تاريخ دستور مصر
مركز الدراسات التاريخية
محتويات
مقدمه
القانون الدستوري كما يعرفه الفقه الدستوري
- بأنه القانون الأساسي الذي يبين شكل الدولة ونظام الحكم فيها وينظم السلطات العامة من حيث تكوينها واختصاصاتها وعلاقاتها بعضها ببعض، ويقرر حقوق الأفراد وحرياتهم ويضع الضمانات الأساسية لهذه الحقوق والحريات.
وباستقراء التطور الدستوري للبلاد نجده قد مر بمراحل متعددة كافح فيها الشعب المصري كفاحا مريرا من أجل الدستور وصمد فيها أمام سلطات الاحتلال الأجنبي التي حاربت وجوده بشتى الوسائل والطرق.
فلقد ابتليت مصر بالاحتلال الفرنسي وذلك بعد هجوم نابليون بونابرت على مصر عام 1798م وحاول أن يفرض الهوية الفرنسية لكنه اصطدم ببسالة الشعب المصري التي أثقلت كاهله بالمقاومة، حتى كان الخلاص منه عام 1801م.
تولى محمد علي الحكم في عام 1805م حتى كان عام 1837م حينما عرفت مصر أول نص ذي طابع شبه دستوري في العصر الحديث.
عندما أصدر محمد علي قانونا أساسيا عرف باسم السياستنامه، أنشئ بمقتضاه بعض الدواوين الجديدة، ونظم عملها واختصاصاتها، بيد أن (السياستنامه)، وإن مثل انعكاسا لشغف محمد علي بمجاراة التطورات السياسية والمؤسسية في أوروبا، لم يرق إلى أن يكون دستورا بالمعنى الحديث الذي يفترض قيام دولة مؤسسات لا تتمركز حول شخص الحاكم وإنما ترتكز لسيادة القانون ومساواة كل المواطنين أمامه والتوازن والفصل بين السلطات.
تضمن السياستنامه بعض مظاهر التشابه المحدودة مع النصوص الدستورية المعاصرة، مما دعا بعض الباحثين إلى اعتبار أن هذا القانون "كان بمثابة ثورة في حياة مصر لذلك الوقت، حيث بدأت أمورها تدار بصورة أقرب إلى التنظيم من العهود السابقة"، فقد أسس بحق لإقامة هياكل حكومية مركبة ومتطورة تؤدي وظائفها التنفيذية بكفاءة وتحت الرقابة، وهو الهدف الذي حدده القانون لنفسه، لكن دون مراعاة تذكر لرأي أو إرادة الشعب، ودون فصل بين السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية.
تحت وطأة الضغط الشعبي في عهد إسماعيل الذي اتسم بالجمود صدرت لائحة تأسيس مجلس شورى النواب ولائحة حدود ونظام المجلس وهو أول نص منظم لمجلس نيابي تمثيلي في مصر الحديثة في 22 أكتوبر تشرين الأول 1866.
كانت اللائحة منحة من الخديوي لإنشاء مجلس نيابي تمثل فيه بعض طوائف الشعب المحدودة جغرافيا مع قبول الخديوي السماع لآراء ممثلي الشعب في بعض الشؤون التي تحددها حكومته مسبقا، دون التزام على الخديوي أو حكومته بالأخذ بتلك الآراء.
ولكن يعد هذا الوضع تطورا إذا ما قورن بعهد محمد علي الذي لم يكن إشراك الشعب أو أي قوة سياسية في اتخاذ القرار أمرا من المتصور حدوثه
الحركة الشعبية التي صاحبت حركة ضباط الجيش بقيادة عرابي أجبرت الخديوي على تقديم العديد من التنازلات والسماح بوثيقة دستورية صدرت "بإرادة الشعب وإرادة الخديوي".
بدراسة مواد لائحة1882 التي لم يمهلها المحتل الإنجليزي طويلا فوأدها في مهدها، نرى أن هذه اللائحة كانت تؤسس لديمقراطية نيابية بدا فيها أول مظاهر الفصل بين السلطات في التاريخ المصري، فأكدت على استقلال النواب وحصانتهم من الملاحقة القضائية، ونصت على أنهم "مطلقو الحرية في إجراءات وظائفهم، وليسوا مرتبطين بأوامر أو تعليمات تصدر لهم تخل باستقلال آرائهم، ولا بوعد أو وعيد يحصل إليهم".
