انقضوا أو انفضوا

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
انقضوا أو انفضوا

17 يوليو، 2008

بقلم : الأستاذ / فهمي هويدي


فضيحة تسريب أسئلة الامتحانات في مصر خلال شهر يونيو الماضي‏,‏ نكسة كاشفة لفشل نظامنا التعليمي‏,‏ بقدر ما كانت هزيمة يونيو‏67‏ نكسة كشفت نظامنا السياسي‏.‏

(1)‏ نكستنا التعليمية خبر سيئ لا ريب‏,‏ لكن الأسوأ منه أن نهون من شأنها‏,‏ ذلك أنني أزعم أن تلك النكسة تبدو من بعض الزوايا أخطر من هزيمتنا العسكرية قبل أربعين عاما‏,‏ فنحن في عام‏67‏ هزمنا ولم ننكسر‏,‏ وخسرنا جولة لكننا لم نخسر المعركة التي حققنا فيها إنجازا بالعبور الذي تم في‏73,‏ وفي كل الأحوال فإنها اعتبرت هزيمة للإدارة السياسية في حاضر ذلك الزمان‏,‏ لكننا اذا دققنا في نكستنا التعليمية فسنجد أنها هزيمة للحاضر والمستقبل‏,‏ من شأنها أن تحدث انكسارا في مسيرة الوطن يتعذر التعافي منه في الأجل المنظور‏.‏

إن النكسة العسكرية تدمر الجيش‏,‏ أما النكسة التعليمية فتدمر المجتمع‏,‏ في الأولي يقتلنا العدو‏,‏ وفي الثانية نقدم بأنفسنا علي الانتحار‏,‏ وضحايا النكسة الأولي هم شهداء يظلون أحياء عند ربهم يرزقون‏,‏ أما ضحايا النكسة الثانية فإنهم يصبحون معاقين ومشوهين يعانون من الخواء والعجز‏,‏ ويتحولون الي جيش من الموتي الذين يمشون علي الأرض بغير هدي ولا عقل منير‏,‏ أما القاسم المشترك الأعظم بين النكستين فيتمثل في أنهما بمثابة تهديد مباشر للأمن القومي المصري‏,‏ بل والعربي أيضا‏,‏ ذلك أنهما يستهدفان أمرا واحدا هو إضعاف قدرة الوطن علي الدفاع عن نفسه أو النهوض بأمره‏.‏

لقد اهتزت مصر حين وقعت نكسة يونيو عام‏67,‏ حتي قدم بعض المسئولين عنها الي المحاكمة‏,‏ لكن نكستنا التعليمية قوبلت بهدوء مدهش‏,‏ وبسلوك بيروقراطي محير‏,‏ إذ في حدود ما هو معلن فإن الأمر ترك للنيابة العامة لتحديد من الذي باع الأسئلة ومن الذي اشتري‏,‏ في حين أعادت وزارة التربية النظر في نظام توزيع الأسئلة حتي لا يتكرر التسريب مرة أخري‏,‏ وحاولت جهات عدة أن تجيب علي مختلف علامات الاستفهام التي تثيرها القضية‏,‏ من ومتي وكيف وأين‏,‏ لكن أحدا لم يتحر إجابة السؤال الكبير‏:‏ لماذا وصل بنا الحال الي ذلك الدرك المشين؟ قبل أيام قليلة قرأنا أن جنديا فرنسيا أطلق النار خطأ في أثناء عرض عسكري في مدينة كاركاسون‏,‏ فأصابت رصاصاته بعض الأشخاص الذين كانوا يشاهدون العرض‏,‏ فسارع رئيس الأركان‏(‏ الجنرال بونو كوشيه‏)‏ الي تقديم استقالته من منصبه في اليوم التالي مباشرة‏,‏ وأعلن أن الرئيس الفرنسي قبل الاستقالة‏,‏ أما عندنا فالرصاصات أصابت أغلب المصريين جراء النكسة التعليمية الأخيرة‏,‏ ولم يتزحزح أحد عن مقعده في قيادة أركان التعليم العام‏,‏ وبرر ذلك وزير التعليم بتصريح قال فيه إنه لا يريد الهروب من المعركة‏!.‏

