تعريف جماعة الإخوان المسلمين
محتويات
- ١ مقدمة
- ٢ فهم الإخوان
- ٣ نشأة الفكرة
- ٤ من أين ينفقون ؟
- ٥ نذرات من عطاء دعوة الإخوان المسلمين
- ٦ معالم على الطريق
- ٧ ثوابت الدعوة العشر
- ٧.١ أولاً: الاسم فكرة وتطبيقاً وتاريخاً ووفاءً
- ٧.٢ ثانياً: وجوب العمل الجماعي
- ٧.٣ ثالثاً: التربية سبيلنا ونبذ العنف مبدؤنا
- ٧.٤ رابعاً: الأسرة محضن التربية
- ٧.٥ خامساً: رسالة التعاليم والأًصول العشرون
- ٧.٦ سادساً: الشمول نظرتنا الكلية فهما وحركة
- ٧.٧ سابعاً: الشورى الملزمة لحسم الخلاف بيننا
- ٧.٨ ثامناً: احترام نظم ولوائح الجماعة خلقنا
- ٧.٩ تاسعاً:اختيارات الجماعة الفقهية لا خيرة للأفراد فيها
- ٧.١٠ عاشراً: الله الغاية في كل ما نقول ونعمل
مقدمة
بينما كان المسلمون يتخبَّطون في الجهل والظلام، حينما انزوى مفهوم الإسلام الشامل وانحصر مكانه الفعلي ليصبح في المسجد فقط، ولم يعُد له مكانٌ في توجيه الحياة، وبينما كان المسلمون يترنحون من جراء السقوط المدوي للخلافة الإسلامية، والذي أدَّى إلى ضياعِ هويَّة الأمة، وفقدانِها لمصدر عزتها، وافتقادِها معالم المشروع الحضاري لنهضتها وقيامها بدورها الرائد في الشهادة على الناس... ووسط هذا الظلام الدامس.. يأتي شابٌّ في الحادية والعشرين من عمره قد ارتوى من النيل ماءً عذبًا فراتًا، ومن الإسلام هديًا ونبراسًا، ومن القرآن شرعةً ومنهاجًا، فيخاطب قومه:
“يا قومنا إننا نناديكم والقرآن في يميننا والسنة في شمالنا وعمل السلف الصالحين من أبناء هذه الأمة قدوتنا، نناديكم إلى الإسلام وتعاليم الإسلام وهدي الإسلام”...
“الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعًا فهو دولة، ووطن، أو حكومة، وأمة، وهو خلق وقوة، أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء”...
فأسس دعوة الإخوان على ركائز ثلاث من :
الفهم العميق... التكوين الدقيق...العمل المتواصل.
ففي موعد مع القدر، جاء الإمام البنا، جامعًا بين الفهم الشامل الصحيح للقرآن ولهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين الدراسة العميقة للتاريخ وتجاربه، ولسنن الله في التمكين، وكذلك البصيرة النافذة لواقع الأمة الإسلامية وتشخيص دائها ومعرفة وسائل العلاج وأولوياته”... فأعاد بدعوته المتكاملة هذا الفهم السليم الذي كاد أن يندثر... وحملت الجماعة هذا الفهم ودعت إليه، وتحملت في سبيل تثبيته في المجتمع الكثير من المحن والابتلاءات والدماء والشهداء... فكم من دماء سفكت وأطفال يتمت ونساء رملت وأمهات ثكلت حتى ثبت هذا الفهم عبر هذه السنين الثمانين.
جاء الإمام البنا، فجعل قوله تعالى ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي﴾ يوسف: من الآية 108، منطلقًا لدعوته، فبين أن إسلام الإخوان المسلمين قائمٌ على ركائز ثلاث، يعتقدها الإخوان ويؤمنون بها ويعملون ويدعون ويضحون في سبيلها:
1- يعتقد الإخوان المسلمون أن أحكام الإسلام وتعاليمه شاملة تنتظم شئون الناس في الدنيا والآخرة، وأن الذين يظنون أن هذه التعاليم إنما تتناول الناحية العبادية، أو الروحية دون غيرها من النواحي مخطئون في هذا الظن... فالإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف، فأيقن الإخوان أن الإسلام هو هذا المعنى الكلي الشامل، وأنه يجب أن يهيمن على كل شئون الحياة وأن تصطبغ جميعها به وأن تنزل على حكمه، وأن تساير قواعده وتعاليمه وتستمد منها ما دامت الأمة تريد أن تكون مسلمةً إسلامًا صحيحًا.
2- يعتقد الإخوان المسلمون أن أساس التعاليم الإسلامية ومعينها هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، اللذان إن تمسكت بهما الأمة فلن تضل أبدًا، وأن كثيرًا من الآراء والعلوم التي اتصلت بالإسلام وتلونت بلونه تحمل لون العصور التي أوجدتها والشعوب التي عاصرتها، ولهذا يجب أن تستقي النظم الإسلامية التي تحمل عليها الأمة من هذا المعين الصافي ، معين السهولة الأولى، وأن نفهم الإسلام كما كان يفهمه الصحابة والتابعون من السلف الصالح رضوان الله عليهم، وأن نقف عند هذه الحدود الربانية النبوية حتى لا نقيد أنفسنا بغير ما يقيدنا الله به، ولا نلزم عصرنا لون عصر لا يتفق معنا.
3- يعتقد الإخوان المسلمون أن الإسلام كدين عام انتظم كل شئون الحياة في كل الشعوب والأمم لكل الأعصار والأزمان، جاء أكمل وأسمى من أن يعرض لجزئيات هذه الحياة وخصوصًا في الأمور الدنيوية البحتة.
ومن هنا أدرك الإخوان بأنه لا يمكن أن ينصلح حال الأمة إلا إذا صلح تَصوُّرُها عن دينها أولاً، وأنه منهجٌ متكاملٌ للحياة، وصالح لكل زمان ومكان، ولقد صدق الإمام البنا حينما بيَّن أن دعوة الإسلام بهذا الفهم " قد امتدت طولاً حتى شملت آباد الزمن، وامتدت عرضًا حتى وسعت آفاق الأمم، وامتدت عمقًا حتى استوعبت شئون الدنيا والآخرة".
فهم الإخوان
كانت انطلاقة الإمام البنا، وكانت كلمات المؤسس رحمه الله " ولكننا أيها الناس فكرة وعقيدة، ونظام ومنهاج، لا يحدده موضع ولا يقيده جنس ولا يقف دونه حاجز جغرافي ولا ينتهي بأمر حتى يرث الله الأرض ومن عليها ذلك لأنه نظام رب العالمين ومنهاج رسوله الأمين".. والتي على أساسها تحركت دعوة الإخوان، فغرست عبر السنين في نفوس الإخوان وأبناء الأمة جميعًا، أن الفهم الصحيح الشامل هو محور الارتكاز، وهو العامل الأساسي الذي يجب توفره من أجل سلامة المسير، وأن المخلص العامل الذي لا يحسن الفهم الصحيح، ولا يُنزِل الأمورَ منازلها قد يضل ضلالاً كبيرًا، وأن الفرق بين الحفظ والفهم كالفرق بين الجسد والروح، فالحفظ جسد والفهم روحه.
واستمرت مسيرة دعوة الإخوان عبر السنين وهي على هذا الفهم في حدود الأصول العشرين التي وضعها الإمام البنا، والتي تهدف إلى: إدراك الفهم الصحيح للإسلام، العمل الراشد له والتجمع حوله، والحذر من خط الانحراف، وجمع المسلمين على فهم واحد، وتضييق شُقة الخلاف بين العاملين للإسلام.
كانت النتيجة الطبيعة لهذا الفهم الصحيح الشامل عبر سنوات الدعوة الثمانين، أن كان الإخوان المسلمون جماعة تلتقي عندها آمال محبي الإصلاح، والشعوب المستضعفة، والمسلمين المصادرة حقوقهم، فهم:
1- دعوة سلفية: إذ يدعون إلى العودة إلى الإسلام، إلى معينه الصافي، من الكتاب والسنة.
2- طريقة سنية: لأنهم يحملون أنفسهم على العمل بالسنة المطهرة في كل شيء، وبخاصة في العقائد والعبادات ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً.
3- حقيقة صوفية: إذ يعلمون أن أساس الخير طهارة النفس، ونقاء القلب، وسلامة الصدر، والمواظبة على العمل، والإعراض عن الخلق، والحب في الله، والأخوة فيه سبحانه.
4- هيئة سياسية: لأنهم يطالبون بإصلاح الحكم في الداخل وتعديل النظر في صلة الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم في الخارج، وتربية الشعب على العزة والكرامة والحرص على قوميته إلى أبعد حد.
5- جماعة رياضية: يعتنون بالصحة، ويعلمون أن المؤمن القوي هو خير من المؤمن الضعيف، وأن تكاليف الإسلام لا تُؤدى إلا بالجسم القوي، والقلب الذاخر بالإيمان، والذهن ذي الفهم الصحيح.
6- رابطة علمية وثقافية: فالعلم في الإسلام فريضة يحض عليها، وعلى طلبها، ولو كان في الصين، والدولة تنهض على الإيمان، والعلم.
7- شركة اقتصادية: فالإسلام يُعنَى بتدبير المال وكسبه، والنبي- صلى الله عليه وسلم- يقول: “نعم المال الصالح للرجل الصالح”، و”من أمسى كالاً من عمل يده أمسى مغفورًا له”.
8- فكرة اجتماعية: يعنون بأدواء المجتمع، ويحاولون الوصول إلى طرق علاجها وشفاء الأمة منها.
وهكذا نرى أن شمول الإسلام قد أكسب فكرتنا شمولاً لكل مناحي الإصلاح، ووجه نشاط الإخوان إلى كل هذه النواحي، وهم في الوقت الذي يتجه فيه غيرهم إلى ناحية واحدة دون غيرها يتجهون إليها جميعًا ويعلمون أن الإسلام يطالبهم بها جميعًا
وقد نشرت جريدة “ الإخوان المسلمين “ اليومية في عددها الصادر في أول أكتوبر سنة 1948 تعريفا بالإخوان نقتبس منه ما يلي:
نشأة الفكرة
ألفت أول شعبة للإخوان المسلمين في شهر ذي القعدة سنة 1347 الموافق شهر مارس 1928 بمدينة الإسماعيلية وقامت علي كواهل ستة من العمال وبلغ أعضاء الشعب إلي هذا التاريخ “ 2000 “ شعبة وبلغ عدد الشعب في السودان “ 50 “ شعبة.
حركة الإخوان عالمية:
وليست حركة الإخوان إقليمية بل هي إسلامية عالمية لأن الإسلام دين عالمي.. وللإخوان شعب في فلسطين وشرق الأردن وسوريا ولبنان والعراق والكويت وفي إمارات الخليج والسعودية والسودان والمغرب العربي مندوبون ودعاة.
كما أن للحركة شعبا ومندوبين وأصدقاء في اندونيسيا وسيلان وباكستان وإيران وأفغانستان وتركيا في بلاد العالم الإسلامي، وفي أوروبا وأمريكا، وأصدقاء ودعاة يبشرون بالحركة ويدعون إليها ويؤسسون مراكز وهيئات.
عدد الإخوان:
وبلغ عدد الأنصار العاملين في مصر والسودان " 500.000 " نصف مليون عضو.. والأعضاء المنتسبون أضعاف هذا العدد.
النظام الإداري:
وتتألف كل شعبة من جمعية عمومية ومجلس إدارة منتخب.. ولكل مركز “ منطقة “ إشراف.. وفي كل مديرية “ محافظة “ مكتب إداري.. والمركز الرئيسي في القاهرة يديره “ مكتب الإرشاد العام “ الذي يتجدد انتخابه بالهيئة التأسيسية كل عامين.
وبعد صدور القانون رقم 49 سنة 1945 أنشئت أقسام البر والخدمة الاجتماعية.
الأخوات المسلمات:
ولقد وجه الإخوان عنايتهم إلي نشر الدعوة بين المؤمنات فأنشئ قسم “ الأخوات المسلمات “ وتألفت شعبة للأخوات بجوار كل شعبة للإخوان.. وأسندت قيادة هذه الحركة إلي مجموعة من الفتيات المثقفات ثقافة دينية ومدنية.
في ميدان الخدمة الاجتماعية:
ضرب الإخوان المسلمون في ميدان الخدمة الاجتماعية بسهم وافر ففي كل دار من دور الإخوان مدرسة ليلية ومنتدى أدبي للثقافة والتربية وقد أنشأ الإخوان عددا من المدارس الابتدائية والثانوية كما أنهم أقاموا أكثر من عشرين مستوصفا خيريا..
وفي هذا العام “ سنة 1948 “ افتتحوا أول مستشفي لهم بالعباسية وتألف بكثير من الشعب فرق رياضية بارعة ومن أفرادها من فاز ببطولات محلية ودولية.. فالأخ حسن عبد الرحيم الذي اجتاز المانش قريبا عضو في جماعة الإخوان المسلمين بباب الشعرية.
كما أن الإخوان نظموا البر والإحسان في القرى والريف والفوا لجانا للمصالحات. وضمت فرق الجوالة أكثر من أربعين ألف شاب في مصر.
في ميدان الاقتصاد والمال:
عمل الإخوان المسلمون علي تأليف عدة شركات كشركة المعاملات الإسلامية وشركة المحاجر والمناجم وشركة الإخوان للطباعة وشركة الإخوان للصحافة وغيرها وقد أصدر الإخوان عدة صحف إسلامية منها ما يصدر شهريا مثل “ الشهاب “.. ومنها الأسبوعي كمجلة “ الإخوان المسلمون “ و “ النذير “ و “ الدعوة “.. كما أصدروا جريدة “ الإخوان المسلمون “ اليومية وقد صودرت كلها في ديسمبر سنة 1948 وحلت الجماعة وإلي اليوم.
من أين ينفقون ؟
ويتساءل البعض من أين للإخوان هذا المال يواجهون به كل هذه العقبات ؟
وقد دفعت الدهشة كثيرا من الذين لا يعلمون إلى اتهام الإخوان عن غفلة أو عن سوء قصد بأنهم يستمدونه من الحكومات تارة والأحزاب تارة أخري ومن الدول والحكومات الأجنبية علي اختلاف ألوانها وصفاتها طورا ثالثا.
ذلك كله وهم لا حقيقة له.. وإن الإخوان يعتمدون على مواردهم الخاصة ويساعد علي ذلك كثرة عددهم وصدق إيمانهم وحسن استعدادهم.
وفي 20 من رمضان سنة 1372 وفي الاحتفال بغزوة بدر القي الأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين كلمة عن فهم الإخوان ومأخذهم للأمور وأسلوبهم في الجهاد والعمل:
أيها الإخوان: أن ما تمتاز به دعوتكم أنها تذكر الناس بقرانهم وسنة رسولهم، هذا القرآن الذي طالما قراه الناس علي الأموات وما نزل ‘لا ليقرأه الإحياء فتكون لهم الحياة وصدق الله العظيم: ”يأيها الذين اًمنوا استجيبوا الله وللرسول إذا وعاكم لما يحييكم “ ِ
ومن ثم يقرأ الإخوان المسلمين القراًن معاني لا ألفاظا ويقراونه وطنية وأخلاقا واجتماعا وما أشد حاجة الناس إلى هداية القران في هذا النواحي.
ولو كان أعداؤنا يعرفون أن القراًن يقرأه المسلمون اليوم كما كان يقراه المسلمون في صدر الإسلام ويتأثرون به كما كانوا يتأثرون وان قراءته تهز شعرة واحدة في أبدان المسلمين ما إذاعته علي المسلمين إذاعات لندن وباريس وإسرائيل. ولكنهم يذيعونه علي المسلمين يطربون له كالأنغام جلبا للتسلية وتقضي بها أيام المأتم والأفراح.. ثم لا شي وراء ذلك.
أيها الإخوان:
أن دعوة الإخوان المسلمين لم تعد دعوة محلية تنحصر في حدود وطن صغير، وإنما غدت دعوة عالمية تشمل العالم الإسلامي بأسره وتوقظ في المسلمين روح العزة والكرامة والتقوى – فهي اليوم عنوان انبعاث لا نوم بعده وتحرر لا عبودية معه وعلم لا جهل وراءه.
ولم يعد من السهل علي آية طاغية أن يحول دون انتشار هذه الروح أو امتدادها وما ذلك إلا أنها تعبير صادق عن شعور عميق ملأ نفوس المسلمين جميعا ويستولي علي مشاعرهم وعقولهم.. وهو أنهم لا يستطيعون اليوم نهضة بدون الإسلام.. فالإسلام في حقيقته ضرورة وطنية وإنسانية.
إن الله جعلكم جنودا لقضية الحق والفضيلة والعزة في وطنكم وفي العالم الإسلامي كله وإذا كان من واجب الجندي المخلص أن يكون مستعدا دائما للقيام بواجبه فكونوا مستعدين دائما لما يؤدي بكم إلي النصر في الحياة.. فطهروا قلوبكم وحاربوا أهواءكم وشهواتكم قبل أن تحاربوا أعداءكم فإن من انهزم بينه وبين نفسه في ميدان الإصلاح اعجز من أن ينتصر مع غيره في معركة السلاح.
ويقول مرشدنا العام الثالث الأستاذ الحيي عمر التلمساني – رحمه الله – تحت عنوان “هذه الحملة المسعورة ضد جماعة الإخوان المسلمين.. أما آن لها أن تنتهي ؟
إن المتتبع لخطوات جماعة الإخوان المسلمين منذ نشأتهم سنة 1928 إلي اليوم، لا يستجلي منها إلا تضحيات متتالية في سبيل العقيدة، وجهود مكثفة منتجة في مختلف نواحي النشاط الاجتماعي في هذه الحياة، وتدعيما متواصلا لربط الصلوات الأخوية بين مختلف الشعوب الإسلامية وإشاعة للسلام بين دول العالم أجمع.
حورب الإخوان المسلمون حروبا ضارية فتاكة من مختلف الاتجاهات المحلية والعالمية ورغم ذلك فلم يثبت في يوم من الأيام أنهم أشاعوا الفتنة، أو فرقوا الوحدة، أو دمروا المؤسسات أو تظاهروا مخربين في الطرقات، أو هتفوا بسقوط فلان وحياة علان.
بل كان سمتهم السلام وعملهم البناء، ودينهم الوفاء، ورغم هذا كله فهم موضع النقمة، حتى من الذين لم يتفقوا علي شيء، إلا اتفاقهم علي محاربة الإخوان المسلمين.
