بقية إلتزام الرسول الكامل

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
بقية إلتزام الرسول الكامل


بداية مقال التزامه الكامل صلى الله عليه وسلم بتطبيق ما يدعو إليه


خطأ في إنشاء صورة مصغرة: الملف مفقود
الداعية سعيد حوى

عاتب الله رسوله rلأنه أتاه مرة مؤمن مسلم وهو يعرض دعوة الإسلام على زعيم من زعماء المشركين فلم يقبل على المسلم تقول عائشة : " أنزلت {عَبَسَ وَتَوَلَّىا} في ابن أم مكتوم الأعمى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول : يا رسول الله أرشدني وعند رسول الله rرجل من عظماء المشركين فجعل رسول الله r يُعْرِضُ عنه ويقبل على الآخر ويقول : أترى بما أقول بأساً ؟ فيقول : لا . ففي هذا أنزلت " أخرجه مالك والترمذي .

وآيات العتاب هي : {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَآءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى * ...

فكيف كان رسول الله r بعد هذا العتاب وبعد ذلك الأمر في علاقته بالمؤمنين عوامهم وخواصهم ؟

أخرج أبو نعيم في الدلائل عن أنس – t– قال : كان رسول الله r من أشد الناس لطفاً ، والله ! ما كان يمتنع في غداة باردة من عبد ولا من أمة ولا صبي أن يأتيه بالماء فيغسل وجهه وذراعيه ، وما سأله سائل قط إلا أصغى إليه أذنه ، فلم ينصرف حتى يكون هو الذي ينصرف عنه ، وما تناول أحد بيده إلا ناوله إياها فلم ينزع حتى يكون هو الذي ينزعها منه " .

وعند يعقوب بن سفيان – عن أنس t– قال : " كان رسول الله rإ ذا صافح الرجل لا ينزع يده ، وإن استقبل بوجه لا يصرفه عنه ، حتى يكون الرجل ينصرف عنه , ولا يرى مقدماً ركبتيه بين يدي جليس له " . ورواه الترمذي وابن ماجه ، كما في البداية ج 6 ص 39 .

وعند أبي داود عنه قال : " ما رأيت رجلاً قط التقم أذن النبي rفينحي رأسه حتى يكون الرجل هو الذي ينحي رأسه ، وما رأيت رسول الله rآخذاً بيده رجل فترك يده حتى يكون الرجل هو الذي يدع يده " .

تفرد به أبو داو كذا في البداية ح 6 ص 39 .

وأخرج البزار عن أبي هريرة – t – " أن أعرابياً جاء إلى النبي rيستعينه في شيء – قال عكرمة t: أراه قال في دم -: فأعطاه رسول الله rشيئاً ثم قال : أحسنت إليك ، قال الأعرابي : لا ولا أجملت ، فغضب بعض المسلمين وهموا أن يقوموا إليه ، فأشار رسول الله rإليهم أن كفوا ، فلما قام رسول الله r وبلغ منزله دعا الأعرابي إلى البيت فقال : إنما جئتنا تسألنا فأعطيناك فقلت ما قلت ، فزاده رسول الله rشيئاً وقال : أحسنت إليك ، فقال الأعرابي : نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً ! قال النبي rإنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك فقلت ما قلت ، وفي نفس أصحابي عليك من ذلك شيء ، فإذا جئت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب عن صدورهم ! فقال : نعم ، فلما جاء الأعرابي قال رسول الله r: إن صاحبكم كان جاءنا فسألنا فأعطيناه فقال ما قال وإنا قد دعوناه فأعطيناه فزعم أنه قد رضي ، كذا يا أعرابي ، فقال الأعرابي : نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً ! فقال النبي rإن مثلي ومثل هذا الأعرابي ، كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً ، فقال لهم صاحب الناقة : خلوا بيني وبين ناقتي فأنا أرفق بها وأنا أعلم بها ! فتوجه بها وأخذ من قشام الأرض وودعاها حتى جاءت واستجاب وشد عليها رحلها ، وإني لو أطعتكم حيث قال ، ما قال لدخل النار " .

