تقديم "مجموعة الأعمال الشعرية" للدكتور جابر
المستشار عبد الله العقيل
الشعر ديوان العرب، وسجل للأحداث التي تتعرض لها الأمة الإسلامية، ووسيلة للدفاع عن مقدساتها، وسلاح لنصرة الدعوة الإسلامية والرد على خصومها، ومقارعتهم الحجة بما هو أقوى منها، ولذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لكعب بن مالك: "إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه. والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل".
وحين سمع النبي (صلى الله عليه وسلم) قول طرفة بن العبد:
ستبدي لك الأيام ماكنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تزود.
قال: هذا من كلام النبوة".
ولما اشتد هجاء الشعراء المشركين للرسول (صلى الله عليه وسلم) بعد هجرته إلى المدينة، قال النبي (صلى الله عليه وسلم) للأنصار: ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله بسلاحهم أن ينصروه بألسنتهم؟ فقال حسان: أنا لها يا رسول الله. قال (صلى الله عليه وسلم): كيف تهجوهم وأنا منهم؟ فقال: والله لأسلّنك منهم كما تُسل الشعرة من العجين، فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم): اذهب إلى أبي بكر فليحدثك حديث القوم وأيامهم وأحسابهم، ثم اهجهم وجبريل معك.
وحين أنشد حسَّان قصيدته التي رد بها على أبي سفيان بن الحارث دعا له الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالجنة مرتين، وعندما قال:
هجوتَ محمدًا فأجبتُ عنه وعند الله في ذاك الجزاء
قال النبي (صلى الله عليه وسلم): "جزاؤك عند الله الجنة يا حسان".
ولما وصل إلى قوله:
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
قال النبي الكريم: "وقاك الله حر النار".
وروي أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) مر بحسَّان، وهو ينشد الشعر في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ثم قال: أرغاء كرغاء البكر؟ فقال حسان: دعني عنك يا عمر، فوالله إنك لتعلم لقد كنت أنشد في هذا المسجد من هو خير منك فما يغيِّر عليَّ ذلك. فقال عمر: صدقت.
وكتب عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) إلى أبي موسى الأشعري: "مُر مَنْ قِبلك بتعلم الشعر؛ فإنه يدل على معالي الأخلاق، وصواب الرأي، ومعرفة الأنساب".
وروي عن أسماء بنت أبي بكر (رضي الله عنهما) قالت: "مر الزبير بن العوام (رضي الله عنه) بمجلس لأصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم)، وحسان ينشدهم، وهم غير آذنين لما يسمعون من شعره، فقال: مالي أراكم غير آذنين لما تسمعون من شعر ابن الفريعة؟ لقد كان ينشد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيُحسن استماعه، ويجزل عليه ثوابه، ولا يشتغل عنه إذا أنشده".
والأستاذ الدكتور جابر قميحة الداعية المجاهد، والكاتب الناقد، والأديب الشاعر، من أبرز الأدباء الذين حملت أعمالهم الأدبية هَمَّ الدعوة إلى الله، ودافعت عن الدعوة والدعاة، فقد أوقف قلمه لله تعالى، وسخَّر كلَّ إمكاناته ووقته لكتابة فنون الأدب المختلفة من شعر ونثر وقصة ومسرحية؛ مجاهدًا بالكلمة، وخادمًا لقضايا الأمة ومدافعًا عن مقدساتها وحرماتها.
وله تلامذته الكثيرون في جامعات أمريكا وباكستان والكويت والسعودية، كما أن له مساهماته الأدبية والنقدية في الكثير من الندوات والمجلات والأندية والمواقع الثقافية، وهي معروفة لدى الأدباء والنقاد على مستوى العالم العربي والإسلامي.
والأخ الدكتور جابر صاحب المواقف الثابتة والوفاء الصادق لرفقاء الدرب الذين عرفهم عبر مسيرة الحياة الطويلة، وكانوا نماذج للرجال الذين عز وجودهم في هذا الزمان.