ولئن كانت جريمة جماعة الإخوان عند تلك الصحف، أنها تقيم الفرد المسلم وتنشئ المجتمع المسلم، وتقوى الجيل المسلم وتهدف إلي إيجاد الدولة المسلمة، ولئن كان جريمة الإخوان عند تلك الصحف أنها تقضي علي الاستعمار العسكري والاستغلال الاقتصادي والإفساد الخلقي، فهي مآخذ يعترف بها الإخوان لأن عقيدتهم تأمرهم بالتحرر والحرية وتطالبهم بالاعتزاز والاستقلال الشامل من كل نواحيه، ونلزمهم بالقوة التي تحفظ الأمن والسلام، وما أمرهم الله في كتابه الكريم بالقوة ليعبثوا أو يستعمروا أو يستغلوا غيرهم. ولكنه طالبهم بها ليكونوا مرهوبي الجانب، منيعي الجناب، ميئوس من الاعتداء عليهم “ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم “ فما كانوا إذن يوما بغاة ولا عادين، لأنهم فقهوا دينهم حقا ودانوا لرب العالمين.
لقد مرت بالمسلمين عامة والإخوان منهم خاصة كوارث قاصمة لو مرت بغيرهم لما بقي لهم علي وجه الأرض ديار ولا نافخ نار. ولكن العالم كله شهد من الإخوان حيوية هائلة. وجلدا عظيما، واحتمالا رائعا، أن ترك علي الكل بصماته. فهو لم ينل من الإخوان قلامة ظفر.
أن الإخوان مسلمون، مسلمون أيقنوا كل اليقين أن عقيدتهم دين ودولة ومصحف وسيف، وشعب وقيادة، وعزة وسيادة. فلهذا ولهذا وحده لم ينل منهم الويلات، بل كانوا يعودون عقب كل محنة أقوى عودا، وأشد صلابة وأمرس خبرة، وأعشق تعلقا بدعوتهم، سواء أكان لهم شكل قانوني أم حرموا منه لعلة أو لأخرى، أنهم يقدرون وضعهم في أممهم كمواطنين يهمهم أمر أوطانهم المسلمة. قبل أن تهمهم حياتهم وأشخاصهم. أنهم لا يخربون ولا يدمرون ولا يتآمرون ولا يستوردون أفكارا، ولا ينتمون إلي غير أوطانهم، ولا يحرصون علي غير مصالحها لا يديرون مؤامرات. ولا يسعون وراء انقلابات، فهم يؤمنون بأن شر ما يصيب المسلمين الاحتراب بينهم فيشغلهم ذلك عن القضية الكبرى.. قضية الإسلام نفسه، أنهم يدعون إلي الإصلاح، ويحضون علي الوئام، ويعملون للبناء حتى في أحلك الظلمات، عرف الناس ذلك عنهم أو لم يعرفوا وما فكروا يوما أن يرضوا مخلوقا أيا كان وضعه، علي حساب العقيدة ولا يمالئون إنسانا علي حساب الحق. وحسبهم أن يعرف الله عنهم ذلك، فهو وحده الوجهه والغاية والمقصد والسبيل “ قل الله ثم ذرهم “.
إن الإخوان لا يسعون لحكم، ولكنهم يعملون لتسود العقيدة، أنهم يمدون أيديهم طاهرة عزيزة، في كرامة المسلم، وعزة المؤمن لكل من يعمل لتحقيق هذا الغرض النبيل لا يألونه نصحا، ولا يمنعونه تأييدا، ولا يضنون عليه بكلمة ثناء، فالفضل لا يعرفه من الناس إلا ذووه.
أنهم الأتقياء الأتقياء الذين لا يعرفون إذا حضروا، ولا يفتقدون إذا غابوا. ذلك أنهم لا يحرصون علي جاه، ولا يرنون إلي مظهر. ولا يسعون وراء سلطان، لا يعنيهم أن يعرفهم الناس ولكن حسبهم أن الله يعرفهم ويطلع علي سرائرهم.
نذرات من عطاء دعوة الإخوان المسلمين
الإسلام دين ودولة: لم يفهم الإخوان المسلمون الإسلام علي أنه صلاة وصوم وذكر وتسبيح فحسب، ولكنهم آمنوا به دينا ودولة، وعقيدة وشريعة، وعبادة وقيادة، مصحفا وسيفا، وصلاة وجهادا، وطنا وجنسية، خلقا وقانونا وسماحة وقوة.. واعتقدوه نظاما ينظم أمر الدنيا كما ينظم أمر الآخرة.
الإسلام وطن وجنسية: والإخوان المسلمون كما اعتقدوا الإسلام عقيدة وشريعة، كذلك فهو وطن وجنسية وكل شبر في الأرض فيه نفس يردد “ لا إله إلا الله محمد رسول الله “ هو قطعة من دار الإسلام وجزء من لب وطننا.
وهذه الحواجز والحدود التي أقامها المستعمرون بين بلاد المسلمين هي حدود مصطنعة الغرض منها تفتيت هذا الوطن الواحد بل الجسد الواحد ليسهل احتلال وامتصاص خيراته.
ولقد علم المستعمرون أن قوة المسلمين في وحدتهم الإسلامية فأرادوا أن يحطموا هذه الوحدة ويقسموا هذه الأمة إلي شعوب ودويلات مع أن الله أرادها أمة واحدة “ إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون “ “ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله “.
فالمسلمون أمة واحدة ووطن واحد ودولة واحدة.
الجهاد فريضة إلي يوم القيامة:
وكما حاول المستعمرون تقسيم وحدة الأمة الإسلامية، حاولوا أضعاف روح الجندية والفداء في نفوس أتباع هذا الدين فاصطفوا فريقا من المسلمين أمدوهم بالمال والجاه ورفعوهم إلي مصاف الزعماء والمفكرين .. وفي وسط هذه التيارات الهدامة والأفكار الخاطئة قام حسن البنا علي رأس الإخوان المسلمين ينادي أن الجهاد فريضة ماضية إلي يوم القيامة، وأن باب الجهاد لم يقفل أبدا وكل اعتداء علي شبر من أرض المسلمين يجب أن يقابل بإعلان الجهاد المقدس وقتال الغاصبين حتى يحرروا أرض الإسلام من المستعمرين.
ولم يدع الإخوان المسلمون هذه الدعوة – دعوة الجهاد – كلمة معلقة أو نظرية منمقة بل أثبتوها حقا في هتافهم “ الجهاد سبيلنا “ “ والموت في سبيل الله أسمي أمانينا “ .
ففي فلسطين كانت كتائب الإخوان أسرع المتطوعين إلي الأرض المقدسة وهناك بذلوا أرواحهم وسفكوا دماءهم مع دماء الفلسطينيين علي أرض هذا الجزء الغالي من الوطن الإسلامي ...
ولما أجمعت الأمة المصرية علي جلاء الانجليز المعتدين قاد الإخوان الشعب المصري في هذه المعركة معركة الجلاء وكان شعارهم “ الجلاء بالدماء “ ومرة آخري سقط شهداؤهم وأحدا بعد آخر: عمر شاهين والمنيسي وغيرهما أمام معسكرات الجيش البريطاني المرابط عند قناة السويس.
قضية الربا:
أقام الإخوان المسلمون في عهد كان رجال الاقتصاد والمال يحللون الفوائد في البنوك والمعاملات علي أنها أرباح وأنها في البنوك 5% ، أما الربا فهو عندما تكون الفوائد أضعاف مضاعفة .. وقال الإخوان أن الفوائد هي من الربا المحرم كبرت نسبتها أو صغرت وصمدوا علي هذا الرأي ، وأعجبني قول مفكر إسلامي باكستاني وضع كتاباً بالانجليزية ذكر فيه أن الحد الأقصى لسعر الفائدة في الإسلام الصفر.
بنوك إسلامية:
ولم يقتصر هذا الانتصار علي الميدان النظري بل قامت “ البنوك الإسلامية “ التي تعلن أنها تتعامل طبقا لقواعد الشريعة الإسلامية ولا تتعامل بالربا أخذا أو عطاء.
معالم على الطريق
“ قل هذه سبيلي أدعو إلي الله علي بصيرة أنا ومن أتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين “
هذا هو دستور الإسلام. والتوجيه الإلهي للناس ، في دعوة واضحة قد تسامت علي الأغراض والأهواء ، وتجاوزت المنافع الشخصية والمادية ، فالإخوان المسلمون لا يسألون الناس مالا ، ولا يطلبون أجرا ولا يبتغون جاها ، إن أجرهم فيما يعملون إلا علي الله ، وهي روح من التضحية إلي إيثار الناس بالمنفعة ، بإرشادهم بهذه الدعوة إلي ما فيه الخير لهم ، بعز عليهم أن يروا ما أصبح عليه قومهم من الذلة والهوان ، فتفيض مدامعهم إشفاقا ، ولا يستكينون لليأس ، بل يستمدون من الضعف قوة ، ولا يرون في ذلك علي الناس منة ، ولا فضلا ، وإنما يذكرون قول الله تعالي “ بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين “
فهي دعوة كان يقول عنها الإمام الشهيد أن من استعد لها فقد عاش بها وعاشت به ، ومن ضعف عن هذا العبء فسيحرم ثواب المجاهدين ، ويستبدل الله به لدعوته قوما آخرين ، أذلة علي المؤمنين أعزة علي الكافرين ، مجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ولا جدال في أن كل مسلم يتمني النصر لدينه ، وأنه يتمني لنفسه إيمانا يهيب به إلي العمل ، ولكنا معشر الشرقيين قد خضعنا طويلا للاستعمار ، فتعودنا الرضا بالدون ، والاستهانة بهذه البوارق النفسية الحكيمة التي تنبثق من أعماق الصدور ، فندع هذه اللمحات السماوية تمر وتنطفئ دون أن نعمل بما توحيه إلينا ، تلك جناية الاستعمار علي نفوسنا ؛ وعزيمتنا ، وتلك ظاهرة نفسية عجيبة تلازمنا فنحن نتكلم كثيراً ، ونتحمس سريعا ، ثم لا نفعل إلا قليلا ، نستمع إلي الوعظ من كرام الوعاظ ، ثم تنصرف ونحن نفيض حماسة وقوة ، ثم لا يلبث هذا الضوء أن ينطفئ سريعا.
وهذا هو ما يهيب بجماعة الإخوان المسلمين لإرشاد الناس إلي الانتفاع بهذه البوارق النفسية القوية المباركة ، وإلي إيقاظ الضمائر التي استنامت إلي الغفلة ، وإلي العودة إلي هذا الكتاب الكريم الذي أنزل علي محمد صلي الله عليه وسلم.
فالفرق بين الإخوان المسلمين وبين غيرهم من الناس ، أن الناس لا يوقظون هذه القوة الكامنة في قلوبهم ، بل يتركون زمامهم للمقادير أن شاءت أيسرت وأن شاءت ذهبت بكل شيء ، ولكن الإخوان المسلمين يسعون جاهدين إلي انتهاز كل فرصة ، وكل وقت لدعوة الناس ، والأخذ بأيديهم إلي الطريق الذي سار فيه الرعيل الأول من المسلمين.
فأنت تري أن الإخوان المسلمين يدعون الناس إلي مبدأ واضح مستبين ، مسلم به من الناس جميعا يعرفونه ويؤمنون به ويعملون أن فيه خير الدنيا والآخرة. وهم يرون الناس فريقين ، فريق اعتقد ما اعتقدوه وآمن بما يؤمنون به وهؤلاء تربطهم بهم أقوى الروابط ، ألا وهي رابطة العقيدة التي تفوق رابطة الدم ، ورابطة الأرض والجوار ، وهؤلاء يقولون عنهم أنهم قومنا الأقربون الذين نفتديهم بالنفس والمال في أي أرض كانوا ، ومن أي سلالة انحدروا.
وفريق ليسوا كذلك ، وهؤلاء يكونون معهم كما أمر الله في محكم كتابه:“ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم ، إن الله يحب المقسطين ، وإنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين ، وأخرجوكم من دياركم ، وظاهروا علي إخراجكم أن تولوهم “ صدق الله العظيم
وأنت تعلم قبل كل شيء أن هذه الدعوة لا تنتسب إلي طائفة خاصة ، ولا تنحاز إلي رأي عرف بين الناس بلون خاص ، وإنما تتوجه إلي صميم الدين وجوهره ، ويود الإخوان أن تتوحد وجهات الأنظار ؛ فإن أعظم ما مني به المسلمون الفرقة والخلاف ، وكان أساس ما انتصروا به الحب والوحدة ، ولن يصلح أمر آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها ، فهذه عقيدة راسخة في نفوس الإخوان يدعون الناس إليها.
فما هي إذن ثوابت الجماعة المتمسكة بها أجيالها فتميزهم عن غيرهم، كما يتبين لنا من فكر الإمام البنا رضوان الله عليه.
ثوابت الدعوة العشر
ثوابت الدعوة العشر هي:
أولاً: اسم الجماعة فكرة وتاريخاً ووفاء.
ثانياً: العمل الجماعي وسيلتنا.
ثالثاً: التربية ونبذ العنف سبيلنا.
رابعاً: الأسرة محضن التربية عندنا.
خامساً: رسالة التعاليم والأركان العشرة خاصة الأصول العشرين، ورسالة العقائد أساس لنا ومصدر تعلمنا.
سادساً: الشمول والعموم أساس نظرتنا الكلية وفهمنا الشامل.
سابعاً: الشورى الملزمة تحسم الخلاف بيننا.
ثامناً: احترام النظم واللوائح من أخلاق بيعتنا.
تاسعاً: الاختيارات الفقهية للجماعة لا خيرة للأفراد فيها.
عاشراً: الله الغاية في كل ثوابتنا ومتغيراتنا، وكل ما نقول ونعمل.
أولاً: الاسم فكرة وتطبيقاً وتاريخاً ووفاءً
اسم الجماعة علم يعرف به فكرها وتصورها وتاريخها، فبمجرد أن تذكر الاسم يبرز إلى مخيلتك الفكر الذي تحمله، والتصور الذي تدعو إليه، والرجال الذين يحملون فكرتها، وتاريخهم منذ نشأتها والأحداث الجسام التي مرت بها، وجهاد رجالها، وأوصاف وصفات أفرادها.
إن مجرد ذكر اسم الجماعة يبرز إلى الذاكرة كل هذه المعاني فكيف نفرط في هذا الاسم العزيز إلى القلب الشامخ كالطود، إننا لا نرضى به بديلاً، ولو اضطر بعض الأتباع في بعض البلاد اتخاذ اسم غير الاسم لظروف قدّروها تقديراً، وقالوا ليست العبرة بالأسماء ولكن العبرة بالمسميات، إن تعددت أسماء الأبناء، فجميع الأبناء ينتسبون إليها، فهم يعرفون بالانتساب إلى الأصل ولا يجوز للأصل أن يغير من اسمه فبه يعرف الأتباع والأبناء وله ينتسبون.
إن اسم الجماعة هو الرمز الذي يشير إلى الفكرة والتاريخ، وبمجرد ذكر الاسم يتضح للسامع اليه ما يميز هذه الجماعة عن غيرها، فإذا ما ذكر اسمها برز فكرها وتاريخها، والعكس صحيح إذا ما ذكر الفهم والتصور والسلوك والتاريخ تردد اسمها، وبذلك أصبح الفهم والاسم كوجهي العملة لا يصح أحدهما إلا بالآخر، وكم من مرة سوومت الجماعة على تغيير اسمها فكان الرفض حفاظاً على التاريخ الذي يراد له اندثاراً، وأراد له الأتباع انتشاراً وحفاظاً فكان الإصرار على بقاء الاسم.
إن شيوع الاسم بين العامة والخاصة في الداخل والخارج، بين الأحباب والأعداء، بين المنصفين والجاحدين، بين المحبين والمشوهين... تاريخ رجال وذكرى لمؤسس أحبه الأتباع، وبذكره يذكر الإخوان، وبذكر الإخوان يذكر الشهيد الإمام، وخلفه المحتسب الصابر الذي لم تلن له قناة، وقاد السفينة في بجر لجى يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب قاتم، فقادها إلى بر الأمان وكان مرشدها الثابت الأمين ... ويذكر الاسم حين يذكر الناس مرشدها الثالث صاحب الصورة المشرقة الصادقة، كما يذكرون مرشدها الرابع الشامخ كالطود، كما يذكرون المرشد الحالي أطال الله في عمره. إنه تاريخ رجال آمنوا بسمو فكرتهم ونافحوا عنها وارتبط جهادهم باسم الجماعة، فبها يذكرون وباسمها يخلدون.
إنه تاريخ أبطال فلسطين وشهداء القتال، وشهداء طرة، ورجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا، كل هؤلاء يذكرون كلما ذكر الاسم الحبيب إلى قلوبهم (الإخوان المسلمون) فكيف نفرط في هذا الاسم الذي غُرس في القلوب بدماء الشهداء وثبات الرجال.
قد يقول قائل: ألهذا الحد أصبح الاسم وهو اختيار واجتهاد من مؤسس الجماعة لتُعرف به جماعته، يصبح من الأمور الثابتة التي لا تقبل التبديل أو التغيير؟.
فنقول وبالله التوفيق: نحن لا ندعي أن هذا الاسم من ثوابت الإسلام، فثوابت الإسلام لا يختلف عليها مسلم – كما بيّنا – ولكننا نقول: إنه من ثوابت الإخوان التي لا يجب التفريط فيها للأسباب التي ذكرناها وبسطناها.
وللذين يتعجبون من هذا القول نقول لهم: إن الأحزاب الوضعية لا تفرط في اسمها، لأنه تاريخ بالنسبة للأتباع.
وقسْ على ذلك الكثير، فكيف باسم لا يرتبط بشخص، إنما يرتبط بفكر ومنهج، رسالة رسول فحق للأتباع أن يستمسكوا بالاسم ولا يفرطوا فيه، فبثبات الاسم ودوامه تبقى الذكرى والفهم والتاريخ، ويعرف المبدأ والتطبيق، ولذلك يتوارثه المؤمنون بالفكرة إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، فيبقى الاسم ببقاء الفكر والفكرة والأتباع.
والأمر الذي يدعو إلى التعجب أن بعض المناوئين للفكرة، والمحاربين للمنهج، الكارهين للإسلام يقولون: إذا كنتم تسمّون أنفسكم “الإخوان المسلمون” فمعنى ذلك أن غيركم لا إخوة ولا مسلمون، وهذا ليس بحق أريد به باطل، بل هو بهتان وإثم مبين، وإلا لأصبح بهذا المنطق المعوّج المغرض ينطبق على حزب ما يسمى “الحزب الوطني” .. فالاسم بهذا المنطق يعني أن غير المنتمين إلى هذا الحزب غير وطنيين.