وأخرج الطبراني عن أبي غالب قال : " قلت لأبي أمامة – t– حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله rقال : كان حديث رسول الله rالقرآن ، يكثر الذكر ، ويقصر الخطبة ويطيل الصلاة ، ولا يأنف ولا يستكبر أن يذهب مع المسكين والضعيف حتى يفرغ من حاجته " . وإسناده حسن ، كما قال الهيمثي في (ج9 ص20 ) وأخرجه البيهقي والنسائي عن عبد الله بن أبي أوفى – t – نحوه كما في البداية ج6 ص45 .

وأخرج الترمذي في الشمائل ( ص 25 ) عن عمرو بن العاص – t – قال : " كان رسول الله rيقبل بوجهه وحديثه على أشر القوم يتألفهم بذلك ، فكان يقبل بوجهه وحديثه عَلَيَّ حتى ظننت أني خير القوم فقلت : يا رسول الله ! أنا خير أو أبو بكر – t - . فقال : أبو بكر . فقلت : يا رسول الله ! أنا خير أم عمر – t– فقال : عمر . فقلت : أنا خير أم عثمان – t – فقال : عثمان فلما سألت رسول الله rفصدقني فلوددت أني لم أكن سألته " . وأخرجه الطبراني عنه ونحوه ، وإسناده حسن كما قال الهيثمي ج9 ص15 وقال في الصحيح : بعضه بغير سياقه .

وعند البزار والطبراني عن أبي هريرة – t- : " أن رسول الله rلم يكن أحد يأخذ بيده فينزع يده حتى يكون الرجل هو الذي يرسله ، ولم يكن يرى ركبتيه أو ركبته خارجاً عن ركبة جليسه ، ولم يكن أحد يصافحه إلا أقبل عليه بوجهه ثم لم يصرفه عنه حتى يفرغ من كلامه " . وإسناد الطبراني حسن .

وعند أحمد عن أنس – t – قال : " إن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجيء فتأخذ بيد رسول الله rفما نزع بمن يدها حتى تذهب به حيث شاءت " رواه ابن ماجه . وعند أحمد عنه قال : " إن كانت الأمة من أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله rفتنطلق به في حاجتها " . رواه البخاري في كتاب الأدب من صحيحه معلقاً كما في البداية ج6 ص 39 ، وروى مسلم في صحيحه ج2 ص256 عن أنس " أن امرأة كان في عقلها شيء فقالت : يا رسول الله إن لي إليك حاجة فقال : يا أم فلان انظري أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك ! فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها " . وأخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة ص 57 عن أنس مثله .

وأخرج مسلم (ج2 ص253) عن أنس – t– قال : " لما قدم رسول الله rالمدينة أخذ أبو طلحة – t – بيدي فانطلق بي إلى رسول الله rفقال : يا رسول الله ! إن أنساً غلام كيس فليخدمك قال : فخدمته في السفر والحضر ، والله ما قال لي لشيء صنعته : لم صنعت هذا هكذا ولا لشيء لم أصنعه : لم لم تصنع هذا هكذا ؟ وعنده أيضاً عن أنس قال : كان رسول الله r من أحسن الناس خلقاً فأرسلني يوماً لحاجة فقلت : والله لا أذهب وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله rفخرجت حتى أمر على الصبيان وهم يلعبون في السوق فإذا رسول الله rقد قبض بقفاي من ورائي ! قال : فنظرت إليه وهو يضحك فقال : يا أنس اذهب حيث أمرتك ! قال : قلت نعم أنا أذهب يا رسول الله ! قال أنس : والله لقد خدمته تسع سنين ما علمته قال لشيء صنعته : لم فعلت كذا وكذا ؟ ولشيء تركته : هلا فعلت كذا وكذا وعنده أيضاً عنه قال : خدمت رسول الله r عشر سنين ، والله ما قال لي أفاً قط ، ولا قال لي لشيء : لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا ؟ " .

وعند أبي نعيم في الدلائل صفحة 57 عن أنس – t – قال : " خدمت رسول الله r سنين فما سبني سبة قط ولا ضربني ضربة ولا انتهرني ولا عبس في وجهي ولا أمرني بأمر فتوانيت فيه فعاتبني عليه ، فإن عاتبني عليه أحد من أهله قال : دعوه ! فلو قدر شيء لكان " .