(2)‏ ليست هذه مصر التي عرفناها أو التي حلمنا بها‏,‏ هكذا قال الدكتور حامد عمار‏(87‏ سنة‏),‏ شيخ التربويين الذي حصل أخيرا علي جائزة مبارك للعلوم الاجتماعية‏,‏ في شهادة مثيرة له وردت في ثنايا كتابه الأخير أعاصير الشرق الأوسط وتداعياتها السياسية والتربوية‏,‏ اعتبر الدكتور عمار أن كارثة التعليم في مصر ضمن الأعاصير التي ضربت المنطقة‏,‏ وعبر في شهادته عن شعور بالمرارة وخيبة الأمل إزاء سياستنا التعليمية التي اعتبر أن استمرارها من شأنه أن يفضي فيما بين خمس وسبع سنوات الي ضياع بوصلة الوطن‏,‏ ومن ثم الي بدايات التفكك المدمر‏.‏ انتقد الدكتور عمار بشدة فكرة تحرير التعليم التي تعني رفع يد الدولة عن ذلك المرفق الحيوي وثيق الصلة بقوام الدولة وهويتها وحلمها‏,‏ وقال إن معاملة التعليم وكأنه مجرد نشاط اقتصادي أو تجاري يمكن تحريره ينم عن سوء تقدير بالغ ونظرة قاصرة‏,‏ وحذر من الانسياق وراء هذه الموجة‏,‏ خصوصا اذا كان للجهات الأجنبية دور في مسعي تحرير التعليم‏,‏ الأمر الذي يشكك في جدوي المحاولة‏,‏ لأن تلك الجهات لا تقدم ملايينها وخبراتها لوجه الله‏,‏ علما بأن الخبرة المصرية لا تنقصها الكفاءات التي تستطيع أن تنهض بالتعليم بما يحقق المصلحة الوطنية‏,‏ وقال الدكتور عمار إن التعليم ينبغي أن يعامل بحسبانه إحدي جبهات الأمن القومي‏,‏ وأحد معاقل الدفاع والمقاومة التي تتصدي لكل ما يواجه البلد من تحديات ومخاطر‏,‏ ذلك أنه في حقيقته قطاع سيادي ليس أقل أهمية من الجيش والشرطة والسياسة الخارجية‏.‏

انتقد أستاذنا بشدة دخول القطاع الخاص في مجال التعليم واعتباره تجارة مربحة‏,‏ منذ صدور قانون إطلاق حرية الاستثمار في عام‏1974,‏ وحذر من مغبة وجود أربعة نظم تعليمية متنافسة في الساحة المصرية‏,‏ ما بين تعليم رسمي وأزهري وخاص وأجنبي‏,‏ ولكل نظام تعليمي مستوياته التي تبدأ برياض الأطفال وتنتهي بالجامعة‏,‏ فضلا عن أن له مناهجه وثقافته ولغته‏,‏ الأمر الذي يمهد لتفكيك الواقع المصري وتشويه مدارك الأجيال الجديدة‏,‏ وهي التي تتوزع في مرحلة التعليم العالي علي جامعات مصرية حكومية وخاصة‏,‏ وأخري أمريكية وفرنسية وألمانية وبريطانية وكندية وروسية‏..‏الخ‏.‏نبه الدكتور عمار أيضا‏,‏ الي أن الاختلاف في لغة التعليم ليس أمرا ثانويا‏,‏ لأن اللغة ليست مجرد أداة للتواصل‏,‏ ولا هي وعاء للمعني‏,‏ لكنها جزء في نسيج التفكير وخامة من خامات الوعي‏,‏ ومن أهم العوامل في تشكيل الهوية القومية‏,‏ ومن ثم يؤدي ذلك التباين اللغوي‏,‏ مضافا إليه مضامين التعليم ومناهجه الخفية الي شيوع توجهات الثقافة السوقية التي تشكل إنسانا سوقيا لا مواطنا مصريا عربيا‏.‏في ختام شهادته ذكر الدكتور عمار‏,‏ أن نظام التعليم في مصر يؤدي الي تشويش ثقافتنا‏,‏ ودفعها نحو الفوضي المدمرة‏,‏ والي تفكيك أواصر المجتمع وإضعاف خامة نسيجه‏,‏ الأمر الذي يستوجب دق أجراس الخطر للتحذير من حدوث ذلك التفكيك البائس‏.‏

