ثقوب في جدران الإخوان المسلمين .. الحلقة السابعة

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
ثقوب في جدران الإخوان المسلمين..


(الحلقة السابعة)


إخوان ويكي

المحنة وفتنة التأييد والانشقاقات

شهدت الفترة التي تلت ثورة 23 يوليو أحداث كثيرة، حيث كشف العسكر عن وجوههم الحقيقية وأنهم لن يتخلوا عن السلطة بسهولة، سواء رضخ الإخوان لمطالبهم أو ظلوا معاندين لتوجهات العسكر، ولذا كان الصدام الحتمي بين الطرفين، وأجج هذا الصراع اختلاف الفهم لدى العديد من قادة الإخوان الذين رأوا أن مصلحة الجماعة في السير في ركاب قادة الثورة العسكريين وعدم الصدام معهم

والتعاون مع هيئة التحرير التي أسسها عبد الناصر، وبرزت الانشقاقات والاختلافات والأحداث المأساوية داخل الجماعة حتى تطور الوضع باحتلال بعض الأفراد للمركز العام والهجوم على المرشد العام في بيته من قبل البعض، ومع ذلك ظلت كل هذه الأخبار لدى عبد الناصر عبر بعض الإخوان وقادتهم.

لم يحسن الإخوان وقوى المعارضة وبعض الأسلحة في الجيش استغلال المظاهرات التي خرجت لتعيد محمد نجيب مرة أخرى لكرسي الرئاسة، في مارس 1954م حيث استطاع - وبذكاء- عبد الناصر أن يسير الأمور وفق ما يراه ولصالحه ومجموعته حتى كان الترتيب الكبير الذي لم يعلم به قادة الإخوان بمكتب الإرشاد وهو تجهيز عبد الناصر لتوجيه ضربه قوية وقاصمة للإخوان – في ظل تهليل الشعب لما يقوم به - وبالفعل كانت أحداث المنشية يوم 26 أكتوبر 1954م

والتي على إثرها نصبت المحاكم العسكرية بجميع درجاتها ووقف قادة الإخوان وأعضائهم أمام قضاة من العسكر يدلون بأقوالهم حتى أن بعضهم – للأسف ذكر أشياء كثيرة تضره وتضر الآخرين في سبيل النجاة وهؤلاء معظمهم من انشق بعد ذلك- حتى كانت الأحكام الشديدة التي اهتزت فرائص البعض منها وقد رأينا كيف غير الدكتور عبد العزيز كامل وجهته لينجو من ويلات التعذيب والسجون. انتهت المحاكم واختتمت جولاتها وسيق من حكم عليهم إلى السجون المختلفة في ربوع مصر، ونقل القادة وأصحاب الأحكام الكبيرة إلى سجن الواحات.

لم يتوقف تفكير عبد الناصر عن محاولة كسر شوكة الإخوان فكانت التعليمات محاولة كسر شوكة الإخوان والرضوخ لمطالب الحكومة، وهو ما دفع عبد الناصر لوصف ثبات الإخوان في خطابه أمام المؤتمر الطارئ في أعقاب انتفاضة الطلبة والعمال في فبراير سنة 1968 بأنهم "الجيش العقائدي للإخوان المسلمين"، أو علي حد تعبير حسن طلعت مدير المباحث العامة ، عند اجتماعه بهم بمعتقل طره السياسي عام 1969 ، علي رأس خمسة عشر عامًا من السجن والاعتقال لإرغامهم علي التأييد : أمازلتم ترفضون الخروج ، وتأبون الاستجابة لمطالبنا حتى اليوم ؟ .. ما هذا الجبروت؟. (1)

لكن في قلب الصحراء حيث البعد عن الأهل، ومع مرور الأيام بدأ الحنين يخالج البعض وعلى رأسهم الضباط المحبوسين، حتى فكر البعض منهم في الهرب لكن الفكرة لم تلق ترحيب. كان كل ذلك وعيون رجال المباحث على الإخوان في محاولة شق الصف، فبدأوا بترويج فكرة الإفراجات القريبة، ورغبة عبد الناصر في إنهاء هذا الأمر حتى أنهم خففوا القيود على الزيارات، وعن الأهالي، مما جعل النفوس تتوق للحرية، وأصبحوا على أحر من الجمر في انتظارها، ثم بدأوا المرحلة الثانية حيث أخذوا يبثون روح الوهن في نفوس المعتقلين

