ثورة اللاعنف
بقلم: د. فتحي أبو الورد
في تقديري أن قوة الإخوان ليست نابعة من عدد المنتمين لهيكلهم التنظيمي، وإن كان العدد عاملا من عوامل القوة بلا شك، ولكن أبرز مواطن القوة لديهم – فيما أراه - تكمن في منهجهم الوسطى، واعتدالهم الفكري، ومشروعهم الحضاري للنهضة، وتغلغلهم في نسيج المجتمع ومكوناته، ونضج سلوكهم الاجتماعي، وخطابهم العصري المتجدد، وانفتاحهم على المستجدات الحياتية، ومعرفتهم للواقع، وقربهم من الناس في الشارع، ووقوفهم على حاجاتهم، والعمل على تقديم خدمات لهم في حدود إمكاناتهم، الأمر الذي يرونه واجبا دينيا والتزاما أخلاقيا، بعيدا عن أي توظيف سياسي يحلو للبعض أن يروج له كذبا وبهتانا، وهذا ما كتب لهم الانتشار والقبول.
هذه المعطيات الدينية والأخلاقية والفكرية والاجتماعية مثلت نسيجا حضاريا جاذبا جعل الكثيرين من الناس يلتفون حولهم، ويقتنعون بمنهجهم، ويؤمنون بسمو غايتهم، ويتعاطفون مع فكرتهم، مما شكل منهم قوة كبيرة محليا وعربيا من مختلف شرائح المجتمع، حتى وصفهم البعض بأنهم أكبر قوة سياسية فعالة في العالم العربي.
وهذه هي المعادلة التي حيرت الغرب في التعامل مع الإخوان، فهم يملكون أمرين:
- الأول: القوة المجتمعية والشعبية التي تجبر الغرب في نهاية المطاف على التعامل معهم.
- الثاني: الانفتاح والعقل والحكمة التي تجبر الغرب أيضا على التعامل معهم.
ولهذا فلن يستطيع الغرب أن يتجاوز الإخوان على الأرض إلا أن يشاء الله، كما أن إقصاءهم تماما عن الساحة أصبح ضربا من الخيال، وحلما بعيد المنال.
ويتخذ الإخوان الصبر والنفس الطويل عدة في صراعهم مع أعداء الأمة في الداخل والخارج.
ويخطئ البعض حين يتعامل معهم على أنهم ملائكة أولو أجنحة مثني وثلاث ورباع، لا يخطئون ولا يسيئون، ويجلدهم على النقير والقطمير، ويكبر الصغيرة، ويعظم الحقيرة، والمنصف من يتعامل واقعيا معهم على أنهم بشر يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، يجتهدون فيصيبون ويخطئون، يحسنون ويسيئون، دون تعمد الخطأ أو الإساءة، ويستفيدون من أخطائهم ويعملون لصالح أوطانهم قدر الاستطاعة.
ولا أدّعي شيئا جديدا إذا قررت أن العنف ليس من وسائل الإخوان في التغيير، كما أن انتهاج العنف يعد أكبر هدية تقدمها جماعات العنف للغرب الموتور الحانق على الإسلام والمسلمين، إن لم يكن له دور أصلا في وجوده ورعايته، فيندد بالعنف ويدينه في العلن، وفي الوقت ذاته يدعمه في السر، ويريد له أن يزيد ويستمر.
ومن الأقوال الحكيمة لصاحب التجربة الهندي المهاتما غاندى: "إن اللاعنف هو أعظم قوة متوفرة للبشرية، إنها أقوي من أقوي سلاح دمار صنعته براعة الإنسان ". ومن ثم كان قرار سلمية الثورة في تقديري قرارا حكيما، وكانت السلمية بحق أقوي من الرصاص، لأنه في ظل العنف تضيع الحقيقة، ويستوي الظالم والمظلوم، والجاني والمجني عليه، والجلاد والضحية، في ظل نظام دولي أعور، يري بعين ما يروق له، أما ما لا يريد أن يراه، فعينه العوراء مصوبة نحوه، وغالبا ما يمثل العنف طوق نجاة للقاتل ينتظر من معارضيه سلوكه بفارغ الصبر، لأنه البديل له عن طوق المشنقة الذي ينتظره بعد الصبر عليه، وإفشاله وتهييج الرأي العام الداخلي عليه.
وفارق كبير بين العنف وحق الدفاع عن النفس المشروع، فهذا مما اتفقت عليه سائر الشرائع السماوية والقوانين الوضعية، ويسع الفرد ما لا يسع المجموع.