وبدأت مع الاحتلال الإنجليزي لمصر حقبة جديدة علت فيها إرادة المحتل ومن تبعه من الساسة، خاصة الخديوي وأتباعه، واتسمت بتدمير كل منجزات الشعب المصري، وعلى رأسها لائحة عام 1882 التي ألغتها سلطات الاحتلال، ووضعت بدلا منها ما سمي بالقانون النظامي 1883.
وكان هذا التطور مبنيا في الأساس على عدم رضا الإنجليز عن التحرر والاستقلال اللذين نالهما الشعب المصري نتيجة لثورة عرابي والاتجاه بخطوات ثابتة نحو الحياة النيابية السليمة، مما كان بإمكانه أن يضر بمطامع الإنجليز الاستعمارية في مصر والمنطقة.
يقول أحمد زكي (بدأ الاحتلال البريطاني لمصر بأخذ عدة قرارات تمكن بريطانيا من السيطرة التامة على مصر.
تمثلت هذه القرارات فى حل الجيش المصري وتكوين جيش صغير بقيادة بريطانية خالصة، و كذلك حل مجلس النواب و تشكيل مجالس صورية بدلا منه، و استتبع ذلك إيقاف العمل بدستور 1882، و استبدل الدستور بما عُرِف بالقانون الأساسي، الذي وضعه اللورد دافرين.
و قد رأت الحكومة البريطانية عدم إغضاب السلطان العثماني، عبد الحميد الثاني، فتركوا التبعية الصورية لمصر فى كنف الدولة العثمانية بينما وجود قوات الاحتلال يجعل السيادة الفعلية لبريطانيا… و فى عام 1883م تم تعيين أول معتمد بريطاني فى مصر و هو اللورد كرومر، الذي بدا فى استخدام سياسة اليد الحديدية فى حكم البلاد مما أدى إلى تصاعد الاحتجاجات، و بدأت قوى الحركة الوطنية فى مناوءة الاحتلال…
استمر هذا التصاعد خلال حكم الخديوي توفيق حتى عام 1892م ثم تولى بعده الخديوى عباس حلمى الثانى حتى عام 1914م.. يلاحظ أن تزايد المواجهات بين اللورد كرومر و قوى الحركة الوطنية قد أدى الى رحيله عن مصر فى عام 1907م و عُيّن بدلا منه اللورد جورست الذي استمر حتى عام 1911م ثم تبعه أشهر معتمد بريطاني فى مصر، بعد اللورد كرومر، و هو اللورد كتشنر صاحب القبضة الحديدية و الذى لُقِّب بالمندوب السامى)أ هـ.
اختفت من القانون النظامي تماما أفكار الفصل بين السلطات واختصاص المجلس النيابي بالتشريع وانتخابه عن طريق الاقتراع السري المباشر، وقد حقق الاحتلال بذلك ما أراد من إعادة تركيز كل السلطات في أيدي السلطة التنفيذية، وبشكل غير مباشر في أيدي سلطات الاحتلال.
وإزاء الضغط الشعبي المتزايد وتطور الأوضاع الدولية قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى، وافقت السلطات البريطانية على تعديلات في القانون النظامي وفقا للأمر العالي بالقانون رقم 22، مصدرة بذلك القانون النظامي للعام 1913.
ورغم التوسع في بعض سلطات الجمعية التشريعية، احتفظ القانون النظامي بالحق الأصيل في التشريع للخديوي ووزرائه، كما منح القانون النظامي للعام 1913 الجمعية التشريعية سلطة "إبداء الرأي" في التشريعات، دون أن يلزم الخديوي وحكومته بالأخذ بهذا الرأي(1).
دستور 1923
يعد دستور 1923 من إنجازات ثورة 1919 التي ضحى فيها الشعب المصري بالدماء والأرواح ضد فساد واستبداد الملك والقصر وتواطئهما ضد مصلحة واستقلال الشعب المصري.