كما أشعلوا جذوة الوطنية في نفوسهم خاصة أثناء القضايا الوطنية مثل تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر، وهو ما جعل البعض – ومنهم قادة من الإخوان- في التفكير بتأييد عبد الناصر من باب الوطنية – كما صور لهم رجال المباحث- يقول حسين حمودة: استمعنا لخطاب جمال عبد الناصر يوم 26/ 7/ 1956 والذي أذاعته محطة القاهرة على الهواء مباشرة وفوجئنا بإعلان جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس.

وكان تأميم قناة السويس حلما يراود شعب مصر وعملا جريئا قام به عبد الناصر وهو عمل وطني مائة في المائة. وعلى أثر هذا القرار التاريخي قررت إرسال برقية لعبد الناصر أعلن تأييدي له في هذه الخطوة الوطنية المباركة. فتشاورت مع فؤاد جاسر وجمال ربيع فوافقا معي على إرسال البرقية وطلبا قبل إرسالها أخذ رأي كبار الإخوان من أعضاء مكتب الإرشاد الموجودين معنا في السجن وحبذا إصدار بيان من الإخوان بتأييد جمال عبد الناصر في هذا الموقف الوطني الجريء.

فتناقشنا مع أعضاء مكتب الإرشاد في موضوع تأميم القناة وحبذنا إصدار بيان من الإخوان لتأييد الحكومة في موقفها فكان رد أعضاء مكتب الإرشاد أن تأميم القناة عمل وطني وجرئ لاشك فيه ولكن إرسال برقية تأييد ونحن مسجونون قد يفسرها عبد الناصر على أنها نفاق أو ضعف لاستجداء الإفراج عنا ولكن الوضع يختلف لو كنا أحرارا خارج السجون.

ولم يأخذ برأي مكتب الإرشاد الدكتور خميس حميدة وكل الجماعة وأصدر بيانا قرأه على الإخوان الموجودين في السجن أيد فيه الحكومة في موقفها الوطني من تأميم القناة. وقال إن فقهاء المسلمين أفتوا بأن الحاكم الظالم لودعا المسلمين إلى الجهاد معه لرد أعداء الله وجب على المسلمين أن يجاهدوا أعداء الله معه ورفض باقي أعضاء مكتب الإرشاد فكرة تأييد الحكومة وهم داخل السجن

وقالوا إن هذا التأييد ذلة لا يرضونها لأنفسهم ولقد رأى كثير من شباب الإخوان أن تأييد حكومة عبد الناصر في موقفها الوطني لا غبار عليه من الوجهة الشرعية وقالوا نحن ننسى التعذيب الوحشي والمحاكمات الظالمة وآلام السجن والنفي في سبيل مصر التي تتعرض الآن لخطر العدوان عليها من الدول الاستعمارية.

وكتب المؤيدون للحكومة في موقفها الوطني تأييدا للحكومة سلمته للصاغ بهجت يوم 14/ 9/ 1956 هذا نصه.

السيد رئيس الجمهورية

بدافع من إيماننا بالحق وإخلاصنا للوطن وتفانينا في الدفاع عن حقوقه ومصالحه نعلن بقلوب مخلصة وقوفنا إلى جانب الخطوة التاريخية التي خطاها السيد الرئيس بتأميم قناة السويس المصرية ولنا على أرضها شهدا ودماء عزيزة خالدة. كما نعلن تأييدنا لسياسة الحياد الإيجابي والوقوف أمام إسرائيل وتدعين الكتلة العربية من الخليج إلى المحيط. وإننا بالرغم من وجودنا خلف الأسوار نعتبر أنفسنا مجندين لمعركة الدفاع عن حقوق البلاد ورهن إشارة قيادتها.

ونعلن انجلترا والدول الغربية الاستعمارية أن أبناء النيل لم تفرق بينهم الأحداث وهم كتلة واحدة قوية متراصة تستطيع بإيمانها أن تفتت أساليبهم الاستعمارية العتيقة التي أصبح بمجها الذوق العالمي. وأننا أمام تهديداتهم التي تقطع بانهيار أعصابهم نعلن استعدادنا للدفاع عن حياض الوطن حتى آخر قطرة من دمائنا والله ولي التوفيق.