ولقد عرفته عن قرب، فكان نعم الأخ الكريم في صدق لهجته، ووضوح موقفه، ومحبته لإخوانه في العقيدة حيثما كانوا، وأينما وُجدوا، فهم حاضرون في ذهنه ووجدانه مهما بعدت ديارهم، وشتَّ مزارهم.. يذكرهم بالخير، ويدعو لهم بظهر الغيب، ويترحَّم على من سبقوا إلى الدار الآخرة.
ولد الدكتور جابر قميحة بمدينة المنزلة محافظة الدقهلية بمصر سنة 1934م، وتوفي شقيقه الأكبر سنة 1943م، فترك حزنًا عميقًا في الأسرة كلها، وخصوصًا والدته التي لم تخلع السواد إلى أن انتقلت إلى العالم الآخر. وكان للدكتور جابر أخَوان من الأم أكبر منه بكثير؛ فأصغرهما يكبره بعشرين عامًا، وهما في الوقت نفسه ابنا عمه.
عرف الأخ الدكتور جابر قميحة دعوة الإخوان من قرابة خمسة وستين عامًا، منذ كان طفلاً صغيرًا. فقد زار الإمام الشهيد حسن البنا المنزلة ـ مسقط رأس الدكتور جابر ـ وظل يخطب قرابة ثلاث ساعات، فجذب انتباه سكان المنزلة أطفالاً وشبابًا وشيبًا، فكانوا يستمعون إليه وكأن على رءوسهم الطير، ومن يومها والدكتور جابر واحد في صف دعوة الإخوان.
ويذكر الدكتور جابر في حياته موقفين حزينين مؤسفين:
الأول: أن أسرته ـ في غيبته ـ حرقت كل مكتبته خوفًا من الاقتحام الأمني الذي كان يقبض على الإخوان.
والثاني: يوم استشهاد الإمام الشهيد حسن البنا، فقد بكى عليه طويلاً طويلاً. وهذا الحزن الضاري ألهمه كثيرًا من الشعر في شخصية الإمام الشهيد، وكتابه "الإمام الشهيد حسن البنا بين السهام السوداء وعطاء الرسائل"، وكتاب" التاريخ الأدبى للإخوان المسلمين من سنة 1928 ـ 1948 م"، وكتاب "الملامح الفنية والجمالية في أدبيات الإمام الشهيد حسن البنا ". عدا فصول متعددة عن الإمام الشهيد.
وفي سنة 1948م، عندما انطلق مجاهدو الإخوان يجاهدون في سبيل تخليص فلسطين من الصهاينة، كان عمره أربعة عشر عامًا، فحاول ـ في رجاء مستميت ـ أن يكون واحدًا ممن يشتركون في تحرير فلسطين، ولكن رئيس منطقة الإخوان رفض طلبه وإلحاحه، وقال له: يا جابر؛ أنت مازلت صغيرًا، كما أنك وحيد والدك.
فقال له الدكتور جابر: ولكن فضيلتكم ذكرت لنا أن الذي صرع أبا جهل ولدا عفراء الصحابية الجليلة، وكانا طفلين صغيرين. فاسمح لي أن أتطوع حتى لو قمت بتقديم الشاي للمجاهدين.
فقال له وهو يبتسم: اطمئن؛ فالمجاهدون لا يشربون الشاي.
تشرَّب قلب الأخ الدكتور جابر حب فلسطين والاعتزاز بها، فكان من أول ما نظمه قصيدة عن فلسطين قال في بدايتها:
فلسطين أمي وحق اليقين = وحق الشهيد غدًا تسمعين
غدًا تسمعين بأنَّا نسـود = وأنَّا حصدنا فلول اليهـود
وقد نشرها في حينها بصحيفته "منبر الشرق" الأستاذ علي الغاياتي (رحمه الله).
ودفعه حب فلسطين إلى نظم ديوان "لله والحق وفلسطين"، وقصائد متعددة عن شهداء فلسطين مثل: أحمد ياسين، والرنتيسي، وغيرهما. زيادة على سلسلة من الكتب والدراسات عن فلسطين آخرها "لفلسطين ننزف شعرًا".
