر تطورا ووعيا.
الفصل السابع :الفكر الحر وقضايا الإصلاح
قضية التمدن
الدين والدولة
الليبرالية والمسألة الاقتصادية
الاشتراكية والمسألة الاجتماعية
التعليم والمرأة.
ويقصد بقضية التمدن ، تطوير المجتمع وتحديثه، بما يعبر عنه بالإصلاح الأوربي وقد واجهت هذه القضية المجتمع المصري منذ مطلع القرن التاسع عشر، وبالذات منذ تحدته حضارة أوربا في ثوب حملة عسكرية فرنسية، فانفتحت عيونه فجأة على مستحدثات الغرب، الأمر الذي قوبل بالدهشة والتحدي من جانب المجتمع المحافظ، والذي تقاسمت مشاعر النفور والإعجاب العديد من مفكريه وكتابه، وهذا ما بدا واضحا- مثلا- لدى الجبرتي والعطار وغيرهما.
بيد أن المسألة لم تكن تمر بهذه السهولة، خاصة وقد تولى مصر وال طموح، وهو محمد على، الذي أخذ على عاتقه مهمة إعداد جيش مجهز بأحدث الطرز والأدوات، ومن ثم كان عليه أن يستفيد من منجزات أوربا العلمية والصناعية والإدارية، عن طريق استجلاب الخبراء والمعلمين والأدوات اللازمة لذلك، الأمر الذي قاد محمد على إلى استقدام كافة عناصر الحضارة الأوربية الأخرى إلى مصر. فقد كان من الصعب انتزاع عنصر من تلك الحضارة مجردا عن الوسط الذي يعيش فيه، فالشيء الواحد يؤدى إلى الآخر كما يقول توينبى.
وقد شهدت مصر في عهد محمد على تطورا عظيما في شتى مجالات الحياة نظريا وتطبيقيا، الأمر الذي أدى إلى اضمحلال ثم انهيار النظام السياسي القديم وتفكك القوالب الاجتماعية والثقافية القائمة. وعلى الجانب الآخر للبحر المتوسط كانت تحررية أوربا قد قطعت شوطا من التقدم، فكان التصنيع نبى التحرر .
كما كان أساس حرية التجارة، حيث أنشأ سوقا عالمية أزالت عزلة أبعد الشعوب واستقر مفهوم الدولة القومية بالمعنى الحديث التي تتفق مع حدودها الجغرافية ذلك ما كانت تموج به أوربا وقت أن أقيمت بينهما وبين مصر معابر ثلاثة، تمثلت في البعثات العلمية ، واستقدام الأساتذة والخبراء الأوربيين إلى مصر ،وأخيرا حركة الترجمة الواسعة والنشطة، التي نقلت العلوم والفنون الأوربية إلى مصر،
ومن ثم اتخذت مسألة تحديث مصر وتطويرها طابعا جديدا وزاخرا. حيث بدا أن مصر تأخذ عن أوربا بإرادتها ، وكان على الجيل التالي- لعصر محمد على- أن يعيد صياغة قضية التطور والتمدن، أو بمعنى آخر يعرف كيف تتطور مصر، وإذا كان من سبقهم قد وقف على ما يجرى في أوربا ، فقد كان عليهم أن يعرفوا ماذا يعنى ذلك كله بالنسبة لمصر، وكيف لها أن تستفيد من تجربة أوربا باقتباس معارفها وصناعتها وتجارتها ونقل اكتشافاتها ،
بل لقد بلغ الإعجاب بالحضارة الأوربية حد النقد الذي رمى الشرقيين بالتعصب الجاهل، الذي جعلهم لا ينتبهون إلى تقدم الغربيين في مبتدعاتهم وتفننهم في مخترعاتهم حتى بلغوا ذروة الثروة وقد مس الشيخ محمد عبده هذه المسألة حين كتب منتقدا المنتديات الأوربية وما يتداول فيها من أفكار ومناقشات على قدر كبير من الأهمية .
بل وما قصه " علم الدين" لعلى مبارك،وعرضه للقاء الشيخ بالمستشرق الإنجليزي، في دعوة صريحة للسياحة في أوربا والأخذ بعلومها وفنونها وآدابها وكان محمد عبده يقرأ على تلاميذه تاريخ التمدن لجيزو ليناقش معهم أسباب تطور واضمحلال الحضارات.
على أن صدمة الاحتلال البريطاني قد مهدت الطريق لتقبل الأفكار الغربية على مدى أوسع من ذي قبل بحكم أنها هزت اعتقاد المسلمين من المصريين في تفوقهم، على الأقل في المجال المادي، ومن هنا كان الجيل الجديد الذي أنشأ في عهد الاحتلال أقرب إلى قبول المدنية الغربية من آبائه، كما كان أشد وعيا وتنبها، وكان الأساس الثقافي الذي قام عليه الاتجاه الليبرالي العلماني في مصر، أوربيا وانجليزيا وفرنسا بوجه خاص. وبشكل عام نستطيع أن نميز بسهولة بين اتجاهين واضحين للفكر في ذلك الجيل،
أحدهما تقليدي من حيث اهتماماته الثقافية وشرائعه ومبادئه الخلقية ، والآخر ليبرالي من حيث اعتماده على المبادئ المستمدة بالاستنباط العقلي من اعتبارات المصالح الدنيوية متأثرا بالفكر الأوربي حتى أننا نجد نوعين مستقلين من المؤسسات التعليمية في مصر، كان خلفه ازدواجية في العقليات وأنماط التفكير ، أدت بدورها على خلق فئتين مختلفتين من المثقفين لكل منهما عقليتها وتأثيرها الخاص،
وقد عبر عن هذه الازدواجية العديد من المفكرين ، ومنهم على سبيل المثال قاسم أمين الذي ذكر في رده على الدوق داركور أنه سلخ نفسه من شخصيته المزدوجة بوصف أنه مسلم ومصري وهيكل قد وصف مصر بأنها تتأرجح بيت العقليتين العربية والغربية تتغلب إحداهما حينا وتتغلب الثانية حينا آخر .
كذلك كان لطفي السيد نتاج امتزاج ثقافتين إسلامية وأوربية، كانتا تتنافسان على امتلاك نفسه، وإن تغلب إحداهما على الأخرى فيما بعد، بيد أن السمة الغالبة لجيل المفكرين المصريين بعد الاحتلال تمثلت في افتقار غالبيتهم إلى الثقافة الشرقية، نتيجة اتجاههم إلى المدارس الأميرية وتلقى العلوم الحديثة فلم يبدأ معظمهم خطواته بدراسة الكلاسيكيات أو اللغات أو فقهها، في الوقت الذي أحسوا فيه بتأثير التعليم العلماني فأصبحوا تدريجيا " مستغربين" بدرجة ما .
فكان عليهم مواجهة الواقع الجديد، وإقامة مجتمع تنتهي فيه سيادة الفكرة الدينية ، ويبقى فيه الدين محترما لكنه لا يكون الموجه للسياسة، أساس العلاقات فيه المنفعة لا العاطفة، حيث تنطلق إمكانيات الفرد في تحرر وحرية تامة مستمدة من الإيمان بليبرالية اقتصادية، كل ذلك على نمط تطوري يبحث عن المثال في تطور الأمم وسر تقدمها،
ويعد هذا كله نتاجا طبيعيا للاتصال بالفلسفة النفعية لبنتام التي استوعبها جيدا لطفي السيد، وظهر أثرها في كتاباته، وترجم فتحي زغلول عن صاحبها " أصول الشرائع" ، ونتيجة للاتصال أيضا بدراسات سبنسر في التربية وأميل روسو وغيرهم وقد تميز حزب الأمة بنشاط كتابه وإسهاماتهم الفكرية في الوقت الذي استغرق فيه العمل السياسي نشاطات الأحزاب الأخرى،
وقد تعرض العديد من مفكري حزب الأمة لقضية تحديث مصر بشأن أستاذهم محمد عبده، ومثله بحثوا عن الوسائل والأسباب التي توصلت بها الأمم إلى ذلك القدر من التمدن، وكان محمد عبده يرى أن الوصول إلى حالة التمدن التي عليها " جيراننا في الممالك الغربية ليس بنقل أفكارهم وعاداتهم وأطوارهم إلى هذه البلاد دون فحص أسباب ذلك" وكان تلاميذه أكثر جرأة واستيعابا للثقافة الأوربية، وأكثر تحررا من طبيعة مجتمعهم، ومن ثم تعاملوا مع الفكر الأوربي بشكل مباشر وتحررية صرفة. وقد اتخذ هذا التعامل عدة أشكال ،
أولها: التعريب والدعوة إليه، فأحمد فتحي زغلول يقدم ترجمته لكتاب سر تقدم الانكليز السكسونيين لديمولان ، بأن المقصود منها تنبيه الفكر إلى أسباب ما نحن فيه من التأخر والانحطاط ويسهب في الحديث عن أسرار تفوق الغرب، الذي اختص بفريق راق من العظماء ،دون الشرق ، ينسب إليه الفضل في الرقى الذي وصلت إليه العلوم والفنون والصناعة ونستطيع بذلك مغالبة أمم الغرب"
فنحن ضعاف في كل شيء تقوم به حياة الأمم" وكثيرا ما دعت الجريدة إلى قيام نهضة جديدة في التعريب وأشادت بترجمات فتحي زغلول واليازجى والبستاني وحافظ إبراهيم وغيرهم فأول خطوة – في نظرها- يخطوها المصلحون العلميون هي نقل العلم إلى أوطانهم بالترجمة ، فهذه الطريقة هي ألف باء النهضة العلمية في كل أمة .
بل لقد نادي لطفي السيد بضرورة أن تشرع الحكومة في إنشاء دار للترجمة تنقل أمهات الكتب، واقترح برنامجا لذلك مؤداه البدء بترجمة اليونانيين في الفلسفة والمعاصرين في الآداب، وأحدث الكتب في العلوم ،وقد شرع بنفسه في ترجمة أرسطو طاليس، فيما بعد ، كذلك دأبت الجريدة على نشر فصول من الفكر الأوربي، فعرضت كتاب الحرية لجون ستيورات مل في سلسلة مقالات أكثركن مرة ونشرت عرضا لكتاب الحالة الاجتماعية في المستقبل للدكتور بيلتز ونقلت رواية هرمان ودوروثه للشاعر الألماني غوث كليوب مسلسلة ، ورواية كما تحب لشكسبير.
وثانيها: الاستفادة من هذا الفكر في مؤلفاتهم وكتاباتهم والاستشهاد بها وبالمجتمع الأوربي ، وقد بدأ هذا الجلاء في كتابات قاسم أمين ، الذي كثيرا ما استشهد بكتابات وأفكار سبنسر في التربية العقلية، وامتلأت مؤلفاته باقتباسات عن روسو ، وشيلر وغيرهم بل كثيرا ما ضرب الأمثلة بالمرأة الغربية على اعتبار أنها النموذج الصحيح الذي يقدمه لمواطنيه ، كذلك ظهرت هذه الأفكار في كتابات باحثة البادية وفتحي زغلول .
وثالثها: المقارنة بين مصر والغرب، وقد قام كتاب الجريدة الشباب بهذا الدور، وذلك بحثا عن عوامل التلاقي والابتعاد، ووصولا إلى نوع من التفاهم والتقريب. وقد عبرت كتابات سلامة موسى وتوفيق دياب عن هذا المعنى، فعرض الأول لدراسة مقارنة بين المجتمع الإنجليزي والمجتمع المصري من حيث الإدارة والنظام الاجتماعي وسلطة الحاكم.
وقدم الثاني دراسة مقارنة للمدنيتين الشرقية والغربية انتهى منها إلى أن فضائل الغرب أكثرها إيجابي وأن فضائل الرشق أكثرها سلبي .
وأن كان عبد الحميد الزهراوى قد رأى أن الغرب سكر بالماديات واستحل في سبيلها كل شيء" فلئن قلنا أن الشرق قد سبقه بهذه الفكرة فليس هذا بدافع عن الغرب وصمة هذا السكر".
أما مضمون الاحتكاك بالحضارة الأوربية، فقد اتخذ عدة معان منها الدعوة إلى التقليد والمحاكاة والمزاحمة، والدعوة إلى الامتزاج والتوفيق ، وأخيرا التعامل معها بنظرة نقدية قوامها الانتقاء والاختيار، وقد ارتبطت هذه المعاني جميعا ببعضها إن لم تكن قد اختلطت عند مفكر أو آخر، والدعوة إلى التقليد والمحاكاة أصل من أصول التطور، والتطور طبيعي لا يستطيع أحد أن يقف في طريقه فهو سيحصل بالفعل كما يقول لطفي السيد.
فعلينا ألا نقتل فينا خاصة التقليد المفيد بل يجب أن نروجه حتى نقلد الأمثلة الصالحة، وكان هذا من منطق الإيمان بتفوق الغير والاعتراف له وعدم الخشية على الذات منه. وإن كان يجب أن تلاحظ فيه حالة مصر من القوة والضعف ومركزها من العلم والمعرفة وموضعها من الدرجة الاقتصادية وأن أوربا هي المرشد في المحل الأول وأنها قبلة المصريين – في تعبير مصطفى عبد الرازق- التي بات عليهم أن يحجوا إليها ثقة بأن الغرب قد خطا بالعلم خطوة كبيرة وأننا أصبحنا عيالا عليه في نهضتنا فلا غنى لنا عما عند القوم من مدنية وعرفان.
أما الدعوة إلى مزاحمة الأوربيين فقد انبعثت أساسا من تواجد الأوربيين في مصر من ناحية والقدرة على تصور أن مصر بإمكانها أن تصبح على نفس المستوى مع أوربا إن لم تفقها من ناحية أخرى وعلى هذا آمن العديد من مفكري حزب الأمة بفكرة المزاحمة، وامتلأت بها كتاباتهم فقاسم أمين دعا إلى أن تتعلم الأمة كما يتعلم مزاحموها وتسلك مسلكهم في التربية حتى تعيش بجانبهم أو تسبقهم
وقد أكد إيمانه بما أسماه داروين قانون التزاحم، باحثة البادية تطلب إلى نساء وطنها مزاحمة الأوربيات في مصر" إلا فلن نلبث أن يحتلنا نساء الغرب أيضا بينما يرى لطفي السيد أن ضرورات المزاحمة الحيوية قاضية لا مرد لقضائها، وأن على المصريين أن يتفهموا هذه المذاهب منذ الآن، وأن الطريق الوحيد لتقدم مصر يكون في استيراد أسس الحضارة من أوربا، وقد قاده الفهم نحو الرغبة في إيجاد ارتباط بين الحضارتين داخل إطار واحد.
وهذا ما عبر عنه بالتوفيق أو الامتزاج بما يحقق التمصير، " فالعلم ليس له وطن ولكن تزويج العلوم الشرقية بالعلوم الغربية هو الوسيلة لتمدننا- مع حفظ شخصيتنا الأخلاقية ،ولم يكن لطفي هو الوحيد الذي عالج هذه المسألة ، بل شاركه في ذلك توفيق دياب ، حتى لقد بدأت فكرة جديدة في البروز هي فكرة الشخصية القومية على أساس التمدن،
بعيدا عن فكرتي التقليد والمزاحمة، وقد عبر عن ذلك يوسف البستاني، حين ذكر أنه لا ينفع المصري سوى مباراة الاجنبى في لإتقان ما الإقبال على القليل غير المتقن إلا تشجيع للمقصر ،وهل يؤمل أن يفضل المصري بضاعة غير متقنة على بضاعة أجنبية بالغة الإتقان؟ .
وفى خطبة للهلباوي بنادي حزب الأمة دعا إلى تفضيل المصري على الأجنبي في التعامل، وحث الأول على اجتذاب أبناء وطنه بالإتقان والتفاني، كما قرن طلعت حرب بين قضية الاستقلال التام ومبدأ مصر للمصريين وبين مزاحمة الأجانب، فلا يمكن أن نصل إلى ذلك إذا زاحم طبيبنا الطبيب الأوربي ومهندسنا المهندس الأوربي والتاجر منا التاجر الأوربي...الخ
وبهذا اكتسبت القضية لديه مدلولا اجتماعيا اقتصاديا على العكس من لطفي السيد، الذي اتخذت عنده مدلولا سياسيا أو قانونيا، بالرغم من أنه طالب الأمة أن تفضل مصنوعات البلاد على مصنوعات الخارج، ولو كانت أغلى ثمنا أو اقل بهجة لمجرد كونها صناعة مصرية وحسب فيتحول المعنى عنده إلى ما يشبه التعصب، تحولا جعله يردد قول الأفغاني من أنه ما رأى قوما أقل استمساكا بشخصيتهم القومية من المصريين وأنهم أن لم يعتصموا بشخصيتهم ويتعصبوا لجنسهم المصري فلا بقاء لهم وقد عبر عن هذه القضية أحد تلاميذه وهو عبد البرقوقى ولكن بمعنى" الأثرة الوطنية" حين دعا المصري إلى التشيع لأمته والتفاني في خدمة وطنه،
وأن هذه الأثرة لو انتزعت من قلوب الأفراد لتفككت الروابط الاجتماعية وتناثرت أطراف الأمة، وقد رأى أن ذلك يختلف عن النعرة القومية التي تعمى عن السيئات ولا ترى إلا الحسنات وتنكر فضائل الأمم الأخرى.