شكل الملك فؤاد لجنة تتكون من 30 عضوا لصياغة دستور 1923 أملا بأن تأتي بدستور على هواه لا يضمن السيادة الشعبية ويمكنه من السيطرة على الثورة، لكن الرقابة الشعبية الشديدة على أعمال هذه اللجنة حالت دون ذلك.
ورغم توسع دستور 1923 في تحديد سلطات الملك قياسا على المتبع في الدول الملكية البرلمانية المعاصرة، تضمن الدستور تقييدا كبيرا لتلك السلطات قياسا على السلطات المطلقة التي كان يتمتع بها خديوي مصر فيما مضى على الأقل من الناحية الدستورية، وإن كانت تلك السلطات تعطل في أحيان كثيرة بسبب سيطرة قوة الاحتلال على الأمور بقوة الأمر الواقع.
لكن أخطر تلك السلطات على الإطلاق هو حق حل مجلس النواب الذي كفلته المادة 38، وقد أورد الدستور هذا الحق خاليا من أي قيد أو شرط أو حد أقصى لمرات الحل، باستثناء عدم جواز حل مجلس جديد لنفس السبب الذي حل الملك من أجله سابقه، وهو ما فتح الباب أمام الملك لحل البرلمان كلما اقتضت مصلحته السياسية ذلك.
دستور 1930
تعددت صور انتهاك الملك وأحزاب الأقلية لدستور 1923، وبلغ ذلك مداه عام 1930 عندما كلف فؤاد الأول ملك مصر إسماعيل صدقي بتشكيل حكومة من الأحرار الدستوريين رغم حصول الوفد على الأغلبية الساحقة في البرلمان، وانتهى الأمر بإلغاء دستور 1923 وحل البرلمان وإعلان دستور جديد، وهو المعروف بدستور 1930 أو دستور صدقي باشا.
هذا الدستور سحب العديد من الاختصاصات من مجلس النواب، وأهدر الصفة النيابية لمجلس الشيوخ، ورفع نسبة الأعضاء المعينين فيه إلى ما فوق الأغلبية، وقلص من حق المواطن المصري في اختيار ممثليه مباشرة، فجعل الانتخاب على درجتين، واشترط في ناخبي الدرجة الثانية نصابا ماليا، مهدرا بذلك مبدأ المساواة بين المواطنين.
اتفق حزبا الوفد والأحرار الدستوريين على عدم الاعتراف بدستور 1930 ومقاطعة الانتخابات التي تجري في ظله، واشتد الاحتجاج على المستويين الشعبي والسياسي، وبلغ ذروته في العام 1934 عندما رهن محمد توفيق نسيم موافقته على تشكيل حكومة جديدة بإعادة العمل بدستور 1923، وهو ما حدث بموجب الأمر الملكي رقم 118 في 12 ديسمبر 1935.
دساتير الحقبة الناصرية
رغم تأكيد البيان الأول للثورة في 23 يوليو تموز 1952 على أن الثوار سيراعون الالتزام بأحكام الدستور فإن إعلانا أصدرته الثورة ألغى دستور 1923، وتلا إلغاء الدستور حل جميع الأحزاب السياسية ومصادرة أموالها وإعلان فترة انتقالية لمدة ثلاث سنوات بغرض "إقامة حكم ديمقراطي دستوري وسليم".
وصدر إعلان دستوري في 10 ديسمبر كانون الأول 1952 يقرر تشكيل "لجنة تضع مشروع دستور جديد، يقره الشعب، ويكون منزها من عيوب الدستور الزائل محققا لآمال الأمة في حكم نيابي نظيف سليم".
وقدمت اللجنة مشروع دستور 1954 الذي لم يعتدّ به مجلس قيادة الثورة.
والأرجح عند مقارنة نصوص مشروع دستور 1954 بدستور عام 1956 الذي صدر لاحقا هو أن مجلس قيادة الثورة لم يجد أن مشروع الدستور الذي أعدته اللجنة جاء مواكبا لرغبة الضباط الثوار في الانفراد بالحكم.
عندما صدر الدستور المؤقت للجمهورية العربية المتحدة التي ضمت مصر وسوريا في 1958 بدا واضحا للغاية أن هذه الوثيقة ما هي إلا تعبير منفرد عن إرادة الحكام وانعكاس لعودة واستقرار الحكم الفردي في الدول العربية.
