بين المُخْلِص والمُرائي
بقلم: الشيخ نزيه مطرجي
ما من خُلُق أشقّ على نفس الإنسان من إخلاص الوجه للديّان، وما من سبيل أسهل على الشيطان في مسالك الفتنة والإِغواء من السُّمعة والرِّياء.
إن أعمالنا وأقوالنا بين القَبول وردِّها، وإن كانت في دائرة الطاعات، والأعمال الصالحات، فإن الله تعالى لا يقبل من الأعمالِ إلا ما كان خالصاً لله، وابتَغى به العبد وَجْهَ الله.
فإخلاصُ القلوب هو مَنَاط القبول، ومعراجُ الوصول, والإخلاص يقتضي الصّفاء والنّقاء، والبعد عن ما يشوبُ العملَ والعبادةَ من شوائبِ الشِّرك، وآفات الرّياء، والله تعالى يقول: {وَمَا أُمِرُوا إلا ليعبدوا اللهَ مخلصين لهُ الدينَ حُنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} البيِّنة -5، ويقول: {وأقيموا وجوهَكُم عندَ كُلِّ مسجد وادعوهُ مُخلصينَ لهُ الدِّين كما بدأكُمْ تعودون} الأعراف – 29، أي أَعطُوا توجُّهَكم إلى الله تعالى عند كل مسجد تعبدونه فيه من صدق النيّة، وحضور القلب، وصرف الفكر عن الشَّواغل.
إن أعدى أعداء الإخلاص هو الرِّياء، فلو أن المؤمن راءَى بعَمَله، ولم يقصد به وجه الله فَسَد عمله بالرِّياء، فكان ما أعطاه عند الله كالهَباء! يقول الله عز وجل: {وقدمنا إلى ما عملوا مِنْ عملٍ فجعلتهُ هباءً منثوراً} الفرقان - 23، وقد ورد في الحديث: «أَخْوَفُ ما أخافُ عليكم الشِّرك الأصغر، قالوا: وما هو يا رسول الله؟ قال: الرِّياء، يقول الله تعالى يوم يجازي العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤونهم بأعمالكم فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً» أخرجه أحمد. فتأمَّل هذه الطائفة من الصُّور والمَشاهد التي تُظهر المخلصين بأعمالهم لله رب العالمين، والمُرائين الذين تُفسِد أَعمالَهم وساوسُ النَّفْسِ والشياطين، وانظر إلى أيّ الفريقين تودّ أن تتوجه ركائبك، وأين تستقل مَضارِبُك؟
فدونك مثل الذي ينفق النفقة ابتغاء وجه الله، فيُخْفيها، ويُسرُّها عن جميع الصَّحب والخِلاّن، حتى لا تعلم شمالُه ما تنفق يَمينُه! وَمَثل الذي ينفق ماله رئاء الناس، ولا يريد وجه الله، وكلما أنفق شيئاً يسيراً ولو دانِقاً يُرائي ويُغالي، ويُذيع ويُشيع مردّداً: أنا! أنا! ودونك مشهد الأتقياء الأخفياء الذين إذا حضروا لم يُعْرَفوا، وإذا غابوا لم يُفْتَقَدوا، أولئك مصابيحُ الهدى، تنجلي بهم كل فتنة ظلماء, ومشهد السّادة الكبراء الذين لا يمشون إلا بمواكب الغُرور والاستعلاء، ومظاهر التَّرف والاغراء، الذين هم بسبيل آل فرعون وهامان، وقارون! وقد رُوي: «إن أبغض السادة والعلماء إلى الله عزوجل رجل يحب الذِّكر بالمغيب، ويوسَّع له في المجالس، ويُدعَى إلى الطعام، وتُفْرغُ له بالمَزاوِد (أوعية الزاد)... إن أولئك أخذوا أجورهم في الدنيا...».
ومشهد الذي يريد بعمله الصالح وجه الله، ويريد أن يُرَى موطنُه عند الناس، ليذكروه، ويُعظِّموه، ويُوقِّروه! وبين الذين يتخفَّون ما استطاعوا ليأمنوا شرّ الوقوع في رذيلة الرِّياء. يُروى أن الحافظ النَّخعي كان يقرأ القرآن في المصحف، فحينما يدخل عليه أحد يُغطّي المصحف كي لا يتسرّب الرياء إلى نفسه! وكان مُفتي الكوفة ابن أبي لَيلى يُصلّي، فإذا دخل عليه أحد نام في فراشه! وكان الرجل تأتيه عَبْرَته فيسترها، فإذا خشي أن تسبقه قام من المجلس.
وتأمَّلْ مشهد المؤمن الأمين الصادق، الذي تتحدّث البراءةُ في طَلْعة مُحَيَّاه عن صِدقه وأمانته، وتجرُّده من سوء النيّة وفَساد الطَّوِيَّة، في مقابل المُرائي الذي تفضحه نفسه الخبيثة بالأمارات الدالّة على ريائه في صفحات وجهه، وفَلَتات لسانه.
وراقِبْ زُمرة الذين إذا مُدِحوا وعُظِّموا، ما زادهم ذلك إلا تواضُعاً وانكساراً، وأثار المديحُ في نفوسهم الخوفَ من الجَليل، والتهيُّبَ من يوم الرَّحيل، وتوجَّهوا إلى الله بالدّعاء بأن يُعيذهُم من شرور أنفسهم ومن مخاطر الرِّياء، فيقول قائلُهم: «اللهمّ أنت أعلمُ بي من نفسي، وأنا أعلمُ بنفسي منهم، اللهمّ اجعلني خيراً مما يظنّون، ولا تُؤاخِذْني بما يقولون، واغفِرْ لي ما لا يعملون».
ثم تحوَّل إلى أهل الدنيا من الزُّعماء والوُجهاء الذين تجدُهم يَحشُدون مِن حَوْلِهم المدَّاحين المتكسِّبين الذين يشترون الدنيا بالدِّين، والزُّور والمُراءاة بالنُّصح الأمين.
إن أهل الرِّياء هم أهل الشَّقاء والبلاء، ففي الدنيا تموجُ أرائجُ نفاقهم، فتزكم منها الأنوف، وتتجافى منها القلوب، فيذهبُ عملهم جُفاءً. وفي الآخرة يوقِنون بأن عَلاَّم الغُيوب يعلم ما تُكِنُّ صدورُهم وما يُعلِنون، فيجعلُ الله عملهم هباءً.
فهلاّ قاموا في هذه الدنيا مقام الخوف على قدم الاعتبار والاعتذار، وتهيَّأوا للقدوم على العزيز الجبّار، في يومٍ تتقلَّب فيه القلوبُ والأبصار!
المصدر
- مقال:بين المُخْلِص والمُرائيموقع: الجماعة الإسلامية فى لبنان