ثمن الاقتراب من السلطة
ثمن الاقتراب من السلطة ..... بقلم / د. رفيق حبيب
المتابع للمشهد المصري الراهن، يلاحظ بلا شك تلك التصنيفات الواضحة في الساحة السياسية - بل وفي المجال العام عموماً - والتي تُمَيِّز بين من مع السلطة ومن ليس معها! أو من يتبع السلطة ومن لا يتبعها، ومن يؤيد السلطة ومن يعارضها بصدق. وتلك التصنيفات ليست في حالتها العادية، ففي كل نظام سياسي، هناك من يحكم وهناك من يعارض، ولكن الوضع في الشارع المصري الآن اختلف عن هذا التصنيف السياسي التقليدي. فصورة النظام الحاكم في عيون رجل الشارع وصلت لمرحلة من الرفض شبه الكامل، ومع تزايد سلبية صورة الحكم لدي رجل الشارع، أصبح الاقتراب من هذا النظام الحاكم كافياً للدخول في تلك الصورة السلبية،
ولأن المسألة ليست فقط صورة سلبية، بل هي نوع من الرفض العميق والمصاحب له كراهية عميقة أيضا، لذا يصبح كل من يقترب من السلطة له نفس صورة السلطة لدي الناس، والتي يبدو أنها تقترب من صورة العدو! وتلك الحقيقة لها تأثير كبير علي الواقع الراهن، كما أن لها تأثيرا كبيرا علي فئات المجتمع المختلفة، وبالتالي سيكون لها تأثير كبير في المستقبل.
والواقع لا يشير إلي أن الناس تكره السلطة الحاكمة بسبب بقائها في الحكم، وعدم قدرتها علي تأسيس شرعية ديمقراطية لحكمها، ولكن الغالب أن الناس تكره السلطة الحاكمة؛ لأنها تري فيما تقوم به السلطة من سياسات وتصرفات، ما يلحق بها الضرر. كما أنها لا تجد حلاً لأي من مشاكلها لدي تلك السلطة الحاكمة، وبالتالي لا تتوقع تحسن مستقبلها من خلال ما تقوم به السلطة من خطط وسياسات. كما تري أن وضعها الإقليمي والدولي لا يناسبها، أو أنها لا تعتز به، ولا تفتخر به، ولذا فإنها لا توافق الحكم علي ما يقوم به في سياساته الخارجية. وبجانب كل هذا، يري الناس كيف تزداد الفئة الحاكمة ثراء، بصورة غير واقعية وتدل بشكل مباشر علي إساءة استخدام السلطة والنفوذ في تحقيق المكاسب وتراكم الثروة. وهو ما يعني ضمنا أن حق الناس في المال العام يتم الاستيلاء عليه، ولو بصورة قانونية لصالح فئة محددة، رغم أنه مال الناس جميعا. ومع تزايد الفساد وقضاياه، تبدو الصورة واضحة لدي عامة الناس، وهي تشير بوضوح إلي أن علاقة الثروة بالسلطة في مصر قد أدت إلي نوع من شبكات المصالح القادرة علي توزيع الثروة فيما بينها، وهضم حق الناس في ثرواتهم. وفي المجمل، نتصور أن الناس تكره النظام الحاكم، بل وتعتبره عدوا لها، لأنه لا يحقق مصالحها، ولا يحقق لها الحياة التي تتمناها.
وهذا الموقف الذي نتصور أنه سائد بين الناس، أصبح في الحقيقة موقفا عاما من كل من يقترب من السلطة، بحيث لم يعد لدي الناس أي شك في أن من يقترب من السلطة لا بد أن يكون مثلها، في الرغبة في التسلط وامتلاك الثروة. وكأن كل من يقترب من السلطة لا بد وأن يكون مستبدا وفاسدا، وإلا فلن يقترب منها. وتلك الصورة في الواقع لها تأثيرات كثيرة علي الحياة العامة في مصر، كما أن لها تداعيات كبيرة علي شريحة مهمة من فئة النخبة المصرية. والبعض من النخبة المصرية الملتحقة بالسلطة، راغب فعلا في تقوية سلطته وجاهه وماله، والبعض الآخر يلتحق بالسلطة ليحمي أمواله، والبعض يلتحق بها حتي لا يتهم بأنه من المعارضة، والبعض يلتحق بالسلطة حتي يسمح له بالعمل علي نطاق واسع في مجال المال والأعمال، وفي كل الحالات تكون النتيجة واحدة، فكل من يلتحق بالسلطة يصبح منها. وهو يصبح من نخبة السلطة من أكثر من جانب، فهو يصبح جزءا منها في نظر الناس، وتلك أهم نقطة، ولكنه في الوقت نفسه يصبح جزءا من نخبة السلطة؛ لأنه سوف يتحول إلي العمل بقواعد النخبة الحاكمة، والتي تربط