تجديد أصول الفقه في مشروع الدكتور حسن الترابي

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
تجديد أصول الفقه في مشروع الدكتور حسن الترابي

بقلم:محمد همام

تقديــم

علم أصول الفقه علم منهجي؛ وضع من خلاله علماء المسلمين القواعد التنظيمية للتفكير الإسلامي، مما عصمه في كثير من المراحل التاريخية من الذوبان داخل أنساق منهجية مفارقة، كما أهلته للتعامل الدقيق مع الوحي.

فبفضل المجهود النظري والمنهجي لعلماء أصول الفقه تحطمت "أسطورة أرسطو" العقل الواحد، والذي تلبس به بعض الفلاسفة المسلمين، وكانوا على وشك أن يوقعوا الأمة في اندحار علمي مروع.

فالمجهود الأصولي كان الركيزة الأساسية للمنهج الإسلامي الاستقرائي القائم على التجربة والذي تنظمه قوانين بسيطة ومحددة. وكان إلى حد كبير تعبيرا عن روح الإسلام التي تجمع بين معطيات النظر ومقتضيات العمل، عكس المنهج اليوناني المؤسس على القياس المشبع بالنظر الفلسفي المجرد.

كما كان المجهود الأصولي مجهودا نقديا شاملا؛ مس على الخصوص مجهود المتفلسفة ممن احتوتهم خرافات الميتافيزيقا اليونانية.كما أحي الأصوليون المصطلح القرآني وأكسبوه مناعة منهجية ومعرفية.

ولم يعد العقل العلمي الإسلامي تائها بين المعاني المجردة والغامضة لمفاهيم منقولة بطرق رديئة، كالجوهر والصورة، والهيولى، والجزء الذي لايتجزأ، وإنما أصبح يتداول مصطلحات مرتبطة بالطبيعة الحية الواقعية كالهباء، والذرة، والدخان، والماء، والنار، والشجر، والجبال، والطير، والنحل، والظلام، والسحاب(1)؛

فتأسست بذلك العقلية الإسلامية العملية والواقعية مفارقة للعقلية اليونانية التجريدية والخيالية.وعليه لم يكن نقد الأصوليين للحد والقضية والقياس مجرد إنطواء ذاتي أو رفض ساذج للمنهج العلمي، وإنما كان نقدا أصيلا استمد مقوماته من بيئة مخالفة وجنس مخالف وتصور حضاري جديد.

وبرغم وجود النزوع النقدي في البحث الأصولي عبر تاريخ المعرفة الإسلامية، إلا أن المقاربة الأصولية لقضايا الدين والمعرفة والتاريخ أصابها فتور في لحظات من تاريخ الإسلام؛

فخفت الحس النقدي، وتضخم الشرح والتلخيص إلى حدود التعقيد والإبهام، وانقطع العطاء الأصولي عن مجاله التداولي، وتحول إلى هوامش على الهوامش وإلى ألغاز لايكاد يفهمها الباحثون بله المتعلمون.

كل هذا جعل الحاجة ماسة إلى مجهودات نقدية لتقويم العطاء الأصولي ومراجعته، بما يبعث فيه روح الإبداع والعطاء والإجابة الفعالة عن انتظارات الناس من المعرفة الإسلامية.

وعليه سنعرض للقيمة العلمية والمنهجية لأصول الفقه في المعرفة الإسلامية، والحالة التي انتهى إليها البحث الأصولي، والمجهودات المعاصرة لكبار مجددي الفكر الأصولي اليوم مع التركيز على مشروع الدكتور حسن الترابي.

المبحث الأول: مركزية أصول الفقه في المعرفة الإسلامية

مكانة علم أصول الفقه ضمن العلوم الإسلامية: مدخل معرفي

لم يبعد أحد الباحثين لما أدعى أن الحضارة الإسلامية حضارة فقه. (2)

ثم أضاف أن علم أصول الفقه هو الذي قام بمهمة التشريع للعقل، ليس العقل الفقهي وحده بل العقل العربي ذاته، كما تكون ومارس نشاطه داخل الثقافة العربية. (3)

فأصول الفقه كان يعتبره علماؤه طرقا للفقه وكيفية الاستدلال بها. (4)

فعلم أصول الفقه هو الأساس الذي يقوم عليه الفقه، وهو بذلك علم معياري يشمل البحث في الأحكام وأقسامها، وفي الأدلة وطرق الاستنباط والترجيح. (5)

وعادة ماينسب وضع أصول الفقه إلى الإمام الشافعي أحد أعظم الرجالات الذين أنجبتهم المعرفة الإسلامية(6)؛

فهو الذي وضع القانون الكلي لأصول الفقه ليرجع إليه في معرفة دلائل الشريعة وفي معرفة كيفية معارضتها وترجيحها. (7)

وكان همه ضبط الاستدلالات التفصيلية بأصول تجمعها، من غير إغراق في الجزئيات والتفا ريع.كما نقد الإمام الشافعي مجموعة من التعاريف السابقة ونقضها والتي لم تكن تخضع، بنظره، لنظام متسق في الاستنباط.

وبعد الشافعي سيعرف علم أصول الفقه تطورا هائلا خاصة تحت تأثير الحركة الفكرية الكلامية. (8)

وكان كتاب البرهان لإمام الحرمين الجويني أبرز مجهود اتسم بالإبداع والابتكار في الموضوع؛ فهو أول من حاول إدخال أدوات التحليل المنطقي إلى علم أصول الفقه. (9)

وبعده عرف علم أصول الفقه جمودا وركودا في ارتباط بظروف تاريخية ضمرت فيها القدرة البحثية والرغبة الملحاحة في الإبداع والتجديد. وكان بروز الإمام الشاطبي لحظة توهج جديد في المباحث الأصولية؛ إذا أعاد علم أصول الفقه إلى سيرته الأولى كمعرفة مواكبة لهموم المجتمع الإسلامي ومشاكله الفردية والجماعية، كما عمق أدواته في اتجاه نقد المفاهيم وتصحيحها. (10)

واكتسى علم أصول الفقه صبغة خاصة بين المعارف الإسلامية؛ إذ قام على قواعد وقوانين صارمة، فتحول إلى علم منهجي دقيق. وقدم علماء أصول الفقه مجهودا كبيرا في حماية المعرفة الإسلامية من الغارات الأجنبية، وخاصة اليونانية؛ فقد كان الشافعي وابن حزم والباقلاني وابن تيمية من أوائل المتصدين للهجمة الهيلينية؛ وكانوا من أكثر الممثلين للروح الإسلامية، ولجوهر الرؤية المعرفية والمنهجية الإسلامية إذا ما قورنوا ببعض رموز الاستلاب المعرفي للمناهج الفكرية والفلسفية الوافدة.