(3)‏ لم نعد بحاجة لأن نكتب ونحلل ونحذر‏,‏ وانما أصبحنا في حاجة لأن نصرخ طالبين النجدة‏,‏ هذا هو رأي شيخ آخر من شيوخ التربية في مصر‏,‏ هو الدكتور سعيد إسماعيل علي أستاذ أصول التربية بجامعة عين شمس‏,‏ وله ثلاثة كتب في الأزمة صدرت هذا العام‏,‏ عناوينها تدل علي محتواها‏,‏ وهي كالتالي‏:‏ الفساد في التعليم وواتعليماه وجامعات تحت الحصار‏,‏ وكتابه الفساد في التعليم‏(300‏ صفحة‏)‏ يجمع شهادات تتبعت مظاهر الأزمة‏,‏ التي قدم لها بدعوته الي الصراخ وطلب النجدة‏,‏ وعنوان الكتاب كما أشار مؤلفه كان عنوانا لندوة عقدت بمكتبة الاسكندرية في شهر فبراير‏2007,‏ بمشاركة من بعض قيادات الحزب الوطني ـ الأمر الذي يعني أن حدوث الفساد أصبح أمرا مسلما به من الجميع ـ ومن ثم فإن أحدا لم يعد يسأل عن وجوده من عدمه‏,‏ ولكن الكلام بات منصبا علي مظاهره ونطاقه‏,‏ ومن الأوراق التي قدمت الي تلك الندوة تقرير أعده فريق من الباحثين بإشراف الدكتور سعيد عبدالحافظ تضمن حشدا من الوقائع الصاعقة التي تحدثت عن مظاهر الانحراف بين رجال الهيئة التعليمية ذاتها‏,‏ من اختلاس الي تزوير وغش وتبديد‏,‏ تفشت بين المعلمين ومديري المدارس وبعض كبار المسئولين في وزارة التربية‏,‏ وبعد أن استعرض بعض تلك الوقائع قال المؤلف إنها مجرد قطرات في بحر واسع‏!‏

من النقاط المهمة التي ذكرها الدكتور سعيد إسماعيل أن الفساد في التعليم ينبغي أن ينظر إليه باعتباره مشكلة مجتمعية وليس مشكلة قطاع التعليم وحده‏,‏ لأن الأساتذة والمديرين وغيرهم مواطنون قبل أن يكونوا موظفين‏,‏ وسلوكهم يتأثر بالبيئة الاجتماعية التي يعيشون فيها بأكثر مما يتأثر بالمحيط الوظيفي‏.‏ من النقاط الأخري المهمة التي تحدث عنها أن مصر لم يعد فيها تعليم‏,‏ وانما فيها تلقين‏,‏ فالطالب يذهب الي المدرسة لا لكي يتعلم‏,‏ ولكن لكي يختزن أكبر عدد من المعلومات تساعده علي النجاح والحصول علي الشهادة‏,‏ وفي دراسة أخري أجريت علي طلاب حصلوا علي الدرجات النهائية في مادة الكيمياء مثلا في الثانوية العامة‏,‏ تبين أنهم حصلوا علي درجات ضعيفة وبائسة في نفس المادة حين التحقوا بالجامعات‏,‏ لأنهم في الثانوية العامة دربوا علي الحفظ‏,‏ وكيفية الاجابة علي الأسئلة‏,‏ ولم يدرسوا المادة ولا تعلموا منها شيئا‏,‏ الأمر الذي يعني أن حصول الطالب علي درجة عالية لا يعني بالضرورة أنه تعلم بدرجة عالية‏,‏ ويعني أيضا أننا نعيش حالة من التفوق الكاذب‏,‏ حتي أصبحنا بإزاء حالة فريدة نمثل فيها التعليم ولا نمارسه‏,‏ وليت الأمر يقف عند ذلك الحد‏,‏ لأننا نحتفظ بمدارس تنعدم فيها الامكانات‏,‏ ونزدري بالمعلم فندفعه الي الانحراف‏,‏ ونتحدث عن زيادة المدرسين في حين نقلل من أعداد الملتحقين بكليات التربية‏,‏ ونتوقف عن بناء المدارس بدعوي أن القطاع الخاص سيقوم باللازم‏,‏ وتكون النتيجة أن تكف الحكومة عن البناء ويفضل القطاع الخاص أن يستثمر في الأبراج والمنتجعات‏,‏ وتتحول الفصول الي مخازن يتكدس فيها البشر‏.‏