وأخرج البزار عن جابر – t – قال : " كان رسول الله r إذا أتاه الوحي أو وعظ قلت : نذير قوم أتاهم العذاب ، فإذا ذهب عنه ذلك رأيت أطلق الناس وجهاً وأكثرها ضحكاً وأحسنهم بشراً " . قال الهيثمي ج9 ص17 : إسناده حسن .

وأخرج البيهقي وابن النجار عن عائشة رضي الله عنها قالت : " جاءت عجوز إلى النبي r فقال لها : من أنت ؟ قالت : جثامة المزنية قال : بل أنت حنانة المزنية ، كيف أنتم ، كيف حالكم ؟ كيف كنتم بعدنا ؟ قالت بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله . فلما خرجت قلت : يا رسول الله ! تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال ! فقال : يا عائشة ! هذه كانت تأتينا زمان خديجة وإن حسن العهد من الإيمان " .

وأخرج البخاري في الأدب ص 188 عن أبي الطفيل – t– قال : " رأيت النبي r يقسم لحماً بالجعرانة وأنا يومئذ غلام أحمل عضو البعير فأتته امرأة فبسط لها ردائه . قلت من هذه ؟ قال : أمه التي أرضعته " .

وروى الطبراني عن الحسن بن علي – رضي الله عنهما – وقد سأل أباه عن بعض صفات رسول الله rفكان من سؤاله وجواب علي – t – ما يلي :

قال الحسن : وسألته عن مخرجه كيف كان يصنع فيه ؟ فقال : " كان رسول الله rيخزن لسانه إلا مما يعينهم ويؤلفهم ، ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم ، ويحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره ولا خلقه ، يتفقد أصحابه ، ويسأل الناس عما في الناس ، ويحسن الحسن ويقويه ، ويقبح القبيح ويوهيه ( يجعله ضعفياً واهياً بالمنع والزجر عنه ) معتدل الأمر غير مختلف لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يميلوا ، لكل حال عنده عتاد ، ولا يقصر عن الحق ولا يجوزه ، الذي يلونه من الناس خيارهم ، أفضلهم عنده أعمهم نصيحة ، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة " .

... قال : فسألته عن مجلسه كيف كان ؟ فقال : " كان رسول الله - r - لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر ، ولا يوطن الأماكن وينهى عن إيطانها ، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك ، يعطي كل جلسائه نصيبه ، ولا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه ، من جالسه أو قاومه في حاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه ، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو لميسور من القول . قد وسع الناس منه بسطه وخلقه فصار لهم أباً وصاروا له أبناء عنده في الحق سواء ، مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة ، لا ترفع فيه الأصوات ، ولا تؤبن ( تعاب ) فيه الحرم ، ولا تثنى فلتاته ( أي لا تشاع زلاته وهفواته والمراد لا فلتات في مجلسه ) متعادلين يتفاضلون فيه بالتقوى ، متواضعين يوقرون فيه الكبير ويرحمون الصغير ، يؤثرون ذا الحاجة ، ويحفظون الغريب " .

قال : فسألته عن سيرته في جلسائه فقال : " كان رسول rوسلم دائم البشر ، سهل الخلق ، لين الجانب ، ليس بفظ ( أي سيء الخلق ) ، ولا غليظ ، ولا سخاب ، ولا فحاش ، ولا عياب ، ولا مزاح ، يتغافل عما لا يشتهي ، ولا يوئس منه راجيه ، ولا يخيب فيه ، وترك الناس من ثلاث : كان لا يذم أحداً ولا يعيره ، ولا يطلب عورته ، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه ، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير ، وإذا تكلم سكتوا وإذا سكت تكلموا ، لا يتنازعون عنده الحديث ، يضحك مما يضحكون منه ويتعجب مما يتعجبون منه ، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته حتى إن كان أصحابه ليستحلبونه في المنطق ( وفي الكنز : ليستجلبونهم ) ، ويقول : إذا رأيتم صاحب حاجة فأرفدوه ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوز ، فيقطعه بانتهاء أو قيام "