بل نذهب إلى أبعد من هذا ونقول: هل يعني أن هناك حزباً مسيحياً في بعض الدول الغربية ويسمى “الحزب المسيحي” ينفي صفة المسيحية لغير أعضائه من المسيحيين.
أليس هذا لوناً من العبث بل من التضليل.
إننا نحب هذا الاسم ونتمسك به لأنه يذكرنا بكل معاني الإسلام “إخوة وإسلام” فنحن “الإخوان المسلمون” جماعة من جماعة المسلمين، وكل المسلمين لنا أخوة لهم كل الولاء والحب.
لقد ألهم الله الإمام البنا هذا الاسم الجامع إذ أنه يحمل معاني الإسلام وأركانه معناه ومبناه، فاسم (الإخوان المسلمون) يذكرنا بل يرمز إلى عقدين: عقد الإيمان وعقد الأخوة
وهما ركنان بدونهما لا يتحقق منهج الإسلام، فلا تقوم أركانه ولا يكتمل بناؤه.
وبذلك يكون قد رمز الاسم لأصل الوسيلة التي لا يتحقق المنهج إلا بها ألا وهي الجماعة القائمة على الإيمان والحب، ونحسب أن الله قد ألهم الإمام الشهيد حسن البنا بهذا الاسم الجامع فكيف نفرط فيه؟. وأخيراً أليس من الوفاء للمؤسس والمربي والمعلم والمرشد أن نخلد ذكراه، وأن يبقى الاسم الذي اختاره، فبقاؤه تخليداً لذكراه واعتراف بفضله، فإذا ما ذكره الاسم ارتبط الاسم به والعكس صحيح.
ثانياً: وجوب العمل الجماعي
إن إخلاص القلب، ونقاء الضمير، وطهارة النفس، وصدق القول، وأمانة الأداء كلها من مكارم الأخلاق التي بعث الرسول ليتممها وليكوِّن بها اللبنات الصالحة في مجتمعه.
والعبرة في حركة التاريخ أو في نمو الحضارة وازدهارها ليست بوجود الأفراد المخلصين الذين يتصفون بهذه الأخلاق، مهما بلغ صلاحهم وتقواهم وإدراكهم لحقائق الأمور، وإنما العبرة والأهم أن تكون هناك حركة جماعية، وصلاح يشبه أن يكون تياراً قوياً هادراً غالباً لا ضعيفاً ولا مغلوباً، مؤثراً في غيره بالتعريف بدعوته بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، لا يتأثر بغيره، يقول الحق بعزة المؤمن الذي يستمد قوته من الله ثم من الجماعة التي يرتبط بها.
وليس هذا تقليلاً من عمل الفرد ولا ما يتحلى به من صفات كريمة ولكن إحقاقاً للحق الذي ندين به، ذلك لأنه إذا لم ينجح الفرد المخلص في تحويل دعوته إلى تيار عام يحمله المخلصون أمثاله، ويعتصمون بحبل الله ويكونون على قلب رجل واحد في جماعة واحدة كان من الخاسرين" والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر" (العصر: 1-3) فالاستثناء من الخسران للجماعة التي تتواصى بالحق والصبر وليس للفرد ولو كان مخلصاً.
فإن قال قائل: أنا أستطيع أن أحكم بالإسلام على نفسي، فلا أظلم ولا أزني ولا أسكر، ولا أرابي، وأقيم صلاتي، وأؤدي زكاتي، وأصوم شهري، وأحج إلى قبلتي، وأقوم بكل واجباتي الإيمانية الفردية، وأدعو غيري لذلك ثم أمضي لحالي.
نقول: هذا جميل، ولكن من فعل ذلك كمن أحسن اختيار اللبنات وبدأ بنفسه فأصلحها، ودعا غيره لذلك، ولكن هل نطلق على اللبنات وإن كانت جيدة وصالحة للبناء ولكنها مبعثرة، إنها بناية متعددة الأدوار أو عمارة مرتفعة الطبقات دون أن تجمع هذه اللبنات أو يشد بعضها بعضاً؟.
فهذا حال من دعا إلى ذلك، فكيف نطبق منهاجنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتربوي بل من يقيم الحدود؟ ومن يقيم العدل ويرد الظلم؟ من يحدد الحلال والحرام؟ ومن يحدد أنواع النشاط ووسيلة الكسب؟ من يسوس الأمة ويحمي البيضة وينشر الدعوة ويجاهد الأعداء؟ مَنْ ومن ومن؟.
فلا يكفي أن يقوم أفراد محتسبون مخلصون من هنا وهنا يعملون متناثرين للإسلام. وإن كان عملهم مفيداً ومرصوداً لهم في ميزانهم عند الله، فإن الله لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى، وكل امرئ يجزئ بما قدم حسب نيته، وإتقانه، “فمن يعمل مثال ذرة خيراً يره” (الزلزلة:7) “إن الله لا يظلم مثقال ذرة” (النساء: 40).
ولكن العمل الفردي في واقع الأمة الإسلامية المعاصر، لا يكفي لسد الثغرة وتحقيق الأمل المرتجى، بل لابد من عمل جماعي، وهذا ما يوجبه الدين ويحتمه الواقع.
الدين يدعو للجماعة:
فالدين يدعو إلى الجماعة ويكره الشذوذ، فيد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، ولا صلاة لمنفرد خلف الصف ولا لمتقدم عليه، والمؤمن للمؤمن كالبنان يشد بعضه بعضاً، والتعاون على البر والتقوى فريضة من فرائض الدين والتواصي بالحق والصبر أشد شروط النجاة من خسران الدنيا والآخرة.
والواقع يحتم أن يكون العمل المثمر جماعياً، فاليد الواحدة لا تصفق، والمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، ضعيف بمفرده، قوي بجماعته، والأعمال الكبيرة لا تتم إلا بجهود متضافرة، والمعارك الحاسمة لا يتحقق النصر فيها إلا بتضام الأيدي وتعاضد القوى، كما قال القرآن “إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيانٌ مرصوص” (الصف: 4).
يؤكد هذا: أن القوى المعادية لرسالة الإسلام وأمته، لا تعمل بطريقة فردية، ولا في صورة فئات مبعثرة، بل تعمل في صورة تكتلات وتجمعات منظمة غاية في التنظيم، لها هياكلها ولها أنظمتها ولها قيادها المحلية والإقليمية والعالمية، ومن الواجب علنياً أن نحارب أعداءنا بمثل ما يحاربوننا به، لا يجوز لنا أن نقاوم العمل الجماعي بالعمل الفردي، والعمل المنظم بالعمل المبعثر، فالفوضى لا تقاوم النظام، والفرد لا يقاوم الجماعة، والحصاة لا تقاوم الجبل.
والقرآن الكريم يحذرنا من ذلك حين يقول: “والّذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفساد كبير” (الأنفال: 73).. ومعنى (إلا تفعلوه) أي إن لم يوال بعضكم بعضاً ويساند بعضكم بعضاً، تكن فتنة في الأرض وفساد كبير وأي فتنة وأي فساد أكبر من أن تتجمع قوى الكفر وتتفرق قوى الإسلام، وأن يتلاحم الباطل، ويتمزق الحق، فهذا هو الخطر الكبير والشر المستطير.
عمل جماعي منظم:
ولابد أن يكون العمل الجماعي منظماً، قائماً على قيادة مسؤولة، وقاعدة مترابطة، ومفاهيم واضحة، تحدد العلاقة بين القيادة والقاعدة على أساس من الشورى الواجبة الملزمة، والطاعة المبصرة اللازمة.
فالإسلام لا يعرف جماعة بغير نظام، حتى الجماعة الصغرى في الصلاة تقوم على النظام، فلا ينظر الله إلى الصف الأعوج، ولابد للصفوف أن تتراص وتتلاحم، ولا يجوز ترك ثغرة في الصف دون أن تملأ، فأي فرجة دون أن تملأ يسدها الشيطان، المنكب بجوار المنكب، والقدم بجانب القدم، وحدة في الحركة والمظهر، كما أنها وحدة في العقيدة والوجهة.
ولا يقبل من أحد أن يشذ عن الصف، ويسبق الإمام فيركع قبله أو يسجد قبله، ويحدث نشازاً في هذا البناء المنظم المتناسق، فمن فعل ذلك يخشى أن يمسخ الله رأسه رأس حمار، ولكن هذا الإمام إذا أخطأ فإن من حق مَنْ وراءه - بل من واجبه- أن يصحح له خطأه، سواء أكان من غلط أم من سهو، وسواء أكان الخطأ في القول أم في الفعل، في القراءة أم في أركان الصلاة الأخرى.
حتى إن المرأة في الصفوف البعيدة تصفق بيدها لينتبه الإمام إلى خطئه.
إنها صورة مصغرة لنظام الجماعة الإسلامية، وما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين القيادة والجندية، فليست إمامة معصومة، ولا طاعة عمياء مطلقة، هذا ما دعا إليه الإمام حسن البنا حين أسس حركته الإسلامية المباركة ولم يكتف بالخطب والدروس والوعظ والإرشاد العام، على أهميته، بل رأى بنور بصيرته أنه لابد من التكوين بعد التنبيه، ومن التأسيس بعد التدريس كما عبر هو بقلمه وعلم أتباعه أن الجماعة ضرورة شرعية لابد لها من قائم يقوم عليها، وهكذا يكون فهمنا للإسلام.
فليست عناية الإسلام بالفرد إلا ليكون لبنة صالحة في الجماعة التي ستتحمل عبء الدعوة من حيث نشرها والجهاد في سبيل نصرتها، وإقامة الجولة التي دعا الإسلام إلى تشييدها وتدعيم أركانها. لهذا كانت كل العبادات في الإسلام جماعية أو داعية إلى تدعيم الجماعة، فالصلاة في جماعة تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة، وصلاة الجمعة لا تصح إلا في جماعة، كذلك صلاة العيدين، حتى سنة القيام في رمضان من المستحب أن تكون جماعة.
إن العمل الجماعي وصية الرسول للمسلمين: “يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار”، “فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية”، “من أراد بحبوحه الجنة فليلزم الجماعة”.
يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن الجماعة: إنها حبل الله الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة خير مما تحبون في الفرقة.
ويقول علي رضي الله عنه: كدر الجماعة ولا صفاء الفرد.
والجماعة – كما قلنا- أفراداً وقيادة ومنهجاً، تنشئ أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، ونصرها محقق بوعد الله لها: بالفهم السليم والإخلاص لهذا الدين: “ وإن جندنا لهم الغالبون” (الصفات: 173) “ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإنّ حزب الله هم الغالبون” (المائدة: 56). فالذين يفهمون الإسلام على أنه العبادة الظاهرة فإن أدوها أو رأوا من يؤديها اطمأنوا إلى ذلك ورضوا به وحسبوه لب الإسلام، وأخلصوا لهذا المعنى لا يتعدونه، أنّى لهم بالشعور بوجوب العمل الجماعي،
وكذلك الذين لا يرون الإسلام إلا الخلق الفاضل والروحانية الفياضة، والغذاء الفلسفي الشهي للعقل والروح والبعد بهما عن أدران المادة الطاغية الظالمة، هم أيضاً لن يقتنعوا بأهمية العمل الجماعي،
أما الذين يعتقدون أن الإسلام دين ودولة ومنهاج حياة هم الذين يؤمنون بوجوب العمل الجماعي. وهكذا نفهم الإسلام كاملاً متكاملاً رسالة تربية ومنهج حياة بعيداً عن جمود الجامدين، وتحلل الإباحية وتعقيد المتفلسفين، لا غلو فيه ولا تفريط، مستمداً من كتاب الله وسنة رسوله، وسيرة السلف الصالحين استمداداً منطقياً منصفاً بقلب المؤمن الصادق
عرفناه على وجهه: “عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، وخلق ومادة، وسماحة وقوة، وثقافة وقانون”، واعتقدوه على حقيقته” دين ودولة، وحكومة وأمة، ومصحف وسيف، وخلافة من الله للمسلمين في أمم الأرض أجمعين” وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً” (البقرة: 143).
لهذا الفهم يكون إخلاصاً، فالإسلام –كما نفهم- دين الجماعة، يربي الفرد ليكون مصلحاً لا صالحاً فحسب، لأن الصالح والفاسد لا يتعدى ذاته، ولكن المصلح والمفسد يتعدى الذات إلى الغير” ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلمٍ وأهلها غافلون” (الأنعام: 131).
ويقول سبحانه: “والله يعلم المفسد من المصلح” (البقرة: 220).
إن الصالح – في فهمنا للإسلام- يعتبر شريكاً بسكوته على المنكر، فما الذي يستفيد منه المجتمع بصلاحه الذي يتحلى به، وهو لا يتعاون مع إخوانه ليحققوا مجتمع الفضيلة، إن الساكت على الحق شيطان أخرس”واتقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب” (الأنفال: 25).. ولذلك تسأل السيدة عائشة رضي الله عنها رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون؟... قال: “إذا علا الخبث”.
وفي الحديث – أيضاً-: “إذا أخفيت الخطيئة لا تضر إلا صاحبها، وإذا ظهرت فلم تغيّر ضرت العامة”.
والعمل الجماعي المنظم يقوم على:
- قيادة مخلصة مسؤولة (القيادة).
- قاعدة (الأفراد) مترابط فيما بينها مخلصة لبعضها (الجماعة).
- منهاج بمفاهيم واضحة (الدعوة).
وتقوم العلاقات المحددة فيما بينها على أساس من الشورى الواجبة الملزمة والطاعة المبصرة اللازمة، والإخلاص للفهم والحركة، فإن ارتفع الإخلاص فيما بينها أصبحت كأن تجمع قائم على المصالح والمنافع، وليست جماعة لها مقوماتها وخصائصها وأهدافها ووسائلها، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، لتحقق الخيرية في زمانها الذي تعيشه، وتقود البشرية إلى رشدها، وتحقق قوله تعالى: “وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً” (البقرة: 143).
وبوضوح في الفكرة ووحدة في التصور والسلوك، ووحدة الهدف والمصير ووحدة الغاية التي ننشدها.
ولك أن تتصور جماعة حققت كل ذلك فشعرت بعظمة رسالتها، واعتبرت بالانتساب إليها، ووثقت في نصر الله لها، لاشك أن المولى سبحانه وتعالى يؤلف بين قلوب أفرادها “ وألّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألّفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم” (الأنفال: 63)... ويجري النصر على أيديهم ويحقق بهم وعده ” وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً” (النور: 55).
لهذا كله فإننا نرى إجماع المسلمين من بعد وفاة الرسول ( على من يخلفه ليحفظ الدين، وتستمر الدعوة، ويحمي الأمن، وتبلغ رسالة الإسلام إلى سائر أنحاء الدنيا).
يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لابد للناس من إمارة برة أو فاجرة.
قيل: يا أمير المؤمنين هذه البرة قد عرفناها، فما بال الفاجرة؟...
قال: تقام بها الحدود، وتؤمن بها السبل، ويجاهد بها العدو، ويقسم بها الفئ.
ويقول ابن خلدون: إن نصب الإمامة قد عرف وجوبه من الشرع بإجماع الصحابة والتابعين ولم يقل أحد بغير ذلك.
أما الإمام الجويني فيقول: الإمامة إنما تقوم على أصل الإجماع الثابت.
كما يقول الإمام الشهرستاني: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعد خطبته في سقيفة بني ساعدة: ولابد لهذا الدين من قائم يقوم عليه، فناداه الناس من كل جانب: صدقت يا أبا بكر.
ونفس المعنى يقوله الإمام الماوردي: الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين، وسياسة الدنيا.
ولقد صدق القائل: الدين أصل والسلطان حارس، وما لا أصل له فمهدوم، ومن لا حارس له فضائع...
فلكي نحقق أهدافنا وما نصبو إليه كان لابد من تحديد الأهداف التي تسعى لتحقيقها الجماعة وهي:
الفرد المسلم، والبيت المسلم، والشعب المسلم، فالحكومة المسلمة فالدولة التي تقود الدولة الإسلامية وتضم شتات المسلمين،
ولذا فإن الجماعة التي تدعو إلى هذا الفهم تعريفاً وتكويناً وتنفيذاً هي التي تعمل على تحقيق هذا الواجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
فلا إسلام – عند الإمام البنا- بدون جماعة، ولا جماعة بدون إمارة، ولا إمارة بدون طاعة، لأن الإسلام نظام وطاعة، وأكبر دليل على ذلك الخطاب القرآني ونداؤه الجماعي “يا أيها الذين آمنوا”... بل إن صدر سورة البقرة تبين أن تحقيق الهدى لا يكون إلا من المتقين وليس المتقى “ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين”... ثم عدد ربنا صفاتهم “الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون” فهي صفات جماعية كما رأيت، بل إن المولى يذكرنا بهذا المعنى حين نردد في كل صلاة “إياك نعبد” بصيغة الجمع.
إننا حين نقول إن الإسلام دين الجماعة، فهذا الفهم دين والمفروض أن يكون من ثوابت أي جماعة من الجماعات التي تدعو إلى الإسلام ، وحين أهمل هذا الفهم ونساه المسلمون وفصل العلمانيون الدين عن الدولة جدد هذا المعنى الإمام البنا ودعا إلى العودة إليه.
فهو من ثوابت الإسلام نفسه الذي يدعو إلى تحقيق النظام في أقل عدد يتصوره المسلم حتى ولو كان مسافراً، فإن كان بمفرده في سفره فالشيطان معه، وإن كانوا أكثر من ذلك ولو ثلاثة كان لابد من أن يؤمر عليهم أمير “إن كنتم ثلاثة فأمروا أحدكم”... فما بالك بمن يريد أن يحي أمة ويقيم دولة ويصنع حضارة، ألا يحتاج هذا إلى تنظيم دقيق وأمير مطاع الجماعة يشعر كل فرد فيها أنه في كيان مطالب أن يقيم دين الله على الأرض عقيدة وشريعة كمنهج حياة يتناول جميع جوانبها؟.
ولا شك أنه إذا قوى إيمان الأفراد اشتد عود الجماعة، وسعت نحو أهدافها تحققها، وإلا تفكك الصف لضعف الإيمان بين الأفراد، أو عدم وضوح الرؤية أو ميل القلب إلى شيء من أمور الدنيا المعوقة عن السير مثل المال، والولد، والأهل، والخلود إلى الراحة، أو اليأس والخوف والفتور الذي يصيب الأفراد أثناء السير، أو الحماس الزائد الذي يتصف به المنبت الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، أو عدم الشعور بالولاء.
وإذا كان الذي نقول هو نهاية المآل وهو واجب المسلمين جميعاً لإقامته، فإن الوسيلة الموصلة إليه من الواجب أيضاً، فالدعوة إلى عدم أهمية العمل الجماعي دعوة لإضعاف المسلمين وتفكيك وحدتهم في زمان لا يعرف إلا التكتلات والتجمعات لتحقيق المصالح، فما بالك بالإسلام الذي يعتبر الجماعة إيماناً والتفرق كفراً.
