بين سيد قطب وأبو الأعلى المودودي

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
بين سيد قطب وأبو الأعلى المودودي

مقدمة

الإمام المودودى

عبر ربع قرن من التعامل مع الإسلام عقيدة وفكراً وحركة وسلوكاً، تبلورت في فكر الشهيد سيد قطب مجموعة من المفاهيم والقيم والتصورات كان يجد تأكيدها وتعزيزها كلما توغل أكثر في قراءة الإسلام ومعايشة كتابه وسنته.. حتى لقد غدت تلك المفاهيم أشبه بالبداهات لكثرة ما التقى بشواهدها ومؤشراتها في معطيات الإسلام.

ويعد كتاباه الكبيران "الظلال" و"المعالم" الذي انبثق عنه وجاء بمنزلة تركيز للعديد من مقولاته..

يعد هذان المؤلفان أكثر كتب "سيد قطب" تعبيراً عن هذه المسألة بحيث تشكل مجموعة المفاهيم الكبرى التي طرحها "سيد قطب" العمود الفقري لهذين العملين وجملتهما العصبية إذا صح التعبير.. وإنها لتغطي المساحة الأوسع من الظلال، وتكاد تكون أشبه بالخلفية ذات الإيقاع الذي يرتكز عليه عمله الكبير ذاك..

وعلى مستوى المنهج فإن "سيد قطب" في هذين الكتابين بدا "مهندساً" من طراز أول.. وكان يمارس تنفيذ المعمار الهندسي في التقابل والتناظر وطرح التصاميم الأساسية وتحديد المنظور الأولي أو النهائي، من زواياه المختلفة بتمكن تام.. وإذا كان "المعالم" بمنزلة تركيز بالغ الدقة لمقولات "الظلال"، فإنه يعد ولا ريب عملاً هندسياً فذاً في ميدان هندسة الأفكار، وهي مسألة من بين العديد من المسائل التي تمنح الكتاب قيمته الكبرى..

في "الظلال" و"المعالم" نلتقي بمجموعة من التصاميم العقيدية المقنعة حتى الأعماق لأنها مستمدة مباشرة من معطيات الكتاب والسنة برؤية نافذة وبصيرة قل ما توافرت لأحد من المفكرين، ولأنها بنيت بحس هندسي صارم لا يطرح المقولة على غير هدى ولكنه يحسب لكل كلمة أو عبارة، أو فقرة فيها حسابها، ويضعها في مكانها المناسب من تركيب المقولة، كما أنه يحسب في الوقت نفسه لكل فكرة جزئية حسابها ويحدد لها مكانها بالضبط في مجموع البنيان التركيبي للأفكار، فإذا نحن إزاء عمل معماري يبهر العقل ويهز الوجدان بتناظره وتماسكه وتوزيع جزئياته عبر سلسلة من المقابلات ومن خلال رؤية شمولية وقدرة فذة على التركيب.

إن "سيد قطب"، على سبيل المثال، يطرح أحد المفاهيم الكبرى في الإسلام.. وهي ما يمكن تسميته ب "التوحيد الحركي الشمولي"، يطرحها في عشرات المواضع ومئاتها..

وبصيغ هندسية صارمة تؤكد صدق مقولتها باستمرار.. "إن الله جل وعلا، هو الإله والرب، وهو الحاكم والمشرع، وأن أية دعوة تصدر عنه ويحملها نبي من أنبيائه عليهم السلام، إنما هي منهج انقلابي شامل، يجيء لكي يحول بين "الطاغوت" وبين تعبيده الناس لحاكميته وتشريعه، لكي يحرر الإنسان ويرده لحكم الله وشريعته.. ومن ثم يبدأ مسلسل الصراع الدامي..

الصراع الحاسم، بين الطرفين.. وليس ثمة حل وسط.. لا مساومة ولا تنازلات ولا أية عملية ترقيع أو تلفيق.. إن الدين حركة انقلابية جاءت لكي تحقق كلمة الله في العالم، وتقلب الأوضاع الشاذة، الجائرة، المزيفة على رؤوس أصحابها.. بل لكي تقطع هذه الرؤوس إذا اقتضى الأمر، وتفتح الطريق أمام حرية الإنسان وكرامته التي أرادها له الله، لحظة خلقه، لأداء دوره المرسوم".