هذه أمثلة من مواقفه rمع المؤمنين ، وتواضعه وخفض جناحه لهم ، ارجع بعد دراستها إلى الآية التي أمرته بذلك فهل تراه إلا قائماً بها حقاً ، وهل ترى إنساناً يبلغ عشر ما بلغه محمد rمن المجد ويبقى يعامل المستضعفين والكبار والصغار والرؤساء الأتباع هذه المعاملة على سواء ؟ وهل هذا وضع طبيعي للنفس البشرية لولا أن الله هذبها وكانت مؤمنة بالله فعلاً متصلة به حقيقة طائعة له طاعة فناء ؟ اللهم ما كان هذا ليكون لولا أن محمداً عبدك ورسولك .

د – نماذج من تنفيذه صلى الله عليه وسلم للأمر الرابع

{ياأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} :

إن خلق الرحمة عند رسول الله rلا يدانيه فيه أحد من خلق الله . أخرج الشيخان عن أنس أن نبي الله قال : " إني لأدخل الصلاة وأنا أريد أن أطيلها ، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مما أعلم من وجد أمه من بكائه " . ووسعت رحمته الناس حتى قال الله تعالى له : {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} وقد ظهرت هذه السجية على طبيعتها يوم فتح مكة ؛ إذ عفا عن أهلها بعد أن فعلوا فيه ما فعلوا . كما ظهرت على سجيتها بعد انتهاء غزوة بدر وأسر الأسرى ، ولم يكن نزل عليه من أمر الله في القضية شيء ، وإنما هو الاجتهاد الذي أذن فيه لرسول الله rفي هذه القضايا ، وكان أمام الرسول اقتراحان في شأن الأسرى : اقتراح أبي بكر واقتراح عمر ، وكان اقتراح أبي بكر أخذ الفداء وإطلاق السراح ، وكان اقتراح عمر القتل حتى يعلم الله أنه ليس في قلوب المسلمين رحمة بالكافرين ، وأخذ رسول الله rبرأي أبي بكر لأنه أقرب لطبعه ، وهو الذي لاقى من قومه ما لاقى ، ثم إن الله عاتبه في هذه القضية على اللين ، وليس من إثم ولكن الله يريد أن يأخذ رسوله بالحزم فقال له : {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىا حَتَّىا يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} ثم نزلت أوامر الله تطالب رسول الله rبالجهاد والشدة الغلظة على الكافرين ، فأصبحت ترى رسول الله rبعد هذه الرحمة الكبيرة والصبر الطويل والتحمل الكثير والمسالمة الدائمة ؛ المقاتل الشديد والمنفذ الذي جعل طاعة الله فوق كل عواطفه ، بل حتى عواطفه هي تنفيذ لأمر الله , واستعراض بسيط لحياته الحربية عليه الصلاة والسلام يرينا أن هذا النوع من القتال الذي خاضه عليه الصلاة والسلام ما كان ليكون من صنع بشر ، لولا أن هذا الإنسان ينفذ أمر الله ، معتمداً عليه ، فإنه ما من مقدمة في حياة الرسول rتشير إلى مثل هذه النتائج ، لولا أن المسألة ربانية الطريق بدءاً وختاماً ، أسلوباً وتنفيذاً . ربٌ يأمر وعبد رسول ينفذ .

يؤمر ألا يخشى شيئاً فلا يخاف إلا الله ، ويؤمر بأن يتوكل على الله ويعتمد عليه وحده ، فيدخل أي معركة بما يتوفر له من قوة دون خوف من أي حشد يقابله ، ويؤمر بألا يكون في قلبه رحمة بالكافرين فيضربهم حتى يستأصلهم ، ويؤمر بمتابعة القتال فيقاتل ولما يسترح ، ويؤمر بالعمل المتواصل حتى يخضع أعداء الله فلا يكاد ينتهي من تهيئة غزوة إلا إلى غيرها ، ومن إخضاع منطقة إلا إلى منطقة أخرى . وهكذا حتى يضع أتباعه على الطريق لإخضاع العالم بعده لسلطان الله .