في الكتاب أيضا كلام مهم عن تدهور المناهج‏,‏ الذي يتبدي في أخطاء تحفل بها كتب التاريخ‏,‏ أو فيما سماه المؤلف تفكيك التعليم وتجريف عقل الأمة وإضعاف الروح الوطنية‏,‏ وانتشار المستوطنات التعليمية‏(‏ يقصد التعليم الأجنبي‏).‏

(4)‏ هذا الغضب المقترن بالمرارة والحزن سمعته من كل من حدثته في الموضوع‏,‏ من أساتذة التربية وخبرائها‏:‏ الدكتورة نادية جمال الدين الأستاذة بجامعة القاهرة‏,‏ والدكتور شبلي بدران عميد كلية التربية بالاسكندرية‏,‏ والدكتور محمد سكران رئيس رابطة التربية الحديثة‏,‏ فقد وجدتهم يجمعون علي أن موضوع التعليم بمشكلاته وحلولها قتلت بحثا‏,‏ لكن العقدة التي تحول دون التقدم وإزالة آثار النكسة أن الشواهد القائمة توحي بأن ملف التعليم لم يؤخذ بعد علي محمل الجد من جانب الحكومة‏,‏ التي بدأت ترفع يدها عنه بشكل تدريجي‏,‏ عن طريق تقليص مخصصات توفير مستلزمات المدارس وصيانتها وتقليل اعتمادات بناء المدارس في الموازنة العامة‏(‏ برغم تزايد أعداد الطلاب فإن المخصصات الأولي نقصت‏11‏ مليون جنيه والثانية نقصت‏60‏ مليونا في موازنة العام الجديد‏).‏

في رأيهم أن إرادة العبور الي المستقبل من خلال التعليم ليست متوافرة بدرجة كافية‏,‏ وأن شواهد الجدية والحزم في التنفيذ لا توحي بالاطمئنان‏,‏ أما الرقابة علي التنفيذ ومحاسبة المقصرين فإنها غائبة تماما‏.‏

قالت لي الدكتورة نادية جمال الدين‏,‏ إننا نريد أن نستنفر الجميع من خلال شعار يحرك طاقاتهم‏,‏ مماثل لذلك الشعار الذي رفعه الأوروبيون حين قالوا بصوت عال‏:‏ ابتكروا أو موتوا‏,‏ حينئذ قلت لها‏:‏ ما رأيك في أن نستحث المشغولين بالمستقبل مستعيدين النداء المأثور‏:‏ انقضوا أو انفضوا؟ قالت‏:‏ ليتك تفعلها‏,‏ وها قد فعلت‏,‏ غير واثق من الاستجابة للنداء لسببين‏,‏ أولهما أن الجرح أكبر من الجريح‏,‏ وثانيهما أنني لست أول المؤذنين في مالطة‏!‏

المصدر