ومن مواقف الأخ الدكتور الخالدة، أنه عندما حصل على شهادة إتمام الدراسة الثانوية "التوجيهية"، كان من شدة حبه للإمام الشهيد حريصًا على أن يلتحق بكلية دار العلوم، وهي الكلية التى تخرج فيها الإمام حسن البنا (رحمه الله)، ولكن الإخوان أصروا على أن يلتحق بالكلية الحربية، وسلموه رسالة توصية للبكباشي أبو المكارم عبد الحي الذي حاصر أحد قصور الملك فاروق هو وعبد المنعم عبد الرءوف (رحمهما الله)، وكانا أشجع رجال الثورة المصرية، وقد حكم عليهما عبد الناصر بعد ذلك بالإعدام، ولكنهما أفلتا منه.
وكان الالتحاق بالكلية الحربية لا يتحقق إلا باجتياز عدة امتحانات، فتقدم إليها الدكتور جابر وهو يدعو الله أن يرسب فيها، أو في بعضها حتى يلتحق بدار العلوم، ولكنه نجح بتفوق في كل اختبارات التقدم، ولم يبق إلا الكشف الأخير، وهو "كشف الهيئة". ومعه توصية مكتوبة للبكباشي المسلم أبو المكارم عبد الحي، ولو سلمه التوصية لكان على قمة الناجحين. ولكنه لم يوصل التوصية خوفًا من نجاحه المؤكد.
وتقدم بأوراقه لدار العلوم حبًا في الإمام الشهيد (رحمه الله)، وفي اختبار القبول ـ المسابقة القاسية التي نجح فيها ممن تقدموا لدار العلوم 300 طالب فقط من أصل 600 طالب ـ كان على رأس الناجحين؛ إذ حصل على مجموع 96%، وقام الأستاذ عمر الدسوقي الذي اختبره في مادة الأدب والنصوص الشفوية بتقديمه لطلاب الفرقة النهائية وهو سعيد به، قائلاً عنه: "التحق بدار العلوم هذا العام طالب غير أزهري اسمه جابر قميحة يحفظ حمل بعير من الشعر، ومثله من النثر". فكان طلاب دار العلوم يقصدون الأخ الدكتور جابر للسؤال عن أبيات من الشعر أو قطعة من النثر، وهذا من فضل الله عليه.
ومن المواقف الطريفة التي لا ينساها الأخ جابر بهذه المناسبة أن أحد طلاب السنة النهائية واسمه أحمد الشاعر أتاه يسأله أن يمليه الأبيات التى قالها "منازل" في قيس بن الملوح، ولم يكن يحفظها.
ـ ولكن أستاذنا عمر الدسوقي قال: إنك تحفظ حمل بعير من الشعر ومثله من النثر.
ـ هذا صحيح، ولكن هذه الأبيات بالذات لم يتسع لها الحِمْلان، فحمل كل بعير له طاقة، وهذه كانت زائدة لا يتسع الحِملان لها.
التحق الأخ الدكتور جابر ـ زيادة على دار العلوم ـ بكلية الحقوق بجامعة القاهرة، والذي دفعه إلى ذلك أنه رأى أحد ضباط الشرطة، وهو يعتدي على مواطن بريء في بلدته المنزلة. فقال في نفسه: ماذا أفعل لو أن هذا الضابط الظالم فعل بي مثل ما فعل بهذا المواطن؟
وحصل على ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة، وحصل بعدها على دبلوم عالية في الشريعة الإسلامية. ولكن استهواه الأدب، فحصل على درحة الماجستير في أطروحة بعنوان "الفن القصصي في شعر خليل مطران". وحصلت على درجة الدكتوراة في أطروحة بعنوان "منهج العقاد في التراجم الأدبية".
قام الأخ جابر بالتدريس في كلية الألسن، وفي جامعة يل YALE بمدينة نيوهافن بالولايات المتحدة الأمريكية. والجامعة الإسلامية العالمية بمدينة إسلام آباد، وجامعة الملك فهد بالظهران.