توقيعات

ووقعت هذه البرقية ومعي سبعون شخصا من الإخوان منهم الدكتور خميس حميدة وكيل جماعة الإخوان والبكباشي فؤاد جاسر والصاغ جمال ربيع واليوزباشي شرطة جمال إسماعيل وسعيد بلبع وعز الدين صادق من ضباط البحرية وآخرون وباقي الإخوان الموجودين بسجن الوحدات الخارجة وعددهم 230 مسجونا سياسيا وعلى رأسهم أعضاء مكتب الإرشاد قالوا نحن نؤيد الحكومة في موقفها الوطني بلا شك ولكن إرسال برقية تأييد ونحن مسجونون ذل لا نرضاها لأنفسنا.

العدوان الثلاثي على مصر 1956

ما إن علم الإخوان من الإذاعة أن طائرات انجلترا وفرنسا بدأت ضرب مدن مصر بالقنابل حتى ثارت الدماء في عروقهم وأسرعوا فكتبوا برقية هذا نصها.

31/ 10/ 1956

  1. السيد رئيس الجمهورية
  2. السيد قائد عام القوات المسلحة
  3. السيد وزير الداخلية

في هذه الفترة الخطيرة التي يتعدى فيها على بلادنا نعلن أن الوطن وطننا جميعا ولنا حق الدفاع عنه ونحن الذين شاركناكم الجهاد في سبيل الله في أعوام 46 ، 47 ضد قوات الاحتلال البريطاني في القاهرة والإسكندرية ، 48 في حرب فلسطين ، 1951 على أرض قناة السويس نمد لكم يدا صادقة لا تبغي إلا مصلحة الوطن ونطالبكم باسم الله والوطن أن نشارككم فورا في القتال في الخطوط الأمامية ونحملكم أمام الله والتاريخ مسئولية حرماننا من أداء هذا الفريضة المقدسة ونحن فداء الوطن في كل لحظة.

توقيعات

ووقعت هذه البرقية ومعي 73 شخصا من الإخوان منهم ضباط القوات المسلحة السابقون واليوزباشي جمال إسماعيل ضابط الشرطة والدكتور خميس حميدة . وكيل جماعة الإخوان المسلمين ومحمود عبده قائد مجاهدي الإخوان بقطاع صور باهر في حرب فلسطين 1948م. (2)

وصور عبد الحليم خفاجي الصراعات النفسية بين الإخوان في السجن حول قضية التأييد بقوله:

لم يتوقع الشباب المسلم حين أثار الجدل حول القضايا الفكرية والحركية أن يخرج الأمر من أيديهم ، وأن يضطروا إلي الابتعاد كثيراً عن الموضوعات الأصلية ، ليلاحقوا التصرفات الصغيرة ، التي أثارها أعوان الشيطان المتحمسين لوجهة نظرهم ، من اتصالات مشبوهة وتباطؤ عن الواجبات وتطير مع الأحداث ، كذلك لم يتوقع المسئولون عن الجميع أن ينبري لهؤلاء المفرّطين من يبارزهم بالقطيعة ، أو يغلظ لهم القول ، بدعوي الحماس لوحدة الصف والغيرة علي الدعوة ..
وقد عاني الجميع من شوائب الفريقين المخالفين لمنطق الاعتدال ، الذي يلتزمه الجميع ، ويوصي به مكتب الإرشاد ، فالإفراط كالتفريط ، كلاهما يؤدي إلي نتيجة واحدة ، هي البعد عن الاعتدال ، وكلاهما ينبعث من قاعدة نفسية واحدة ، هي إتباع الهوى والظن ، وهما آفة كل مجتمع لا تعززه التربية والسلطان معًا .. وكان الإمام البنا " رضي الله عنه " يحذر من كلا الفريقين ، ويقول بأن المتقدم خطوة عن المجموع كالمتأخر عنه خطوة .. كلاهما يحرف الصف .
وقد تحقق هذا القول السديد بيننا ، حين ظهر رد فعل التفريط في صورة الإفراط من بعض الأشخاص الذين لم يكونوا أقل ضرراً .. فعندما تكونت – لجنة التوفيق – من الإخوة صلاح العطار ، فتحي البوز ، علي العوض ، د. عبد الخالق السباعي كانت محل تقدير الجميع .. وقد بذلت جهدًا مشكورًا ، حتى توصلت إلي صيغة مناسبة لإنهاء الخلاف ، ولما اجتمع الإخوان بالميس العام عقب صلاة العشاء