ولا يتم معني الجماعة في نفس الفرد إلا إذا شعر:
أولاً: بالاعتزاز بانتمائه إليها.
ثانياً: الطمأنينة في وجوده فيها.
ثالثاً: أنها حققت أو تحقق أمانيه.
نص عريضرابعاً: أنه عضو فيها ولبنة من لبناتها يمدها وتمده، ويشدها وتشده.
خامساً: أنه بها وليس بغيرها وهي إن لم تكن به فبغيره” وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم” (محمد: 38).. " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقومٍ يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم” (المائدة: 54).
وهذا هو الفرق بين التجمع الذي لا رابط له ولا رأس ولا منهج، وبين الجماعة التي هي وجدان ووشائج ومشاعر، وترابط وحب، ونظام وأهداف ووسائل، وجند وقيادة غايتها الله، ولذلك كان إصلاح النفس لتكون تقية، وتكوين الأسرة لتكون مسلمة، وإرشاد المجتمع لتسود القيم والمبادئ والأخلاق وشعائر الإسلام ومظاهره في كل أرجائه، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة لتطبيق شرع الله، بالوسائل السلمية والشرعية عن طريق جماعة حققت قوة الحب وقوة الإيمان هي السبيل الوحيد لإقامة شرع الله، وذلك وجدنا رسول الله ( يدعونا إلى الجماعة والسمع والطاعة في كثير من أحاديثه الشريفة، ولا يتحقق السمع والطاعة إلا بتربية متأنية داخل الجماعة.
ثالثاً: التربية سبيلنا ونبذ العنف مبدؤنا
هذه مدرستنا التربوية:
إن رسول الله لم يكن له منهج إلا القرآن، ولم يكن له من كلية ولا معهد ولا مدرسة تربوية إلا المسجد، وكان تلامذته أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وأضرابهم من أصحابه يتربون في هذه المدرسة، ومن هذه المدرسة المباركة انطلقت حضارتنا الإسلامية تغير الدنيا بمنهاجها، فهل رأيتم مدرسة أزكى وأنبل من هذه المدرسة؟
ومن هذه المدرسة خرج أنبل من عرفت الدنيا من أساتذة الدنيا في كل الفضائل الإنسانية والعلوم والمعارف ، إنها المدرسة التي تهبط فيها الرحمات ، وتتلي فيها الآيات ، وتشرق عليها أنوار رب العالمين ليصبح خريجوها أساتذة الدنيا كلها.
ويلح علينا سؤال: فيم كانت تحلم هذه العصبة التي رباها رسول الله ، وفيم كانت تفكر؟ وماذا تريد؟ وإلى أي مدى يمتد أمل هذه الكوكبة التي تجتمع في خفية وتتناجى سراً؟ ماذا يريد هؤلاء؟ إنهم يريدون أن يضعوا في رؤوس الناس عقلاً جديداً، وأن يقيموا على ظهر الأرض ديناً جديداً، وأن يبنوا كل البشرية بناء جديداً.
وأن يصلوا بين السماء والأرض وهم يقولون إياك نعبد وإياك نستعين، وهي القليلة في عددها، العزلاء من كل عدة، تريد أن تُهدي للناس بإذن ربها نظاماً جديداً، وإنسانية جديدة.
إنها المدرسة التي جمعت قلوب العباد على رب العباد، ووضعت في القلوب شعوراً جديداً وصنعت بهذا كله خير أمة أخرجت للناس، كما أرادها رب الناس بتربية كان عمادها أموراً ثلاثة، حققوا بها العبودية لله رب العالمين.
أولاً: الإيمان الكامل: هذا الإيمان الذي جردهم من كل هدف إلا هدف دعوتهم، لقد سمعوا النداء، ففروا إلى الله أولاً، واتخذوا “لا إله إلا الله” شعاراً لهم، وهزءوا بكل ما عداها، وسخروا من كل ما سواها.
علمتهم وربتهم على أنهم الحق الصراح، لأنهم تجردوا من وثنيتهم وأهوائهم وشهواتهم، ووهبوا كل هذا لله، فهم لا يعبدون إلا الله، ولا يخضعون إلا الله، ولا يعتمدون إلا على الله، ولا يسألون إلا الله، ولا يتلذذون إلا بشعورهم بالأنس بالله، وحين يألمون لا يألمون إلا لذنب يبعدهم عن الله، هذا الذي جمع بين قلوبهم، بعد أن علموا أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، وأن العاقبة للمتقين، فانمحت الفوارق التي تمزق الجماعات، والتي تباعد بين القلوب لأنهم صبغوا بصبغة جديدة” صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة” (البقرة: 138).
ثانياً: الحب الوثيق واجتماع القلوب، وائتلاف الأرواح، فعلام يختلفون؟ على عرض زائل من عرض الدنيا؟ على تفاوت في الرتب والوظائف والألقاب وهم يعلمون”إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم” (الحجرات: 13).
فلم توجد عوامل تدعوهم إلى الفرقة التي تمزق وحدتهم وهم صناع التاريخ والحضارة الربانية؟.. لذلك اجتمعوا وتوحدوا، وصاروا إخواناً في الله، فلم يحقر أحد منهم أحداً، بل أحب كلٌ أخاه حباً دونه كل حب، حباً بلغ درجة الإيثار، لأنهم قرأوا قول الله تعالى”قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموالٌ اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين” (التوبة: 24) فكان حبهم الله، وبغضهم في الله، وعطاؤهم لله، ومنعهم لله، فاصطبغت حياتهم بهذا الحب الذي سيقاتلون الناس به. على هذا توبوا.
ثالثاً: كما تربوا على التضحية التي دفعتهم إلى تقديم كل ما يملكون من النفس والنفيس لله رب العالمين، حتى أن أحدهم كان يتحرج أن يأخذ شيئاً من الغنيمة التي أحلها الله لهم حتى أنزل المولى فيهم “فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً” (الأنفال: 69).
حتى هذا الحلال تحرصوا منه، وتورعوا عنه، وتركوه حسبة لله تبارك وتعالى، كي لا يكون في أعمالهم شائبة طمع ولا حب دنيا، لذلك خرجوا من الذلة إلى العزة، ومن الغربة إلى الوحدة، ومن الجهالة إلى العلم، فكانوا بناة الحضارة بحق، وهداة البشرية، وعرائس الجنة، كل اكتسبوه بتزكية رسول الله صلى اللهعليه وسلم لهم.
مفهوم التجديد الذي نريد:
إن التجديد عندنا له منطلقاته الإسلامية، وهي فكرة نرحب بها ولا نحاربها، ولسنا الذين اخترعنا كلمة التجديد، فالذي شرع لنا التجديد هو رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي رواه أبو داود في سننه والحاكم وصححه عدد من العلماء “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”...
فالتجديد الديني مشروع ولكن لابد أن يكون بعيداً عن الثوابت وله أصول وضوابط، فمن يجدد ويغير؟ وما الذي يتجدد ويتغير؟.
يجب تجديد دين الأمة، وتجديد فهمها، لتفهمه الفهم الصحيح...
وتجديد إيمانها به، بحيث لا يكون مجرد شعار يرفع أو دعوة تدعى...
وتجديد علمها بهذا الدين، والتزامها به حتى يصبح الإسلام جزءاً من حياتها، تحيا به وتدعو إليه دعوة تعايش العصر، وتواكب التطور، وتستخدم أساليب الزمن، وتخاطب كل قوم بما يناسبهم... فهذا هو التجديد الذي يربى عليه الأفراد، أما ثوابتنا فلا جديد فيها ولا تجديد لها وهذا ما فعله الإمام البنا رحمه الله في زمانه.
لقد أقيمت الدولة في الإسلام بجهد بشري عبر عملية تربوية طويلة متدرجة، تم خلالها صياغة مجتمع متكامل – كيان أمة- انطلاقاً من عقيدة التوحيد الجامعة، التي رسمت الخطوط الأساسية، والأطر العامة التي يُهتدى بها في عملية تأسيس البناء، لتكون الدولة نتاجاً ومحصلة طبيعية لهذا المجتمع العقيدي. إن جوهر وظائف الدولة الإسلامية، هي القيم الإسلامية الأساسية، فتحقيق وممارسة تلك الوظائف بمثابة إنجاز وتحقيق للمقاصد الشرعية، وبديهي أن المقاصد الشرعية مشتقة من القيم الأساسية، والقيم لا تتحقق إلا برجال آمنوا بفكرتهم ودعوا لها وضحوا من أجلها.
من أجل ذلك كانت التربية ونبذ العنف هما سبيلنا إلى التغيير.
التربية ونبذ العنف:
إسلامنا لا يقوم صراحة إلا على كواهل رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، عظمت الآخرة في نفوسهم فلا يعملون إلا الطاعات، وصغرت الدنيا في أعينهم فلا تفتنهم الشهوات، وتحقق اليقين في قلوبهم فلا يتأثرون بالشبهات، فصفت نفوسهم، وطهرت قلوبهم، وسلمت صدورهم، ورجحت عقولهم، وصحت أعمالهم وقالوا: “ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين” (آل عمران: 53). فأقبلوا على الله بهمة عالية، وإرادة قوية، وعزيمة فتية، وتصميم لا يلين، تدفعهم عقيدتهم، وتوجههم تصوراتهم، فحققوا فكرتهم على أرض الواقع، لأن الفكرة لا تصبح حقيقة واقعة إلا إذا قوى الإيمان بها، وتوفر الإخلاص في سبيلها، وازدادت الحماسة لها، ووجد الاستعداد الذي يحمل صاحبه على التضحية والعمل لتحقيقها.
والفكرة الجيدة يتوقف نجاحها على أمور ثلاثة:
أن يتصورها معتنقوها تصوراً “واضحاً”.
أن يؤمن بها أصحابها إيماناً “عميقاً”.
أن تجتمع قلوب أهلها اجتماعاً “قوياً”.
فيترجموها على أرض الواقع حتى تصبح حياة معيشة.
وتحتاج الفكرة الصحيحة إلى شخصية إسلامية متفردة تسير وفق منهاج رباني، لا يأتيه الباطل من بين يديها ولا من خلفها، تنزل من حكيم حميد، تضع هذه الشخصية نصب أعينها الأسوة الحسنة وخير قدوة محمداً صلى الله عليه وسلم الذي حدد لها تفاصيل طريق العمل، ودلها على الحلال فاتبعته، وعلى الحرام فاجتنبته، وعلمها أن الشر والخير فتنة فصبرت عليه، فهي شخصية فاعلة ولها دورها الأساسي في بقاء المجتمع إذ هي أداة التغيير ووسيلة الإصلاح.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم بين لنا أنه حين تشتد مصائب الأمة ويتواصى أهل الكفر عليها لا ينقذها إلا رجل، فرد مسلم هو صاحب هذه الشخصية الفذة الملهمة فيقول صلى الله عليه وسلم:“إن الله يبعث على رأس كل مائة عام من يصلح أمر هذا الدين”.
إنها شخصية فعالة تؤمن بما تقول وتعتقد، عملها مبني على الدراسة والتطبيق لمنهج النبوة الذي يجعل للعمل هدفاً وغاية، ليصبح للحياة معنى ورسالة.
الهدف والغاية:
لقد تعلمنا من منهاج الإمام البنا أن كل إنسان قبل أن يصمم على البدء بالخطوة الأولى في مسيرته إلى الهدف الذي رسمه لنفسه، عليه أولا وقبل كل شئ أن يكون مؤمناٌ بهذا الهدف، مؤمناٌ بقدرته على تحقيقه بمشيئة الله وعونه.
ذلك لأن الإيمان بالهدف المنشود، والإيمان بالوصول إليه هما الشرطان الأساسيان لكل عمل جاد يأخذ الإنسان نفسه به ويتطلع إلى تنفيذه، ولنا في رسول الله الأسوة الحسنة الذي نشعر في جميع مراحل حياته الشريفة بأنه صاحب قضية حق، فكان صلى الله عليه وسلم دءوباً لا يكل ولا يمل من العمل بالرغم من أن الله وعده بأن هذه القضية مكتوب لها النصر والغلبة، مهما تراخى الزمن. وبهذا الإيمان وهذا التصور السليم بدأ الإمام البنا، بعد أن وضع أهدافاً محددة ولم يأل جهداً في العمل على تحقيقها وهذه الأهداف التي تلتزم بمنهاج النبوة تعريفاً وتكويناً وتنفيذاً تحتاج لتحقيقها تربية متأنية هي:
- إيجاد يقظة روحية إيمانية.
- تربية الفرد المسلم تربية شاملة لجميع مناحي الحياة بدنياً وعقلياً وروحياً ونفسياً، تربية تشمل جوانب الحياة جميعها.
- تكوين الأسرة المسلمة على أساس هذه التربية.
- إيجاد المجتمع المسلم المربى أفراده، والذي يطبق منهج الإسلام في واقعه.د
- إحياء الخلافة الإسلامية التي افتقدناها زمناً طويلاً.
- إعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية لتصبح خير أمة أخرجت للناس.
وهذا كله يحتاج إلى عمل دءوب متصل، عمل شعبي منظم للعودة بالإسلام إلى قيادة المجتمع، وتوجيه الحياة – كل الحياة- بأوامره ونواهيه وتشريعاته وتوصياته ليس مجرد كلام يقال، أو خطب تلقى أو محاضرات تنظم، أو كتب تألف ومقالات تنشر، وإن كان هذا كله مطلوباً طلباً مؤكداً لا ريب فيه، ولكنه جزء من حركة وليس هو الحركة والله تعالى يقول: “وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون” (التوبة: 105) فهو عمل شعبي منظم يقوم أساساً على الانبعاث الذاتي والاقتناع الشخصي، إيماناً واحتساباً، وابتغاء ما عند الله لا ما عند الناس.
وكل ذلك يحتاج فهما وتربية، ولذلك كان مضمون الدعوة في مرحلة الإمام حسن البنا هو تحريك الأمة، وتحريك عقولها حتى تفهم، وتحريك قلوبها حتى تؤمن، وتحريك إرادتها حتى تصمم، وتحريك أيديها حتى تعمل.
فالدعوة عمل فكري تنويري يضيء العقول،
وهي عمل دعوي تحريضي يحرك المشاعر،
وهي عمل تكويني تربوي ينشئ الشخصية الإسلامية السوية،
وهي عمل اجتماعي يساهم في حل مشكلات المجتمع وإشاعة الخيرية،
وهي عمل اقتصادي يحرر اقتصاد الأوطان المسلمة من التبعية المطلقة للغير ومن رجس الربا والمعاملات المحظورة،
وهي عمل سياسي لإقامة حكم الإسلام وإعادة دولته وتطبيق شريعته،
وهي عمل جهادي لتحرير أرض الإسلام في المشرق والمغرب من كل سلطان أجنبي بالمنهاج النبوي.
وهذا الذي نقول يحتاج إلى التأكيد على أن الإسلام رسالة تربية قبل أن يكون رسالة تنظيم وتشريع، ورسالة قيم قبل أن يكون رسالة جهاد وقتال، لذلك فهو يحتاج إلى فهم:
أولاً: أن الهدف من تطبيق المنهج النبوي هو إيجاد واقع عملي إسلامي تطبق فيه أحكام الشريعة نصاً وروحاً، لأنه لا يجب علينا أن نطالب الإسلام بإيجاد الحلول العملية لمشاكلنا قبل أن نجد له الواقع الذي نطبق فيه شريعته وأحكامه، وهذا لا يتحقق بالقهر والإجبار ولكن بالتربية والإقناع والإيمان.
ثانياً: أن العمل لتحقيق هذه الأهداف يجب أن يقوم على أساس التخطيط المرحلي، بحيث لا ينتقل العمل من مرحلة إلى أخرى، إلا بعد تحقيق أهداف المرحلة السابقة، وأن يتسم العمل في هذه المراحل بالمرونة، لأن طبيعة العمل في هذه المراحل متداخل مترابط، إذ أن تحقيق أهداف أي مرحلة سابقة سيساعد على تحقيق أهداف المرحلة اللاحقة، كما أن تحقيق جميع هذه الأهداف، سيؤدي حتماً إلى تحقيق الأهداف الكبرى للإسلام، فإيجاد الفرد المسلم سيساعد على تكوين الأسرة المسلمة، وتكوين الأسرة المسلمة سيساعد على تكون المجتمع المسلم وهكذا.
ثالثاً: أن العمل لتحقيق هذه الأهداف يجب أن يقوم على أساس العمل الجماعي، الذي يقوم على أساس وجود قيادة شعبية على رأس طليعة مؤمنة، تعمل لتحقيق قيادة الرأي العام الإسلامي، وتتكتل بعد ذلك الجهود لتحقيق أهداف الإسلام، لأن العمل الفردي أعجز من أن يحقق هذه الأهداف، ولأن دين الإسلام هو دين الجماعة التي تربى أفرادها على هذه المعاني.
صدى الدعوة الأولى:
وليست دعوة الإخوان بدعاً من الدعوات، فهي صدى الدعوة الأولى يدوي في قلوب المؤمنين، ويتردد على ألسنتهم ويحاولون أن يقذفوا به إيماناً في قلوب الأمة المسلمة، ليظهر عملاً في تصرفاتها ولتجمع قلوبها عليه، فإذا فعلوا ذلك أيدهم الله ونصرهم وهداهم سواء السبيل، ولذلك كان هذا الباعث ثابتاً كالطود الأشم، لا يتغير ولا يتبدل بتغير الزمان والمكان والأشخاص، ولا نستطيع أن نتخلى عنه ولا نتفاوض فيه لأنه من معالم النجاح الأساسية للدعوة والرسالة.
وهذه الرسالة تتمثل في هداية البشر إلى الحق، وإرشاد الناس جميعاً إلى الخير، وإنارة العالم كله بشمس الإسلام، فذلك قوله تبارك وتعالى”يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون (77) وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير” (الحج: 77، 78).
لقد عرف الإمام البنا تاريخ الأمم والنهضات وتاريخ الدعوات والرسالات، وعرف من قراءة التاريخ أن نهضات الأمم ورسالات الأنبياء ودعوات المصلحين لا تنجح ولا تنتصر إلا بالرجال المؤمنين الأقوياء الذين يعتبرون بمثابة البناة والحراس.
