تشفيرالانتخابات
تشفيرالانتخابات ..... بقلم / د. عبد الحليم قنديل
ربما لا يصح لأحد عاقل أن يتحدث عن انتخابات ـ بالمعنى المفهوم عالميا ـ سوف تجري في مصر، فقد انتهت قصة الانتخابات في مصر، وتحولت إلى تعيينات بالأمر الإداري المباشر، وانتقلنا من ' تزوير' الانتخابات إلى 'تشفير ' الانتخابات، أي أننا صرنا بصدد انتخابات مشفرة كقنوات التليفزيون المشفرة، لا يراها أحد، وربما بغير اشتراك خاص ووصلة خاصة تربط بالمقار الرئيسية لجهاز مباحث أمن الدولة.
وقد كانت الانتخابات العامة دائما صداعا مزمنا في مصر، وظلت الشكوى من 'التزوير المنهجي' سيدة الحال، فنحن بصدد بلد خاص جدا، بلد بدت الدولة فيه كمجرى النيل، بينما يبدو المجتمع مصنوعا على عين الدولة، وظلت السلطة من أسرار الكهنوت، ومع ثورة 1919 بدأت القصة الليبرالية على الطريقة المصرية، وجرت عشرات الدورات من الانتخابات بين عامي 1919 وإلى ثورة 1952، ولم يصعد حزب الوفد ـ صاحب الأغلبية الشعبية وقتها ـ إلى منصة الحكم سوى سبع سنوات لا غير، وثبت أن الأصل العام كان التزوير، بينما النزاهة النسبية هي الاستثناء النادر، ومع ثورة 1952 تكونت سلطة ذات أولويات مختلفة، طغت أولويات العدالة والتنمية والنهضة والتوحيد القومي العربي، بينما كانت الانتخابات ووسائلها شبحا باهتا على أطراف الصورة، وكانت ظاهرة عبد الناصر ـ بشعبيته الكاسحة غير المسبوقة ولا الملحوقة ـ فوق نتائج انتخابات واستفتاءات مشكوك في سلامة إجراءاتها، ثم عاد الكلام عن الديمقراطية والانتخابات ملحا بعد الانقلاب على اختيارات عبد الناصر عقب حرب أكتوبر 1973، وتداعت من وقتها عشرات الدورات من الانتخابات والاستفتاءات، وجرى إنفاق المليارات في المواسم الانتخابية، ودون أن نصل لنتائج تستحق الثقة بها، ولو بمثقال خردلة، وبإقبال على التصويت ظل ينحسر إلى ما يقرب من الصفر، ولم تتوافر في دورة انتخابات واحدة أبسط دواعي السلامة، وإن جاز الحديث أحيانا عن نزاهة نسبية في دوائر انتخابات هنا أو هناك، وعلى نحو ما بدا ـ مثلا ـ في انتخابات 1976، والتي فاز فيها 15 نائبا عارضوا اتفاق كامب ديفيد، ثم أطيح بهم في قرار السادات بحل مجلس الشعب، وإجراء انتخابات توافرت فيها دواعي 'التزوير الأصولي' الشامل الجامع المانع، وهي القصة ذاتها التي بدا أنها قبلت التكرار في انتخابات 2005، والتي فاز فيها ما يزيد عن مئة نائب معارض أغلبهم من الإخوان، وهم مرشحون لإقصاء شامل في دورة انتخابات يجري تبكيرها، أو تأجيلها إلى الموعد المقدور في 2010، أي أن نزاهة الانتخابات جزئيا في مصر بدت كمجرد خرق موقوت لقانون التزوير المتصل الأثر، والمؤكد سريانه بشهادة آلاف من أحكام القضاء الإداري ومحكمة النقض.
وخلال الثلاثة عقود الأخيرة، بدت قطاعات من المعارضة المصرية، وكأنها تتعلق بقشة اسمها الإشراف القضائي على الانتخابات، وهو ليس شرطا لصحة أية انتخابات تجري في العالم، لكنه بدا كشرط خاص جدا في الحالة المصرية، ودعمه نص دستور 1971 في مادته (88) على الإشراف القضائي الكامل، وظلت أجهزة الإدارة والأمن تتحايل على الشرط المذكور، وتوقف تطبيقه عمليا لثلاثين سنة، وبدعوى أن عدد القضاة (8 آلاف تقريبا) لا يكفي للإشراف الكلي على انتخابات تجري في يوم واحد، ثم بدا أن المحكمة الدستورية العليا ـ نشأت في أواخر عهد عبد الناصر ـ تضع الأمر أخيرا في نصابه، وبحكم شهير صدر قبل انتخابات البرلمان سنة 2000، ونص حكم المحكمة العليا على تفسير صريح بديهي لنص المادة (88)، وهو أن الإشراف القضائي المقصود لا يتم بدون وجود قاض فوق رأس كل صندوق انتخابي، بدا الحكم صارما في تفسير نص لا يقبل التأويل، لكن أجهزة الإدارة والأمن ظلت مصممة على المضي في المتاهة، وضمت إلى زمرة القضاة هيئات من غير قضاة الأحكام، ومن نوع أجهزة النيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة، وهو ما كان دائما موضع اعتراض نادي القضاة قبل تحطيم استقلاله، ناهيك عن نشر فيروس تخريب الذمم والضمائر بين القضاة ذواتهم، ورئاسة رئيس الجمهورية ـ الذي هو رئيس الحزب الحاكم ـ للهيئات القضائية جميعا، ومع كل هذه الظروف، فقد بدا التوسع في الإشراف القضائي كأنه يفتح الثغرة في جدار التزوير، وبدت ثماره ظاهرة جزئيا في انتخابات 2005، وتلك 'ثغرة نزاهة' جرى إغلاقها بجرة قلم في تعديلات الانقلاب على الدستور.