لم يتضمن الدستور المؤقت الديباجات المعتادة، وإنما اشتمل على العديد من العناصر الأيديولوجية الاشتراكية التي ميزت نظم الحكم العربية في تلك المرحلة.
وفي العام 1964 وبعد انهيار الوحدة بين مصر وسوريا انتقلت مصر من دستور مؤقت إلى دستور مؤقت جديد، مع وعد هذه المرة بدستور دائم يطرحه مجلس الأمة على الشعب، وهو ما لم يتحقق حتى 1971.
وجاءت اختلافات دستور 1964 عن دستور 1958 طفيفة، ولعل أهمها منح مجلس الأمة حق سحب الثقة من الحكومة كاملة، وهو واقعا غير متصور مع سيطرة التنظيم الحزبي الأوحد على المجلس، وسيطرة السلطة التنفيذية شبه الكاملة عليه.
دستور 1971 وتعديلاته
حتى بداية عصر السادات استمر وضع الدستور على ما هو عليه وثيقة ينفرد بإصدارها الحاكم ويسعى من خلالها للتوصل إلى وضع سياسي يسمح له بالتحكم الكامل في السلطة في إطار من الشرعية الشكلية وتطويع الجماعات السياسية، انعكس ذلك على دستور 1971 الذي أصدره السادات طلبا لشرعية جديدة، وأوضحت التعديلات التي تلته ابتعاد النخبة الحاكمة عن المبادئ الاشتراكية ومحاولة التقرب من التيارات الإسلامية.
وقد أعد دستور 1971 لجنة مكونة من 80 فردا عينها مجلس الشعب من بين أعضائه وغيرهم من ذوي الخبرة، وذلك بناء على طلب قدمه للمجلس أنور السادات بصفته رئيسا للجمهورية.
وتعد التعديلات المتتالية لدستور 1971 منذ إصداره حتى سقوطه نتيجة لثورة 25 يناير 2011 خير دليل على استخدام الحكام في تلك الفترة للدستور غطاء لهم يساعدهم على الانفراد بكل السلطات.
فبعد تعديل العام 1980 مناورة سياسية عمد بها السادات إلى تمرير النصوص الدستورية التي تضمن بقاءه في الحكم وترسيخ رؤيته الاقتصادية، مقابل توسيع نطاق المادة الثانية من الدستور لتصبح مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع، سعيا لجذب تأييد التيارات الإسلامية ومغازلة النزوع الديني لدى جماهير الشعب المصري.
تعديلات مبارك
أما تعديلات العام 2005 التي قام بها نظام حسني مبارك وحولت نظام اختيار رئيس الجمهورية إلى نظام انتخاب بين مرشحين متعددين نظريا، فقد بدت رد فعل لتنامي الحركات الاحتجاجية في مصر مع بداية القرن الـ21 والضغط الذي وضعته الإدارة الأميركية في هذا الوقت على نظام مبارك لإجراء إصلاحات سياسية.
وقد تضمنت تعديلات العام 2007 إزالة العديد من الإشارات الشكلية للاشتراكية التي تضمنها الدستور، بينما تمثلت التعديلات الجوهرية في إلغاء الرقابة القضائية الكاملة على الانتخابات التشريعية وحصرها في اللجان العامة، وهى فى حقيقتها رقابة شكلية؛
كما أدخلت تلك التعديلات الإجراءات الاستثنائية التي خرق بها نظام مبارك حدود الحريات والحقوق الدستورية في صلب الدستور، فسمحت لرئيس الجمهورية بإحالة الجرائم المتعلقة بالإرهاب إلى القضاء الاستثنائي، والسماح صراحة بتجاوز الحقوق والحريات المنصوص عليها في الدستور لغرض مكافحة الإرهاب دون رقابة قضائية مسبقة(2).
و بعد قيام ثورة 25 يناير وتنحي الرئيس السابق محمد حسني مبارك، كلف المجلس الأعلي للقوات المسلحة، الذي تولى إدارة شئون مصر، لجنة للقيام ببعض التعديلات الدستورية، وتم عرضها للاستفتاء على الشعب في 19 مارس 2011.