وعرف الإمام البنا أن بناء هؤلاء الرجال أهم ما ينبغي أن يعنى به المصلحون، وأن له الأولوية على ما سواه، ويظهر ذلك جلياً في رسالة ( إلى أي شيء ندعو الناس) تحت عنوان (من أين نبدأ ) يقول:
“ إن تكون الأمم، وتربية الشعوب، وتحقيق الآمال ومناصرة المبادئ، تحتاج من الأمة التي تحاول هذا أو من الفئة التي تدعو إليه على الأقل إلى قوة نفسية تتمثل في عدة أمور:
- إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف،
- ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر،
- وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل،
- ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له، يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه، والمساومة عليه والخديعة بغيره،
على هذه الأركان الأولية التي هي من خصوص النفوس وحدها وعلى هذه القوة الروحية الهائلة، تبنى المبادئ وتتربى الأمم الناهضة، وتتكون الشعوب الفتية، وتتجدد الحياة فيمن حرموا الحياة زمناً طويلاً، وكل شعب فقد هذه الصفات الأربعة أو على الأقل فقدها قواده ودعاة الإصلاح فيه، فهو شعب عابث مسكين لا يصل إلى خير ولا يحقق أملاً، وحسبه أن يعيش في جو من الأحلام والظنون والأوهام “إن الظن لا يغني من الحق شيئاً” (يونس: 36) هذا هو قانون الله تبارك وتعالى وسنته في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
وبهذه التربية يكون الفرد المسلم ذلك الإنسان الذي لا يلهث وراء الشهوات والنزوات، أو العابث بالأموال والخيرات، بل يصبح له رسالة تملك عليه حياته حتى يقول:”إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (162) لا شريك له وبذلك أمرت” (الأنعام: 162، 163).
إن موضوع التربية –ابتداء- من الموضوعات ذات الأهمية الكبرى في حياة الأمم، فالأمم لا ترقى إلا بالتربية على قاعدة صحيحة، والأمة إذا لم يرب أبناؤها تربية صحيحة، اختلت فيها الموازين في جميع مجالاتها الاجتماعية والسياسية والإدارية، والاقتصادية وغيرها.
ونتاج العملية التربوية الإسلامية هو فرد مسلم على الصورة التالية:
-إيجابي يواجه الحياة ويأخذ نصيبه منها، فلا سلبية ولا انزواء ولا فرار من الواقع ولا تسول ولا تواكل، بل سعى في مناكب الأرض.
-قوي الإرادة يتصدى ويختار لنفسه ويتحمل مسئوليته كاملة عن تصرفاته، بعد أن يكون قد علم مواضع الخير والحق.
-صاحب ضمير يهديه إلى كافة واجباته نحو نفس ونحو المجتمع.
-ذو ذكاء، بناء على خبرة وممارسة مواقف الحياة فهو يتأمل ويدرك العلاقات ويبحث عن الحقيقة، وذو حيل في الوصول غليها في أمور الدنيا والدين.
-متعطش إلى العلم دائماً ولو في ميدان واحد، فلم يذم القرآن شيئاً كما ذم الجهل، ولم يعرض بأحد كما عرض بالجاهلين.
-وهو واقعي لا يتوقع خطأ في الحياة إلا بمقدار ما يعمل، ولا جزاء الا بمقدار ما يحسن ويتوكل على الله ولا يتواكل.
-قوي كريم فلا يترخص في حقوقه ولا يتخاذل أمام ظلم أو عسف، ولا يترخص في واجباته أمام جسامة المسئوليات.
-مجاهد بالمفهوم الإسلامي للجهاد وهو يبدأ بمجاهدة النفس في الجهاد في سبيل العلم وفي سبيل العيش وفي سبيل الله، ثم الوطن، وكل جهاد في الإسلام بهذا المعنى هو نوع من العبادة. أخلاقي فهو يملك صفات منها: الصبر، والشجاعة، والعدل، والفقه، والحلم، والرحمة عند المقدرة، ومساعدة الغير، وإكرام الوالدين، وصلة الرحم، والوفاء بالعهد، والتسامح، والتواضح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والبغي، يقول كلمة الحق ويترفع عن السفاسف في الأمور، وكلها فضائل ذات قيمة اجتماعية وقد تبدو هذه الصفات صعبة أو مثالية، والحقيقة أنها ليست كذلك متى التزمت التربية بها.
وهكذا تتحدد مهمة التربية إزاء الفرد في وضوح وتظهر معالم التربية الإسلامية، كام يجب أن تكون عند المسلمين بلا نقل ولا اقتباس ولا تطفل على أفكار الغربيين والشرقيين، وبلا خروج من جلودنا لنلهث وراء الآخرين.
ضوابط العملية التربوية:
الواقعية العملية والتدرج في الخطوات:
فمع شمول التصور وثبات الغاية وعدم تجزئتها، هناك المرحلية العملية في مواجهة الواقع بما يناسب الظروف المحيطة والإمكانات المتاحة، بما يضمن الوصول إلى الهدف في النهاية.
وتنبثق وترتبط كل حركة وعمل تربوي بالغاية الكبرى، وبالهدف المطلوب:فغايتنا الأساسية هي: الله سبحانه وتعالى.
والهدف العملي هو إقامة دولة الإسلام بتربية وتكوين جيل جديد من المؤمنين بتعاليم الإسلام الصحيح، يعمل على صبغ الأمة بالصبغة الإسلامية في كل مظاهر حياتها.
ومعرفة مرحلة الدعوة يحدد أسلوب التربية، ففي مكة كانت التربية بالشدة ابتلاء، وقيام الليل بناء، وفي المدينة كان للمسجد دوره المعروف تعريفاً وتربية وتعليماً وتطبيقاً، والأخوة تعميقاً وتكويناً وسلوكاً.
وأن تراعى القواعد الأصولية، فدفع الضرر مقدم على جلب المصلحة، وتفويت أدنى المصلحتين، واحتمال أخف الضررين، وهكذا يضغط الفرد المسلم الذي هو وسيلة التغيير، حماسته وحركته فلا يتقدم ولا يتأخر عن الصف، ويكون وقافاً لما يطلب منه، ويسمع ويطيع ويسعى لتحقيق رباط الوحدة الصادقة.، فهو يصلح نفسه، ويدعو غيره ويقيم دولة الإسلام في نفسه.
ووسيلتهم ترتكز على:
أ- تغيير العرف العام، ونشر الفكرة وكسب الأنصار.
ب- تربية أنصار هذه الدعوة على هذه التعاليم، وتكوين الركائز التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي. ويظهر الأثر والنتيجة حين تعم تعاليم الرسالة المجتمع، ويكثر الأنصار ويتماسك البناء بقوة العقيدة، وقوة الوحدة.
إن الفرد المسلم هو اللبنة الأساسية في البناء، سواء في بناء البيت المسلم أو المجتمع المسلم أو الحكومة المسلمة، وبقدر ما ينال الفرد من قسط وافر من التربية بقدر ما يكون البناء متيناً، فأي تقصير في مجال التربية للأفراد يعتبر ضعفاً في الأساس يعرض البناء إلى الانهيار إن عاجلاً أو آجلاً.
فلابد من مرحلة يُركز فيها على التربية والبناء؛ لأن الجهود التربوية تضمن سلامة سير العمل بخطواته المحددة، والبعيد عن الانحراف، وتلافي الفتن والفتوة، والتهور والتسرع، لأنها ضوابط شرعية، وسنة عملية ربى عليها صلى الله عليه وسلم أصحابه الذين أسسوا دولة الإسلام.
الإيمان قبل النظم والهياكل:
إن الحياة الإسلامية لا تبنيها النصوص والنظم والهياكل فقط، إنما يرفع قواعدها، ويثبت أركانها المؤمنون بها، المضحون من أجلها العاملون لتحقيق أهدافها... فليس لقانون إسلامي فرصة تغيير بدون أفئدة تتعبد بتطبيقه...
إنها الاستقامة”واستقم كما أمرت” (الشورى: 15)...
لذلك كان عمر بن الخطاب –رضوان الله عليه- يوصي جنده بالتقوى قبل النزال ويقول: “أخوف ما أخاف عليكم الذنوب، فإن ذنوب الجيش أخوف عليه من عدوه”.
وكان أبو الدرداء – رضي الله عنه- يقول: “أيها الناس، عمل صالح قبل الغزو، فإنما تقاتلون بأعمالكم”.
وكان الفضيل بن عياض يقول للمجاهدين إذا أرادوا أن يخرجوا: “عليكم بالتوبة، فإنها ترد عنكم ما لا ترده السيوف”.
ولذلك حين أطل الإمام أحمد بن حنبل ببصيرته، فرأى إهمال الثقات، وصعود النكرات، وتمكين أهل البدع، وتوسيد الأمور إلى غير أهلها قال: “إذا رأيتم اليوم شيئاً مستوياً فتعجبوا”.
ذلك لأنه إذا غلبت الأهواء أعراف الإيمان في تزكية الرجال، وصار “يقال للرجل ما أعقله، وما أظرفه، وما أجلده، وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان” حتى تصبح مراكز الحكم يعتليها الظلمة، ويتصدرها الفسقة، ويصبح الجهال صدور مجالس العلم، يومها قل على الدنيا العفاء، لأن الفجار سيعلون على الأبرار.
إن السير بالدعوة، وممارسة الحركة تحتاج إلى مراحل، كل مرحلة توصل لأختها، لذلك وجدنا الإمام البنا رضوان الله عليه حدد المراحل من تعريف وتكوين وتنفيذ، كما حدد الخطوات والأهداف المرحلية بإيجاد الفرد المسلم النموذجي، البيت المسلم المؤسس على التقوى، والمجتمع المسلم المتجاوب مع دعوة الله، والحكومة الإسلامية، ويتم ذلك على مستوى الشعوب والأقطار الإسلامية ثم تكون الدولة الإسلامية ثم أستاذية العالم بإذن الله.
وللتعريف وسائله من دروس ومحاضرات وندوات ومؤتمرات، ونشرات ورسائل وصحف ومجلات، ومدارس ومستشفيات وأندية رياضية ومؤسسات اقتصادية، وكذا مجال البر والخدمات الاجتماعية إلى آخر ذلك. وللإعداد والتكوين وسائله، من قيام ليل، إلى صيام نهار، إلى أذكار وأوراد، إلى مخيمات، ورحلات ورياضة وجوالة، وغير ذلك من التكاليف والواجبات.
كل ذلك من الوسائل التي تعمق صفات المسلم العامل من فهم، وإخلاص وعمل، وجهاد، وتضحية، وأخوة، وطاعة، وثقة وتجرد، وثبات، وغير ذلك من الصفات التي تبني الرجال.
ولم يكتف الإمام البنا بالاهتمام بقوة العقيدة والتربية الفردية، ولكن ركز على قوة الوحدة والرابطة بين الأخوة كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين آخى بين المهاجرين والأنصار، وهذه الأخوة لها أهميتها على طريق الدعوة وفي مجالات الحركة والجهاد بما لا يدع للأعداء ثغرات ينفذون منها إلى الصف “ إنّ الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص” (الصف: 4).
لذلك جعلها الإمام ركناً من أركان البيعة، إنها تربية ومعاناة لها آثارها وثمارها.
فإن كنت ممن يأخذ الأمر بقوة وثبتك الله على طريقه، وحبب إليك الإيمان وزينه في قلبك، وكره إليك الكفر والفسوق، والعصيان، وأصبحت من الراشدين فضلاً من الله ونعمة، تآلفت مع هذه القلوب التي اجتمعت على محبته، والتقت على طاعته، وتوحدت على دعوته، وتعاهدت على نصرة شريعته، فكنت أنت وإخوانك من الذين آمنوا بسمو دعوتهم، وقدسية فكرتهم، وعزموا صادقين، على أن يعيشوا بها أو يموتوا في سبيلها، وتحققت فيك صفات المجاهدين خلقاً وسلوكاً، ولك أن تتصور مجتمعاً هذا فهمه وهذه لبناته وهذا هو ترابطه ووحدته يردد “ إياك نعبد وإياك نستعين (5) اهدنا الصراط المستقيم (6) صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين”.
رابعاً: الأسرة محضن التربية
الأسرة ومكانتها:
منهج التغيير عندنا يبدأ بالنفس وبالقلب إخباتاً ووجلاً وبالجوارح خشوعاً وعملاً.
وهذا المنهج من الثوابت التي لا نحيد عنها، ليس تكتيكاً – كما يزعم المرجفون- بل هو مبدأ أخلاقي ديني ثابت دائم لا يتغير إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها، مبدأ ينبذ العنف بل ويعمل على استئصاله، ويعتمد على سبيل التربية سبيلاً لا خيرة لنا فيه كمنهاج حاكم ضابط ثابت يبدأ:
أولاً: دعوة تضبطها الحكمة والموعظة الحسنة، لا إكراه فيها ولا عنف ولا تعسف، تقوم على قوة الحجة لا حجة القوة شعارها قول ربنا “ وقولوا للنّاس حسناً” (البقرة: 83)... ورائدها مقالة علي بن أبي طالب رضي الله عنه “من لانت كلمته وجبت محبته”.
ثانياً: تربية إسلامية أساسها القرآن والسنة وإن تعددت وسائلها حتى ننتقل من رجل القول إلي رجل العمل، شعار هذه التربية: “اعرف ربك، وأصلح نفسك، وادع غيرك، وأقم دولة الإسلام في قلبك تقم على أرضك”.
ثالثاً: من هذه اللبنات التي تربى تكون الأسرة الصالحة فالجماعة فالحكومة، لذلك كان من الثوابت عند الإخوان التربية المتأنية -كما بينا- لنحصل على الفرد المسلم الذي يبدأ التغيير بإصلاح نفسه ليكون منهج التغيير على منهاج النبوة.
ووسيلة تحقيق ذلك عند الإمام البنا نظام الأسرة، فهي من الثوابت عنده، فيها يتم التعارف والتفاهم والتكافل، وفيها يصحح الفهم ويعمق، ويصوب الخطأ ويتلافى، وتحقق الأخوة، وتظهر القدرات والقيادات، ويربى فيها على الثوابت والمتغيرات، وتحقيق الانتماء، ولقد سميت أسرة لما فيها من السكن والمودة والرحمة، وسمى رئيسها نقيباً تيمناً بما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الثانية بعد عودة مصعب بن عمير من المدينة ومعه ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان، فلما تمت البيعة طلب منهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يختاروا من بينهم اثني عشر نقيباً ليوليهم عليهم، وما أحسن وأعظم توجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولقد ثبت في العلم التربوي الحديث أنه كلما قل عدد الأفراد زاد أثر المربى وتحققت التربية بالقدوة والمعايشة.
فإذا كانت اللبنة الأولى في الجماعة هي الأسرة، فإن أفرادها وهم في جماعة، يعلمون أن من يقود له التوجيه والتربية والطاعة، لأن هذه القيادة هي التي تحدد الأهداف، وتعتمد الوسائل لتحقيقها، وتحدد مراحلها، وهي التي تقدم أو تؤخر في أولوياتها، وعلى الأسرة أن تضع ذلك موضع التنفيذ.
إن العمل التربوي المثمر هو منهج ثابت، فإن كان للأفراد سمات وصفات ومقومات، وللعائلة ترابط ومودة وأخلاق، فمن يتعهد هؤلاء وهؤلاء؟ ومن يقوم على رعايتهم ومتابعتهم؟ ومن يتعرف على تقدمهم أو تأخرهم ومدى تحقيق أهدافهم؟
إنها التربية عن طريق الأسرة، ولما كانت التربية تحتاج إلى علم وفقه وفهم، ولا يتحقق ذلك إلا عن طريق مربٍّ في محضن، والمحضن هو الأسرة، والمربى هو النقيب ليقوم بدوره خير قيام لتحقيق المهام الجسام والأهداف المرجوة، ولذلك كان المربى وهو النقيب داخل الأسرة كإمام الصلاة له السمع والطاعة والتوجه والتعليم والتربية.
لقد تأكد للإمام البنا أن المشكلة ليست سهلة كما يظن البعض، فإن ما أصاب العقل المسلم من صدوع ورضوخ، بل كسور وتقطيع وتشويه وغزو فكري صده عن المضي إلى غايته، وحال بينه وبين رسالته، لا يمكن أن يعالج في يوم وليلة بمحاضرة عابرة من فرد أو درس هنا ودروس هناك من مفكر إسلامي، أو موعظة وفتيا من عالم من العلماء الأجلاء ثم يمضي لحال سبيله يبحث عن أخرى، أو مقال منشور سرعان ما ينتهي أثره بانتهاء قراءته، أو مؤلف مكتوب يحفظ متنه، إنما هي معاناة وتربية إسلامية طويلة تحتاج إلى محضن تربوي، فكانت هي الأسرة، والمربي الكريم الذي له صفات تربوية هو النقيب.
ولأن التربية هي من ثوابت الدعوة تحتاج إلى جهد مضن كي نترك رجالاً لا نترك كتاباً وكفى، وذلك بالمنهج السديد، والعمل الدؤوب، والخلق القويم، والنفس الطويل، والصبر الجميل والموعظة الحسنة، والمجادلة الحكيمة والوعي المستنير، والمتابعة المتأنية، ولابد لقائم يقوم على هذا الأمر وهو المربي داخل المحتوى وهي الأسرة ، وأي منهج إسلامي للحياة متكامل، وأي دعوة صادقة ليتأصل الفهم عن طريقها لابد لها من التربية الممنهجة المستمدة من الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح والمستمدة من الأصول الفقهية والقواعد الشرعية.
يقول الإمام البنا مبيناً أهمية هذا المحضن التربوي:
“يحرص الإسلام على تكوين أسر من أهله يوجههم إلى المثل العليا، ويقوي رابطتهم، ويرفع أخوتهم من مستوى الكلام والنظريات إلى مستوى الأفعال والعمليات، وأركان هذا الرباط ثلاثة فاحفظها واهتم بتحقيقها حتى لا يكون هذا تكليفاً لا روح فيه.
التعارف: هو أول هذه الأركان فتعارفوا وتحابوا بروح الله، واستشعروا معنى الأخوة الصحيحة الكاملة فيما بينكم، واجتهدوا ألا يعكر صفو علاقتكم شيء” إنما المؤمنون إخوة” (الحجرات: 10).
التفاهم: هو الركن الثاني من أركان هذا النظام التربوي وفيه تتم محاسبة النفس، ثم ينصح الأخ أخاه متى رأى فيه عيباً، وليقبل الأخ نصح أخيه بسرور وفرح، ولا يخبر أحداً بالعيب إلا أخاه مسئول الأسرة، إذا عجز عن الإصلاح، ثم لا يزال بعد ذلك على حبه لأخيه، وتقديره له ومودته له، وليحذر المنصوح من العناد والتصلب، وتغيير القلب على أخيه الناصح.