وتهيأ ممثل اللجنة لتلاوة القرارات هبَّ أحد المتحمسين بسؤال:

  1. هل قرارات اللجنة ستخضع للمناقشة ؟
  2. بالطبع لا ؛ لأنها خلاصة مناقشات من يهمهم الأمر .
  3. إذاً أعلن انسحابي من الاجتماع احتجاجًا علي ذلك .. وخرج ولم يتبعه أحد ، واستفتح ممثل اللجنة قراءة القرارات بقوله : إن اللجنة اجتمعت بطرفي الخلاف ..

وهنا انبري آخر قائلاً:

ليس ثمة أطراف ، بل هناك طرف واحد هو الجماعة ، والآخرون مجرد أفراد خرجوا عليها ثم عادوا . وانبري معترض ثالث باقتراح تجديد البيعة . وانتهره آخرون ، وساد الهرج والمرج ، ولم تفلح كلمة الأستاذ عمر التلمساني بدعوته إلي النقد الموضوعي في تلطيف الجو . فأعلن عضو المكتب الشيخ أحمد شريت تأجيل الاجتماع لمدة أسبوع لاستقبال الاقتراحات .. ومعني هذا أن الاجتماع قد فشل ، وأن هؤلاء المفرطين قد قضوا علي فكرة التوفيق في مهدها ليُدخلوا المجتمع في دوامة الخلاف ..
لقد نابوا عن أعوان الشيطان بجهلهم في إنجاز المهمة .. ومن عجيب أمر الخلافات في أي مجتمع بشري أو دولي أن القيادة الفعلية تنتقل من أيدي العقلاء والحكماء إلي أيدي الدهماء أو العناصر الدَّنِيَّا في الفهم والسلوك . لأنها هي التي تثير المشكلة تلو المشكلة ، ودور العقلاء ينحصر في ملاحقتهم بحثًا عن الحل ، وبهذا تتحول العقول والهمم من مجال التخطيط لبلوغ الغايات في ظل الاتحاد والاستقرار إلي مجال البحث عن حلول لمشكلات الصغار ، الذين يفتقدون الغاية والتخطيط ، فأي نكسة تلك قد أصابت التقدم في الطريق الصحيح ..
ولولا أن رحمة الله تتدارك البشر بأسباب ربانية كثيرة لذهبت ريح الجميع .. وكان لنا العذر الذي استدر رحمة الله علينا ، فلسنا دولة تملك السلطان ، ولسنا متروكين لنعيش أيام السجن في أمان ، فكانت رعاية الله متممة لعجزنا علي الدوام .. وجاءت الرحمة الإلهية سريعًا في صورة دفعة جديدة من الخيام المختلفة الأشكال والأحجام في شهر مايو سنة 1956 ، فكانت متنفسًا للجميع حيث زادت من حجم المعسكر في اتجاه السور الشمالي في مواجهة المربع السياسي ، وسرعان ما امتصت هذه الخيام الكثير من أسباب التعب. (3)

ثم لخص الأحداث يقوله:

بدأت الأيام تعمل عملها في تضميد الجراح بعد فشل اجتماع لجنة التوفيق .. وأسرع في برء النفوس ما شاع في المعسكر من قرب الإفراج عنا . وتوالت الأنباء في خطابات الأهل تارة ، وعلي ألسنة الرسميين من إدارة السجن تارة أخري .. حتى إن إدارة السجن طلبت منا التخفيف من بعض الأمتعة ، بإرسالها مع الأهل في الزيارات .. وقويت الإرهاصات بحضور أفواج الزوار بتصاريح مجانية لأول مرة ، وبأعداد كبيرة ، اضطرتنا إلي استقبالهم جماعيًا في الميس العام ليومين متتاليين للدفعة الواحدة ، يتناول فيها الزوار طعام الإفطار والغداء مع أبنائهم المسجونين في جلسات عائلية سعيدة ..
وتناثرت الأطفال بين الخيام كالزهور ، وترخصت إدارة السجن في مبيتهم مع أبنائهم لليوم التالي من الزيارة ، وكنا نقيم للأطفال حفلات ومباريات خاصة ، تحول المعسكر إلي روضة غناء ، تصدح فيها البلابل وتشقشق العصافير . كذلك سمحت الإدارة لنا لأول مرة بالإذاعة .
كما حضر في هذه الأثناء عدد من ضباط الجيش لزيارة المعسكر، اجتمعوا بالمسؤولين من الإخوان "خاصة الإخوان العسكريين" .. وتكلم فيهم الأخ المقدم فؤاد جاسر قائلا : كان خلافنا مع الثورة لمصلحة الوطن . وقال الأستاذ عمر التلمساني لهم: نحن نؤيد كل عمل وطني بلا حدود .
وهكذا قويت الآمال في طي صفحة السجون .. وعكس هذا الجو أثره علي النفوس ، فاصطلح المتدابرون ، واقترب المتباعدون بغير لجان ولا قرارات .. وقد تواترت الأخبار الرسمية بأن خبر الإفراج عن المسجونين السياسيين سيعلن في خطاب 26 يوليو بميدان المنشية بالإسكندرية .
وتصادف أن تعطل المذياع في هذا اليوم ، فحرص الأخ الرائد أركان حرب حسين حمودة علي سماع الخطاب من مذياع الكتيبة ، وعاد إلينا بهذه المفاجأة الكبيرة التي أنستنا الكلام عن الإفراج .. مفاجأة قرار تأميم قناة السويس .. عرتنا الدهشة .. وأدركنا ما ستقدم عليه البلد من تطورات .
حتى هذا اليوم -26 يوليو سنة 1956- ولمدة عشرين يومًا بعده ، كان كل من في المعسكر من أهل الرأي ، عددهم أكثر من ثلاثمائة ، يدينون بالتزام فكرة جماعة الإخوان المسلمين ، وبوضعية أعضاء مكتب الإرشاد كقادة ومسئولين عن مجتمع سجن الواحات .. كانت كل الأحداث تجري خلال هذه المسلمات ، ولم يؤثر في هذه الحقيقة صدور بعض التصرفات الصغيرة من قلة من الأشخاص .. وكان الشباب المسلم بدوره حريصًا علي نفي تهمة عدم الالتزام عن نفسه ، بالتبرؤ من التصرفات الصغيرة من بعض الأفراد المنتسبين إليهم .
وجاءت خطوة التأميم فرصة سانحة لهم ، ليبرهنوا من خلالها علي صدق ارتباطهم بالجماعة وقادتها ، وعلي تميزهم عمن يسيئون بالتصرفات المنفردة .. لذلك فقد حرصوا جهدهم علي التوفيق بين اقتناعهم بقيمة الخطوة من الناحية الوطنية ، وبين التعبير عن هذا الاقتناع في إطار الجماعة التي يمثلها في هذا المكان قادة المكتب .. وهذا سر مبادرة ممثليهم للاجتماع بأعضاء المكتب لشرح وجهة نظرهم في الإسراع بتأييد هذه الخطوة الوطنية ، بدعوى قيمتها السياسية أولاً ، وأهميتها الاقتصادية ثانيًا ، فضلاً عن إسهام التأييد في تخفيف التوتر بين الإخوان والحكومة ، وإعادة قدر من الثقة المفقودة .