إن الرجل، وهو يتعامل مع الآيات والفقرات والمقاطع والسور القرآنية، يتكشف أمام وعيه هذا المفهوم الكبير، بطريقة عجيبة، حيث إن الكثير من الآيات التي لم تكن لتمنحنا هذا البعد ونحن نمر عليها المرة تلو المرة.. إذ بها على يديه تكشف عن نفسها بشكل يفوق حدود القناعة، وتندرج ضمن التصاميم الهندسية التركيبية من أجل بناء هذا المفهوم الكبير.. وما يقال عن هذا يمكن أن يقال عن العديد من المفاهيم الأساسية للعقيدة الإسلامية التي نجدها موزعة ومهندسة في "الظلال" و"المعالم".. ولسنا بصدد الوقوف عندها في هذا المقال الموجز الذي يستهدف حديثاً مقارناً سريعاً عن مفهوم.. "التوحيد الحركي الشامل"..

إن "سيد قطب" ليس أول من طرح هذا التصور، ولا آخر من سيطرحه، بل لقد وقف العقل الإسلامي عبر عصوره المختلفة أمام هذه الحقيقة وتحدث عنها بصيغ مختلفة ومناهج شتى.. إنها واحدة من قواعد الإسلام الكبرى.. بل إنها أشبه بعموده الفقري الذي يقيمه ويمنحه الشخصية والقدرة على الحركة..

ولكن ميزة "سيد قطب" أنه مدها إلى أوسع مدى، وطرحها وفق تصاميم هندسية باهرة، وامتلك رؤية شمولية كانت تمكنه من تجميع المفردات القرآنية من هنا وهناك لكي تصب في هذا البحر التصوري الكبير.. وكانت تتيح له فهماً للسيرة ينسجم تماماً وهذه الرؤية الأساسية..

وميزته أيضاً أنه طرحها في الوقت المناسب تماماً، وجابه بها عصر الطاغوت الذي أخذ يشرع للناس ما لم يأذن به الله، ويتعبدهم بهذا التشريع لنفسه وسلطته.. وهز بها قيماً "علمانية" تفصل بين الله وسياسة الناس.. قيم طغت على عقولهم وأفئدتهم بحيث أصبحت، لشدة تكرارها وتأكيدها، بمنزلة البداهات..

وكان "سيد قطب" يشكل الحقائق التي يقدمها وفق أشد الصيغ إقناعاً وتأثيراً، وكان يغير بذلك قناعات الجماهير المثقفة وبداهاتها الفكرية ويعيد صياغتها من جديد.. كان يمثل تهديداً مباشراً للطاغوت الذي تعتمده وتستخدمه قوى العالم الكبرى ومراكزه القيادية.. وهكذا فإن إعدام الرجل أغلب الظن لم يكن عملاً ارتجالياً.. ولكن خطط له بحساب!!

ومهما يكن من أمر فإن "سيد قطب" يلتقي مع "المودودي" في هذا المفهوم، كما في كثير غيرها من المفاهيم، ولكي لا تكون هذه العبارة مجرد كلام يقال، يمكن لأي واحد منا أن يقوم بقراءة مقارنة بين مؤلفي "سيد قطب" هذين وبين عدد من أبحاث "المودودي" وبخاصة "الجهاد في سبيل الله"، و"شهادة الحق"، و"المصطلحات الأربعة" و"الإسلام والجاهلية".. إنهما يستقيان من نبع واحد، ما في هذا شك وهو أمر بدهي، ولكنهما في الوقت نفسه يمتلكان رؤية واحدة لمعطيات هذا النبع، ويتعاملان معها بمنهج واحد.

وكلاهما يحسب لهندسة الأفكار حسابها، ويطرح قناعاته وفق أشد الصيغ منطقية وتأكيداً.