التكافل: هو الركن الثالث، فتكافلوا وليحمل بعضكم بعضاً، وذلك صريح الإيمان، ولب الأخوة، وليتعهد بعضكم بعضاً بالسؤال والبر، وليبادر إلى مساعدته ما وجد إلى ذلك سبيلاً، وتصوروا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم “لئن يمشي أحدكم في حاجة أخيه خير له من أن يعتكف في مسجدي هذا شهراً” والله يؤلف بين قلوبكم بروحه، إنه نعم المولى ونعم النصير.
ألا ترى أن هذا النظام التربوي يحقق الواجبات الفردية والاجتماعية والمالية؟ ويحقق المعايشة والمؤانسة والأخوة.
إن مثالاً واحداً مما تشغل به الأسرة اجتماعها ليوضح الآثار التربوية العظيمة في حياة أفرادها، فهي تشتمل على:
عرض كل أخ لمشاكله ويشاركه إخوانه في دراسة حلولها في جو من صدق الأخوة، وإخلاص التوجه إلى الله، وفي ذلك توطيد للثقة، وتوثيق الرباطة “المؤمن مرآة أخيه” حتى يتحقق فينا شيء من مأثور قوله صلى الله عليه وسلم:“مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”.
مدارسة ومذاكرة حول شؤون المسلمين والتوجهات الواردة من القيادة، ولا محل للأسرة للجدل أو الحدة ورفع الصوت فذلك حرام في فقه الأسرة، ولكنه بيان واستيضاح في حدود الأدب الكامل والتقدير المتبادل بين الجميع.
مدارسة نافعة من كتاب من الكتب القيمة وغير ذلك مما يعود بالنفع على أفراد الأسرة ليتحقق بها الشخصية الإسلامية الأخلاقية بعقد إيمانها وعقد أخوتها لتصبح أداة للتغيير.
خامساً: رسالة التعاليم والأًصول العشرون
ورسالة العقائد.. أساس لتعلمنا
لابد للجماعة من فهم تجتمع عليه، وأصول تقوم عليها، وفقه يوجهها، ولتأصيل الفهم السليم ولتوحيده بين أفراد الجماعة كانت رسالة التعاليم خاصة الأصول العشرين مع أختها رسالة العقائد، وإن كانت الرسائل الأخرى تعمق الفهم وتوضح الرؤى، وتبين اختيارات الجماعة الفقهية للقضايا المختلفة.
فرسالة التعاليم وخاصة الأصول العشرين تعتبر من الثوابت التي يجب على الأتباع الالتزام بها، بما تحمل من فهم محدد تميزت به الجماعة ثم العمل بمقتضاها والدعوة إليها، وعدم التفريط فيها أو الانحراف عنها، ولذلك ترى مخاطبة الإمام البنا لمن آمن بفكرته وعمل بمنهاجه يخاطبه في الوقت الذي نشأت فيه الجماعة قائلاً:
“ إلى الإخوان المجاهدين من الإخوان المسلمين الذين آمنوا بسمو دعوتهم وقدسية فكرتهم وعزموا صادقين على أن يعيشوا بها أو يموتوا في سبيلها، وهي ليست دروساً تحفظ، ولكنها تعليمات تنفذ”...
لأنهم يعلمون أن لا إسلام بدون جماعة والجماعة جند وقادة وتكاليف، وللجندي الملتزم بهذه التعاليم صفات سميت بأركان البيعة، ولا يمكن أن تتحقق بالإكراه ولكن بالإيمان والقناعة والتربية السليمة، ولتحقيق ذلك حدد الإمام البنا ضمن ما حدد للوصول بهذه التربية الإسلامية إلى الشخصية الإسلامية المجاهدة المرتبطة بتلك الجماعة معالم وصفات أخلاقية سماها الإمام بأركان البيعة – وهي أيضاً الثوابت في جماعته- وهي صفات أخلاقية فردية وجماعية كالفهم والإخلاص، والعمل، والجهاد، والتضحية، والطاعة، والثبات، والتجرد، والإخوة، والثقة، فهي عشر لا على سبيل الحصر فليست كالحدود على سبيل القطع لا تزيد ولا تنقص، ولا هي من الأمور القطعية، فهي أخلاقيات وسلوكيات إسلامية حميدة يزداد بها البنيان وضوحاً، وتتعمق بها التربية الأخلاقية، ولا يمكن التخلي عنها لأن التمسك بها دين.
وهي من الاجتهادات الشخصية التي تقبل الزيادة وإن كانت لا تقبل النقصان، لأنها أخلاق يدعو إليها الإسلام، فمن رأى في زمانه وبعده زيادة فلا بأس، فزيادة الأخلاق الحميدة كما فعل أستاذنا الدكتور القرضاوي حين أضاف إلى ما كتبه الإمام البنا في رسالة التعاليم، فقال وهو يشرح: وأنا أضيف – وأضاف صفات أخرى ليزيد الأمر وضوحاً في زمن يحتاج إلى زيادة بيان لكنه ما انتقص منها ركناً من الأركان فالزيادة بناء والنقص هدم “ ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة” (الأنفال: 42).
ولقد حصن الإمام البنا الفهم بأصول عشرين هي من ثوابت الدعوة – كما قلنا- وهي تعين المسلم على الفهم الصحيح.
هذه الأصول هي أصول للفهم وضوابط له وليست أصولاً للدين أو الإسلام – كما تصور البعض- فلقد قال واحد ممن يسيئون الفهم: إن أصول الإسلام أصلان لا ثالث لهما هما القرآن والسنة وليسوا عشرين أصلاً” كما ذكر الإمام البنا ونسى أنها الأصول التي تعينه على فهم الأصلين، وليست أصول الدين – كما ظن- فهي تعينك على تحديد إطار للفهم الكامل الدقيق وللتصور السليم السديد كي ينضبط السلوك والوجهة، فتنضبط بذلك الحركة في إطار الثوابت التي تحفظ على الجماعة ذاتيتها فتتميز عن الجماعات الأخرى فهما وحركة.
ولا يظنن أحد أننا ندعو إلى الاكتفاء بهذه الرسائل اطلاعاً وقراءة وتعليماً فهذا لا يقول به مسلم عاقل فضلاً عن طالب علم يريد أن يستزيد، ولكنها الأصول التي تحدد إطار الفهم الذي عليه الجماعة، فإذا ما حدد أصول فهمه، له أن ينطلق بعد ذلك يتطلع فيما يشاء من كتب تحمل علماً وفكراً، أين كان هذا العلم لأنه أصبح لديه الميزان الذي يزن به الغث من السمين، والجيد من الردئ، والأصيل من الدخيل، أما قبل أن يحدد إطار فهمه فقد تتداخل الأمور عليه، ومن أجل هذا المعنى غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان ينزل الوحي ولم يكتمل الأمر بعد، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر يقرأ في صفحة من صحائف التوراة فغضب صلى الله عليه وسلم منه وقال لعمر: أمتهوكون أنتم، والله لو أن موسى بن عمران بين ظهرانينا ما وسعه إلا أن يتبعني.
أما بعد تحديد الفهم حتى يصير كالعقائد التي لا تقبل جدلاً ولا مراء، فلا بأس أن ينطلق كل منا يطلع على ما يكتبه أعداء الدعوة فيدافع بما تعلمه وعلمه، بل يصحح أفكار الآخرين كما فعل الإمام الهضيبي في كتابه “دعاة لا قضاة” وكما كتب كثير من علماء الإخوان يدافعون عن الدعوة ويصححون المفاهيم، فلابد أن يكون للدعوة علماء يرفع الله بهم شأن الدعوة، ويحفظ بهم المسسير كلما أراد صاحب هوى أن ينأى بها عن مسارها الصحيح، وهذا ما حدث في تاريخ الدعوة قديماً وحديثاً.
سادساً: الشمول نظرتنا الكلية فهما وحركة
الفهم عند المسلمين في زمان الإمام البنا:
لقد تأمل الإمام البنا حال المسلمين في زمانه بوجه عام وحال قومه ووطنه بوجه خاص، ودرس ما يحمله المسلمون من مفاهيم... فوجد من الناس من يرى الإسلام شيئاً غير حدود العبادة الظاهرية، فإن أداها أو رأى من يؤديها اطمأن إلى ذلك ورضى به، وحسبه قد وصل إلى لب الإسلام، وذلك هو الشائع عند عامة المسلمين...
كما رأى صنفاً آخر من الناس لا يرى الإسلام إلا الخلق الفاضل والروحانية الفياضة، وهذا الغذاء الفلسفي للعقل والروح والبعد بها عن أدران المادة الطاغية الظالمة...
ومنهم من يقف إسلامه عند حد الإعجاب بهذه المعاني الحيوية العملية في الإسلام، فلا يتطلب النظر إلى غيرها، ولا يعجبه التفكير في سواها...
ومنهم من يرى الإسلام نوعاً من العقائد الموروثة والأعمال التقليدية إلى لا غناء فيها ولا تقدم معها، فهو متبرم بالإسلام وبكل ما يتصل بالإسلام، وتجد هذا المعنى واضحاً في نفوس كثير من الذين ثقفوا ثقافة أجنبية، ولم تتح لهم فرص حسن الاتصال بالحقائق الإسلامية، فهم لم يعرفوا عن الإسلام شيئاً أصلاً، أو عرفوه صورة مشوهة ممن لم يحسنوا تمثيله من المسلمين.
وتحت هذه الأقسام جميعاً تندرج أقسام أخرى يختلف نظر كل منها إلى الإسلام عن نظر الآخر قليلاً أو كثيراً وقليل من الناس أدرك الإسلام صورة كاملة واضحة تنظم هذه المعاني جميعاً.
ولذا تميزت جماعة الإخوان المسلمون في زمانها عن غيرها من الجماعات الإسلامية حين دعا الإمام البنا إلى الرجوع إلى شمول الإسلام وعمومه، وفي هذا المعنى يقول:
أولاً: نحن نعتقد أن أحكام الإسلام وتعاليمه شاملة تنظم شؤون الناس في الدنيا والآخرة وإن الذين يظنون أن هذه التعاليم إنما تتناول الناحية العبادية أو الروحية دون غيرها من النواحي مخطئون في هذا الظن، فالإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف والقرآن الكريم ينطق بذلك كله ويعتبره من لب الإسلام ومن صحيحه ويوصي بالإحسان في جميعه وإلى هذا تشير الآية الكريمة “وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك” (القصص: 77).
وإنك لتقرأ قول الله تبارك وتعالى في العقيدة والعبادة “ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدّين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيّمة” (البينة: 5) ... كما تقرأ قوله تعالى: “فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكمون فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً” (النساء: 65).
وما أكثر الآيات التي ذكرت في التشريع لتنظيم حياة الناس وفق منهج الله.
ثانياً: يعتقد الإخوان أن أساس التعاليم الإسلامية ومعانيها هو كتاب الله تبارك وتعالى وسنة المصطفى صله الله عليه وسلم اللذان إن تمسكت بهما الأمة فلن تضل أبداً، ولهذا يجب أن تستقي النظم الإسلامية التي تحمل عليها الأمة من هذا المعين الصافي، وأن نفهم الإسلام كما كان يفهمه الصحابة والتابعون من السلف الصالح رضوان الله عليهم، وأن نقف عند هذه الحدود الربانية النبوية حتى لا نقيد أنفسنا بغير ما قيدنا الله به، ولا نلزم عصرنا لون عصر لا يتفق معه فالإسلام دين البشرية جميعاً.
ثالثاً: يعتقد الإخوان المسلمون أن الإسلام كدين عام انتظم كل شؤون الحياة في كل الشعوب والأمم، لكل الأعصار والأزمان، جاء أكمل وأسمى من أن يعرض لجزئيات هذه الحياة وخصوصاً في الأمور الدنيوية البحتة، فهو إما يضع القواعد الكلية في كل شأن من هذه الشؤون، ويرشد الناس إلى الطريقة العملية للتطبيق عليها والسير في حدودها، ولضمان الحق والصواب في هذا التطبيق أو تحريهما على الأقل عنى الإسلام عناية تامة بعلاج النفس الإنسانية وهي مصدر النظم ومادة التفكير والتصوير والتشكيل، فوصف لها من الأدوية الناجعة ما يطهرها من الهوى ويغسلها من أدران المرض ويلهمها بتوفيق الله تقواها ويهدي بها إلى الكمال والفضيلة باعتبارها أداة التغيير “ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” (الرعد: 11).
وبهذا الفهم الدقيق الذي تميزت به جماعة الإخوان عن غيرها في عصرها تحققت أمور صح بها منهاج التفكير لكل من آمن بهذا الفهم منها:
تحرير العقيدة من الجمود والأوهام، والتركيز بعد الفهم السليم لهذه العقيدة على أثرها في تكوين شخصية المسلم، بل وأثرها في الكون والإنسان والحياة.
تخليص العقل من النظرة الجزئية للإسلام، فلا تضخيم للجزيئات والفرعيات على حساب الكليات ولكن نظرة كلية شاملة بفهم واع وعقل مستنير.
كسر الجمود الذي أصاب العقل من إغلاق باب الاجتهاد وإعادة ترتيبه وصياغته صياغة إسلامية.
وهكذا كان من ثوابت الجماعة النظرة الشمولية للإسلام ولعمومه، وكمال وسموه ودوامه، وعالميته وربانيته، ليتحقق بذلك معنى العبادة الشامل ونحن نقول: “إياك نعبد وإياك نستعين” (الفاتحة: 5).
تلك هي الرسالة التي يريد الإخوان المسلمون أن يبلغوها للناس، وأن تفهمها الأمة الإسلامية حق الفهم، وتهب لإنقاذها في عزم وفي مضاء، لم يبتدعها الإخوان المسلمون ابتداعاً، ولم يختلقوها من أنفسهم، وإنما هي الرسالة التي تتجلى في كل آية من آيات القرآن الكريم وتبدو في غاية الجلاء والوضوح في كل حديث من أحاديث الرسول العظيم صله الله عليه وسلم، وتظهر في كل عمل من أعمال الصدر الأول، الذين هم المثل الأعلى لفهم الإسلام وإنفاذ تعاليم الإسلام.
مهمتنا في الحياة:
فعبادة ربنا، والجهاد في سبيل التمكين لديننا، وإعزاز شريعتنا، هي مهمتنا في الحياة، لهذا المعنى جاء في أوصاف صحابة محمد صله الله عليه وسلم وهم صفوة الله من خلقه بعد أنبيائه ورسله، والسلف الصالح من عباده: “رهبان بالليل، فرسان بالنهار” كان المسلمون يفهمون هذا قديماً، ويعملون له، ويحملهم إيمانهم على التضحية في سبيله، وبهذا دعا إلينا مجدداً هذا الفهم.
- ونحن حين نبين ذلك يجب أن نشير إلى ما يميز هذه الدعوة عن غيرها من الدعوات فهي:
- ربانية في مصدرها لأنها وحي من عند الله.
- وسطية في اختيار الله لها.
- إيجابية في نظرتها للكون والإنسان والحياة.
- واقعية حين تتعامل مع الفرد والمجتمع.
- أخلاقية في غايتها ووسائلها.
- شمولية في منهاجها.
- عالمية في الدعوة إليها.
- شورية في الحكم بها.
- جهادية في تربيتها لتحمى طريقها حين يعتدى عليها.
- سلفية الفكر والتصور والاعتقاد.
هذه دعوتنا بدينها ودنياها، بمشاعرها وشعائرها وشرائعها، بنظامها وأخلاقها نحملها بيقين صادق، وإيمان عميق، وحب وثيق، لا لبس فيها ولا غموض أوضح ما تكون، ليراها الناس على حقيقتها، فالله هو الغاية، والرسول هو القدوة، والقرآن هو الدستور، والجهاد هو السبيل، والموت في سبيل الله هو أسمى الأماني، وهذا كله من ثوابت دعوتنا.
فالإخوان المسلمون يعتقدون أن منهج الإسلام ينظم الحياة جميعاً، ويفتى في كل شأن من شؤونها، ويضع لها نظاماً محكماً دقيقاً، ولا يقف مكتوف الأيدي أمام المشكلات الحيوية والنظم التي لابد منها لإصلاح الناس، فهو ليس مقصوراً على ضروب العبادات، أو أوضاع من الروحانيات كما فهمه بعض الناس لكننا – كما يقول الإمام البنا- نفهمه على أنه ينظم شؤون الدنيا والآخرة وهو يصلح الزمان والمكان، ويسعد الناس أجمعين حين يصبح منهج حياة في واقع حياتهم.
وإن تعجب فأعجب لقوم يؤمنون بأن تقوم دولة على التوراة في فلسطين الحبيبة، وتقوم دولة على الإنجيل في الفاتيكان ودولة على الإلحاد في روسيا والصين، بل على البوذية والهندوسية، ولا تقام على القرآن. إن هذا لشيء عجاب..
هذا هو الذي دعا للعودة إليه الإمام البنا للإسلام –بوجه عام- وهذا ما آمن به كل من دعا بدعوته وضحى من أجله.
ولكي يحافظ الأتباع على هذا الفهم حتى لا ينحرف به أحد أو يشوهه مغرض أو ينأى به متحمس، وحتى لا يعرف الأصيل من الدخيل والمتبع من المبتدع وحامل الفكرة من مشوهها كان لابد من أن يكون هذا الفهم من ثوابت الدعوة الأصيلة ومعلماً من معالمها التي تعرف بها بل تنتفى سلامها وعافيتها ويضطرب مسيرها وتزل قدمها بعد ثبوتها، ويخشى من ذوبانها وعدم دوامها واستمراريتها إذا حادت عن الفهم.
بهذه الثوابت ننطلق ونقوِّم عملنا على أساسها، ونفئ إليها عند الاختلاف ونفاصل على أساسها من أرادها بسوء، ونتغافر فيما سواها ونتعاون مع يرنا ومن يخالفنا مادام يحترم ثوابتنا ولا يعمل على استئصالها. ولذلك فهي التي تميزنا عن غيرنا من الدعوات الإصلاحية الجزئية.
إنه المنهج الذي يسوس الدنيا ليسعد الخلق فيها، قبل أن يلتقوا بالخالق، فهو دين ودولة، وصدق أبو حيان التوحيدي حين قال: إن الشريعة متى خلت من السياسة كانت ناقصة والسياسة متى عريت من الشريعة كانت ناقصة.
