تجديد الخطاب الديني عند البنا
مركز الدراسات التاريخية ويكيبيديا الإخوان المسلمين
محتويات
مقدمة
منذ عقد تقريبا ثارت حملة تدعو إلى تجديد الخطاب الديني، وأقيم لذلك برامج ومؤتمرات، ودبجت مقالات وخطب، وحوارات ومناظرات، وانقسم الناس حيالها إلى فريقين؛ فريق مؤيد وفريق مشكك في غرض هذه الدعوة.
ثم انتهت إلى لا شيء، لا الخطاب الديني تجدد، ولا حتى اتفقنا على مفهوم واضح لمعنى تجديد الخطاب الديني، هل هو تفريغ الدين من محتواه كما يقول المشككون، أم هو تعميق الحديث عن الدين واستخدام أساليب وطرق جديدة...إلخ.
وبصرف النظر عن هذه الحملة ومقاصدها وما آلت إليه، أحببت أن أعرض للخطاب الديني عند الإمام البنا رحمه الله؛ لأنه من الذين ثاروا على الخطاب الديني السائد في وقته، ونقدوه، ويعد من رواد تجديد الخطاب الديني بمفهومه الصالح.
وكان نقد الإمام البنا للخطاب الديني السائد في وقته يشمل: نقد وسيلة الخطاب الديني، ونقد محتوى الخطاب الديني، وكان لخطابه مظاهر تجديدية لا تخطئها العين، وكانت له خصائص يعرف بها، وأدى إلى نتائج جيدة، وفيما يلي تفصيل ذلك.
أولا: نقد وسيلة الخطاب الديني
رأى الإمام البنا أن:
- "الخطب والأموال والمكاتبات والدروس والمحاضرات ...كل ذلك وحده لا يجدي نفعًا ولا يحقق غاية ولا يصل بالداعين إلى هدف من الأهداف؛ ولكن للدعوات وسائل لا بد من الأخذ بها والعمل لها". (1)
فوسائل الخطاب الديني من خطب ودروس ومحاضرات ومكاتبات غير موظفة في خطوات معروفة ومحددة لا تجدي نفعا وحدها، ولا توصل الدعوات إلى مبتغاها، ولكنه باستقراء الدعوات التي حققت نجاحات، ومنها دعوة سيد الأنبياء، وجد أنها قامت على خطوات ومراحل معروفة ومحددة، ووظفت هذه الوسائل لتحقيقها، ولم تكن مجرد خطب ودروس في الفراغ.
ثانيا: نقد محتوى الخطاب الديني
وكان الإمام البنا رحمه الله يدرك أن الاعتماد على الكلام المرتجل والخطابة وإثارة المشاعر والعواطف والاكتفاء بتشخيص الداء ووصف الدواء(2)، لم يعد يكفي، بل لا بد من عمل استراتيجي منظم مبني على أدق قواعد البحث العلمي، يؤدي في النهاية إلى نتائج ملموسة؛
يظهر هذا من قوله:
- "تكثر الأسئلة عن مرامي الدعوة وكنهها، وعن الطرق التي يسلكها أهلها والقائمون بها في علاج ما يحيط بتطبيق مبادئها وتعاليمها من مشاكل داخلية وخارجية، ولم يعد يكفي في ذلك كلام مرتجل، أو خطابة تثير المشاعر، أو عبارات تؤثر في العواطف، بل صار واجبا على أهل الدعوة أن يصوروها للناس تصويرا منطقيا دقيقا واضحا مبنيا على أدق قواعد البحث العلمي، وأن يرسموا أمام الناس الطرق العملية المنتجة التي أعدوها لتحقيق ما يريدون، ولتذليل ما سيصادفون من عقبات لابد من وجودها في الطريق". (3)
وقد كانت الطرق العملية المنتجة المبنية على أدق قواعد البحث العلمي التي رآها الإمام البنا رحمه الله، هي التخطيط الاستراتيجي، على أساس خطوات ثلاثة أساس في كل الدعوات؛
وهي: التعريف بالدعوة ونشرها، واصطفاء الأخيار من المدعوين وتكوينهم تكوينا دقيقا والتدرج بهم والأخذ بيدهم حتى تكتمل تربيتهم وتثقيفهم وتصح عقيدتهم، فيبدأ بهم تنفيذ البرامج الإصلاحية المتوافقة مع الإسلام. ولكل مرحلة من هذه المراحل وسائلها وخطابها.
ثالثا: مظاهر تجديد الخطاب الديني عند البنا
بعد نقد الخطاب الديني السائد غير المجدي، وتحديد صورة الخطاب الديني المجدي، بدأ الإمام البنا يبحث عن الغايات ووسائل تحقيقها في القرآن والسنة والسيرة، والتاريخ، حتى حدد الغايات والوسائل الصحيحة، والخطوات التي يجب أن يسير عليها المسلمون للعودة بالإسلام سيرته الأولى.
ولذلك كانت كل رسالة من رسائل الإمام البنا الخمس وعشرين التي وصلتنا بعد ضياع أول رسالتين له تعد قطعة من خطة استراتيجية، وتدخل تحت مرحلة من مراحل عمله: التعريف بالدعوة ونشرها، والتكوين الدقيق لمن انضم إليها، والتنفيذ بطرح البرامج الإصلاحية الإسلامية.