فكان أولئك المفكرون العلماء أكثر من غيرهم تطابقا وانسجاما مع الرؤية الذاتية الإسلامية(11)؛ فقد أثبتوا أن المنطق اليوناني يستند إلى الخصائص التداولية للغة اليونانية. وهذا فهم عميق لما بين اللغة والمنطق اليونانيين من صلات دقيقة.

ولم يفطن لهذه الملاحظة شراح التراث اليوناني ممن استلبتهم الميتافيزيقيا الأرسطية، ودخل عليهم من خلالها كل أجزاء الفكر الأرسطي، فضعفت مرجعياتهم، وقل إبداعهم، وأصيبت عباراتهم بالقلق، وأفكارهم بالاستغلاق؛ فقد خرجوا لغتهم على مقتضى القواعد النحوية اليونانية وأصول البيان اليوناني التي جاءت متخللة البحث المنطقي.

كما أخلوا، من الوجهة المنهجية، بقاعدة الإنجاز التي تضبط الأصل اللغوي لمجال التداول العربي، كما توجب أن يكون التعبير موافقا للأساليب العربية، صرفا وتركيبا وبيانا(12)؛ فهم إذن لم يستطيعوا استثمار، أو قل على الأقل استحضار، شروط مجالهم التداولي العربي الإسلامي.

ويمكن ملاحظة هذا الذي ندعيه بوضوح من خلال المقارنة بين مفكرين طارت شهرتهما في تاريخ المعرفة الإسلامية ومازالت إلى اليوم، أحدهما فيلسوف هو ابن رشد، والآخر أصولي وفقيه هو ابن تيمية.

فابن رشد محسوب على الفلاسفة المجتهدين، ولاأحد يشك في دور الفكر الرشدي في تطوير المعرفة الإسلامية في حينه والآن، إلا أن الأبحاث التي أنجزها الأستاذ طه عبد الرحمن، كفيلسوف ومنطقي وصاحب خبرة لغوية وفلسفية كبيرة يشك في القيمة الإبداعية لمجهود ابن رشد؛ إذ أعلن بجرأة أنه ليس رشديا ! ولا ينبغي أن نكون رشديين ! فابن رشد، بنظر طه عبد الرحمن، ينطلق من استقلال العلوم وعدم تداخلها، وهو بذلك فقيه وفيلسوف وليس فقيها فيلسوفا؛فهو لم يستثمر تكوينه الفقهي في اجتهاده الفلسفي، كما فعل الشاطبي مثلا في مقاصده وموافقاته، كما أنه ليس فيلسوفا فقيها، لأنه لم يستخدم معارفه الفلسفية في المجال الفقهي كما فعل الغزالي في استخدام العدة المنطقية في علم الفقه عن طريق الفلسفة.

أما شهرته فيردها طه عبد الرحمن إلى حاجة الغربيين إليه لتقريب فلسفة أرسطو ومواجهة سلطان اللاهوت الكنسي.كما ترجع هذه الشهرة إلى فتاوى التحريم التي أصدرتها الكنيسة في حق فلسفته. وانقسم حوله المفكرون الأوروبيون بين مؤيد ومعارض.

فهذه العوامل أي: الحاجة إلى الشارح، والحاجة إلى الظهير، والدخول في الصراع، والإفتاء بالتحريم، ولما كان العلمانيون العرب مقلدين لامجتهدين، جعلوا شهرة ابن رشد بينهم كشهرته بين الأوربيين مع اختلاف الأحوال والعوامل. (13)

فابن رشد إذن، وفق أبحاث طه عبد الرحمن، كان مقلدا في الفلسفة، وتقليده لأرسطو لا ينحصر في شروحه وتفاسيره وجوامعه، بل يتعداه إلى كتبه التي تعتبر من التآليف الاجتهادية مثل (تهافت الفلاسفة)،و " الكشف عن مناهج الأدلة"، و"فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من اتصال".

أما ابن تيمية فقد انتقد المنطق في بنيته المعرفية، ورد على الغزالي الذي ادعى في المستصفى (14) أن من ليست له خبرة بالمنطق فليس له ثقة بشيئ من علومه. كما رفض ابن تيمية اعتبار المنطق آلة قانونية مراعاتها تعصم الذهن من أن يزل. (15)

وذكر رفض المسلمين لهذا المنطق ومثل بكتاب " الدقائق" لأبي بكر الباقلاني"؛ فقد انتقد مقلدة المنطق اليوناني واتهمهم بالشك والاضطراب، وقلة العلم والتحقيق، واعترض على عملية إدخال المنطق في العلوم الإسلامية، لأن ذلك، بنظره، يطول العبارة ويبعد الإشارة، ويجعل القريب من العلم بعيدا، واليسير منه عسيرا. (16)

ولم يضعف ابن تيمية أمام أرسطو، وانتقده بحدة واتهمه في علمه(17)؛فقد نقد ابن تيمية مثلا القضية الكلية من حيث هي عنصر من عناصر البرهان، ثم استطرد إلى الكلام في قضايا الكليات والجزئيات من وجهة ميتافيزيقية وابستمولوجية، وذهب إلى حد التشكيك في قيمة الكليات جميعها من حيث هي عالم معقول، وقدم نقدا مبتكرا أعاد صياغة مفهوم العلم ومصادره وطرقه من جديد (18) وفق منظور إسلامي مفارق للمنظور الأرسطي.

كما أن علماء أصول الفقه آخرين سيقومون بدور تقريب المنطق إلى المجال التداولي العربي الإسلامي محاولين الاستفادة منه من داخل الرؤية المعرفية والمنهجية الإسلامية. وهذا ما قام به العالم الأصولي ابن حزم؛

ففي وقت انقسم الناس فيه بين جاهل بالمنطق اعتبر تعاطيه بدعة، وبين مطلع عليه عبر الترجمات القلقة، قام ابن حزم بعملية عرض هذا العلم كمرحلة أساسية، فرفع تعقيدات الترجمة، عبر عملية منهجية ومعرفية هي التقريب بألفاظ سهلة بسيطة يستوي في فهمها العامي والخاص. فالتقريب ليس فقط مدخلا أو تبسيطا، بل هو شرح للمستغلق وتعليق عليه. (19)

ثم إن عملية التقريب باعتبارها ممارسة نقدية وبنائية في الآن نفسه، نزعت عن المنطق الأرسطي وصفه التجريدي، وزودته بوصف تسديدي يصله استعماليا باللغة العربية، واشتغاليا بالعقيدة الإسلامية، وإعماليا بالمعرفة الإسلامية. (20)

لقد قام إذن علماء أصول الفقه بدور أساسي في تقريب العلوم، وقدموا إبداعا متميزا في وضع أسس التفكير الإسلامي المنظم.من هنا اكتسب علم أصول الفقه أهميته الإبستمولوجية القصوى داخل المنظومة المعرفية الإسلامية.