أما فكرة الانتقاء أو الاختيار من حضارة الغرب فقد عبر عنها معظم مفكرو الحزب، وكانت تنبعث أساسا من إيمانهم بأن التمدن الأوربي ليس خيرا كله من جهة، والإيمان بتراث مصر الثقافي، وتمثل بنيانها الاجتماعي والاقتصادي المتميز في غير تعصب من جهة ثانية، والإيمان بشمولية التجربة الإنسانية من جهة ثالثة،
فطلعت حرب ذكر أنه يجب تخير أحسن العادات ، وأنفعها وأكثرها ملائمة لمصر ودينها وقاسم أمين رأى أن التمدن الأوربي ليسس خيرا محضا، وأن الانحطاط هو الذي أطمع الأجانب فينا، وباحثة البادية حددت ما يقتبس من المدنية الأوربية بالضروري النافع بعد تمصيره وذكرت أن واجب الشباب الذي انصرف لتلقى العلوم الحديثة في أوربا أن يدخلوا كل ما يرونه صالحا إلى بلادهم ،
وأصبح واضحا أمام كتاب الجريدة أن مصر لا تستطيع أن تستغني عن غيرها ولا توجد امة تستطيع ذلك ، فقط كل ما ينبغي عليها وهى تستورد من أوربا البضائع السياسية والأدبية والأخلاقية أن تحقق وتدقق، فما أوربا إلا كالبحر الزاخر تارة تقذف بجيفة وتارة بصدفة، وكان لطفي السيد يهتف بسامعيه " لا تجعلوا أنفسكم مطية لكل مبدأ غربي ولكل عادة غربية ولكل نظام غربي، لا تأخذكم المبادئ الغربية ولا تعشقوها قبل أن تصبحوها ولا تصبحوها قبل أن تعرفوا بالتجربة أنه يمكنكم أن تضيفوها إلى أنفسكم وتدخلوا عليها من التحوير ما يجعلها تلائم أقليمكم وطبائعكم ودينكم".
زمن السهل علينا إدراك أن مفكري حزب الأمة كانوا ينادون بتقليد الأوربيين حي يتعلق الموضوع بنظم الحكم وشئون السياسة، وبينما يركزون على فكرة المزاحمة، حين يكون الحديث في شئون الاقتصاد أو المعاملات ، أما عندما يؤكدون على ضرورة الانتقاء من حضارة الغرب واستبعاد مفاسدها فإن لحديث حينئذ يتصل بمسائل العادات والأعراف الاجتماعية والتقاليد وغير ذلك مما قد يصدم مشاعر المجتمع إذا ما أرادوا خلاف ذلك.
وعلى ذلك فقد شاب ليبراليتهم ودعوته إلى التطور بعضا من الحذر إن لم يكن الضعف، على أن غالبيتهم، وإن افتتن بحضارة دولة أوربية كانجلترا مثلا أو فرنسا بالذات، فإن منهم من نادي بتعدد الجهات والأمم الأوربية التي يقصد إليها لطلبة المصريون حتى لا تتأثر العقلية المصرية بطابع دولة بعينها ، حتى تتكون في النهاية عقلية مصرية متشابهة في سموها مع أسمى الأمم ثقافة، كما نبه بعضهم على أن الأفكار الاستعمارية كانت تتطور لتأخذ شكلا جديدا هو الاستعمار على أسا تمدين الأمم التي يعتبرها المستعمرون في نظرهم قليلة المدنية، لكن هذا كله لم يؤثر في مدى إيمانهم بالحضارة الغربية وثقتهم في فائدتها بالنسبة لمصر، ودعوتهم إلى التعامل معها بشكل أو بآخر.
لقد أقر محمد عبده بأن الإسلام دين عقلي يسمح للمسلمين بأن يقتبسوا العلوم الحديثة بدون اعتناق المذهب المادي أو الخروج على دينهم ، وكانت إحدى غاياته الرئيسية إمكان التوفيق بين الإسلام والفكر الحديث والاستفادة من ثمراته علميا واقتصاديا وسياسيا.
ومن ثم أطلق لفكرة الحرية في تفسير القرآن بروح العصر والاسترشاد بما يهديه إليه العقل الصحيح بالإسناد إلى العلم الصحيح وأكد بأن الاستلام أنحى على التقليد وحمل عليه بيد أن نفرا من تلاميذه كانوا أكثر إيمانا بتقدمية ايجابية، أطاحت بكل الموروثات- إن لم تكن قد تجاهلت عامل الدين- في علمانية واضحة وليبرالية تامة، أثرت في تطور الفكر المصري وآتت ثمارها في عشرينات هذا القرن.
كانت مسألة علاقة الدين بالدولة من الأفكار الأوربية الحديثة التي نفذت على عقول مفكري حزب الأمة ووجدت سبيلها إلى صفحات جريدته، في وقت كانت الفكرة الدينية هي المتسلطة على عقائد الناس وأخلاقهم وأنظمتهم ومعاملاتهم تسلطا لا يفكر أحد في أية وسيلة للتحليل منه.
وكان محمد عبده بعرضه لإمكانية التوفيق بين الدين ومتطلبات العصر هادفا بذلك صياغة مبادئ المجتمع الديني صياغة جديدة قد ساعد على ظهور فكرة المجتمع القومي العلماني أو " علمانية الدولة" فيما بعد على يد أتباعه وإن اتخذ الوعي بذلك أسلوبا مرحليا لديهم.
وإن كان قد فشل في التغلب على الاتجاهات العلمانية لدى من مالوا إلى العلم الحديث، فإليه يرجع الفضل في تمهيد لظهور أفكار خاصة بالدين والدولة تخالف أفكار الماضي، حين حاول أن يصالح بين العلم والدين واعترف بضرورة تمشى القانون الإسلامى مع متطلبات العصر.
وكان على تلاميذه ممن آمنوا بفكره، ونهلوا من الثقافة الأوربية بشكل واسع ومباشر، أن يساهموا في إحداث التحول نحو تبور كامل لفكرة القومية المصرية دون خلط بين مقوماتها الحديثة وبين الدين، أو تزاوج الفكرة السياسية، والفكرة الدينية ، فاستبدلوا العقيدة بالدافع الوطني، دون أن يهزوا دعائم الإسلام،
ومن ثم كانوا أعظم تأثيرا من العلمانيين الصرف والمحافظين الدينيين واستطاعوا أن يجعلوا الأمة تسيغ من المبادئ الحديثة ما لم يكن في وسعها أن تسيغه من قبل، وإن جاء هذا بعد زمن طويل. فها هو قاسم أمين يشيد في كتابيه تحرير المرأة والمرأة الجديدة بعلمانية أوربا التي تقلصت فيها أحكام الكنيسة أمام حاجات الشعوب وضروراتها، كما أشاد بالاكتشافات العلمية التي خلصت العقل من الأوهام والخرافات وقادت إلى إبطال سلطة رجال الكنيسة.
كما وجدت فكرة الدولة العلمانية التي ينفصل فيها الدين عن السياسة، صداها على صفحات الجريدة لا في شكل دعوة في البداية وإنما في معرض حديث عن عدوى الأفكار التي بدأت تسرى من أوربا إلى الشعوب الأخرى أو " ما يعبر عنه باصطلاحهم بفضل الحكومة عن الكنيسة وتوسع بعضهم فسماه فصل الدنيا عن الدين"، وترى الجريدة أن شيئا من هذا قد تسرب " فتسرب إلى نفوس بعضنا الشك في صحة ما يأتيهم من العلماء وقد أشاد نقولا حداد في الجريدة .
بتقدم أمريكا القائم على قوة العقل والعلم وحين تعرض بالتحليل لأسباب ذلك ركز على العنصر الخاص بفصل الدين عن مدارس الحكومة، كما عالج طه حسين مسألة الرئاسة الدينية بشيء من الحذر، على صفحات الجريدة، فرأى أنه من الشر أن ينفصل الدين عن الملك، ولكنه رأى أن الشر كل الشر أن يتصل الدين بالملك من غير أن يحوطه الدستور بسياج يعصمه من أن يكون سيفا على رؤوس المصلحين ،
وطمأن الخائفين من ذلك الاتصال ومن أشقيائهم أن يستحيل إلى بابوية العصور الوسطى أي أنه لا ينكر حق الخليفة في الرئاسة الدينية ، ولكنه أنكر حق ممارسته السياسة بموجبها أو دون أن يكون بينه وبين الرعية دستور.
وقد أثيرت مسألة علاقة الدين بالقومية حين أخذت الجريدة تدعو لفكرة القومية المصرية وتحدد أركانها الثلاث: الدين والأرض واللغة، وأوضح كاتبها أن الدين لازم لقومية الأمم، وشرط جوهري لبقائها عزيزة نامية،
ولكنه ليس بالشرط الوحيد، بينما اللغة عرض من أعراض الأمة لا جوهر فالأمة أول واللغة ثان، بينما طور المفهوم كاتب آخر وهو عبده البرقوقى حين تجاهل في البداية فعل العامل الديني في بناء القومية فرأى أن اتفاق المسلمين جميعا وسيرهم تحت راية واحدة ومنتمين لدولة واحدة، حلم لذيذ ولكنه خيال وتساءل في استنكار هل تنسى كل سأمة شخصيتها وتتناول عن قوميتها؟
بل وتمادى الكاتب أكثر م ذلك فأنكر وجود إمبراطورية إسلامية بالمرة، فالذي وجد إمبراطوريات ، أنشئت على أساس القومية وساد فيها عنصر مخصوص على بقية العناصر الأخرى، ففي صدر الإسلام كان العنصر العربي، ثم خلفه التركي في غربي الإمبراطورية والفارسي في شرقيها،
بل لقد أعطى الكاتب هذه الفتوحات تفسيرا ماديا" فلم يكن نشر الدين هو العامل الأول على مغادرة العرب جزيرتهم وإنما فقر بلادهم وطمعهم في ثروة الممالك الأخرى" بيد أن الكاتب عاد ليضع الدين، بعد أ جرده من تأثيره وسحره وتفرده، كعامل من عوامل القومية ، وإن كان قد تحفظ بأنه وحده غير كاف في تكوين الدول بلا لابد معه وحده الجنس واللغة، وائتلاف الطباع وتناسق العادات واتفاق المصالح والحاجيات.
وقد وقف لطفي السيد من هذه المسألة موقفا أكثر تحررا ، فتجاهل الدين واللغة كأساسيين للدولة القومية، وتساءل مندهشا- كيف يفهم الاستقلال إذا باتت مصر أرضا لكل مسلم يحل في أرضها عثمانيا كان أو غير عثماني؟ إن استقلال المصريين بذلك يصبح معناه ملكية مصر على جميع مسلمي الكرة الأرضية .
وكان يركز على عاملين أولهما الأساس الجغرافي المحدد بحدود واضحة قانونا، وثانيهما عامل المنفعة الحيوية باعتبارها قاعدة السياسة وهكذا لم يكن الدين، أي دين، إلا واحدا من العوامل المكونة للمجتمع، وليس أولها في نظر لطفي السيد، كما لم يكن مقتنعا بقيام الدولة على أساس ديني، وإن لم ينكر أن المجتمع المتدين أفضل من المجتمع غير المتدين.
يقول لاسكى أن الليبرالية تميل إلى تكون شخصية وفردية ومتلهفة للتغيير الذي يأتي من المبادأة الفردية، ذلك أن الذي انتهجها- في أوربا- هو نشوء مجتمع اقتصادي جديد في نهاية العصور الوسطى، وكان مبدؤها الحي أنها الفكرة التي انتقلت بواسطتها الطبقة الجديدة إلى مركز السيطرة السياسية وكانت وسيلتها اكتشاف ما يصح أن يسمى بالدولة التعاقدية ،
ولتصنع هذه الدولة سعن إلى تحديد التدخل السياسي في أضيق نطاق وينطبق هذا التفسير على مصر بدرجة ما، فلديها طبقة محدثة، وإن ليست اقتصادية بالمعنى العام، تعتمد على الثروة الناتجة من احتياز ملكيات زراعية كبيرة في شغل مركز الصدارة في المجتمع سواء من ناحية الوجاهة أو الانتشار في مؤسساته وهيئاته السياسية وكان مفكروها على وعى بمشكلة العلاقة مع الدولة، لكن إلى أي مدى يؤمنون بتدخل الدولة لتوجيه الاقتصاد؟
أول مانلحظه عند قراءتنا لمفكري حزب الأمة هو ربطهم بين الاقتصاد والسياسة، سواء في ذلك من امتدت أصولهم على ذوى الملكيات الكبيرة أو من لم تمتد جذورهم إلى هذه الطبقة. ولعل اهتمامهم بالمشاكل الاقتصادية على صفحات جريدتهم، والذي نال القسط الأكبر من صفحاتها، يفسر هذا الفهم لطفي السيد مترجم " سياسة وأخلاق" أرسطو، وهو يتحدث عن الاستقلال يقدم الحرية الاقتصادية " متى أصبحنا غير مدنيين أصبحنا أحرارا ، والحرية المالية هي المحضر الأول للحرية السياسية" والسياسة خادم الاقتصاد والثروة هي أكبر القوى السياسية.
وإبراهيم رمزي يلح على زعماء الأمة أن يعملوا بالماديات والحد من العمل بالسياسة، وطالما ردد بين جنبات المؤتمر المصري " أعطن مالية حسنة أعطيك سياسة حسنة" بل لقد شبه الذين حصروا أعمالهم في السياسة بأنهم " مثل من يريد أن يبنى الدور الأعلى قبل أن يفكر في الأساس " واعتقد نفس الاعتقاد من كتاب الجريدة إسماعيل زهدي الذي ذكر أن سعادة الأمة ترتبط بحالتها الاقتصادية والاجتماعية أكثر من ارتباطها بشكل حكوماتها السياسي .
ومنهم من فسروا التاريخ من فسروا التاريخ تفسيرا ماديا كالبرقوقى ، والدكتور هيكل الذي فسر قيام الحرب العالمية الأولى تفسيرا اقتصاديا يرجع إلى استئثار انجلترا وفرنسا باستعمار إفريقيا وآسيا.
ولكن هذا الاقتناع بأهمية العامل الاقتصادي في استقلال الأمم وبنائها وتفسير التاريخ لم يكن جزءا من اقتناع عام بالفكر المادي أو بالمنهج الاشتراكي، بقدر ما كان تعبيرا عن وضع طبقي في المجتمع من ناحية، واتساقا مع فكرة تحقيق " الممكن" من واقع التعامل مع الاحتلال، الذي أباح الاقتصاد بقدر وأمسك بكل السياسة،
من ناحية أخرى، يزيد المسألة وضوحا إيمان مفكري الحزب- بلا استثناء- بفكرة الاقتصاد الحر، لا الموجه ، والتي عبر عنها فيلسوفهم لطفي السيد فيما أسماه " بالليبراليين" حيث حدد تدخل الدولة متأثرا بالفلاسفة الحريين كسميث ومل وسبنسر وغيرهم ممن أرسوا قواعد ليبرالية القرن التاسع عشر الكلاسيكيين- بحماية الوطن من العدوان الخارجي وحماية الأفراد بإقامة العدل في الداخل وما دون ذلك يترك للمواطنين ،
وليس للمشرع أن يسلب فردا أو طائفة حق الملكية أو يحد التصرف فيه وانتقد بذلك مبدأ الاشتراكيين الذين أرادوا أن يسودوا بين الناس، ويقسموا الثروة بينهم أو الذين أرادوا أن يعيشوا على الشيوع كما فاضت أنهر الجريدة بشرح مذهب الحريين وأثره ودور الدولة ومغزى تحديده بالولايات الثلاث: البوليس ، القضاء، الدفاع، وعلة وجود الحكومة...الخ.
وقد أنشأ لطفي السيد عدة مقالات تحمل عناوين " الحريات" منها حرية القضاء وحرية التعليم وغيرها من 20- 31 ديسمبر 1913 انتقد تدخل الدولة في الشئون الاقتصادية كالبنوك وقانون الخمسة أفدنة وصندوق التوفير " فلا نجد بين أعمال الحكومة عملا يفيد في الحالة الاقتصادية إلا أعمال الري" وبعد عرضه لمذهب الحريين أو الفرديين أعلن بشكل صريح أنه يفضل هذا المذهب على مذهب الجماعيين .
ولكننا نلاحظ أنه رغم تحديده دور الدولة بالولايات الثلاث الآنفة الذكر لم يكن على اقتناع كامل بالشكل الذي فسره ، بل ربما انتابه شيء من التردد إن لم يكن التراجع فهو يقول بعد كل ذلك "
ونستطيع أن نتلمس للحكومة العذر بعض الشيء في المشروعات الاقتصادية ونبيح لها المداخلة فيها لحماية الزراعة الوطنية والتجارة الوطنية ونشر التعليم ...الخ ... بأن تأخذ على عاتقها تشجيع الحال الاقتصادية وإنماء الكفاءة الاقتصادية، وهذا ميسور ومجرب في كثير من البلاد" وأوضح أن الحكومة لا تستطيع أن تفعل ذلك بدون أن تتدخل بغير الشكل الذي عرضه فلسفيا لطفي السيد.
ومن أقرانه في حزب الأمة ممن آمنوا بهذا الفكر ، على أبو الفتوح، الذي انتقد تدخل الحكومة في نظم المصارف وإصدارها الأوراق المالية دون غيرها مما يكلفها أعمالا تدخل في دائرة وظائفها.