كان عدد أصحابه يوم بدر ثلاث مائة وخمسة عشر رجلاً ، وعدد المشركين حوالي ثلاثة أضعاف تفوقهم بالعدة ، ويدخل الرسول rالمعركة وينتصر فيها ولا يعتمد إلا على الله.

روى مسلم وأبو داو والترمذي عن عائشة – رضي الله عنها – قالت : " خرج رسول الله r قبل بدر فلما كان بحَرَّة الوبر أدركه رجل قد كان يذكر منه جرأة ونجدة ، ففرح أصحاب رسول الله r حين رأوه ، فلما أدركه قال لرسول الله r : جئت لأتبعك وأصيب معك ، فقال r: تؤمن بالله ورسوله ؟ قال : لا . قال : فارجع فلن أستعين بمشرك . قالت : ثم مضى حتى إذا كان بالشجرة أدركه الرجل فقال : كما قال أول مرة . فقال له rكما قال أول مرة ، قال فارجع فلن أستعين بمشرك . ثم رجع فأدركه بالبيداء . فقال له كما قال أول مرة . وقال : هل تؤمن بالله ورسوله ؟ قال : نعم . قال : فانطلق . فانطلق معه " .

وروى مسلم عن أبي الطفيل – t – قال : قال حذيفة بن اليمان – t- : " ما منعني أن أشهد بدراً إلا أني خرجت أنا وأبي الحسيل ، فأخذنا كفار قريش فقالوا : إنكم تريدون محمداً ، فقلنا : ما نريد إلا المدينة ، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه أن لا نقاتل معه ، فلما أتينا المدينة ذكر ذلك له rفقال : انصرفا نفي لهم ونستعين بالله تعالى عليهم " .

وأخرج الشيخان واللفظ لمسلم عن أنس – t– قال : " كان رسول الله rأحسن الناس ، وكان أجود الناس ، وكان أشجع الناس ، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة ، فانطلق ناس من قبل الصوت ، فتلقاهم رسول الله rراجعاً وقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرس لأبي طلحة – t– عري في عنقه السيف وهو يقول : لم تراعوا ، قال : وجدناه بحراً أو إنه لبحر ، وكان فرساً يبطئ " . وأخرج البخاري عن أبي إسحاق : سمع البراء بن عازب – t – وسأله رجل من قيس أفررتم عن رسول الله يوم حنين فقال : " لكن رسول الله rلم يفرر " .

والمعروف أن رسول الله tثبت في حنين في عشرة من أصحابه ، أدار بهم المعركة التي فر فيها أثنا عشر ألفاً ثم كان النصر بعد الهزيمة . وفي غزوة أحد كان المشركون أضعاف المسلمين ودخل الرسول rالمعركة , وأفشل المعركة بعض المتسرعين الذين لم يلتزموا خطة رسول الله r وأصيب المسلمون يومها إصابات كثيرة وانفصل الجيشان ورجع كل إلى بلده ، ولكن رسول الله rما كاد يصل إلى المدينة حتى أمر من دخل المعركة بالجهاز السريع فخرجوا بجراحهم وآلامهم ، وساروا وراء قريش ، فبلغ قريشاً الخبر ففرت وتحولت الهزيمة إلى انتصار ، وأكثر من هذا أنه قطع على قريش خط الرجعة إذ فكروا وهم عائدون أن يرجعوا إلى المدينة ليدخلوها فاتحين مستأصلين لجذور الإسلام . مع ملاحظة أن رسول الله بقي يقاتل يوم أحد حتى كف المشركون أنفسهم عن القتال ولم يفر رسول الله rأبداً .