وهذا أمر انتبه إليه مستشرقون كبار مثل شاخت وبرانشفيك؛ إذ لما أدركوا القيمة الكبرى التي يتمتع بها علم الأصول من بين علوم الإسلام، دعوا بحرارة إلى دراسته من وجهة نظر تاريخية، وتجاوز الدراسات التقليدية والإمتثالية كما هو سائد بنظرهما في كليات الشريعة.

أما محمد أركون فكرر في الكثير من أبحاثه أراء المستشرقين بأسلوب استفزازي مدعيا أن علم أصول الفقه قد عرف نهايته وشهد عقمه منذ لحظته التأسيسية مع الإمام الشافعي. (21)

وبسبب من هذه الأهمية القصوى لعلم أصول الفقه انتبه أيضا مجموعة من المفكرين الإسلاميين إلى أن أية نهضة معرفية أو منهجية لابد أن تمر عبر دراسات أصولية تجديدية(22)، تعمل على توحيد المنهج الأصولي وتقرب أطراف خلافه وتفهم مسائله، كما تعمل سد الذرائع في وجه الأهواء الشخصية والمذهبية، وتتجاوز القصور في رأي الفرد الواحد. (23)

وكان من أبرز هؤلاء المفكر السوداني حسن عبد الله الترابي؛ إذ دعا إلى التواضع على منهج أصولي، ونظام يضبط التفكير الإسلامي، تجنبا لاختلاط الأمور، وارتباك المذاهب وكثرة سوء الأفهام، والوقوع المخل في الاختلاف في مسائل تتصل بالحياة العامة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدولية وغيرها مما يؤثر على وحدة المجتمع المسلم وعلى نهضته. (24)

فكان إذن علم صول الفقه هو المنطلق، لأنه علم تتداخل معه أيضا مجموعة من العلوم والقطاعات المعرفية والمنهجية المختلفة.

التجديد المنهجي في علم أصول الفقه

لقد استقل علماء أصول الفقه بمنهجهم في العلم والمعرفة.واثبتوا، بنظر ابن تيمية، ما في طريقة المتمنطقة من العي واللكنة وقصور العقل وعجز النطق.

وخرجوا من معركتهم مع حملة الفكر اليوناني ببناء منهجي متماسك؛ فالإمام الشاطبي كان يسكنه الهم المنهجي في مشروعه المقاصدي، وانطلق من مقدمات علمية هي في الحقيقة مداخل منهجية تلخص الأطروحة الكبرى التي ينهض عليها فكره لإحداث تجديد حقيقي في المعرفة الإسلامية ومجال علم الأصول بالخصوص.

ويمكن أن يلمس الباحث البرهنة على هذا الوعي من خلال كتابي " الموافقات" و" الاعتصام"(25)؛ فمنذ المقدمات المنهجية الأولى تصادفنا مجموعة من المفاهيم الإجرائية ذات صلة بطرق الفهم والمعرفة وبمشكلة المنهج؛

كالفهم والشك والعقل والوهم والموافقات واليقين والدليل... بل إن الشاطبي سار في اتجاه تعميق الوعي بمفاهيم محورية في الخطاب الشرعي والأصولي، كالتكليف والمصالح والمفاسد والمقاصد، وهي المفاهيم المداخل التي يدور حولها مشروعه بكامله.

وسيتجاوز في أطروحته ما وقف عنده الشافعي في أبحاثه من الكشف عن صور الأوامر التكليفية ومراتب البيان إلى البحث المتعمق عن أسرار التكليف، ورصد مقاصد الشريعة الكبرى. (26)

وبذلك يتكشف الطموح العلمي التجديدي المنهجي في مشروع الإمام الشاطبي، وهو وضع نظرية لأصول التفكير المنهجي الإسلامي، من خلال وضع آليات للفهم، وشروط محددة للاستنباط أو الاستدلال.

فقد دقق الأصوليون، عموما، في فهم الكلام العربي، وزادوا في استقرائهم على الاستقراء اللغوي المعروف، وأغنوا علم أصول الفقه وطوره في إطار المنطق الإسلامي البحت الذي أسسوه. كما وفروا ما يلزم من أدوات وآليات إجرائية لدراسة النصوص الشرعية واستنباط أحكامها وكشف آفاقها في الهداية والتوجيه، كما انفتحوا على الواقع الخارجي بمستوييه الأصلي وما يتبعه من لواحق وإضافات لتحديد محل للحكم وتحقيق مناطه الذي يرتبط به. (27)

كما برزت قدرة الأصوليين المنهجية في دراسة الخطاب، وابتكار مقاربات منهجية دقيقية لسياقه وهو ما عبر عنه أبو الوليد الباجي ب" معقول الأصل"، وجعله على أربعة أقسام هي: لحن الخطاب، وفحواه، والاستدلال بالحصر، ومعنى الخطاب، ويعني به القياس. (28)

لقد انصب اهتمام الأصوليين منذ القديم على مناهج التفكير وأساليب البرهان والتدليل، لأن القضية في جوهرها مرتبطة بالتعامل مع الوحي من خلال طرق الفهم وآليات الاستنباط، وسد الطريق أمام أية نزعة فوضوية أو متسيبة ذاتية احتكارية لحقيقية دلالة النصوص، وضبط مستويات توظيفها على صعيد السلوك والحياة.

وعليه كان مجال أصول الفقه هو المجال المناسب للتجديد الفكري في المعرفة الإسلامية؛ فيه تتجلى باستمرار مجهودات التأسيس لنظرية العلم، وتبديد العماء المعرفي، وترسيخ الرؤية المنهجية المناسبة.