كما ترجم عن جيفونس أن الأعمال التي يجب على الحكومة القيام بها أعمال اضطرارية هي الدفاع وتوطيد الأمن وتلافى الثورات وأعمال اختيارية وهى ضرب العملة وتوحيد المكاييل وتمهيد الطرقات وترتيب البريد، وقد حلل عن نفس المؤلف المضار الناشئة عن تدخل الحكومة .
وكذلك آمن عبد العزيز فهمي بهذه الأفكار وعبر عنها داخل الجمعية التشريعية وطالب بانتقال أطيان الدمين إلى الأفراد، فسوف ينفقون عليها أقل مما تنفقه الحكومة لأن الأفراد مدفوعين بمصلحتهم الشخصية إلى العناية باستثمار أطيانهم أما الحكومة فعمالها لا يهمهم إلا مرتباتهم.
وفتحي زغلول في مقدمته الطويلة لترجمته عن ديمولان أبان عن سخطه من أسباب الضعف التي ألمت بالمصريين فأصبحوا يرجون من الحكومة كل شيء" نطالبها بحفظ حياتنا وخصوبة أرضنا.. الخ ولا ريب أننا أخطأنا فالحكومة وازع لا يكلف إلا ما تقتضيه طبيعته ولا اجب عليه، وحبذ أن ترجع اختصاصات الحكومة إلى الحد الأدنى وتقلل عمالها إلى الحد الأدنى وترد الشباب إلى المهن المستقلة التي تقتضى الهمة الذاتية والإقدام.
ومن مفهوم مثالي، يرى أن الفكر هو الأساس ، عبر الدكتور هيكل عن اقتناعه بهذا المذهب ، فرأى أن أول حركة صحيحة في الإنسان هي الحركة الفكرية وأن سير الأمم تابع لسير الأفكار ومن ثم تدرج من الاقتناع بحرية الفكر إلى الدعوة للاستغناء عن الحكومة " لأن حر الفكر لا يقبل ما يطلبه الناس إلى الحكومة من التدخل في كل شيء ،
فتبقى كالشباب القادر على العمل ولكنه لا يعمل لكونه يجد من أبيه أنه يقوم بحاجاته" ، وهو هنا وإن كان يرد مفهوم أستاذه عن رفض الحكومة الأبوية، إلا أنه زاد عنه بموقف عملي هاجم فيه قانون الخمسة أفدنة ورآه أضغاث أحلام، ما أشبهها بأحلام جماعة الاشتراكيين الخياليين ، كما عبر عن إيمانه فيما جاء بالداروينية عن تنازع البقاء فالناس مسوقون في الحياة بعوامل الطمع والأثرة... ونوال أعظم نتيجة بأقل سبب ، وأن من المسائل الأولية في الاقتصاد ترك الفرد حرا يتصرف فى أمواله كيف يشاء.
وقد عبد عن نفس الأفكار شاب آخر من شباب الحزب المثقفين هو الدكتور يوسف نحاس الذي هتف بالمجتمعين في مؤتمر هليوبوليس عام 1911 ألا يطلبوا من الحكومة إلا القيام بواجبها الصحيح " وهو المحافظة على النظام والأمن أما الرقى الاقتصادي والمالي فلا تطلبوه إلا من أنفسكم".
وإذا كانت هذه أفكار مثقفي الحزب حول المسألة الاقتصادية، والتي دلت على اقتناع كامل بليبرالية اقتصادية، ودعوة صريحة يتحدد معها دول الدولة وينتفي توجيهه للاقتصاد ، فما هو تصورهم " لمصرية" هذه المعتقدات؟ أو إلى أي مدى اهتموا بالاقتصاد المصري، وهل طابقت أقوالهم أعمالهم؟
ففيما يتعلق بمسألة إنشاء بنك وطني، فقد أرجعت الجريدة الكثير من أسباب أزمة عام 1907 الاقتصادية إلى عدم وجود بنوك أهلية ونادت بفتح البنوك وتأسيس الشركات المالية ونشرت اقتراحا يستنهض همة المصريين لإنشاء بنك وطني يكون خير واسطة لحفظ أموالهم ووقايتهم من المصارف الأجنبية وخلال انعقاد الجمعية العمومية في فبراير 1909 تقدم ناشد حنا، أحد مؤسسي الحزب، باقتراح يعتبر تراجعا بالقياس إلى الاقتراح السابق، مؤداه أن نلفت الحكومة نظر البنك الأهلي إلى وجوب تفضيل أبناء البلاد لا سيما المزارعين على غيرهم من التجار الممولين الأجانب،
وفى اليوم التالي قدم زميل له وهو مصطفى خليل اقتراحا بتعيين لجنة من كبار موظفي الحكومة ومن الماليين والأعيان والتجار للنظر في تكوين بنك وطني يسهل المعاملات بمراعاة عدم البخس فئ تثمين الأطيان والعقارات وتسهيل التسليف على المحصولات... الخ كذلك انتقدت الجريدة بلسان شلبي شميل البنك العقاري الذي سمى بالمصري ورأت أن مصر منيت بالاحتلال المالي منذ إنشائه.
وحمل الدعوة لطفي السيد وقرنها بالدعوة للحرية والاستقلال، بل طالب كل مصري بشراء أسهم الدين المصري لتقليل أسهمه والعمل على كثرة الثقة بمصر فيصبح لديها رأى في حريتها التي كلها في يد أوربا وبذلك الاستبعاد العالي، وحين يبدو أن هذه الاقتراحات ليست أكثر من صرخات في واد وأن الأغنياء يجبنون عن هذه المبادرة وأن الحكومة لا تتحرك قيد شعره، تعرض الجريدة بتوقيع " محب لبلاده" اقتراحا بإنشاء بنك وطني بدون تكليف المصريين شيئا مؤداه أن يتقدم أصحاب الأموال المصريين إلى البنوك المصرية بطلب مشاطرة هذه البنوك أرباحها،
ويضعوا نصيبهم من تلك الأرباح على جانب بدون أن يمسوه على ذمة إنشاء بنك وطني وعندما انعقد المؤتمر المصري في هليوبوليس عام 1911 الذي سيطر حزب الأمة سيطرة تامة على جلساته بأغلبية المنظمة قدم واحد من كبار كتاب الجريدة ، وهو يوسف نحاس تقريرا عن حالة مصر الاقتصادية والمالية طالب فيه بإنشاء بنك وطني بمعنى الكلمة يكون رأس ماله وطنيا صرفا وإدارته العليا مصرية بحتة ،
وإذا عرفنا أن هناك 21 عضوا منهم سكرتير المؤتمر ( الهلباوي) ينتمون لحزب الأمة ضمهم مجلس إدارة المؤتمر وعدده 32 عضوا وعرفنا كذلك أن 31 من الأعيان قدموا اقتراحات بهذا الشأن إلى المؤتمر إلى جانب اقتراح الدكتور نحاس أدركنا الدور الذي لعبه حزب الأمة في الدعوة لإنشاء البنك حتى تأيد الاقتراح وبدأ بالفعل اتخذا خطوات عملية نحو تنفيذه بإيفاد طلعت حرب لدراسة المشروع فى أوربا .
وإن كان الاقتراح شأنه شأن بقية الاقتراحات قد تأجل بمجرد وفاة رئيس المؤتمر وعلل لطفي السيد ذلك بأن مسألة البنك لم تفشل وإنما وجدت ظروفا صرفت الأمة والحكومة عنها، فهي لم يحيا تماما ولم تمت نهائيا ولكنها موجودة تنظر ظرفا مناسبا لنموها، وعبر عن جبن الأعيان عن تمويل المشروع خوفا من المزاحمة الأجنبية واعتبر هذا لغوا لا محل لع من الاعتبار وطالب الحكومة – وهو داعية الاقتصاد الحر- بالتدخل " فالمشروع يتوقف على الشروع فيه تحت حماية الحكومة وبمساعدتها".
وفى مجال الصناعة اتخذت جريدة الحزب أسلوبا ترشيديا ، فبدأت بمحاولة نزع فكرة احتقار الصناعة من نفوس الناس، وعقدت سلسلة من المقارنات بين مصر وأوربا حللت فيها وضع الصناعة المصرية وطالبت بقيام الصناعات التي تتوافر خاماتها في مصر، ولا تحتاج لرؤوس أموال كبيرة وقدمت قائمة بها، وملأ إبراهيم رمزي بالدعوة إلى قيامها جنبات المؤتمر المصري.
وطالب بفرض حماية جمركية لحماية منتجات المصانع بعد قيامها، وعرض إمكانية استغلال الأنهار والسدود في توليد الطاقة التي تعوض نقص الفحم، وأشار على أهمية وجود البترول في الأرض المصرية وتبنت الجريدة الدعوة إلى قيام تعليم صناعي وجعل التعليم الإبتدائى ممزوجا بالصناعة وناشدت أغنياء مصر من تأسيس المدارس الصناعية "
فعمل الأفراد يجب أن يتقدم أعمال الحكومة" ومع ذلك لم يقم الأغنياء بدورهم بشكل يتفق ومركزهم فلم نسمع إلا عن مدرسة أقامها محمود باشا سليمان في أسيوط، كذلك أسس إبراهيم رمزي مصنع التمدن الذي تفقده نفر من حزب الأمة واعتبره لطفي السيد باكورة الصناعة المصرية على الطراز الحديث وكان هذا المصنع بالفعل أنموذجا طيبا لما نادي به صاحبه.
وقد طالبت الجريدة كذلك مجالس المديريات أن ترسل من حملة الابتدائية بعض التلاميذ إلى أوربا ليتعلموا علما وعملا صناعة الأحذية، وتفصيل الملابس الافرنكية وإبداع النماذج ( المودة) ...الخ
ثم يأتون ليتعلموا هذه الصناعة في مصر ويبدو أن فكرة الأخذ عن أوربا صناعيا لم تبلغ أكثر من الأمثلة التي عرضتها الجريدة وكلها أمثلة لصناعات تخدم رفاهية كبار الملاك، بل أن الجريدة أعطت بديلا لعدم إدخال صناعات كبرى في مصر " فإذا خيرنا بين بقاء القطر عالة في الصناعة على المعامل الأجنبية، وقيام شركات أجنبية فيه لسد حاجاته بالمصنوعات المحلية فليس في وسعنا إلا اختيار الأمر الثاني، لأن المعامل الأجنبية في مصر تزيد في ثروة البلاد ورخائها وإن كانت أرباحها منصرفة إلى جيوب غير أهل البلاد" وحبذت هذا لأوربا قائلة " إن أجور العمال في الشرق قليلة ولا حاجة إلى أجور النقل والتأمين... الخ"
بينما عالج فتحي زغلول هذه المسألة واضعا نصب عينيه فكرة التمصير فأعرب عن تأثره من إهمال المصريين الصناعة والجهل بطرائقها " بحيث لم يصبح منا سوى الفعلة والحمالون ومنفذوا إرادة الأجنبي" .
وقد انفرد على أبو الفتح بدراسات متخصصة في الاقتصاد، جمعها وذيل بها ترجمته لكتاب جيفونس في الاقتصاد السياسي، تعتبر بحق دراسات رائدة ومتقدمة في هذا المجال، عرفت الاقتصاد السياسي وعرضت لقانون جريشام وعملات الورق والمصارف والبنوك، واحتوت مقارنات بين مصر وأوربا، كما احتوت دراسة عن الأجنبي والعقارات والبنك الزراعي.
وإذا قلبنا صفحات " الجريدة" فلن يكون صعبا أن نخرج بانطباع عام هو أن هذه الجريدة يحرر أبوابها الداخلية نفر من المهتمين بالمسائل الزراعية أو أن القسط الأكبر منها موجه إلى المشتغلين بالزراعة، وهذا أمر طبيعي لجريدة يحررها أبناء كبار الملاك وبأموال آبائهم، وبشكل عام اتخذت عنايتها بالزراعة- كالصناعة- طابعا إرشاديا خلاصته اختيار انسب مواعيد الزراعة وأفضل أنواع المحصولات وأساليب المقاومة ونحو ذلك.
وقد حثت الحكومة على إرسال بعثات زراعية إلى البرازيل وغيرها من البلدان التي تقرب حالة جوها من حالة جو مصر لدراسة ما يحسن إدخاله من الزراعة الرابحة. وقد هللت الجريدة بلسان يوسف البستاني الذي لا ينتمي لطبقة كبار الملاك لاقتراح إنشاء نظارة للزراعة أو تحويل الجمعية الزراعية إلى نظارة .
وحين اقترح خالد لطفي- من مؤسسي الحزب- ذلك على الجمعية العمومية عام 1912 ، وقف ضده عضوان من حزب الأمة هما الشيخ الدمرداش وحسين عابدين وكانت حجة الأول هي نقص الاختصاصيين بينما اتهم عابدين صاحب الاقتراح بالتعجل والرغبة في تكليف المالية مصروفات عظيمة
ولكن تقرر بالإجماع تبليغ الاقتراح للحكومة دون أن يعضد صاحبه من أعضاء حزب الأمة، الذين نكصوا عن ذلك بسبب رغبتهم في عدم تدخل الحكومة في نشاطهم، وعلى العكس من ذلك نالت مسألة النقابات الزراعية تعضيدا واسعا من الحزب، بل لقد استضاف الحزب في ناديه عمر بك لطفي- من أنصار الحزب الوطني- ليحاضر عن النقابات الزراعية وأثرها حتى لقد زار أحد أعضاء الحزب انجلترا وأيرلنده وفرنسا لدراسة موضوع النقابات الزراعية فزارها وضرب لمواطنيه النماذج بها.
وقد تقدم أمين الشمسي باقتراحها للجمعية العمومية عام 1909 ورآها لطفي السيد ميدانا لتربية الفلاحين اقتصاديا، واشترط أنتكون حرة ليس للحكومة في أمرها إلا حمايتها وتشجيعها وهذا يفسر تأييدهم لها فقد كانوا يعتقدون أنها سوف تكون حرة أو أنها يجب أن تكون كذلك.
وعندما ناقشت الجمعية التشريعية قانون شركات التعاون في يونيو 1914 وطالبت الحكومة بأن يصبح لها الحق في حلها إذا ما اشتغلت بالسياسة، طالب سعد زغلول وعبد العزيز فهمي بجعل هذا الحق للقاضي مع كفالة حرية الدفاع والاستئناف للشركات وطلب الشيخ الدمرداش أخذ الآراء حول منح الحكومة هذا الحق، فصوت جميع أعضاء حزب الأمة وسعد زغلول معهم- عدا الشيخ الدمرداش- لغير صالح الحكومة.
والغريب أن الجريدة- بلسان يوسف البستاني- أيدت اقتراحا للبروجريه مؤداه أن يصدر قانون خاص يكون نافذا في المصريين والأجانب معا ليمكن دخول الأوربيين وسائر الملاك في سلك النقابات، وعلقت بأن دخول الأجانب فيها لا يبقى مجالا للتخوف مما يبعد عنها كل نزعة سياسية وأبانت أن النقابات لا تنفع إلا صغار الفلاحين واقترحت إنشاء نقابة لكبار الملاك للمحافظة على التوازن في السوق المصري،
وضربت المثل بنماذج لنقابات أرباب الأملاك في أوربا، وبذلك أصبح التمييز بين جعل عناصر النقابات وطنية صرفة أو دخول الأجانب فيها مسألة غير ذات بال لكاتب معظم افتتاحيات الجريدة- في غياب لطفي السيد- بينما أصبح التمييز بين مصلحة صغار الفلاحين وكبار الملاك مسألة على قدر كبير من الأهمية.
كانت الاشتراكية إحدى القضايا أو الأفكار التي حملها البحر من أوربا إلى مصر، أو مما يلفظه البحر بتعبير الجريدة، وكان كتابها على درجة من الوعي بها، حتى لنستطيع أن نستخلص موقفهم منها باعتبارها مسألة طرحت في زمنهم، وكان عليهم أن يدلوا فيها بدلوهم ، وقد اتخذ الاهتمام بها شكلين أساسيين أولهما التبصير بالفكر الأوربي المعاصر من واقع التثقيف فحسب، وثانيهما يحمل طابعا تطبيقيا – إنجاز ذلك- يتعلق بإمكانية تطبيقها في مصر ومداه.
وعن الشكل الأول فقد نشرت الجريدة 1907 ملخصا عن مجلة القرن التاسع عشر بعنوان " الاشتراكية الحاضرة" ركزت فيه على وجهة النظر القائلة بأن الاشتراكية مذهب اقتصادي، أما ما يتمسك به بعض الاشتراكيين ومتطرفي الآراء في مسائل الزواج والدين فهي بعيدة عن الاشتراكية، ولم ينقطع هذا الاهتمام من صفحات الجريدة حتى آخر عهدها وكان آخرها سلسلة مقالات لعبد المجيد نافع حول المذاهب العصرية ومن بينها الاشتراكية .