وله سياحات في مؤتمرات متعددة، وفي كل مكان نزل به كانت العقيدة الإسلامية، والدعوة لها تسري في كل جارحة من جوارحه، وقد فصل ذلك في مذكراته في أمريكا، وغيرها من المقالات والدراسات.
هذا هو الأخ الحبيب الدكتور جابر قميحة الذي يذكِّرني بأديب العربية الكبير الأستاذ مصطفى صادق الرافعي، الذي انتصب ينافح عن الإسلام، وعن لغة القرآن، ويتصدى لكل دعاة التغريب وتلامذة المستشرقين، الذين يرددون كالببغاوات مقولات أسيادهم، وينالون من الإسلام كدين، ومن العربية كلغة، ومن المسلمين كأمة، ويشوهون تاريخ الإسلام ورجالاته وحضارته، فكان الرافعي وتلامذته السد المنيع أمام تيار التغريب الوافد من الغرب الصليبي والفكر الصهيوني، وكانت المعارك الشرسة بين الأصيل والدخيل، فكان فرسان الميدان الذين يصولون ويجولون هم الرافعي وتلامذته، أمثال: علي الطنطاوي ومحمود شاكر وسعيد العريان وعبد المنعم خلاف وعلي أحمد باكثير وغيرهم من جنود الحق الذائدين عن الإسلام ولغة القرآن.
وهذا العمل العظيم والجهد المميز المشكور الذي يقوم به مركز الإعلام العربي، والذي أشرُف بالتقديم له مع قصر باعي في الأدب والنقد والشعر، فأنا من المحبين والعاشقين للشعر الهادف الأصيل، ولكني لست من فرسان هذا الميدان، ولا من رجاله – هذا العمل الضخم يضم مجموعة الدواوين الشعرية والمسرحية للشاعر الكبير الأستاذ الدكتور جابر قميحة، الذي هو لسان من ألسنة الحق في هذا الزمان الذي قل فيه الصادقون.
أحد عشر ديوانًا تضمها "مجموعة الأعمال الشعرية والمسرحية" تزخر بفيض من الشعر الإسلامي الأصيل، الذي يشحذ الهمم، ويقوي العزائم، ويستجيش العواطف، ويدفع إلى العمل الجاد، والجهاد المتواصل من أجل نصرة الإسلام والمسلمين، والتصدي للطغاة والجبارين، وهذه الدواوين هي:
- لجهاد الأفغان أغني
- الزحف المدنس
- حديث عصري إلى أبي أيوب الأنصاري
- على هؤلاء بشعري بكيت
- حسبكم الله ونعم الوكيل
- لله والحق وفلسطين
- حول أسماء الله الحسنى
- الإقلاع في البحور السبعة
- محكمة الهزل العليا تحاكم الأيدي المتوضئة
- السيف والأدب ومسرحيات أخرى
- الرؤيا الأخيرة ليوسف الصديق
ولقد جرت العادة أن تكون مثل هذه الأعمال بعد رحيل أصحابها، ولكن شاعرنا الكبير الأستاذ الدكتور جابر قميحة – أمد الله في عمره – فرض علينا بجهاده وجهوده، وأدبه وعلمه، وعطائه المتدفق الفياض أن ينال هذا التكريم عرفانًا بدوره ومكانته في الأدب الإسلامي؛ فكان إقدامنا على إصدار هذا العمل نوعًا من التكريم المستحق لهذا الداعية الأديب، والناقد البصير، الذي يصدق فيه قول المتنبي:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
تمنياتنا للأخ الدكتور جابر قميحة بموفور الصحة والعافية وطول العمر، ومزيد من الإنتاج الذي يمكن أن ينشره مركز الإعلام العربي في الطبعة القادمة من هذه الأعمال – بإذن الله.
المصدر
- مقال: تقديم "مجموعة الأعمال الشعرية" للدكتور جابر موقع العقيل ابومصطفي