هذا ماجعل بعض المفكرين الإسلاميين اللامعين ينتبهون إلى أن علم أصول الفقه بقراءة إسلامية مستلهمة توجهات "منهجية القرآن المعرفية" يستطيع أن يقدم مؤشرات هامة على طريق معالجة "إشكالية المنهج" في الفكر الإسلامي المعاصر. (29)

ولما كان علم أصول الفقه ثمرة العقل الإسلامي الخالص، من غير إغفال تداخلاته الخارجية الجزئية مع بعض الحقول العلمية الأجنبية، فهو منهج البحث العلمي الدقيق والمنضبط، برأي باحث آخر، والذي لابد من الرجوع إلى قواعده ومبانيه ومناهجه قصد تجديدها في إطار أية عملية معرفية أو منهجية تأصيلية منضبطة ومتماسكة.

المبحث الثاني: التجديد في أصول الفقه

حاجتنا إلى النقد الذاتي

تظافرت الظروف الموضوعية وعوامل الزمن وانطفاء شعلة الإبداع الذاتي لتحكم طوق الجمود والتقليد على الأبحاث الأصولية، وتهدر المجهود المعرفي والمنهجي الذي أقيمت على قواعده المنظومة المعرفية الإسلامية؛ فانقطع التواصل، وتقطعت أوصال المعرفة الإسلامية، ووقعت المفارقة بين تقدم الإرادة الإسلامية وتخلف العلم، مما عرض حركة الإسلام اليوم إلى التيه والاغتراب والارتباك.

هذا مايستدعي القيام بعمل نقدي ذاتي جريئ لهذا المسار، نقد ذاتي هو في حد ذاته وعي بالذات، أو قل هو أرفع رتب الوعي(30)، لأن حيوية الإنسان الحضاري تتجه في مجراها إلى الباطن.

ومناخ النقد الذاتي دون خوف فكري يحرر من جو المشيخة والدروشة (جو الشيخ والمريد)، ويحرر ثورة عقلية وخصوبة فكرية، باعتبار أن جو الزوجية هو شرط الخصوبة، والخصوبة هي حصيلة تلاقح زوجين (31)؛ "ومن كل شئ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون". (32)

إن النقد الذاتي، بنظر الكاتب اللامع خالص جلبي، حركة ديناميكية حية ومتطورة ونامية، وأداة إنضاج للوعي. وهو أداة سترافق الإنسان حيث أعمل عقله سواء في رؤية برنامج تلفزيوني، أو في قراءة قصة، أو تناول بحث، أو فك علبة، أو أكل طبخة، أو ركوب سيارة؛ إنه أداة نفض مستمرة للوعي لكي يبقى نشطا وحيا. (33)

من هنا يصبح أمرا مبررا ومطلوبا التعرض بالنقد لفقه التقليد، وكشف تناقضاته، ورصد عجزه، ليكون مدخلا مشروعا لطرح قضية تجديد أصول الفقه، ومن ثمة تجديد آليات الاشتغال العقلي الإسلامي.

ذلك أن القيام بتكاليف الاجتهاد، وزرع بذور التجديد، في مثل ظروفنا، يتطلب جرأة في الرأي، وقوة في الصبر وتحمل ضغوط المحافظين، لاسيما وأن التجديد، برأي حسن الترابي، سيكون شاملا، وسيعمل على إحداث ثورة تصلح الأصول مع الفروع. (34)

حاجتنا إلى تجديد أصول الفقه

بسبب جنوح الحياة الدينية الإسلامية إلى الانحطاط والجمود، وفتور الدوافع التي تولد الفقه الحي والعمل في حياة المسلمين، تحول علم أصول الفقه، والذي كان في إحدى اللحظات التاريخية عاصم الذهن وهادي التفكير، إلى معلومات جافة لاتهدي إلى فقه ولاتولد فكرا.

وأصبح نظرا مجردا ومبالغا في التشعيب والتعقيد بغير طائل؛ يوضع في المنظومات لتحفظ على سبيل التلهي، أو يستعمل في المبارزات والمفاخرات بين طلبة العلوم الشرعية عموما.

كما زاد من جمود أصول الفقه هيمنة نزعة سيكولوجية عند المسلمين عموما، علماء وغيرهم، تميل إلى الضبط والتشديد، مما جعل هذه الأصول غير مساعدة للفقيه لإنتاج معارف واقعية تستوعب حركة الحياة المتطورة.

إن منهج التربية في التاريخ الإسلامي عرف إنحدارا حادا، وكان له الأثر السلبي المباشر على تطور المناهج العلمية، وعلى صياغة الشخصية المسلمة بشكل سلبي يبث روح المسكنة والذل والخضوع واعتزال الناس.

ودعم هذا التوجه تربية متورعة خجولة وغير مقدامة؛ ما فتئت تذكر بالخوف من الله واتقاء الشبهات والمحارم. (35)

وحولت هذه التربية السلبية مشروع الإسلام، معرفيا ومنهجيا، إلى خلاص أخروي وأناني، يعيش على الوهم، ويقفز على قيم الاستخلاف والتوكل والتسخير.

لهذه الأسباب التربوية التاريخية انعزل علماء أصول الفقه والفقهاء، وابتعدوا عن معالجة قضايا الحياة العامة، واكتفوا بمجالس العلم الخاصة.

فكانت الحياة تدور بعيدا عنهم؛ يأتيهم المستفتون من أصحاب الشؤون الفردية والخاصة في الحياة، يسألونهم عن قضايا شخصية في أغلب الأمر؛ فتضخم مجال فقه الفتاوى الفرعية، وضمر الإبداع الفقهي في القضايا النظرية والمنهجية، بل أصبحت المدونات الفردية عبارة عن قضايا أفراد طرحتها لهم ظروف الحياة من حيث هم أفراد. (36)

وانغمس العقل الفقهي في المسائل الشعائرية والشخصية كالزواج والطلاق والآداب، وهيمن التقليد، وتقلصت مساحة العقل ومبادرات التجديد.إن الإمام مالك، مثلا، لم يكن مسؤولا ولاموجودا في إحدى المؤسسات العامة، اجتماعية أو سياسية، مما جعله لم يستثمر مجموعة من القواعد وأصول المصالح التي وضعها فآلت إلى التعطيل الكامل.

ولم يستوعب إلى اليوم فقهاء المالكية البعد التاريخي في نشأة المذهب وتكوين بنيته المعرفية والمنهجية؛ فالمدينة، مثلا، حيث عاش الإمام مالك، أصبحت هامشا بعد تحول المركز إلى الشام، فظلت مناشط الحياة ضيقة وكذا الفقه، أي في غياب التفاعل الحيوي مع مشكلات يفترضها واقع حيوي، ليست المدينة نموذجه في تلك اللحظة ! وعليه تم تضييق مجال القياس، مثلا، وأصبح مجرد قوانين أقرب إلى المنطق الصوري الجاف.