وقد حمل هذا الاهتمام في طياته معنيين واضحين أولهما النفور والرفض، وثانيهما الإعجاب، والغريب حقا أن الرافضين لم يمهروا مقالاتهم بأسمائهم فهي إما بتوقيع ( بعضهم) أو ( كاتب) أو ( الرواية) أو غفل من هذا وذاك ، وكان أول انتقاد لها هو اعتبارها خيالية وإلا فأين الاشتراكيون العمليون الذين إذا جاءتهم الطيبات رفضوها وجعلوا يطلبونها بعرق جبينهم؟"
ونشرت أحاديثها عم مدارس الاشتراكية في انجلترا من قبيل التفكه بل أن " بعضهم" قد أبدى إعجابه بالاشتراكية في شكل جعلها أدعى للسخرية حيث ركز على فائدة الاشتراكية في الحفلات الرسمية حين لا يقبل إنسان يد رئيسه أو سيده ، وطالما ردد الكاتب في تحليلاته حول الاشتراكية في انجلترا ألفاظا جعلت الاشتراكية مجرد اتهام بل لقد حصر معناها في أنها ليست سوى نزاع بين العمال وأصحاب المعامل
أما الإعجاب بها فقد بدا واضحا في مقالين مستفيضين بقلم حسين رشدي ( ناظر بشبين القناطر) أبدى فيهما الكاتب اهتماما كبيرا بالاشتراكية حتى لقد عاد بها إلى جذور عربية وإسلامية وأتى بأمثلة لبعض شخصيات من التاريخ الإسلامى ليؤيد فكرته، كما أبدى تفاؤلا من تحقق فكرة الاشتراكية وذكر أن المعنى العربي للفظة اشتراكية لا ينطبق تمام الانطباق على الكلمة الإنجليزية " سوشيالزم" التي معناها إصلاح المجتمع الانسانى. وقد أشاد بعضهم بانتصار الاشتراكية في انتخاب فرنسا،
وذكر أنها مجهولة في مصر مع أنها تخطو خطوات واسعة في أوربا نحو تحصين مبادئها حتى أن الوزارة الفرنسية فيها ثلاثة من الاشتراكيين المعتدلين، بينما بشر كاتب آخر العمال بأن الاشتراكية في دور العمل ولخصها لهم بأنها إصلاح حال الفقير بتعيين حد لثروات الأفراد وتوزيع ما يزيد على الفقراء وإقامة الحكومات وصية على الفقراء.
أما الشكل الثاني لاهتمام الجريدة بالاشتراكية ، والذي حمل طابعا تطبيقيا فهو بحساب الشكل الأول يقف موقفا معتدلا يأخذ من الاشتراكية بقسط أو يؤمن بالاشتراكية المعتدلة، وبطل هذه الدعوة بلا منازع هو يوسف البستاني الذي تعجب من تقزز الكثيرين من كلمة الاشتراكية،
واعتقد أن ذلك بسبب نفورهم من الاشتراكية المتطرفة، واستحسن أن تتخذ مصر التدابير القانونية التي تحول دون احتكار الأراضي والأموال في طبقة معينة لتتمتع الأمة كلها بالعيش الرغيد لأن هذا كله من روح الاشتراكية المعتدلة النافعة واتخذ من تعدد جمعيات العمال في مصر دليلا على انتشار روح الاشتراكية فيها،
واعتبر هبوب الطوائف المختلفة من العمال إلى النظر في حقوقها،حركة مباركة وملأ تعليقاته على تلغرافات أوربا انتقادا للتطرف وتحبيذا للاشتراكية المعتدلة وقد دعم البستاني إيمانه بالمناداة بحرية العمل وقدسيتها " فإذا كان عمال احد المصانع لا يقبلون شروط أصحاب المال وجب أن نحترم إرادتهم".
وقد يكون يسيرا أن ندرك أن الذين آمنوا بالاشتراكية ( ناظر المدرسة – طالب ليون- البستاني) ليسوا ممن ينتمون في أصولهم لطبقة كبار الملاك أو أصحاب الثروات ولا يغير من المعنى كثيرا أن يكون أحدهم من أبناء هذه الطبقة بل لعله من أبناء الطبقة الوسطى الذين تلقوا العلم فى أوربا، ممن زعزع الفكر المعاصر ما بقى في نفوسهم من أحاسيس طبقية . أما ذلك الفريق من مفكري الحزب الذين أبانوا عن افتتانهم بالليبرالية ، كانوا على النقيض يهاجمون الاشتراكية هجوما بينا،
فلطفي السيد يقول لنواب الجمعية التشريعية " اتركونا من لألاء المذاهب الاشتراكية فنحن إلى الحرية أحوج منا إلى أي شيء آخر" ويظل يهاجم الاشتراكية من منطق الوعي الكامل بها وإن كنا نلمح لديه إيمانا خفيا بانتشارها، " فإذا كان لابد لنا من اعتناق المذاهب الاشتراكية فلنرجئ ذلك على أن تكون كل ضحية يقدمها الفرد تعود منفعتها على مجموع الأمة، وقد تعرض للنقد مرتين بسبب موقفه من الاشتراكية .
مرة حين تحدث عن دعوة الاشتراكيين للسلام فذكر أنهم يحاربون الحرب ويتعشقون السلام ويعقدون الاجتماعات للاحتجاج على القتال ثم يقيمون حربا شعواء هي حرب الطبقات فرد عليه لطفي جمعة بأنهم لا يكرهون الرب إذا كانت تحارب وتفنى لمصلحة الطبقات العالية الغنية وأنهم يكرهون السلام وحقوقهم مهضومة وقد أبان جمعة في رده عن إيمان عميق بالاشتراكية وخاصة قوانين الجدل والتفسير المادي للتاريخ .
والمرة الأخرى حين كتب لطفي سلسلة مقالاته عن " الحريات" ودعا إلى مذهب الحريين، فعلق عليها كاتب بتوقيع ( حقوقي ديمقراطي) وأبان للطفي أنه أغفل الإصلاح الاجتماعي الذي يدعو إليه الأحرار ، فالإصلاح الاجتماعي أفعل في النفس من كتابات توكفيل وبنتام ومل ، وذك أن لطفي قد اقترب من الاشتراكية حين طالب بجعل التعليم الأولى إجباريا ومجانيا، لكن لم لا يكون التعليم بجميع أدواره مجانيا، فإذا كان من أركان مذهب الحريين إفساح الميدان للتزاحم على الحياة فهل من الحرية والمساواة أن تسلح شخصا بالتعليم العالي وتدعه يصرع من هم أقل منه علما؟
وفى نهاية نقده أوضح- مشيرا إلى لطفي- أن كثيرا من الديمقراطيين السياسيين لا يفقهون لماذا لا تمزج قضايا الاقتصاد والاجتماع بقضايا السياسة.
وقد ترجم فتحة زغلول عن لوبون خيالية المذهب الاشتراكي الذي قلب الدنيا رأسا على عقب وأنه يمشى بالأمم إلى الاستعباد كما ترجم عن ديمولان نفس المعنى. بل أن إيمانه بالفردية قد وقف حائلا دون إيمانه بالاشتراكية حتى جعله من أوائل ناقديها، وذلك لاعتناقه مذهب الحريين- كما يذكر لطفي السيد- فلو كان اشتراكيا لما عمد على ترجمة " بورجار" بل ترجم أحد الاقتصاديين الاشتراكيين . كذلك كان موقف هيكل من الاشتراكية ، يوضحه ولاؤه للفردية.
ولم يكن ذلك موقف مفكري حزب الأمة من الاشتراكية باعتبارها قضية فكرية معاصرة فحسب، بل تخطوا ذلك على حدود الموقف القائم على القبول أو الرفض والذي اتضح من خلال موقفهم من المسألة الاجتماعية في مصر.
وأول معطيات هذا الموقف هو إيمانهم بالتفاوت الطبقي، وتجاهل الجمهور إن لكم يكن ازدراؤه ، أو ما عبروا عنه بالرأي العام، فكاتبهم الأول، وهو يخاطب الناس من عل يذكر أن أصلح الناس لقيادة الجماعات هم الخواص الذين وفدوا إلى التصنع بالنزول إلى غمار الجمهور يشاركونه مشاعره الغليظة وهيكل نقل عن قاسم أمين تعريفه للرأي العام " ما هو الرأي العام؟
أليس هو الجمهور الأبله عدو التغيير خادم الباطل"، والهلباوي وصف السواد الأعظم من الأمة بأنهم شخص واحد عديم التبصر بالحقائق.
وإذا كان كرومر قد تاه فخرا بأنه ألغى الكرباج فإن لطفي السيد قد طالب بعودته، وأيدت الجريدة الدعوة- التي تبنتها صحيفتا الوطن والبورص اجبسيان- لإعادته حيث أفضى إلغاء هذه العقوبة إلى نتيجة سلبية، فليس فى العقوبة البدنية شيء من الجور بشرط أن تحكم بها المحاكم وتنفذ تحت إشراف طبيب، وباحثة البادية ذكرت أنه لا يمكن أن يتساوى البشر فينبغي أن يلزم كل حده لئلا يكون مثلنا كالضفدع أرادت أن تبلغ مبلغ الثور فاستعانت بالماء فانفجر جوفها فماتت .
كل هذا وذاك ينم عن إحساس بالتمايز الطبقي راسخ فيهم نتيجة وضع اجتماعي يعيشونه، في الوقت الذي غفلت فيه أحاديثهم وكتاباتهم عن التعبير عن مسئوليتهم، كصفوة إزاء هذا المجتمع، فالسمة الواضحة للجريدة أنها ليست موجهة لعامة الشعب ،
ومن ثم كان اهتمامها بقضاياه هزيلا وعارضا ذلك أن اهتمامها بقضايا الطبقة وفكرة الصفوة كانا يحولان دون ذلك، أو يؤثران إلى حد كبير في نوعية هذا الاهتمام. والأمثلة عديدة، فعندما قدمت محافظة العاصمة مشروعا يخول البوليس حق التدخل لصالح الساكن المدين الذي يخلى مسكنه وفاء للإيجار، علقت الجريدة بأن ذلك لا يتفق مع مبدأ حفظ الحقوق ،
وتساءلت : كيف يستطيع صاحب الملك أن يحفظ حقه ؟وقد اقترح الشيخ الدمرداش إنشاء مجلس بلدي للعاصمة ، وان تكون قاعدة انتخابه هي الأملاك العقارية البنائية، ولا يلتفت إلى الطوائف والأجناس الساكنة بالقاهرة لأن أكثر العدد من الفرقاء الذين لا يهمهم المجلس البلدي، وقد رأينا موقفهم من قانون الخمسة أفدنة، وكذلك اقتراحهم إنشاء نقابة لكبار الملاك ولم يقف الاهتمام بقضايا الطبقة عند هذا الحد، فقد طالبت الجريدة بامتيازات كبيرة للعمد،
واقترحت على الحكومة أن تترك انتخابهم للأهالي دون تدخل وأن تشترط أن يكونوا من أكبر العائلات. وتمنحهم الحرية التامة في اختيار الخفراء ومشايخهم من الطبقة العليا أو الوسطى، بل اقترحت تشكيل نقابة للعمد في كل مديرية تنوب في الدفاع عن صوالحهم، ولم تشغل لطفي السيد سوى مسألة إدخال أولاد الفقراء حديثة الأزبكية مجانا فطلب من الحكومة أن تكون أكثر عدلا وأدنى ديمقراطية فتستغني عن رسم الدخول..".
وبنفس النظرة الرومانسية ينظر لطفي إلى الفلاح المصري فلا يرى فيه غير نفس صبورة مملوءة بالرضا، يمر به المترفون فلا يهيج نفسه المطمئنة هائج الحسد وحسبه من الحياة أن الله غير مضيع أتعابه سدى، ولا يتطرق حديث على الفلاح إلا ويغرقه في الحديث عن كرم النفس وعدم النظر على ما في أيدي الناس، بيد أن الجريدة لم تعدم من دافع عن الفلاح،
وإن كان الكاتب من غير كبار الملاك أو أبنائهم فكتب يوسف البستاني تحت عنوان " ارحموا الفلاح" معددا المتاعب والأرزاء التي حلت بالفلاح، ولا يفتأ يتحدث عنها ويقترح القوانين التي تنقذه وتضمن له الحياة كتخفيف الديون وحفظ الأطيان القليلة في يده،
وإنشاء النقابات واقتراح إصدار قانون " ملك العيلة " ونحو ذلك، كما نجد آخر من الكتاب يطلب الغوث للفلاح" فمسألة الفلاح المصري اليوم مسالة اجتماعية توجب الاهتمام بها وهى تهم الحكومة قبل كل إنسان" بل إن منهم من أبان قيمة الفلاح في الاقتصاد القومي فلولاه لما قامت للحكومة قائمة ولما ربحت الشركات الأجنبية والبنوك العقارية والتجارية، وتعجب واستنكر كيف يقترض الفلاح الجنيه بفائدة مئة في المائة في السنة وطلب إلى القائمين بأمر هذه البلاد إنقاذه من الفقر والديون والآفات.
ويبدو أن الجريدة كانت في بداية عهدها تجتذب الشباب المثقف للكتابة فيها بتشجيعه بنشر رسائله إليها، كما أنها تحاول أن تكسب شعبية في أوساط المثقفين بوجع عام، وكذلك فإن الاهتمام بهذه المسائل كان جزءا وإن عفويا من اهتمام أكبر وهو الأزمة المالية التي أحدقت بالبلاد وبلغت الذروة عام 1907.
أما العامل المصري فلم يكن أسعد حظا في اهتمام جريدة حزب الأمة به، فلم تفارق فلم يكن أسعد حظا في اهتمام جريدة حزب الأمة به، فلم تفارق لطفي السيد نغمته حين وصف العامل بأنه يظل نهاره يعمل وروحه الموسيقية تجعله يغنى من غير ملل، ووصفه بالقناعة والأنفة،وكتب هيكل أن من أسباب تعدى العامل الفقير على الأغنياء أن الغنى الكسلان هو الذي يضع الرغيف أمام عينهن وحاول بطرف خفي الإشارة على عقم حق العمال في الإضراب، " وأنى لهم المثابرة مهما كانوا قد استعدوا لها، تلك المثابرة التي يستحيل وجودها مع الضغط على الأجور" :
وقد دأبت الجريدة على بذل النصح للعمال المتعصبين، وكانت الاعتصابات قد بدأت تتوالى في تلك الفترة، فذكرت أن أحسن بضاعة تعرضها على جماعة المتعصبين والمضربين هي بضاعة النصح.
وكان البستاني أكثر المهتمين بقضايا العمال فأخذ على عاتقه المطالبة باعتدالهم وأيد مطالبهم واعتبرها عادلة، وطلب إلى المتظاهرين أن يؤلفوا قبل كل مظاهرة لجنة تعين خطيبا وتعرض خطبه على بعض المحامين لينزع منها ما يخرجها عن الحد القانوني، وقد وجد في اعتصاب عمال السكك الحديدية شيئا من روح الاشتراكية"
" فأرباب العيال وبؤساء العمال ينفقون سواد العين ودم القلب ولا يذوقون طعم الراحة يوما في الأسبوع ولا يسمعون سوى دعوى كلها بهتان" .
وقد اقترح على الحكومة ، عندما وقع اعتصاب عمال الترام، النظر في سن قانون للعمال موافق لحالة مصر من الجهة الاجتماعية وجهة الامتيازات الأجنبية ثم يقضى أيضا بأن تتنبه لأمور عديدة أغفلتها أيام عقدت العقود بينها وبين الشركات الأجنبية التي تحتكر جهود العامل المصري.
وقد أخذت الجريدة الشفقة بفقراء العمال فنشرت استغاثات الكتبة الخارجين عن هيئة العمال في بوليس مصر إلى ناظر الداخلية، وكذلك شكوى عمال النسخ بمحكمة الاستئناف الأهلية على ناظر الحقانية، وكلهم يشكون الفقر وضنك العيش ،
وقد يفسر ذلك مواجهة الحزب في مطلع عام 1908 بموجة الانشقاقات وإحداق عداء الخديوي والحزب الوطني به مما جعله يلتمس الخلاص لدى من كان بعيدا عن قضاياهم وقد استمر الاهتمام أيضا خلال عام 1909 فتبنت الجريدة قضية وكلاء المحامين وأفسحت لهم قاعة الحزب للاجتماع وخطب فيهم الهلباوي،
وأعلنت تأييدها لمطالب عمال السكك الحديدية وطلبت إيجاد جامعة تربطهم مع بعضهم بصلة الاتحاد والمنفعة أمثال الجمعيات الأوربية، ومع اشتعال الحرب العظمى وإحساس العمال المصريين بوطأتها، وتخلى الأعيان عن تمويل الجريدة، وتحمل جيل الشباب مسئولية استمرار تحريرها، أفسحت صدرها لظلامات العمال الذين تعطلوا بسبب إجراءات الحرب، وأبدت عطفا شديدا على قضاياهم.
ويتصل بالمسألة الاجتماعية قضيتان على غاية من الأهمية هما قضيتا التعليم والمرأة ، فبالنسبة للقضية الأولى، وإن اعتبرت من المسائل الاجتماعية ذات الطابع الاصلاحى، إلا أنها في نظر الجريدة من صميم العمل السياسي لحزب سياسي ذي جريدة سياسية من أخص واجباتها أن تضع على بساط البحث صورة حال الأمة في التربية والتعليم،
ولعل هذا يفسر مدى تناول كتاب الحزب ومفكريه لهذه المسالة التي نالت اهتماما من شتى الاتجاهات المعاصرة لهم، كما كانت الدعوة إلى مجانية واجباريته والتوسع فيه قاسما مشتركا لبرامج شتى الأحزاب المعاصرة وإن كانت لدى حزب الأمة قد شغلت قدرا كبيرا من برنامجه ،
برغم أن تناولهم لها قد تأثر بمنطقتهم ووضعهم الاجتماعي، وخير دليل على ذلك موقفهم من مسألتي الكتاتيب والتعليم العالي من ناحية ، كما تأثرت بمدى ثقافتهم وإيمانهم بالفكر الغربي فيما يتعلق بالتحديث والتغريب من ناحية أخرى.