وفي غزوة الأحزاب تجمعت الجزيرة العربية كلها لحرب رسول الله r، ونقض يهود بني قريظة عهدهم مع رسول الله r، وأصبح المسلمون في وضع لا يطيقه أحد من البشر ، يتهددهم الخطر من جوانب لا تعد ، وثبت رسول الله rحتى انسحبت الأحزاب ، ولم يتمهل رسول الله rبعد انسحابهم حتى سار إلى قريظة لتأديب هؤلاء الناكثين للعهد فحاصرهم حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ حليفهم بالجاهلية فأخذ سعد العهد عليهم وعلى رسول الله rبأن يلتزموا حكمه فأعطوه ، فحكم سعد أن تقتل رجالهم وتسبى نساؤهم وذراريهم ، فقتل رسول الله rمنهم في يوم واحد أربعمائة رجل صبراً . وهاجم الدولة الرومانية وهي يومها من هي وقوته لم تبلغ إلا قليلاً مما فتح لأصحابه بعد ذلك أن يدخلوا معاركهم مع الدولة الرومانية والدولة الفارسية بآن واحد على قلة في العدة العدد وانتصروا بتلك الشعلة التي أشعلها فيهم الله على يد رسوله r، ويكفي أن تعلم أن رسول الله r غزا بنفسه – كما يروي مسلم – تسع عشرة غزوة ، هذا عدا عن السرايا والبعوث الحربية التي كان يرسلها . هذا مع أن بقاءه في المدينة كان مدته عشر سنوات فقط .

والحديث عن غزواته طويل جداً نجده مفصلاً في كتب السيرة. ويكفي أن نذكر أن من آثارها أن وحّد الجزيرة العربية كلها ، بيمنها وحجازها ونجدها وسواحلها ، حتى لم يبق فيها شبر لم يخضع لسلطان الله ، وفتح لأتباعه طريق العمل العالمي . من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا .ونحن هنا لا نريد التفصيل وإنما نريد فقط إبراز ما به يظهر التطبيق الكامل لما أمر به رسول الله r وهو بالتالي ما دعا إليه فكان في كل شيء لا تخالف أعماله دعوته .

هـ - نماذج من تطبيقه صلى الله عليه وسلم للأوامر في المثال الخامس :

{كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} . {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} .

أخرج البخاري عن عروة : أن امرأة سرقت في عهد رسول الله r في غزوة الفتح ، ففزع قومها إلى أسامة بن زيد يستشفعونه قال عروة : " فلما كلمه أسامة فيها تلون وجه رسول الله وقال : أتكلمني في حد من حدود الله تعالى ؟ فقال أسامة : استغفر لي يا رسول الله . فلما كان العشي قام رسول الله rخطيباً فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال : أما بعد فإنما هلك الناس أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد . والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ، ثم أمر رسول الله rبتلك المرأة فقطعت يدها ، فحسنت توبتها بعد ذلك وتزوجت ، قالت عائشة : كانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله " .

وأخرج أبو داود عن العرباض بن سارية السلمي قال :

" نزلنا مع رسول الله r قلعة خيبر ومعه من معه من المسلمين ، وكان صاحب خيبر رجلاً مارداً متكبراً ، فأقبل إلى النبي فقال : يا محمد ألكم أن تذبحوا حمرنا وتأكلوا ثمرنا وتضربوا نساءنا ؟ فغضب رسول الله rوقال : يا ابن عوف اركب فرسك ، ثم ناد أن الجنة لا تحل إلا لمؤمن ، وأن اجتمعوا للصلاة . فاجتمعوا ثم صلى بهم ثم قام فقال : أيحسب أحكم متكئاً على أريكته قد يظن أن الله تعالى لم يحرم شيئاً إلا ما في القرآن ، إلا إني والله لقد وعظت وأمرت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر ، وإن الله تعالى لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن ، ولا ضرب نسائهم ، ولا أكل ثمارهم ، إذا أعطوا الذي عليهم " .

وأخرج ابن عساكر عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي أنه " كان ليهودي عليه أربعة دراهم فاستعدى عليه فقال : يا محمد ! إن لي على هذا أربعة دراهم وقد غلبني عليها ، قال: أعطه حقه . قال : والذي بعثك بالحق ما أقدر عليها . قال : أعطه حقه . قال : والذي نفسي بيده ما أقدر عليها . قد أخبر أنك تبعثنا إلى خبير فأرجو أن تغنمنا شيئاً فارجع فأقضيه ، قال: أعطه حقه . وكان رسول الله r إذا قال ثلاثاً لم يراجع . فخرج ابن أبي حدرد إلى السوق وعلى رأسه عصابة وهو متزر ببردة ، فنزع عن رأسه فاتزر بها ونزع البردة فقال : اشتر مني هذه البردة ، فباعها منه بأربعة دراهم ، فمرت عجوز فقالت : ما لك يا صاحب رسول الله ؟ فأخبرها ، فقالت : ها دونك هذا البرد لبرد عليها طرحته عليه " وأخرجه أحمد أيضاً .