ولم يعد هذا المدخل المنهجي، أي القياس، مجديا إلا لتبين أحكام النكاح، والآداب، والشعائر. وعجز الفقه، إذن، عن الإحاطة بمجالات الدين الواسعة، لعجز قواعده ومداخله.كما لم تجد إيديولوجيا الضبط في الأحكام بنظر الترابي، والتي اقتضاها، لغير سبب علمي ولامنهجي، حرص السلطة السياسية على الاستقرار والأمن، خشية الاضطراب والاختلاف. (37)

بل لقد حاولت هذه السلطة مصادرة الحرية الفقهية، زمن المنصور، لولا ذكاء الإمام مالك وتفطنه لذلك فاستطاع تلافيه.كما جعل فقهاء التقليد الموالين للسلطة السياسية العلة منضبطة، ووضعوا لها قيودا صارمة، وألغوا بذلك كثيرا من حكم الشارع! (38)

ورغم أن الإمام الشاطبي قد وعى جيدا أزمة المعرفة الفقهية والأصولية، وماتطرحه من مشكلة الفهم ومناهج التفكير والاستنباط، فإنه لم يفلت هو الآخر من قبضة التقليد واضطر في لحظات عدة إلى التسليم به، ودعا إلى الانقياد للعلماء، والصبر عليهم في مواطن الإشكال؛ فتارة يسمى التقليد تسليما، وتارة أخرى اقتداء، حتى إنه امتدح الإمام مالكا بمبالغته في هذا التقليد(39). لكنه في أماكن أخرى وجدناه يحذر من الإخلاد للتقليد والتعصب للمذهب. (40)

بل يعلن في خطبة كتابه عكس دعوته للتقليد ويحذر قارئه من ذلك قائلا:

" وفارق وهد التقليد راقيا إلى يفاع الاستبصار، وتمسك من هديك بهمة تتمكن بها من المدافعة و الاستنصار" (41)

كل هذا يجسد الحيرة التي يعيشها العالم الأصولي، وهو يقف أمام تراث فقهي يحبل بكل التناقضات، ويحتاج إلى ثورة جذرية، مع أخذ بعين الاعتبار بنيته التقليدية المتماسكة؛ لأن مجتمعنا الإسلامي، للأسف، تغشاه حالة نفسية مضادة لكل من يخرج عن التقليد، لما تراكم عند كل فرد من أفراد الجماعة، خصوصا المقهورين منهم، من حقد وعدوانية، نابعين من الإحباط والمهانة اللذين يتضمنهما الغبن المفروض عليهم. (42)

ورغم ذلك، لم يعد مقبولا التواصي بالمحافظة والاعتدال بل المطلوب بث المنبهات المنعشة والمنشطة في جسم الأمة وعقلها، وطرح التخوفات من التجديد والنقد.

العطاء التجديدي المعاصر في أصول الفقه: تقييم مجهود الترابي

لقد انتهينا إلى أن المفاهيم والأدوات التي نشأت في مجال أصول الفقه لم تعد تنتج إلا الفقه الثابت. وأصبحت عاجزة عن استيعاب كل مرافق التنظيم الاجتماعي في حياة المسلمين؛ فالعلة لم تعد تفسر بالحكمة والغاية، وإنما أصبحت هي الأمارة الظاهرة، والأمارة وصف ثابت غير قابل للتغيير مكانا وزمانا. (43)

هذا أدى إلى الاقتصاد في استعمال العقل واستثمار آليات التحليل وبناء النظريات؛ إذ أصيب الفقيه بالرهاب، وسيطر عليه الخوف من التقول على الله، فاكتفى بالتقيد بالدلالات اللفظية طبقا للقواعد المحددة في أصول الفقه، لأنه يرى ذلك أسلم له !

وحتى إن توسع في استعمال القياس باعتباره وسيلة عقلية ومنطقية، فمن غير تدقيق في الصلة التي يقوم عليها ومن غير حصره في الأحكام المقررة بالنص، مما جعله يطال أحكاما اجتهادية فولد تطبيقات شاذة في قضايا حيوية وخطيرة في حياة المسلمين؛ كتعيين رئيس الدولة، وصلاحياته بعد التعيين، وقضايا الشورى. (44)

لقد كان استعمال القياس في تحديد صلاحيات رئيس الدولة الإسلامية، مثلا، كارثة حقيقية حالت دون نمو الفكر الدستوري والسياسي الإسلاميين. (45)

كما أن مساحات أخرى في حياة المسلمين انسحب منها الفقه ليكتسحها النموذج الغربي بإيجابياته وسلبياته، لأن حفظة تراث الدين التقليدي، بنظر الترابي، ظلوا ساكنين بحكم الأوضاع الواقعة، ما انشغلوا بعالم السياسة ولو بدا فيه الفسوق عن الشرع، إلا حينما يدعوهم أولياء الأمر أحيانا ليباركوا مقاعدهم ويزينوا فعالهم ترويجا لأمرهم بين عوام المسلمين الذين يتبعون العلماء والشيوخ التقليديين. (46)

وعليه لما طرحت بين المسلمين مسألة الفصل بين الدين وشأن الدولة وجدوا أن رصيد الفقه الموروث لم يجد هديا حاضرا وكافيا لإسلام السياسة لله.وأما أصول الفقه فقد رويت بمنهج جامد ميت لايلد اجتهادا مسعفا فورا يعمر ماخرب ويتم مانقص في مجال السياسة.

بل كان لغو السياسة الحديثة في المجتمع الإسلامي بغالبه لفظا غريبا وترجمة ساذجة لمعاني المذاهب والتجارب الوضعية اللادينية يغيب عنها مصطلح الفقه الشرعي. (47)

وإنه بقدر ما أسهم علم أصول الفقه في بناء الشوكة المعرفية والمنهجية للأمة، بقدر ما أدى جموده إلى إحداث ثقوب واسعة في صرح الأمة المعرفي، فجاءت إذن المشاريع التجديدية في أصول الفقه تتوالى.

وقد لخص الدكتور علي جمعة في كتابه "قضية تجديد أصول الفقه" مختلف دعاوى التجديد الأصولي خلال القرن العشرين؛ منذ تأليف الشيخ محمد الخضري كتاب "أصول الفقه" (طبعـه عام 1911م /1329 هـ).