وكان أعضاء المكتب يصدرون عن فهم وسلوك مغايرين لوجهة نظر الشباب المسلم ، ويعبرون بذلك عن الرأي العام الواعي في الإخوان .. فهم في تحدثهم باسم الإسلام يمثلون ميزان الحق المطلق ، الذي لا يميل مع الهوى ، ولا يتأثر بالظروف ، ولا يجنح لعرض قاصد أو غرض قريب .. حتى ولو وقفوا مع الحق ضد أنفسهم فالإسلام أمانة كبرى ..
وعلي من يتخذه منهجًا لحياته أن يوطد نفسه علي ذلك ، فكيف إذا كان المتحدث اليوم هم قادة الجماعة التي تتخذه لها منهجًا .. وانبعاثًا من هذه الحقيقة يلزم التوفر علي دراسة خطوة التأميم من جانب المختصين من الجماعة ، بجميع أبعادها السياسية والاقتصادية ، بميزان الحق والتجرد ، بصرف النظر عن مردودها علينا بالخير أو بالشر ، بمزيد من الثقة بيننا وبين الثورة ، أو بمزيد من الحرب والصراع ، وشيء من هذه الدراسة الجادة لا تتوفر إمكانياته لنا في هذا المكان .
حتى الصحف العادية نحصل عليها بجهد كبير وبدون انتظام .. حتى المذياع "وهو الشيء الوحيد الذي يربطنا بالعالم الخارجي" قد تعطل .. وإذا كان جمهور الشعب يساق بعواطفه وراء السلطة بالتأييد المطلق لكل الخطوات رغبًا ورهبًا ، فليس هذا منطق رجال نذروا أنفسهم لإظهار موازين الحق وإعلاء كلمة الله .. وإذا كان ثمة مسؤولية ، فهي علي الذين جردونا من كل إمكانيات إعطاء كلمة الرأي السديد .
إذا كان هناك وجه لتفاعلنا مع الأحداث الدائرة ، فهو في مطالبتنا للمسئولين بتوفير أسباب المشاركة الواعية ، من حرية اتصال ، وإمكانيات . وهيهات أن يقتنع أحد منهم بذلك .. والثقة مع الثورة لا تكتسب بالتأييد الجماهيري الرخيص ، وإنما بأسلوب آخر جاد ، يعرف فيه كل طرف ماله وما عليه ، وحدود التعاون في المستقبل
وأمامنا هنا نموذج للتأييد الرخيص الذي يدرج عليه حزب حدتو الشيوعي في كل مناسبة وطنية ، ولم تلتفت إليهم الحكومة يومًا واحدًا ، ولم يغب عنها أن هذا مجرد تكتيك حزبي .. وربما تكشف الدراسة الجادة أخيرًا أن خطوة التأميم قد أضرت بالبلد ؛ لأن امتياز شركة قناة السويس سيقضي تلقائيًا سنة 1968 .
وقد يكون انتظار مرور هذه السنوات أولي من التعجل المحفوف بالاحتمالات ، وقد يكون هذا التعجل محل رضي ممن يعملون في السياسة الدولية من وراء الكواليس ، فما يخفي في السياسة أكبر مما يظهر علي السطح للشعوب . وفي النهاية فإن حريتنا حق لنا ، وليست محل مساومة عليها .. فالإفراج عنا قضية مستقلة عن قضية التأميم .. كان هذا هو منطق مكتب الإرشاد ومنطق من خلفه من الرأي العام للإخوان .