سابعاً: الشورى الملزمة لحسم الخلاف بيننا
الشورى في الإسلام:
الشورى قيمة إسلامية عليا، وفريضة شرعية، وأمر معلوم من الدين بالضرورة، فهي واجبة الأداء سواء أكانت معلمة أم ملزمة، لأن الله أمر بها كما أمر بالصلاة والزكاة في آية واحدة، فهي بمنزلة الفرائض لذلك أمر الله رسولنا بهذه الفروض الثلاثة مجتمعة مبلغاً عن ربه منذ فجر الدعوة إذ قال الله تعالى:” والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون” الشورى: 38
وهذه الآية من الآيات المكية، وقد جاء الأمر فيها بالشورى مجملاً، كما جاء الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مجملاً، جاءت سنة رسول الله لتبين الممارسة العملية للشورى، وكان رسول الله “ غنياً عنها لأنه موحى إليه من ربه وذلك في غير ما نزل به نص قطعي الدلالة، امتثالاً لأمر الله تعالى، وتعليما للمسلمين وإرشاداً لهم.
وقال فيما رواه الترمذي: “إذا كان امراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم، وأمركم شورى بينكم، فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان امراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم، وأمركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها”.
والشورى هي الطريقة التي شرعها الله تعالى لصنع واتخاذ قرارات في كل المستويات، فأي قرار يتخذ لتنعكس آثاره على غير متخذ القرار على مستوى الأمة أو دون ذلك، أو على مستوى الأسرة أو أعلى من ذلك، أو حتى على مستوى المشروع الخاص فينبغي أن يكون نتاج المشاورة، لعموم قول الله تعالى:”وأمرهم شورى بينهم” الشورى: 38.
وقد أكثر المفسرون والفقهاء والحكماء من التحدث عن الشورى ومكانتها وتأثيرها في كتب التفاسير والأحكام السلطانية والسياسية الشرعية، حق اعتبرها كبار المصلحين ظاهرة صحيحة ودليلاُ ساطعاٌ على رقي المجتمع وازدهاره، كما اعتبروا غيابها دليلاُ على فشو الظلم والاستبداد.
الشورى واجبة الاتباع:
ذلك وقد بين لنا القرآن الكريم، وفصلت لنا السنة النبوية المشرفة القولية، والعملية الشورى الإسلامية كقيمة عليا، وفريضة واجبة وكأمر من أمور الدين المعلومة بالضرورة، يقول الله تعالى:
“فبما رحمةٍ من الله لنت لهم ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين” آل عمران: 159.
حكم الشورى:
تحدث كثيرون في القديم والحديث عن الشورى وحكمها في الإسلام.
فرجع الفخر الرازي في تفسيره الكبير أنها واجبة لأنها جاءت – كما يرى- على صيغة الأمر مما يقتضي الوجوب، كما رجح ذلك القرطبي في تفسيره.
وقد روى أبو هريرة فيما أخرجه البخاري فقال: ما رأيت أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله “.
ولكن الآراء تختلف حول الشورى التي هي دعامة من دعائم الحياة السياسية، وقاعدة من قواعد الحكم في الإسلام.
فثمة رأي يقول بأنها ملزمة، وثمة رأي آخر يقول بأنها معلمة، فالشورى الملزمة هي التي تجعل الحاكم أو المسؤول مقيداً بالقرار الذي يصدر عن الجماعة ممثلة في مجلس نيابي، أو بالمشورة التي تصدر عن أهل الحل والعقد، كما هو التعبير الشائع في الفقه الإسلامي، والذين يقولون بالشورى المعلمة ذكروا بأن السلطان أو الحاكم، أو الأمير أو الملك، أو أمير المؤمنين يستشير العلماء والفقهاء والمفكرين وأصحاب الخبرة، لكنه في النهاية ليس ملزماً بآرائهم، بل يفعل ما يراه حسناً ويدخل ضمن قناعاته، ما دام لم يخالف النص أو يخرج عليه.
الشورى واجبة وملزمة:
إذا تتبعنا رأي الفقهاء والمفكرين والمجتهدين المحدثين والمعاصرين نجد أنهم قد انتهوا إلى إلزامية الشورى للمسؤول، بعد صدورها عن المجالس المختصة، والهيئات المعنية مستأنسين بالنصوص الواردة في المصدرين الأساسيين، القرآن الكريم والسنة المطهرة.
ففي القرآن الكريم وردت آيتان كريمتان حول الشورى.
الأولى “وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله” آل عمران: 159.
والبعض يفهم من هذا أن الإمام يستشير ثم بعد ذلك يعزم، على ماذا يعزم؟ على تنفيذ رأي لا يراه؟ أم على رأي يخالف فيه أهل الشورى والاختصاص والدراية بمجموعهم أو بجمهورهم؟ إن الشورى لا تتناقض مع العزم بعد أن يتضح الأصوب والأصلح.
والآية الثانية تصف أمر المؤمنين في حياتهم وفي صلاتهم وعلاقاتهم، وفي صميم شئونهم بأنه يقوم التفاهم والتشاور وصولاً إلى الأمثل والأفضل. وأما في السنة وهي الأصل الثاني أو الأساس الثاني في الإسلام فنجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذهب في الشورى مذهباً بعيداً، إذ كان كثير الاستشارة لأصحابه ولآل بيته، وللرجال والنساء وللكبار والصغار ولعامة الناس بأشكال مختلفة وطرق متنوعة، أي أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم سواد الناس على المشاركة والتفكير وتحمل المسؤولية.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأبي بكر وعمر: لو اجتمعتما على أمر ما خالفتكما، وفي هذا إشارة واضحة إلى مبدأ الأكثرية، فإذا وجد ثلاثة والتقى اثنان منهما على رأي، فما على الثالث إلا أن ينزل على رأي صاحبيه، هذا ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نبي مرسل يوحى إليه، وذلك تأصيلاً للشورى والمشاركة، وإشارة إلى مفهوم الأكثرية، فكيف يكون موقف المسؤولين في الحكومات والأحزاب والشركات وهم ليسوا أنبياء ولا يتنزل الوحي عليهم؟!.
وفي العادة تتقلص دائرة الشورى، ويضيق هامشها في إبان الحروب جراء الظروف التي لا تسمح باتساع دائرة الحوار، ومع ذلك وحرصاً من الرسول الكريم على تثبيت هذه الدعامة في حياة المجتمع الإسلامي، فإنه صلى الله عليه وسلم في أثناء الحروب التي خاضها المسلمون في بدر وأحد والخندق استشار أصحابه، ونزل على آرائهم دون أن نرى في كتب السيرة أنه صلى الله عليه وسلم عاتب أصحابه على آرائهم التي لم تؤد إلى النتيجة التي كانوا يتوخونها، فلم يقل لهم: أرأيتم عندما تحمستم للخروج من المدينة إلى أحد، وخالفتم رأيي ماذا حل بكم؟ كيلا يتقلص تفكيرهم، وحتى لا تضيق دائرة مشاركتهم، لأنهم كانوا يصدرون فيما ارتأوه عن إخلاص واقتناع.
الشورى والنجوى:
يبدو أن بعض المسلمين ممن لم تتطبع نفوسهم بعد بحاسية التنظيم الإسلامي، كانوا يتجمعون عندما تحزب الأمور ليتناجوا فيما بينهم، ويتشاوروا بعيداً عن قيادتهم، الأمر الذي لا تقره طبيعة الجماعة الإسلامية، وروح التنظيم الإسلامي التي تقتضي عرض كل رأي وكل فكرة، وكل اقتراح على القيادة ابتداء، وعدم التجمعات الجانبية في الجماعة، كما يبدو أن بعض هذه التجمعات كان يدور فيها ما قد يؤدي إلى البلبلة وما يؤذي الجماعة المسلمة، ولو لم يكن قصد الإيذاء قائماً في نفوس المتناجين ولكن مجرد إثارتهم للمسائل الجارية وإبداء الرأي فيها على غير علم قد يؤدي إلى الإيذاء وإلى عدم الطاعة ولذلك ناداهم الله بصفتهم التي تربطه به، وتحمل النداء وقعه وتأثيره “يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون، إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئاً إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون” المجادلة: 9، 10.
وهو أدب رفيع، كما أنه تحفظ حكيم لإبعاد كل الريب والشكوك، فأما حيث تكون هناك مصلحة في كتمان سر، أو ستر عورة، في شأن عام أو خاص، فلا مانع من التشاور في سر وتكتم، وهذا يكون عادة بين القادة المسؤولين عن الجماعة، ولا يجوز أن يكون تجمعاً جانبياً بعيداً عن علم الجماعة، فهذا هو الذي نهى عنه القرآن، وهذا هو الذي يفتت الجماعة أو يوقع في صفوفها الشك وفقدان الثقة، وهو الذي يدبره الشيطان ليحزن الذين آمنوا ووعد الله قاطع في أن الشيطان لن يبلغ بهذه الوسيلة ما يريد في الجماعة المؤمنة، لأن الله حاميها وكالئها، وهو شاهد حاضر في كل مناجاة، وعالم بما يدور فيها من كيد ودس وتآمر، وقد وعد الله بحراسة المؤمنين، فأي طمأنينة بعد هذا وأي يقين؟.
الشورى والنصيحة:
وتتكامل الشورى مع النصيحة ولا يختلطان، فالنصيحة تجوز من فرد واحد ذي خبرة، أو أكثر من فرد، وتعطى النصيحة، أو تطلب أثناء الشورى، أو في أعقابها، عند تنفيذ القرار، مثل النصيحة التي أدلى بها الحباب بن المنذر، عندما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظم الجيش استعداداً للمعركة فقال: “يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ ... فقال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة ... فقال: “يا رسول الله، فإن هذا ليس منزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور “أي ندفن ونطمس” ما وراءه من القلب “أي الآبار”. ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون.. فقبل رسول الله نصيحته وعمل بها.
أما عن موضوع الشورى، فهو فيما لا نص فيه، فإذا كانت الشورى ضرباً من ضروب الاجتهاد، له خصوصيته، فهي عمل عقلي بشري لا يجوز الأخذ بها مع وجود النص الموحى به، ما دام نصاً قطعي الدلالة.. وهذا ما يخصص عموم قول الله تعالى: ”وشاورهم في الأمر” آل عمران: 159 ... فلا مكان للشورى حال وجود نص، كما قال علماء أصول الفقه: “لا اجتهاد مع نص”، وأوضح مثال على هذا هو عدم قبول رسول الله الشورى في صلح الحديبية، لأنه كان مأموراً بما فعل، فما كان له ولا للمؤمنين إلا الإذعان:”إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون” النور: 51 ... ”وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً” الأحزاب: 36.
والشورى تلزم المشارك فيها بوجه عام، والقيادة بوجه خاص أن تجتهد وتتحرى للوصول إلى الصواب، ولكي تدخل القيادة في زمرة المجتهدين، لابد أن يكون لديها الحد الأدنى من شروط الاجتهاد، ولا أعني بها هنا شروط الاجتهاد الفقهي المذكور في كتب أصول الفقه، بل لكل موضوع يجتهد في الشؤون العسكرية، أو الاقتصادية أو التربوية، إلى جوار ما لابد منه من الشروط العلمية والفكرية العامة.
وعلى القيادة أن تبذل الجهد وتستفرغ الوسع في تحري الحقيقة، وطلب الصواب بكل الإمكانات المتاحة وكل الوسائل المعينة، وكل المعلومات المتوافرة للوصول إلى الصواب، وعليها بعد ذلك أن تستشير أولى النهى وتستعين برأيهم وتشاورهم في المر طلباً للرأي الأسد، والعمل الأرشد.
الخلاصة
إذا تم التشاور فعلى الجميع أن ينزل على الرأي الذي اتفق عليه ويلتزم به ويخلص له، وليس له أن يخرج عنه، لأن الشورى ملزمة عندنا، أما إذا كان ممن لا يلتزمون بمنهجها ولا يسيرون في طريق دعوتنا، فنقول لهم مقولة الإمام البنا رضي الله عنه: “نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه”.
لهذا كله كانت الشورى عند الإمام البنا ملزمة، وكان على الأتباع أن يلتزموا بهذه الاختيار الفقهي لأنه من ثوابت الجماعة.
ثامناً: احترام نظم ولوائح الجماعة خلقنا
إن العمل التربوي المنظم المثمر الجماعي هو منهج أصيل في الإسلام فلا جماعة بلا نظام، ولا نظام بلا جماعة، فهما كوجهين لعملة واحدة لا يصلح أحدهما أو كلاهما إلا بالآخر، فإذا اتفقنا على أن الجماعة ضرورة شرعية، وهي من ثوابت الإسلام، فإن هذه الجماعة تبقى جسداً لا ينبعث فيه الروح إلا بالتكاليف المنظمة والواجبات المفروضة، وهي جسد ميت إذا لم تقم على النظام والتنظيم، وتصير معنى بلا تطبيق ولا واقع إذا انفك النظام عنها، تنظيم يشمل العقيدة والعبادة والحركة، فالنظام لا ينفك عنها ولا تنفك هي عن التنظيم، لذلك وضع الإمام البنا للجماعة منهجاً للعقيدة، ومنهجاً للعبادة ومنهجاً للحركة، ليتوحد الفهم وينضبط المسير ويصبح احترام النظام من ثوابت الجماعة.
فمن أراد أن يلج الباب ويدخل ليكون من الأتباع أخاً ومشاركاً في الحركة، كان عليه أن يحترم النظام ولا يخرج عنه، وهذه بدهيّة، فالجماعة التي تريد أن تقيم ديناً، وتستعيد خلافة سقطت، لا تستطيع أن تحقق ما ترجو إليه من أهداف كبار دون نظام ولا تنظيم، هل يستطيع عاقل أن يقول: أستطيع أن أحقق هذه الأهداف الكبار التي تنشدها الجماعة دون الخضوع لنظامها الذي يحدد حركتها ويضبط مسيرتها؟ أو يقول: إنني أؤمن بالفكرة والتصورات والأهداف غير أني لا ألتزم بنظام الجماعة؟! وليس لأحد على من سمع أو طاعة؟ فما بالك بمن يقول: مالنا وهذه النظم واللوائح والمناهج التي وضعت قيداً على الرقاب وشلا للحركة. دعونا ننطلق فلسنا صغاراً !!
أو يقول: هلا تركتم الأفراد بعد تربيتهم ينطلقون في المجتمع يدعون بدعوة الإسلام دون أن تقيدوهم بقيود النظام ومخاطره.
مواقف خارجة عن النظام:
إن المواقف الخارجة عن النظام تحتاج من القيادة الحسم فيها، وإلا كانت الفوضى التي لا تأتي بخير، وهذه بعض المواقف على سبيل المثال لا الحصر التي مرت بها الجماعة القديمة نختار منها:
الباقورى والوزارة:
قبل الشيخ أحمد حسن الباقوري رحمه الله الوزارة في عهد عبد الناصر دون إذن من فضيلة المرشد حسن الهضيبي.
فقال له المرشد: ما الموقف؟
قال الباقوري: استقيل من مكتب الإرشاد.
قال المرشد: ثم ماذا؟
قال: استقيل من الهيئة التأسيسية.
قال المرشد: ثم ماذا؟
قال: استقيل من جماعة الإخوان المسلمين.
فقال له المرشد: هذا هو الحل.
ثم ذهب فضيلة المرشد إليه في وزارة الأوقاف وهنأه.
وحتى الذين خرجوا عن فكر الجماعة وبالتالي خرجوا على نظامها حين هبت ريح فتنة التكفير إثر محنة 1965م استبشر البعض بهذا الفكر لأنهم وجدوا فيه ضالتهم المنشودة.
وقالت شياطينهم: هذا الفكر سيمزق صفوف الإخوان من الداخل، وسينفر منهم الناس في الخارج. فكان القرار هو عزل أصحاب هذا الفكر ليتعمق في نفوسهم احترام نظم الجماعة وفكرها، ولذلك صدر كتاب “دعاة لا قضاة” ليميز المتبع من المبتدع، والملتزم من الخارج، حتى أن بعض الإخوان كانوا يرون إرجاء مناقشة هذا الفكر في هذه الظروف الصعبة.
لكن الأستاذ المرشد –رحمه الله- قال: إن هذا الفكر أشد خطورة على الدعوة من السياط والتعذيب الذي يقوم به زبانية عبد الناصر، وحسم الأمر”ليهلك من هلك عن بينةٍ ويحيي من حيَّ عن بينةً” الأنفال: 42.
فرجع الكثير عن هذا الفكر “المنحرف” وحفظت الجماعة بهذا الحسم، ولم يبق إلا قلة خرجت عن الجماعة فكراً وتنظيماً، حتى أن بعضهم قال: نبايع على كل شيء في الجماعة إلا مسألة التكفير، فقال الأستاذ المرشد: بل كل شيء حتى هذه المسألة، ومن لم يبايع فليبحث لنفسه عن لافتة غير “الإخوان المسلمون” ولك أن تقيس على هذه المواقف لترى أهمية احترام نظم ولوائح الجماعة فهي التي تبين للجماعة المتبع ممن نكص على عقبيه.
ومن هذه الدروس جميعاً نرى أنه لابد من نظام محكم سديد رشيد يجتمع عليه جميع أفراد الجماعة طاعة لله ولرسوله، ما دمنا نؤمن بصحة اعتقادها، وصدق اتباعها وإخلاص قادتها، فيصبح السمع والطاعة عبادة لله رب العالمين، ولذلك فإن هذا من طبيعة الحركة الإسلامية لكي تحقق أهدافها بنظام محكم، كما تعتبر إحياء المشاعر الإيمانية وإلهاب العواطف الإسلامية جزءاً من رسالتها التي هي رسالة الإسلام، وذلك لتوفير قدر من الحماسة يدفع إلى البذل والتضحية والسمع والطاعة في المنشط والمكره، وكذلك ربط القلوب برباط المحبة والأخوة التي ترتقي فتصل إلى درجة الإيثار وفي نفس الوقت لا تغفل وحدة المفاهيم ووحدة التنظيم كتربية إدارية مرتبطة بالمشاعر الإيمانية، وإن كانت تقوم على العقل والفكر، لأن غلبة الجانب الفكري والنظري على الجانب التطبيقي والعملي، دون ربطه بالتربية من معوقات التربية، لذلك لابد من إيمان بالله يعني: التحقق بالقناعات الكافية بجدوى العمل، تصاحبه تقوى الله، وهي تلك الطاقة الفذة التي تشعل مصباح الضمير فيظل متألقاً متوهجاً إلى أن تلقى الله وما عليك خطيئة من قصور أو تقصير أو إفراط أو تفريط، وهذا لا يتحقق إلا إذا شعر المسلم من داخله شعوراً يملك عليه حياته بأن الله يراقبه وهو يمارس هذا العمل أو ذاك، فيستحسن ما حسنه الله ويستقبح ما قبحه الله، حتى يصبح ذا قلب سليم ونفس مطمئنة يكون حيث أمره الله ويختفي حيث نهاه حتى يصل إلى درجة الإحسان هو الإتقان في أداء ما عليه من تكاليف، لكي يوضع المسلم المؤمن التقى في المصاف الأعلى حيث هذا الإحسان الذي يدفع المسلم إلى الإبداع الكامل في كل ما يقوم به من واجبات في ضوء نظام الجماعة ولوائحها.