لقد دعت الجريدة إلى الاهتمام بالتعليم الأدنى وعلى الأخص بالكتاتيب ودعت إلى تطويرها محبذة دعوة كرومر، وتساءلت هل يجب علينا قياما بالوطنية أن نخرب الطرق الزراعية لأنه ربما كان وراء إنشائها غرض ضار؟ متناسية أن هذا التركيز على الكتاتيب على حساب مستويات التعليم الأخرى وفروعه أو على الأقل ليس جزءا من خطة عامة لإصلاحه باعتباره من الكفاءات التي ينال بها الاستقلال يتسق وتفكيرهم ودعوتهم.
ولكن فروع التعليم الأخرى لم تلق نفس الاهتمام بعد أن غطى عليها شعار " الكتاتيب هي الأساس " كذلك فإن دعوة مفكري الحزب إلى الإلزام والمجانية لم يتعد حدود التعليم الابتدائي، كما أن إجباريته تعنى تعليم الناس القراءة والكتابة فقط، وقد طمأن لطفي السيد الأعيان بأنه لا خوف من أن يصبح الناس قارئين وفلاحين في آن واحد، نصف اليوم في الكتاتيب والنصف الآخر في الغيط، فقد كان يعلم أن لديهم خوفا غريزيا من كل كاتب أو قارئ وكذلك حرصهم على ألا ينشغل الفلاح وأبنائه عن الحق بشيء . وقد طمأن أيضا من أسماهم " أعداء المساواة" بأن القراءة والكتابة لا تعطى صاحبها حق التقلب في المناصب العالية.
وعلى العكس من ذلك طالب الدكتور هيكل بإيجاد " أرستقراطية علمية" وأن التعليم العالي يجب أن يرقى وينتشر بنسبة انتشار التعليم الداخلي وإن لم يكن أسرع منه، وأنه إذا ارتقى التعليم الابتدائي بنسبة أسرع من العالي أدى ذلك على حصول الفوضى ولم تكن الدعوة لإنشاء الجامعة المصرية من أفكار رجال حزب الأمة، برغم أن رشيد رضا قد نسبها على محمد عبده ،
ولم يؤيده مصدر آخر ، وبرغم إنكار الجريدة فضل مصطفى كامل في ذلك ونسبتها إلى كل الجرائد إلا أنه من الثابت أن مصطفى كامل قد سبقهم جميعا في الدعوة إليها على صفحات اللواء منذ أكتوبر عام 1904 ،
ومع ذلك لم تكن قد اتخذت خطوات عملية نحو عملية إنشائها حتى دعا مصطفى كامل الغمراوى من بني سويف إلى عمل اكتتاب لإنشائها، فتم الاجتماع الذي حضره سعد زغلول وقاسم أمين واثنان من رجال حزب الأمة ( حسن جمجوم ومحمد عثمان أباظه) وكانت غالبيته العظمى لرجال الحزب الوطني،
وهكذا يبدو أن آمر الجامعة لم يكن في أيدي رجال حزب الأمة كما لم يكونوا أول الداعين إليه، وقد أعلن سعد أنه انصرف وقاسم عن بقية زملائهم الذين كونوا حزب الأمة، انصرفا إلى مشروع الجامعة، كما لم تهتم الجريدة بأمر الجامعة اهتمام الصحف الأخرى.
وإذا كان هذا هو موقف الحزب من المؤسسات التعليمية، الذي بدا من خلال موقفه من الكتاتيب وإنشاء الجامعة وتجاهله شبه التام لمؤسسات التعليم المتوسط فإن للحزب حقيقيا في الدعوة إلى تطوير التعليم من الناحية الكيفية، اتساقا مع الإيمان بقضية التحديث، وقد لمس محمد السباعي هذه المسالة منذ الأعداد الأولى للجريدة، وارجع الاختلاف بين الشرق والغرب إلى اختلاف حالتي التعليم بالدرجة الأولى،
كما أفاضت الجريدة في الاستشهاد بمنجزات الفكر الأوربي بما يخص مسائل البيداجوجيا، فعربت عن " جلز" مقالاته حول التدريس والتعليم والتدريب ونادت بتبني الأساليب الحديثة في التربية والاستفادة بآراء سبنسر حول التعليم الجامع للمسرة والفائدة، واستخدام الصور المتحركة والسينما وغيرها، وكذلك الاستفادة بما أحرزه علم النفس من تقدم، واقترحت أن ترسل الجامعة مبعوثين عنها لدراسة قواعده.
وضرب فتحي زغلول الأمثلة بنماذج من المدرسة الإنجليزية كواحدة من أسرار تقدم الإنجليز. وقد ارتبطت دعوة التحديث بقيود تفرضها أوضاع المجتمع المصري" صحيح أنه ليس للعلم وطن ولا للتمدن وطن ولكن طريقة التعليم وطريقة التمدين يجب أن تأخذ الطابع الوطني" فارتبطت هذه القضية بالدعوة إلى المصرية، واقترنت هذه بالدعوة إلى تعريب لغة التعليم، وإن كانت الجريدة قد بدأت بتأييد سعد زغلول حين حاول تأجيل هذا المطلب للجمعية العمومية ، حتى يمكن زيادة معلمي العربية ،
إلا أنها تحولت عن ذلك موضحة أن زمان الاستعداد لا يلزم أن يكون طويلا، وأن كثيرا من فروع العلم يمكن تدريسه بالعربية من السنة القادمة، ثم طورت موقفها بعد ذلك وانتقدت التعليم بالإنجليزية وتعجبت كيف يدرس تاريخ مصر والزراعة المصرية وآداب الأكل والمحادثة بغير العربية حتى أصبحت مدارس الحكومة ليس فيها من المصرية إلا نسب التلامذة وتربة الأرض القائمة عليها المدرسة.
أما اشتغال الطلبة بالسياسة ، فقد أبدت الجريدة استنكارها لذلك ونصحت التلاميذ بألا يتعاطوا السياسة ، فوقتهم وقت التحصيل ، وكان ذلك اتساقا مع دعوة الحزب إلى التعقل والاعتدال، حتى لا ينجرف التلاميذ إلى الحزب الوطني الذي كان يعادى حزب الأمة آنئذ ،
ولكن الموقف تغير بعد وفاة مصطفى كامل وتقارب الحزبين وتأثير سياسة الوفاق على حزب الأمة، مما جعله يغير نسبيا من لهجته ومن ثم بدأت جريدته تطالب بإدخال المعلومات الضرورية وشرح الحوادث اليومية أو بمعنى أدق تطالب بتدريس سياسة البلد في المدارس ، وتساءلت كيف ننكر على الطلبة الاشتغال بها لتكميل عقولهم ؟ وذكرت أن السياسة أي تدبير الأمة لا تدخل تحت قانون تقسيم العمل لأنه عمل عام " وواجب كل فرد".
أما بالنسبة لقضية المرأة قد ارتبطت لدى مفكري الحزب بمسألة تحديث المجتمع وتمدينه ككل، وكان هناك من تناولوا قضية تحريرها من الجهل قبل قاسم أمين، حين أبدى الطهطاوي إعجابه بالمرأة المتعلمة كما رآها في باريس في كتابه" التخليص" ثم أعطى برنامجا مصريا لتعليم البنات في " المرشد الأمين" إلا أنه قدر لواحد من جماعة محمد عبده وهو قاسم أمين أن يقود ما يعتبر انقلابا نحو تحرير المرأة من العديد من القيود الاجتماعية،
وكان محمد عبده قد عالج هذه المسألة من زاوية خلقية بحته تتصل بعلاقة الرجل بالمرأة من حيث التعامل، وإن تطورت المسألة بعد ذلك لتمس قضية تعدد الزوجات، وضرر ذلك على اعتبار أن العدل سيكون مستحيلا وعلى ذلك نادي بالاكتفاء بواحدة ، وفى مواجهة المسلم المحافظ التزم محمد عبده حدود وتفسيرات الشريعة وإن بنظرة متطورة.
وحين وضع تقريره لإصلاح المحاكم الشرعية أبان خطأ تعدد الزوجات بالنسبة للفقراء وما يجره من تغلغل داخل المجتمع ، وإن كان قد أبان في نفس الوقت أن ذلك سيحول دون إقامة حدود الله ويضر بالدين والأمة، وقد طور الشيخ القضية لتبلغ مدى آخر اقترح فيه حق الزوجة في طلب الطلاق القاضي بما يعد تفسيرا جديدا للشريعة كما يعتبر خطوة جريئة نحو تحرير المرأة.
ومن حيث انتهى الطهطاوي ومحمد عبده بدأ قاسم أمين فألف " تحرير المرأة ( 1899) وقرأ مخطوطته على محمد عبده ولطفي السيد وسعد زغلول في جنيف، وإن كانت بعض المصادر تقول أن الكتاب قد كتب هناك بأفكار محمد عبده وتصويبات ومراجعات لطفي السيد. والواقع أن الفكرة قد نشأت أساسا في ذهن قاسم كرد فعل لما أثاره كتاب داركور عن مصر والمصريين ( 1893) ولا يتعارض ذلك مع كونه قد أخذ رأى أصدقائه في أفكاره أبان تأليفه،
وقد أكد لطفي السيد وأحمد شفيق هذا المعنى وخلال الأزمة التي أثارها صدور الكتاب لم يجد قاسم من أصدقائه نصيرا سوى فتحي زغلول الذي أثنى على أفكاره وأيده في موقفه ورد عل منتقديه وقرن بينه وبين ترجمته لديمولان واعتقد أنه هو الآخر لن يسلم من مثل هذا الانتقاد،
وكذلك إبراهيم رمزي الذي أصدر مجلة " المرأة في الإسلام" وأوقفها للدفاع عن قاسم ، بينما نكص محمد عبده وسعد زغلول ولطفي السيد عن تأييد صديقهم وكتابه ولم يفعل الأخير ذلك إلا بعد وفاة قاسم عام 1908 ،
بل إن واحد ينتمي لنفس الجماعة وهو طلعت حرب قد وضع كتابا عنوانه" تربية المرأة والحجاب" ، للرد عليه، اعتمد فيه على التقاط بعض التناقضات القائمة على اللفظ والتعبير من خلال كتاب قاسم كما اعتمد على تذكيره بدفاعه عن المرأة المصرية ضد " داركور" من زاوية أن قاسم ينتقد وضع المرأة وليس يدعو إلى تحريرها.
وقد ثنى قاسم كتابه الأول بكتاب " المرأة الجديدة" عام 1900 مفصحا فيه عما أجمله في الأول. ومتحررا فيه مما تحرز عنه ، وقد انصبت أفكار الكتابين أساسا على عديد من الأفكار تؤدى إلى رفع الحجاب أوسفورها ،
وكانت معالجة هذه الأفكار قد بدأت بشكل تدريجي، فمن الدعوة إلى تعليم المرأة القراءة والكتابة إلى دعوتها للتعليم الابتدائي إلى الدعوة إلى حصولها على حق التعليم بجميع مراحله حتى يمكنها مواجهة مشاكل المعيشة وتعاطي كل الأعمال ،
وهكذا تحول قاسم عن فكرة تمهيد أذهان المجتمع المحافظ لقبول هذه التغييرات حين تساءل لماذا يعتقد المسلم أن عوائده لا تتغير ولا تتبدل؟ كما فرغ من ضرب الأمثلة بأمهات المسلمين ونساء الصحابة إلى المطالبة بتفسير الشريعة بروح عصري،
وذكر أنه من المباح لكل أمة في كل زمان أن يوجد فيها ما يوافق مصلحته وقد انتقل من هذا كله على الدعوة إلى فتح باب الاجتهاد للتوفيق بين أحكام الدين وحاجات الأمم على اختلاف الأمصار والأعصار ورأى بأنه من غير الممكن لامرأة محجوبة أن تتخذ صناعة أو تجارة للتعيش منها إن كانت فقيرة ،
وأنكر أن في الشريعة نصا يوجب الحجاب على الطريقة المعهودة، وطلب تخفيفه ورده إلى أحكام الشريعة، كخطوة نحو رفعه كلية، وعاد في " المرأة الجديدة" ليذكر أن الحجاب أفظع أشكال الاستعباد ثم تجاهل الحجاب الشرعي وأسرف في ضرب الأمثلة بنساء الغرب وطالب كمحمد عبده بتضييق حدود الطلاق إلى حد إعطاء المرأة هذا الحق واقترح قانونا من خمس مواد بهذا الشأن.
وكان هيكل أول من عالج قضية المرأة على صفحات الجريدة بشكل منظم، فدعا إلى تعليمها ونعى القائمين بتوقفها عند التعليم الابتدائي، فلا جدوى من تعليم ناقص تهمله بعد حين، وأرجع سبب ذلك كقاسم إلى الاستبداد الرجل وطالب بخروج المرأة واعتبر الحجاب سجنا، واقترح ريا تخرج به مكشوفة الوجه، والكفين مغطاة فيما دون ذلك.
وقد شهد نادي حزب الأمة متحدثة فرنسية" مدموازيل كليمان" التي ألقت محاضرة عن تعليم المرأة في فرنسا، كما شهد – وللمرة الأولى- أول خطيبة مصرية هي ملك حفني ناصف( باحثة البادية) التي أرسلت صوت الإصلاح في عدد كبير من صفوة السيدات والأوانس اللاتي اجتمعن بنادي الحزب في أول سابقة من نوعها بدعوة من لطفي السيد.
وكان محور اهتمام لطفي السيد هو تحقيق مساواة المرأة بالرجل وإن كانت المساواة محددة بالحدود الطبيعية والشرعية، فهو وإن كان لا يطلب للمرأة حق الانتخاب- فإنه – كقاسم – لا يجد في الشريعة نصا يحرمها هذا الحق. كما طالب بمساواة البنات بالبنين في طريقة التعليم وفى المعاملات ، وظل يردد أقوال قاسم حول تحرير الأمهات قبل تحرير الأوطان، إصلاح العائلة أولا، وأن التدين لا يمنع التمدن،
ودافع عن حق المرأة في الخروج والتزين والمخالطة على اعتبار أن ذلك من خصائص حريتها الشخصية، أما راية في الحجاب فيفهم ضمنا من أفكاره السابقة، وبشكل عام لا يضيف جديدا أكثر من انتصاره لأفكار قاسم، ولعل إسهامه الأساسي يكمن في تشجيع باحثة البادية على أن تخطب بنادي حزب الأمة وكان همزة الوصل بين فكر قاسم وفكر الباحثة، التي انطلقت في دعوتها عن إيمان بالمدنية الأوربية وقرنت ذلك بالدعوة إلى المصرية خاصة في مسألتي التعليم والحجاب، وكانت تصدر في أفكارها عن إيمان عميق بقانون تنازع البقاء الذي هو نتاج للفكر الأوربي ،
ووفقا لمذهب جماعة محمد عبده ، الذي ينبذ الطفرة ويسلك سبيل الاعتدال يبرز مفهوم الباحثة عن الحجاب والسفور، في هي " قاسمية " متطرفة ذلك أنها لا توافق على ذلك الآن وربما أرادته في المستقبل ولا هي تريد الحجاب المصري القديم،
وإنما أرادت مذهبا وسطا ، هذا برغم إيمانها العميق بضرورة السفور، وواضعة في اعتبارها التقاليد القائمة رأت أن هدم البناء لا يتم دفعة واحدة ولكن قليلا إلى أن يتم الهدم فنبنى على أنقاضه أحسن منه . وكان إيمانها بقدرة المرأة المصرية على تعاطي الأعمال قويا، فما ضعفها الآن إلا نتيجة لقلة الممارسة ،
ومع ذلك لم تصل على حد المناداة بحقوقها السياسية ، وقد همست لمى في إحدى رسائلها " إنما نحن يا مى ضايقناه- الرجل- في بعض مملكته لنترك له السياسة التي يحبها وحمايتنا ..".وفى مجال حقوق المرأة أيضا رددت أفكار محمد عبده وقاسم حول جعل الطلاق وتعدد الزوجات بأمر القاضي وإن كانت لم تصل- مثلهما- إلى حد المطالبة بمنح المرأة حق الطلاق.
الفصل الثامن : من حزب الأمة إلى حزب الأحرار الدستوريين
الجريدة وإعلان الحماية البريطانية وزوال السيادة العثمانية
اضمحلال الحزب وانتهاؤه
جريدة السفور
الحزب الديمقراطي
من الوفد إلى الأحرار الدستوريين.