ونحن نستطيع أن نلمس ذلك عبر صفحات "الظلال" من البدء حتى المنتهى، ولكننا سنقف على سبيل المثال عند صفحات محدودة فحسب لا تتجاوز الخمسين، من تفسير سورة الأعراف، لكي نجد هذا التأكيد المستمر، المقنع، المرسوم، لمفهوم "التوحيد الحركي الشامل"، ولكي نجد المفكرين الكبيرين كذلك وهما يلتقيان على التصور الواضح الذي لا غبش فيه..

إن "سيد قطب" يقتبس، في أحد مقاطع تفسيره لسورة الأعراف هذه الفقرات من كتاب أبي الأعلى "الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية": "وكل من له أدنى بصيرة بمسائل الحياة الإنسانية لا يخفى عليه أن المسألة التي تتوقف عليها قضية ملامح الشؤون البشرية وفسادها إنما هي مسألة زعامة الشؤون البشرية ومن بيده زمام أمرها.

وذلك كما تشاهد في القطار أنه لا يجري إلا إلى الجهة التي يوجهه إليها سائقه، وأنه لابد للركاب أن يسافروا طوعاً أو كرهاً إلى تلك الجهة نفسها.

فكذلك لا يجري قطار المدنية الإنسانية إلا إلى جهة يوجهه إليها من بأيديهم زمام أمر تلك المدنية.

ومن الظاهر البين أن الإنسانية بمجموعها لا تستطيع بحال من الأحوال أن تأبى السير على تلك الخطة التي رسمها لهم الذين بأيديهم وسائل الأرض وأسبابها طراً، ولهم الهيمنة كل الهيمنة على أزمّة الأمور، وبيدهم السلطة المطلقة في تدبير شؤون الإنسانية، وتتعلق بأذيالهم نفوس الجماهير وآمالهم، وهم يملكون من أدوات تكوين النظريات والأفكار وصوغها في قوالب يحبونها، وإليهم المرجع في تنشئة الطباع الفردية، وإنشاء النظام الجماعي، وتحديد القيم الخلقية.

فإذا كان هؤلاء الزعماء والقواد ممن يؤمنون بالله ويرجون حسابه، فلابد لنظام الحياة بأسره أن يسير على طريق من الخير والرشد والصلاح، وأن يعود الخبثاء الأشرار إلى كنف الدين ويصلحوا شؤونهم، وكذلك تنمو الحسنات ويزكو غراسها.

وأقل ما يكون من تأثير المجتمع في السيئات أنها لا تربو.

إن لم تمحق وتنقرض آثارها.

وأما إذا كانت هذه السلطة سلطة الزعامة والقيادة والإمامة بأيدي رجال انحرفوا عن الله ورسوله، واتبعوا الشهوات، وانغمسوا في الفجور والطغيان، فلا محالة أن يسير نظام الحياة بقضه وقضيضه على البغي والعدوان والفحشاء، ويدب دبيب الفساد والفوضى في الأفكار والنظريات والعلوم والآداب والسياسة والمدنية والثقافة والعمران والأخلاق والمعاملات والعدالة والقانون برمتها، وتنمو السيئات ويستفحل أمرها"..

أول مايطالب به الإسلام

خطأ في إنشاء صورة مصغرة: الملف مفقود
الشيخ سيد قطب

"والظاهر أن أول ما يطالب به دين الله عباده أن يدخلوا في عبودية الحق كافة مخلصين له الطاعة والانقياد، حتى لا يبقى في أعناقهم قلادة من قلائد العبودية لغير الله تعالى ثم يتطلب منهم ألا يكون لحياتهم قانون إلا ما أنزل الله تعالى، وجاء به الرسول الأمي الكريم ، ثم إن الإسلام يطالبهم أن ينعدم من الأرض الفساد وتستأصل شأفة السيئات والمنكرات الجالبة على العباد غضب الله تعالى وسخطه.

وهذه الغايات السامية لا يمكن أن يتحقق منها شيء ما دامت قيادة أبناء البشر وتسيير شؤونهم في الأرض بأيدي أئمة الكفر والضلال، ولا يكون من أمر أتباع الدين الحق وأنصاره إلا أن يستسلموا لأمر هؤلاء وينقادوا لجبروتهم، يذكرون الله قابعين في زواياهم، منقطعين عن الدنيا وشؤونها، مغتنمين ما يتصدق به هؤلاء الجبابرة عليهم من المسامحات والضمانات! ومن هنا يظهر ما للإمامة الصالحة وإقامة نظام الحق من أهمية خطيرة تجعلها من غايات الدين وأسسه.

