تقنين الانقضاض علي الحريات
17 يوليو، 2008
بقلم : الأستاذ / فهمي هويدي
سيدخل السيد أنس الفقي التاريخ باعتباره الرجل الذي قاد ثورة مضادة لثورة الاتصالات، وخاض معركته ضد التاريخ، ولم يهدأ له بال حتي اطمأن إلي اخضاع مختلف وسائل البث المسموع والمرئي، حتي استحق بجدارة أن يحمل لقب وزير الإعلام الذي أصبح العدو الأول للإعلام الحر، ولو أن الأمر مقصور عليه لهان ولما اكترثنا به، إذ كل واحد حر في أن يختار الباب الذي يدخل منه إلي التاريخ، وما إذا كان سيصنف ضمن الأخيار أم الأشرار والفجار، لكن المشكلة أن ما يفعله السيد الفقي يتجاوز شخصه، لأنه يلطخ سمعة بلد بأكمله، كان له رصيده من الثقة والاحترام، ذلك أن الجهود اللحوحة التي يبذلها لفرض وصاية السلطة والأمن علي كل وسائل الاتصال الحديثة، وإخضاعها لبيت الطاعة الأمني تدمر سمعة مصر وتصنفها في الدرك الأسفل من قائمة دول القمع والتكميم.
وهو ما يشعر المرء بالخزي والعار، أن يجد -في آخر الزمان - أن الدولة الكبيرة و «الرائدة» هي التي تقود حملة قمع الفضائيات واخضاعها لرقابة الأمن، في حين أن دولاً أخري متواضعة الحجم مثل لبنان وقطر والبحرين والإمارات هي التي تتحفظ علي الوصاية أو ترفضها.
لقد مارس السيد الفقي لعبة مكشوفة حين مرر ما سمي بوثيقة تنظيم البث الفضائي علي مؤتمر وزراء الإعلام العرب، وحولها من مشروع أمني مصري إلي وثيقة عربية، وفي وقت لاحق ثار الجدل عما إذا كانت تلك الوثيقة معلمة للجميع أم ملزمة لهم، وتفاوتت الآراء في ذلك، لكن الرأي الراجح اعتبرها استرشادية ومُعلمة ، ولا إلزام فيها، وفي الوقت ذاته تبني السيد الفقي ومؤيدوه في الغارة علي الفضائيات فكرة تكليف الجامعة العربية بإنشاء مفوضية لشئون البيت الإعلامي وهو ما لم تتحمس له الأغلبية فيما يبدو، لكن الأهم أن صاحبنا بعد أن اطمأن إلي الغطاء العربي لمشروعه، استعد لاستصدار قانون يضفي شرعية علي عملية الإخضاع والوصاية، ويجرم أي محاولة للتمرد عليها، ويعاقب بالحبس والغرامة كل من تسول له نفسه أن يمارس حرية التعبير بأي صورة من الصور، وبطبيعة الحال فإن ذلك كله يمارس باسم تحقيق المصلحة العامة والدفاع عن القيم والسلام الاجتماعي، وغير ذلك من العناوين الفضفاضة «الأقنعة إن شئت الدقة» التي تخفي الوجه القبيح للمشروع البائس.
إن مشروع القانون الذي نشرت «المصري اليوم» نصه في 9/7 ، يُعرف البث المسموع والمرئي المرشح للانقضاض عليه بأنه: كل إذاعة أو إرسال أو إتاحة مشفرة أو غير مشفرة لأصوات أو لصور وأصوات معًا، أو أي تمثيل آخر لها، أو الإشارات أو كتابات من أي نوع كانت لا تتصف بطابع المراسلات الخاصة بما يسمح بأن يستقبلها أو يتفاعل معها الجمهور أو فئات أو أفراد معينة منه- أي أن كل تعبير يصدر عن أي شخص سيكون خاضعًا للرقابة باستثناء الخطابات الغرامية والعائلية وبرقيات التعازي.
ومن مفارقات القدر وسخرياته أن تتجه السلطة في مصر إلي التوسع في تأميم وسائل الإعلام والاتصال، في الوقت الذي تركض باتجاه خصخصة الاقتصاد وبيع القطاع العام، الأمر الذي يدل علي أنها معنية بتأمين النظام ضد النقد ومفرطة في كل ما يتعلق بالسلام الأهلي والعدالة الاجتماعية.
إن السؤال الكبير الذي يستدعيه مشروع تقنين التكميم والقمع هو : هل هذا يعبر عن مزاج السيد الفقي وجهوده لإثبات الولاء فقط؟ أم أنه ينفذ أيضًا توجيهًا ممن هم أكبر منه ؟ أرجح الاحتمال الثاني لأن ثمة مؤشرات عدة توحي بأن تيار التضييق في الحريات العامة في خرائط السلطة رجحت كفته خلال الأشهر الأخيرة، من أهم تلك المؤشرات أن ذلك التيار وجد أن مشروع قانون الإرهاب ليس بالشدة المطلوبة فتقرر تأجيل عرضه علي مجلس الشعب، خلافًا لما وعد به الرئيس مبارك، لكي يعاد النظر في المواد التي تم الاعتراض عليها وحتي لا يري أحد أي ضوء في آخر النفق!
المصدر
- مقال :تقنين الانقضاض علي الحريات ، الدستور