انتقد فيه التدريس بطريقة المتون والحواشي والتي تجعل التلميذ وشيخه سواء لافرق بينهما إلا من كثرة الفروع في رأس هذا عن ذاك. فتجديد الخضري، إذن، هو تجديد الأسلوب وطريقة العرض فقط. (48)

أما دعوة الدكتور محمد عبد اللطيف فرفور في وجيزه، فقد عبرت عن استحالة تقديم الجديد والاستدراك على فحول الأقدمين، ولخص مهمته في التبسيط والتحقيق للمسائل العلمية، والرجوع في النقول إلى أمهات المصادر. (49)

وعرض علي جمعة لدعوة حسن الترابي التجديدية، واختزلها في أن علم أصول الفقه التقليدي لما لم يعد مناسبا للوفاء بحاجتنا المعاصرة وجب تغييره.

ويعلق علي جمعة على هذه الدعوة بقوله إنها عن أصول الفقه وليست في أصول الفقه؛ ذلك أن الترابي، بنظر جمعة، لم يظهر المساحة التي ينبغي تغييرها من الأصول؛ ماهي المسائل التي يجب تركها، وماهو أثر ذلك كله في الفقه؟(50) والحقيقة أن علي جمعة اختزل دعوة الترابي بشكل مخل.

وتعليقه منذ بدايته ينبئ بأنه غير متحمس لهذه الدعوة.فدعوة الترابي قاربت الرؤية التصورية والمنهجية المؤطرة لعملية التجديد.

كما لم تسع، وليس من اختصاصها، إلى وضع معالم خطة تجديدية بدقة، وتحديد مسائلها ومجالاتها، فذلك تقوم به خلايا بحث وورشات معرفية ومنهجية يشارك فيها متخصصون من قطاعات معرفية متنوعة.

وربما تضايق علي جمعة من ذلك النفس الاستفزازي والحاد الذي يعلق به الترابي على الفقه التقليدي؛ إذ يعتبره " فقه الأنابيش".كما أنه كشف عجزه عن تلبية حاجات الدعوة وتطلع المخاطبين بها. (51)

كما يلح الترابي على ربط علم أصول الفقه القديم ببيئته الثقافية وواقعه المادي والحضري وإطاره الاجتماعي والسياسي.(52)كما أن الترابي يدعو إلى ثورة جوهرية في مفاهيم الدين؛ كالتوحيد(53)، والعلم والاجتهاد، والشورى. (54)

ويدعو إلى الانفتاح على الثقافة الإنسانية والمجهود البشري(55). بل إن تجديد الترابي ينحو في إحدى لحظاته منحى الجذرية واقتلاع القديم وتعزيز معاني الحرية الفردية، وتركيز الوعي بالتكليف الديني لكل مسلم أن يكثف مبادراته ويكسب كسبه الخاص ويشارك به في حركة الإسلام. (56)

ويكاد هذا التصور التجديدي لحسن الترابي يتطابق في رؤيته وبعض مفاهيمه مع دعوة طه جابر العلواني الذي دعا بدوره إلى تكسير القيود لينطلق الناس مرة أخرى. (57)

ولكن طه جابر العلواني يختلف عن الترابي في كون الأخير يخاطب الفرد المسلم بالاجتهاد كيفما كان مستواه العلمي وقدرته الفكرية؛ فالتجديد عند الترابي يعني المسلم المكلف، وأما طه فالتجديد عنده يقوم به علماء في المناهج، وآخرون في أصول الفقه؛ أي علماء متخصصون على أعلى درجات التخصص في هذه العلوم ومناهجها، ليكمل كل منهج الآخر. (58)

وهذه مفارقة تاريخية بين المفكر الذي يقود الجماهير مثل الترابي، والمفكر الذي يخاطب النخبة مثل طه، وهي إشكالية لا يمكن تجاوزها إلا بوضع رؤية متكاملة ومتوازنة بين الفكر والحركة، وكذا بين الجماهير والعلماء، وبين مقتضيات البحث العلمي وإكراهات النضال السياسي.

وانتقد طه جابر، مثل الترابي، تقييد الأصوليين للاجتهاد، وجعله مثل الإجماع؛ حتى إنه يستحيل وجود مجتهد بالطريقة التي وضعوها. (59)

وألح على اعتبار عنصري الوحي والوجود مصدرين للمعرفة(60)، في إطار رؤية فلسفية عميقة تعتمد آلية الجمع بين القراءتين كما هو مبسوط في مشروع إسلامية المعرفة والذي يعتبرطه جابر العلواني أحد رواده.

وعرض علي جمعة دعوة جمال الدين عطية لتجديد أصول الفقه. واعتبرها تجديدا في التقسيمات، مما يتيح للفقيه التوسع في المسألة أو في الموضوع محل البحث. وهذه التقسيمات سيتولد منها فهم أعمق واستعمال لأداة الأصول أفضل، مما يؤدي في النهاية إلى فقه متجدد خادم للموضوعات المثارة في عصرنا الحاضر. (61)

كما أن مجهود عطية التجديدي يدعو إلى الاستفادة من مناهج العلوم الاجتماعية في المباحث الأصولية(62). أما دعوة محمد سليم العوا إلى تجديد أصول الفقه، فلا تخرج عند جمعة عن الانتقاء في علم أصول الفقه ما يساعد على تبين مراد الله، مع إعادة النظر في التطبيقات الأصولية. (63)

ورغم أن علي جمعة أبدى إعجابا بدعوة طه جابر العلواني وجمال الدين عطية، واعتبرها خطوة أخرى أبعد وأعمق بإدخال المناهج في السوق الفكرية، وأبدى تبرما واضحا من دعوة حسن الترابي، وعمل على التقليل من أهمية دعوة العوا، فإنه كان يعبر، في العمق، عن العقل الأصولي المحافظ والمتوجس من التجديد.

فقد أبدى جمعة تشبثا مفزعا وغريبا بالتراث الأصولي، ورسم حدودا ضيقة وصارمة لعملية التجديد لا ينبغي أن تتجاوز؛ كالتعاريف والحدود والمفاهيم، لأنها، بنظره، ضابطة ضبطا شديدا لهيكل العلم ومتسقة مع بعضها من أوله إلى أخره، مما يجعل تغييرها أمر بالغ الصعوبة إن لم يكن مستحيلا. (64)

وعليه، فلا ينبغي لأية عملية تجديدية في أصول الفقه، وفق هذا المنظور، أن تتجاوز ترتيب مسائل أصول الفقه الموروث، ووضع الفهارس الفنية ليتيسر التعامل مع المادة الأصولية، وتحقيق النصوص، وتخريج الفروع على الأصول، وجعل المقاصد الشرعية في خدمة هذه القيود الصارمة. (65)

وبهذا يتم إبعاد العقل وقتل الإمكانات المنهجية والمعرفية الجديدة لبناء صرح معرفي حديث ونافع.وتبقى القلة القليلة والنادرة من المفكرين هي التي استطاعت مقاربة قضية التجديد في أصول الفقه من وجهة معرفية ومنهجية متكاملة في إطار مشروع الأمة، وحاجاتها الحضارية، وتحدياتها المعاصرة.