إنه هنا يقف أمام الله سبحانه ويسمع نداء من نبيه صلى الله عليه وسلم ينفخ فيه اللحظة تلو اللحظة “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه” .
ومن هذا الأخذ والعطاء على الدرب الواحد صوب الهدف الواحد بنظام واحد وتوجيه واحد وقيادة واحدة، يتحول المسلم المؤمن إلى طاقة فذة في ميدان الإنجاز، قوة هائلة في مجال العطاء والإبداع، شعلة متوهجة يمتد شعاعها إلى أعماق الذات فيضيئها ويدفعها إلى آفاق العالم بقوة مدهشة إلى الأهداف المرتجاة، كل ذلك لتحقيق العبودية لله بكل ما يوصل إليها من شعائر أو نظم، فهي سواء كانت شعائر أو شرائع أو أخلاقاً أو نظماً أو إداريات، ذلك لأن منطلقنا تعبدي لله رب العالمين، فما بعثنا الله إلا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. ولا يتحقق ذلك إلا بنظام محكم نبتغي به الأجر من الله سبحانه وتعالى.
تاسعاً:اختيارات الجماعة الفقهية لا خيرة للأفراد فيها
بيّن الإمام البنا إن ما يحكم الجماعة سواء في نظامها الداخلي، ولائحتها التنفيذية وأمورها التنظيمية منذ نشأتها ونظرتها للأمور المختلف فيها فقهياً، أمور تخص الجماعة دون غيرها، لأنها مصالحها المعتبرة وليست من القطعيات التي يلتزم بها غيرنا شرعاً، ولا يستطيع أن يخالفها أو يجتهد فيها.
أما من هم جنود فيها وبايعوا قادتها فواجب عليهم الالتزام والسمع والطاعة في المنشط والمكره بكل ما تأمر به الجماعة أو تضع من نظم وإداريات، فإذا اختارت الجماعة نظماً وقواعد ولوائح تضبط حركتها لتحقيق أهدافها ارتضتها الجماعة وأقرتها، وجب احترامها والعمل بها كنظام الأسر والاختيارات الفقهية التي تراها الجماعة لأنها أصبحت من ثوابتها أما المسائل الفقهية التعبدية المختلف فيها والتي قال فيها الإمام النووي: “المختلف فيه لا إنكار فيه”.
فإن كانت هذه المسائل فيما يتصل بالعبادات والشعائر الشخصية، فليس للجماعة أن تتدخل فيها، فهذه أمور تعبدية فردية لكل فرد أن يختار ما ترتاح إليه نفسه ويطمئن إليه قلبه ويقتنع به عقله من آراء وأحكام في المذاهب المعتبرة، وله أن يتبع إماماً من الأئمة أصحاب المذاهب الإسلامية، فهذا حنبلي وذلك شافعي وثالث مالكي ورابع حنفي، ما دام هذا الحكم لا يتصل بحركة الجماعة ولكن بعباداته الفردية.
وعلى هذا فإن الجماعة إذا اختارت وجهاً من الوجوه الفقهية في مسألة من المسائل فليس للفرد أن يخرج عليه إلى رأي فقهي آخر مادام يتصل بحركتها، فمثلاً إذا اختارت الجماعة الرأي الفقهي الذي يقول: إن الشورى ملزمة فليس لأي فرد أن يقول: سآخذ بالرأي الآخر الذي يقول إن الشورى معلمة، فتضطرب الأمور، ولن يحسم الخلاف أبداً داخل الجماعة فيتنازع أفرادها ويفشلون وتذهب ريحهم، وهيهات أن يجتمعوا على رأي واحد.
فاختيار الجماعة الفقهي بأن الشورى ملزمة من الثوابت التي لا مناص منها ولا رجوع عنها لأن الشورى الملزمة هنا صارت جزءاً من النظام الملزم الذي يحسم الخلاف.
يقول الإمام البنا: “ورأى الإمام ونائبه فيما لا نص فيه وفيما يحتمل وجوهاً عدة، وفي المصالح المرسلة معمول به مالم يصطدم بقاعدة شرعية، وقد يتغير بحسب الظروف والعرف والعادات. والأصل في العبادات التعبد دون الالتفات إلى المعاني وفي العاديات الالتفات إلى الأسرار والحكم والمقاصد”.
أما في الأمور التعبدية الشخصية فيقول ابن تيمية: “إن ما فيه خلاف –وهو المتغير المجتهد فيه- إن كان الحكم المختلف يخالف سنة أو إجماعاً وجب الإنكار لعيه، وكذلك يجب الإنكار على العامل به، إن كانت المسألة ليست فيها سنة ولا إجماع فالاجتهاد فيه مذاهب فإنه لا ينكر على المخالف سواء كان مجتهداً أو مقلداً.
وكل مسلم لا يستطيع أن يخالف ذلك فهي من الأمور الثابتة شرعاً سواء للفرد أو للجماعة.
ويحكمنا في كل الأحوال آداب الاختلاف التي منها:
- عدم التعصب للرأي لكسب الأنصار، والتعصب غير التمسك والالتزام.
- لا نرضى لجماعة أو فرد أن يدعى العصمة فيما يقول من أمور الاجتهاد.
- نبحث عن الحق سواء ظهر على لساني أو لسان غيري... يقول الإمام الشافعي: ما ناظرت أحداً إلا رجوت الله أن يظهر الحق على لسانه.
- لا نبحث عن سقطات الآخرين لننفر الناس منهم، فليس هذا بخلق المسلم.
- وضوح أن الاتفاق على أصول المنهج لا يعني الاتفاق على فروعه.
- تفسير ما يقوله المخالف لصالحه وأن نجمع كل ما قاله في المسألة الواحدة.
- نحن نقدر العلماء ولا نقدسهم، وهفواتهم تنغمر في حسناتهم وصدق القائل: من لم يعرف اختلاف الفقهاء لم يشم رائحة الفقه.
ومن المواقف المبدئية وليست التكتيكية الحركية كما يدعى أعداء الإسلام وأعداء الدعوة والمرجفون بيننا، موقفنا الثابت المبدئي والذي أعلنته الجماعة مثل:
- موقفنا من العنف والإرهاب.
- موقفنا من الأقباط.
- موقفنا من الشورى.
- موقفنا من المرأة.
- موقفنا من المشاركة في الحكم.
كل تلك المواقف من الثوابت التي لا تتغير ولا تتبدل، ذلك أن صاحب الفكرة يتحمل من أجل ثوابته الكثير، لا يبغي مصلحة أو منفعة بل يقوم وهو يتمسك بها: لا أسألكم عليه أجراً، ولا نريد منكم جزاء ولا شكوراً، وفي نفس الوقت لا يساوم عليها ولا يتنازل عنها، ويقول: والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه.
عاشراً: الله الغاية في كل ما نقول ونعمل
إن وظيفة الإنسان ورسالته بل الغاية من خلقه في الحياة هي عبادة الله وحده سبحانه وتعالى”وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون” الذاريات: 56، العبادة بمفهومها الإسلامي الواسع الشامل، فهو لا يحقق وجوده ولا إنسانيته ولا سعادته وحريته وكرامته، بل وحضارته إلا بإخلاص العبودية لله وحده.
فهو عابد في حياته التعبدية –الشعائر- وفي شرائعه وقوانينه الحياتية عابد لله في حياته التعليمية والعلمية، والسياسية والاجتماعية والسلوكية والعائلية، في حياته العامة والخاصة، عابد في إدارياته وتخطيطه وتنظيمه، عابد في توجهاته، فأبرز ما يميز حياته ما يصبغها بالعبادة، وأسعد أيامه ما يطعمها بطعم العبادة ”وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء” البينة: 5 لأنه بالعبادة نصل إلى الصدارة والقيادة وصدق الإمام حين قال: “كونوا عباداً قبل أن تكونوا قواداً تصل بكم العبادة إلى أحسن قيادة”.
صحيح أننا نريد أن ننهض، ولكن غايتنا من النهوض أن نحقق تمام العبودية لله رب العالمين، فنكون من أصحاب الأيدي المتوضئة، والجباة الساجدة، والأقدام المتورمة، والأكف المتذللة، والجفون المتقيحة، والعيون الدامعة، والألسن الذاكرة، والجوارح الخاشعة، والقلوب الوجلة، رهبان بالليل، وفرسان بالنهار “إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون، الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، أولئك هم المفلحون” الأنفال: 2-4.
هم مؤمنون حقاً لأن الله غايتهم، وسيظل هذا هدفاً حتى بعد استقرارنا في الجنة بفضل الله عز وجل إن شاء، لذلك فهو هدف فوق الأهداف، إنه غاية، وهذه الغاية من ثوابت الفكر والتصور في دعوتنا، إن مقتضى ثبات غايتنا وأنها تحصيل رضا الله عز وجل أن يزن كل منتمٍ للدعوة أمور دعوته بها، فكل مقصود يرضى الله سبحانه وتعالى عنه هو مقبول من حيث المبدأ في دعوتنا، وكل مقصود أو مطلوب يغضب المولى هو مرفوض من حيث المبدأ حتى نصبح أصحاب قلوب كما وصفت الآية.
الحكومات مجرد وسائل:
فالنظم والإداريات بل الحكومات والجمعيات والجماعات التي يسعى إليها الناس، إنما هي وسائل لتحقيق الأهداف، وليست غايات بحد ذاتها، وإنما تشرف هذه الوسائل بشرف غاياتها، وتقصد للحصول على قدر أكبر من تحقيق تلك الغايات التي يقصر عنها الجهد الفردي، فتكون الجماعة ويكون التجمع وتكون القيادة.
وبالتالي فلا يجوز بحال من الأحوال أن تنقلب هذه الوسائل إلى غايات بحد ذاتها، وإنما يجب أن تبقى وسائل محكوماً عليها بمقدار ما تحقق من الغايات التي سبقت الإلماحة إليها، وهي تحقيق العبودية لله تعالى والفوز برضاه.
فليست غاية الدعوة إلى الله والعمل الإسلامي بصوره المختلفة، الوصول إلى الحكم والسلطة بأشخاصه وبمختلف الطرق الشرعية وغير الشرعية، وإنما الحكم بحد ذاته لا يعدو في نظر المسلم أن يكون من وسائل تحقيق معنى العبودية، ونشر الدعوة وحمايتها في مدى أوسع ومساحة أشمل.
وبتحقيق هذه العبودية يتولد عند المسلم:
- الخشية من الله سبحانه وتعالى.
- الالتزام الأخلاقي والأدبي قبل ما يعتقد ويرتبط.
- الشعور بالمسؤولية الفردية ثم التضامنية.
- الحب في تأدية الواجب مهما كانت النتائج.
- تقدير الوقت والخوف من الفوت، لأنه محاسب عليه فلا يضيعه في جدل ومراء بل عمل وتضحية.
- الإيجابية في تنفيذ المطلوب بالمبادأة والمسارعة في تنفيذ المطلوب وتحقيق المنشود.
- زرع الطمأنينة في النفس والرجاء في القلب والثقة في الرب.
- تمنحه الجرأة والإقدام والشجاعة في نفسه، فيستبين معوقات طريقه فيواجه الشدائد، ويغلب على الصعاب، ويقارع الباطل، وينشر الحق ويفتديه، ويستيقن النصر وينتظره أو يحظى بالشهادة.
- أن يستعين بسلاح الصدق والإخلاص وسلاح التميز والالتزام، وسلاح الأخوة والثقة في الله.
- حرص على تحقيق عقد الإيمان، وعقد الأخوة مستعيناً بالثقة في الله ثم الثقة في إخوانه.
ولهذا كان ورد الرابطة يذكرنا بوحدة الوجهة والغاية، وأنت تدعو لإخوانك اللهم إنك تعلم أن هذه القلوب قد اجتمعت على محبتك، والتقت على طاعتك، وتوحدت على دعوتك، وتعاهدت على نصرة شريعتك، فوثق اللهم رابطتها وأدم ودها سبلها، واملأها بنورك الذي لا يخبو، واشرح صدورها بفيض الإيمان بك وجميل التوكل عليك، وأحيها بمعرفتك وأمتها على الشهادة في سبيلك، إنك نعم المولى ونعم النصير، فالاجتماع هنا ليس اجتماع أجساد بل اجتماع قلوب على محبة الله وطاعته، ولن يكون ذلك كذلك إلا إذا كان الله غايتنا والرسول قدوتنا، والقرآن دستورنا والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا.
إن التأكيد على أن الغاية الله من ثوابت دعوتنا، يقتضي حراستها، وإدراك أن كل مناقض لهذه الغاية مرفوض يقتضي اليقظة في مواجهة كل ناقض، والحفاظ على شعار الله غايتنا تعبيراً عن هدفنا الأسمى، يقتضي وضع الأهداف الأخرى في مكانها الصحيح في سلم العمل، ويعني ذلك أننا لا نملك أن نتخلى عن سلم الأهداف الذي يوصل إلى الغاية العليا، كما أننا لا نستطيع التنازل عن درجة من درجاته، فإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة –مثلاً- هي درجة من درجات سلم الأهداف لا نصل للغاية بدونها، ومن ثم لا يجوز التنازل عن التمسك بها، ولا يعني عدم قدرتنا على إقامة الخلافة الآن لسيطرة أعدائنا وهيمنة نظامهم العالمي على مقدراتنا، وتفوقهم علينا أن نحذفها من مراتب العمل، أو أن نطلب السلامة من بطش عدونا بإلغائها من أهدافنا، ففي هذا تعمية على الأجيال القادمة، وصرف لها عن واجب من واجباتها، وخفض لسلم أهدافها، يقف بها دون مرتبة قد تستحقها، أو يحرمها من تحقيق غاية فيها السعادة الأبدية “رضا الله عز وجل” فالله الغاية.
الانحراف عن الغاية:
الانحراف عن الغاية هو أخطر الانحرافات وأشدها معوقاً للتربية ولذلك لابد أن يعرف كل مربٍ أن الغاية على طريق الدعوة هو الله سبحانه، والبعد عن هذه الغاية أو الانحراف عنها، يعني أن يقصد غير الله، ومعلوم أن الانحراف عن هذه الغاية، ولو كان بسيطاً، يعرض المنهج التربوي لخلل خطير.
فالرياء والغرور والكبر والتعالي، وحب الزعامة، وحب الظهور، والتطلع للصدارة، إلى غير ذلك من الاهتمامات الدنيوية الهابطة، هي من أمراض القلوب التي تنحرف بصاحبها عن الغاية، فتفسد الأعمال وتحبطها لفساد النية والإخلاص.
وليس بالضرورة أن يكون الانحراف عن الغاية يعني التوجه إلى الأغراض الدنيوية، ولكن مجرد وجود أي قدر من الانحراف، سواء كان في التصور أو العمل، يعوق منهج التربية الصحيح.
فالذين يجعلون غايتهم دقة الهياكل التنظيمية، والاستراتيجيات التخطيطية، أو يجعلون غايتهم الحضارة المادية، والعلوم التكنولوجية –هذا كله أمر مطلوب مرغوب، ولكنها ليست الغاية، إنما هي وسائل ونتائج وبقدر الأخذ بالأسباب، وإخلاص النيات يؤجر المسلم على عمله ونيته فقد يحظى بمنازل الشهداء وهو في بيته “ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون” التوبة: 92.
إذا انحرفت الغاية، وأصبحت حضارة تقام، وخطة لابد لها من نجاح وأصبح التقييم بنتائج الأعمال بصرف النظر عن الأحوال والأخلاق، وأصبح النظر إلى الأجر من الله بنتائج الأعمال، فذلك بعد عن الغاية، أما حين تكون الغاية الله فإن الله يقول:”فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره” الزلزلة: 7، 8 فالأجر على الذرة لأن الغاية الله.
فقد ينجح المسلم في تنفيذ خطة، ويسقط في امتحان شدة، أو هوى في نفسه، ومن أمراض القلب مرض الغرور الذي يحبط الأعمال، وإن كانت دقيقة، ويفسد الخطط ولو كانت محيطة، وذلك حين يظن المسلم أنه متميز على غيره بخبرة وذكاء وحسن تقدير للأمور، ومعرفة بفنون السياسة، وأساليبها والاستراتيجيات وتخطيطها، وكيفية المناورة مع الأعداء وأساليبها.
أو يتعالى على إخوانه، ويبخسهم أشياءهم ولو كانوا أهل سبق في الدعوة، فيقسمهم إلى قسمين، قسم صاحب رأي وعقل راجح، وهؤلاء في المقدمة، وقسم بادي الرأي أراذل، لا دخل لهم بتخطيط وليس لهم في الشورى نصيب، ورضوان الله على الصحابي المجاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال لصاحبه: “والله لا أعرف بعد الألف عدّاً.. “ وهو في نفس الوقت أخ للذي قال “إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله” وأخ لكل عابد محنك، وكل مخطط دقيق.
إن أمثال هؤلاء لو تحقق خير للدعوة على أيديهم يرجعونه إلى مقدرتهم وعبقريتهم، وينسون فضل الله وعونه وتوفيقه “ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحدٍ أبداً ولكن الله يزكي من يشاء” النور: 21
إن منطق هؤلاء منطق من قال حين نظر إلى الحضارة الغربية:”يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظٍ عظيم” القصص: 79 ثم قارن بينه وبين إخوانه فشعر بسعة أفقه، وحسن تقدير فقال:”إنما أوتيته على علم عندي” القصص: 78.
إن هؤلاء في حاجة إلى مراجعة الإخلاص في قلوبهم، وتحديد الغاية من وجودهم، وصدق الشهيد سيد قطب حين قال: “المرة بعد المرة يصاب بعض أفراد الجماعة بنزوات، وفي كل مرة يسقط أصحاب هذه النزوات كما تسقط الورقة الجافة من الشجرة الضخمة، وقد يمسك العدو بفرع من الشجرة ويظن أنه بجذب هذا الفرع سيقتلع معه الشجرة كلها، حتى إذا آن الأوان، وجذب الفرع خرج في يده كالحطبة الجافة لا ماء ولا حياة وبقيت الشجرة”.
فلو كانت الغاية الله لاستوى السلوك، ولصح العمل، ولتحقق بإذن الله بهذه القلوب التي اطلع عليها مولاها فأنزل السكينة عليها، وأثابها فتحاً قريباً، فخرت ساجدة لله، مستغفرة من ذنبها حين النصر”إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا” النصر: 1-3 فإذا تحقق النصر فالغاية الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.