علق لطفي السيد عام 1912 على ترويج بعض الصحف الأجنبية في مصر لفكرة إعلان الحماية الإنجليزية على مصر معتبرا ذلك الحل للمسألة المصرية هو أسوأ الحلول لأن المصريين لا يستطيعون أن ينزلوا قيد شبر على تحقيق صيغتهم القومية التي كلفهم إيجادها ثمنا غاليا وهى " مصر للمصريين"
ثم أن تبعية مصر لانجلترا تبعية شرعية بطريق الحماية ليس من طبعه أن يزيل الاضطراب في مصر. وعندما اندلعت الحرب العظمى الأولى ذكر أن لنا في مصر مصالح تجب علينا رعايتها في هذه الأوقات الصعبة ، نحن على الحياد بالضرورة وسنظل كذلك مهما اتسعت دائرة الحرب، إن مركز مصر الاستثنائي يحتم على ولاة الأمور فيها اتباع الثمرات الطيبة التي جنتها مصر من حيادها،
وعندما أعلنت انجلترا الحرب على ألمانيا، اعتبرت الجريدة أن هذا لا يغير مجرى الأحوال في مصر ذلك أن مصر يجب أن تكون على الحياد التام بسبب مركزها الاستثنائي مهما اتسعت دائرة الحرب ، بيد أن لطفي السيد عاد ليشكك في إمكانية الحياد ذاكرا أن مصر لا تستطيع في الحال الحاضرة أن تقوم بمقتضيات الحياد إلا إذا كانت انجلترا على الحياد فتكون بذلك عونا على تنفيذه، أما وانجلترا محاربة وهى محتلة لمصر فالحياد غير ممكن في العمل وأكد في 8 أغسطس 1914 أن قرار وزارة حسين رشدي الذي يجعل مصر في حالة حرب قرار ضروري لامناص منه"
لأنه الوسيلة الوحيدة لحماية الثغور المصرية"، وأن الحكومة ليس أمامها خيار فيما يتعلق بوضع البلاد تحت الأحكام العرفية إذا كانت الضرورات الحربية لم تقض به بعد، وأكد كذلك أن الأمة في غاية الاستعداد لأن تعين بكل ما في استطاعتها لتحصين البلاد وحمايتها مستعجلا بذلك قرار إعلان الأحكام العرفية الذي نشر في 2 نوفمبر، ومعلنا تأييده لما تتخذه حكومة رشدي من إجراءات ، وقد دعت الجريدة إلى العمل مع الإنجليز ومساعدتهم" فإن في ذلك دفاعا عن بلادنا، فإذا استعدينا على الإنجليز بغيرهم فكأنا نقول لمن نستنجد بهم خذوا أنتم بلادنا من الإنجليز،
وهذا كناية عن اليأس من مستقبلنا" وكتب لطفي السيد المقال تلو الآخر مفتتحا الجريدة ، مؤيدا مواقف الحكومة حاثا إياها على سرعة عمل الاحتياطات التي رأت انجلترا والدوائر العسكرية أنها الواقية للوطن من خطر الاعتداءات وأكد أن" حالة الحرب" حالة فعلية لا مناص منها،
وتساءل: كيف يمكن أن تكون مصر في حال الحياد مع وجود الاحتلال الإنجليزي بعساكره ؟ ورأى أن قطع العلاقات مع ألمانيا والنمسا من الضرورات الحربية الموكولة إلى سلطة الاحتلال وعلى ذلك فتصرف الحكومة لا غبار عليه.
وعلى ضوء هذا كله سعى لطفي السيد لإعداد مشروع معاهدة بين مصر وانجلترا عرضه على رشدي باشا وعدلي يكن باشا واتفق على أن يسعى ثلاثيتهم لدى السير ريجنالدوينجت نائب المعتمد البريطاني في مصر لتعترف انجلترا باستقلال مصر التي تكفل مصالحها وتعاونها في دخول الحرب معها، فوعدهم وينجت أن يعرض الأمر على حكومته، بينما اخبرهم السير جراهام مستشار الداخلية- أن المصريين سوف ينضمون لتركيا في الحرب عند ظهور أول طربوش تركي فئ القنال ،
ولم تكلف السلطات الإنجليزية نفسها عناء بحث المشروع، الذي كرر أصحابه عرضه على المستر ستورز وقد علق الدكتور هيكل على هذا المشروع بأنه معلق على انتصار انجلترا في الحرب وأنها لن تصدر هذا التصريح ما لم تدخل تركيا الحرب في صف ألمانيا، وذكر أن الجريدة كانت تروج، كالمقطم فكرة أنه إذا خيرت مصر بين من يحكمها من الدول فإنها ستختار انجلترا، وذكر أنه احتج على لطفي السيد بسبب ذلك قائلا:" ومتى كان لعبد أن يختار سيده".
وعلى الرغم من أن انجلترا قد تعهدت لتركيا في أغسطس 1914 بعدم إحداث تغيير جوهري في نظام مصر السياسي طالما التزمت بالحياد، إلا أنها عات بعد قليل – وتركيا لم تدخل الحرب بعد- تمهد لإنهاء السيادة العثمانية على مصر ووضع مصر تحت الحماية البريطانية ،
وقد كشفت برقية جراى إلى القائم بأعمال المعتمد البريطاني في مصر في 27 بسبتمبر 1914 عن هذا المعنى، وقد نشرت الجريدة قرار إعلان الحماية، وهللت له باعتباره انقلابا عظيما أخرج مصر من حالة دولية استثنائية إلى حالة جلية ورأت أن في ذلك دليل على أن بريطانيا تحقق آمال الأمة المصرية"
فنحن نستقبل الحماية اليوم والأمل ملء الصدور في مستقبل زاهر" وأسرفت الجريدة في تحليل معنى الحماية والتفاؤل بها واعتبرت أن من أسباب هذا التفاؤل أن بريطانيا اختارت شكل الحماية مع أنها قادرة على فعل كل ما تريده، كما ظلت الجريدة على تأييدها لمواقف وزارة رشدي من الأحداث مشيدة بوطنيتها " فقد كان أمامها أن تترك السفينة تتقاذفها الأمواج فتغرق معها أمل المصريين وتضطر الحكومة الإنجليزية إلى تسليم مقاليد الأمور إلى غير المصريين، لا أن يبقى الوزراء في مناصبهم ويثابروا على مفاوضة بريطانيا العظمى التي رأوا فيها ميلا حسنا إلى معاملة مصر طبقا لتقاليدها، وتساءلت في استنكار :
أي وزير وطنى ذلك ويدع سفينة بلاده تغرق؟ أنه لو فعل لما كان وطنيا وهو ما أبته الوزارة الرشيدة ببقائها في مناصبها.
أما مسألة خلع الخديوي عباس فقد تجاهلتها الجريدة تماما وذكرت أنه يكفى أن بريطانيا قد اختارت أكبر أمراء الأسرة العلوية لسرير السلطنة المصرية ، ذلك أن الأريكة العلوية التي هي عنوان مجد الأمة تزال مصونة محترمة وصاحبها ذو مكانة سامية وحرمة عظيمة لدى الدولة الحامية،
واستقبلت السلطان حسين كامل في صدر صفحاتها أروع استقبال ملقبة إياه" بسلطاننا الكامل" مشيدة بموقف بريطانيا التي أرادات أن تبقى لمصر ذكرى تاريخها العلوي فلم تشأ أن يجلس على سدة محمد على باشا إلا ابن إسماعيل العظيم، وإنها فعلت ذلك مراعاة لعواطف المصريين،
كما أكد موقف الجريدة من الخديوي أن أحدا من رجال حزب الأمة لم يسافر إلى عاصمة السلطان ليقف في معسكر الخديوي وهو أمر رأى الخديوي أنه كان في حاجة إليه بينما شغلت الأخبار السلطانية صفحات عديدة بالجريدة خلال الشهور الأولى لعام 1915 فنشرت جوا بات التهاني والمقابلات السلطانية جنبا على جنب مع أخبار السير هنري مكماهون نائب جلالة ملك بريطانيا في مصر.
أما موقف الحزب من إلغاء السيادة العثمانية على مصر فتفسيره مواقف الحزب السالفة إزاء هذه السيادة، كما يفهم ضمنا من ترحيب صحيفة الحزب بإعلان الحماية البريطانية على مصر التي ألغت هذه السيادة، وقد نشرت الجريدة قرار إعلان الحماية وزوال السيادة العثمانية بسبب دخول تركيا الحرب، نشرته بنصه دون تعليق،
ثم عادت لتؤكد أن هذا الانقلاب في شكل الحكم ليس بالشيء المضاد للمصالح المصرية حيث أن مصر قد قضت حياتها في إيهام مستمر نشأ عن اختلاف السلطات المتسلطة عليها في الحكم الداخلي والخارجي ، وبذا تجاهلت الجريدة مسألة زوال هذه السيادة كأن شيئا لم يكن ، وكانت قد شرعت في تنمية فكرة القومية المصرية فنشرت العديد من المقالات بأقلام كتابها الشبان، لتؤكد معنى الوطنية المصرية ولتضع المصلحة المصرية فوق كل اعتبار،
وعادت للتذكير بشعار" عليكم أنفسكم" اصرفوا عواطفكم لأعمال التي تتعلق بخير بلدكم فهي أول بتلك القوى الضائعة والوقت المنصرف في الكلام بأخبار الغير وكتب الدكتور هيكل حول هذا المعنى معاتبا الصحف التي قامت بمناداة الناس بمساعدة تركيا باعتبارها صاحبة السيادة على مصر بشكل أبعد ما يكون عن الحياد، وذكر " ها نحن تصلنا الأخبار بأن ألمانيا لا تقبل في جيشها متطوعا وها لدينا بلاغ الوكالة الذي ينصح الناس بالإبقاء على أنفسهم وأموالهم وبالنظر ف مصالحهم ومصالح مصر وأن ذلك لعظة بالغة" .
وكذلك يفسر موقف حزب الأمة تجاه هذه السيادة ، موقف رجال الحزب من الحملة التركية المزمع إرسالها إلى مصر، فعندما أبدى الخديوي أسفه الشديد لخروج أركان الحزب الوطني من مصر وحضورهم إليه في عاصمة السلطان وذلك لأهميتهم للعمل هناك- يقصد بمصر- رأى أن من الأفضل استدعاء احد أقطاب حزب الأمة للاتحاد مع رجال الحزب الوطني لعمل برنامج للسير على موجبه، وقد أجابه الدكتور سيد كامل- أحد رجال الحزب الوطني- بأنهم سيكسبون كثيرا لو كان معهم على شعراوي وعبد العزيز فهمي وعلوي الجزار،
فقال الخديوي: هذا صحيح ولكن عبد العزيز فهمي مريض وشعراوي باشا ربما استصغر أن يحضر مع علوي الجزار، ورغم أنهم لم يتوصلوا على اتفاق بهذا الشأن إلا أن ذلك يحمل معنى تجاهل حزب الأمة تماما لموقف الخديوي عباس والذين معه، وعندما أتت أخبار الحملة التركية إلى مصر كتبت الجريدة مستخفية بشأنها مؤكدة أنها ستفشل،
فتحدثت عن الصعوبات التي تلقاها الجيوش الكبيرة في اجتيازها لبرية سيناء لعدم توافر المياه فيها ولصعوبة نقل المدافع الضخمة التي لابد منها لمهاجمة الاستحكامات القوية التي أقامتها الجيوش البريطانية، وذكرت أنه ليس بوسع هذه الحملة إلا أن تنقل معها المدافع الرشاشة وهى لا تفيد بطبيعة الحال في مقاومة المدافع الضخمة التي أعدها الإنجليز.
إذا كانت الجريدة قد أبانت عن موقفها من مسالة الحماية البريطانية وبالتالي إلغاء السيادة العثمانية، فإن زعامات الحزب كان عليهم في ظل الأوضاع الجديدة أن يدعموا موقفهم من السلطان حسين كامل، وهو ما حدث بالفعل، فقد عقدوا مع السلطان أوثق الصلات، بل أن منهم من كان صديقا قديما له كالهلباوي الذي ذكر أن السلطان استشاره في قبول السلطنة فاستحسن له قبول المنصب، كما أشيع أن لطفي السيد قد عين رئيسا للأقلام العربية في الديوان السلطاني
وإن كذبت الجريدة هذا الأمر بينما ذكر سعد زغلول أن لطفي قابل السلطان الذي فاتحه في إنشاء جريدة إسلامية فوافقه لطفي على الفكرة، ويبدو أن لطفي كان يبغى عنده وظيفة في الإدارة أو القضاء، فقد طلب إلى ثروت أن يروج لمسألة ترشيحه في وظيفة بمحكمة الاستئناف، وعندما طرح ذلك فعلا أثناء عشاء على المائدة السلطانية في أبريل 1915 طلب السلطان التمهل " لعلى أعينه في وظيفة عندي"
وإن كان لطفي قد عين رئيسا لنيابة بني سويف تمهيدا لترشيحه نفرا آخر منهم إبراهيم رمزي- مدير الجريدة آنئذ- فعينه رئيسا لقلم الترجمة بالديوان السلطاني كما عين أحمد عفيفي باشا ناظرا للخاصة السلطانية،
وكذلك دعي حسن عبد الرازق ليعمل وكيلا للديوان العالي السلطاني وكان السلطان صاحب الفضل في تعيين الشيخ مصطفى عبد الرازق موظفا في مجلس الأزهر الأعلى وقد أراد تعيينه سكرتيرا للمجلس لولا رفض الأزهريين لذلك نظرا لمقام مصطفى الظاهر بين جماعة السفور هذا في الوقت الذي أنعم فيه السلطان على العديد من رجالات الحزب بالرتب والنياشين فأنعم على مصطفى خليل وحمد الباسل والدمرداش برتبة الميراميران
وأضاف للدمرداش لقب صاحب الفضيلة والإرشاد كما كان لعبد العزيز فهمي صلة طيبة بالسلطان حتى أنه عندما قبل الدفاع عن فلبيديس وعلم أن السلطان قد استاء من ذلك، اعتذر عن الاستمرار في القضية. لكننا نتساءل هل كانت حركة رجال الحزب على المسرح السياسي الجديد باعتبارهم يمثلون حزب الأمة؟ إن الإجابة على هذا السؤال تقتضينا العود إلى الخلف قليلا..
لعلنا لاحظنا منذ بداية هذا الفصل أن الحديث لم يكن عن حزب الأمة – كحزب- بقدر ما كان عن جريدة تضمحل، ونفر من الشباب يحاول أن يبعث فيها الحياة دون جدوى، وزعامات- أو كانت- تتعلق بعرش السلطان زلفى لديه أو طمعا في وظيفة، ويزيد الصورة وضوحا أن افتتاحيات الجريدة خلت من أقلام محرريها المشهورين، واقتصرت على ترجمة أو تلخيص مقالات التيمس وأخبارها خلال عام 1913،
تلي ذلك حديث للجريدة عن خفوت نغمة الأحزاب نتيجة فتور عام في الحركة السياسية في العامين السابقين لعام 1913 " حتى أن بعض الآخذين بالظواهر سموه موتا للأحزاب السياسية وإبادة للفكرة في شئون البلاد وذلك بسبب القوانين الاستثنائية التي صدرت ومنها قانون الاتفاق الجنائي وتنفيذه من قبل البوليس السري، حيث أخافت إجراءات مريدي الأحزاب السياسية وزينت لهم التبرم بشيوخها حتى كثر التبرؤ من الأحزاب"
وقد يزيد الأمر جلاء نشر لجريدة لإعلان عن وجود مسكنين بمبناها صالحين للإيجار مما يدل على استغنائها عن بعض محرريها، وتقليص نشاطها على الأقل أو أنها استعدت لما يمكن أن يصيبها من إجراءات الرقابة، إن لم يكن نتيجة انصراف بعض الكتاب عنها بعد فرض هذه الرقابة خاصة وقد حذفت الرقابة بعضا من افتتاحيتها للمرة الأولى في 3 نوفمبر 1914، تلي ذلك حذفها لافتتاحية كاملة بعد خمسة أيام،
ثم إنذارها من السلطة العسكرية وتوقيع الجزاء عليها بسبب استبقائها لعنوان المقال وتوقيع كاتبه، بتعطيلها عن الصدور ليوم واحد وذلك أمر لم يحدث قط للجريدة منذ صدوها ، وإن كانت الجريدة فيما بعد قد تركت المساحة المحذوفة بيضاء دونما عنوان أو توقيع.
وفى 22 نوفمبر 1914 صدرت الجريدة بدون اسم مديرها أحمد لطفي السيد الذي كف عن الكتابة بها منذ شهر سبتمبر وقد فسرت الجريدة ذلك بأنه استقال لاعتلال صحته، ونصح أطبائع باعتزال الأعمال العقلية وإذا ذكرنا أن لطفي كان رئيس التحرير ،
والمدير المسئول عن سياسة الجريدة منذ نشأتها والكاتب الموحى أو المستكتب لمعظم افتتاحيتها، والموجه الأساسي لكتابها الشباب لأدركنا ما يمكن أن يصيبها من جراء تركه لها، وكان أول ماأصابها بالفعل هجرة أقلام الهلباوي وحسن صبري ومحمود أبو النصر وعزيز خانكى لها وعللت الجريدة ذلك بأن مرض لطفي قد أثر في هذه الأقلام فاحتجبت وقد روى العقاد أنه عرف من محرريها من تركوها لأنها اضطرت إلى القصد في وظائف التحرير ،
حتى كانت تقنع من المحرر بنهر في اليوم ولا تسأله إذا ونى عن الكتابة عدة أيام ، وكان اعتمادها الأساسي في الصدور على بقية من رصيد الأحبار والأوراق تكفيها لعشرة شهور آتية ثم أن من بقوا في تحريرها قد قبلوا العمل بنصف الأجر ، ثم كان أن احتجبت الجريدة عن الصدور تماما في 30 يونيو 1915 بعد 2534 عددا ثم بيعت مطبعتها إلى صاحب الأهرام،
وكان هذا آخر عهدنا بجريدة حزب الأمة التي انصرف عنها محرروها واحدا أثر آخر على أثر تشديد الرقابة، في الوقت الذي كف الأعيان أيديهم عنها فتركت نهبا للأزمات المالية، ولم تكن صحيفة شعبية بحيث تستطيع أن تعطى شيئا من تكاليفها ، والواقع أنه تكاتفت عوامل أثرت في تكوين الحزب، وبالتالي في بقائه كحزب سياسي تنطق بلسانه صحيفة " الجريدة"..