وبعد موافقة الشعب المصري في الاستفتاء، أصدر المجلس الأعلي للقوات المسلحة في يوم 30 مارس 2011 إعلاناً دستوريا من 63 مادة مشتملاً على أغلب التعديلات التي تم إقرارها في الاستفتاء بالإضافة إلي بعض المواد الأخرى.
الإخوان والدستور
الدستور هو الحاكم والفيصل بين الناس في كل شئونهم ولذا فالإخوان قدموا احترامهم لدستور البلاد يقول الإمام الشهيد حسن البنا:
- ويتساءل كذلك فريق من الناس: ما موقف الإخوان المسلمين من الدستور المصرى؟ ولاسيما بعد أن كتب الأخ صالح أفندى عشماوى رئيس تحرير مجلة النذير" فى هذا الموضوع، وتناولت كتابته صحيفة (مصر الفتاة) بالنقد والموازنة، وهذه فرصة طيبة أتحدث إلى حضراتكم فيها عن رأى الإخوان المسلمين وموقفهم من الدستور المصرى، وأحب قبل هذا أن نفرق دائمًا بين (الدستور) وهو نظام الحكم العام الذى ينظم حدود السلطات، وواجبات الحاكمين، ومدى صلتهم بالمحكومين، وبين (القانون) وهو الذى ينظم صلة الأفراد بعضهم ببعض، ويحمى حقوقهم الأدبية والمادية، ويحاسبهم على ما يأتون من أعمال.
وأستطيع بعد هذا البيان أن أجلى لكم موقفنا من نظام الحكم الدستوري عامة، ومن الدستور المصري خاصة:
- الواقع أيها الإخوان أن الباحث حين ينظر إلى مبادئ الحكم الدستورى التى تتلخص فى المحافظة على الحرية الشخصية بكل أنواعها، وعلى الشورى واستمداد السلطة من الأمة، وعلى مسئولية الحكام أمام الشعب ومحاسبتهم على ما يعملون من أعمال، وبيان حدود كل سلطة من السلطات، هذه الأصول كلها يتجلى للباحث أنها تنطبق كل الانطباق على تعاليم الإسلام ونظمه وقواعده فى شكل الحكم.
- ولهذا يعتقد الإخوان المسلمون أن نظام الحكم الدستورى هو أقرب نظم الحكم القائمة فى العالم كله إلى الإسلام، وهم لا يعدلون به نظامًا آخر.
بقى بعد ذلك أمران:
- أولهما: النصوص التى تصاغ فى قالبها هذه المبادئ، وطريقة التطبيق التى تفسر بها عمليًّا هذه النصوص.
- إن المبدأ السليم القويم قد يوضع فى نص مبهم غامض، فيدع مجالاً للعبث بسلامة المبدأ فى ذاته، وإن النص الظاهر الواضح للمبدأ السليم القويم قد يطبق وينفذ بطريقة يمليها الهوى وتوحيها الشهوات، فيذهب هذا التطبيق بكل ما يرجى من فائدة.
- وإذا تقرر هذا فإن من نصوص الدستور المصري ما يراه الإخوان المسلمون مبهمًا غامضًا يدع مجالاً واسعًا للتأويل والتفسير الذي تمليه الغايات والأهواء، فهى فى حاجة إلى وضوح وإلى تحديد وبيان هذه واحدة.
- والثانية: هى أن طريقة التنفيذ التى يطبق بها الدستور، ويتوصل بها إلى جنى ثمرات الحكم الدستوري فى مصر، طريقة أثبتت التجارب فشلها، وجنت الأمة منها الأضرار لا المنافع، فهى فى حاجة شديدة إلى تحوير وإلى تعديل يحقق المقصود ويفى بالغاية.
- وحسبنا أن نشير هنا إلى قانون الانتخاب، وهو وسيلة اختيار النواب الذين يمثلون إرادة الأمة، ويقومون بتنفيذ دستورها وحمايته، وما جره هذا القانون على الأمة من خصومات وحزازات، وما أنتجه من أضرار يشهد به الواقع الملموس، ولابد أن تكون فينا الشجاعة الكافية لمواجهة الأخطاء والعمل على تعديلها.
