اِعْدِلوا بينَ أَوْلادِكم
بقلم: الشيخ نزيه مطرجي
أولادُنا فِلذاتُ أَكبادنا وثَمراتُ قلوبنا، قُرَّةُ العُيون وبهجةُ النّفوس، مُتْعتُنا في صِبانا ومُنْيتُنا في كِبَرنا، من حقّهم علينا أن نقيم العدل فيهم، وأن نحقّق المساواة بينهم.
إن الرحمة لا تتجلّى في حياة العباد، ولا تتجسّد في أعمالهم، إلا أن تكون مَغْروسة في نفوسهم، تجري بها عروقُهم، وتنبُض بها قلوبهم.
وقد أمر الله تعالى بالتراحم، ووصف المؤمنين بأنهم {أَشدّاءُ على الكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ} الفتح 29. وأَوْلى الخَلْق بالتراحم والتعاطف ذَوو الأرحام، «فالرَّحِمُ شُجْنَةٌ من الرّحمن، مَن وَصَلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله» رواه الترمذي.
قَبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحَسن والحُسين يوماً، فرآه الأَقرعُ بنُ حَابِس، فعجب لذلك، وقال: إن لي عَشرةً من الولد ما قبّلت أحداً منهم قط! فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «من لا يَرْحم لا يُرحَم، أَوَ أَملِكُ أن نَزَع الله الرَّحمة من قلبك» رواه البخاري.
هذه الرّحمة الفطريّة بالأطفال التي تسكُبها نفوسُ الآباء والأمهات على الأبناء، عَفْواً بلا تكلُّف، كما يسْكُبُ البَدْر لُجَيْنَهُ على صَفحة الماء، وكما يُرسل الزّهر عِطره في الهواء، لا تَستكملُ عُدَّتها، ولا تبلغ غايتها إلا بإقامتها على قاعدة العدل بين الأولاد.
إن النبي الأكرم محمداً صلى الله عليه وسلم الذي أَدَّب المسلمين فأحسن تأديبَهم، وربّاهم على عينه، أمرهم أن يتَّقوا الله ويَعْدِلوا بين أولادهم، فإنّ من أعظم العوامل في انحراف الأولاد، المفاضلة بينهم في المحبة والمعاملة والعطاء، ورد في الحديث: «ساوُوا بين أولادِكم في العَطيّة» أخرجه الطبراني.
وروى البخاري ومسلم عن النّعمان بن بشير أن أباه أتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نَحَلْتُ ابني هذا نِحلة (أي أعطيته عطاءً), وأراد أن يُشهِد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، فقال له، أَلَكَ ولد سوى هذا؟
فقال: نعم، فقال: أَكلُّهم وهبتَ له مثل هذا؟ قال: لا، قال: فلا تُشْهِدْني إذاً، فإني لا أَشهد على جَوْر, ثم قال: أَيَسُّرُّك أن يكونوا لك في البرّ سواءً؟ قال: بلى! قال النبي صلى الله عليه وسلم: فلا إذاً، وقال له: «اتَّقُوا الله واعْدِلوا بين أولادكم!». فهذا شاهد على وجوب العدل في العطاء.
وروى أنس أن رجلاً كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فقبَّله, وأجلسه على فَخِذه، وجاءت ابنة له فَأَجلَسها بين يَدَيْه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «فما عَدَلتَ بينهما!» أخرجه البيهقي، وهذا شاهد على وجوب العدل في المعاملة.
إن للعدل والمساواة بين الأولاد أثراً طيّباً في حبّ الأبناء للآباء، وفي طاعتهم والبِرِّ بهم, وأما التنكّر لهذه السُّنَّة النبويّة، والقاعدة التربوية، بالتمييز بين الأبناء، والمفاضلة في المعاملة، فإنه يُحدِث أسوأ النتائج، وأَوْخَمَ العواقب، بما يسبِّب من الانحرافات السلوكية، والعُقَد النفسية عند الأبناء، وبما يولِّد من شعور بالحسَد والبغضاء، فيفجّر مشاعر الرغبة بطلب الإيذاء والانتقام، كما فعل إخوة يوسف لمّا رأوا مَيْل أبيهم يعقوب عليه السلام إلى يوسف، فإنهم رموا أباهم بالضّلال {إِذْ قََالوا لَيُوسُفُ وأَخوهُ أَحَبُّ إلى أبينا منّا ونحن عُصبةٌ إنّ أَبانا لَفي ضَلالٍ مُبينٍ} يوسف 80، وحبكوا مؤامرة إبعاد يوسف من أبيهم وإلقائه في الأخطار، ليطفئوا ما في الصدور من جمرات النّار!.
ذكر العلماء أن من آثار التفريق في المحبة أو المعاملة أو العطاء، أنه يورثُ الخوف والخجل، والبكاء والانطواء، والعصيان وحبَّ الاعتداء، ويؤدي إلى المخاوف الليليّة، والظواهر العصبيّة، ومُركَّبات الشعور بالنقصان. كل ذلك كان معلوماً لدى المربّي الأوّل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فعاجَل الأمة بإرشادها إلى اتّباع العلاج الناجع، بالعدل والمساواة كما قال صلى الله عليه وسلم: «سَاوُوا بين أولادكم في العَطيَّة» رواه الطبراني، وبدعوة الآباء والأمهات إلى أن يُعينوا أولادَهم على بِرِّهم بحسن معاملتهم فقال: «رحمَ الله والداً أَعانَ ولده على بِرِّه» رواه ابن حبّان.
ويبدو أن الجاهلية لم تغادر هذه الديار قبل أن تترك في نفوس أهل الجهل من الرجال والنساء بعضاً من مساوئ الآثار، فلا نزال نجد في هذا الزمان رؤوساً عَفِنة، ونفوساً مريضة من آباء وأمّهات، يكرهون البنات، ويحزنون إذا وهبهم الله الإناث، ويُصابون بما يُصاب به أهلُ الجاهلية الذين وصفهم الله تعالى بقوله: {وإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُم بالأُنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وهو كَظيمٌ. يَتوارى من القَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ...} النحل 58-59, ولا يختلف صنيعهم عن صنائع سالِف العَهْد إلا بالامتناع عن الوَأْد.
رُويَ أن ابن عمر لقي رجلاً كان عنده بنات، فتمنّى موتَهنّ! فغضب ابن عمر فقال له: أَنتَ ترزُقهنّ؟! وورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تَكْرهوا البنات فإنهنّ المُؤنِساتُ الغاليات» أخرجه أحمد.
ومن المبشِّرات النبوية لمن رزقه الله إناثاً قوله صلى الله عليه وسلم: «من كان له ثلاثُ بنات فأدَّبهنّ وأحسن إليهنّ وزوجهنّ فله الجنة!» أخرجه أبو داود, وقد سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: واثنتين؟ قال: واثنتين.
إن تربيتنا إن لم تصدر من مِشْكاة النبوّة، فيكون سَداها الرّحمة ولُحْمتُها العدالة، فإننا بذلك نجني على التربية من حيث لا ندري، ونكون في تنشئة أولادنا ذُكوراً وإناثاً، كالتي نقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بعدِ قُوّةٍ أَنْكَاثاً!
المصدر
- مقال:اِعْدِلوا بينَ أَوْلادِكمموقع: الجماعة الإسلامية فى لبنان