وأخرج ابن ماجه عن أبي سعيد قال : " جاء أعرابي إلى النبي rيتقاضاه ديناً كان عليه فاشتد عليه حتى قال : أحرج عليك إلا قضيتني ، فانتهره أصحابه فقالوا : ويحك تدري من تكلم ؟ فقال : إني أطلب حقي ، فقال النبي r هلا مع صاحب الحق كنتم ، ثم أرسل إلى خولة بنت قيس فقال لها : إن كان عندك تمر فأقرضينا حتى يأتينا تمر فنقضيك فقالت : نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، فاقترضه فقضى الأعرابي وأطعمه فقال : أوفيت أوفى الله لك فقال : أولئك خيار الناس ، إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حق غير متعتع .

وأخرج أبو داود عن أسيد بن حضير : " أن رجلاً من الأنصار كان فيه مزاح ، فبينما هو يحدث القوم ويضحكهم إذ طعنه النبي r في خاصرته بعود كان في يده فقال : اصبرني يا رسول الله ( أي مكني من نفسك لأقتص منك ) قال : اصطبر فقال : إن عليك قميصاً وليس علي قميص ، فرفع النبي rقميصه فاحتضنه وجعل يقبل كشحه ( الكشح ما وفق شد الإزار من جانب البطن ) وقال : إنما أردت هذا يا رسول الله " .

أخرج الطبراني عن عبد الله بن سلام بإسناد رجاله ثقات قال :

" لما أراد الله هدي زيد بن سعنة ، قال زيد بن سعنة : ما من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه ؛ يسبق حلمه جهله ، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً ، قال زيد بن سعنة : فخرج رسول الله r يوماً من الحجرات ومعه علي بن أبي طالب ، فأتاه رجل على راحلته كالبدوي فقال : يا رسول الله ! لي نفر في قرية بني فلان قد أسلموا ودخلوا في الإسلام ، وكنت حدثتهم إن أسلموا أتاهم الرزق رغداً ، وقد أصابتهم سنة وشدة وقحط من الغيث ، فأنا أخشى عليهم يا رسول الله أن يخرجوا من الإسلام طمعاً كما دخلوا فيه طمعاً ، فإن رأيت أن ترسل إليهم بشيء تغيثهم به فعلت ، فنظر إلى رجل بجانبه أراه علياً فقال : يا رسول الله ما بقي منه شيء ، قال زيد ابن سعنة : فدنوت إليه فقلت يا محمد هل لك أن تبيعني تمراً معلوماً في حائط بني فلان إلى أجل معلوم ، إلى أجل كذا وكذا ، قال : لا تسمي حائط : بني فلان ، قلت : نعم فبايعني ، فأطلقت همياني فأعطيته ثمانين مثقالاً من ذهب في تمر معلوم إلى أجل كذا وكذا فأعطاها الرجل ، وقال : اعدل عليهم وأغثهم ، قال زيد بن سعنة : فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاث خرج رسول الله rومعه أبو بكر وعمر وعثمان في نفر من أصحابه ، فلما صلى على الجنازة ودنا إلى الجدار ليجلس إليه ، أتيته فأخذت بمجامع قميصه وردائه ونظرت إليه بوجه غليظ قلت له : يا محمد ألا تقضيني حقي ، فوالله ما علمتم بني عبد المطلب إلا مطلاً ، ولقد كان بمخالطتكم علم . ونظرت إلى عمر وعيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير ثم رماني ببصره فقال : يا عدو الله أتقول لرسول الله rما أسمع ؟ وتصنع به ما أرى ؟