فكل رسالة بلا استثناء تحقق هدفا أو أكثر من أهداف الخطة الاستراتيجية(4)؛ فهي إما معرِّفة بالدعوة وشارحة لها ومبينة لخصائصها، وإما مشخصة لأدواء الأمة ولعناصر القوة والضعف فيها، وإما دارسة لتاريخ الدعوات الناجحة والنهضات لتستفيد منها، وإما محددة للرسالة والأهداف والغايات والوسائل؛
وإما مرشدة للعاملين سواء فكريا مثل رسالة العقائد والتعاليم، أو إيمانيا مثل رسالة المأثورات والمناجاة، وإما مبينة لموقف دعوته من الدعوات الأخرى، أو من جهة عاملة للإسلام، أو هيئة ، وإما مقيِّمة لمرحلة ما من مراحل العمل، وإما عارضة لبرنامج إصلاحي تريد أن تأخذ به الجهات التنفيذية القائمة.
ولعل هذا التجديد في الخطاب الديني هو الذي يومئ إليه البنا بقوله:
- "لم نتخذ في هذه المرحلة (مرحلة التعريف بالدعوة) من وسائل إلا الدروس والمحاضرات والكتب والنشرات والأسفار والرحلات، ولكنها دروس لا كدروس الناس، ومحاضرات لا كمحاضراتهم، وأسفار غير ما يتصورون، وبأسلوب غير الأسلوب الذي يعرفون". (5)
رابعا: خصائص الخطاب الديني عند البنا
أدى تجديد البنا للخطاب الديني إلى أن يتسم خطابه بعدة خصائص تميزه عن غيره من الخطابات الدينية السائدة، بل تميز دعوته كلها عن غيرها من الدعوات، ومن هذه الخصائص أنه:
- (1) خطاب ديني بعيد عن مواطن الخلاف الفقهي(6)، لأن الخلاف ضروري ولا مخرج منه ولا انتهاء له، والاشتغال به يورث الشحناء والبغضاء والتنافر وذهاب الريح، ويفرق ولا يجمع.
- (2) خطاب ديني حر من كل سلطان، ومتجرد لله(7)
وحقق البنا ذلك بأمرين:
- (أ) البعد عن هيمنة الكبراء والأعيان: لأنهم كثيرا ما يحاولون توجيه الخطاب الديني وجهة ما يريدونها لتخدم مصلحتهم أو تنتصر لأهدافهم، مما يحرف الدعوات والخطاب الديني كله عن الوجهة النافعة.
- (ب) البعد عن هيمنة الأحزاب والهيئات(8): لأنها أيضا قد توجه الخطاب الديني وجهة تخدم مصالحها وما ترنو إليه من مجد شخصي ومال وجاه.
- (3) خطاب ديني يعتني بالتكوين والتدرج في الخطوات(9): وذلك بتوظيف وتنويع الخطاب الديني وسيلة ومحتوى؛ تبعا لكل مرحلة من مراحل الدعوة الثلاثة: التعريف، والتكوين، والتنفيذ، فالخطاب الذي يصلح لهذه المرحلة لا يصلح لتلك، والوسيلة التي تصلح لهذه المرحلة لا تصلح لتلك، وهكذا.
- (4) خطاب ديني يؤثر الناحية العملية الإنتاجية على الدعاية والإعلانات(10): لأن الناحية النظرية والدعاية والإعلانات تخلق مشاكل وعداوات وثارات، وقد تخلق صداقات ضارة، مما يعرقل سير أي دعوة.
خامسا: نتائج تجديد الخطاب الديني عند البنا
وقد أدى الخطاب الديني الجديد للبنا إلى عدة نتائج، منها:
- شدة الإقبال وخاصة من الشباب(11).
- سرعة الانتشار في القرى والمدن والدول(12). فقد كان لخطاب الإمام البنا الجديد هذا أثره الممتد على مدار ثلاثة وثمانين عاما زمنيا، وفي ما يزيد على تسعين دولة جغرافيا، وظهرت آثاره أكثر في الربيع العربي الجاري.
- تحقيق الغايات والأهداف المرسومة.
- توظيف الجهد والوقت في الأمور النافعة للدين والدنيا معا، بعيدا عن المعارك الجانبية التي لا تؤدي إلى غاية.
المراجع
- مجموعة الرسائل، رسالة بين الأمس واليوم"، (ص527)، إعداد مركز البصائر للبحوث والدراسات، إشراف جمعة أمين عبد العزيز، دار التوزيع والنشر الإسلامية، ط1، 1427هـ/2006م.
- السابق، (ص527).
- مجموعة الرسائل، "رسالة دعوتنا في طور جديد"، (ص477).
- فصلت الحديث عن ذلك في بحثي:"مكمن عبقرية الإمام البنا"، المنشور على موقع إخوان ويكي.
- مجموعة الرسائل، "رسالة المنهاج"، (ص253).
- مجموعة الرسائل، "رسالة المؤتمر الخامس"، (ص339).
- مجموعة الرسائل، "رسالة المؤتمر الخامس"، (ص339، 340).
- السابق، (ص339، 340).
- السابق، (ص339، 341).
- السابق، (ص339، 345).
- مجموعة الرسائل، "رسالة المؤتمر الخامس"، (ص339، 348).
- السابق، (ص339، 349).