وبدلا من التوسع في ضمانات الإشراف القضائي وتعميمه وتدقيقه، وفتح الباب لحل معضلات أخرى من نوع نظام الانتخابات وغباوة الجداول الانتخابية، بدلا من البناء على انجاز بدا محدودا، جرى تجفيف الأقلام وطي الصحف، والإجهاز على القصة كلها بتعديلات دستورية استفتى عليها صوريا في 26 آذار (مارس) 2007، وفي سياق صياغة دستور على مقاس العائلة الحاكمة بالضبط، جرى إلغاء فكرة الإشراف القضائي الكامل في نص المادة (88)، وجرى النص على إشراف صوري في اللجان العامة لا غير، أي في لجان الفرز لا التصويت، وجرى إحلال عملي لإشراف ضباط الشرطة، والانتقال من تعب التزوير إلى سهولة التشفير، وإجراء انتخابات بلا ناخبين تقريبا، وتدبيج نتائج مذهلة بمعرفة كومبيوتر وزارة الداخلية، ومن وراء قناع تعينه الإدارة باسم لجنة الإشراف على الانتخابات من قضاة الزور، وهكذا بدت الصورة 'كرتونية' بالجملة، فأعداد الناخبين المصوتين المعلنة تقدر بالملايين، بينما لا يراهم أحد، وكأنهم يركبون بساط الريح، أو يلبسون طاقية الإخفاء، وهم ـ يا سبحان الله ـ يؤيدون الحزب الحاكم مئة بالمئة، ويعطونه كافة المقاعد وزيادة، وعلى نحو ما جرى في انتخابات التجديد النصفي لمجلس الشورى في نيسان (أبريل) 2007، ثم في انتخابات المحليات في نيسان (أبريل) 2008، ثم في انتخابات تكميلية جرت على مقاعد خلت في مجلس الشعب بين التاريخين المذكورين وبعدهما، وهكذا انتهت قصة الانتخابات العامة في مصر، وفي المجالس البرلمانية من كل صنف ونوع.
وفي الانتخابات المشفرة ـ على الطريقة المصرية ـ يمنع المرشحون كثيرا حتى من فرصة التقدم بأوراقهم، وبطرق بلطجة سوقية تقوم عليها أجهزة الأمن 'الشرعية'، وهومنع يصل إلى الذروة في ما يسمى انتخابات الرئاسة، وبطرق تتخطى البلطجة الأمنية إلى البلطجة الدستورية هذه المرة، فقد صيغت المادة 76 من الدستور بطريقة عائلية محكمة، وهذه المادة ـ بنصها الفريد الركيك ـ هي واحدة من عجائب الدنيا السياسية، ومقتضاها المباشر ـ بعد اللف والدوران واللت والعجن في النص المخبوز ـ صريح تماما، وهو أنه لا يحق لأحد أن يرشح نفسه جديا للرئاسة إلا أن يكون واحدا من اثنين، إما الرئيس مبارك نفسه، أو من يرشحه الرئيس مبارك، وحبذا لو كان ابنه، فالمادة تقصر الترشيح للرئاسة حصرا على أعضاء الهيئات العليا للأحزاب المعترف بها رسميا وأمنيا، وتلك شريحة 'ميكروسكوبية' من مجتمع السياسة المصرية، والمعنيون عشرات محدودة من ثمانين مليون مصري، ثم أنهم ـ عمليا ـ لا أحد، وأغلب أحزابهم صارت أقرب إلى أكشاك السجائر، وهم مدعوون فقط للعب أدوار الكومبارس، ومقابل نصف مليون جنيه مصري كمصاريف دعاية، ويذكرونك بحكاية المرحوم الحاج أحمد الصباحي، وقد كان واحدا من قراء الكف المشهورين، وخالا لمسؤول كبير في ديوان مبارك، ومنحوه رخصة حزب باسم 'حزب الأمة'، وترشح في انتخابات الرئاسة منافسا لمبارك في خريف 2005، وقد سأله الصحفيون وقتها لمن سوف يعطي صوته؟، ورد الرجل بعفوية: سوف أعطي صوتي للرئيس مبارك طبعا (!)، وتلك حكاية مسلية تكشف عبث وديكورية وصورية الانتخابات على الطريقة المصرية.
ومع وضوح كل هذه الحقائق، لا يصح لعاقل أن يتحدث ـ من الأصل ـ عن انتخابات متوقعة تجري في مصر، ولا أن يدعو ـ من باب أولى ـ للمشاركة فيها، وإن فعل فهو يرتكب خطأين في نفس واحد، خطأ الغفلة عن ما يجري، وخطأ الخداع وتزييف وعي الناس، ثم أنه يرتكب الخطيئة التي لا نشك في كونها من كبائر ذنوب السياسة، وهي الإيحاء بشرعية ما يجري، وخدمة نظام اغتصب السلطة والثروة، ولفت النظر عن الحقيقة الأكثر صلابة، وهي أنه لا أمل في انتخابات ـ تستحق الصفة ـ قبل كنس نظام مبارك وابنه.
المصدر : نافذة مصر