ورغبة منه في الإمساك بزمام الحماس فقد وعد بسرعة الدراسة لاتخاذ القرار .. ولما أحست مجموعة الشباب المسلم أن حلمهم في التوفيق بين رغبتهم في التأييد ورغبتهم في الالتزام أصبح مستحيلاً قاموا بعمل اجتماع في خيمة الدكتور منير أبو حسين للتشاور في الأمر .. وخشية أن يتمخض اجتماعهم عن شر ، فقد أشار بعض الأخوة علي أعضاء المكتب بالدعوة إلي اجتماع عام وعاجل في المسجد ، لطرح القضية علي جميع الإخوان ..

وفي يوم 14 أغسطس اجتمع أعضاء المكتب ، وطال اجتماعهم من الصباح حتى المساء ، في الوقت نفسه الذي كان يجتمع فيه الشباب الذين كانوا يتهيبون الإقدام علي أي تصرف ، بعيداً عن موافقة أعضاء المكتب ، ولكن أحد فئران السفينة كسر حاجز الهيبة بإرسال برقية تهنئة وتأييد للحكومة ، فتشجعوا بدورهم بعد أن طال انتظارهم لرأي المكتب ، وأرسلوا واحداً منهم بكشف به 37 اسمًا إلي ضابط المخابرات بهجت في مقره بالواحة ، وقد حملت سيارة السجن الشخص المذكور ومعه كشف المؤيدين لموقف الحكومة .. من تأميم القناة .
ومن بناء الجيش الوطني القوى ، ومن موقف الحكومة إزاء إسرائيل ، وبعثها للأمة العربية . أسفر اجتماع أعضاء المكتب عن قرار بتشكيل لجنة من صلاح حمودة رئيسًا وعضوية سيد أبو سالم ، ومحمد عبد العزيز نصار ، وعبد الحليم خفاجي ، لدراسة خطوة التأميم ، وتقديم تقرير مفصل عن جميع الأبعاد والاحتمالات ..
وجاء قرار تشكيل اللجنة هذا بعد حدوث أول تصدع حقيقي في حياة المعسكر ، بأن برز في حياتنا "ولأول مرة" مجموعة تتصرف بطريقة مستقلة من خلال قيادة مستقلة .. وهكذا أدي الخلاف إلي أن تقود العناصر الدنيا سلوك الشباب الواعي الذين بدأوا خطهم بالكلام عن المناهج والنظام ، وانتهوا إلي التأييد العشوائي لخطوات الحكام .
كانت خطوة التأميم في الواقع هي أول شيء لفت نظرنا علي ما يجري في خارج عالمنا الخاص .. عالم المعسكر المعزول عن الحياة ؛ حيث لم تكن لدينا وسائل اتصال من صحافة أو إذاعة .. ولولا أن حسين حمودة سمع بالتأميم من مذياع الكتيبة لمرت هذه الخطوة كما مر غيرها من قبل ، مثل صفقة الأسلحة التشيكية ، دون أن يحس بها أحد . فرغت اللجنة من إعداد بحث وافٍ يقع في حوالي مائة صفحة ، تلاه الأخ عبد المنعم السنباطي علي الإخوان بالمسجد ، في عشر محاضرات أسهمت في تجلية هذه القضية من جميع النواحي .
أحس فريق المؤيدين أن غلطتهم كانت كبيرة ، وأن خطوتهم كانت صغيرة ، وأن تبريراتهم ضعيفة ، فحرصوا علي ألا يتصرفوا مستقبلاً إلا من خلال الموازين الفكرية والحركية السليمة .. لذلك فما أن لاحت لهم فرصة 28 أكتوبر 1956 الذي حدد موعدا للإضراب العام في العالم العربي مؤازرة لثورة الجزائر ، حتى أعدوا برقية لمكتب الجامعة العربية ولمكتب تحرير الجزائر يتبرعون فيها بغذاء يوم للثورة ، وبينما هم في أخذ ورد مع الدكتور حسين كمال الدين المسئول العام إذا بأنباء الحدث الكبير تربح المعسكر وتعطي علي ما عداها من مناسبات .. حدث العدوان الثلاثي علي بورسعيد .
وتكررت الرغبة نفسها في التأييد والتباحث بشأنه مع المكتب بدعوى أن الحرب قضية كبرى ، لا يجب التوقف إزائها ببحث أو دراسة .. ونجح المؤيدون في إلهاب مشاعر أبطال حرب فلسطين والقنال من الإخوان ، وعلي رأسهم الأستاذ محمود عبده أحد قواد الفدائيين في حرب فلسطين .. طغت مشاعر القنال علي كل تفكير .. لكن أعضاء المكتب لم يفقدوا توازنهم العقائدي أمام هذه الموجات العاطفية .. أعترف أنني لم أكن أوافقهم علي ذلك ..
ولكن لم أكن لأخالفهم بعمل أي تصرف فردي .. فمنطقي أن الاجتماع علي خطأ خير من التفرق علي صواب ، وربما زاد من توجس أعضاء المكتب رؤيتهم للشيطان سافرًا هذه المرة ، بعد أن حضر إلي السجن بإيعاز من المؤيدين .. لأن ضابط المخابرات بهجت توجه مباشرة إلي خيمة أعضاء المكتب لزيارتهم ، ولإحراجهم بطلب تأييد خطوة التطوع للحرب ، فوعدوه بدراسة بقية الموضوع في ظرف 24 ساعة .
ولما عاد إليهم في اليوم التالي طلبوا منه أن تعمل الحكومة علي سرعة اجتماع الهيئة التأسيسية لجماعة الإخوان المسلمين ، وعلي رأسها أعضاء مكتب الإرشاد بقيادة الأستاذ حسن الهضيبي ، المرشد العام ؛ حتى يكون لقرارهم فاعليته في هذا الموقف المصيري الذي تجتازه الأمة والذي لا يصلح فيه التهريج والمزايدات السياسية ، في الوقت الذي يقتل فيه أبناؤنا وتخرب ديارنا .
وما كان للنظرة العجلي ، ولا للحماس الوقتي للمؤيدين ، ولا لضابط المخابرات المتربص، أن يستسيغ هذا المنطق الحكيم . فأسرعوا بالبرقية التالية موقعًا عليها من 86 أخًا. (4)