وأهم هذه العوامل اختلال تركيب الحزب نتيجة انصراف كثير من الأعيان إما لأسباب تتصل بمدى ثقافتهم ودرجة وعيهم، أو لأسباب ترتبط بالعلاقات السياسية مع مركز السلطة، أو لموت العديد من رجالاته وانصراف الأعيان عن الحزب قديم منذ اجتماع تأسيسه، حين ذكر فندلى أن بعض الشركاء بدأوا ينسحبون من الاشتراك في الجريدة بعد تعرفهم على مبادئها لأن ذلك سيعرضهم لعداء الخديوي، وأصحاب الجامعة الإسلامية .
كما أن فريقا آخر قد انسحب تحت تهديد الخديوي وإغراءاته لأعضاء الحزب في فترة الوفاق، وإن ظل من الأعيان في الحزب من تصدوا لوقف انهيار الجريدة ودعموها بالمال مما فوت الفرصة على أعدائها ثم كان خروج جماعة من أعيان الصعيد وعلى رأسهم أندوراس بشارة ومن أعيان الوجه البحري يترأسهم مصطفى خليل ، الذين رفعوا دعوى مطالبين بتصفية الجريدة التي كادت أن تنهار لولا أن تصدى محمود سليمان وعلى شعراوي، وغيرهم لذلك وأودعوا خزينة المحكمة ما اكتتب به أصحاب الدعوى
وبالرغم من استمرار صدور الجريدة إلا أن هذا الخروج في حد ذاته على الحزب وجريدته قد أثر كثيرا على حجم الحزب وثقله المادي، ثم جاءت الرب الطرابلسية والتي وقف منها لطفي السيد وخلفه شباب الجريدة موقفا أغاظ الكثير من الأعيان الذين اكتتبوا لمساعدة الدولة العلية وأعلنوا انسحابهم من الاشتراك في الجريدة وتبرؤهم من خطة الحزب،
وكانت هذه المسألة بمثابة القارعة بالنسبة لعلاقة الأعيان بالجريدة ففقدت معظمهم، وفقد الحزب أغلب أنصاره ومؤسسيه نتيجة لذلك ولم يتقدم من بقى منهم في الحزب بإعانة صحيفته ماليا بسبب عدم ارتياحهم لمحرريها واتجاهاتها التي خضعت لاتجاهات لطفي السيد الفلسفية وآرائه السياسية وكذا إدارته لها،
وحين دعي لعقد اجتماع لمناقشة وضع الجريدة من حيث توقفها أو استمرارها لم يحضر سوى عضوين اثني ومن ثم لم ينعقد .
والواقع أن ألأعيان إلى جانب العامل السابق قد اندفعوا في الاكتتاب في الجريدة التي ترعاها سلطات الاحتلال في وقت أخذت فيه الأزمة المالية عام 1907 بخناق البلاد، وكانوا يأملون في انتهائها ولكنها استمرت خلال عامي 1908، 1909 .
ورغم تحسنها نسبيا خلال عام1910 إلا أنها في بداية عام 1911 بدت نذرها من جديد الأمر الذي قد يعرض الأعيان لضياع أموالهم وسخط الرأي العام وعداء الخديوي عداء بينا في الوقت الذي لم تبد سلطات الاحتلال ميلا من نوع ما إليهم مما زاد من اقتناع من تبقى منهم بعدم جدوى الاستمرار في الانتماء للحزب.
ويتصل بتفتيت تركيب الحزب انصراف الموظفين عنه بسبب ما أتاحته سياسة الوفاق للخديوي من حرية استخدمها في ضرب أعدائه فاستطاع إبعادهم عن الحزب كلية والتهديد بالنفي والتشريد والعزل للعديد من الموظفين المشتركين في جمعية الحزب العمومية . كما استطاع إغراء بعضهم بالرتب والنياشين حتى أعلنوا تبرؤهم من الحزب وخطته، مما أفقد الحزب الكثير من الكفاءات العلمية والقانونية الكفيلة باستمرار قوته.
ومن عوامل تدهور الحزب أيضا اتساع الهوة بين مثقفيه وأعيانه وكان المأمول أن تضيق أكثر فأكثر ليتكيف الحزب مع نفسه، ولكن حدث العكس ذلك أن الأفكار التي دعا إليها لطفي السيد وأنصاره، لم تكن مما يرضى الأعيان أو حتى الرأي العام إن لم تكن تصطدم مع عواطف هؤلاء وأولئك، و قد رأينا أثر ذلك من خلال مقارنة دور الأعيان داخل المجالس النيابية بما تدعو إليه الجريدة كما اتضح كذلك في موقف لطفي إبان الحرب الطرابلسية ( 1911) حيث كان يدرى موقف الأعيان سلفا مما يدل على أنه كان واثقا أن باستطاعته تجاهلهم أو إقناعهم إذا لزم الأمر،
وإن كان قد أخطأ التقدير، فسرعان ما أجبروه على ترك الجريدة لفترة سكن خلالها إلى قريته، وبالرغم من أن قانون الجريدة يقضى بمحاسبة مديرها عن مدى تعبيره عن أفكار مؤسسيها ويشير بتغييره إذا حاد عن مهمته ، ورغ تأكيد الجريدة على أن لطفي السيد لا يجوز له أن يتعدى قانونها بل وادعاء محاسبة مؤسسيها له أحيانا ،
إلا أنه من الصعب الحكم على مدى التزامه بذلك أو التحكم فيه، عندما تخوض الجريدة في مسائل ذات طبيعة خاصة وليس ثمة ضامن للاستمرار في الوفاء بهذا الالتزام إذا كان المدير ذا مكانة سياسية معينة وليس مجرد صحافي محترف، وكذلك إذا كانت أفكار مؤسسي الجريدة ترتبط بالموقف السياسي المحكوم بعلاقات متغيرة دائما إزاء مركز السلطة ولا تنبني على مبادئ ثابتة ودعائم قوية مجردة.
ورغم عودة لطفي إلى الجريدة إلا الخلاف لم تكن قد زالت بعد مما حدا به أن يترك إدارتها في يناير عام 1941 ويكتفي برئاسة تحريرها على أن يصبح حرا في استعادة عمله كمحام وقد أعلن عن عزمه عن الترافع أمام المحاكم الأهلية ويبدو أن ذلك نتيجة مكائد دبرت ضده في مجلس الإدارة لعبت طلعت حرب- عضو المجلس ومراجع حسابات الجريدة- دورا كبيرا فيها .
وكان بين طلعت ولطفي اختلاف في الأمزجة، كما كان طلعت ومؤيدوه ينظرون إلى أفكار لطفي السيد التحررية باعتبارها تحللا وانفلاتا ، وحين قدم لطفي السيد استقالته من إدارة التحرير دافع عن اتهامه بسوء الإدارة بأنه لم يكن له دراية بالشئون المالية،
وأنه يخدم أسس وأهداف الأعضاء فقد، ثم نقل نشاطه من مكاتب الجريدة إلى بيته في هليوبلس وقرر الامتناع عن نشاطه السياسي الذي لم يعد يلق قبولا من حزبه وما لبث أن تخلى عن رئاسة التحرير هي الأخرى في نوفمبر عام 1914وإن لم يتخل عن العمل السياسي فيما بعد.
يضاف إلى العوامل السابقة ركود الحياة السياسة على اثر تصريحات كتشنر المتكررة خلال عام 1912 ووصفه للمشتغلين بالأحزاب بأنهم مشاغبون كما أنه قد أبدى سروره من استهجان الأمة لفكرة تأليف ما يقوم على أنقاض ما اختفى منها ونصحه بعدم انتخاب رجال الأحزاب كما باشرت وزارة محمد سعيد (21/2/1910- 5/4/1914) إخماد أنفاس الأحزاب وتضييق السبل في وجودها وهناك ممن ينتمون للحزب من اختيروا لمنصب الوزارة كمحمد محب باشا وعبد الخالق ثروت باشا اللذين اختيرا لذلك بصفتهما الشخصية.
فصار الأول وزيرا للأوقاف والآخر وزيرا للحقانية في الحزب عطف من بقى من مؤسسيه. وأخيرا جاءت إجراءات الحرب العالمية وتشديد الرقابة وإعلان الأحكام العرفية لتضع حدا لكل نشاط حزبي ولتعطى من بقى على ولائه للحزب تبريرا معقولا لينصرف عنه أو ليمارس نشاطه في ثوب جديد داخل تجمع ولدته الأحداث.
على الرغم من ضعف حزب الأمة وتحلله كبناء سياسي إلا أن مبادئه واتجاهاته بما أصابها من مد وجزر ظلت تمارس في شكل تجمعات معينة أو من خلال نشاطات فردية، فشباب الجريدة يتقدمهم مصطفى عبد الرازق ، أخذوا على عاتقهم الاستثمار في الترويج لمذاهب الإصلاح، وقد روى الدكتور هيكل كيف أنه وأصدقاءه الكتاب الشبان لم يكونوا قادرين على الكتابة في السياسة المصرية ذلك أن الرقابة على الصحف كانت تحول دون ذلك، وحين تعطلت الجريدة لم يستطع وأصدقاءه أن يحطموا أقلامهم ومن ثم اتفقوا :
الشيخ مصطفى عبد الرازق وطه حسين ومنصور فهمي وعبد الحميد حمد وهو، على أن يشتركوا في تحرير جريدة السفور فصدرت السفور أسبوعية أدبية اجتماعية لا شأن لها بالسياسة، ولم تلبث أن أصبحت مدرسة للناشئين من الكتاب والكاتبات ومن الأسماء التي لمعت على صفحاتها إلى جانب من سبقوا، أحمد حسين الزيات، ومحمود تيمور ، وزكريا إبراهيم، وزكى مبارك وأحمدرامى وغيرهم. وقد انحصرت اهتمامات السفور في قضايا الإصلاح الاجتماعي ومعالجة الأفكار الأوربية الحديثة في هذا الصدد دون التعرض لمسائل السياسة من قريب أو بعيد.
أما رئيس حزب الأمة، محمود باشا سليمان فقد أشيع أن الإنجليز قد لوحوا له بسلطنة مصر بعد خلع الخديوي عباسا حلمي أثر اشتعال الحرب العظمى وأن الفكرة لم تجد لديه ترحيبا، بل لقد قيل أنه سارع حين هدد الإنجليز بتنصيب أغاخان سلطانا على مصر إلى إقناع الأمير حسين كامل بقبول السلطنة وكان قد أحجم عن قبول التغيير وربما لا يعتبر هذا صحيحا إذا عرفنا أنه قد شارك الثمانين وحق له أن يستريح من عناء العمل،
حتى لقد خرج من أمواله لأبنائه عام 1916 واعتزم عيش الزهادة والنسك، بيد أنه عاد مرة أخرى على الحياة العامة رئيسا للجنة الوفد المركزية وما اعتزل السياسة نهائيا إلا بعد أن انقسمت البلاد على بعضها.
أما لطفي السيد فحين عرض مشروع معاهدته على سلطات الاحتلال التي لم تكترث له، لم ير بدا من اعتزال السياسة والتقرب من السلطان والانطواء في سلك الوظائف، ولم يكن لطفي هو الوحيد الذي فكر في أمر البلاد بعد الحرب، بل كان التفكير عاما وكأنما أوحى للأمة بجميع طبقاتها أن حان وقت العمل لتقرير مصير البلاد،
فكانت جماعات كثيرة من طبقات الأمة المختلفة تفكر فيما يجب أن تعمله، وليست الجماعة التي تألف منها الوفد إلا إحدى هذه الجماعات الفت بين قلوبها روابط قديمة وزمالة في العمل وتقارب في التفكير ناشئ عن تقارب بين قلوبها روابط قديمة وزمالة في العمل وتقارب في التفكير ناشئ عن تقارب البيئة الاجتماعية.
بل لقد شغلت هذه المسألة وإن بدرجات متفاوتة وبمفاهيم متباينة، السلطان فؤاد يشترك فيها الكثيرون ، وقد أوشكت الحرب أن تنتهي وأخذت الصحافة تردد أخبار الصلح منذ أوائل أكتوبر عام 1918.
وقد روى لطفي السيد كيف اجتمع بأصدقائه سعد زغلول وعبد العزيز فهمي وعلى شعراوي ومحمد محمود وفكروا في الاستفادة بالمبادئ التي أعلنها الرئيس الأمريكي ويلسون، وكيف أنهم في نوفمبر عام 1918 بدأوا في تأليف الوفد وقد أيده عبد العزيز فهمي في هذه الراوية – وع اختلاف في الشكل- وذكر أن اجتماعاتهم توالت في بيت سعد واتفقوا على الأشخاص الذين يتألف منهم الوفد،
وأضاف إبراهيم الهلباوي إلى ذلك كله أنه انضم على هذه الجماعة مشترطا ألا يبرح مصر لأن اشتغاله في مكتبه ومزارعه لاتسمح بذلك وأنه نتيجة لذلك ظهرت فكرة أن يكون الوفد ذا شعبتين، شعبة تسافر إلى أوربا وأخرى تبقى باسم لجنة الوفد المركزية تكون بمثابة الصلة بين الوفد وبين الرأي العام بينما نسب الدكتور هيكل فكرة تأليف الوفد إلى حزب الأمة الذي انتهز جماعة منه فرصة الهدنة والصلح ففكروا في تكوين هذه الهيئة وأفضوا بفكرتهم إلى حكومة رشدي التي وجدوا منها ارتياحا لها ثم فاتحوا سعد زغلول باعتباره وكيل الجمعية التشريعية المنتخب وفاتحوا أيضا اثنان من رجال الحزب الوطني ( المكباتى وعلوبة) في هذا الأمر وعلى ذلك تألف الوفد المصري.
وفى 13 نوفمبر اجتمع في منزل سعد كل من على شعراوي ومحمد محمود وعبد العزيز فهمي ولطفي السيد واتفقوا على مقابلة ممثل انجلترا السير وينجت، وقر قرارهم على أن يذهب إلى دار الحماية سعد وشعراوي وعبد العزيز وأن يبقى محمد محمود ولطفي السيد ومحمد على علوبة في دار سعد في انتظار رجوعهم، وبذلك تكونت نواة الوفد الأولى من رجال حزب الأمة يترأسهم سعد زغلول الذي كان متعاطفا مع اتجاههم وإن لم يكن عضوا بالحزب، وقد قبلوا زعامته باعتباره وكيل الجمعية التشريعية المنتخب ليكسبوا وفدهم صفة النيابة عن الأمة.
أما شباب الحزب القديم الذين أصدروا صحيفة السفور فقد استقر رأيهم على تأليف حزب باسم " الحزب الديمقراطي" كان ذلك في أواخر عام 1918 أثناء المشاورات الجارية لتأليف الوفود عقب مقابلة 13 نوفمبر الشهيرة، وقد كشف محمود عزمي الستر عن فكرة تأسيس هذا الوفد ذاكرا أن الرغبة في عضوية الوفد هي التي ولدت فكرة إنشاء هذا الحزب لدى جماعة السفور،
حيث وجدوا أن أبواب الوفد مغلقة أمامهم وأن بوسعهم كحزب أن يمثلوا فيه. فحين قرروا أن يطلبوا إلى سعد زغلول أن يضم عمن هم فأخبروه بأنهم جماعة تنشر مبادئ الفكر الحر وتدل الناس على الحقائق سافرة فأجابهم سعد بأنهم ليسو حزبا سياسيا وأنهم لو كانوا كذلك لكان لهم شأن آخر.
وقد ألفوا حزبهم لذلك وجعلوا رئاسته دورية بين الدكتور هيكل ومصطفى عبد الرازق ومنصور فهمي ومحمود عزمي على أن يتولى سكرتاريته عزيز ميرهم وأمانة صندوقه سامي كمال، واتفق على أن يكون للحزب مجلس إدارة مكون من تسعة أعضاء، وقد بدا الحزب يعمل ولم تكن جمعيته السياسية قد زاد عددها على الخمسين أو الستين وكلهم من الشبان المثقفين القادرين أما مبادئ الحزب فهي تكمن في السعي إلى تحقيق الحرية والعدل وحق الأمم في تقرير مصيها.
ولا يرى الحزب بأسا إذا أصبحت مصر ذات سيادة أن تحالف دولة قوية منتصرة كانجلترا، أما الجانب الاجتماعي فقد اتفق على تحديد مجال للعمل فيه بين من يؤمنون بالدعوة إلى الليبرالية الاقتصادية يترأسهم هيكل ومن يؤمنون بالاشتراكية وعلى رأسهم عزيز ميرهم، مما يرضى كل فريق وزلا يعارضه الفريق الآخر.