والحق أن الإنسان لا يمكنه أن يبلغ رضا الله تعالى بأي عمل من أعماله إذا تناسى هذه الفرضية وتقاعس عن القيام بها.. ألم تروا ما جاء في الكتاب والسنة من ذكر الجماعة ولزومها والسمع والطاعة، حتى أن الإنسان ليستوجب القتل إذا خرج من الجماعة ولو قيد شعرة وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم.

وهل لذلك من سبب سوى أن غرض الدين الحقيقي وهدفه إنما هو إقامة نظام الحق، والإمامة الراشدة وتوطيد دعائمه في الأرض.

وكل ذلك يتوقف تحققه على القوة الجماعية، والذي يضعضع القوة الجماعية ويفت في عضدها، يجني على الإسلام وأهله جناية لا يمكن جبرها وتلافيها بالصلاة ولا بالإقرار بكلمة التوحيد.. ثم انظروا إلى ما كسب "الجهاد" من المنزلة العالية والمكانة الرفيعة في الدين، حتى أن القرآن الكريم ليحكم بالنفاق على الذين ينكلون عنه ويتثاقلون إلى الأرض.

ذلك أن "الجهاد" هو السعي المتواصل والكفاح المستمر في سبيل إقامة نظام الحق ليس غير.

وهذا الجهاد هو الذي يجعله القرآن ميزاناً يوزن به إيمان الرجل وإخلاصه للدين، وبعبارة أخرى أنه من كان يؤمن بالله ورسوله لا يمكنه أن يرضى بتسلط النظام الباطل، أو يقعد عن بذل نفسه وماله في سبيل إقامة نظام الحق.. فكل من يبدو في أعماله شيء من الضعف والاستكانة في هذا الباب، فاعلم أنه مدخول في إيمانه، مرتاب في أمره، فكيف ينفعه عمل من أعماله بعد ذلك؟".

إقامة الإمامة الصالحة في الأرض.

"إن إقامة الإمامة الصالحة في أرض الله لها أهمية جوهرية وخطورة بالغة في نظام الإسلام.

فكل من يؤمن بالله ورسوله ويدين دين الحق، لا ينتهي عمله بأن يبذل الجهد المستطاع لإفراغ حياته في قالب الإسلام، ولا تبرأ ذمته من ذلك فحسب، بل يلزمه بمقتضى ذلك الإيمان أن يستنفد جميع قواه ومساعيه في انتزاع زمام الأمر من أيدي الكافرين والفجرة والظالمين حتى يتسلمه رجال ذوو صلاح ممن يتقون الله، ويرجون حسابه، ويقوم في الأرض ذلك النظام الحق المرضي عند الله، الذي له صلاح أمور الدنيا وقوام شؤونها"(1).

ثم يعود "سيد قطب" عبر الصفحات التي أشرنا إليها لكي يؤكد "التصور" نفسه من أكثر من زاوية ومن خلال رؤية واضحة كشعاع الشمس، ومنطق قاطع كالسكين.. إنه يقول: ".. تكشف مواجهة موسى لفرعون وملئه عن حقيقة المعركة بين دين الله كله وبين الجاهلية كلها.

وتبين كيف ينظر الطاغوت إلى هذا الدين، وكيف يحس فيه الخطر على وجوده، كما تبين كيف يدرك المؤمنون حقيقة المعركة بينهم وبين الطاغوت! إنه بمجرد أن قال موسى عليه السلام لفرعون وقال موسى" يا فرعون إني رسول من رب العالمين (104) حقيق على" أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل (105) (الأعراف).. تبين مدلول هذه الدعوة إلى "رب العالمين".. إنه رد السلطان كله إلى الله برد عبودية العالمين كلها إلى رب العالمين! وبناء على هذا المدلول طلب موسى إطلاق سراح بني إسرائيل.