خاتمــة

إن تجديد أصول الفقه هو تجديد لعقل الأمة وبث الحيوية فيها؛ وعليه فإن خلاصة المجهودات التجديدية في أصول الفقه تنتهي بنا إلى القول بأن ما طرحه حسن الترابي يصلح أن يكون أرضية مؤسسة لانطلاقة حقيقية في مجال تجديد أصول الفقه.

فحسن الترابي في رسالته الموجزة، وفي مقاله "منهجية التشريع الإسلامي"، وفي كتب أخرى وأبحاث، دعا إلى ثورة اجتهادية تؤسس للمعرفة والمنهج، وقدم نقدا قاسيا للقديم. ووضع مقاربة لمفاهيم ضابطة لمشروعه هي:

التوحيد والشمولية في مدى الأحكام وصورها، والشمول في المصادر الوضعية، والشمول في مسائل النظر للأحكام، والوحدة والتوازن بين النظام والحرية. كما أنه أعاد النظر في مجموعة من الآليات الاستدلالية القديمة، كالقياس، سواء القياس الإجمالي الأوسع أو قياس المصالح المرسلة، والاستصحاب الضيق والاستصحاب الواسع. (66)

وخلص إلى أن النظرة المتجددة في علم أصول الفقه قادرة على تأسيس منهجية علمية شاملة لكل علوم التدين، شرعية منقولة أو طبيعية معقولة بما يمكن تكييف تلك المنهجية لأغراض العلوم المختلفة. (67)

هذا المجهود الذي قدمه الترابي والذي يتعمق من خلال "نظريته التوحيدية التجديدية" (68) يلتقي مع مجهود طه جابر العلواني والذي ينظر إلى تجديد أصول الفقه من داخل إطار فلسفي عميق هو " منهجية القرآن المعرفية".

فهذا المجهود يدعو إلى إبداع حقيقي في مجال نظرية المعرفة لعلم أصول الفقه.فإذا كان الترابي قد قدم في رسالته الأصولية تحليلا مركزا لبعض جزئيات الاستدلال في علم الأصول، فإن طه جابر حاول أن يؤسس الكليات أولا وأن يرسم إطارا عاما لعملية التجديد.

هذه العملية لابد أن تستثمر كل الجهود النقدية والتعريف بها، مع الحرص على استرجاع الذات الأصلية وتطوير ملكاتها واستنهاض إمكاناتها الباطنية من غير نكوص ولا ارتداد.

مراجـــع البحـث

  1. "ابن حزم ومنطق أرسطو"، سالم يفوت، أعمال ندوة الفكر العربي والثقافة اليونانية، بمناسبة مرور ألف سنة على ميلاد ابن سينا وثلاثة وعشرون قرنا على وفاة أرسطو، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة ندوات ومناظرات، رقم 5، الطبعة الأولى، 1450هـ/1985م.
  2. أصول الفقه الإسلامي، منهج بحث ومعرفة، طه جابر العلواني، الدار العالمية للكتاب الإسلامي والمعهد العالمي للفكر الإسلامي، سلسلة أبحاث علمية1، الطبعة الثانية، 1416هـ/1995م.
  3. الاعتصام، الإمام أبو إسحاق الشاطبي، ضبطه وصححه الأستاذ أحمد عبد الشافي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 1411هـ/1991م.
  4. تجديد الفكر الإسلامي، حسن الترابي، دار القرافي للنشر والتوزيع، المغرب، الطبعة الأولى، دون تاريخ.
  5. تجديد الفكر الإسلامي، محسن عبد الحميد، دار الصحوة للنشر، دون طبعة، دون تاريخ.
  6. تجديد المنهج في تقويم التراث، طه عبد الرحمن، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1994م.
  7. التفسير التوحيدي، الجزء الأول: من سورة الفاتحة إلى سورة التوبة، حسن الترابي، دار الساقي، الطبعة الأولى، بيروت، 2004م.
  8. التخلف الاجتماعي، سيكولوجية الإنسان المقهور، د. مصطفى حجازي، معهد الإنماء العربي، بيروت، الطبعة السادسة، دون تاريخ.
  9. الحريات العامة في الدولة الإسلامية، الشيخ راشد الغنوشي، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بيـروت، آب/ أغسطس 1993م.
  10. حوارات من أجل المستقبل، طه عبد الرحمن، كتاب الجيب، منشورات الزمن، الكتاب 13، الرباط، أبريل 2000.
  11. الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام، قراءة في نشأة علم الأصول ومقاصد التشريع، عبد المجيد الصغير، دار المنتخب العربي للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1415هـ/1994م.
  12. في النقد الذاتي، ضرورة النقد الذاتي للحركة الإسلامية، خالص جلبي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة، 1405هـ1985م.
  13. قضية تجديد أصول الفقه، د. علي جمعة، دار الهداية، 1414هـ/1993م. دون طبعة.
  14. مدخل إلى أصول الفقه المالكي، د. محمد المختار ولد اباه، الدار العربية للكتاب، 1987م، دون طبعة.
  15. مقدمة ابن خلدون، دار القلم، دون طبعة، دون تاريخ.
  16. مناهج البحث عند مفكري الإسلام، واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي، الدكتور علي سامي النشار، دار المعارف، الطبعة الرابعة،1978م.
  17. المنهج الأصولي في فقه الخطاب، د. ادريس حمادي، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1998م.
  18. "المنهج التقليدي في أصول الفقه ومعوقات التجديد"، الشيخ محمد ابراهيم الجناتي، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العدد الثالث عشر، 1421هـ/2000م.
  19. "منهجية التشريع الإسلامي"، د. حسن الترابي، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العدد السابع، 1420هـ/1999م.
  20. الموافقات في أصول الشريعة، للإمام أبي إسحاق الشاطبي، شرحه وخرج أحاديثه فضيلة الشيخ عبد الله دراز، ووضع تراجمه الأستاذ محمد عبد الله دراز، وخرج آياته وفهرس موضوعاته عبد السلام عبد الشافي محمد، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان ، دون طبعة، دون تاريخ.
  21. نحو منهجية معرفية قرآنية، محاولات في بيان قواعد المنهج التوحيدي للمعرفة، طه جابر العلواني دار الهادي، الطبعة الأولى، بيروت، 1425هـ/ 2004م.
  22. نقد العقل العربي 1- تكوين العقل العربي، محمد عابد الجابري، المركز الثقافي العربي، الطبعة الرابعة، أيلول 1991م.
  23. نقد العقل العربي، 2- بنية العقل العربي، د محمد عابد الجابري، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، يناير 1986م.
  24. نقص المنطق، تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية، حقق الأصل المخطوط وصححه الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة والشيخ سليمان بن عبد الرحمن الصنيع، وصححه محمد حامد الفقي، مكتبة السنة المحمدية، دون طبعة، دون تاريخ.
  25. وجهة نظر، الفكر الفقهي ومنطلقات أصول الفقه، الجزء الثالث، أحمد الخمليشي، دار نشر المعرفة، الرباط، الطبعة الأولى، 1421هـ/ 2000م.