ويضيف:

هبطت علي المعسكر سحابة داكنة من الحزن بعد إرسال هذه المجموعة لبرقية التأييد إلي الحكومة ، لا لأن هذه البرقية قد عمقت الانشقاق في الصف فحسب ، بل ولما تلوثت به من دخول أصابع المخابرات فيها ، ولجرأة ضباط الإدارة علي استباحة حرمات مساكننا ، بعد أن كانوا لا يستطيعون التعامل معنا إلا من خلال الأخ المسؤول الإداري الممثل للجميع ، أو من خلال أعضاء مكتب الإرشاد .
الآن سهل عليهم كثرة التردد علي خيام المؤيدين ، وسهل كذلك تردد المؤيدين عليهم بالمكاتب ، مما قضي علي الكثير من هيبة الجماعة ، وفتح الباب للكثير من التصرفات الصغيرة .. ليس ذلك فحسب .. بل ولما أوحي به هذا التأييد من بداية معركة سافرة مع المسؤولين من رجال الأمن الذين مهدوا ودفعوا للوصول إلي هذه النتيجة ، التي لم تكن في حسبان من أثاروا نقاط الخلاف في البداية ، فلم يكن في حسابهم أن مخلفات التفاعل ستكون من المواد السامة ، وأنهم سيكونون أول المصابين بسمومها .
ولم يكن في تقديرهم أن زمام المعركة بعد ذلك سيكون بيد ضباط الإدارة ورجال الأمن ، وأننا سنكتوي جميعًا بنارها ، لأنها لن تصبح بعد اليوم بسبب الخلاف المشروع في الرأي حول المنهج والنظام الخاص ، بل بسبب الموقف من التأييد والمعارضة لكل خطوات الثورة قضي الأمر، وانفصل المؤيدون ، وسكنوا بقسم (2) الواقع بين قسم (1) المخصص للشيوعيين والمسجونين العاديين ، وبين قسم (3) المخصص للمعارضين، كما اشتهرنا بهذا الاسم .. وأقيم بيننا وبين المؤيدين سور من الطين ، ليس له باب ، ارتفاعه متر .. وصار لا يتم الاتصال بهم إلا عن طريق المسؤولين عنا ..
وما أن استقر المؤيدون في قسم (2) ، حتى كونوا لجنة لشؤونهم الإدارية ، من فتحي البوز ، وعبد الفتاح القرش ، وعبد الخالق السباعي ، وألغوا ألقاب المسؤول العام والأمير ، واستبدلوها بالأمين الإداري ، والأمين الثقافي ، والأمين المالي .. وبدأنا نرقب حياتهم من بعيد ، واتجهنا إلي حياتنا داخل قسم (2) ، نرفع عنها الأنقاض ، ونعيد بناءها من جديد. (5)

لقد أفرزت هذه المحنة كلمات خرج بها المرشد العام الأستاذ الهضيبي فيقول:

إذا تخلي الجميع ولم يبق سوي أخ واحد فسأكون معه وقال لمن أراد أن يستفتيه في الترخيص لتأييد عبد الناصر: إن الدعوات لا تقوم على الرخص وعلى أصحاب الدعوات أن يأخذوا بالعزائم والرخص يأخذ بها صغار الرجال. (6)

المراجع

  1. عبد الحليم خفاجي: عندما غابت الشمس: دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2006م
  2. حسين محمد أحمد حمودة: أسرار حركة الضباط الأحرار والإخوان المسلمون، ط2، الزهراء للإعلام العربي، القاهرة، 1987م.
  3. عبد الحليم خفاجي: عندما غابت الشمس، مرجع سابق.
  4. المرجع السابق.
  5. المرجع السابق.
  6. جابر رزق: الإمام الممتحن، دار اللواء للطباعة والنشر 1991م.