- لهذا يعمل الإخوان المسلمون جهدهم حتى تحدد النصوص المبهمة فى الدستور المصري، وتعدل الطريقة التي ينفذ بها هذا الدستور فى البلاد، وأظن أن موقف الإخوان قد وضح بهذا البيان، وردت الأمور إلى نصابها الصحيح(3).
- ويقول في القانون:
- إن الإسلام لم يجئ خلوًّا من القوانين، بل هو قد أوضح كثيرًا من أصول التشريع وجزئيات الأحكام، سواء أكانت مادية أم جنائية، أم تجارية أم دولية، والقرآن والأحاديث فياضة بهذه المعانى، وكتب الفقهاء غنية كل الغنى بكل هذه النواحى، وقد اعترف الأجانب أنفسهم بهذه الحقيقة، وأقرها مؤتمر لاهاى الدولى أمام ممثلى الأمم من رجال القانون فى العالم كله.
- فمن غير المفهوم ولا المعقول أن يكون القانون فى أمة إسلامية متناقضًا مع تعاليم دينها وأحكام قرآنها وسنة نبيها، مصطدمًا كل الاصطدام بما جاء عن الله ورسوله(4).
- لكنه يؤكد على حقيقة هامه وهي:
- ولكن الإخوان مع هذا لم يعلنوا بعد أنهم خارجون على القانون، فهم سيجعلون معارضتهم فى حدودها القانونية، يكتبون فى صحفهم، ويجتمعون فى أنديتهم، وينشرون رأيهم بكل وسيلة مشروعة.
- وهم يريدون من الحكومة أن تسلك معهم هذا المسلك وترتفع بأساليبها عن التصرفات الصغيرة التى تتعارض مع القانون وتعتبر عدوانا عليه.
- فلا تمنع اجتماعا بغير حق، ولا تقبض على أحد بلا مبرر، لتكون قدوة للأمة، ولا تضطر غيرها لارتكاب هذا الخطأ فتسقط هيبة النظم وتضييع حرمة القوانين.
- وإذا لم تأخذ الحكومة بهذا التوجيه السليم والنصح المحض فلها أن تتعسف كما تشاء وعليها تبعة عملها، وعلى الباغى تدور الدوائر(5).
دستور 1952م والإخوان
- بعدما قامت ثورة 23 يوليو 1952م أعلن العسكر سقوط دستور 1923م وشُـكلت لجنة سنة 1953 مكونة من خمسين من أبرز الشخصيات السياسية والثقافية والقضائية والعسكرية تحت قيادة رئيس الوزراء على ماهر لوضع دستور جديد للبلاد.
- وفي 23/ 1/ 1953 م تشكلت لجنة لوضع دستور جديد برئاسة محمد فهمي السيد، وضمت 3 من أعضاء لجنة دستور عام 1943 م و4 من زعماء الوفد، و2 من الأحرار الدستوريين، و2 من السعديين، و3 من الإخوان (هم عبد القادر عودة وصالح عشماويوحسن العشمواي)، و3 من أعضاء الحزب الوطني، و2 من الحزب الوطني الجديد، ورئيس الكتلة الوفدية، وممثل مصر الفتاة، ورؤساء محكمة النقض، ومجلس الدولة والمحكمة الشرعية العليا، و3 من الضباط والشرطة، و3من أساتذة القانون الدستوري، وممثل عن الأزهر والكنيسة (مكرم عبيد) وغيرهم.
- ولكن عندما قدِمت المسودة في سنة 1954 إلى مجلس قيادة الثورة تم تجاهلها وأُهمِلَت.
- يقول د. طارق الدسوقي:
- وفي 10 فبراير (1953) صدر إعلان دستوري انتقالي لمدة ثلاث سنوات تنتهي في 16 يناير 1956م، صحيح أن مشروع الدستور الذي أعدته هذه اللجنة وعرف بدستور 1954 تم إهماله وصدر دستور مؤقت في 16 يناير 1956 تاريخ انتهاء الفترة الانتقالية(6).