............

  • قدم هذا البحث إلى ندوة "المنهج النقدي في القرآن الكريم والمراجعات الفكرية للتراث الإسلامي" جامعة السلطان مولاي سليمان، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بني ملال المغرب 24-25-26 يونيو 2008.
  1. ينظر، تجديد الفكر الإسلامي، محسن عبد الحميد، 118-119.
  2. تكوين العقل العربي، محمد عابد الجابري: 96.
  3. نفسه: 100.
  4. كتاب المعتمد في أصول الفقه، أبو الحسن محمد بن على الطيب البصري: 13.
  5. مدخل إلى أصول الفقه المالكي، ولد باه: 16-17.
  6. مناهج البحث عند مفكري الإسلام، علي سامي النشار: 66، وينظر أيضا، مقدمة ابن خلدون: 455.
  7. نفسه: 68.
  8. نفسه: 71
  9. مناهج البحث عند مفكري الإسلام: 73.
  10. ينظر: الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية، عبد المجيد الصغير: 612.
  11. مناهج البحث عند مفكري الإسلام: 71.
  12. ينظر، تجديد المنهج في تقويم التراث، طه عبد الرحمن: 318.
  13. كما أثبت طه عبد الرحمن أن اهتمام بعض المثقفين العرب بابن رشد اليوم هو برغبة بث العلمانية في نفوس المسلمين والعرب؛ لأن "الرشدية اللاتينية" عرفت بخروجها عن الفلسفة اللاهوتية للكنيسة في القرن الثالث عشر. كما أن الروح الرشدية" اللاتينية"، ستتطور لتصبح فصلا تاما بين الدين والفلسفة، مما انتشر بين أصحاب عصر التنوير وانتقل إلى المحدثين. فلا عجب، بنظر طه عبد الرحمن، أن ينصب ابن رشد إماما للعقلانيين والعلمانيين والحداثيين، وتكون بذلك إرادة الانتساب إلى ابن رشد إرادة الانتساب إلى العلمانية في أطوارها المعروفة. حوارات من أجل المستقبل، طه عبد الرحمن" 88.
  14. المستصفى في أصول الفقه، ابو حامد الغزالي : 10.
  15. نقض المنطق ابن تيمية: 157.
  16. نقد المنطق: 169 .
  17. نفسه: 171.
  18. مناهج البحث عند مفكري الإسلام : 179
  19. ينظر: "ابن حزم ومنطق أرسطو" سالم يفوت: 298.
  20. تجديد المنهج في تقويم التراث : 380.
  21. الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام : 27-28.
  22. تجديد الفكر الإسلامي، محسن عبد الحميد : 133
  23. تجديد الفكر الإسلامي، حسن الترابي : 36.
  24. نفسه: 41.
  25. ينظر : الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية: 491.
  26. نفسه : 488.
  27. ينظر، المنهج الأصولي في فقه الخطاب : 161.
  28. مدخل إلى أصول الفقه المالكي، المختار ولد باه: 50.
  29. أصول الفقه، منهج بحث ومعرفة، طه جابر العلواني: 8-9.
  30. في النقد الذاتي، ضرورة النقد الذاتي للحركة الإسلامية، خالص جلبي: 38.
  31. في النقد الذاتي، ضرورة النقد الذاتي للحركة الإسلامية.
  32. الذاريات: 49.
  33. نفسه: 164.
  34. تجديد أصول الفقه، حسن الترابي: 50.
  35. تجديد الفكر الإسلامي، حسن الترابي: 50.
  36. نفسه: 38.
  37. تجديد الفكر الإسلامي، حسن الترابي: 41.
  38. قضية تجديد أصول الفقه، علي جمعة: 36.
  39. الموافقات 1: 66، 67، 68، 69.
  40. نفسه 1: 61.
  41. نفسه 1: 17.
  42. التخلف الاجتماعي، سيكولوجية الإنسان المقهور، مصطفى حجازي: 110.
  43. وجهة نظر، الفكر الفقهي ومنطلقات أصول الفقه، الجزء الثالث، أحمد الخمليشي: 10.
  44. نفسه: 50.
  45. ينظر: الحريات العامة في الدولة الإسلامية، الشيخ راشد الغنوشي: 108-109.
  46. ينظر، السياسة والحكم، النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع، حسن الترابي: 45.
  47. نفسه: 47.
  48. قضية تجديد أصول الفقه، علي جمعة: 4.
  49. نفسه: 5.
  50. نفسه: 19.
  51. نفسه: 20.
  52. تجديد الفكر الإسلامي، حسن الترابي : 34-35.
  53. منهجية التشريع الإسلامي، حسن الترابي: 173.
  54. نفسه: 178.
  55. نفسه: 179.
  56. نفسه: 190.
  57. قضية تجديد أصول الفقه، علي جمعة: 37 ينظر أيضا: نحو منهجية معرفية قرآنية، محاولات في بيان قواعد المنهج التوحيدي للمعرفة، طه جابر العلواني: 399-447.
  58. نفسه: 40 ينظر أيضا: نحو منهجية معرفية قرآنية، طه جابر العلواني: 457.
  59. نفسه: 37.
  60. نفسه: 34.
  61. نفسه : 22-23.
  62. نفسه: 31.
  63. نفسه: 21.
  64. نفسه: 48.
  65. نفسه: 52-35.
  66. تجديد الفكر الإسلامي، حسن الترابي : 42.42،50.
  67. منهجية التشريع الإسلامي، حسن الترابي : 191.
  68. ينظر: التفسير التوحيدي، الجزء الأول، من سورة الفاتحة إلى سورة التوبة، حسن الترابي: 9.