فإنه إذا كان الله رب العالمين، فما يكون لعبد من عبيده وهو فرعون المتجبر الطاغي أن يعبدهم لنفسه، فهم ليسوا عبيداً إلا لرب العالمين.. إن رد الربوبية كلها لله سبحانه معناه رد الحاكمية كلها له.

فالحاكمية هي مظهر ربوبية الله للناس وهم من العالمين وتتجلى في العالمين كذلك بخضوعهم لله وحده.

فلا يكون الناس معترفين بربوبية الله لهم إلا إذا خضعوا له وحده، وإلا إذا خلصت عبوديتهم لهذه الربوبية.. أو بتعبير آخر لهذه الحاكمية.. وإلا فقد أنكروا ربوبية الله لهم متى خضعوا لحاكمية أحد غيره، لا يحكمهم بشرعه.

ويقول: "إن الحياة لا تستقيم وتصلح إلا على أساس الإيمان بالله الواحد، والعبودية لإله واحد.. وأن الأرض لتفسد حين لا تتمحض العبودية لله في حياة الناس.. إن العبودية لله وحده معناها: أن يكون للناس سيد واحد، يتوجهون إليه بالعبادة وبالعبودية كذلك، ويخضعون لشريعته وحدها، فتخلص حياتهم من الخضوع لأهواء البشر المتقلِّبة، وشهوات البشر الصغيرة! إن الفساد يصيب تصورات الناس كما يصيب حياتهم الاجتماعية حين يكون هناك أرباب متفرقون يتحكمون في رقاب العباد من دون الله وما صلحت الأرض قط وما استقامت حياة الناس إلا أيام كانت عبوديتهم لله وحده عقيدة وعبادة وشريعة وما تحرر "الإنسان" قط إلا في ظل الربوبية الواحدة.."(2).

ويقول: ".. إن الإنسان لا يخدم سيدين، ولا يعبد إلهين.. فمن كان عبداً لله فلا يمكن أن يكون عبداً لسواه.. إن إعلان ربوبية الله للعالمين هي بذاتها إعلان تحرير الإنسان، تحريره من الخضوع والطاعة والتبعية والعبودية لغير الله.. تحريره من شر البشر، ومن هوى البشر، ومن تقاليد البشر، ومن حكم البشر.

وإعلان ربوبية الله رب العالمين لا يجتمع مع خضوع أحد من العالمين لغير الله، ولا يجتمع مع حاكمية أحد بشريعة من عنده للناس.

لقد سبر الرجلان، "سيد قطب" و "المودودي" رحمهما الله، غور القرآن والسنة.. وعرف كلاهما الكثير من معطيات الحضارة الغربية ومناهجها، حيث أتيح لكليهما الاطلاع على قسمات هذه الحضارة والتحدث عنها بحديث العارفين.

وبقدر أصالتهما العقائدية ورفضهما العقلاني لمقولات هذه الحضارة بقدر ما أفادا من بعض مؤشراتها وبخاصة بصدد "المنهج" وهما يكتبان ويحللان وينقدان ويبنيان..

إنهما عقلان منفتحان إلى المدى، وما كان لهما إلا أن يأخذا "الحكمة" من أي وعاء خرجت..

ومهما يكن من أمر فان ما يؤكد التقاء الرجلين فيما نحن بصدده، إنما هو التزايد الملحوظ للاقتباس والإحالات التي اعتمدها سيد قطب من مؤلفات المودودي وبخاصة في الطبعات الأخيرة المنقحة من "الظلال"، وهي دليل منظور سرعان ما يتأكد بمتابعة المساحات الواسعة لهذه الاعتمادات في "الظلال"، ونبرة الود والإعجاب والتقدير التي يرددها "سيد قطب" في هوامشه ل "المودودي" ومؤلفاته مثل: "المسلم العظيم السيد أبو الأعلى المودودي" و"تراجع بتوسع الرسالة القيمة بعنوان.."

و"تراجع البحوث القيمة الدقيقة التي كتبها المسلم العظيم.." و"الأستاذ المودودي" و"يراجع البحث القيم للأستاذ.." و"يراجع كتاب.. للسيد أبي الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية في باكستان" و"المسلم الصادق"..