دستور مقترح من الإخوان
- عرض الإخوان مشروع دستور مقترح لمصر صدر عن الشعبة القانونية صاغ مواده المرحوم الدكتور محمد طه بدوي أستاذ القانون العام بجامعة الإسكندرية في 103 مادة وراجعته لجنة مشكلة من ثلاثة أعضاء وصدر عن الهيئة التأسيسية في 25 ذي الحجة 1371 هجرية ، والموافق 16 سبتمبر 1952؛
وكما تقول ديباجته أنه قد استعد في أصوله من أحكام القرآن وسنة الرسول وأساليب الحكم في عهد الخلفاء الراشدين ، كما أخذ بما صلح في النظم الدستورية المعاصرة كالنظام الرئاسي (المعمول به في الولايات المتحدة الأمريكية) ونظام حكومة الجمعية الذي أخذت به بعض الدساتير الأوروبية كدستور النمسا الصادر عام 1920 ، والدستور التركي الصادر عام 1924 والدستور السويسري الحالي.
- كما بدأ خاليا مما في تلك النظم من أوضاع أجمع على فسادها الفقه الدستوري الحديث.
- وقد قسم هذا المشروع لدستور إسلامي للدولة المصرية كما جاء في عنوانه على خمسة أبواب ، الباب الأول تحت عنوان في السيادة ويتضمن مادتين ، والباب الثاني تحت عنوان في الهيئة الحاكمة ويتضمن إحدى وأربعين مادة وفيه يعالج كيان الحكومة الذي يتلخص في وجود هيئة حاكمة تتكون من مجلس الأمة ورئيس الدولة.
- أما الباب الثالث تحت عنوان «في توزيع وظائف الدولة» وفيه تقسيم للوظيفة التشريعية التي يتولاها مجلس الأمة وتعالجها خمس مواد، والوظيفة التنفيذية التي يتولاها رئيس الدولة فتعالجها عشر مواد أما الوظيفة القضائية فتخصها خمس مواد.
- كما نظم هذا الباب القوات المسلح وتعالجها أربع مواد والإدارة المحلية وتتناول اختصاصها مادتان.
- وقد نقل المشروع عن الدستور المصري لسنة 1923 الذي كان معمولا به في ذلك الوقت بعض أحكامه الخاصة بالمالية لعدم مجافاتها لتعاليم الإسلام من جهة ولثبوت صلاحيتها في التطبيق من جهة أخرى وهذه تتضمنها سبع مواد.
- ونقلا عن تعاليم الإسلام فقد تضمن المشروع ما يكفل للفرد حياة كريمة في مجتمع متضامن عن طريق وضع حد لاستغلال الفرد للفرد ، وإلزام الدولة أن تضمن للفرد مستوى ماديا معينا ، فلا تقتصر الإفادة بهذه الحريات على فريق من الأمة دون فريق كما هي الحال في الديمقراطيات الغربية الفردية النزعة والتي كان يمثلها أيضا الدستور المصري لسنة 1923.
- فقد تضمن الباب الرابع حقوق الأفراد. وجعل المشروع الصدارة للحقوق الاجتماعية قبل الحريات الفردية ، مجافيا في ذلك الدساتير الغربية الفردية النزعة التي أما أن تكتفي بضمان الحريات الفردية دون الحقوق الاجتماعية ، وأما أن تجعل للأولى الصدارة على الأخيرة.
- وقد عولج هذا الباب في تسعة عشر مادة ويلحظ أن المشروع قد أفاد من حيث الصياغة دون الجوهر من وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادرة عن الأمم المتحدة في العاشر من ديسمبر عام 1948.
- وتمشيا مع أحكام الإسلام ، اعتبر المشروع مقاومة الهيئة الحاكمة إن جارت من أقدس حقوق المواطن وإلزام واجباته ، وهو بذلك يخالف الدساتير المعاصرة قاطبة التي ترى في مباشرة هذا الحق الطبيعي جريمة تهدد سلامة الجماعة وأمنها وسنعرض هذه النصوص مقارنة بما ورد في الفقه الإسلامي(7).
المراجع
- (1)- عبدالرافع محمد مجاهد: عرض لكتاب التاريخ الدستوري المصري، موقع المعرفة (الجزبرة نت)
- (2)- عبدالرافع محمد مجاهد: المرجع السابق
- (4)- المرجع السابق
- (5) مجلة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (526)، السنة الثانية، 7 ربيع الأول 1367ه- 18 يناير 1948م، ص(1).
للمزيد
روابط داخلية