ولأن حركة الإخوان المسلمين تنبذ العنف منذ نشأتها، وتعلم الأنظمة المتعاقبة ذلك جيدا، فقد كانت الأجهزة الأمنية في نظام المخلوع مبارك تستحث الإخوان على إصدار البيانات التي تدين العنف، وتندد بحوادث قتل السائحين، ولأن الإخوان ينطلقون في مواقفهم من دين، ويصدرون في تقييمهم للأمور عن خلق، فقد كانت البيانات تصدر في غاية الإنصاف والاتزان، فتندد بالعنف، وتدين قتل السائحين المستأمنين لأنه مرفوض شرعا، ولكنها في الوقت ذاته كانت تدين عنف الدولة، وتهيب بالظالم أن يكف يديه عن المظلوم، وأن يرفع الجلاد سوطه عن الضحية، وتدعو إلي إزالة أسباب العنف، وفتح أبواب الحريات، وتنصح بأن العلاج الأمني مع جماعات العنف، والفكر المتشدد ليس حلا، ولن يؤدي إلي استقرار، وأن الحوار هو الأصل في معالجة اللوثات الفكرية، والشطحات العقلية.
ومن ثم كانت البيانات التي تصدر بمثل هذا التوازن والتعقل والإنصاف والطرح الموضوعي لآفاق الحل، تسوء الأجهزة الأمنية أكثر مما تسرها.
وقد كان للإخوان في هذا النهج سلف وأسوة في إمام الهدي رابع الخلفاء الراشدين، على بن أبي طالب، حين ظهرت مشكلة الخوارج في عهده، ورأي أن الآفة الكبرى التي أتوا منها، ووقعوا فيها، هي الآفة الفكرية، فآثر أن يسلك معهم سبيل الحوار، وينتهج معهم نهج المحاججة والإقناع، فأرسل إليهم عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن، فحاورهم ونافشهم، وفند شبهاتهم، فرجع منهم أربعة آلاف.
ولما شارك الإخوان في مؤتمر عن العنف والإرهاب بدار الحكمة في التسعينيات ضمن نخبة كبيرة من رجال الفكر والسياسة في مصر، وشارك فيه مساعد وزير الداخلية حينها اللواء بهاء الدين إبراهيم، والأستاذ مصطفي مشهور، والدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، والدكتور عصام العريان، والبابا شنودة وآخرون، وكان يدير المؤتمر الدكتور أحمد كمال أبو المجد، جاءت كلمات الإخوان لتدين العنف والإرهاب بكل صوره وأشكاله، سواء كان من الأفراد أو الجماعات، أو الحكومات، واقترح البعض على الإخوان كما أصدروا كتاب " دعاة لا قضاة " الذي يعد وثيقة للجماعة لرفض فكر التكفير، أن يصدروا وثيقة أخري مماثلة لرفض العنف والإرهاب بكل صوره مع تحديد دلالة المصطلحات.
ومنهج الثورات الشعبية ضد المستبدين عبر التاريخ، أنها تسلك طريق التمدد والانتشار والإرباك والإنهاك والإفشال للنظام المستبد، وتعمل على توسيع رقعة الغضب والسخط، وتهييج الرأي العام ضد الظلم والفساد، وإيقاظ المغيبين والمخدرين، وكسب فئات جديدة تقتنع بعدالة القضية، والعمل على كسر الرعب، وإماتة الخوف داخل النفوس، وإسقاط هيبة النظام المستبد، والاستمرار والابتكار في وسائل الاحتجاج والاعتراض، من خلال نواة صلبة تمثل العمود الفقري للحراك الثوري، حتى تصل جموع الثوار إلي ما يسمي بالكتلة الحرجة، وتعني الوصول إلي المرحلة
التي يتم فيها التفاعل المستمر من دون توقف. ويذهب بعض الباحثين في تاريخ الثورات إلي أن الكتلة البشرية الفاعلة المطلوبة لإحداث تغيير ثوري تتراوح ما بين 2% إلى 5 % من عدد السكان.
وعند الوصول إلي نقطة معينة يخرج الأمر عن نطاق السيطرة، وتهب الجماهير الثائرة لا يقف أمامها شيء، فتسقط قلاع الاستبداد وأدواته، في مرحلة حاسمة، ينهار فيها النظام بأسرع مما كان يتصور الثائرون، وعند الصباح يحمد القوم السرى.
هذا هو الطريق الأسلم والأوثق لنجاح الثورات من انتهاج سبيل العنف أو عسكرة الثورة وتسليحها، وإن ظن البعض أنه الطريق الأطول، وهو رغم التضحيات الكبيرة التي يقدمها الثوار طوال مسيرة الثورة في مرحلة الصمود والاستمرار والمقاومة السلمية المبدعة في صبر - وهم يقبضون على الجمر - إلا أنه الطريق الأخف ضررا، والأقل كلفة، والأضمن نجاحا، مقارنة بما إذا تم عسكرة الثورة، وتسليح الثوار، فضلا عن فقدان الثوار لجزء من الحاضنة الشعبية التي كانت تساندهم، حال انتهاج العنف، وكذا فتور التأييد الدولي من بعض الدول والشعوب المحترمة التي كانت تؤيد الثورة والثوار، واختلاط الأمر بين الظالم المستبد، والثوار المسلحين، وإعطاء مبرر لقوي الاستكبار العالمي للتسوية بين الضحية والجلاد، فتضيع الحقيقة، وتجهض الثورة، وتذبح القضية تحت سكين الأمم المتحدة بقراراتها، وبياناتها، ومنابرها، ومؤسساتها.
المصدر
- مقال:ثورة اللاعنف موقع: إخوان الدقهلية