فوالذي نفسي بيده لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي رأسك ، ورسول الله r ينظر إلي في سكون وتؤدة ، فقال : يا عمر أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا ؛ أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن ابتاعه ، اذهب به يا عمر فأعطه حقه وزده عشرين صاعاً من تمر مكان مارعته . قال زيد : فذهب بي عمر فأعطاني حقي وزادني عشرين صاعاً من تمر . فقلت : ما هذه الزيادة يا عمر ؟

قال : أمرني رسول الله r أن أزيدك مكان مارعتك ، وقال : وتعرفني يا عمر ؟ قال : لا . قلت : أنا زيد بن سعنة . قال : الحبر . قلت : الحبر . قال فما دعاك إلى أن فعلت برسول الله ما فعلت ؟ وقلت له ما قلت ، قلت : يا عمر ! لم يكن من علامات النبوة شيئاً إلا وقد عرفت في وجه رسول الله rحين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه ؛ يسبق حلمه جهله ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً ، وقد اختبرتهما ، أشهدك يا عمر أني قد رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ نبياً ، وأشهدك أن شطر مالي – فإني أكثرها مالاً – صدقة على أمة محمد r، قال عمر : أو على بعضهم فإنك لا تسعهم ، قلت أو على بعضهم . فرجع عمر وزيد إلى رسول الله rفقال زيد : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وآمن به وصدقه وبايعه ، وشهد معه مشاهد كثيرة ، ثم توفي في غزوة تبوك مقبلاً غير مدبر – رحم الله زيداً " .

من هذه الآثار يتبين كيف قام رسول الله بالقسط ، وأقامه على نفسه وأتباعه وأصحابه بلا محاباة ولا مداراة ولا مداهنة ، فكان في القمة التي لا يرقى إليها راق في تنفيذ أمر الله وتطبيقه .

هذه نماذج رأينا فيها تنفيذاً لخمسة أوامر قام بها رسول الله r بالشكل الذي لا يبقى معه مزيد لمستزيد ، وهذا الذي رأيناه هنا هو الذي نراه في كل أمْرٍ أمَرَ الله به عباده ، حتى إن عائشة لما وصفت خلق رسول الله rقالت : " كان خلقه القرآن " وهذا واقع لا يعرفه حق المعرفة إلا من درس القرآن ودرس معه سيرة رسول الله تفصيلاً ، فإنه يرى بوضوح أنه ما من أمر وجهه الله لخلقه إلا وكان رسول الله أعظم الخلق تنفيذاً له وتطبيقاً ، بلا تفريط في أمر من أوامر الله ، وأي أمرٍ من أوامر الله درست تنفيذ رسول الله rله دلك هذا التنفيذ على أن محمداً رسول الله ، وقد رأيت في الأمثلة الماضية هذه النماذج العالية من الالتزام الرائع الذي يجعلك كل موقف من مواقفه تستبعد وقوعه من غير رسول ، أو تابع رسول يقتدي به ، وهذه الصفة التي مرت معنا هي التي يسميها علماء المسلمين الأمانة ، إذ الأمانة عندهم تعني القيام بما كلف الله به عباده أخذاً من قوله : {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} فالأمانة هي التكليف ، وحملها هو إقامة ما كلف الله به عباده , والرسل هم قدوة البشر في القيام بأمر الله ، فلا بد أن يكونوا أكثر الخلق أمانة أي التزاماً صادقاً بما يدعون الخلق إليه نيابة عن الله ، ووجود هذا الالتزام بما يدعو إليه الخلق من فضائل هو رسول الله رب العالمين .

... والآن وقد وضح أن لرسول الله - r- الحظ الأعلى من الصفة الثانية التي ينبغي أن يتصف بها كل من كان رسولاً لله حقاً ، فلننتقل إلى الصفة الأساسية الثالثة لكل رسول وهي تبليغ دعوة الله مهما كانت الظروف ، لنرى كذلك أن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحظ الأعلى منها ، ونرى في كل موقف من مواقفه فيها ما يثبت أنه رسول الله حقاً .

الشيخ سعيد حوا

(1) رواه مسلم .

(2) الأحزاب : 73 .

المصدر