وجود أي فرد بداخلها بدخوله في شبكة المصالح الخاصة بها. وسواء كانت شبكة المصالح نوعاً من التربح أو الفساد، فهي في كل الحالات شبكة تحتكر الثروة في مصر. ولهذا لا يجوز لمن يدخل النخبة الحاكمة، أن يكون متفرجا، أو أن يعمل وفقا لقواعد خاصة به، أو يحاول أن يكون أفضل من غيره من المنتمين لتلك النخبة. فلا يمكن أن تسمح النخبة الحاكمة لأحد بأن يكون عينا عليها، يعرف الكثير عنها، ولا يشاركها فيما تقوم به من عمليات للسيطرة علي السلطة والثروة. ومعني هذا أننا أمام نظام لا يسمح بأن يكون من بين نخبته، من هو ليس علي شاكلته، وكل من يدخل داخل النخبة الحاكمة، يلتزم بأن يكون علي شاكلتها. فمن يرفض استبداد النخبة الحاكمة، ويدخل فيها، لا يمكن له أن يستمر إلا إذا وافق النخبة الحاكمة علي استبدادها، بل وأيده وسانده بالقول والفعل. ومن يرفض الفساد المنتشر داخل النخبة الحاكمة، ويحاول أن يجعل نفسه بعيدا عنه، ويحاول رسم صورة لنفسه تجعله بمنأي عن أن يوصف بالفساد، لا يمكن له أن يستمر وهو يحاول أن يكون في موقف يدين النخبة الحاكمة، ويقف هو في موقع البراءة مما يحدث في داخلها، ولذا لا يمكن له البقاء داخل النخبة الحاكمة إلا إذا تورط فيما تتورط فيه، أو علي الأقل برَّأ النخبة الحاكمة من أي شيء يدينها. لا ننفي بالطبع وجود حالات استثنائية، ولكن الغالب علي النخبة الحاكمة، أنها تحاول ربط كل من ينتمي لها، حتي يتعلق مصيره بها ولا يستطيع أن يخرج عنها. فمن الواضح أن النخبة الحاكمة في مصر لا تقبل أن يدخلها أحد ثم يخرج منها، أو يخرج عنها!
تلك هي مشكلة كل من يقترب من السلطة الحاكمة في مصر، وكل من ينضم إلي نخبتها. فهو في كل الحالات يُنْظر له بصورة سلبية من قبل عامة الناس، ويصبح في نظرهم مستفيداً ومتربحاً من قربه للسلطة. فهو محكوم عليه بمجاراة النخبة الحاكمة، إذا كانت تلك رغبته أو لم تكن. وحتي يحافظ لنفسه علي صورة إيجابية لدي الناس، لا يكفي أن يكون بالفعل نزيها وشريفا، بل عليه أيضا أن يكون بعيدا بقدر معقول عن نخبة السلطة والثروة، وهو ما سيؤدي للضغط عليه من النخبة الحاكمة، لأنها لا تتحمل ذلك الموقف الذي يبدو مستقلا عنها بدرجة ملحوظة. وهذه المشكلة تؤدي في النهاية إلي توحد صورة كل من يقترب من السلطة، مع الصورة السائدة عن تلك النخبة الحاكمة، والناتجة من ممارستها الفعلية كما يراها الناس. وهذا الأمر ينطبق علي الكثير من الأفراد المنتمين للنُّخَب بكل أنواعها. فالنخبة الثقافية القريبة من السلطة، والنخبة الاقتصادية والمالية، مثلها مثل النخبة السياسية المعارضة، كلها في النهاية تقترب من السلطة بمقدار يري الناس أنها أصبحت جزءا لا يتجزأ من النخبة الحاكمة، وبالتالي تسري عليهم أحكام عامة الناس علي تلك النخبة.
هنا يظهر الاختيار الحاسم بالنسبة للشرائح الممثلة للنخب في المجتمع المصري، فلم يعد أمامها إلا اختياران لا ثالث لهما، فإما أن يكونوا جزءا من نخبة الحكم وتنطبق عليهم تصورات الناس عن تلك النخبة، أو يكونوا بعيدين عن تلك النخبة، ويكونون أقرب للناس منهم إلي النخبة الحاكمة. ورغم صعوبة الموقف لمن لهم مصالح ترتبط بأجهزة الدولة، خاصة أن السلطة لا تحب أن يكون هناك من يصل لمقام متميز في مجاله ويكون بعيدا عنها، خاصة بالنسبة لرجال الاقتصاد والمال، إلا أن الوضع الراهن للنخبة الحاكمة لم يعد يتيح أي خيارات أمام نخبة المجتمع، فإما أن تكون جزءا من نخبة الحكم أو أن تكون جزءا من نخبة المجتمع، ولم يعد من الممكن الجمع بين الموقفين! ومن يختار نخبة الحكم سيرحل معها، ومن يختار نخبة المجتمع سيبقي معه، فالمجتمع هو الباقي في النهاية.
المصدر : نافذة مصر