وسرعان ما شرع الحزب في تنفيذ الهدف الذي أنشاء من أجله ولكن سعدا أبى تمثيلهم في الوفد وحاول جذب مصطفى عبد الرازق وحده إلى صفوف الوفد ولكن أسرته أبت ذلك" لاعتبارات عائلية" ولعدم الاطمئنان إلى صدق هذه الحركة" التي استأثر بها سعد زغلول" ولم نعرف لهذا الحزب نشاطا أكثر من بث الدعوة بين الشباب لمقاطعة لجنة ملنز،
كما كان من المطالبين بتولي عدلي يكن الذي ألف وزارة الثقة، هو ومن يختارهم مفوضة الإنجليز على أن يكون للوفد ولسعد زغلول الرأي الأخير في نتيجتها يدلون به إلى الأمة باعتبارهم وكلاؤها ، وأثناء مفاوضات عدلي – كيرزن عام 1921 وإزاء انقسام الأمة إلى سعديين وعدليين، انقسم الحزب الديمقراطي على نفسه انقساما كان من أثره أن حاول كل فريق أن يضم إلى الحزب أعضاء جدد يناصرونه،
وكان المثقفون الذين انضموا إليه من أنصار عدلي يكن لكن سكرتير الحزب ( ميرهم) كان أشد ميلا للوفد وقد انضم له في ذلك عدد من الأعضاء مما جعل التعاون بين أعضاء الحزب أمرا متعذرا فلم يلبث الحزب أن اضمحل وتفرق شمله.
ومما أتاح للمعتدلين تصدر الموقف أن كان زعماء الحزب الوطني منفيين أو معتقلين، يضاف إلى ذلك أن انجلترا قد خرجت منتصرة في الحرب وتزعمت العالم الاستعماري، فلم يكن من المتوقع أن يحقق المتطرفون الكثير من مطالب مصر عن طريق العنف، فكان من دواعي الحكمة أن يتقدم الصفوف المعتدلين وبخاصة من كان منهم على صلة طيبة بالسلطة الإنجليزية قبل الحرب.
فلما تألف الوفد برئاسة سعد كان أمين صندوقه على شعراوي وكيل حزب الأمة ما كان يضم بين أعضائه عبد العزيز فهمي ولطفي السيد ومحمد محمود يضاف إليهم المكباتى وعلوبة ولا يخفى أن الثلاثة الأول من كبار زعماء حزب الأمة،
وقد انضم إليه أيضا من هؤلاء محمد الباسل وسينوت حنا، وبهذا كان الوفد الأول امتدادا طبيعي لحزب الأمة أو هو طور ثان من أطواره، ولما قبض على سعد ورفاقه في 8 مارس 1919 ترأس على شعراوي الوفد وقدم ورفاقه برقية احتجاج إلى قائد القوات البريطانية في مصر ،
وعندما شكلت لجنة الوفد المركزية ترأسها محمود سليمان- رئيس حزب الأمة- وكان إبراهيم سعيد أمينا للصندوق ووكيلا لها ويشاركه في الوكالة محمود أبو حسين ، وهما من أقطاب حزب الأمة. كذلك كانت غالبية أعضائها من هذا الحزب وهذا يفسر لماذا كانوا يصرون على أن تكون وسائل الوفد سلمية ومشروعة، وقد تمثلت أوجه نشاط هذه اللجنة في جمع التبرعات على ذمة الوفد وإرسالها إليه وإبلاغه أخبار البلاد وإذاعتها في الأمة.
وكان الوفد يحمل في طياته تناقضات صارخة، ففي عام 1918 حين تكون لم يكن حزبا بالمعنى المفهوم،وإنما حركة سياسية لا تقيم وزنا للتناقضات الطبقية بل تجسد الأمة التي جمعتها الرغبة في التخلص من الإنجليز، وحين تعثرت مساعيه أمام مؤتمر الصلح، لجأت انجلترا إلى أسلوب " فرق تسد" وخفضت حدة حماسة بعض أعضاء الوفد، رجع كل إلى السعي بأسلوبه الخاص حين حاول تيار الاعتدال أن يفرض نفسه في حلبة السياسة المصرية،
وخصوصا أثناء مفاوضات سعد- ملنر، لكن سعدا بزعامته واتجاهه إلى الأمة فوت الفرصة على المعتدلين فكانت النتيجة أن تحولت الفئات التحى كانت تلتف حول حزب الأمة والجريدة إلى جانب عدلي يكن في صراعه الشهير مع سعد زغلول، حين خرجت على الوفد في أبريل 1921 مجموعة مكونة من على شعراوي ومحمد محمود وحمد الباسل وعبد اللطيف المكباتى ولطفي السيد ومحمد على علوبة وجورج خياط.
وكانت استقالاتهم متضامنة عدا على شعراوي وخياط وقد التفوا حول عدلي يكن أثناء مفاوضاته مع اللورد كيرزن، وشاركوه في استصدار تصريح 28 فبراير 1922 من جانب انجلترا، الذي اعترفت فيه انجلترا باستقلال مصر بتحفظات أربع لمفاوضات مقبلة، وعلى أثره تألفت وزارة عبد الخالق ثروت، التي حرصت على إصدار الدستور فضمت لجنة إعداده العديد من رجالات حزب الأمة كعبد العزيز فهمي وإبراهيم الهلباوي ومحمود أبو النصر على إصداره الاتجاه السياسي الجديد لهذه الجماعة المنشقة على الوفد والملتفة حول عدلي يكن، وكان العمل على إصدار الدستور وما يستتبعه من إجراء انتخابات برلمانية يقتضى من هؤلاء المعتدلين أن ينظموا صفوفهم لخوض المعركة.
ولما كانوا أصحاب الرأي والاعتدال والدبلوماسية فقد كان من الطبيعي أن يعتقدوا أنهم أبطال المرحلة التالية، مرحلة استكمال الاستقلال عن طريق المفاوضات، فضموا صفوفهم في شكل حزب وجمعوا عددا من كبار المصريين ، أكثرهم من أعضاء حزب الأمة القديم او من أبنائهم وذويهم، بالإضافة إلى لجنة الدستور وكثيرون من الحزب الديمقراطي وجمعية مصر المستقلة التي كانت قد تكونت من جماعة من الشبان يترأسهم الدكتور حافظ عفيفي، أثناء مفاوضات عدلي- كيرزن .
وكانت تؤيده فئ موقفه من هذه المفاوضات وقد وصف غربال حزب الأحرار الدستوريين بأنه نسخة من حزب قديم وصف بأنه يجمع بين جاه العلم والعقل وجاه العصبية والغنى ، وعموما أعلن حزب الأحرار عن نفسه في أواخر أكتوبر 1922 ليبدأ فترة جديدة في تاريخ مصر السياسي.
خاتمة
اختار أعيان مصر وأبناؤهم ، الطموحين للعمل السياسي، شكل الحزب لممارسة نشاطهم بأسلوبهم وسط طوفان الأحداث التي زخر بها عصرهم، وإن كانوا لم يعلنوا نيتهم منذ البداية، حتى يهيئوا الآذان والأذهان لذلك، ومن ثم اختاروا فكرة قديمة لمحمد عبده تمثلت في إصدار جريدة تتولى هذا الأمر، في الوقت الذي التقت فيه فكرتهم مع رغبة كرومر في العمل على إبراز فئة معتدلة من المصريين كبديل للمتطرفين من أنصار مصطفى كامل،
فلم يجد خيرا من هؤلاء العقلاء المعتدلين ذوى المصالح، فأيدهم كرومر حتى صدرت صحيفتهم لتنطق باسم أول جماعة حزبية مصرية منظمة أسمت نفسها بعد عدة شهور " حزب الأمة" وطرحت برنامجا إصلاحيا يرى الإصلاح هو الهدف الأساسي من أرضية الاعتراف بالأمر الواقع وعلى ضوء الممكن.
وقد ارتبط موقف الحزب من السلطتين بمدى اتفاقهما أو اختلافهما الأمر الذي أثر بشكل مباشر في مسلك الحزب إن لم يكن في حجمه وتكوينه وفترة بقائه، فعادى الخديوي عباس عداءه للطبقة التركية، حيث استغل الخديوي فرصة وفاقه مع جورست ليبطش بالحزب. أما موقف الحزب من الاحتلال وممثليه،
فقد كان موقفا " معتدلا" مما قد لا يتطلبه الموقف الوطني عادة على الرغم من أن جورست مثلا لم يكن بوفاقه معتدلا تجاه الأحزاب المصرية، وعلى الرغم من استنكار كتشنر واحتقاره للأحزاب المصرية عموما،
وإذا كان الحزب قد اعتبر نفسه صمام أمان للحركة الوطنية وأن بوسعه باعتداله كبح جماحها، فإن ذلك لم يفد الحركة الوطنية بشكل عملي أو مؤثر ، كما أنه – إحقاقا للحق- لم يدفع بالحزب إلى معسكر خصوم الحركة الوطنية، وإن بدا أحيانا كذلك،
بل لقد قام الحزب بدوره بشكل عام في إطار الحركة الوطنية المصرية بأموال أعيانه وبعقول مثقفيه، ولم يشب حركة السياسة إلا تغليب المصلحة الضيقة على المصلحة العامة- وهذا يبدو طبيعيا في بعض الأحيان- الأمر الذي أوهن بعض صفوف الحركة ، وأدى إلى تخاذل الحزب أحيانا عن متابعة دعوة بدأها أو حماسة أبداها.
وعموما انعكست مواقف الحز وعلاقاته على نظريته عن الاحتلال والجلاء، فالاحتلال نازلة من السماء لا يملك لها المصريون دفعا ومن ثم وجب عليهم الاستفادة من بقائه، وافترضت جريدة الحزب لذلك قاعدة للتعامل معه من هذا المنطق، تتبنى إعداد الأمة بكفاءات الاستقلال مع التدرج والاعتدال والاعتقاد في صدق نوايا بريطانيا ولم يعرف لأحد من كتاب الحزب أو المعبرين عن أفكاره خروجا على هذا المعنى بشكل له دلالة بما يعد تطورا لذلك المفهوم، فطرح هذا في برنامج الحزب الذي ظل يعمل على تحقيقه طوال فنرى حياته دون أن يتجاوز ذلك، ولعل هذا يقود إلى التساؤل عن كيفية ومدى الحزب في مهمته؟.
رغم التمثيل الكبير – نسبيا – للحزب في الهيئات النيابية،إلا أن أعضاءه لا يمكن اعتبارهم هيئة برلمانية للحزب، كما لم يستطيعوا بحال قيادة معارضة باعتبارهم حزب الأمة، وإن كانت خلافاتهم مع الحكومة قد تمت من خلال مواقف تبدو شخصية أثرت علاقة الحزب بالسلطتين في تحريكها، وقد اتضحت كذلك من خلال تعبيرهم عن خصومتهم للحزب الوطني في الوقت الذي لم تكن هناك معارك برلمانية بين الأحزاب حول المسائل العامة،
ربما لأن أحزاب هذه الفترة لم يكن بوسعها أن تخوض معارك انتخابية- بالمعنى الحزبي- للتمثيل في هذه الهيئات، ولعله اتضح كذلك أن مطلب الحزب النيابي الذي يقرر السعي لتوسيع اختصاصات الهيئات القائمة وصولا إلى المجلس النيابي المنشود لم يقدر له، على تواضعه ،أن يتم بالشكل الذي ابتغاه الحزب وذلك لنكوص أعضائه عن النضال لتحقيق هذا الهدف، رغم دعوة جريدته إلى تحقيق المطلب وتطويره،
ولأن المجلس النيابي تام السلطة صار مطلبا راديكاليا للحركة الوطنية المصرية على إطلاقها، الأمر الذي أدى على اقتلاع كافة المحاولات المتواضعة والمبتسرة. أما الوجه الآخر لاستقلال مصر، والذي أثاره الحزب بشكل إيجابي وهو قضية السيادة العثمانية على مصر، فإن رفض مؤسسيه لهذه السيادة، من بواكير نشاط الحزب وربما كان صحيحا ، أن صدور صحيفة الحزب – وجهة نظر أصحابها- أول موقف عملي تجاه رفضهم لممارسة الدولة العثمانية سيادتها على مصر.
يؤيد هذا المعنى ما سعى إليه الحزب ، بأقلام مفكريه وصحافييه من تنمية مشاعر الوطنية المصرية أو الجامعة المصرية- بتعبيريهم – كبديل للجامعة الإسلامية التي كانت سائدة في عصرهم، وقد قام مفكروا الحزب بجهد واع في إذكاء هذه المشاعر وإضفاء الصبغة القومية على أحاديثهم وكتاباتهم ،
كما دأب صحافيوه على إبراز الهوة بين مصلحة مصر ومصلحة الدولة العثمانية، متخذين من أحداث الدولة الداخلية والخارجية مناسبات لذلك بدء بحركة تركيا الفتاة( 1908) وحتى حروب الدولة في طرابلس والبلقان، حتى لقد بدا الحزب وحده في هذا الميدان حين أبان عن موقفه في مسألة استقلال مصر ( التام والكامل) الأمر الذي صدم مشاعر الرأي العام المتعاطف دينيا مع دولة الخلافة.
وفى المجال الفكري استطاع كتاب الحزب، هن طريق إيمانهم بأهمية الفكر الأوربي بالنسبة لمصرن أن يقدموا العديد من الترجمات لمنجزات هذا الفكر في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية مساهمين بذلك في قضية تحديث مصر،
وقد تطور دورهم فيما بعد للدعوة إلى تنمية الروح المصرية تأكيدا لمعنى القومية، التي لعبوا دورا غير منكور في إحداث التحول نحو تبلور كامل لفكرتها، كما ربطوا بين الاقتصاد والسياسة وعرضوا لنظرية الحرية الاقتصادية أو الاقتصاد الحر، كما استطاع مفكره الأول، لطفي السيد، عرض المذهب الليبرالي أو ما أسماه " بالليبرالية" داعيا بذلك إلى فتح أبوبا الحريات- الصحافة والقضاء والاجتماع ونحوها- على مصراعيه.
وقد دعم مفكروا الحزب الآخرون فكرة إنشاء بنك وطني وربطوا بين الاستقلال الاقتصادي والاستقلال السياسي ، وكان لطفي السيد أول مصري دعا مواطنيه إلى شراء الدين المصري .
وفى مجال الصناعة اتخذت جريدة الحزب أسلوبا ترشيديا دعا فيه كتابها إلى إقامة حماية جمركية للصناعة المصرية بعد قيامها مع الاهتمام بشكل واسع بالتعليم الصناعي، وإنشاء النقابات الزراعية على ألا تكون للحكومة يد فيها، ومن ثم كان أمرا طبيعيا أن يقف مفكرو الحزب بشكل عام ضد فكرة الاشتراكية مهاجمين إياها ومعبرين عن إيمانهم بالمذهب الفردي وحرية الاقتصاد،
وفى المجال التعليمي فرغم اقتصار الحزب على تبنى دعوة الاهتمام بالتعليم الأدنى أو بالكتاتيب ، إلا أن إسهامه الحقيقي كمن في دعوته إلى تطوير التعليم من ناحية الكيف بعرض كتابه لأحدث نظريات البيداجوجيا واقتران الدعوة إلى تعريب التعليم بالدعوة إلى تنمية الروح المصرية .
وبالتالي قصة الاستقلال، أما بالنسبة لقضية المرأة فقد كان مفكرو الحزب أصحاب باع طويل في الدعوة إلى تحريرها، وتدعيم ثروة نحو هذا التحرر، وإن كان تعضيدهم لأفكار قاسم أمين قد جاء متأخرا ( 1908) وقد شهد نادي حزب الأمة أنموذجا عمليا لهذه الدعوة حين فتح أبوابه للمرأة المصرية خطيبة ومستمعة، وحين قدم بعض كتابه برامج إصلاحية تضمنت الدعوة إلى جعل الطلاق وتعدد في يد القاضي.
وأخيرا وليس آخرا فقد كان لاحتلال تركيب الحزب بانصراف الأعيان عنه لأسباب تتصل بمدى ثقافتهم ووعيهم أو لأسباب ترتبط بعلاقاتهم بمركز السلطة، وبالتالي عزوفهم عن تقديم العون المادي للحزب، وكذلك انصراف فئة الموظفين عنه، بالإضافة إلى ركود حركة الأحزاب السياسية في عهد كتشنر،
كما جاءت إجراءات الحرب العالمية الأولى من حماية ورقابة وأحكام عرفية، لتوقف كافة الأنشطة الحزبية فى مصر وقد دب في أحزابها الوهن، الأمر الذي صرف الأنظار عن حزب الأمة والذي انتهى بدوره كحزب سياسي، ليظل من بقى على ولاء لمذهبه السياسي وأسلوبه في انتظار ما تسفر عنه الحرب ليمكن ممارسة العمل السياسي على ضوء التغييرات الجديدة وفى أثواب جديدة، تجمعات كانت أو أحزابا .
حتى لقد أصبح من أهم منجزات حزب الأمة- باعتباره حزب طبقة- هو تهيئة المناخ لأبنائه الشباب حيث احتازوا من الدربة السياسية ماأهلهم لأن يكونوا ساسة المستقبل وأن يمسكوا بأزمة المستقبل السياسي لمصر بعد أن وضعت الحرب العظمى الأولى أوزارها.