اعتمد "سيد قطب" على معطيات "المودودي" في واحد وثلاثين موضعاً من "الظلال"، فإذا استثنينا مؤلفات "محمد قطب" التي تعتبر امتداداً لفكر "سيد قطب"، فإن "المودودي" يعد أكثر من نقل عنهم "سيد قطب" من المفكرين الإسلاميين المعاصرين.. وهذه شهادة أخرى فيما تحمله من دلالات: لقاء الرجلين في فهم الإسلام وتمثله.. وغناء المعطيات التي قدمها "المودودي"، والتي أتاحت لزميله الشهيد أن يأخذ عنه، أو يحيل عليه، في هذا العدد الكبير من المظان.

والمواضيع التي اعتمد فيها "المودودي" عبر "الظلال" يمكن أن تتبلور في المسائل التالية: مفهوم الدين، مفهوم الإسلام، مفهوم الألوهية والربوبية والحاكمية، مفهوم العبادة، مفهوم الجهاد، مفهوم الجاهلية، الربا، العلاقات الجنسية، الأسرة، الخمر، والقيم الخلقية.

أما الكتب التي تم الاقتباس منها، أو أحيل عليها للاستزادة في واحد أو أكثر من المواضيع آنفة الذكر فهي:

(1) الجهاد في سبيل الله.

(2) الربا.

(3) أسس الاقتصاد بين الإسلام والنظم المعاصرة.

(4) شهادة الحق.

(5) الحجاب.

(6) تفسير سورة النور.

(7) تنقيحات.

(8) المصطلحات الأربعة في القرآن.

(9) مبادئ الإسلام.

(10) الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية.

(11) الإسلام والجاهلية.

(12) نظرية الإسلام الخلقية.

نقل "سيد قطب" في بعض المواضع فقرات حرفية من كتب "المودودي" آنفة الذكر، ولا ريب أن اقتباسه في تفسيره لسورة الأنفال عن كتاب "الجهاد" يعد أوسع هذه الاقتباسات (خمس عشرة صفحة من الحجم الكبير)، وقد قدم لها الشهيد بالعبارات التالية: "..

وبعد فإن هناك بقية في بيان طبيعة الجهاد في الإسلام وطبيعة هذا الدين يمدنا بها المبحث المجمل القيم الذي أمدنا به المسلم العظيم السيد أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية في باكستان بعنوان "الجهاد في سبيل الله"، وسنحتاج أن نقتبس منه فقرات طويلة لا غنى عنها لقارئ يريد رؤية واضحة دقيقة لهذا الموضوع الخطير العميق في بناء الحركة الإسلامية"(3).

هذا إلى أن "سيد قطب" أحال في مواضع أخرى من "الظلال" على كتب "المودودي" لأغراض التوسع والاستزادة معتمداً عبارات "يراجع كتاب.." أو "يراجع بتوسع كتاب.." أو "تراجع بتوسع بحوث السيد أبي الأعلى المودودي"(4).

إنه والحق يقال موقف يدعو إلى الإعجاب: احترام عقل إسلامي فذ في مصر لنظيره في باكستان، وعدم تحرجه من الأخذ عن الأنداد بهذا القدر من التقدير والاحترام.. وإنها لشهادة قيمة بحق أبي الأعلى المودودي رحمه الله، تعلو على الشهادات!

الهوامش:

(1) الظلال، 8-563561 الطبعة الخامسة المنقحة، دار إحياء التراث العربي، بيروت 1967م.

(2) المرجع السابق .

(3) الظلال.

(4) للاطلاع على مظان اعتماد "سيد قطب" لمؤلفات "المودودي" رحمهما الله، انظر الأجزاء والصفحات التالية من الطبعة الخامسة المنقحة من "الظلال" التي اعتمدناها في هذا المقال: الجزء الثالث الجزء الرابع الجزء الخامس الجزء السادس الجزء السابع الجزء الثامن الجزء التاسع الجزء العاشر الجزء الحادي عشر الجزء الثاني عشر .

مجلة المجتمع (العدد1820)

المصدر